تتمة رحلة التادلي الرباطي
الحادي عشر:
كراء المركب قسمان، إحداهما كراء مجرد عن الأكل والشرب، بل كراء الحمل لنفسك وما لابد منه من زادك وفراشك، فإن كانت لك سلعة زائدة عن ضرورياتك فكراؤها وحدها معلوم.
وثانيها كراء الحمل مع الأكل والشرب، إلا أن ما قابل الأكل والشرب بيع الإجارة لأنه استيفاء عين، والإجارة شرطها مع استيفاء العين لقول المختصر في بابها:"بلا استيفاء عين قصد"[1] فيكون في ذلك اجتماع البيع والإجارة، وانظر حكمه عند قول المختصر في بحث الصرف أول باب البيوع: "وبيع وصرف"[2] وقول التحفة في باب البيوع:
وجمع بيع مع شركة ومع[3]
فالأولى لمن اضطر لذلك أن يخص الكراء بعقد، والأكل والشرب بعقد آخر، وإن كان النصارى لعنهم الله لا يبالون بذلك، بل يكرون للرجل الواحد بيتا في القمرا مع الأكل والشرب مسيرة نحو عشرة أيام بنحو مائة ريال عقدا واحدا، فمنها ما ينوب كراء الحمل، ومنها ما ينوب الأكل والشرب، والكل مجهول ممنوع عندنا شرعا.
فالأولى للمسلم أن يتخلى عن طعامهم وشرابهم وإن كان طعام الكتابي حلالا لقوله تعالى: ﴿وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم﴾[4] فيجعل عقد الكراء في القمرة أوفي الكبرط وحده، ثم إن شاء اشترى منهم في البابور دجاجا حيا، أو كبشا حيا يذبحه بيده، ثم يأخذ معه طباخا مسلما يطبخه عند رئيس الكزن، يعقد معه الكراء على ذلك، أو يصحب معه طعامه وشرابه من داره مطبوخا أو غيره.
الثاني عشر:
قد يسافر البابور بالقلع إذا وافقه ريحه مع النار، فيعينه الريح وينقص بقدره من الفحم.وكل ريح في نفسها تقطع في الساعة الواحدة ثمانية عشر ميلا من غير اعتبار قلع ولا غيره، بل هي في نفسها تجري كأنها فرس، فهذا نهايتها بلا ضرر على الإنسان، كريح سيدنا سليمان عليه السلام في قوله تعالى: ﴿فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب﴾[5] كما سخرت لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور"[6] وأشار له بالهمزية بقوله:
ومسير الصبا بنصرك شهراً فكان الصبا لديك رخاء[7]
وما زاد على ثمانية عشر ميلا فهي ريح عذاب كريح الدبور لإهلاك عاد في قوله تعالى: ﴿تدمر كل شيء بأمر ربها﴾[8] ﴿ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم﴾[9].
وأما مركب القلع فنهاية سيره التي فيها الخوف عليه من الغرق اثنا عشر ميلا، وأخرى أكثر من الساعة الواحدة. وكلما نقص عن اثني عشر ميلا فلا خوف عليه إذا كان المركب حاملا للوسق المعتاد، فإن كان فارغا من الوسق وجب ثقله بالأحجار كما كان في القديم، أو بالماء كما هو المستعمل اليوم، يفتح خرقا من المركب للبحر فيأخذ من الماء ما يكفيه بآلة الماكينة المعروفة عندهم، فإذا أراد فراغه فتح بزبوزه للبحر، فينزل فيه ما أراد.
الثالث عشر:
يسمى البابور عند بعض النصارى سفينة الدخان، وبعضهم مركب النار، والكل اسم جنس لا علم. وقد يوضع لبعض البابورات علم، فبعضها يقال له فاس، وبعضها يقال له مكناس من بلاد المغرب، وبعضها عند المرسك[10] يقال له اصطنبول، وبعضها رفاص.
فإن كانت سفينة النار للسلطان لا تحمل إلا العسكر والمدافع سميت فركط او قبق، وقد رأيت منها فركط لها خمس صواري من أعاجيب الدنيا، وإن كانت لغير السلطان فتارة تكون لتاجر واحد إن كان له مال كثير، مثل "مز" اسم يهودي تاجر- بضم الميم وسكون الزاي- وهو ساكن بمدينة لندر عند اللنكليز، قيل أن له ثمانين بابورا، سافرت مرة في بعض بابوراته وهو فيه، فجاءني مع رئيس البابور ليسلمان علي، فأجلستهما... وقدمت لهما ماتيسر من التحف، ففرحا بذلك، ويقال أنه لا ينام من الليل إلا قليلا من همومه ببابوراته خوف أن يأتيه كتاب بتعطيل واحد منها عن الكراء، فقلت: صدق الله العظيم في قوله: ﴿فإن له معيشة ضنكا﴾[11] وتارة تكون لتجار متعددة تسمى كبنيا[12].
