حكم استعانة القاضي بالطبيب في معرفة القوى العقلية للمجرم عند الاستيفاء
من المعروف أن المجنون لا يختلف عن سليم العقل اختلافاً كلياً، إلا أن الأول إنسان عادي اختلت حركاته العقلية لسبب ما اختلالاً تختلف درجته باختلاف نوع مرضه العقلي[1].
فإذا قدمت دعوى للمحكمة يطلب فيها معرفة شخص معين مجرم، فعلى القاضي عرض هذا الشخص على طبيب الأمراض العقلية والنفسية لبيان حالته العقلية والنفسية.
فعلى الطبيب الكاشف القيام بما يلي:
أولاً: الاطلاع على أوراق القضية والكشوف الطبية السابقة ليحصل على تاريخ الشخص لا سيّما عاداته وإدمانه على الخمر والمواد المخدرة أو جنون سابق[2].
ثانياً: يبحث الشخص نفسه فيتأمل حركاته وهيئته وقت سكونه، وهذا أمر هام عند المـُتَمرّن على مشاهدة المجانين ثم يبحث عن التشوهات في الجسم وموضعها وخصوصاً تشوهات الجمجمة[3].
ثالثاً: يبدأ الحديث معه فيسأله عن عمره ويوم الكشف ويختبره في الأيام السابقة واللاحقة ووحدات النقود وعمليات الجمع والطرح والضرب البسيط، ويعرض عليه النقود المختلفة للتمييز ويسأله عن الوقائع السياسية التي عاصرها وولاية الأحكام. . . كما يسأله عن أي وصايا أو تنازلات وأسباب هذه التنازلات وكيف يدبر أملاكه وماهية مركزه المالي إن وجد، ثم يختبر قوة الذاكرة للحوادث القديمة، فيسأله عن إخوته وأعمامه وأحفاده[4].
رابعاً: يبحث عن الأوراق والمخاطبات المحررة من قبل الشخص ومقارنتها بأوراقه ومكاتباته قبل إصابته، فقد يستدل من ذلك على حالة جنونه ونوعه ودرجته، فالمجنون يكتب جُمَلاً غير متجانسة وغير معقولة وحروفها متعرجة سيّما الحروف المستطيلة بسبب ارتعاش يده، وقد ينسى بعض الكلمات أو الحروف وبعضهم يدون في كتاباته إحساساته الجنونية التي يكتمها عن الغير[5].
خامساً: يفحص المريض فحصاً طبياً إكلينيكيا يبين وحدة السمع والبصر وقوة الذاكرة وعلامات الشلل والتقاعد والحلقات المفصلية والقلب وقوة نبضاته والضغط وفحص الرئتين والأحشاء الداخلية وتحليل الدم للوازرمان وكاهن وتعين تركيز البولينا، وقد يحتاج الأمر إلى فحص الإفراز الكلوي وتحليل البول، ومن هذا الفحص الكلي يشخص الجنون والعته[6].
وهذه أهم الإجراءات التي يقوم بها الطبيب عند الكشف على المريض قبل أن يصدر تقريره النهائي بخصوص حالته والنتيجة التي توصل إليها.
وعلى الرغم من أن الخبير يعتمد في تقريره، على الخلفية العلمية والخبرة المكتسبة من طول الممارسة، فإن النتائج التي يتقدم بها الخبير في نهاية مهمته إنما هي في الواقع بيان لوجهة نظره، وعلى القاضي مناقشة وجهة نظر الخبير لكي يقتنع أو لا يقتنع بها، وإلا لو قلنا بغير ذلك، فكأنما نطالب القاضي أن يقبل وجهة نظر الخبير ويلتزم بها، وهذا أمر غير مقبول منطقاً، ولا قانوناً، ولا عدلاً[7].
وبعد هذا إذا ثبت أن المجرم يعاني من خلل في عقله فهل تقام العقوبة عليه في حال جنونه؟
اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أن المجنون ليس أهلاً للعقوبة[8].
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "لا خلاف بين أهل العلم أنه لا قصاص على صبي ولا على مجنون، وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه... "[9].
وقال: "وأما البلوغ والعقل فلا خلاف في اعتبارهما في وجوب الحد"[10].
واستدلوا على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق".
المراجع
[1] ينظر: الطب الشرعي وعلم السموم، للغصن صـ792 – 793.
[2] ينظر: الطب الشرعي ودوره الفني في البحث عن الجريمة، للمنشاوي صـ550.
[3] ينظر: الطب الشرعي وعلم السموم لغصن صـ793.
[4] ينظر: الطب الشرعي ودوره الفني في البحث عن الجريمة للمنشاوي، صـ550.
[5] ينظر: الطب الشرعي وعلم السموم، للغصن صـ793 – 794.
[6] ينظر: الطب الشرعي ودوره الفني في البحث عن الجريمة، للمنشاوي صـ551.
[7] ينظر: الطب الشرعي وجرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال، فودة والدميري صـ534 – 535.
[8] ينظر: الفتاوى الهندية 7/67 وحاشية ابن عابدين 4/283، والفواكه الدواني 2/211 والخرشي على خليل 8/24، وروضة الطالبين 7/290، والمغني 11/481، و 12/358
[9] المغني 11/481.
[10] المرجع السابق 12/357.