التصنيف في العقائد على نوعين[مقام التقرير ومقام الرد]والفرق بينهما/الشيخ الغفيص
قال الشيخ الغفيص
المصنفون في العقائد، أو الكاتبون في هذا الباب، تارة يكتبون من باب التقرير للعقيدة الصحيحة، وتارة يكتبون من باب الرد على المخالف، وتارة نجد أن بعض من أهل العلم ربما كتب كتاباً هو متضمن للتقرير ومتضمن للرد.
فهناك مقامان: مقام التقرير، ومقام الرد، وهذان المقامان بينهما فرق، ولعل من أخص هذه الفروق وأهمها في المنهج:
أنه عند الكلام أو الكتابة في مسائل العقيدة من باب التقرير للمسلمين، والدعوة إلى هذه العقيدة الصحيحة، فإنه ينبغي أن تراعى في هذا التقرير جملة من الأمور، أهمها أمران:
الأول: أن تُستعمل الكلمات الشرعية في هذا التقرير، أي: الكلمات التي نطق بها القرآن، وجاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، أو التي اشتهرت وشاعت عند علماء المسلمين الأوائل، وعند أئمة السنة من الفقهاء والمحدثين، أما الكلمات المخترعة، والكلمات المجملة، والكلمات الحادثة؛ فإنه ينبغي أن يُباعد عنها.
الأمر الثاني: أن يضبِط هذا التقرير استدلال بالكتاب والسنة، فليس من الحكمة أن نسرد تقريراً عقدياً ونقول: إن هذا هو الحق، وإن غيره ضلال أو بدعة أو خطأ، دون أن يُضمن هذا التقرير ما يناسبه من الدلائل، فإن كتب المتقدمين التي صنفت، كأن المقصود الأكبر من تصنيفها هو التقرير، فما سمي بكتب السنة: كالسنة لـ عبد الله بن أحمد، والسنة للخلال، والإبانة لـ ابن بطة، والسنة لـ ابن أبي عاصم، والشريعة للآجري، هذه الكتب وغيرها فيها رد، لكنها عنيت بالتقرير أكثر.
أيضاً إذا قرأنا تقريرهم لمسألة القدر، أو لمسألة الصفات، أو لمسألة الإيمان؛ ربما نجد أن غالب هذا التقرير ليس من كلامهم، وإنما نصوص يستعملونها، كما هو واضح من فعل الآجري في الشريعة، فإنه ذكر أكثر من خمسين آية تحت كلمة: أن الإيمان يكون بالعمل.
فلا بد من العناية بمسألة ربط المعتقد الصحيح بدلائل الكتاب والسنة، أما أن تكون العقيدة من جنس علوم الآلة، فيكون الهم هو أخذ ألفاظ يتزوق المتزوق في نظمها، أو في صياغتها، أو ما إلى ذلك؛ فهذا من الخطأ والقصور، وقد يكون من باب التسهيل للطلاب أو نحوه، لكنه ليس بالضرورة، والمنهج الفاضل هو الذي كان عليه المتقدمون، ولذلك فإن القدماء لم يصنفوا رسائل مختصة في الاعتقاد، وإنما كتبوا كتباً مسندة، وسموها: كتب أصول الدين
فـ البخاري مثلاً لما صنف صحيحه، استودع فيه ما سماه: كتاب الإيمان، وما سماه: كتاب التوحيد، وما إلى ذلك.
إذاً: لا بد أن تكون هذه الصورة من طريقة تقرير الأئمة المتقدمين واضحة، ولا بد أن يتكلم في تقرير العقيدة بكلام بيِّن للعامة من المسلمين، وذلك بأن تختار الكلمات الشرعية، والكلمات البينة المفصحة الواضحة، كما أنه لابد أن يُضمن هذا التقرير مسألة الدلائل المفصلة من الكتاب والسنة، ولعل من الرسائل المتأخرة المناسبة في هذا الباب: الرسالة الواسطية، للإمام ابن تيمية، فهي رسالة جامعة ومفيدة في هذا الباب، وقد بناها على حديث جبريل في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لمسألة الإيمان
منهج الرد يختلف عن منهج التقرير، ولذلك فإن طريقة العلماء من أئمة السنة في باب الرد، تختلف عن طريقتهم في باب التقرير، وربما خلط البعض أحياناً حتى من طلبة العلم ولم يفرق بين مقام الرد وبين مقام التقرير، وربما أقحم العامة أو المبتدئين في طلب العلم في مقام أو أكثر من مقامات الردود على الشبه الفلسفية، أو الشبه الكلامية، أو الشبه المنغلقة، التي لا يحتاجها العامة من المسلمين، الذين صلحت أمورهم وعقائدهم.
وباب الرد: هو باب يقصد منه دفع الشر، ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى إذا ذكر في كتابه الكريم مقام الدعوة إلى الحق، اختلف السياق عن مقام إبطال وإنكار الباطل.
والأئمة في مقام الرد يستعملون اللوازم، فربما ألزموا بعض الطوائف بأقوال ليست هي من أقوالهم، وليس ذلك من باب أنهم يكذبون عليهم، وإنما من باب أن هذه أقوال تلزمهم، وإذا لزم عن الباطل ما هو أظهر منه بطلاناً؛ كان ذلك دليلاً على الحكم بفساده.
وذلك كقولهم مثلاً: إنه يلزم بعض طوائف المرجئة: أن يكون إيمان جبريل كإيمان الفسَّاق، هذا من باب اللازم، وليس من باب: أن المرجئة من الفقهاء ونحوهم من المقاربين يقولون بمثل هذا القول، فهذا لازم لهم، ولازم المذهب ليس بمذهب، لكنه يُستعمل في مقام الرد، من باب الإبطال لقول المخالف.
ومثل هذا ما سبق ذكره من الاستدلال بقوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] لإبطال قول من يقول: إن القرآن مخلوق، فهذا من باب اللازم، أي: أن مقالة هؤلاء يلزم أن تكون نتيجتها مشتركة مع مقالة أولئك القوم من الكفار.
ومما يشير إليه الأئمة في باب الرد: الذم، فنجد أن في كلام الأئمة ذماً لمخالفيهم، وهذا الذم إذا ذكر على قدر من العدل والاقتصاد، فإنه لا بد منه، وقد ذم الله في كتابه من خالف أمره أو أمر رسوله أو ما بعث به عباده المرسلين.