وللأصحاب البابورات وكلاء متفرقون على قدر بلاد الدنيا المعتادة لهم في سفرها، ويدفعون السفينة لرئيس بربع ونحوه من الكراء كالمساقاة. ومهما سافر بابور من مرسى بلد إلا وأرسل وكيله بذلك البلد خبر وقت خروجه منه، وعدد وسقه في السلك عقب خروجه للبلاد التي يسافر إليها لوكلائه الذين هم فيها، ليعلم الناس خبره في أي يوم وفي أي ساعة يقدم، فيستعد من أراد أن يسافر فيه أو يحمل فيه سلعة، فإذا قدم للبلد لم يمكث فيه إلا زمانا يسيرا أو يسافر منه كذلك.
الرابع عشر
كان بحر الرباط- وهو بحر طنجة والدارالبيضاء وغيرها- مقطوعا عند طنجة، وكانت طنجة مع الأندلس متصلة ببر واحد، فكان أهل الأندلس يغيرون على أهل المغرب الأقصى وينهبونهم، فشكوا ذلك إلى ذي القرنين رضي الله عنه المذكور في قوله تعالى:﴿ويسئلونك عن ذي القرنين﴾[13] وكان في زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام، فحفر مابين طنجة والأندلس من البر حتى صار بحرا واحدا ممتدا إلى الإسكندرية والشام وأرض الروم وهي اصطنبول، وإلى الرباط والدارالبيضاء والجديدة والصويرة إلى البحر المحيط. ولذا يقال أن الرباط وما فوقه من الدارالبيضاء والصويرة في البحر المحيط، وطنجة وسبتة وما فوقها إلى الإسكندرية في البحر الشامي وهو البحر الرومي، وسمي شاميا لان مراسي الشام عليه، وأولها يافا وآخرها يزمير، وسمي روميا لأن مراسي أرض الروم عليه مثل اصطنبول وكلبلى[14] في الجهة الأخرى كالأندلس، لأن اصطنبول من جزيرة الأندلس، فهي قبالة الرباط وطنجة والبحر بينهما، وذلك كما شكا مجاور[15] يأجوج ومأجوج منهم لذي القرنين، فبنى بينهم[ بالمشرق][16] السد المذكور في قوله تعالى: ﴿أن تجعل بيننا وبينهم سدا﴾[17] الآية.
الخامس عشر:
قسم أهل الجغرافيا -وهم أهل الهيئة- معمور الأرض بأقسام عند المتقدمين مبينة في الكرطات[18] عند البحرية، وحاصله اليوم عام خمس وثلاثمائة وألف تقريبا جزيرتان، إحداهما جزيرة إفريقية، والأخرى جزيرة الأندلس، والبحر الشامي وهو الرومي المسمى عندنا بالبحر الكبير بينهما. فالأولى، وهي جزيرة إفريقية أعظم من الأخرى، إذ بها مراكش وما فوقها إلى أرض السودان، وبها العدوتان الرباط وسلا، ثم فاس ومكناس، وتونس ومصر، والشام، والحرمين الشريفين مكة والمدينة، واليمن، وبغداد، والبصرة، والكوفة، فكل هؤلاء[19] المدن برها متصل، يصلها الإنسان راجلا أوراكبا حيوانا من غير ركوب البحر أصلا.
ومراسيها الكبار التي على البحر في التاريخ المذكور، منها من ماسة من جهة المغرب الأقصى، ثم أكادير، ثم الصويرة، ثم الجديدة، ثم الدارالبيضاء، ثم الرباط، ثم العرائش، ثم طنجة، ثم سبتة، ثم وهران، ثم الجزائر، ثم تونس، ثم الإسكندرية، ثم يافا، ثم بيروت، ثم يزمير. وإذا سافر الإنسان في البحر من الرباط أو طنجة للإسكندرية أو الشام كانت هذه المراسي عن يمينه.
