بحثٌ قيِّم: (أحكام مجاوزة الميقات).نايف بن محمد اليحيى.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
موضوع المواقيت له أهمية هذا الوقت لكثرة وقوع الخطأ فيه، وشدة الحاجة إليه، خصوصا مع تيسر وسائل النقل وسرعتها فتجد من يتجاوز الميقات ليعود إليه، أو يتجاوزه ليقصد ميقاتا آخر، أو يتجاوزه لعمل يقصد بعده النسك، أو لأجل عدم حمله التصريح، وقد بينت ذلك في هذا البحث المتواضع قدر الاستطاعة، والله الموفق.
خطة البحث:
تتكون خطة البحث من تمهيد وفصلين:
الفصل الأول: مجاوزة الميقات لمن عزم على أداء النسك، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: المجاوزة قاصدا لميقات آخر.
المبحث الثاني: الإحرام بعد تجاوز الميقات.
المبحث الثالث: تجاوز الميقات بغير إحرام بنية العود إليه.
المبحث الرابع: تجاوز الميقات لعدم حمل التصريح أو لعدم وجود ملابس الإحرام.
المبحث الخامس: من جاوز الميقات ناسيا أو جاهلا.
المبحث السادس: ميقات منهم دون المواقيت
المبحث السابع: ميقات أهل مكة.
الفصل الثاني: مجاوزة الميقات لغير مريد النسك.
المبحث الأول: المجاوزة لمن يريد دخول مكة.
المبحث الثاني: من جاوز الميقات لعمل أو حاجة هل يلزمه الإحرام؟
تمهيد وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف الميقات لغة:
قال ابن فارس: الواو والقاف والتاء: أصل يدل على حد شيء وكنهه في زمان وغيره، منه الوقت: الزمان المعلوم، والموقوت: الشيء المحدود. والميقات: المصير للوقت، وقت له كذا ووقته، أي حدده. قال الله عز وجل: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [1] ، [النساء: 103].
وقال الجوهري: الميقات: الوقت المضروب للفعل، والموضع. يقال: هذا ميقات أهل الشام، للموضع الذي يحرمون منه [2] .
واستعير للمكان، ومنه: مواقيت الحج لمواضع الإحرام [3] .
تعريف الميقات اصطلاحا:
مواضع و أزمنة معينة لعبادة مخصوصة [4] .
المبحث الثاني: مشروعية الإحرام من الميقات:
أجمع العلماء على عدم جواز تجاوز الميقات لمريد النسك إلا بإحرام، وممن نقل الإجماع النووي [5] والرملي [6] وغيرهم.
وذلك لأمره عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن وقال ابن عمر:. وأخبرت أنه قال: (ويهل أهل اليمن من يلملم) [7] .
وفي رواية: (فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم ..) [8] .
وفي رواية: (وقت لأهل ..) [9] .
فتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو عن فائدة، ولا فائدة في هذه المواقيت سوى المنع من تأخير الإحرام بعد ما انتهى إليها [10] .
وأعيان هذه المواقيت لا يشترط، بل الواجب عينها أو حذوها بالاتفاق كما حكاه ابن جماعة ( [11] ) .
وقد ثبت بالنص أربعة مواقيت ونقل ابن عبدالبر [12] وابن قدامة [13] الإجماع عليها، وهي: ذو الحليفة [14] ، والجحفة [15]، وقرن المنازل [16] ، ويلملم [17]
واختلفوا في ذات عرق [18] هل ثبت بالنص أو باجتهاد عمر رضي الله عنه، مع إجماعهم على جواز الإحرام منه كما نقله ابن عبدالبر [19] والنووي [20] .
وقد نظم بعضهم المواقيت الخمسة في بيتين فقال:
عرق العراق يلملم اليمني وبذي الحليفة يحرم المدني
للشام جحفة إن مررت بها ولأهل نجد قرن فاستبن [21]
المبحث الثالث: حكم الإحرام قبل الميقات:
نقل ابن المنذر والنووي الإجماع على انعقاد الإحرام لو دخل فيه قبل الميقات، وذكر ابن قدامة والحطاب أنه ينعقد بغير خلاف [22] ، وقد رد ابن حجر حكاية الإجماع وقال: (فيه نظر، فقد نقل عن إسحاق وداود وغيرهما عدم الجواز) [23] .
قال النووي متعقبا قول داود: (وهذا الذي قاله مردود عليه بإجماع من قبله) [24] .
وقد ثبت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم الإحرام قبل الميقات [25] .
وبعد اتفاق العلماء على انعقاد الإحرام قبل الميقات اختلفوا في حكمه على قولين:
القول الأول:
أن الإحرام قبل الميقات هو الأفضل، وهو مذهب الحنفية [26] وقول عند الشافعية [27] ، وبعضهم قيده بأمنه على نفسه من الوقوع في محظورات الإحرام.
