رد: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد
( 27 )
من سورة آل عمران
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }
{ 31 - 32 }
وهذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها،
فقال : { قل إن كنتم تحبون الله }
أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة
فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لابد من الصدق فيها،
وعلامة الصدق
اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله،
في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن،
فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى،
وأحبه الله وغفر له ذنبه،
ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته،
ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى،
لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله،
فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها،
مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها،
وبهذه الآية يوزن جميع الخلق،
فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول
يكون إيمانهم وحبهم لله،
وما نقص من ذلك نقص.
{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ }
وهذا أمر من الله تعالى لعباده بأعم الأوامر،
وهو طاعته وطاعة رسوله التي يدخل بها الإيمان والتوحيد،
وما هو من فروع ذلك من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة،
بل يدخل في طاعته وطاعة رسوله اجتناب ما نهى عنه،
لأن اجتنابه امتثالا لأمر الله هو من طاعته،
فمن أطاع الله ورسوله، فأولئك هم المفلحون
{ فإن تولوا }
أي: أعرضوا عن طاعة الله ورسوله
فليس ثم أمر يرجعون إليه إلا الكفر وطاعة كل شيطان مريد
{ كتب عليه أنه من تولاه
فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير }
فلهذا قال:
{ فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين }
بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم أشد العقوبة،
وكأن في هذه الآية الكريمة بيانا وتفسيرا لاتباع رسوله،
وأن ذلك بطاعة الله وطاعة رسوله،
هذا هو الاتباع الحقيقي.
رد: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد
( 28 )
من سورة آل عمران
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
{ 59 - 60 }
يخبر تعالى محتجا على النصارى
الزاعمين بعيسى عليه السلام ما ليس له بحق،
بغير برهان ولا شبهة،
بل بزعمهم أنه ليس له والد
استحق بذلك أن يكون ابن الله
أو شريكا لله في الربوبية،
وهذا ليس بشبهة فضلا أن يكون حجة،
لأن خلقه كذلك من آيات الله
الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير
وأن جميع الأسباب طوع مشيئته وتبع لإرادته،
فهو على نقيض قولهم أدل،
وعلى أن أحدا لا يستحق المشاركة لله
بوجه من الوجوه أولى،
ومع هذا فآدم عليه السلام خلقه الله من تراب
لا من أب ولا أم،
فإذا كان ذلك لا يوجب لآدم
ما زعمه النصارى في المسيح،
فالمسيح المخلوق من أم بلا أب
من باب أولى وأحرى،
فإن صح إدعاء البنوة والإلهية
في المسيح،
فادعاؤها في آدم
من باب أولى وأحرى،
رد: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد
( 29 )
من سورة آل عمران
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ
وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا
وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
{ 64 }
أي: قل لأهل الكتاب من اليهود والنصارى
{ تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم }
أي: هلموا نجتمع عليها
وهي الكلمة التي اتفق عليها الأنبياء والمرسلون،
ولم يخالفها إلا المعاندون والضالون،
ليست مختصة بأحدنا دون الآخر،
بل مشتركة بيننا وبينكم،
وهذا من العدل في المقال
والإنصاف في الجدال،
ثم فسرها بقوله
{ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا }
فنُفرد الله بالعبادة
ونخصه بالحب والخوف والرجاء
ولا نشرك به نبيا
ولا ملكا
ولا وليا
ولا صنما
ولا وثنا
ولا حيوانا
ولا جمادا
{ ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله }
بل تكون الطاعة كلها لله ولرسله،
فلا نطيع المخلوقين في معصية الخالق،
لأن ذلك جعل للمخلوقين في منزلة الربوبية،
رد: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد
( 30 )
من سورة آل عمران
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ
وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ *
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
{ 79 - 80 }
وهذه الآية نزلت ردا لمن قال من أهل الكتاب
للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالإيمان به
ودعاهم إلى طاعته:
أتريد يا محمد أن نعبدك مع الله،
فقوله { ما كان لبشر }
أي: يمتنع ويستحيل على بشر منَّ الله عليه بإنزال الكتاب
وتعليمه ما لم يكن يعلم وإرساله للخلق
{ أن يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله }
فهذا من أمحل المحال صدوره من أحد من الأنبياء
عليهم أفضل الصلاة والسلام،
لأن هذا أقبح الأوامر على الإطلاق،
والأنبياء أكمل الخلق على الإطلاق،
فأوامرهم تكون مناسبة لأحوالهم،
فلا يأمرون إلا بمعالي الأمور
وهم أعظم الناس نهيا عن الأمور القبيحة،
فلهذا قال
{ ولكن كونوا ربانيين
بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون }
أي: ولكن يأمرهم بأن يكونوا ربانيين، أي:
علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم،
بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك،
فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة،
وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل،
والباء في قوله { بما كنتم تعلمون } إلخ،
باء السببية،
أي: بسبب تعليمكم لغيركم
المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه،
التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيين.
{ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا }
وهذا تعميم بعد تخصيص،
أي: لا يأمركم بعبادة نفسه
ولا بعبادة أحد من الخلق من الملائكة والنبيين وغيرهم
{ أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون }
هذا ما لا يكون ولا يتصور أن يصدر
من أحد من الله عليه بالنبوة،
فمن قدح في أحد منهم بشيء من ذلك
فقد ارتكب إثما عظيما وكفرا وخيما.
رد: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد
( 31 )
من سورة آل عمران
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ *
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
{ 128 - 129 }
لما جرى يوم "أحد" ما جرى،
وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم مصائب،
رفع الله بها درجته،
فشُج رأسه وكسرت رباعيته،
قال "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم"
وجعل يدعو على رؤساء من المشركين
مثل أبي سفيان بن حرب،
وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو،
والحارث بن هشام،
أنزل الله تعالى على رسوله
نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله
{ ليس لك من الأمر شيء }
إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم،
وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور،
ويهدي من يشاء ويضل من يشاء،
فلا تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم،
إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم
ويمن عليهم بالإسلام فعل،
وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم،
فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم
وضروها وتسببوا بذلك،
فعل،
وقد تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم،
فهداهم للإسلام رضي الله عنهم،
وفي هذه الآية
مما يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد،
وأن العبد وإن ارتفعت درجته وعلا قدره
قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره،
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم
ليس له من الأمر شيء
فغيره من باب أولى
ففيها أعظم رد على من تعلق بالأنبياء
أو غيرهم من الصالحين وغيرهم،
وأن هذا شرك في العبادة،
نقص في العقل،
يتركون من الأمر كله له
ويدعون من لا يملك من الأمر مثقال ذرة،
إن هذا لهو الضلال البعيد،
رد: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد
( 32 )
من سورة آل عمران
{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ
فَلَا غَالِبَ لَكُمْ
وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ
فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
{ 160 }
أي: إن يمددكم الله بنصره ومعونته { فلا غالب لكم }
فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما عندهم من العدد والعُدد،
لأن الله لا مغالب له، وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم،
فلا تتحرك دابة إلا بإذنه، ولا تسكن إلا بإذنه.
{ وإن يخذلكم } ويكلكم إلى أنفسكم
{ فمن ذا الذي ينصركم من بعده }
فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق.
وفي ضمن ذلك الأمر بالاستنصار بالله
والاعتماد عليه،
والبراءة من الحول والقوة،
ولهذا قال: { وعلى الله فليتوكل المؤمنون }
بتقديم المعمول يؤذن بالحصر،
أي: على الله توكلوا لا على غيره،
لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده،
فالاعتماد عليه توحيد
محصل للمقصود،
والاعتماد على غيره شرك
غير نافع لصاحبه،
بل ضار.
وفي هذه الآية
الأمر بالتوكل على الله وحده،
وأنه بحسب إيمان العبد
يكون توكله.
رد: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد
( 33 )
من سورة آل عمران
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ *
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا
وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ *
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ
فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
{ 172 - 175 }
لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من "أحد" إلى المدينة،
وسمع أن أبا سفيان ومن معه من المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة،
ندب أصحابه إلى الخروج،
فخرجوا -على ما بهم من الجراح- استجابة لله ولرسوله،
وطاعة لله ولرسوله،
فوصلوا إلى "حمراء الأسد" وجاءهم من جاءهم وقال لهم:
{ إن الناس قد جمعوا لكم }
وهموا باستئصالكم،
تخويفا لهم وترهيبا،
فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله واتكالا عليه.
{ وقالوا حسبنا الله }
أي: كافينا كل ما أهمنا
{ ونعم الوكيل }
المفوض إليه تدبير عباده، والقائم بمصالحهم.
