أسباب قلة إنتشار المذهب الحنبلي في بعض الأمصار
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله
أما بعد
فقد إنتهيت من كتاب مفاتيح الفقه الحنبلي للشيخ سالم علي الثقفي وهو كتاب نفيس طبع في مجلدين جمع ما كتب في أصول المذهب وأراء الأصحاب وزاد عليه مسائل وأبواب عديدة ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها
ومما شد ذهني من هذا الكتاب أسباب قلة إنتشار المذهب الحنبلي في بعض الأمصار فأحببت أن أنفع إخواني بها
واما أسباب قلة اتباعه إذا قيس بغيره إلى جانب الأسباب المتعمدة للتقليل منهم فمنها :
أولا : ما يصد ق عليه قول بعض المؤرخين انه جاء بعد إن احتلت المذاهب الثلاثة التي سبقته في الأمصار الإسلامية قلوب اكثر العامة فكان في اكثر نواحي العراق مذهب أبى حنيفة وفي مصر المذهب الشافعي والمالكي وفي المغرب والأندلس المذهب المالكي بعد مذهب الاوزاعي
والمؤلف يشير بهذا إلى الظاهرة النفسية الوحيدة عند البشر التي عبر عنها الشاعر بقوله
وينشا ناشئ الفتيان منا ......... على ما كان عودوه أبوه
ولكن رغم تمكن هذه الظاهرة النفسية من نفوس الجماهير من المسلمين في بعض الأمصار إلا انه في اكبر مدن الإسلام ـ يومئذ بغداد ـ قد رأينا أن مذهب الأمام احمد جذبهم بما استمالهم به من قوة الإقناع وجلاء الوضوح في مرئياته
ثانيا: انه لم يكن منه قضاة . والقضاة إنما ينشرون المذهب الذي يتبعونه فأبو يوسف ومن بعده محمد بن الحسن رحمهما الله نشرا المذهب العراقي وخصوصا آراء أبى حنيفة وتلاميذه وسحنون نشر المذهب المالكي وعمل على نشره أيضا الحكم الأموي في الأندلس ولم ينل المذهب الحنبلي تلك الحظوة ألا في بغداد أيام شاته وألا في الجزيرة العربية أخيرا وفي الشا م وقتا من الزمن
ثالثا : شدة الحنابلة على أهل البدع والضلالات وتمسكهم بالأمر عن الوقوع في المأثم واتباعا منهم لاصلهم الذي تمسكوا به اكثر من سواهم وهو سد الذرائع
وفي هذا الصد د حكى ابن الأثير قصة ما حصل منهم في سنة 323 هجري حينما قويت شوكتهم فصاروا يكبسون على دور القواد والعامة فان وجدوا نبيذا أراقوه وان وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة اللهو حتى ارهجوا بغداد
وهناك في رأيي سبب أقوى من كل ذلك يمكن إجماله:
في أن الأكابر من اتباعه حين يبلغون درجة الإمامة يستبد بهم الورع عن إغراء الناس بمغريات الدنيا التي تجتذبهم إلى تمجيد المذهب في عيون العامة والسواد العام اكتفاء بعنصر الإقناع المتجسد في منهج المذهب الحنبلي
في حين إن ذلك ليس بكاف في نظر السواد الأعظم الذين لم يبلغوا درجة أدراك التميز بين المناهج ولو أخذنا لذلك مثالا أو شبهه فان لقصة الخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد مغزى قريبا من ذلك وقصة تقسيم القاضي أبى يوسف ثروته الضخمة أرباعا بين أهل بغداد ومكة وغيرهما فيها دلالة ذات مغزى من جهة استمالة الناس وإغرائهم بالتمسك ببعض المذاهب فضلا عن الضغوط التي مارستها الدولة العثمانية على اتباع المذهب الحنبلي حتى تلاشوا من موطنه ألأم أولا بغداد ونواحيها ثم الشام وغيرهما من البلاد الأخرى
وهذا سبب سياسي قوي الأثر إذا ما اخذ في الاعتبار اغتنام شدة تمسك الحنابلة في التشهير من قبل خصومهم بمذهبهم الذي كان بمثابة المرتع الخصيب للمناوئين له إن قل للذين يهدفون لاحلال مذاهبهم محله من هنا تضافرت عوامل عدة على محاصرته في كل مكان ولا أقوى شاهد لذلك من قصة إجراء الصلح مع رئيس الحنابلة والشيخ أبى إسحاق الشيرازي ريئس ألاشعرية بواسطة الوزير النظام حين لم يكن ذلك الصلح ألا مؤامرة على إبعاد زعيم الحنابلة الشريف أبى جعفر عن ممارسة الحياة العلمية في جوامع بغداد ومدارسها وذلك عندما أنهي الوزير ما جرى فخرج في الجواب إلى الخليفة أي في المحضر عرف ما أنهيته في حضور ابن العم يعني الشريف ابن عمه الحنبلي شيخهم كثر الله في الأولياء مثله وحضور من حضر من أهل العلم
والحمد لله الذي جمع الكلمة وضم الألفة فليؤذن للجماعة في الانصراف وليقل لابن أبى موسى انه قد افرد له موضع قريب من الخدمة ليراجع في كثير من الأمور الدينية وليترك بمكانه فلما سمع الشريف هذا قال : فعلتموها
ولم يكتف بهذا بل لما كان الناس يدخلون عليه مديدة قيل له : قد كثر استطراق الناس دار الخلافة فاقتصر على من يعين دخوله
فتلك الأسباب مجتمعة ضيقت الخناق عنى انتشاره بين المسلمين ولذلك جاء فيما صوره المرحوم تمور باشا في قوله قلنا :
مهما يكن من انتشاره في من البلدان فإن مقلديه فيها قليلون في كل عصر
والى ذلك يشير الخفاجى في الريحانة في ترجمة زين الدين محمد الأنصاري الخزرجى بقوله تفقه على مذهب أحمد بن حنبل
فكان لطلابه سهل المورد عذب المنهل وللناس فيما يعشقون مذاهب وهم في كل عصر اقل من القليل وهكذا الكرام كما قيل :
يقولون لي قد قل مذهب أحمـــد ............. وكل قليل في الأنام ضئيل
فقلت لهم : سهلا غلطتم بزعمكم............. ألم تعلموا أن الكرام قليل
وما ضـرنا أنا قليــــــل وجــــــــــارن ا .............عزيز وجار ألا كثيرين ذليل
ولم نسمع بغلبته على ناحية إلا على البلاد النجدية وكثير من نواحي الجزيرة العربية الآن وعلى بغداد في القرن الرابع واستفحل أمره منذ حوالى 323 هجري على ما تقدم
ولا يفوتني تعليل لقلة اتباعه ذكره ابن خلدون بما يشبه الذم في صورة المدح إذ يقول فأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل ليعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية وللأخبار بعضها ببعض واكثر هم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها وهم اكثر الناس حفظا للسنة ورواية الحديث
يريد بقوله ذلك لبعد مذهبه عن الاجتهاد من أعمال الرأي والبحث عن الأدلة الفرعية التي لا نص فيها أو تخالف النصوص لان في يد إمامه الأدلة من النصوص متوافرة بما معها لا يحتاج لغير الأصالة المعاضدة بالرواية وهل بعد هذا فضيلة اهـ
كتبه أبو سلمان خالد بن قاسم