خلاصة منهج الحافظ أبي عبدالله ابن منده في الحديث وعلومه[زبدة بحث الدكتوراه]
إخوتي الفضلاء :
سبق أن طرحت هذه الخلاصة في ملتقى أهل الحديث ،وبدلاً من إطالة النقل ،فإني أحيل الإخوة إلى هذه الخلاصة التي يمكن الاطلاع عليها هنا
خلاصة منهج الحافظ أبي عبدالله ابن منده في الحديث وعلومه[زبدة بحث الدكتوراه]
الإخوة الكرام ..
كنت وعدت في موضوع سابق أن أذكر خلاصة ما توصلت إليه بخصوص منهج الحافظ أبي عبدالله ابن منده في الحديث وعلومه بعد الفراغ من المناقشة .
ورغم مرور أكثر من نصف السنة على المناقشة إلا أن المشاغل حالت دون تنفذ هذا الوعد .
وها أنا ذا أفي بالوعد ، راجياً أن ينفع الله به .
أما الرسالة ، فهي ـ بحمد الله ـ تصف ،وهي عند أحد دور النشر ، أسأل الله تعالى أن ييسر نشرها خلال الثلث الأول من هذا العام الهجري.
وسأقسم منهجه حسب الموضوعات شيئاً فشيئاً ،فإلى المقصود :
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ،حمداً يملأ الأرض والسماوات ،ويملأ ما بينهما ،وملء ما يشاء ربنا من شيء بعد ،أما بعد :
فهذا أوان وضع القلم ؛ ليستريح قليلاً ،بعد تطواف وترحال في هذه الرحلة العلمية الشائقة مع هذا الإمام المبارك أبي عبدالله ابن منده ـ : ـ.
وقبل أن أدخل القلم في غمده ،وأُرْجِعَه إلى محبرته ،فسأَرْقُم ـ في هذه الخاتمة ـ أَهَمَّ ما في هذا البحث من نتائج ،وهي على النحو التالي ـ مراعياً في ترتيبها ورودها في البحث ـ :
1 ـ تبين من خلال ترجمة ابن منده ـ في التمهيد ـ المنزلة الكبيرة ،والمكانة العليّة التي يتبوأها هذا الإمام بين أئمة الإسلام ،وعلمائه الكبار ،من خلال ما يلي :
أ ـ كثرة رحلاته ،وكثرة شيوخه ـ وهما في الغالب متلازمان ـ.
ب ـ كثرة تصانيفه.
ج ـ حفاوة أهل العلم بميراث ابن منده العلمي.
2 ـ جهودُ ابن منده ـ في علم الحديث بالذات ـ جهودٌ تضاف إلى جهود علماء الحنابلة في خدمة هذا العلم الشريف.
بل إني أقول ـ وبعد معايشتي لهذا البحث ،والتقليب في كثير من تراجم الحنابلة وغيرهم ـ لم أجد أحداً من الحنابلة ،بل ولا كثيرٍ من أعلام المدارس العلمية الأخرى ، يُضَارعُ ابنَ منده في عنايته وجهوده في هذا العلم الشريف من عصره إلى عصرنا هذا من حيث السعةُ في الرحلة ،وكثرةُ الشيوخ ،والتصنيفُ في هذا العلم ،وسعةُ الاطلاع فيه ،والله تعالى أعلم.
3 ـ كشفت لي دراسة مصنفاته في علم الرجال ، أنه أولى هذا العلم عنايةً خاصةً ، ظهر ذلك في تصانيفه المستقلة في هذا العلم ،والتي سبق دراسةُ أربعةٍ منها بالتفصيل ،وهي : "معرفة الصحابة" ،و"فتح الباب" ،و"أسامي مشايخ الإمام البخاري" ،و"جزء في الذب عن عكرمة" ،بالإضافة إلى بثِّ علمه في ثنايا كتبه التي لم يصنفها استقلالاً في الرجال.
وقد اتسمت مصنفاته في هذا العلم بسمات عامة ،ألخصها فيما يلي :
أ ـ ترتيب الأسماء فيها حسب الحروف الهجائية ،وهذا في أول الأحرف ،أما بعد ذلك ،فلا يكاد ينضبط عنده.
ب ـ حرصه على الاستيعاب في الكتاب الذي هو بصدده ،جعله يتوسّعُ في شرطِ الكتاب الذي هو بصدده.
ففي "المعرفة" أدخل كلَّ من أدرك زمان النبي ج ـ وإن لم تثبت رؤيته ـ ،حتى عدّ المخضرمين من الصحابة ،وأوسع من هذا كله أنه حاول أن يستوعب أهل القرن الأول.
وفي كتابه "أسامي مشايخ الإمام البخاري" أدخل من ليسوا من شيوخه ،فأدخل من روى عنهم بواسطة.
ت ـ اهتمامه بنسب المترجم ،وتعيينه إن اشتبه بغيره ،والإشارة إلى الخلاف ـ إن وقع في ترجمته أو كنيته خلاف ـ وبيانِ بلده الأصلية ،وبلده التي نزلها آخراً ،وقد يذكر ـ في بعض الأحيان ـ ما يتعلق بولادة الراوي ،ووفاته ،ومكان موته ،وكذلك اهتمامه ببيان صلة القرابة ،أو المصاهرة ،أو غيرها من أنواع العلاقات بين المترجم وبين أحد الأعلام المشاهير.
وكذلك اهتمامه بنسب المترجم العلمي ،بذكر بعض شيوخ المترجم ،وبعض من روى عنه.
ث ـ تنصيصه ـ في بعض الأحيان ـ على مصدره في إثبات المعلومات التي أوردها ،وهي تعود إلى أحد مصدرين : كتبِ من تقدّمه ،وما تلقاه من أفواه شيوخه.
ج ـ قد يذكر ـ على قلة ـ ما يتعلق بجرح الراوي أو تعديله.
ح ـ التزامه بمنهج عام ـ في الجملة ـ في طريقة سياق التراجم في الكتاب الذي يتصدى لتصنيفه ـ كلٌّ حسب موضوعه ـ.
خ ـ تكاد تتفق كتبه على خلوها من مقدمات تبيّن منهجه في الكتاب الذي صنّفه.
د ـ عنايته بمسألة السماع بين الرواة.
ذ ـ ظهور شخصية ابن منده العلمية في مصنفاته عموماً ،وفي مصنفاته في علم الرجال خصوصاً ،فهو إمام محقق ،وليس مجرد ناقل ،وهذا أمثلته كثيرةٌ جداً ـ كما تقدم التمثيل لها في ثنايا هذا البحث ـ.
ر ـ عنايته الظاهرة برجال الشيخين : البخاري ومسلم.
وفيما تقدم ـ في ثنايا البحث ـ من بيان منهجه التفصيلي لكل كتاب ،ما يوضح تفاصيل هذه المفردات ،وما يبين بعض المزايا لكل مصنّف على حده ،وكذلك بعض الملاحظات ،والمؤخذات التي لا ينفك عنها كتاب ،سوى القرآن الكريم.
4 ـ أثبتت هذه الدراسة أثر ابن منده في علم الرجال ،كما أوضحتُ ذلك في الفصل الثاني من الباب الثالث ،ومن أهم مظاهر ذلك :
أولاً : استدراكه على من قبله من المصنفين في هذا العلم ،وهذا بلا شك له أثرٌ في إثراء البحث العلمي ،خاصةً فيمن يقع بين العلماء اختلاف فيه.
ثانياً : نقل الأئمة المصنفين في علم الرجال عن ابن منده ،وذكر أحكامه على الرواة.
ثالثاً : عنايته الخاصة برجال الشيخين : البخاري ومسلم.
رابعاً : اهتمامه الظاهر بالحديث عن طبقات الرواة.
خامساً : عنايته بمسألة السماع بين الرواة ،كما أوضحت ذلك بالأمثلة.
سادساً : حكمُه على جمع من الرواة ـ جرحاً وتعديلاً ـ بما أدّاه إليه اجتهاده.
5 ـ ظهر لي من خلال دراسة أحكامه على الرجال ،ما يلي :
أولاً : أن ابن منده يمكن عده في متوسطي النقاد ،فلا هو بالمتشدد ،ولا هو بالمتساهل ،وغني عن القول أن وصف أيَّ ناقد بالشدة والتساهل أمرٌ أغلبي.
ثانياً : أنه لا يخرج عن عبارات الأئمة ،حيث لم أجد له لفظةً انفرد بها.
ثالثاً : أنه ـ وإن اختار عبارةَ أحد الأئمة ـ فهو اختيارُ ناقد لا ناقل.
رابعاً: أنه اصطلح في باب "الصحابة" على وصف الراوي بالجهالة بوصف خاصٍ ،وهو أن الراوي إذا لم يرو عنه إلا راوٍ واحد فهو مجهول ،ولو كان الراوي عنه إماماً مشهوراً كالشعبي ،وابن المسيب.
خامساً : ومع كون ابن منده ليس له كتاب مستقل في الجرح والتعديل ،إلا أن عنايته بهذا العلم ظهرت في بقية مصنفاته من خلال كلامه في جملة من الرواة ،حيث قاربت التراجم التي وقفت عليها ـ التي عدّل فيها وجرّح ـ قرابة مائة وعشرين ترجمة.
والظن به لو كان له كتاب مصنف في الجرح والتعديل أن يأتي فيه بالفوائد والفرائد التي تناسب مكانته العلمية ،وحفظه واطلاعه.
6 ـ بيّن البحث والتتبع لمصنفاته ،أنه لم يؤلف كتاباً مختصاً بالمصطلح ،إلا أنه شارك بالتصنيف في بعض مسائل المصطلح ،في كتابه المطبوع باسم "شروط الأئمة" ،وصنّف كتاباً شرح فيه هذا الكتاب.
7 ـ أثبتت الدراسة أن لابن منده اختياراتٍ في جملةٍ من أنواع علوم الحديث ،ألخصها في الآتي :
أولاً : في الأنواع المتعلقة بدرجات الأحاديث ،وفيه الأنواع التالية :
أ ـ نوع الصحيح ،وخلاصة البحث فيه ما يلي :
1 ـ شدد على أهمية رواية الأخبار الصحيحة والإعراض عن المنكرات ،ولكن للأسف أنه لم يطبق ذلك في بعض الأحيان ـ كما سيأتي ـ.
2 ـ لم أقف لابن منده على تعريف محدد للحديث الصحيح.
3 ـ أن ابن منده قد استخدم ـ في حكمه على الأحاديث بالصحة ـ أربع وسائل :
الوسيلة الأولى : حكاية الإجماع على صحة الحديث.
الوسيلة الثانية : الحكم على الحديث بالصحة ،حسب ما أدّاه إليه اجتهاده.
الوسيلة الثالثة : تصحيح الحديث ؛ لكونه على رسم الشيخين ،أو أحدهما.
الوسيلة الرابعة : تصحيح الحديث ؛ لكونه على رسم أصحاب السنن الثلاث ـ أبي داود ،والترمذي ،والنسائي ـ ،أو أحدهم.
4 ـ تبين من دراسة أحكامه التطبيقية أن عنده شيئاً من التساهل في باب التصحيح.
ب ـ نوع الحسن ،وخلاصة البحث فيه ما يلي :
1 ـ لم أقف له على تعريف للحديث الحسن على صناعة الحدود.
2 ـ لم أقف إلا على أربعة أحاديث وصف أسانيدها بالحسن ،وحديثين وصفهما بالحسن من غير تقييد لذلك بالأسانيد ،وقد بيّنتُ أنه لا يريد بوصف الحديثين الأخيرين الحسن بالمعنى الاصطلاحي.
