أثر ترك الدليل على الفقه المذهبي
أثر ترك الدليل على الفقه المذهبي :
إن معظم الشروح التي كتبت على المصنفات لا تتوفر على شيئ من الأدلة غالباً , وإن كان بعض
المصنفين ومنهم ابن أبي زيد القيرواني – رحمه الله – قد حاول بناء رسالته على كثير من النصوص
المقتبسة من السنة , كما أن بعض من شرحوا كتابه كأبي الحسن – رحمه الله – كثيراً ما يوردون
الدليل للأقوال الرئيسية , لكن على وفاق المذهب غالباً , وقد يوردون المعارض ويرجحونه .
لقد كان هم الشارحين حل ألفاظ المصنفات , وذكر ما في المسالة من أقوال في المذهب , وبيان الراجح
من المرجوح , والمشهور من الشاذ , ولعلّ بعضهم كان يستعظم أن يذهب للبحث عن دليل لما قاله
العلماء ثقة منه بهم , فكان تفريطاً , أدّى إلى نتيجتين كلاهما شر :
الأولى : ترك المتأخرين للنصوص , والإعراض عنها كلية في الدروس , بحكم الاعتياد , حتى غدوا
ينظرون إلى من يذكر شيئاً منها نظرة ريبة , فانفصل الفقه عن معينه الذي لا حياة له بدونه , وهو
فقه الكتاب والسنة .
والثانية : عزوف بعض الناس عن هذه المصنفات , وعلى هذا معظم الشباب اليوم , مع ما فيها من
علم غزير , هم في حاجة إليه بلا شك , لظنهم أن ما فيها أو معظمه باطل , على أن ما تميزت به
بعض المصنفات من تعقيدات لفظية , واصطلاحات كلامية , واختصار شديد كان من عوامل صرف
الناس عنها .
ومن الجائز , بل المتعين لمن كان أهلاً , بيان خطإ العالم , في رفق وأناة , وقد كان العلماء ينهون
أن يأخذ عنهم من لم يعلم من أين أخذوا , ثم ليعلم أنه لا تلازم بين احترام العالم وإن تعدد لا يسلبه
وصف العلم , وأن مراجعته ليس عليه فيها نقص , ولا على المراجع ضير .
وحسبنا أن الصحابة كانوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المسائل التي تثور في
رؤوسهم بسبب شبهة , فغن عائشة رضي الله عنها لما سمعت حديث : " ليس أحد يحاسب إلاَ هلك "
, قالت يارسول الله جعلني الله فداك :" أليس يقول الله عزوجل : " فأما من اوتي كتابه بيمينه فسوف
يحاسب حساباً يسيراً " , قال صلى الله عليه وسلم " ذاك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب هلك " ( راجع كتاب التفسير من صحيح البخاري : سورة إذا السماء انشقت ) .
وكما قال عمر حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب القتلى الذين ألقوا في قليب بدر :" يارسول
الله , ما تخاطب من قوم قد جيفوا ? فقال :" والذي نفسي بيده ما أنتم باسمع لما أقول منهم , ولكن لا
يجيبون " .
وقد وهمت عائشة – رضي الله عنها – ابن عمر في روايته تلك المخاطبة , اعتماداً على قوله تعالى : "
فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء " راجع تفسير ابن كثير .
نعم إن المراجعة للعالم لا ينبغي أن يكون الدافع إليها التعنّت والتعصّب , والمراء , بل التفقه والتعلم ,
ولذلك قال علي بن أبي طالب لابن الكواء , وقد لا حظ عليه التعنّت في سؤاله :" ويحك سل تفقهاً ولا
تسأل تعنّتاً " , ونفى عمر صبيغاً لما علم منه ذلك .
لكن الذين اكتفوا بشرح المصنفات , وجمع الأقوال المجردات , وإنما قصدوا حفظ الأقوال وجمعها ,
وهو أمر حسن ومطلوب , إذا لم يتجاوز به حده , وهم لم يريدوا بما قاموا به من أعمال أن يطعنوا في
توحيد المتابعة لصاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم حتى تنصب أقوالهم في مقابل سنته التي لا حجة
لمن خالفها .
يقول الشيخ العلامة البشير الإبراهيمي – رحمه الله - وهو يعرض بعض ما أنجزته جمعية العلماء في
الميدان العلمي :" إن أكبر ميزة يمتاز بها هذا الطور الذي نحن فيه من أطوارنا العلمية هي
الاستدلال , فلقد كان العلم إلى ماقبل النهضة مباشرة عبارة عن أقوال يسلمها الشيخ لكتابه ,
ويسلمها التلميذ لشيخه , فإذا استقامت تراكيب الكتاب وأفادت معنى صحيحاً لم يكن في ذهن
الشيخ قوة على التماس الدليل ولم يكن من حق التلميذ أن يطالبه بالدليل , , , " ( آثار البشير
الابراهيمي ) .
