المقدمة النثرية وفيها سبب القصيدةعندما كنت بالصف الرابع فى الكلية، كنت امرءاً كسولا خجولا شديد الحياء والكسل، وكان لى صاحب على النقيض من ذلك فكان نشيطا اجتماعيا ( كما يقولون ) وفى ذات يوم قال لى : لِمَ لا تذهب إلى اللقاءات الشعرية التى تنظمها الجامعة فقلت له: وأنى لمثلى أن يذهب وكيف أعرف مواعيدَها وكيف أكتب اسمى ضمن الذاهبين وأنا لا أعرف أحدا فى شئون الطلاب. فقال: دع هذا الأمر لى. ثم جاءنى بعد أيام فقال : لقد كتبتُ اسمك فى لقاء الجامعات الشعرى وسنذهب يوم كذا من رمضان إلى جامعة حلوان وستلقى هناك بعض شعرك فاخترْ أجودَهُ عندك فقلت له: أنا أحفظ شعرى كلَّه، وكلُّه جيد. ثم جاء الموعد المضروب بيننا فجاءنى أبو دنيا بعد صلاة العصر بقليل لنذهب فوجدنى ما زلت غير متجهز – كعادتى أيضا – فأخرته حتى اصفرت الشمس وخرج وقت الجواز ودخل وقت الكراهة من صلاة العصر عند الشافعية، فاستشاط غيظا وجعل يضرب كفا على كف ويقول : قد كان يمكننى أن أذهب بمفردى وأنتظرك هناك ولكنى أعلم يقينا أنك لن تستطيع الوصول بمفردك فليتنى ذهبتُ وحدى ربما كنت هناك منذ ساعة . وكلما حثنى على الإسراع زدتُ بُطْئًا لا أدرى لماذا ؟! ثم خرجنا مسرعين لا نكاد نمس الحصى ثم وقفنا ننتظر حافلةً (أتوبيسا) تنقلنا ولكن هيهات فقد كنا فى رمضان واقترب موعد الإفطار، وازدحم الناس، وقَلَّتِ المواصلات، وظل هو يُتَمْتِمُ لَـوْمًا، وينطق عَتْبًا، ثم قال لى: ما رأيك أن نذهب من هنا (من أمام المدينة الجامعية بمدينة نصر) إلى محطة نادى السكة الحديد ثم نركب من هناك للسيدة عائشة . فقلت فى نفسى: وهل لمثلى فى مثل هذا الموقف رأْىٌ إذ كنتُ أنا السبب المباشر لهذا التأخير، فلا غَرْوَ أن وافقته سريعا كأنه قد جاء بما لم تستطعه الأوائل، وأيضا فقد أردت أن يشاركنى فى الغُرْم إن لم نَصِل فى الوقت المحدد فيكون من أحد الأسباب أنه اتخذ قرارا خطئا وأنى لم أَشأْ مخالفتَهُ لأنه كان مُغْضَبًا. فركبنا ( أتوبيسا ) إلى نادى السكة وبالطبع حين ركبنا هذا الأتوبيس لم نكن داخله ولا خارجَه – كما يقول الجهمية - بل كنا خارجَ خارِجِهِ يعنى من شدة الزحام المعروف فى القاهرة من العسير على المرء أن يجد مكانا على باب الأتوبيس ليقف فيه وهيهات فدُونَ ذلك خرطُ القَتاد، بل إِنْ أمسكتَ بمن يُمْسِك بشخص آخر يُمْسِك فى الأتوبيس إنك إذًا لسعيد حيث لم يكن بينك وبين الأتوبيس إلا اثنان أو ثلاثة دع مَنْ وراءك ممَّنْ يُمْسِكُ بك أو مَنْ يُمْسِكُ بِمَنْ يُمسِكُ بِك . المهم وصلنا سريعا نادى السكة ( نحو ثلاثِ أو أربع مراحل (محطات) من المدينة) ثم نزلنا ووقفنا، لا ندرى ما يُفعَلُ بنا فقد خرج وقت الكراهة ودخل وقتُ الحُرْمَة (أى لم يبق بيننا وبين غروب الشمس إلا وقتٌ يسير) وانتهت المواصلات