احكام التعامل مع الجاسوس المسلم ، وبيان عدم جواز قتله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من المسائل المهمة على مختلف الاعصار ، حكم التعامل مع الجاسوس المسلم الذي يوصل اخبار المسلمين للاعداء
- فهل يبقى على اسلامه ؟ ام انه يصبح مرتداً كما يقول البعض ؟
- وهل يجوز قتله حداً ؟ ام يعزز بما دون القتل ؟
صراحةً قد قيل هذه الايام مقولات "سخيفة" ينبغي ان نوضح عوارها ... ومضمونها ان الجاسوس المسلم هو كافر مرتد ، وانه مباح الدم لانه يتولى الكفار !! ولهذا كان لزاماً علينا توضيح هذا الامر حتى لا يفتن فيه بعض الاخوة ..
أولاً : هل هذا الأمر هو كفر بيّن ؟
سئل الامام الشافعي - رحمه الله : أرأيت المسلم يكتب إلى (المشركين) من (أهل الحرب) بأن المسلمين يريدون غزوهم أوبالعورة من عوراتهم هل يحل ذلك دمه ويكون في ذلك دلالة على موالاة المشركين ؟
فقال - رحمه الله : لا يحل دم من ثبتت له حرمة الاسلام إلا أن يقتل أو يزنى بعد إحصان أو يكفر كفرا بينا بعد إيمان ثم يثبت على الكفر ، وليس الدلالة على عورة مسلم ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بيّن [ الأم 4 / 263 ]
قلت : وهذا صحيح ، لأن التجسس ليس من التولّي الذي نحكم بردة فاعله ، لان التولي ضابطه محبة كفر المشركين لدينهم ، وهذا الباب الذي نتحدث عنه قد يدخل فيه المكره والمعذور والجاهل والمضطر والمهدد ...
ولهذا قال القرطبي - رحمه الله : [ و من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي واعتقاده على ذلك سليم ]
ثانياً : وهل يجوز قتل الجاسوس كما تفعل بعض الجماعات المنتسبة للاسلام في زماننا ؟
قد يقول قائل : حتى ولو لم يكن الجاسوس مرتداً ، أيجوز لنا قتله من باب العقوبة والحد ؟ افلا نستدل بحديث حاطب بن ابي بلتعة على جواز قتله ؟ وان النبي نفسه عفا عنه فقط لانه من اهل بدر ؟ وانه أقرّ عمر بن الخطاب على جواز قتله ..
والجواب : اختلف اهل العلم في ذلك
- فذهب جمهور اهل العلم من الائمة الاربعة الى المنع من قتل الجاسوس المسلم ، و معاقبته بما هو دون ذلك .
- وذهب بعض اصحاب مالك : الى جواز قتله تعزيزاً ، وردّه أساطين المذهب ..
ما هو مستند الجمهور من اهل العلم في المنع ؟ والرد على فهم المبيحين !
حديث حاطب الشهير هو مستند المبيحين والمانعين معاً ، و جاء فيه ان حاطباً كان يراسل الكفار ويخبرهم بشئون المسلمين وان النبي صلى الله عليه وسلم اكتشف ذلك .. وواجه حاطباً بذلك ..
فقال حاطب : ( يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت أمرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام )
فقال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - لأصحابه : ( لقد صدقكم )
قال عمر : ( يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق )
قال صلى الله عليه و سلم : ( إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )
الفوائد المستنبطة من الحديث كما قال الامام الشافعي ( بشئ من التصرف ) ..
1 - عدم جواز اطلاق الكفر والردّة بمجرد الظن والشك في المسلم ، بل يجب التثبت منه للوقوف على رده وتحديد اعذاره .
2 - عدم جواز قتل الجاسوس المسلم ، وان قتل الجاسوس ليس حداً
فإن قال قائل : ان النبي عفا عنه لأنه كان من اهل بدر كما جاء في الحديث ، وهذا يعني جواز قتل غيره ..
نقول له : بل ان عدم قتله اكبر دليل على ان القتل ليس حداً ، لان العفو من العقوبة لا يكون في حالة الحدود اطلاقاً ، ودليلنا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم الا الحدود) ، ومعنى الحديث ان الشخص الصالح المعروف بالخير ، يجوز لنا ان نتجاوز في عقوبته بالتعزيز ، أما الحدود فلا تسامح فيها اطلاقاً ، و كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) ، فلو كان القتل حداً لما تسامح فيه النبي صلى الله عليه وسلم .. فلا تسامح الا في التعزيز
3 - وان قال قائل : طالما ان المسألة تعزيزية ؟ افلا يجوز لنا التعزيز بالقتل ؟
والجواب : ان التعزيز هو اصل عام لكنه مقيد ومخصوص بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه ) وان كان الجاسوس لم يرتكب احد هذه الامور ، فلا يجوز قتله ، ويبقى الاصل ثابتاً
تجويز بعض المالكية لقتل الجاسوس مردود ومرجوح من وجوه
الوجه الاول : انه خالف نص الحديث كما بينّا
الوجه الثاني : انه خالف الاجماع المنقول ، وقد نقل الامام الطحاوي الإجماع على أن الجاسوس المسلم لا يباح دمه ولا يقتل
ولهذا قال الامام ابن بطال المالكي في شرحه على البخاري [5 / 164 ] : ومن قال بقتل الجاسوس المسلم فقد خالف الحديث وأقوال المتقدمين من العلماء، فلا وجه لقوله !
الوجه الثالث : حتى من قال ذلك من المالكية قيّدوه بأمرين ، الاول : كونه تعزيزاً وليس حداً - وهذا يعني ان الاجتهاد فيه مفتوح ، والقيد الثاني : تقييدهم لذلك بالمصلحة الراجحة !
وعلى هذا لا يشك أحد في صحة قول الجمهور من اهل العلم ملحوظة
هذا كله في الجاسوس المسلم الذي ( يحتمل عذره ) ، ولم يترتب على تجسسه قتل للمسلمين
فإن كان تجسسه حباً للكفار ذاتهم ، أو ترتب على تجسسه قتل المسلمين ، فيقتل حداً وقصاصاً ، وهذا لا خلاف فيه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته