تناقضات صاحب كتاب " منتقى الألفاظ "
بسم الله الرحمان الرحيم
ألقي إليَّ كتيب ملخص في علم المصطلح ؛ المسمى " منتقى الألفاظ بتقريب علوم الحديث للحفاظ " لصاحبه الحارث بن علي الحسنـي . فلما إطلعت عليه وجدت تحاملاً غير مفسر على المتأخرين ونعتهم بكل نعتٍ مهين ، وحط من قدرهم بل قال فيهم أنهم أفسدوا علينا علم المصطلح وقلبوا الحقائق الشرعية ؟ وان ابن حجر والذهبي والخطيب البغداي والرمهرمزي وابن الصلاح وغيرهم لا يحسنون هذا الفن ..فجمعت بعض اقواله وقابلتها مع بعضها البعض فإذ اقواله يهدم اولها آخرها وقد تخبط في كتابه أيما تخبط وكان يهملج هملجة من لا حيلة له ولا قوة .
قال في الصفحة ((55/ المتأخرون لا يحسنون هذا الفن كما يحسنه المتقدمون ، بل أفسدوه علينا ، مما جرّ الى قلبِ الحقائق الشرعية ) يخالفه قوله في نفس الصفحة (( لا يصلح أن يضع احدا مصنفا في علوم الحديث ، ينتقي فيه مذهبا معينا في مسألة من المسائل وهم مختلفون أصلا ) وهنا يقع فيما نهى عنه اذ ينتقد المتأخرين على اجتهادهم منتقيا مذهبا معينا في ذلك ثم ناقض نفسه قائلا (( قواعد المصطلح والحكم على الرواة اجتهادية ) فعلام تلوم المتأخرين إذاً ؟ فالقوم إذا هم مجتهدون في مسائل الاختلاف في الحكم على الراوِ أو في تعريف مصطلح ما ؟ ثم قال (( تعامل المتقدمين في الحكم على الحديث والرواة مرده الى القرائن أكثر من مرده الى الضوابط والقواعد ) وهذا ما لا يقول به عاقل ؟ هل يقول المؤلف إن المتقدمين كانوا لا يسيرون على قواعد وضوابط في الحكم على الراوِ او الحديث ، فان كان كذلك كما هو صريح بكتابه فهذا مدخل للمشككين والريّابة من أهل البدع والضلالات . ومن حيث اراد مدح المتقدمة منهم اذا به يأتي بالنقيض . ثم اليس هذه دعوة إلى اللا قواعد واللا ضوابط ؟ ليفتح الباب سداحاً مداحاً لكل قاصرٍ وتاجرٍ وفاجر ؟
قلت : بل كان حكم المتقدمين على الحديث والرواة وفق ضوابط وقواعد وحسبك بالقاعدة الأولى ( سموا لنا رجالكم ) فتحت هذه القاعدة الأولية تنضوي جميع القواعد وفي الكلام عن قواعدهم بسط ليس ههنا سرده . ثم كم عمّر المؤلف في هذا الفن لكي يطرح قولهم ويحاججهم ؟
فهل سبر جميع المصنفات وتتبع اقوال الأئمة ثم حمل المصطلح على مرادهم .؟ محال .واعتذر له إن لم يستطع احصاء ذلك وتعديده فذلك شأن تنقضي دونه الاعمار ولا ينقض وعلى النقيض يكلف غيره بما لا تطيق نفسه (( الواجب سبر مصنفات المتقدمين في الحديث ثم تتبع الفاظ الائمة المتقدمين وحمل المصطلح على مرادهم لا على فهم المتأخرين ومن ثم بناء علوم الحديث والتخريج والعلل والأحكام عليها ) اذا نفني الاعمار بالبناء والهدم ، فإن صح لك الاستقصاء والسبر فلن تسلم من قول من يأتي بعدك فيقول :" لا نأخذ بقول الحارث لأنه من المتأخرة "؟؟ وهلم جراً الى ما لا نهاية فيتحول الأمر الى عبث وسوء تقدير .ويخطأ المعاصر المتأخر وهكذا .
