فتاة .. في مهبّ التقنية ! // محمد السليمان
- " أوووف .. طفششش ! "
قالتْها وهي تُلقي بنفسها على الأريكة ، وكأنّها تحمل على كاهلها هموم العالَمين .. مدَّت يدَها إلى صديقها القريب ؛ هاتفها الذكيّ ، حيث تَنفُذُ منه إلى العالم .. تناولته ببطء .. وانطلقتْ مُبحرةً في أمواجِه ، لا تدري أين ، وكيف ، ولماذا ، وحتى متى !
هكذا ككلّ البدايات الشاحبة ؛ راحَتْ ترسمُ قصَّتها الخاصّة ... !
أخذت أناملُها تتقافزُ بين تطبيقات المواقع الاجتماعية ، تبحث عن شيءٍ يؤنِسُها ، عن أمرٍ يُشغلها ، أيًّا كان .. تتقلَّب بين الصفحات ..
تحسَبُ أنّها وحدَها !
وهكذا .. بعد جولةٍ بائسة ، تعودُ بـ ( لا شيء ) !
سويعات .. ثم ترجع لالتقاط هاتفها من جديد !
تقتحم (انستقرام) .. تُقلِّب طرْفَها بين الصور ..
رأتْ صورةَ ذاك الفتى الإعلامي الشهير .. كتبتْ له وبكلّ سذاجة: "يا لبـييييييييييه" لم يسبق لها أن قالتْها لأبيها أو لأمها ، لكنّها قالتها الآن لرجلٍ غريب .. ذاتَ فراغ !
مرَّ الردُّ كأن لم يكن .. رأتْ أن شيئًا ما لم يحدث ؛ وطمأنت نفسَها: "ترى كلّها رد في انستقرام يعني وش بيصير؟!" .. شعرَتْ بمتعةٍ متوهَّمة ؛ متعة (كسر الحاجز) ، ولذّة (الخطوة الأولى) !
راحتْ تُكرِّر فعلتَها تارةً بعد تارة ..
ثمَّة شيءٌ في قلبها يتهشَّم ، وهي لا تعلم !
تُلقي هاتفَها .. ثم تعود إليه لا شعوريًا !
لم تَعُد تتحرَّج من شيءٍ تظنُّه يصبُّ في سياق هذه المتعة .. تضع صورَ نساء حسناوات / فتاة مع فتاها / امرأة في حضنِ رجل ... تُرفق مع كلّ ذلك أبيات الحبّ والغرام ، وكلمات الوله والاشتياق ، تظنُّ أنها تنشر الإبداع كما يجب !
تشجَّعت إحدى متابعاتها فكتبتْ لها: "أختي انتبهي لا يجوز نشر مثل هذه الصور!" فكتبت ردًّا عليها: "هذا حسابي! إذا ما أعجبك ألغي المتابعة!"
.. ظنَّت أنها انتصرت !
فتاةُ أخرى كتبت لها: "هل تحبين أن يرى الناس هذه الصور في حسابك بعد موتك؟" فأعادت الكَرَّة: "أحد أجبرك تتابعيني؟" ثم همست: "أوف! معقّدين!".
صارت لا تهتمّ كثيرًا للحديث مع أمّها عن يوميّاتها في دراستها ، لم تعد تُشاركها همومها .. تعود إلى البيتِ فتنزوي في حُجرتها .. لم تعد تحكي لها عن حكاياها المعتادة ..
وبشكلٍ لافت ؛ انطوت حتى عن أخواتها ..
تتهرَّب من عمل البيت .. تطلب منها أمُّها حاجةً فلا تكاد تُجيب إلا بعد إلحاحٍ وهي تردِّد: "أوووففف ما فيه إلا أنا في هالبيت؟!" .
غابت عن تحمّل المسؤولية كفتاة ..
صار أكبرُ همِّها أن تظهر عبر عالَمها التقنيّ بأجمل مظهر !
تحوم في متاهاته ، تدقّ أبوابَه ، تقتحم جنبَاته
.. بلا هدف !
تعود إليه من جديد ..
تفتح (يوتيوب) تجري خلفَ المقاطع لا تلوي على شيء ..
وفجأة تنتبه: "ايييييه هذا المسلسل اللي يتكلَّمون عنه البنات"
قالتْها كأنَّها مستبشرة ! وليست كذلك !
شاهدتْ منه ما شاهدت .. ونكتةٌ سوداء في قلبها من جديد !
رأتْ في الردود على المقطع: "حساب الفنانة: .... في انستقرام" نسختْه وطارت إلى هناك .. وتابعتْ حساب (الفنانة!).
(الفنانة) المشار إليها تنشر صورَها بشكلٍ بشع ، يراه بعضُهم حسنًا !
طافتْ في الحساب .. رأت كلمات المديح والإعجاب من الشابّات والشباب .. راحت تفكّر: "الأمرُ يبدو طبيعيًّا ؛ هذه فتاةٌ مثلي بلا حجاب .. لكنَّها (محبوبة)" !
الشيطانُ ينتفخ ابتهاجًا: لقد بدأت تُصدِّق الخُدعة أكثر !
صارت تنشر صورًا لأشيائها ، لكن تُظهر معها يدَها المزركشة أطرافها بالأصباغ: "لا بأس، أنا أحسن من غيري! وبعدين فيه أحد تثيره يد؟! عادي!".
الآن .. هي تحسب نفسَها نحلة تتنقّل بين الأزاهير كما تُحب ، وأن الكلُّ ينظر إليها نظرة إعجاب !