العامة وبقيتْ بعض المواصلات الخاصة ( السرفيس ) ممن يذهب من السائقين نحو بيته فقط، فجعلت أقول ليتنى عارضته فى الذهاب إلى نادى السكة إذن لأفطرنا بالمدينة أما الآن فلا إفطار بالجامعة ولا بالمدينة وليس أمامنا إلا (موائد الرحمن)– إن وُجِدَتْ – أو الانتظار حتى تعود المواصلات بعد المغرب فنرجع إلى المدينة بخُفَّىْ حُنَيْن، وبينا نحن كذلك إذ مر (سرفيس) ينادى: السيدة عائشة ، فوقع فى رُوعِنا أن نجرىَ نحوه، فلم نكد نهم بالحركة حتى كدنا أن نهلك تحت العربة أو تحت أرجل الناس فرجعنا القهقرَى، وسلمنا للواقع أنا لا يمكننا الذهاب أبدا، لكن المفاجأة أن جاء (سرفيس) آخرُ فآخر، فاستطعنا أن نمتطى واحدا منها لنصل إلى منطقة السيدة عائشة فى خمس دقائق تقريبا، ومنها لفرع جامعة حلوان القريب من هذه المنطقة، لا أدرى بالضبط أين يقع؟ والعجيب بعد كل هذا أنا وصلنا قبيل أذان المغرب !! بنحو أربع دقائق أو خمس، كيف حدث هذا ؟ الله أعلم، والحمد لله رب العالمين. وبعد الإفطار اجتمع الناس وجلس كلُّ أعضاءِ جامعةٍ معًا، وكنا أربعَ جامعاتٍ : جامعة القاهرة، وجامعة عين شمس، وجامعة حلوان، وجامعة الأزهر التى أَشْرُفُ بالانتساب إليها، وبدأ الحفل بالترتيب السابق للجامعات فقام أحد طلاب جامعة القاهرة فألقى قصيدة ثم أتبعها بأخرى بعدها فثالثة فرابعة ، ثم فعل مثله من بعده من الجامعات الأخرى ثم جاء دَوْرُ جامعة الأزهر فقام غيرى بإلقاء قصائده، ثم دارت دورة أخرى مثلها، ثم قام الشاعر المشهور جمال بخيت بإلقاء عدة قصائد له، ثم أسمعونا بعض الموسيقى ثم قالوا نأخذ راحة بعدها نُكْمِلُ مع من بقى من الشعراء فخرجت مغضبا إذ كيف أؤخرُ فى المقام كل هذا التأخير ولا عذرَ لهم عندى أنهم لا يعرفوننى ( وفى الحقيقة ليس المُضِيفِين فقط هم من لا يعرفُنى بل المشرفين أيضا من جامعة الأزهر الذين ذهبت معهم كانوا لا يعرفوننى أيضا وبعضهم كان يسأل عنى ليخبرنى أن دورى الثالث فى الجامعة فكيف بالله يعرفنى غيرهم ولكنه العُجْبُ الذى كان وانقضى ولله الحمد والمنة) فذهبت إلى الحديقة فصليت بها العشاء وبعض التراويح ثم أعادوا الحفل ثانية ولكن كان أكثر الحاضرين قد ذهبوا، فجلست مع الجالسين وقعدت مع الخالفين، وعزمت على ألا أكون مع المُلْقين، وزاد الطين بَلَّةً أنه لما عاد الحفل وذهب الناس إلا قليلا وقام أحد أفراد جامعة القاهرة فألقى قصيدة ثم أراد أن يتبعها بأخرى كما فعل من سبقه قال المسئولون عن الحفل: يكفى أن يلقىَ كلُّ واحد من الباقين قصيدة واحدةً؛ لأن الوقت بدأ يتأخر. فأجابهم هو ومن بعده أَنْ نعم حتى جاء دورى فنادَوْنى وكنت ذهبت للجلوس فى الصف الأول لأستمع إلى ما يُلقى فلم أبرح مكانى فقالوا لى: هيا يا دكتور هذا دَوْرُك، فقلت لهم: لا لن أنشد، فالتفت الجمعُ إلىَّ وعجبوا مما أفعله، وجاءنى المشرفون يحثوننى على القيام دون جدوى وسُقِطَ فى أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا بالإتيان بمثلى الذى أوقعهم فى هذا الحرج وجاءنى صديقى أبو دنيا يحثنى على القيام والإنشاد فقلت له لمن أشدو وقد ذهب الناس وكيف أنشد وقد أخرونى فى المقام وهل من سبق أشعر منى فلن أبرح الأرض حتى ينتهى الحفل ونذهب ثُمَّتَ بعدُ لا يعنينى إذن لن أعود لمثلها أبدا. فجعل أبو دنيا يقول لى : كفاك تنشدنى ومن بقى من الناس وقد ذهب الذين لا علم لهم بالشعر ولا رغبة لهم فيه وقد بقى الصفوة ممن يُقَدِّر ما تقول... وظل هكذا والناس يرقبوننى حتى ذهب عنى الحَزَن، فقمتُ لا أدرى ماذا أُنشِدُ وقد ضاع من رأسى كل ما فيه بسبب هذا الموقف ثم أنشدت قصيدة كنت كتبتها ردا على قصيدة لنزار قبانى وكنت أول مرة أسمع شعره ولم أكن أدرى أنه يمكن لأحد الانحطاط إلى هذا الدرك من الكلام مع أنه شاعر ولا شك، وكان مطلع قصيدتى:فألقيتها وأنا لا أدرى ما أقول وكنت كأننى أتشاجر، لا أننى ألقى شعرا وخرجت أشعر أنهم أهانونى وأنى قد أهنتُ الشعر وعزمت على ألا أكتب شعرا ثانية وأن ألتفت إلى دراستى كما كانت تكثر القَالةُ فى هذه الفترة وكنت كتبت قبل ذلك:اقتباس:
ما كان هزلُكَ فى الحسان مُقَدَّما لا والذى جعل الحقيقة علقما
وبعد انتهاء الحفل جاء أبو دنيا يعاتبنى وقال المشرفون: إنك كنت الثالث لأنها أول مرة لك تأتى معنا فوضعنا الأقدم فالأقدم لا بسبب أن الأقدم أفضل وإذا جئت معنا عدة مرات كان ترتيبك على حسب أقدميتك فربما كنت الأول بعد ذلك. فقلت لهم ولأبى دنيا: أبشروا فلن أعود لكتابة الشعر ثانية وهذا قول لا رجعة فيه، فلما رجعنا إلى المدينة انثال علىَّ الشعرُ انثيالا حتى صار إلى ما قال أبو تمام:اقتباس:
الطبُّ ويحك فى المقام الأولِ فالشِّعرُ سوءٌ غيُّهُ لا ينجلى
فقلت لن أكتب شيئا بعد اليوم ونمت واستيقظت والشعر على لسانى فخرجت وذهبت إلى ميدان العباسية حيث الزحام، أسير مع السائرين لعلى أخرج من رِبْقَةِ الشعر وأَسْرِهِ فلم تُجْدِ محاولتى شيئا فذهبت ها هنا وثَمَّتَ ورحت إلى أصدقائى أتلهى معهم ولكن دون جدوى فلم أجد بدا من مغادرة القاهرة فأخذتُ ثيابى وعدت إلى طنطا وجلست بين كتبى أقلبها وأتلهى بها ولكن كان أكثرها شعرا فنمت واستيقظت لصلاة الفجر والشعر على لسانى فلم أجد بدا من كتابة هذه القصيدة أصف فيها ما حدث فى الجامعة.ومعذرة فقد طغى القلم وقد كنت أريد أن أكتب سطرين أو ثلاثة فإذا بى أكتب صفحتين أو ثلاثة ولكن الحديث ذو شجون والنثر ذو فنون والشعر بينهما غير مغبون فلنؤخره قليلا قليلا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتهاقتباس:
تغايَرَ الشعرُ فيه إذ سَهِرْتُ له حتى ظننتُ قوافيه ستقتتلُ