{ فانقلبوا }
أي: رجعوا
{ بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء }
وجاء الخبر المشركين
أن الرسول وأصحابه قد خرجوا إليكم،
وندم من تخلف منهم،
فألقى الله الرعب في قلوبهم،
واستمروا راجعين إلى مكة،
ورجع المؤمنون بنعمة من الله وفضل،
حيث مَنَّ عليهم بالتوفيق للخروج بهذه الحالة والاتكال على ربهم،
ثم إنه قد كتب لهم أجر غزاة تامة،
فبسبب إحسانهم بطاعة ربهم،
وتقواهم عن معصيته، لهم أجر عظيم،
وهذا فضل الله عليهم.
رد: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد
( 34 )
من سورة النساء
{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا ..... }
{ 36 }
يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له،
وهو الدخول تحت رق عبوديته،
والانقياد لأوامره ونواهيه، محبة وذلا وإخلاصا له،
في جميع العبادات الظاهرة والباطنة.
وينهى عن الشرك به شيئا
لا شركا أصغر ولا أكبر،
لا ملكا
ولا نبيا
ولا وليا
ولا غيرهم من المخلوقين
الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا
ولا ضرا
ولا موتا
ولا حياة
ولا نشورا،
بل الواجب المتعين إخلاص العبادة
لمن له الكمال المطلق
من جميع الوجوه،
وله التدبير الكامل
الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد.
رد: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد
( 35 )
من سورة النساء
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }
{ 48 }
يخبر تعالى: أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين،
ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها،
وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك،
إذا اقتضت حكمتُه مغفرتَه.
فالذنوب التي دون الشرك
قد جعل الله لمغفرتها أسبابا كثيرة،
كالحسنات الماحية
والمصائب المكفرة في الدنيا،
والبرزخ ويوم القيامة،
وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض،
وبشفاعة الشافعين.
ومن فوق ذلك كله رحمته
التي أحق بها
أهل الإيمان والتوحيد.
وهذا بخلاف الشرك
فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة،
وأغلق دونه أبواب الرحمة،
فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد،
ولا تفيده المصائب شيئا،
وما لهم يوم القيامة
{ مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ }
رد: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد
( 36 )
من سورة النساء
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ
أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ
وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ
وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا *
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا
إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا *
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا *
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ
وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا }
{ 60 - 63 }
يعجب تعالى عباده من حالة المنافقين.
{ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ }
مؤمنون بما جاء به الرسول وبما قبله،
ومع هذا { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ }
وهو كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت.
والحال أنهم { قد أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ }
فكيف يجتمع هذا والإيمان؟
فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله
وتحكيمه في كل أمر من الأمور،
فمَنْ زعم أنه مؤمن
واختار حكم الطاغوت على حكم الله،
فهو كاذب في ذلك.
وهذا من إضلال الشيطان إياهم،
ولهذا قال:
{ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } عن الحق.
{ فَكَيْفَ } يكون حال هؤلاء الضالين
{ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ }
من المعاصي ومنها تحكيم الطاغوت؟!
{ ثُمَّ جَاءُوكَ } معتذرين لما صدر منهم،
ويقولون: { إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } أي:
ما قصدنا في ذلك إلا الإحسان إلى المتخاصمين والتوفيق بينهم،
وهم كَذَبة في ذلك.
فإن الإحسان كل الإحسان تحكيم الله ورسوله
{ ومَنْ أحْسَن من الله حكمًا لقوْمٍ يوقنون }
رد: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد
( 37 )
من سورة النساء
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ
فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا *
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
{ 64 -65 }
يخبر تعالى خبرا في ضمنه الأمر والحث على طاعة الرسول والانقياد له.
وأن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين
ينقاد لهم المرسلُ إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه،
وأن يكونوا معظمين تعظيم المطيع للمطاع.
وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله،
وفيما يأمرون به وينهون عنه؛
لأن الله أمر بطاعتهم مطلقا،
فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ،
لما أمر بذلك مطلقا.
وقوله: { بِإِذْنِ اللَّهِ }
أي: الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره.
ففيه إثبات القضاء والقدر،
والحث على الاستعانة بالله،
وبيان أنه لا يمكن الإنسان -إن لم يعنه الله- أن يطيع الرسول.
ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده،
ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله
فقال:
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ }
أي: معترفين بذنوبهم باخعين بها.
{ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا }
أي: لتاب عليهم بمغفرته ظلْمَهم،
ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب عليها،
وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
مخـتص بحياته؛
لأن السياق يدل على ذلك
لكون الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته،
وأما بعد موته
فإنه لا يطلب منه شيء
بل ذلك شرك.