القول الثاني:
أن الإحرام قبل الميقات مكروه، والأفضل أن يحرم من الميقات، وهو المشهور عند المالكية [28] والشافعية [29] والحنابلة[30] .
الفصل الأول: مجاوزة الميقات لمن عزم على أداء النسك:
المبحث الأول: المجاوزة قاصدا لميقات آخر:
ذهب الأئمة الأربعة في المشهور من مذاهبهم إلى أن الأفضل لمن مر بميقات أن يحرم منه ولو كان سيمر بعده بميقاته[31] ، ونقل ابن تيمية الاتفاق على استحباب ذلك [32] ، واختلفوا في حكم تجاوزه إلى ميقات آخر على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن من مر بميقات وجب عليه أن يحرم منه ولو كان سيمر بميقاته.
وهو المشهور من مذهب الشافعية [33] والحنابلة [34] ، وبه قال إسحاق [35] وابن حزم [36] والشنقيطي [37] .
ومن أدلتهم في المنع:
الدليل الأول:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: (.. فهن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة)[38] ، وفي رواية: (ولكل آت أتى عليهن) [39] .
فقوله عليه الصلاة والسلام: (ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)، عام يدخل تحته من ميقاته بين يدي هذه المواقيت التي مر بها، ومن ليس ميقاته بين يديها [40] .
ويمكن أن يناقش:
بأن الحديث يفيد جواز الإحرام لمن مر على غير ميقاته لا الوجوب، فليس فيه المنع من المجاوزة إلى ميقات آخر.
ويجاب عليه:
بأن من سلك طريقا فيها ميقات فهو ميقاته [41] ، فالمراد بأهل المدينة مثلا من سلك طريق سفرهم ومر على ميقاتهم[42] كما هو ظاهر الحديث، وأهله يجب عليهم عدم تجاوزه فكذلك غيرهم.
الدليل الثاني:
أن هذه المواقيت حدود النسك، فليس لأحد أن يتعدى حدود الله [43] .
ويمكن أن يناقش:
بأنه لم يتجاوز جميع حدود النسك، وإنما تجاوز أحدها ليحرم من الآخر.
ويجاب عليه:
بأنها حدود في حق المار بها، فإذا مر بأحدها فهو حد له فليس له تجاوزه.
الدليل الثالث:
أن هذه المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم، فكل من مر بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض [44] .
القول الثاني:
منع تجاوز الميقات لمن مر به إلا لمن قصد إلى ميقاته فجائز، كالشامي أو المصري يمر بذي الحليفة فلا بأس أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة.
وهو مذهب المالكية [45] ، وبه قال أبو ثور [46] ، والأوزاعي [47] ، وابن المنذر [48] ، وابن تيمية فيما نقل عنه [49] .
ومن أدلة هذا القول:
الدليل الأول:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق وفيه: (وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة ...).
فالحديث عام في أن لأهل الشام الجحفة، سواء كان يمر بميقات آخر أو لا [50] ، ولأنه يجاوز إلى ميقاته فلم يكن مخالفا في مجاوزته ميقات غيره.
ويجاب عليه:
بأن هذا العموم عارضه عموم آخر، وهو قوله: (ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)، فقوله: (هن لهن)، مفسر لقوله مثلا: (وقت لأهل المدينة ذا الحليفة)، وأن المراد بالمدينة ساكنوها ومن سلك طريقهم ومر بميقاتهم [51] .
الدليل الثاني:
أنه يمر بميقاتين يجب عليه الإحرام من أحدهما، وذو الحليفة فرع والجحفة أصل، فله أن يؤخر الإحرام من الفرع إلى الأصل [52] .
ويمكن أن يناقش:
بأن ذا الحليفة فرع باعتبار أنه على غير طريقه، فإذا مر به فهو أصل في حقه وأخذ حكم أهل المدينة حين مر بهم.
القول الثالث:
جواز تجاوز الميقات إلى ميقات آخر، ولو لم يكن الآخر ميقاتا له، وهو مذهب الحنفية [53] ، ورجحه الشيخ عبد الرحمن السعدي [54] .
ومن أدلة هذا القول:
الدليل الأول:
ما روى أبو جعفر الباقر رحمه الله: (من أحب أن يستمتع بثيابه إلى الجحفة فليفعل) [55] .
فرخص لأهل المدينة في ترك ميقاتهم وأن يحرموا من الجحفة؛ لأنها وقت من المواقيت.
ويمكن أن يناقش:
بأنه مرسل، والمرسل من أقسام الضعيف إذا لم يكن له شواهد تعضده.
الدليل الثاني:
حديث عبد الله بن أبي قتادة رضي الله عنهما أن أباه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية (فأحرم أصحابه ولم يحرم) [56] ، وكذلك أصحابه لم يحرموا إلا بعد أن توجهوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
فدل على أنه أحرم من ميقات بعد ذي الحليفة.
