قواعد الحكم على المقالات البدعية /الشيخ يوسف الغفيص
قال الشيخ يوسف الغفيص في شرح الطحاوية
هناك قواعد في الحكم على المقالات البدعية التي ابتدعها من ابتدعها من المخالفين لإجماع السلف، فعند النظر في هذه المقالات وأربابها ينبغي أن تُعتبر بعض القواعد.
القاعدة الأولى: لا يلزم من كون المقالة كفراً أن يكفر قائلها
فمن القواعد في ذلك: أن كون المقالة كفراً لا يلزم منه أن يكون القائل كافراً، وهذه الجملة قد حكى شيخ الإسلام رحمه الله الإجماع عليها، كما في بعض رسائله، ولكن يقع في فقهها بعض الغلط، حتى تجد بعض من يتكلم من طلاب العلم، فيقول: كان السلف لا يكفرون الأعيان.
ولا شك أن هذا غلط، فإن القول إذا قيل: إنه كفر، فمعناه أن الأصل فيمن قاله أن يكون كافراً، وإنما امتنع كفره لمانع، وعليه فمن رتب على هذه الجملة المجمع عليها أن السلف كانوا لا يكفرون الأعيان فقد غلط، بل لا شك أن من ثبت كفره لزم أن يسمى كافراً، ومعلوم أن المسلمين يكفرون اليهود والنصارى وأمثالهم من أهل الشرك والكفر والإلحاد.
وأما أهل القبلة الذين قالوا مقالات كفرية، كمقالات من قال في الصفات وغيرها؛ فإن هذا المقالات تسمى كفراً، ولكن القائل بها لما كان مظهراً للصلاة والشعائر الظاهرة لا يكفر إلا إذا علم أن الحجة قد قامت عليه؛ لأنه إذا أصر فإن كفره لا يكون إلا عن نفاق في الظاهر، ويكون في الباطن كافراً، وعليه: فإن الأقوال تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: من المقالات ما يعلم أنها كفر ابتداءً، كمن قال: إن الله لا يعلم ما سيكون، تعالى الله عن ذلك، فهذا قول لا يقوله إلا كافر، وكمن سب الله وسب رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لا يكون إلا كافراً.
القسم الثاني: كالقول بخلق القرآن، وإنكار الرؤية، فهي كفرٌ في نفس الأمر، لكن قائلها لا يكون كافراً إلا إذا علم أن الحجة قامت عليه.
القاعدة الثانية: الذي يُكفَّر من أهل الشرائع الظاهرة لا يكون إلا منافقاً
ومن القواعد التي وذكرها شيخ الإسلام أن قال: إن الواحد من أهل الصلاة لا يكون كافراً في نفس الأمر إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق، وهذا يرجع إلى التقسيم المذكور في القرآن، من أن الناس إما منافق، وإما مؤمن ظاهراً وباطناً، وإما كافر ظاهراً وباطناً، قال: (فإذا كُفّر أحد أعيان أهل البدع المظهرين للصلاة ونحوها، فإن هذا لا بد أن يكون منافقاً، قال: ولهذا كان بعض أئمة السنة المتقدمين، إذا كفروا واحداً من هؤلاء سموه زنديقاً، والزنديق هو المنافق في لسان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإن كان اسم الزنديق استعمل فيما هو أوسع من ذلك، كمن صرح بالردة والإلحاد وأظهر ذلك، فإن مثل هذا يسمى في كلام الفقهاء زنديقاً، ولهذا اختلفوا في قبول توبته وعدمه).
القاعدة الثالثة: في بيان من هو المعذور بالخطأ
أما القاعدة الثالثة: فهي ما ذكره شيخ الإسلام في في أكثر من موضع، ومنها في درء التعارض: أن كل من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخطأه فإن خطأه مغفورٌ له، وهذه لها ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يريد الحق: فمن لم يرد الحق في هذه الأبواب -كأبواب الصفات- وإنما أراد الباطل؛ فإنه يكون كافراً.
الشرط الثاني: أن يجتهد في طلبه: أي في تحصيله، فمن عدم الاجتهاد وإنما قال بالخرص والظن فإنه لا يعذر.
الشرط الثالث: أن يطلب الحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم: فمن طلب الحق من جهة غيره، كاليهود والنصارى وأمثالهم لم يعذر، فمن الأحبار والرهبان من يزعمون أنهم يطلبون الحق، ولكن طلبهم للحق واقع من غير جهته صلى الله عليه وسلم، فلا يعتبر طلبه وإرادته.
