الزعم أن الصحابة خالفوا السنة !!
الزعم أن الصحابة
خالفوا السنة(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن الصحابة - رضي الله عنهم - خالفوا السنة، ويستدلون على ذلك بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد غير جنس الدية ومقدارها عما كانت عليه في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما جعلها على أهل الديوان بدلا من عاقلة الجاني، وأنه عندما فتح بلاد العراق عنوة لم يقسمها بين الفاتحين كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أرض خيبر، وكذلك غير مقدار حد شرب الخمر؛ إذ جعل الحد ثمانين، في حين أن السنة تنص على أربعين.
وأما عثمان - رضي الله عنه - فقد أمر بتعريف الإبل الضالة ثم بيعها، على الرغم من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التقاطها، كما أنه غير جنس زكاة الفطر ومقدارها، وكذلك غير الصحابة وقت إخراجها، هذا بالإضافة إلى أن بعض الصحابة وعلى رأسهم السيدة عائشة منعوا النساء من الخروج إلى المساجد مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله».
كما أن الصحابة لم ينفذوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»، بل بايعوا معاوية بالخلافة بعد موت علي بن أبي طالب بدلا من قتله معطلين بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ويتساءلون: أليست مخالفة الصحابة للسنة دليلا على عدم حجيتها؟! وإذا كانت السنة غير ملزمة للصحابة - وهم أعلم الناس بها - فلم نلزم أنفسنا بها؟!
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن ما صح عن الصحابة الكرام نابع في حقيقته من تشريع النبي صلى الله عليه وسلم - وإن بدا ظاهره المخالفة لمن لم يفقه السنة - وذلك لعمق فهمهم لمقصود النص النبوي، وتطبيق روحه، فما عرف التاريخ أناسا اهتموا بسنة نبيهم كاهتمام الصحابة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2) إن ما ورد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في شأن الدية لم يكن مخالفة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالسنة لم تعين في ذلك نوعا محددا، وما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - كان تقديرا عاما يختلف باختلاف أحوال الناس وظروفهم في جنس الدية ومقدارها ومن يتحملها، وهو ما سار عليه عمر رضي الله عنه.
3) فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر وتقسيمه الأرض على الفاتحين يدل على الجواز لا الوجوب؛ لأنه لم يقسمها يوم فتح مكة وإنما تركها.
4) لقد استند عمر - رضي الله عنه - في تحديد عقوبة شرب الخمر إلى القياس وهو مصدر تشريعي معتبر، واستشار الصحابة فوافقوه، وما فعل عمر ذلك وما وافقه الصحابة إلا لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه شرع في هذه العقوبة حدا معلوما، وإنما ترك الأمر لتقدير القاضي.
5) لقد نظر عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في شأن ضالة الإبل، فوجد أن أخلاق الناس قد تغيرت، وترك الضوال من الإبل والبقر إضاعة لها، وهذا ما لم يقصده النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعا حين نهى عن التقاطها. فأمر ببيع من لم يجد صاحبها، وإذا جاء أعطي ثمنها.
6) إن تغيير مقدار زكاة الفطر وجنسها، وتغيير وقت إخراجها في عهد الصحابة، كان مراعاة لحال كل عصر مع تطبيق روح النص، حتى لا تتعطل هذه الفريضة الإسلامية، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر الناس مراعاة لظروف البيئة والزمن.
7) إن إذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - للنساء بالخروج إلى المساجد، كان منوطا بالمصلحة وأمن الفتنة، فلما كان مظنة المفاسد صار درء المضار مقدما على جلب المصالح هنا، وهذا بعينه اتباع لمنهج النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس مخالفة له.
8) إن الحديث الذي اتكأ عليه المغرضون في شأن معاوية بن أبي سفيان لا يصلح للاستدلال؛ لأنه موضوع، ذلك أن الطرق التي جاء منها مظلمة الإسناد ولا تخلو من راو متروك الحديث، فالصحابة - رضي الله عنهم - أحرص الناس على اتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو صح حديث كهذا ما وسعهم إلا العمل به.
التفصيل:
أولا. الصحابة الكرام هم أقدر الناس على فهم النص النبوي، وتطبيق روحه، وتحقيق مقصوده:
إن من حسن الفقه للسنة النبوية النظر في أسباب ورود الأحاديث، وظروفها وعلل أحكامها، وهل هي علل خاصة، منصوص عليها في الحديث أم مستنبطة منها، أم مفهومة من الحيثيات المصاحبة له. فالناظر المتعمق، يجد أن من الحديث ما بني على رعاية ظروف زمنية خاصة ليحقق مصلحة معتبرة، أو يدرأ مفسدة معينة، أو يعالج مشكلة قائمة، في ذلك الوقت.