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول:
إما أنه لم يجاوز الميقات وإما أنه لم يقصد العمرة فلذلك لم يحرم [57] ، ولم يأت في الخبر أنه أحرم فدل على أن خروجه لمقصد آخر.
الوجه الثاني:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وجهه على طريق البحر مخافة العدو فلذلك لم يكن محرما [58] .
الدليل الثالث:
أن الميقات الذي صار إليه صار ميقاتا له بوصوله إليه [59] .
ويمكن أن يناقش:
بأن الميقات الأول الذي مر به قد صار ميقاتا له بمروره عليه فهو أولى بالإحرام منه فلم تجز مجاوزته.
الدليل الرابع:
أن ابن عمر رضي الله عنهما أهل من الفرع [60] .
والفرع بعد ذي الحليفة فدل على أنه تجاوز الميقات وأحرم في طريقه للجحفة.
ونوقش:
بأنه محمول على أنه مر بميقاته لا يريد إحراما ثم بدا له فأحرم من مكانه، أو جاء إلى الفرع من مكة ثم بدا له فأهل منه[61] .
الدليل الخامس:
أن عائشة رضي الله عنها (اعتمرت في سنة مرتين، مرة من ذي الحليفة ومرة من الجحفة) [62] .
ونوقش:
بأنها خرجت للإحرام من الجحفة من مكة وليس من المدينة، كما ذكر الإمام أحمد [63] ، ويدل عليه: ما روى ابن أبي شيبة [64] أنها تكون بمكة، فإذا أرادت أن تعتمر خرجت إلى الجحفة فأحرمت منها.
الدليل السادس:
أن ترتيب هذه المواقيت وضع لأجل السهولة والتيسر على كل أحد إذا أراد الإحرام، وباب الرخص والتسهيلات يكون العبد مخيرا يختار ما هو أسهل عليه [65] .
الدليل السابع:
أنه حين تجاوز لم ينو الدخول في النسك، وإنما نوى الذهاب إلى الميقات الآخر، وأما مجرد نية الحج أو العمرة فهذه غير معتبرة، لأنه منذ أن خرج من بيته وهو ينوي الحج أو العمرة، ولم يكن بذلك محرما [66] .
ويمكن أن يناقش:
بأن نية الحج من غير نية الدخول في النسك غير معتبرة قبل الميقات، أما إذا مر بالميقات فهي معتبرة، ويدل عليه: (ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة)، والحديث عام في كل مريد للنسك من غير تفريق بين من يقصد ميقاتا له ومن لا يقصد.
المبحث الثاني: الإحرام بعد تجاوز الميقات:
من جاوز الميقات من دون إحرام وهو مريد للنسك وجب عليه الرجوع والإحرام منه في المشهور من المذاهب الأربعة.
لكنه لو أحرم بعد الميقات ثم رجع إلى الميقات محرما فهل يسقط عنه الدم أم لا؟ فيه خلاف على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
أن الدم لا يسقط عنه، وهو المشهور من مذهب المالكية [67] ، والحنابلة [68] ، ووجه عند الشافعية [69] ، وبه قال عبد الله بن المبارك [70] ، وزفر بن الهذيل من الحنفية [71] .
واستدلوا بأدلة منها:
الدليل الأول:
قول ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا جاوز الوقت فلم يحرم حتى دخل مكة رجع إلى الوقت فأحرم، فإن خشي إن رجع إلى الوقت فإنه يحرم ويهريق لذلك دما) [72] .
وقوله رضي الله عنهما: (من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما) [73] .
وقد ترك الإحرام من الميقات وهو نسك فلزمه الدم، وهو قول صحابي ولا مخالف له.
ويمكن أن يناقش الأثر الأول:
بأنه ذكر من أحرم ولم يرجع، فأما من رجع فقد تدارك ما فاته من النقص.
أما الأثر الثاني فلا يسلم أنه ترك نسكا، بل رجع وجبر ما أخل به فلم يكن تاركا له.
الدليل الثاني:
أنه تجاوز الميقات الواجب وهتكه وأحرم بعده فلزمه الدم، ولا يزول هذا برجوعه ولا بتلبيته [74] .
ونوقش:
بأن ما تركه من الإحرام من الميقات يحتاج إلى تدارك، ومن رجع إلى الميقات فقد تدارك ما فاته [75] .
ويجاب عنه:
بأن المواقيت وضعت لإنشاء الإحرام منها، فإذا أنشأ الإحرام بعدها ترك مقصود الميقات فلم ينفعه رجوعه بعد إحرامه.
الدليل الثالث:
القياس على من عاد بعد الطواف، فإنه لو عاد بعد أن طاف وجب الدم بالاتفاق [76] .