قال شيخ الإسلام: (وأهل البدع من أهل القبلة في الجملة هم مريدون للحق مجتهدون في طلبه من جهة الرسول، ولكنهم في هذه المقامات الثلاثة مقصرون:
فإنهم في مقام الإرادة يعرض لهم من الانتصار لأقوالهم وأقوال أئمتهم ما ينقص مقام الإرادة.
وفي مقام الاجتهاد يعرض لهم من الاشتغال بالطرق العقلية وأمثالها ما ينقص مقام الاجتهاد.
وفي مقام الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم يعرض لهم من الموجبات الكلامية وغيرها ما يؤخر مقام الاستدلال عندهم بكلام الله ورسوله.
قال: فمن صاحبه حال من التقصير فهو من الظالمين لأنفسهم، وهذه حال عامة أهل البدع، وإن كان يقع فيهم من هو من الزنادقة الكفار، وإن كانوا في الظاهر مسلمين، وهذا يقع في بعض أهل البدع من الجهمية وغيرهم، قال: وقد كفّر السلف بعض أعيانهم، ولا يلزم أن من كان كافراً في نفس الأمر من أهل البدع أن يكون السلف قد علموه أو قد عينوا كفره، بل قد يكون ليس معلوماً كما كان طرف وأعيان من المنافقين زمن النبوة ليسوا معلومين لجماهير الصحابة، وربما لم يشتغلوا بتعيين كفره لأنهم مشتغلون عن هذه المجادلة وهذا الخوض بتقرير الحق وغير ذلك).
القاعدة الرابعة: لا بد من مراعاة درجة المخالفة وسببها
وهي مما ينبغي الاعتناء به: وذلك أنه إذا نُظر في مقالة وقائلها فإنه يعتبر في هذه المقالة والقائل بعض المعتبرات:
الأول: النظر في حال المقالة عند السلف، ودرجة مخالفة هذه المسألة لمذهب السلف.
الثاني: أن ينظر في موجب هذه المقالة عند صاحبها.
فمثلاً: من نفى صفة قد يشترك هو وبعض أهل البدع في نفيها، لكن موجب النفي أهل البدع شيء، وموجب النفي عنده شيء آخر، كالحال التي عرضت لـ ابن خزيمة وبعض أهل العلم في بعض مسائل الصفات كمسألة إثبات الصورة، فمثل هؤلاء لا يخرجون عن مسمى السنة والجماعة، وإن كان الإمام أحمد لما سُئل عن حديث: (خلق الله آدم على صورته) قالوا: يا أبا عبد الله: إن قوماً يقولون على صورة آدم أو على صورة المضروب .. إلخ، قال الإمام أحمد: هذا قول الجهمية.
فمع قول الإمام أحمد فيمن منع تفسير حديث الصورة بما هو معروف عن السلف أنه قول الجهمية، فلا يلزم من هذا أن يكون ابن خزيمة جهمياً، ومثله قول الإمام أحمد: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ونسب للبخاري أنه يقول ذلك، وقصته مع الذهلي مشهورة، فلا يجوز بحال أن يقال: إن البخاري جهمي، فهذا كلامٌ لا يقوله إلا ساقط الفقه، وعليه أن ينفقه في هذا الباب موجبات المقالات.
وإنما كان السلف يقصدون بالتجهم والكفر وأمثال ذلك من الإغلاظ، مَنْ كان موجب هذه المقالات عنده أصولاً من الغلط البين، وعلامته أن يطرد على أصوله الفاسدة، وأما من كانت حاله على السنة والجماعة في الجملة، فإنه قد يقع في كلامه من الأقوال البدعية التي تكون مخالفةً للإجماع، بل قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى في المجلد التاسع عشر: (وكثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، لكنهم لم يعلموا أنها من البدعة المخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل كانوا يظنون أنهم موافقون للسنة، فمثل هؤلاء لا شك أنهم معذورون).
وحتى في مقالات الجهمية الكُفرية، يقول: (ومع هذا فهذه المقالات الكفرية تعرض لبعض أهل الإيمان فيقولها، ويكون عند الله مؤمناً ظاهراً وباطناً، ويكون قوله هذا غلطاً قد يغفره الله له).