وقال رحمه الله :" ولقد كان التسليم أصلاً من أصول الأدب في جميع ما يعمُر مجالسنا العلمية من
الأحاديث , وإن هذا لهو المنفذ الواسع الذي دخلت علينا منه الخرافات , والأحاديث الموضوعة
والمبالغات السخيفة , والآراء المضطربة , وكبائر اللغو وموبقاته , حتى أصبحت كلها علماً ,
وأصبحنا مكرهين على تحمله وأدائه , وإنما انتقلت إلينا هذه النزعة , نزعة التسليم من مشايخ
الطرق , فقد كانت مسيطرة على مجالسهم وخلواتهم , كانوا يأخذون أتباعهم فيما يأخذونهم به من
أصول التربية , بتحقيق معناها من أنفسهم , ليرضوهم بها على الطاعة العمياء لهم , ومن كلماتهم
التي سارت مثلاً ( سلم تسلم ) و ( سلم للرجال في كل حال ) " .
وزيادة على ما تقدم , فإن كتب الفقه المذهبي إنما تعنى بإثبات وتقل ما ينبغي أن تكون به الفتوى
في مذهب ما , وليس بلازم أن كل ما في مذهب من المذاهب هو الصواب .
فمثلاً صاحب المختصر الشيخ خليل - رحمه الله - وغيره ممن نحا نحوه لم يكونوا فيما جمعوا
مؤلفين مستقلين , بل كانوا جامعين لما به الفتوى في كل مذهب , وكان مجال نحركهم – رحمهم
الله - محدوداً , إذ لا يتعدى غالباً الاختيار من بين الأقوال التي في المذهب , حسب شهرتها أو
اختيار بعض العلماء لها انطلاقاً من المدونة الكبرى , وغيرها من الأمهات عند غيره , وما ذكره
شراحها , ثم ما رجحه العلماء المعتبرون عند المؤلف , ولم يجز الشيخ خليل لنفسه أن ينهج نهج
الترجيح , كما فعل في كتابه التوضيح , وإنما اكتفى بذكر ترجيح غيره من المتقدمين .
قال الحطاب – رحمه الله - عند قول خليل " و حيث ذكرت قولين أو أقوالاً , فذلك لعدم اطلاعي في
الفرع على أرجحية منصوصة لغيره من تشهير , أو تصويب , أو اختيار ,ذكر القولين أو الأقوال ,
, واحترز بقوله ( منصوصة ) مما إذا ظهر له ترجيح أحد الأقوال , ولم يرد ذلك منصوصاً , فإنه
يرجح ما ظهر له تورعاً منه رحمه الله , , , بخلاف التوضيح فغنه يشير إلى ما ظهر له بالخاء ".
وقد بين الشيخ خليل في مقدمة كتابه منهجيته , حيث اعتمد على المدونة , وما قاله شراحها ,
وتأويلاتهم لبعض نصوصها و كما اعتمد على اختيارات ةترجيحات أربعة من العلماء , وهم علي بن
محمد الربعي المعروف باللخمي ( ت: 478) , ومحمد بن علي بن يونس ( ت: 451) , ومحمد بن
أحمد أبو الوليد ( ت : 520 ) , ومحمد بن علي المازري ( ت : 536 ) , - رحمهم الله – وقد يذكر
أقوال غيرهم , ثم إنه صاغ كل ذلك ضياغة محررة دقيقة , بدون حشو ولا إطناب , حتى وصلت
في بعض المواضع حد الإلغاز , فاحتاج إلى التبسيط بالشرح .
واهل العلم يفرقون بين موقفهم وهم يقررون كلام غيرهم ومذهبه , وبين تصديهم للمسائل
يعرضونها على الأدلة فيرجحون ويقارنون , أو ينظرون في الأدلة أولاً فيستنبطون , ولهذا تجد
العالم في بعض تآليفه مجرد ناقل جامع , وقد لا يفرق وهو في غمرة النقل , بين الصحيح والسقيم
, وتجد العالم نفسه في تآليف أخرى مجتهداً ناقداً مرجحاً , وهذا ملحوظ في كثير من العلوم , خذ
مثلاً علم الرجال , واعتبر بالحافظ بن حجر في كتابه تهذيب التهذيب فهو فيه على غير ما هو عليه
في كتابه – التقريب - , وانظر إلى ابن عبد البر في الاستذكار , فإن موقفه فيه ليس كموقفه في
كتابه ( الكافي في فقه أهل المدينة ) , وهذه المسألة من لم يحط به خُبرا , أو شك أن لا يعرف للعالم
منزلته , وقد يؤدي به الأمر إلى الإزراء به من حيث لا يدري , وإن كان منهج حكاية الأقوال
المصحوب بالنقد متى كان لا زما هو المقدم .
والله تعالى أعلم .
رد: أثر ترك الدليل على الفقه المذهبي
شكرا لك ... بارك الله فيك ...
تقبل مروري اخي في الله