ونوقش:
بأن إلزامه بالدم بعد أن طاف لأنه عاد بعد فوات الوقت، فلم يسقط عنه الدم كمن عاد إلى عرفة بعد طلوع الفجر من يوم النحر، وهو إذا عاد قبل الطواف، فقد عاد قبل فوات الوقت، فلذلك سقط عنه الدم كمن عاد إلى عرفة قبل طلوع الفجر .
الدليل الرابع:
دم مجاوزة الميقات كدم الطيب واللباس، ودم الطيب لا يسقط لغسله، ودم اللباس لا يسقط لخلعه، فكذلك دم الميقات لا يسقط بعوده [77] .
ونوقش:
بأن الترفه باللباس موجود وإن خلعه، والاستمتاع بالطيب حاصل وإن غسله، والعود إلى الميقات زيادة مشقة لا ترفه، فلذلك يسقط عنه الدم [78] .
القول الثاني:
إن رجع إلى الميقات ملبيا قبل أن يبتدأ بالطواف سقط الدم، وإن رجع ولم يلب لم يسقط. وهو مذهب الحنفية [79] .
ودليلهم على هذا القول:
الدليل الأول:
أن المتروك هو التلبية في الوقت، لأنه لو لبى في الوقت لم يكن في إحرامه نقص، فإذا فعل المتروك فقد جبر النقص [80].
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول:
أنه لو جاوز الميقات وهو محرم ولم يلب فيه لم يكن عليه شيء، لأنه قد حصل محرما فيه، فكذلك لو عاد محرما [81] .
الوجه الثاني:
تلبيته في الوقت لا تجدد له إحراما، فلا يرتفع بها النقص الداخل بترك التلبية في ابتداء الإحرام [82] .
وأجيب عليه:
بأنه لا يتجدد بها إحرام، إلا أنه يرتفع به النقص، كما لو طاف بغير وضوء ثم أعاده لم يتجدد له طواف بالإعادة، وإنما جبر به النقص [83] .
ويمكن أن يناقش:
بالفارق بين الوضوء والإحرام، فالوضوء شرط لا تنعقد بدونه الصلاة، فلا يعتبر فعله جبرا للنقص بل استئناف، أما الإحرام فواجب وينعقد بعد الميقات فلم يمكن جبر نقصه ويلزمه الدم للإساءة.
الدليل الثاني:
قال الكاساني: روينا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال للذي أحرم بعد الميقات: (ارجع إلى الميقات فلب، وإلا فلا حج لك) [84] .
فأوجب التلبية من الميقات فلزم اعتبارها.
ويناقش:
بأن الأثر لا يعرف له إسناد، فلا يثبت عن ابن عباس، ويخالف ما ثبت من قوله: (إذا جاوز الوقت فلم يحرم حتى دخل مكة رجع إلى الوقت فأحرم، فإن خشي إن رجع إلى الوقت فإنه يحرم ويهريق لذلك دما) [85] ، فلم يشترط فيه التلبية.
القول الثالث:
إن عاد قبل التلبس بنسك سقط عنه الدم وإلا فلا يسقط الدم وعليه الإثم.
وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة [86] ، وهو المذهب عند الشافعية [87] ، ورواية عن أحمد[88] .
ومن أدلة هذا القول:
الدليل الأول:
أن حق الميقات في مجاوزته إياه محرما، لا في إنشاء الإحرام منه، بدليل أنه لو أحرم من دويرة أهله وجاوز الميقات لا شيء عليه [89] .
ونوقش من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
أن الإحرام قبل الميقات دلت الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم على جوازه كما تقدم، بخلاف الإحرام بعده فلم يرد عنهم جوازه.
الوجه الثاني:
هناك فارق بين الإحرام قبل الميقات وبعده، فالذي قبله أتى أمرا جائزا باتفاق، أما من أحرم بعده فقد وقع في محظور وترك الواجب بالاتفاق ثم رجع يحاول جبر ما نقص، فلا يصح قياس من ترك نسكا وبين من فعل فعلا جائزا أو مكروها.
الوجه الثالث:
دم مجاوزة الميقات إنما وجب لأجل الترفه بترك الإحرام من الميقات، وأنه أحل بقطع مسافة كان يلزمه قطعها بالإحرام، بخلاف من أحرم قبل الميقات فإنه زاد مسافة على نفسه [90] .
وأجيب عن الوجه الثالث:
بأنه إذا أحرم دون الميقات ثم عاد إليه محرما، لم يكن بترك الإحرام مترفها، بل زاد نفسه مشقة، وصار كمن أحرم من دويرة أهله، فوجب أن لا يلزمه الدم، لعدم موجبه، ولأن من يجاوز الميقات، ثم عاد إليه محلا فأحرم منه مبتدئا، لم يلزمه عليه الدم وفاقا، فلأن لا يلزم الدم من عاد إليه محرما من باب أولى [91] .
الدليل الثاني:
أنه استدرك الفائت قبل تقرر الجناية بالشروع في أفعال الحج فيسقط الدم لذلك [92] .
ويمكن أن يناقش:
أن الجناية تقررت بإحرامه دون الميقات، فلزمه الدم كما لو شرع في فعل من أفعال النسك.
الدليل الثالث:
أن الدم يتعلق بمجاوزة الميقات كما يتعلق بالدفع قبل غروب الشمس من عرفات، وثبت أنه لو عاد إلى عرفة ليلا سقط عنه الدم، فكذلك يجب إذا عاد إلى الميقات محرما أن يسقط عنه الدم.
ويمكن أن يناقش:
أنه برجوعه إلى عرفة أدرك الواجب في وقته، بخلاف من أحرم دون الميقات فإنه فعل الواجب في غير مكانه.
ويجاب عنه:
بأنه فعل الواجب في غير مكانه لكنه رجع إلى مكانه وهو الميقات فجدد الإحرام منه.
المبحث الثالث: تجاوز الميقات بغير إحرام بنية العود إليه:
نقل السرخسي والكاساني والبابرتي الاتفاق على أن من عاد إلى الميقات قبل الإحرام ثم أحرم منه فإن الدم يسقط عنه [93] ، وذكر ابن قدامة أنه لا يعلم خلافا في ذلك [94] .
واختلفوا في حكم مجاوزة الميقات بغير إحرام بنية العود على قولين:
القول الأول:
أن المجاوزة بنية العود جائزة ولا إثم عليه في ذلك، وهو مذهب الشافعية [95] ، ورجحه ابن عثيمين [96] .
واستدلوا على الجواز بأنه رجع وأحرم من الميقات الذي أمر به فلم يلزمه شيء كما لو لم يتجاوزه [97] .
ويمكن أن يناقش:
بأن الواجب هو الإحرام عند المرور بالميقات وعدم مجاوزته إلا محرما، لأنها حدود نصب الشارع الإحرام منها ومنع المجاوزة.
ويجاب عنه:
بأنها وضعت لابتداء الإحرام منها، وهذا رجع وابتدأ الإحرام فكأن مروره لم يكن.
القول الثاني:
أن من تجاوز بغير إحرام أساء ولو كان بنية العود إليه.
وهو وجه عند الشافعية [98] .
واستدلوا على المنع بعموم أحاديث المواقيت وأنها حدود وضعت تعظيما للبيت ومنع من تجاوزها إلا بإحرام، وقد حصلت الإساءة بمجاوزتها [99] .
ويمكن أن يناقش:
بأن المنع متجه للإحرام بعد المجاوزة، أما من رجع وابتدأ الإحرام منه فقد حصل منه التعظيم للحدود ولم يفرط فيها.
يتبع،،،
رد: بحثٌ قيِّم: (أحكام مجاوزة الميقات).نايف بن محمد اليحيى.
الترجيح:
يظهر لي القول بجواز المجاوزة بنية العود، لأنه غير مريد للنسك الآن، ولأن مقصود الميقات حصول الإحرام منه، وهو سيرجع ويحرم منه.
مسألة: لو تجاوزه بنية العود فهل له أن يرجع إلى ميقات أقرب؟ هذه المسألة مبنية على (حكم مجاوزة الميقات إلى ميقات آخر) وسبق الكلام عليها.
فائدة:
من تجاوز بغير نية العود ولم يستطع العود لعذر كمرض أو خوف فوات الحج أحرم من موضعه ووجب عليه الدم، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافا عند من أوجب الإحرام من الميقات [100] .
المبحث الرابع: تجاوز الميقات لعدم حمل التصريح أو لعدم وجود ملابس الإحرام.
يجب على من مر بالميقات أن يحرم منه ولو كان يعلم أنه سيلزم بلبس المخيط، وكذلك من كان في الطائرة أو السيارة وحاذى الميقات وليس معه إحرام فينوي الدخول في النسك وهو في ثيابه، وينزع ما على رأسه، إلى أن يجد إحراما، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: (من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل للمحرم) [101] ، ولأن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وجنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه، والمثوبة على أداء الواجبات أعظم من المثوبة على ترك المحرمات، والعقوبة على ترك الواجبات أعظم من العقوبة على فعل المحرمات [102] .
المبحث الخامس: من جاوز الميقات ناسيا أو جاهلا.
مذهب الأئمة الأربعة أن من جاوز الميقات جاهلا أو ناسيا عليه الرجوع إليه، فإن لم يرجع لزمه الدم، ولا فرق في لزوم الدم لمن أحرم بعد الميقات بين من كان عامدا عالما أو جاهلا أو ناسيا، لكن يفترقون في الإثم، فلا إثم على الناسي والجاهل [ 103] .