لم يعد يمنعها شيءٌ عن شيء .. لم تعد تتردَّد .. لم تعد تتوجَّس من هذه الأفعال .. هذا التوجُّس الذي كانت تظنُّه سبب (الطفش) ، وتحسب أنّه القيد الذي يجعلها (طفشانة) !
غفلَتْ عن الصلوات ، هجرَتْ كتابَ الله ..
من مسلسلٍ إلى آخر ، ومن روايةٍ هابطة إلى أخرى ، ومن صورةٍ إلى صورة ، ومن أغنيةٍ إلى أغنية ، ومن محادثةٍ إلى محادثة .. وصارت مضطربةً حدَّ البكاء !
تخبط خبط عشواء .. لقد فقدتْ السيطرة على نفسها !
بعد تحوّلات وتقلّبات ..
ولأنها صارت تعيش بقلبٍ خاوٍ أو يكاد ؛ تعلّقت بشابٍّ أعجبها ..
أحبَّتْ هذا الشبح التقنيّ الذي لا يَظهر منه إلا الأحسن !
وقلبُها لم يَعُد أبيضًا كما كان !
وصلتْ لحسابه في (kik) .. تريد تواصلاً سريعًا !
أضافته .. لم تعرف كيف تلفت نظَرَه !
-لو سمحت محتاجة ضروري جواب على سؤالي...
-طيب وش رايك في...
-بصراحة.. أنا طفشانة، كم عمرك؟
توقّف الشابّ .. وغيَّر موجة الحوار:
-ليش الأسئلة هذي؟!
-يمّه! خلاص آسفة! وش فيك كذا؟
-إن كنتِ تبحثين عن (سواليف) و (سعة صدر) فلستُ الشابّ المناسب!
-ليش وش فيها لو تكلّمنا؟
-الأصل أن الكلام بين الشاب والفتاة ما يكون إلا لحاجة، الله يقول: (وإن سألتُمُوهنَّ متاعًا فاسألوهنَّ مِن وراءِ حجاب) يعني السؤال يكون لحاجة وبحدود ، وأنا ما أرى فائدة من إطالة الكلام مع رجل غريبٍ عنك بدون حاجة وسؤاله عن أمور شخصية!
-طيب عادي كلّ البنات يسولفون مع أصحابهم ولا صار شيء!
-إذا حدث هذا من صديقاتك فليس دليل صحة ، وواجب عليك الانتباه والحذر وتحكيم الشرع والعقل ، الله تعالى يقول: (فلا تخضعنَ بالقول فيَطمع الذي في قلبِه مرض) قال القرطبي في تفسير الآية: "أمرهنَّ الله أن يكون قولهنَّ جزلاً وكلامهنَّ فصلا ، ولا يكون على وجه يُظهر في القلب علاقةً بما يَظهر عليه من اللين" يعني يكون الكلام مختصر وبقدر الحاجة! هذا فضلاً عن الكلام في نافذة خاصة كهذه ، وأي مخالفة لأمر الله سيكون ضرره وعاقبته على الرجل والمرأة في الدنيا والآخرة.
ثم أكمل الشاب:
-أسهل شيء إني أسوّي نفسي أحبّك ، وأقول لك كلام رخيص ، وأعيّشك في حلم .. لكنّي أعقل من أن أفعل ذلك! والله تعالى لا يرضاه! وأنا لا أرضاه لك كما أني لا أرضاه لأخواتي!
أما (الطفش) فهذا خطأ منكِ وحدك .. الفراغ نعمة وواجبك استغلاله في شيء يُرضي الله وينفعك في دنياك أو آخرتك .. لا تنتظري أحدًا يأخذ بيدك إلى ما يُشغلك ، ابحثي عما يُفيدك ويطوّر مهاراتك وتعمرين به وقتك .. نفسك إن لم تشغليها بالطاعة شغلتك بالمعصية .. ولا تعتقدي أن أحدًا سيأتي ليغرس السعادة في نفسك دون أن تفعلي أنت ذلك بسلوك الطريق الصحيح الموصل إليها!
لن تجدي السعادة في معصية الله ، لن تجديها في علاقة لا تُرضي الله ، لن تجديها في حُبٍّ يلوِّث قلبك .. السعادة من الله ، يزرعها في قلب عبدِه الذي يتقرّب إليه بالطاعات أكثر ، حتى ولو أذنب تاب إليه وأناب.
هذه التقنية نعمةٌ من الله أيضًا ، اعرفي لماذا تستخدميها ؟ وكيف ؟ ما هو هدفك منها ؟ وما الذي تنتظرين من خلالها ؟ .. كلُّ هذه أسئلة ينبغي عليك استحضارها والإجابة عليها وعرضها على نفسك كل حينٍ .. ينبغي عليَّ وعليكِ مراقبة الله تعالى في استخدامها حتى لا تكون سبب هلاكنا!
ختم الشابُّ حديثه:
-آسف أطلتُ عليك .. لكن ثقي أنك أغلى مما تفعلين .. في حفظ الله.
صمتَتْ الفتاةُ زمنًا ، كأن أحدًا صفعها !
لقد بعَثَ الشابُّ الحياةَ في قلبها ، ونفض الغبارَ الجاثمَ على فِطرتها ..
ابتسمَتْ باطمئنان .. وقالت :
" لقد صدق ،
لقد صدق ! " .
رد: فتاة .. في مهبّ التقنية ! // محمد السليمان