استشكال وجوابه:
إن قيل: كيف جاز لموسى – عليه السلام – أن يقدم على ضرب ملك الموت حتى فقأ عينه؟
فالجواب: قال الإمام البيهقى: قال أبو سليمان الخطابي: هذا حديث يطعن فيه الملحدون وأهل البدع، ويغمزون به في رواته ونقلته، ويقولون: كيف يجوز أن يفعل نبي الله موسى هذا الصنيع بملك من ملائكة الله، جاءه بأمر من أمره، فيستعصي عليه ولا يأتمر له؟
وكيف تصل يده إلى الملك، ويخلص إليه صكه ولطمه؟
وكيف ينهنه الملك المأمور بقبض روحه، فلا يمضي أمر الله فيه؟
هذه أمور خارجة عن المعقول، سالكة طريق الاستحالة من كل وجه.
ثم أجاب بقوله: والجواب أن من اعتبر هذه الأمور بما جرى به عرف البشر، واستمرت عليه عادات طباعهم، فإنه يسرع إلى استنكارها والارتياب بها؛ لخروجها عن سوم طباع البشر، وعن سنن عاداتهم،
إلا أنه أمر مصدره عن قدرة الله عز وجل، الذي لا يعجزه شيء، ولا يتعذر عليه أمر،
وإنما هو محاولة بين ملك كريم وبين كليم،
وكل واحد منهما مخصوص بصفة خرج بها عن حكم عوام البشر، ومجاري عاداتهم في المعنى الذي خص به من آثره الله باختصاصه إياه،
فالمطالبة بالتسوية بينهما وبينهم فيما تنازعاه من هذا الشأن حتى يكون ذلك على أحكام طباع الآدميين وقياس أحوالهم غير واجبة في حق النظر،
ثم إنه لما دنا حين وفاته، وهو بشر يكره الموت طبعا، ويجد ألمه حسا، لطف له بأن لم يفاجئه به بغتة، ولم يأمر الملك الموكل به أن يأخذه قهرا وقسرا، لكن أرسله إليه منذرا بالموت، وأمره بالتعرض له على سبيل الامتحان في صورة بشر،
فلما رآه موسى استنكر شأنه، واستوعر مكانه، فاحتجر منه دفعا عن نفسه بما كان من صكه إياه،
فأتى ذلك على عينه التي ركبت في الصورة البشرية التي جاءه فيها، دون الصورة الملكية التي هو مجبول الخلقة عليها،
ومثل هذه الأمور مما يعلل به طباع البشر، وتطيب به نفوسهم في المكروه الذي هو واقع بهم، فإنه لا شيء أشفى للنفس من الانتقام ممن يكيدها ويريدها بسوء .
ثم قال: وقد جرت سنة الدين بحفظ النفس، ودفع الضرر والضيم عنها، ومن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ما سنه فيمن اطلع على محرم قوم من عقوبته في عينه، فقال: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه"
ولما نظر نبي الله موسى - عليه السلام - إلى صورةٍ بشريةٍ هجمت عليه من غير إذن تريد نفسه، وتقصد هلاكه، وهو لا يثبته معرفة، ولا يستيقن أنه ملك الموت، ورسول رب العالمين، فيما يراوده منه، عمد إلى دفعه عن نفسه بيده وبطشه، فكان في ذلك ذهاب عينه
وقد امتحن غير واحد من الأنبياء صلوات الله عليهم بدخول الملائكة عليهم في صورة البشر،
كدخول الملكين على داود - عليه السلام - في صورة الخصمين، لما أراد الله عز وجل من تقريعه إياه بذنبه، وتنبيهه على ما لم يرضه من فعله،
وكدخولهم على إبراهيم عليه السلام حين أرادوا إهلاك قوم لوط عليه السلام، فقال: {قوم منكرون}، وقال: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم، وأوجس منهم خيفة}،
وكان نبينا - صلوات الله عليه - أول ما بدئ بالوحي يأتيه الملك فيلتبس عليه أمرُه،
ولما جاءه جبريل - عليه السلام - في صورة رجل فسأله عن الإيمان لم يتبينه، فلما انصرف عنه تبين أمره، فقال: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم"
وكذلك كان أمر موسى عليه السلام فيما جرى من مناوشته ملك الموت وهو يراه بشرا ،
فلما عاد الملك إلى ربه عز وجل مستثبتا أمره فيما جرى عليه، رد الله - عز وجل - عليه عينه وأعاده رسولا إليه بالقول المذكور في الخبر الذي رويناه، ليعلم نبي الله - صلوات الله عليه - إذا رأى صحة عينه المفقوءة، وعود بصره الذاهب، أنه رسول الله بعثه لقبض روحه،
فاستسلم حينئذ لأمره وطاب نفسا بقضائه،
وكل ذلك رفق من الله عز وجل به، ولطف به في تسهيل ما لم يكن بد من لقائه، والانقياد لمورد قضائه.[1]
==============================
وقد أجاب ابن حبان نحو هذه الإجابة فذكر ما حاصله: أن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه لمجيئه على غير صورة يعرفها موسى – عليه السلام – كما جاء جبريل فى صورة أعرابى وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط فى صور شبان حسان فلم يعرفهم إبراهيم ولا لوط أولا.