لأنه من باب المأمور به، والجهل والنسيان في المأمور به لا يجعل عذرا [104] ، ولأن المأمورات أمور إيجابية لا بد أن تكون[105] ، ولا تزول مفسدة تركها بالنسيان، إذ يمكن تداركها وإزالة هذه المفسدة بقضائها [106]
المبحث السادس: ميقات منهم دون المواقيت:
ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة [107] إلى أن من كان مسكنه دون المواقيت فإنه يحرم من بيته أو مسجده، وليس له أن يتجاوز القرية التي هو فيها من غير إحرام، قال ابن قدامة: (هذا قول أكثر أهل العلم) [108] .
فإن أحرم خارجها وهو ناو النسك عند خروجه فعليه دم عندهم.
واستدلوا بحديث ابن عباس: (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ)، وقد أنشأ النية في بيته أو قريته فيلزمه الإحرام منها[109] .
وذهب الحنفية إلى أن له الإحرام في جميع الحل إلى حدود الحرم، واستدلوا على ذلك بأن خارج الحرم كله كمكان واحد في حقه والحرم في حقه كالميقات في حق الأفقي [110] .
ونوقش: بأن هذا مخالف لظاهر الحديث، فإنه أوجب الإحرام من حيث أنشأ، وفي الرواية الأخرى: (فمن كان دونهن فمهله من أهله)، فإذا جاوز محلة أهله فقد جاوز ميقاته، فهو كحال الأفقي إذا جاوز الميقات الذي حدد له.
المبحث السابع: ميقات أهل مكة:
اتفق الأئمة الأربعة على أن أهل مكة ومن كان نازلا فيها يهلون منها للحج، وليس لهم أن يذهبوا ليحرموا خارجها، على تفصيل عندهم في الأفضل في مكان الإحرام، وخلاف في لزوم الدم لو أحرم خارج الحرم [111] .
أما العمرة فيجب عليه أن يخرج للحل ليحرم منه، قال المحب الطبري: لا أعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة. وقال ابن قدامة: وإن أراد العمرة فمن الحل، لا نعلم في هذا خلافا.
واستدلوا بأمر النبي عبد الرحمن بن أبي بكر (أن يخرج بعائشة رضي الله عنهما إلى التنعيم لتحرم منه) [112] ، ولم يكن في ذلك من فائدة مع كونها ستتأخر عليهم إلا أن الإحرام للعمرة يجب أن يكون من الحل [113] .
الفصل الثاني: مجاوزة الميقات لغير مريد النسك.
المبحث الأول: المجاوزة لمن يريد دخول مكة.
من جاوز الميقات لا يريد دخول الحرم ولا يقصد النسك فلا يجب عليه الإحرام بغير خلاف كما ذكر ابن قدامة [114] .
واختلف أهل العلم فيمن قصد مكة ولم يرد النسك على قولين:
القول الأول:
لا تجوز مجاوزة الميقات إلا بإحرام.
وهو مذهب الحنفية [115] ، والمالكية [116] ، والحنابلة [117] ، وقول عند الشافعية [118] .
وجميعهم استثنوا من يتكرر دخوله كالحطاب وساعي البريد ما عدا الحنفية.
واستدلوا على الوجوب بأدلة منها:
الدليل الأول:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجاوز الموقت إلا بإحرام) [119] .
ونوقش:
بضعف الحديث، ولو صح فهو محمول على من أراد النسك.
الدليل الثاني:
ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لا يجاوز أحد ذات عرق حتى يحرم) [120] .
ونوقش:
بأنه عارضه مذهب ابن عمر أنه كان لا يراه واجبا [121] ، وليس أحدهما حجة على الآخر.
الدليل الثالث:
حديث: (إن الله حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار) [122] .
فيتبين بهذا الحديث خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بدخول مكة للقتال بغير إحرام، وإنما تظهر الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه [123] .
ونوقش:
بأن المراد به القتال، وليس في جميع طرق هذا الحديث ما يقتضي الإحرام وإنما هو صريح في القتال [124] .
الدليل الرابع:
أن وجوب الإحرام على من يريد الحج والعمرة عند دخول مكة لإظهار شرف تلك البقعة، وفي هذا المعنى من يريد النسك ومن لا يريد النسك سواء [125] .
ونوقش:
بأنا لا نسلم بأن وجوب الإحرام لإظهار شرف البقعة، بل هو للنسك الذي محله تلك البقعة [126] .
القول الثاني:
أن الإحرام لدخول مكة مستحب ولا يجب.
وهو الصحيح من مذهب الشافعية [127] ، ورواية عن أحمد [128] ، وبه قال البخاري [129] ، وابن حزم [130] ، وابن القيم[131] .