وهذه المراسي بعضها قريب من بعض، وبعضها بعيد، فالقريب كالرباط ثم طنجة، بينهما في البابور البحري نحو عشر ساعات في زمن الاعتدال، فقد سافر بعض[20] أهل الرباط زمن الاعتدال من الرباط لطنجة في البابور البحري فخرج من الرباط مع غروب الشمس ووصل طنجة قبل شروق الشمس مع كون الريح كمبر، وهو الشرقي المعاكس لسير البابور، ولو وافقهم الريح لوصلوا طنجة قبل شروق الشمس بنحو ساعتين.
ومن القريب، مابين الإسكندرية وبور سعيد، ويافا وحيفا من مراسي الشام، وأول مراسيه يافا، فقد أخبر بعضهم أنه خرج من بيروت في الساعة الثالثة من الليل ووصل عند الشروق مدينة حيفا، وسار من حيفا عند الشروق فوصل مدينة يافا عند الساعة التاسعة من النهار.
ومن مراسي مصر الإسكندرية ثم بور سعيد ويجاورها على البحر مدينة يافا هي أول مراسي الشام ثم حيفا ويقال لها اليوم حفا، ثم عكا، ثم سور، ثم صدا، ثم بيروت، ثم يزمير، ودخلت بعضها كوهران، والجزائر، والإسكندرية، ويافا، وبيروت، ويزمير، ثم بيروت. وهذه كلها على اليمين لمن سافر من الرباط، أوطنجة، أوجبل طارق، كالمسافر من الرباط في البر إلى طنجة.
والثانية وهي جزيرة الأندلس بها جل دول النصارى كدولة اللنكليز، والفرانسيس، والاصبنيول، والنمسا، والبروس، ودولة العثماني ومدينة كرسيه هي القسطنطينية[ العظمى المسماة بالأستانة، وتارة بالأصطنبول][21]، وتارة بإسلامبول، ومراسيها الكبار على البحر في التاريخ المذكور: مرسى إصطنبول[22]، إذ بها من المراسي الملاصقة بها نحو ثلاثمائة مرسى، وفيها من البابورات الصغار الجارية كل يوم بها نحو الخمسين بابورا تدور على مراسيها، وركبت مرارا في بعضها، فتذهب إليها وترجع في اليوم الواحد مرارا مثل الفلك بين سلا والرباط بالمغرب. وأما البابورات الكبار الداخلة لها كل يوم من الأفاق، والخارجة من جميع الدول فلا حصر، وأما غير البابورات من السفن فلا حصر لها أيضا.
ثم بالجزيرة المذكورة مراسي دول النصارى، فأعظمها لبلبل[23] بكسر اللام الأولى وفتح الباء الموحدة وسكون اللام آخره، وهي مدينة قريبة من مدينة لندرا في حكومة اللنكليز- لعنهم الله- بل قيل هي أعظم مراسي الدنيا، إذ قد يوجد فيها في بعض الأوقات من البابورات نحو ألفي بابور تنتظر الكراء والوسق.
ثم مراسي مرسيلية من أعظم مراسي الفرانسيس، وصلتها ولم أدخلها، فإذا هي من أحسن المراسي، تصل البابورات إلى البحر فترسي فيه حتى لوشاء من في البر لمسها بيده، وبها من البابورات مرساة عدد كثير دون الداخل والخارج لها كل وقت، وهي مثل مرسى يزمير بالشام للمسلمين، تصل البابورات للبر وترسي به كمرسى الإسكندرية اليوم.
ثم مرسى جبل طارق، ودخلته لأنه من الجزيرة أيضا، وهو في حكومة اللنكليز، وجزيرة الأندلس بعدها ومراسيها تكون على يسار الذاهب من طنجة للإسكندرية.
السادس عشر:
كل بلد في الدنيا لها طول وعرض إلا ما كان على خط الاستواء فلا عرض له، أو على خط أخر[24] المعمور بالمغرب من الجزائر الخالدات فلا طول له، ولا يمكن لرئيس السفينة أن يسافر في لجج البحر بحيث لا يرى إلا السماء والماء، ولا يرى البر أصلا إلا إن كان عارفا بطول كل موضع هو فيه، وعرضه في البحر، إما أن يعرفها من الكارطا وهو تقليد لا يرضى به إلا البليد. أومن الآلة وهو تحقيق.
