الإرسال الخفي: هو: أن يروي الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه، بلفظ يوهم السماع.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
((والفَرْقُ بينَ المُدَلَّس والمُرْسَل الخفيِّ دقيقٌ، وهو أَنَّ التَّدليسَ يَختص بمن روى عمَّن عُرِفَ لقاؤه إياه.
فأَمَّا إِن عاصَرَهُ، ولم يُعْرَفْ أَنَّه لقِيَهُ، فَهُو المُرْسَل الخَفِيُّ.
ومَنْ أَدْخَلَ في تعريفِ التَّدليسِ المعاصَرَةَ ولو بغيرِ لُقِيٍّ، لَزِمَهُ دخولُ المرسَل الخفيِّ في تعريفِهِ. والصَّوابُ التَّفرقةُ بينَهُما.
ويَدل على أَنَّ اعتبارَ اللُّقِيّ في التَّدليسِ -دونَ المعاصرةِ وحْدَها- لابُدَّ منهُ إِطباقُ أَهلِ العلمِ بالحديثِ على أَنَّ روايةَ المُخَضْرَمين، كأَبي عُثمانَ النَّهْدِي، وقيسِ بنِ أَبي حازِمٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلَّمَ مِن قَبِيلِ الإِرسالِ، لا مِن قَبيلِ التدليس، ولو كان مجرَّدُ المُعاصرةِ يُكْتَفى بهِ في التَّدليسِ لكانَ هؤلاء مدلسين؛ لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلَّمَ قطعاً، ولكنْ لمْ يُعرَف: هل لَقُوهُ أم لا([1]))).
وقال أيضًا – رحمه الله -:
((والتحقيق فيه التفصيل وهو: أنَّ مَنْ ذُكِرَ بالتدليس أو الإرسال إذا ذَكَرَ بصيغة موهمة عمن لقيه، فهو تدليس، أو عمن أدركه ولم يلقه فهو المرسل الخفي، أو عَمَّن لم يدركه فهو مطلق الإرسال([2]))).
قلت: وإنما سُمِّيَ إرسالًا خفيًّا نظرًا لخفائه وعدم ظهوره؛ فإرسال الراوي عَنْ راوٍ لم يعاصره يكون الانقطاع فيه ظاهرًا وواضحًا للناقد، بخلاف الإرسال عَمَّنْ عاصره، بل قد يكون لقيه، فهذا فيه خفاء، وعدمُ وضوحٍ للانقطاع، ويحتاج إلى عَنَاءٍ كي يُدْركه الناقد، وكي يعلم هل سمع منه أم لا؟
مثال الإرسال الخفي:
قال الحافظ السخاوي – رحمه الله -:
((كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيُوقِظِ امْرَأَتَهُ». رَوَاهُ أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْهُ. وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالْبَزَّارُ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. بَلْ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: إِنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ. وَهُوَ مُقْتَضَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ وَوَكِيعٌ وَالْعَدَنِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِإِثْبَاتِ الْوَاسِطَةِ الَّتِي لَمْ تُسَمَّ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيْنَ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يُوصَفْ بِالتَّدْلِيسِ، فَظَهَرَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى مِنَ الْمُرْسَلِ الْخَفِيِّ([3]))).
[1])) ((نزهة النظر)) (104).
[2])) ((النكت)) (2/ 623).
قلت: هكذا فرق ابن حجر – رحمه الله – والمتأخرون بين التدليس والمرسل الخفي، وهذا التفريق لم يكن معروفًا عند المتقدمين؛ بل كانوا يطلقون على الجميع تدليسًا، وقد اشتد نكير بعض أفاضل المعاصرين على مَنْ فرَّق هذا التفريق؛ لأنه لم يكن موجودًا مِنْ قَبْلُ.
والذي يظهر لي – والله أعلم – أنَّ الخلاف لفظيٌ لأنَّ الجميع متفقون على أنه سواء أُطلق عليه تدليسًا أو إرسالًا خفيًا فهو منقطع؛ وإنما الذي فرَّق بينهما فرَّق دفاعًا عن الراوي؛ فالمدلِّس مذموم؛ لأنه أوهم سماع ما لا يسمع، وأما الذي يرسل إرسالًا خفيًّا فليس مذمومًا؛ لأنه لم يوهم سماع ما لم يسمع؛ بل الجميع يعلم أنه لم يلق فلانًا أو لم يعاصره، فانتفت بذلك تهمة الإيهام؛ ولذلك قال ابن حجر – رحمه الله - ((النكت)) (2/ 615): ((ولهذا لم يذم العلماء من أرسل وذموا من دلس. والله أعلم )).
[3])) ((فتح المغيث)) (4/ 72، 73)، باختصار.