وكذلك موسى لعله لم يعرفه؛ لذلك لطمه ففقأ عينه لأنه دخل داره بغير إذن وهذا موافق لشريعتنا فى جواز فقأ عين من نظر إليك بغير إذن.[2]
=============================
وأجاب الإمام القرطبى عن هذا الاستشكال بستة أجوبة:
الأولى: أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة لها.
وهذا القول باطل؛ لأنه يؤدى إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة لها وهذا مذهب السالمية.
أقول: نسبه الحافظ ابن حجر إلى ابن قتيبة ثم قال: ومعنى رد الله عينه أى أعاره إلى خلقته الحقيقية.
الثانى: أنها كانت عينا معنوية ففقأها بالحجة.
وهذا مجاز لا حقيقة له.
أقول: قال ابن حجر: وزعم بعضهم أن معنى قوله: "فقأ عينه" أى أبطل حجته
وهو مردود بقوله فى نفس الحديث: "فَرَدَّ اللهُ عَيْنَهُ"، وبقوله: "لطمه وصكه" وغير ذلك من قرائن السياق.
الثالث: أنه لم يعرفه وظنه رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عنها فلطمه ففقأ عينه. وتجب المدافعة فى مثل هذا بكل ممكن.
وهذا وجه حسن لأنه حقيقة فى العين والصك. قاله الإمام أبو بكر ابن خزيمة.
أقول: وهو نفس جواب ابن حبان والبيهقى وابن كثير كما سبق.
الرابع: أن موسى – عليه السلام – كان سريع الغضب وسرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت.
قاله ابن العربى فى الأحكام.
وهذا فاسد؛ لأن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداءا مثل هذا فى الرضا والغضب.
الخامس: ما قاله ابن مهدى – رحمه الله –: أن عينه المستعارة ذهبت لأجل أنه جعل له أن يتصور بما شاء فكأن موسى - عليه السلام - لطمه وهو متصور بصورة غيره بدلالة أنه رأى بعد ذلك معه عينه.
السادس: وهو أصحها إن شاء الله وذلك أن موسى – عليه السلام – كان عنده ما أخبر نبينا – عليه السلام – من أنه – تعالى – لا يقبض روحه حتى يخيره خرجه البخارى وغيره
فلما جاء ملك الموت على غير الوجه الذى أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه فلطمه ففقئت عينه امتحانا لملك الموت إذ لم يصرح له بالتخيير
ومما يدل على صحة هذا أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم.
والله بغيبه أعلم وأحكم.
وذكره ابن العربى فى قبسه بمعناه.
والحمد لله.[3]
--------------------------------------------------------
[1] الأسماء والصفات للبيهقى: 482 - 484
[2] انظر صحيح ابن حبان: (14 / 114 – 116 / بلبان ) واختصر جوابه الحافظ ابن كثير فى البداية والنهاية: 1 / 286 – 287 وقصص الأنبياء: 318
[3] التذكرة: 84 ، وفتح البارى: 6 / 530 - 531