العاقل من يستعمل عقله في معرفة خالقه ومدبره، وألّا يرضى بما الناس عليه دون تمحيص
يقول الشيخعبد الله بن عبد الرحمن الجبرين فى شرحه على الطحاوية )قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، والشرك حادث طارئ والأبناء تقلدوه عن الآباء، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن، يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا ، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135] ، وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به ، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة، تقليداً لمن لا حجة معه.
بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية؛ فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها وفيه مصلحة لكم، بخلاف الشرك فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب.
فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربيه والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل ، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة ، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه - على الصحيح - حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة، وحينئذ فعليه أن يتبع دين العلم والعقل ، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح؛ فإن كان آباؤه مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه قال: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [يوسف:38] وقال ليعقوب بنوه: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة:133] ، وإن كان الآباء مخالفين للرسل كان عليه أن يتبع الرسل كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8] الآية.
فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه؛ فهذا اتبع هواه كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170]].
يقول الله تعالى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ [الأنعام:156]، ويقول: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:173]، فمقالة المشركين لابد أن تكون إحدى هاتين المقالتين.
والطائفتان هم اليهود والنصارى الذين أنزلت عليهم التوراة والإنجيل، والمشركون يقولون: أشرك آباؤنا واتبعناهم، فكأنهم يقولون: العذاب عليهم لا علينا.
والجواب أولاً: أن الله فطركم على التوحيد وعلى معرفته، ورتب فيكم العقول بحيث تعرفون أن لكم خالقاً، وأن خالقكم له عليكم حقوق.
وثانياً: إذا عرفتم أن هذا الدين الذي عليه آباؤكم -وهو الشرك- باطل، فلا بد أن تبحثوا عن الدين الصحيح وهو الذي خلقتكم له، ولكنكم لم تفعلوا، بل اتبعتم آباءكم وأطعتم كبراءكم، وكنتم بذلك مستحقين للعذاب، قال الله تعالى عن أهل النار: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ [IMG][الأعراف:38] أي: قال الأبناء للآباء: رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [الأعراف:38] أي: لا ينفعكم كونهم الذين أضلوكم، فكان يجب عليكم ألا تقبلوا هذا الضلال.
ويقول تعالى في آية أخرى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات:27-28] يعني: تضلوننا وتسعون في إضلالنا، إلى قوله: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الصافات:33] مع أن الآباء هم السبب في ضلال الأبناء؛ ولأجل ذلك كان الواجب على الآباء أن يفكروا وألا يضلوا بعد أن أعطاهم الله فكراً وعقلاً، وعلى الأبناء أيضاً أن يستعملوا فطرتهم وعقلهم وألّا يقبلوا كل ضلالة أو كل بدعة.
وقد حكى الله تعالى أنهم يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض؛ فالمتبوع يتبرأ من التابع، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:166-167]، الأتباع هم الذين تبرأ منهم المتبوعون ولكن لا ينفعهم ذلك بعد أن أضلوهم.
وعلى كل حال فحجة الله قائمة، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام:149]؛ وذلك لأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ ولأنه فطر الناس على العبادة ولكن أضلتهم الأهواء وأضلتهم الشياطين، وأضلتهم المجتمعات ونحوها.
ومعلوم أن العادة -كما قلنا- أن الابن ينشأ على دين أبويه، بل إنه يختم له باتباعه في دينه؛ لكن في الشرع يكون تبعاً لخير أبويه، إذا كان أحد الأبوين مسلماً والآخر كافراً، حكمنا أنه يتبع خير أبويه في الدين، ولكن يحكم عليهم ما حكم على آبائهم، (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القوم يبيتون فيصاب الأطفال)، فقال: هم منهم يعني: إذا بيتنا المشركين في بيوتهم وقتلنا أطفالاً دون أن نتعمد؛ فما الحكم؟ فقال: (هم منهم).
والمعنى: أننا نحكم بأنهم تبع لآبائهم، فما دام أن آباءهم يحاربوننا ويقاتلوننا ونقتلهم، فكذلك الأبناء يكونون تبعاً لهم؛ وذلك لأنهم غالباً ينشئون على نشأتهم كما حكى الله عن نوح بقوله: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27] أي: كلما ولد لهم أولاد نشئوا على ما نشأ عليه آباؤهم من الفجور ومن الكفر، ومع ذلك فإن الله تعالى قد يخرج من أصلاب الكفار من يعبد الله ويعرفه، وإذا أراد به خيراً أدخله في الدين أو أدخل الدين عليه.
وعلى كل حال: فإن على الإنسان أن يحرص على أولاده، فيربيهم ويعلمهم، وعلى الولد أن ينظر فيما فيه والده وفيما عليه أهله؛ فإذا كان حقاً وصواباً قبله وعمل به، وإلّا سأل عن الحق واتبعه، ولم يعمل بالباطل ولو كان عليه أهله، أو مجتمعه، أو قبيلته، وأسرته، أو نحو ذلك. قال المؤلف: [وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة، بل هو من مسلمة الدار لا مسلمة الاختيار، وهذا إذا قيل له في قبره: من ربك؟ قال: هاه .. هاه .. لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
فليتأمل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم لله، ولينظر من أي الفريقين هو؟ والله الموفق.