ومعنى هذا أن الحكم الذي يحمله الحديث قد يبدو عاما ودائما، ولكنه عند التأمل فيه نجده مبنيا على علة، يزول بزوالها، ويبقى ببقائها.
واستنادا إلى هذا فلا بد من فهم الحديث فهما سليما دقيقا، ولا بد من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص، وجاء بيانا لها وعلاجا لظروفها، حتى يتحدد المراد من الحديث بدقة.
وإذا سلمنا بهذه القواعد الأصولية في فهم النصوص الشرعية، فإنه لا يخفى على أي مدرك أن هذا يحتاج في تطبيقه إلى فقه عميق، ونظر دقيق، ودراسة مستوعبة للنصوص، وإدراك بصير لمقاصد الشريعة وحقيقة الدين، مع شجاعة أدبية، وقوة نفسية للصدع بالحق، وإن خالف ما ألفه الناس وتوارثوه[1].
ثم إننا نجد - بما لا يدع مجالا للشك - أن أجدر الناس للقيام بهذه المهمة هم الصحابة الكرام، ومن تبعهم بإحسان، وذلك لأن الصحابة الكرام قد فهموا الأحاديث النبوية في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها، وعاينوا الوحي وهو ينزل بين ظهرانيهم، ورأوه يتمثل واقعا عمليا بين أيديهم، ومن استقرأ ما أثر عن فقهاء الصحابة - رضي الله عنهم - مثل الخلفاء الراشدين، وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم من فقهاء الصحابة، ونظر إلى فقههم، وتأمله بعمق - تبين له أنهم كانوا ينظرون إلى ما وراء الأحكام من علل ومصالح، وما تحمله من الأوامر والنواهي من حكم ومقاصد، فإذا أفتوا في مسألة، أو حكموا في قضية، لم تغب عن بالهم مقاصد الشريعة وأهدافها، ولم يهدروا هذه المقاصد الكلية في غمرة الحماسة للنصوص الجزئية، ولا العكس، بل ربطوا الجزئيات بالكليات، والفروع بالأصول، والأحكام بالمقاصد، بعيدا عن الحرفية والجمود[2].
ولا يقدح هذا بأية حال من الأحوال في حجية السنة حيث "إن التمسك بحرفية السنة أحيانا لا يكون تنفيذا لروح السنة ومقصودها، بل يكون مضادا لها، وإن كان ظاهره التمسك بها"[3].
ومما يؤكد ذلك أيضا ويعضده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر من ترك ظاهر الحديث عملا بمقصده؛ إذ إن للحديث النبوي - كما ذكرنا آنفا - مقصدا قد يفهمه بعض دون آخرين، ومن ذلك حديث «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»[4]. فقد فهمه بعض الصحابة على ظاهره فأخروا صلاة العصر حتى دخلوا على بني قريظة عملا بظاهر الحديث، وقد فهم الباقون مراد النص ومقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا وهو الإسراع في الخروج إلى بني قريظة، فما أذن لصلاة العصر، حتى صلوا العصر في وقته وحينه، وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلا الفريقين.
وحسبنا هنا هذا المثال من السنة، لنعلم أن النصوص، إنما هي دائما نور يهدي وليست قيدا يعوق، إلا عن الظلم والفساد.
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه أنه ما عرف التاريخ أناسا اهتموا بسنة نبيهم، كاهتمام الصحابة بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف يتهمون بإهمالها؟
ذلك أنه من أفرى الفرى أن يتهم الصحابة الكرام بإهمال السنة، أو حتى مجرد عدم العناية بها، لقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يلتزمون حدود أمره ونهيه ويقتدون به - صلى الله عليه وسلم - في كل أعماله وعباداته ومعاملاته - إلا ما علموا منه أنه خاص به.
وقد بلغ من اقتدائهم - رضي الله عنهم - به - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يفعلون ما يفعل، ويتركون ما يترك، من غير أن يعلموا لذلك سببا، أو يسألوه عن علته أو حكمته.
بل كان من أمرهم أن الصحابي كان يقطع المسافات الشاسعة ليسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مسألة نازلة، أو حكم شرعي، ثم يرجع لا يلوي على شيء.
وكذلك كان من عادتهم - رضي الله عنهم - أن يسألوا زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بشئون الرجل مع زوجته لعلمهن بذلك.
كما كانت النساء تذهبن إلى زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسألنهن عن أمور دينهن، وأحيانا يسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه ما يشأن السؤال عنه من أمورهن، فإذا كان هناك ما يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من التصريح للمرأة بالحكم الشرعي أمر إحدى زوجاته أن تفهمها إياه كما في حديث عائشة رضي الله عنها في كيفية التطهر من الحيض[5].