واستدلوا بأدلة منها:
الدليل الأول:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (.. فهن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة)، وفي رواية: (ممن أراد الحج أو العمرة).
قوله: (ممن أراد الحج والعمرة) يقتضي تخصيص هذا الحكم بالمريد لأحدهما، وأن من لم يرد ذلك إذا مر بأحد هذه المواقيت لا يلزمه الإحرام، وله تجاوزها غير محرم [132] .
ونوقش:
بأن في عموم المفهوم نظر في الأصول، وعلى تقدير أن يكون له عموم، فإذا دل دليل على وجوب الإحرام لدخول مكة، وكان ظاهر الدلالة لفظا: قدم على هذا المفهوم؛ لأن المقصود بالكلام: حكم الإحرام بالنسبة إلى هذه الأماكن، ولم يقصد به بيان حكم الداخل إلى مكة. والعموم إذا لم يقصد: فدلالته ليست بتلك القوية إذا ظهر من السياق المقصود من اللفظ [133] .
ويجاب عنه:
بأن الحكم جاء بالنسبة إلى هذه الأماكن وإلى الجهة التي يراد قصدها، ولم يدل دليل صحيح على وجوب الإحرام لدخول مكة.
الدليل الثاني:
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل عام الفتح، وعلى رأسه المغفر [134] .
فقد دخلها صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من غير إحرام فدل على عدم وجوبه.
ونوقش:
أن قوله: (إنما أحلت لي ساعة من نهار) دل على أنها لا تحل لأحد بعده، فيتبين بهذا الحديث خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بدخول مكة للقتال بغير إحرام، وإنما تظهر الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه.
وأجيب عنه:
بأن المراد به القتال، وليس في جميع طرق هذا الحديث ما يقتضي أنه استثناء للإحرام [135] .
الدليل الثالث:
ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه (كان يدخل غلمانه الحرم بغير إحرام) [136] . و (أقبل من مكة على المدينة حتى إذا كان بقديد جاءه خبر من المدينة فرجع فدخل مكة بغير إحرام) [137] .
ونوقش:
بأنه فعل صحابي خالفه غيره فليس بحجة.
الدليل الرابع:
أنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج والعمرة عند من أوجبها إنما تجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة [138] .
الدليل الخامس:
أنها تحية لبقعة فلم تجب كتحية المسجد [139] .
ويظهر رجحان القول بعدم وجوب الإحرام، لأن الأصل براءة الذمة، ولقوة أدلتهم في ذلك.
المبحث الثاني: من جاوز الميقات لعمل أو حاجة هل يلزمه الإحرام؟
المسألة على ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن لا يقصد النسك مطلقا، فهذا لا يجب عليه الإحرام إذا لم يرد دخول مكة، ثم إذا عن له أن يعتمر أو يحج بعد ذلك أحرم من موضعه الذي هو فيه، وهو مذهب الحنفية [140] ، والمالكية [141] ، والشافعية [142] ، والحنابلة[143] .
واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما: (فمن حيث أنشأ).
فيؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه يحرم من حيث تجدد له القصد ولا يجب عليه الرجوع [144] .
الحالة الثانية: أن يجاوز لعمل أو حاجة وهو لا يعلم هل يوافق مرجعه ومديره على حجه أم لا؟ فلا يلزمه الإحرام، لأنه لم يتحقق العزم والإرادة عنده، ولأنه قد لا يؤذن له [145] ، وإن كان متردد النية هل يحج أم لا، فهذا التردد إن كان مستوي الطرفين لم يترجح عنده إرادة الحج من عدمه فلا يلزمه الإحرام، لعدم تحقق القصد منه والإرادة للنسك [146] .
الحالة الثالثة: أن يجاوز لعمل أو حاجة وفي نيته النسك بعد الإنتهاء من عمله، كمن يذهب لجدة لعمل أو سياحة وفي نيته الحج بعد ذلك، فهل يلزمه الإحرام من الميقات؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: يجب عليه الإحرام من الميقات ولو كانت مدة عمله طويلة، كشهر ونحوه، أو يرجع للميقات بعد فراغه من عمله فيحرم منه، وهو قول ابن حجر الهيتمي [147] الشافعي، وظاهر قول المرغيناني [148] الحنفي، وظاهر فتاوى الشيخ ابن عثيمين [149] واللجنة الدائمة [150] .
ودليل هذا القول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق: (ولمن أتى عليهن ممن أراد الحج أو العمرة)، فهذا مريد للحج ولو تخلل سفره عمل فيبقى أن الإرادة موجودة [151] .
ويناقش:
بأن سفره وقصده هو للعمل، ونية الحج وإرادته تابعة، وهو لا يريد الآن حجا ولا عمرة وإنما يريد مكان عمله وقضاء شغله.