إلا أن عرض البلد معرفته سهلة مذكورة في كتب التوقيت، يعرف من ارتفاع الشمس بالنهار، والنجوم بالليل كل وقت شاءه. وطول البلد معرفته صعبة تعرف بالخسوفات والكسوفات ورؤية الأهلة، فغالب رؤساء البحر يقلدون فيها حساب الكارطات.
إلا أن أطوال البلاد مرصودة في كتب المسلمين وزيجات التعديل عندهم، إلا أن ابتداءها من آخر العمارة فأقصى المغرب وأما في كتب النصارى فابتداؤها من بلاد ملوكهم، مثل: بلاد الفرانسيس ابتداء طولها من مدينة ملكهم وهي باريز، وبلاد اللنكليز من مدينة ملكهم وهي لندرة. وبمعرفة طول البلد وعرضه يعرف في أي موضع [هو] من الدنيا في البحر، وكم سافر من الأميال من البلد الذي خرج منه، وكم بقي له من الأميال للبلد الذي هو قاصده. ولذا ترى رئيس السفينة يخبرك قبل وصولك للبلد المطلوب بإنه يصله غدا أو بعد غد في الساعة الفلانية.
السابعة عشر:
في خبر السلك ويسمى طركلف[25]، هو من عجائب الدنيا وآياته سبحانه الدالة على باهر قدرته، وقد صارت به الدنيا [اليوم] كمدينة واحدة، يأتي الخبر من البلاد البعيدة بنحو شهرين أو أكثر في نصف ساعة وأقل. وقد أخبرني رؤوف[26] باشا -أصلحه الله- وهو عامل القدس، وقد جاء لبيتي يسلم علي، وقال أن ابن العربي الحاتمي[27] أشار له، وأنه من أشراط الساعة. ثم جاءه كتاب من اصطنبول وهو معي بالقدس فقرأه، ثم قال لي: منذ نصف ساعة كتب هذا الكتاب، وبين القدس واصطنبول نحو شهرين.
وكلما ذكرته هنا إنما هو بقصد الاعتبار والنظر في آيات الله تعالى، قال تعالى: ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا﴾[28] أي فاعتبروا في سيرها حيث سخرها لنا وذللها، كما قال تعالى: ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها﴾[29]، ﴿وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا﴾[30] فينظر في أحوال الناس مؤمنهم وكافرهم قال تعالى: ﴿واختلاف ألسنتكم وألوانكم﴾[31] وفي تغيرات عوالم الدنيا برا وبحرا، والتغيير علامة حدوثها، وفي كيفية سير الفلك في الماء، ولو شاء لأغرقها، قال تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر﴾[32] [والحمد لله رب العالمين].
[1] أنظر المختصر للسيخ خليل ص183
[2] المصدر نفسه ص133
[3] شطرها الثاني صرف وجعل ونكاح امتنع انظر إحكام الأحكام على تحفة الحكام لمحمد بن يوسف الكافي ص 111.
[4] سورة المائدة الآية 5
[5] سورة ص الآية 36
[6] رواه البخاري في كتاب الجمعة أبواب الاستسقاء ج1 ص22 ومسلم كتاب صلاة الاستسقاء باب في ريح الصبا ج3ص27
[7] أنظرالهمزية للبوصيري من كتاب قصة المولد لمحمد الطاهر بن عاشور، ص24
[8]سورة الأحقاف الآية 25
[9] سورة الذاريات الآية 42
[10] في( أ) الموسك
[11] سورة طه الآية 124
[12] كلمة مترجمة تعني الشركة
[13] سورة الكهف الآية 82
[14] غاليبولي مدينة تركية على مضيق الدردنيل
[15] ساقطة من (أ)
[16] زيادة من(أ)
[17] سورة الكهف الاية90
[18] يقصد الخرائط
[19] في (ع): هذه
[20] زيادة من (أ)
[21] ساقطة من (أ)
[22] في (ع) اصبنيول
[23] تحريف لمدينة ليفربول الإنجليزية
[24] زيادة من (أ)
[25] ويقصد بها التلغراف
[26] في (أ): رئيس
[27] هو الشيخ محي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر 638هـ ولد بمرسية من بلاد الأندلس وتوفي في دمشق ودفن في سفح جبل قاسيون ومدفنه يزار .
[28] سورة العنكبوت الآية20
[29] سورة الملك الآية 15
[30] سورة الأنفال الآية ً
[31] سورة الروم الآية 22
[32] سورة الإسراء الآية 70