هكذا كانت عناية الصحابة - رضي الله عنهم - بالسنة، فهم إضافة إلى ما سبق ذكره كانوا يسلكون مجالات أخرى للعناية بسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والحفاظ عليها، من ذلك حفظها والتثبت من ذلك حتى كان أحدهم يرحل في طلب الحديث الواحد مسافة شهر ليتثبت من حفظه، وكذلك كتابتها في الصحف والأجزاء، ثم نشرها بين الناس وغير ذلك من المجالات[6].
وبالرغم من كثرة ما يحفظه الصحابة من حديث نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا لا يكثرون من الرواية تورعا وتثبتا وزيادة في الحيطة والحذر، حتى إن منهم من كان لا يحدث حديثا في السنة، ومنهم من كانت تأخذه الرعدة ويقشعر جلده ويتغير لونه ورعا واحتراما لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هذا ما روي عن عمرو بن ميمون قال: «ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه، قال: فما سمعته يقول بشيء قط قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان ذات عشية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فنكس، قال فنظرت إليه، فهو قائم محللة أزرار قميصه قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، قال: أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريبا من ذلك، أو شبيها بذلك»[7]. فإلى هذا الحد يصل احترام حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره عند ابن مسعود وغيره من الصحابة[8].
وبهذا العرض يسقط أي اتهام للصحابة الكرام، بأنهم أهملوا السنة الشريفة أو خالفوها، بل على العكس لقد بلغوا الغاية في العناية والاهتمام بها.
ثانيا. الدية في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
مما لا شك فيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدر الدية تقديرا معينا، لكن هذا التقدير - من حيث الأصناف التي أخذها في الدية - كان راجعا إلى ظروف البيئة التي عاش فيها. ومن هذا المنطلق نريد أن نفرق بين قضيتين متغايرتين؛ لأن الخلط بينهما قد أدى إلى بعض اللبس وهما:
1. أن الدية قيمة النفس، وقد حدد لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقدارا معينا لا يزاد عليه ولا ينقص عنه، وقد اتفق الفقهاء على أن المسلمين جميعا، في عصورهم المختلفة، ملزمون بهذا المقدار المعين الذي فرضه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن هذا المقدار الثابت بالنص غير موكول إلى اجتهاد الرأي؛ لأن قيمة الإنسان لا تتغير من بيئة لأخرى، وإنما هي ثابتة بحكم التساوي الأصلي في النفوس التي خلقها الله جميعا من نفس واحدة.
ولو كان هذا التقدير معنويا لما كان هناك مجال لتغير أو خلاف؛ لأن المعنويات التي تتصل بالإنسان لا تتغير في جوهرها باختلاف الظروف والأزمنة والأمكنة، لكن هذا التقدير يرجع إلى مقابل واقعي له في الخارج، هذا المقابل هو الأصناف والعروض المتقدمة، وهنا تتدخل الظروف والبيئات.
2. الأصناف والعروض المالية التي تؤخذ من كل بيئة مقابلا ماديا لما فرضه الرسول صلى الله عليه وسلم. فمن المعلوم أن قيمة العروض والماليات تتغير بتغير الظروف، وأن توفر بعض الأصناف التي كانت موجوده في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد لا يكون متحققا بعده في بيئة ما، فماذا نفعل؟
لقد كانت الإبل مناط التعامل الشائع بين العرب في عصر الرسالة؛ لكثرتها وشيوعها فيهم، فإذا وجدنا بعد ذلك في بيئة لا تتوفر فيها الإبل، فهل نظل ملتزمين بالمائة من الإبل التي فرضها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيئته؟! بالطبع لا؛ لأن المقصود من التشريع الإسلامي في الماليات هو فكرة القيمة، دون العروض والأشكال التي تتمثل فيها، فما دمنا ملتزمين بما يساوي المقدار الذي حدده الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا بأس من أن نأخذ قيمته مما يتيسر من الأصناف الأخرى غير الإبل.
فإذا كانت قيمة المائة من الإبل في عصر الرسالة تساوي ألف دينار في بيئة ما، فيمكننا أن نأخذها نقدا بدل الإبل، كما يمكننا أن نأخذ هذه القيمة نفسها من أي شيء آخر يتيسر للناس، فنحن ملتزمون بما يساوي المقدار الذي حدده الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون أن نلتزم في أخذه بصنف أو أصناف معينة، وهذا الفرق بين القضيتين.