ويبدو للقارىء أن صاحب المؤلف شديد التحامل على منهج المتأخرين ( 56( لا يعترض على المتقدمين في التعريفات ولا ينتقد عليهم ولعل هذا لأن القوم كانوا لا يتكلفون في التعريفات ولا يدققون في حدودها وانما يتكلمون بأمر عام أو مقارب وأنهم إنما تعاملوا مع هذا الفن عمليا وليست طريقتهم كطريقة المتأخرين في تكلف التعريفات وعدم صونها عن الاسهاب والتوسع في تفعيل الجانب النظري ) وكما ترون لا يسوق المؤلف -غفر الله له - دليلا واحد على الدعوة المنكرة والمنقطعة والمعضلة والشاذة ..انما هو كلام إنشائي لا يعتبر به ولا ينجبر بشواهد ولا متابعات .
واما قوله إنهم تعاملوا مع هذا الفن عمليا فهذا يهدم قوله بأنهم ما كانوا يعتمدون على الضوابط والقواعد فهل يعقل ان يعمل الرجل عملاً من باب التجريب في ادق العلوم وأصعبها كعلم الحديث ؟ فمعنى قوله أن القرائن كانت تجريبية غير خاضعة للضبط ولتقعيد . واقول بلى انهم اخذوا هذا العلم بالعمل لأنهم كانوا يخوضون غماره في عصر الرواية وانتشار الغث والسمين فكانوا يغربلون ذلك غربلةً العالم الحازم وفق ضوابط وقواعد وفي ذلك مبحث لا يتسع له هذا المقال ..أما المتأخرين فحق لهم ان يقّعدوا لذلك التراث الزاخر بعدما انتهت مرحلة الجمع والتمحيص وجمعت الاحاديث بين الالواح وكذا العلوم المساعدة من ادوات الآلات ، فكان سهلا أن يضبطوا مراد القوم واختلاف بعضهم في مسائل لا يعنى بالضرورة قصور فهمهم كما يعتقد المؤلف ، فالأمر المختلف فيه هو أمر اجتهادي فإن استشكل عليك شـىء فعب فهمك وقصورك لا تلزق التهمة في ذمة المتأخرين وهم برآء من التهمة المنسبوبة اليهم . وإني أبرأ بالمؤلف من الشطط والهوى واقوله له احترازا أعلم - نفع الله بك - ان الغاية من وراء انتقاد المتأخرين ليس غالبها حسن النية بل المراد هو اعمال الرأي والهوى في علم الحديث اذ قال ( لا بد من المراجعة من جديد والغربلة وازاحة المفاهيم المغلوطة على المتقدمين ) واسطع دليل على ذلك اعتراضك اللا علمي على من تقدمك بالشرف والعلم والسبق .
ثم لنسلم جدلاً أنهم اخطأوا وارتبكوا في فهم معاني المتقدمين -وهذا احتمال باطلة دعواه - فمن يزيح الغبش؟ المتحامل على الأئمة المتأخرين ؟ والمقلد الجاهل او المجتهد المخالف ؟؛ وقد قرأت كتابه فإذا به نسخة كربونية من حديثي إبن رجب الحنبلي والمعلمي اليماني واخلاط من كلام الائمة المتأخرين ؛ فهل جزاء الاحسان إلا الإحسان ؟
ولولا يلطف اسلوبه ويقدر الائمة وينزلهم منازلهم فان اعترض على شيء بالدليل والبينة وحسن العبارة ونزههم عن قصور الفهم كما ينزههم من العصمة فكل يؤخذ من كلامه ويرد - الا النبي (ص)(ص)-سواء المتقدم او المتأخر ؛ لكان حقيقا به سمت العلم وأليق به واحسن قيلا .
اما وإذ ركب الصعب والذلول فنقول له كلامك فيه نظر.. واستحضر قول ابو عمرو بن العلاء : ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في اصول نخل طوال .
يتبع ..