فإن توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل، فإنه مركوز في الفطر، وأقرب ما ينظر فيه المرء أمر نفسه لما كان نطفة، وقد خرج من بين الصلب والترائب -والترائب: عظام الصدر- ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين في ظلمات ثلاث، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق واجتمع حكماء العالم على أن يصوروا منها شيئاً لم يقدروا ، ومحال توهم عمل الطبائع فيها لأنها موات عاجزة ولا توصف بحياة، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير.
فإذا تفكر في ذلك، وانتقال هذه النطفة من حال إلى حال؛ علم بذلك توحيد الربوبية، فانتقل منه إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا علم بالعقل أن له رباً أوجده؛ كيف يليق به أن يعبد غيره؟ وكلما تفكر وتدبر ازداد يقيناً وتوحيداً، والله الموفق؛ لا رب غيره ولا إله سواه!].
أن الإنسان عادة ما يتبع ما عليه آباؤه ومجتمعه، ولكن لا يكون ذلك حجة له، ولا يكون معذوراً بذلك، فالذين قالوا:إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ[الأعراف:173] يقال: لا نهلككم بفعلهم، بل كلٌ يعذب بذنبه؛ فآباؤكم عليهم ذنوب وأنتم عليكم ذنوب، وأبناؤكم عليهم ذنوبهم التي اقترفوها وعملوها، ولو كان السبب أو المضل هو الأول.
وذلك لأن الله تعالى فطر العباد على معرفته، والواجب عليهم أن يتأملوا ما فطروا عليه، وأن يتعقلوا خلقه، وأن يتعقلوا هذا الكون الذي بين أيديهم، وأن يتفكروا في مخلوقات الله تعالى، ومنه يخرجون إلى نتيجة وهي توحيد الربوبية، وهو أن هذا الكون له رب خالق مدبر، وأنه لم يخلق عبثاً كما في قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] يعني: مهملاً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:37-40].
يعني: يتدبر الإنسان مبدأ أمره ومبدأ تكوينه، وهو أنه قد كان في صلب أبيه، ثم خرج واستقر في رحم أمه، كما في قوله تعالى:أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ [المرسلات:20-22] جعله الله في قرار مستقر لا تصل إليه الأيدي، ولا تعمل فيه الطبائع، ولا تقدر عليه الحيل.
انقطعت عنه التدابير، فأخرجه الله بعد أن كوّنه بشراً سوياً كما في قوله تعالى:أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37] وقال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر:67] يعني: أطفالاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا [غافر:67] ، فهذا التدبير وهذا التنقل ليس للطبيعة فيه مجال، بل الترتيب والتربية هي خلق الله وتدبيره وتكوينه.
فإذا عرف الإنسان هذا الكون وأنه لا بد له من مدبر وخالق ومتصرف، استقر بذلك توحيد الربوبية في عقله، وعرف أن له رباً، ثم بعد ذلك يتنقل من تفكير إلى تفكير فيقول: ما دام أن لهذا الكون رباً وخالقاً ومدبراً فإن لهذا الرب الخالق المدبر حقوقاً علينا! فما هي تلك الحقوق؟
هي أن نعبده وحده، وأن نقر به إلهاً، وأن نصرف له حقوقه التي فرضها علينا وبعد أن يسأل عن هذه الحقوق ويعرفها، فإذا عرف التزم بالتقرب بها، والتزم بأن يعبد الله بها، وأن يحرص على الاستسلام لله، وبذلك يكون من أهل السعادة.
فكونه يقنع بما كان عليه آباؤه من الكفر والضلال والبدع والشرك والخرافات التي تمجها الأسماع وتنكرها الطباع ويقول: هكذا وجدت أبي! يقال: هذا خطأ! لماذا لم تسأل عن الحق؟ أترضى أن تكون مقلداً لا تدري ما الناس فيه؟!
هؤلاء الذين يتبعون الناس ويتبعون ما هم عليه من خطأ؛ هم الذين إذا سئلوا في القبر: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ يقول أحدهم: هاه .. هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيعذبون في قبورهم على هذه المقالة، ولا ينفعهم أنهم سمعوا الناس وأنهم قلدوا الناس، بل الواجب على العاقل من حيث هو أن يستعمل عقله في معرفة خالقه ومدبره، وألّا يرضى بما الناس عليه دون أن يمحص تلك الأقوال والأعمال التي يعملها الناس، ودون أن يعرف الحق أو يبحث عنه؛ فإنه إذا بحث عن الحق عرفه، وإذا عرفه لزمه العمل به، وإذا لزمه العمل به وأداه كما ينبغي سعد وأصبح من أهل الخير. [شرح الطحاوية للجبرين]