حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
والثاني :
أن ذلك لا يفعل ما لم يُؤمر به .
وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة .
وهؤلاء ضربان :
منهم من لا يثبت الحكم
إن لم يدخل تحت دليل من كلام الشارع أو فعله أو إقراره ،
وهم نفاة القياس .
ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه ،
وهو القياسيون .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فأما ما كان المقتضى لفعله موجوداً لو كان مصلحة ،
وهو مع هذا
لم يشرعه ،
فوضعه تغيير لدين الله تعالى ،
وإنما أدخله فيه
من نسب إلى تغيير الدين
من الملوك والعلماء والعباد ،
أو من زل منهم باجتهاد ،
كما روي عن النبي صلى الله عليه سلم
وغير واحد من الصحابة
( إن أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم ،
أو جدال منافق بالقرآن ،
وأئمة مضلون ) .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فمثال هذا القسم :
الأذان في العيدين ،
فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء
أنكره المسلمون لأنه بدعة ،
فلو لم يكن كونه بدعة دليلاً على كراهته،
وإلا لقيل:هذا ذكر الله ،
ودعاء للخلق إلى عبادة الله ،
فيدخل في العمومات
كقوله تعالى :
{ اُذْكُرُوا اللَّه ذِكْرًا كَثِيرًا }[1] ،
وقوله تعالى :
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ }[2] .
أو يقاس على الأذان يوم الجمعة ،
فإن الاستدلال على الأذان في العيدين
أقوى من الاستدلال على حُسْن أكبر البدع .
===========
[1] - سورة الأحزاب ، الآية 41 .
[2] - سورة فصلت ، الآية : 33 .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
بل يقال :
ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم له
مع وجود ما يعتقد مقتضياً،
وزوال المانع ;
سنـّة ،
كما أن فعله سنـّة .
فلما أمر بالأذان في الجمعة ،
وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة ،
كان ترك الأذان فيهما سنـّة ،
فليس لأحد
أن يزيد في ذلك ،
بل الزيادة في ذلك
كالزيادة في أعداد الصلاة ،
وأعداد الركعات ،
أو الحج ،
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فإن رجلاً لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال :
هذا زيادة عمل صالح ،
لم يكن له ذلك .
وكذلك لو أراد أن ينصب مكاناً آخر
يُقصد لدعاء الله فيه وذكره ،
لم يكن له ذلك ،
وليس له أن يقول : هذه بدعة حسنة ،
بل يقال له :
كل بدعة ضلالة .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ونحن نعلم أن هذا ضلالة
قبل أن نعلم نهياً خاصاً عنها ،
أو نعلم ما فيها من المفسدة ،
فهذا مثال لما حدث ،
مع قيام المقتضى له وزوال المانع ،
لو كان خيراً
فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة ،
أو يستدل به من الأدلة
قد كان ثابتاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ومع هذا
لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،
فهذا الترك سنـّة خاصة ،
مقدمة على كل عموم وكل قياس .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
ومثال ما حدثت الحاجة له من البدع
بتفريط من الناس
تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين ،
فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون ،
لأنه بدعة ،
واعتذار من أحدثه
بأن الناس قد صاروا ينفضّون قبل سماع الخطبة ،
وكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا ينفضّون حتى يسمعوا
أو أكثرهم .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فيقال له :
سبب هذا تفريطك ،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطبهم خطبة
يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم ،
وأنت تقصد إقامة رياستك ،
وإن قصدت صلاح دينهم
فلست تعلمهم ما ينفعهم ،
فهذه المعصية منك
لا تبيح لك
إحداث معصية أخرى ،
بل الطريق في ذلك
أن تتوب إلى الله
وتتبع سنـّة نبيه ،
وقد استقام الأمر .
وإن لم يستقم
فلا يسألك الله إلا عن عملك
لا عن عملهم .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وهذان المعنيان مَن فهمهما
انحل عنه كثير من شُبه البدع المحدَثة ،
فإنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال :
( ما أحدث قوم بدعة
إلا نزع الله عنهم
من السنـّة مثلها ) .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما تقدم ،
وبيّـنت أن
الشرائع أغذية القلوب ،
فمتى ما اغتذت القلوب بالبدع
لم يبقَ فيها فضل للسنن ،
فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث .
وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعاً من السياسات الجائرة ،
من أخذ أموال لا يجوز أخذها ،
وعقوبات على الجرائم لا تجوز ،
لأنهم فرّطوا في المشروع
من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه ،
ووضعوه حيث يسوغ وضعه ،
طالبين بذلك إقامة دين الله
لا رياسة أنفسهم ،
وأقاموا الحدود المشروعة
على الشريف والوضيع ،
والقريب والبعيد ،
متحررين في ترغيبهم وترهيبهم
للعدل الذي شرعه الله ;
لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة ،
ولا إلى العقوبات الجائرة ،
ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين ،
كما كان
الخلفاء الراشدون
وعمر بن عبدالعزيز
وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وكذلك العلماء إذا أقاموا كتاب الله ،
وفقهوا ما فيه من البينات التي هي حجج الله ،
وما فيه من الهدى
الذي هو العلم النافع والعمل الصالح ،
وأقاموا حكمة الله
التي بعث بها رسوله صلى الله عليه وسلم وهي سنته ;
لوجدوا فيها من أنواع العلوم النافعة
ما يحيط بعلم عامة الناس ،
ولميزوا حينئذ بين المحق والمبطل من جميع الخلق ،
بوصف الشهادة التي جعلها الله لهذه الأمة ،
حيث يقول الله عز وجل :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }[1]،
ولاستغنوا بذلك
عما ابتدعه المبتدعون
من الحجج الفاسدة ،
التي يزعم الكلاميون أنهم ينصرون بها أصل الدين،
ومن الرأي الفاسد الذي يزعم القياسيون أنهم يتمون به فروع الدين ،
وما كان من الحجج صحيحاً ،
ومن الرأي سديداً
فذلك له أصل
في كـتاب الله وسنـّة رسوله ،
فهمه من فهمه ،
وحرمه من حرمه .
============
[1] - سورة البقرة ، الآية : 143 .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وكذلك العباد ;
إذا تعبّدوا بما شرع الله
من الأقوال والأعمال ظاهراً وباطناُ ،
وذاقوا طعم الكلم الطيب ،
والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله ;
لوجدوا في ذلك من الأحوال الزكية ،
والمقامات العلية ، والنتائج العظيمة ;
ما يغنيهم عما قد حدث في نوعه ،
كالتغبير ونحوه من السماعات المبتدعة
الصارفة عن سماع القرآن ،
وأنواع من الأذكار والأوراد لفَّـقها بعض الناس ،
أو في قدره كزيادات من التعبّدات
أحدَثها من أحدثها
لنقص تمسكه بالمشروع منها ،
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وإن كان كثير من العباد والعلماء بل والأمراء
قد يكون معذوراً فيما أحدثه لنوع اجتهاد .
فالغرض أن يعرف الدليل الصحيح ،
وإن كان التارك له قد يكون معذوراً لاجتهاده ،
بل قد يكون صديقاً عظيماً ،
فليس من شرط
الصديق أن يكون قوله كله صحيحاً ،
وعمله كله سنـّة ،
إذ قـد يكون بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وهذا باب واسع .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
والكلام في أنواع البدع وأحكامها وصفاتها
لا يتسع له هذا الكتاب ،
وإنما الغرض التنبيه
على ما يزيل شبهة المعارضة للحديث الصحيح الذي ذكرناه ،
و التعريف بأن النصوص الدالة على ذم البدع
مما يجب العمل بها .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
والوجه الثاني
في ذم المواسم والأعياد المحدثة :
ما تشتمل عليه من الفساد في الدين ،
واعلم أنه ليس كل واحد ;
بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذا النوع من البدع ،
ولا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة ،
بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد ،
والواجب على الخلق
اتباع الكتاب والسنـّة ،
وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة ،
فننبّـه على بعض مفاسدها .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
فمن ذلك ;
أن من أحدثَ عملاً في يوم ،
كإحداث صوم أول خميس من رجب ،
والصلاة في ليلة تلك الجمعة
التي يسميها الجاهلون
صلاة الرغائب مثلاً ،
وما يتبع ذلك من إحداث أطعمة وزينة ،
وتوسيع في النفقة ،
ونحو ذلك ;
فلا بد أن يتبع هذا العمل
اعتقاد في القلب .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وذلك ;
لأنه يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله ،
وأن الصوم فيه
مستحب فيه استحباباً زائداً
على الخميس الذي قبله ،
والذي بعده مثلاً ،
وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من ليالي الجمع ،
وأن الصلاة فيها
أفضل من الصلاة في غيرها من ليالي الجمع ، خصوصاً ،
وسائر الليالي عموماً ،
إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه
أو في قلب متبوعه ;
لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة ،
فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وهذا المعنى قد شهد له الشرع بالاعتبار في هذا الحكم ،
ونص على تأثيره ،
فهو من المعاني المناسبة المؤثرة ،
فإن مجرد المناسبة مع الاقتران
يدل على العلة عند من يقول بالمناسب الغريب ،
وهم كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ،
ومن لا يقول إلا بالمؤثرة ;
فلا يكتفى بمجرد المناسبة ،
حتى يدل الشرع على أن مثل ذلك الوصف
مؤثر في مثل ذلك الحكم ،
وهو قول كثير من الفقهاء أيضاً من أصحابنا وغيرهم .
وهؤلاء إذا رأوا أن في الحكم المنصوص
معنى قد أثر في مثل ذلك الحكم ،
في موضوع آخر ،
عللوا ذلك الحكم المنصوص به .
حوار مع [ المالكي ] في ردِّ ضلالاته ومنكراته
وهنا قول ثالث
قاله كثير من أصحابنا وغيرهم أيضاً وهو :
أن الحكم المنصوص لا يُعلل
إلا بوصف
دلَّ الشرع على أنه معلل به ،
ولا يكتفى بكونه علل به نظيره أو نوعه .