وأجيب عنه:
بأن الإرادة وإن كانت تابعة فيبقى أنها موجودة، والحديث علق الإحرام بالإرادة وقد وجدت فيجب أن يثبت حكم لازمها وهو الإحرام.
ويجاب عنه:
بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، وهو لم يحركه من بلده إلا قصد العمل، فالنية فيه هي الأصل، وهي المقصودة الغالبة حال المجاوزة فيكون الحكم لها.
القول الثاني: ينظر إلى الباعث له على السفر، فإن كان الباعث له على سفره العمل الذي قصده، أو المؤتمر الذي سيحضره، ونية العمرة تبع فلا يلزمه الإحرام، وإذا أراد النسك أحرم من موضعه.
أما إن كان الباعث على السفر النسك، وأراد أن يقضي شغله على طريقه فيلزمه الإحرام من الميقات، ولو كان سيبقى في شغله أياما، أو يتجاوز غير محرم وإذا أراد الإحرام رجع للميقات وأحرم منه.
وبه قال بعض الحنفية [152] ، والشهاب الرملي والشرواني ( [153] الشافعيين، والشيخ عبد الرزاق عفيفي [154] .
واستدلوا بدليل وتعليلين:
أما الدليل: فهو حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا، وخرجنا معه، قال: فصرف من أصحابه فقال: «خذوا ساحل البحر حتى تلقوني» قال: فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا قبل رسول الله صلى الله عليه ووسلم، أحرموا كلهم، إلا أبا قتادة، فإنه لم يحرم [155] .
وجه الاستدلال: أن أبا قتادة [156] ومن معه رضي الله عنهم لما خرجوا إلى الساحل لم يحرموا من ذي الحليفة مع وجود نية النسك، وإنما أحرموا لما فرغوا من عملهم وتوجهوا قبل النبي عليه الصلاة والسلام، فدل على اعتبار الباعث على السفر، وأنه يحرم من حين انتهاء عمله.
ويجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا كان قبل فرض المواقيت، حكى الأثرم عن الإمام أحمد أنه سئل: في أي سنة وقت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت؟ فقال: عام حج [157] .
الوجه الثاني: أنهم لم يحرموا خوف لقاء العدو الذي أرسلهم النبي عليه الصلاة والسلام لأجله، فرخص في ترك الإحرام للحاجة لذلك فمن العسير أن يقاتلوا بإحرامهم.
ويجاب عن الوجه الأول: بأن ذلك لم يثبت، ولم يدل دليل صريح على أنها لم تفرض إلا في السنة العاشرة، وقد أحرم النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة من المدينة كما هو ظاهر الأحاديث، وعلى فرض أنها لم توقت إلا في السنة العاشرة فإحرام النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من المدينة دليل على أنها ميقات من أراد النسك من قبل.
ويجاب عن الوجه الثاني: أنه إذا جاز عند لقاء العدو للحاجة مع أن اللقاء كان مظنونا فالحاجة موجودة أيضا فيمن سافر لأجل عمل، وفيه من الحرج والمشقة عليه أن يبقى أياما في عمله بإحرامه.
وأما التعليل الذي استدلوا به: فهو أنه عند سفره ومجاوزته الميقات غير مريد للنسك، وإنما يريد ذلك الموضع الذي فيه عمله، فهو الذي نهزه وبعثه لأجل السفر، فكيف نوجب عليه الإحرام ونية النسك ليست حاضرة عنده؟
ويجاب عنه: بأنه وإن كان يقصد موضع عمله عند المجاوزة إلا أن نية النسك موجودة، فهو ناو أداءه بعده، والحديث علق الوجوب بمطلق الإرادة (ممن أراد الحج أو العمرة)، وهو في حقيقته مريد لذلك ولو تخلله شغل آخر.
ونوقش: بأنه (يغتفر في الشيء ضمنا ما لا يغتفر فيه قصدا)، و (يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها)، والإرادة هنا حقيقة لا ظهور لها في قصده، بل قصده وسفره قبل عمله، ونية النسك بعده تابعة لا أصلية.
التعليل الثاني: أن إلزامه بالإحرام وهو غير قاصد للنسك حرج لا تأتي الشريعة بمثله [158] ، وفيه من المشقة عليه والتنفير عن أداء النسك لصعوبة وعسر الجمع بينهما عليه.
ويجاب عنه: بأن الحج والعمرة يوجد في غالبهما المشقة، والأجر على قدر النصب.
ونوقش: بأن وجود المشقة في بعض أعمالها لا يلزم تقصده أو الإلزام به في أحوال أخرى دلت القرائن على التيسير فيها.
وفي ختام هذه المسألة يظهر لي قوة كلا القولين، والأول منهما أحوط، وإن كانت النفس تميل لقوة القول الثاني ورجحانه.