ولنا في فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه ما يؤيدنا من عهده، أو ليس قد أخذ الجزية دينارا، أو ما يعادله من الثياب؟ ففكرة المعادل المادي المتيسر في البيئة كانت مما راعاه الرسول نفسه[9].
وتفصيل الأمر أن الدية مقدرة تقديرا عاما للأمة، وقد تختلف باختلاف أحوال الناس في جنسها ومقدارها[10].
ونريد أن نخلص من هذا كله إلى أنه كان من حق عمر أن يقدر الدية في عهده بما يساوي ثمن المائة من الإبل في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن يأخذ هذا المقدار من أي صنف يتيسر للناس، وأن يخضع ما يأخذه من الذهب والفضة، وغيرهما للتطورات الاقتصادية.
ولم يرد عمر الفقيه أن يجعل ما أخذه في عهده تشريعا مخلدا للناس على مر العصور مهما تغيرت ظروفهم المالية؛ لأنه إنما كان يقدر لعصره، ويراعي ظروفه الخاصة، وعلى الناس بعد ذلك أن يراعوا ظروفهم الاقتصادية، وما يتيسر لهم من أصناف المعاملات، ما داموا ملتزمين بما تساوي قيمته مائة من الإبل في عصر الرسالة، ونعني بذلك المقدار الذي أجمعت الروايات على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوم به دية النفس.
وعلى هذا، فليس لمن أتى من العلماء بعد عمر أن يلتزم ويلزم الناس بتقديرات عمر - رضي الله عنه - للدية من الذهب والفضة، بالرغم من اختلاف ظروفهم المالية عن عصر عمر - رضي الله عنه - وما يتبع هذا الاختلاف من تغير قيمة الذهب والفضة وغيرهما من العروض، وإنما يجب عليهم أن يقدروا قيمة المائة من الإبل بالغة ما بلغت في عهدهم، كما قال الشافعي، وتدفع بعد ذلك من أصناف المعاملات المتيسرة لهم دون تحديد[11]. فإذا ثبت لنا ما سبق وجب أن نقرر: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد طبق سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطبيقا دقيقا ولم يخالفها.
وأما جعل عمر - رضي الله عنه - الدية على أهل الديوان بدلا من عاقلة الجاني، فيجيب عنه ابن تيمية في فتاواه، إذ يقول: "النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدية على العاقلة، وهم الذين ينصرون الرجل ويعينونه، وكانت العاقلة على عهده هم عصبته، فلما كان في زمن عمر - رضي الله عنه - جعلها على أهل الديوان، ولهذا اختلف فيها الفقهاء، فيقال: أصل ذلك أن العاقلة، هم محدودون بالشرع، أو هم من ينصره ويعينه من غير تعيين. فمن قال بالأول لم يعدل عن الأقارب؛ فإنهم العاقلة على عهده، ومن قال بالثاني جعل العاقلة في كل زمان ومكان من ينصر الرجل ويعينه في ذلك الزمان والمكان، فلما كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ينصره ويعينه أقاربه، كانوا هم العاقلة؛ إذ لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ديوان ولا عطاء.
فلما وضع عمر الديوان كان معلوما أن جند كل مدينة ينصر بعضه بعضا، ويعين بعضه بعضا، وإن لم يكونوا أقارب، فكانوا هم العاقلة، وهذا أصح القولين، وأنها تختلف باختلاف الأحوال، وإلا فرجل قد سكن بالمغرب، وهناك من ينصره ويعينه كيف تكون عاقلته من بالمشرق في مملكة أخرى (أي من عصبته) ولعل أخباره قد انقطعت عنهم؟! والميراث يمكن حفظه للغائب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في المرأة القاتلة أن عقلها على عصبتها وأن ميراثها لزوجها وبنيها، فالوارث غير العاقلة"[12].
فابن تيمية رحمه الله يبين أن ما فعله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان للمصلحة العامة، لا سيما وأن الأحوال قد اختلفت على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا فضلا عن أن الأمر ليس فيه مخالفة لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الحكم مناط بوصف معين، هو مناط تحمل الدية، وهو أن يكون من يتحملها من العاقلة، أي من ينصر الجاني، وهؤلاء يختلفون من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، ولهذا السبب يقرر فقهاء الأحناف أنه لو أصبح التناصر بشيء آخر كالحرفة مثلا، وجب نقل الدية إليه؛ إذ العلة فيها التناصر، فأي رابطة كان بها التناصر انتقلت الدية إلى أصحابها، وبناء على ذلك يكون عمر - رضي الله عنه - بجعله العاقلة على أهل الديوان حيث كان التناصر به، قد فهم النص فهما سليما، وطبقه تطبيقا دقيقا[13].