3 ـ أن خلاصة رأي ابن منده في شرط أبي داود : أنه يخرج ما فيه ضعف ،وأنه خيرٌ عنده من رأي الرجال.
4 ـ وخلاصة رأيه في سنن النسائي : أنه صحيح ـ وقد بيّنتُ ضعف هذا الاختيار ـ وأن النسائي كان يخرج عن كل من لم يجمع على تركه ،وبيّنت ـ بكلام الحفاظ المتأخرين ـ أن مراده بذلك إجماعاً خاصاً ،وإلا فالنسائي أقوى شرطاً ـ في الرجال ـ من بقية أصحاب السنن.
ج ـ نوع الضعيف ،وخلاصة البحث فيه ما يلي :
1 ـ لم أقف له على تعريف للحديث الضعيف ،كالأنواع السابقة.
2 ـ أسباب الرد عنده للأسانيد تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : الزيادة في الإسناد.
القسم الثاني : الزيادة في المتن.
وأنه سلك في الحكم برد الأحاديث ـ من جهة السند ـ مسلكين :
المسلك الأول : الحكم الفردي على إسنادٍ بعينه بالرد،وهذا : إما أن يرده من غير بيان وجه الخطأ ،وإما أن يبينه.
المسلك الثاني : الحكم الإجمالي ،أو العام ،وهذا له صورتان :
الصورة الأولى : أن يكون مخرج الحديث عن صحابيٍّ واحد ،فيحكم على عدة طرق روي بها الحديث عنه ،بأنها لا تثبت ،وهذا على قسمين : إما أن يصرح ببيان وجه الصواب ـ وهذا قليل عنده ـ أو لا يصرح ببيان وجه الصواب.
الصورة الثانية : أن يكون الحديث مروياً عن عدة من الصحابة ،فيحكم على جميع تلك الطرق بالرد ،من غير بيان للسبب ،إلا الاكتفاء بكونها فيها مقال ،وهذا على قسمين : أن يصرح بذكر أسماء الصحابة الذين روي عنهم حديث الباب ،وإما أن لا يصرح.
أما من جهة نقد المتن : فقد تبين أن نقده للمتون ينقسم إلى قسمين : نقد المتن كاملاً ـ وهذا نادر ـ ،ونقد الزيادة في المتن.
د ـ نوع الموضوع ،وخلاصة البحث فيه أن ابن منده لم يطبق ما قرره من التشديد في النهي عن رواية المنكرات والموضوعات ،بل تساهل وروى أحاديث موضوعة ،ومنكرة ،كما هو ظاهرٌ في بعض كتبه ،ونص عليه جمع من الحفاظ ،وقد بيّنتُ ما قد يكون عذراً.
ثانياً : الأنواع المتعلقة بالحكم على السند من حيث اتصاله وانقطاعه ،وفيه الأنواع التالية :
أ ـ المسند والمتصل ،وخلاصة البحث فيه ما يلي :
1 ـ أن رأي ابن منده في حقيقة المسند قريبٌ جداً من تعريف عصريه ـ بل وتلميذه ـ أبي عبدالله الحاكم ،والذي يعرفه بأنه رواية المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه ،لسن يحتمله ،وكذلك سماع شيخه من شيخه ،إلى أن يصل الإسناد ،إلى صحابي مشهور إلى رسول الله ج".
2 ـ أن ابن منده استعمل مصطلح المتصل بكثرة في كتبه ،وربما قرن معه حكماً آخر يفيد ثبوت الخبر الذي أورده.
3 ـ تبين لي من خلال دراسة الأحاديث التي حكم عليها بالاتصال أن غيره خالفه في حكمه عليها بالاتصال ؛ لعلل أشرت إلى بعضها في موضعها.
ب ـ المرسل ،وخلاصة البحث فيه أن ابن منده استعمل مصطلح "المرسل" ،مريداً به معنيين :
الأول : فيما رواه التابعي عن النبي ج .
والثاني : في مطلق الانقطاع.
ت ـ المُدلّس ، وخلاصة البحث فيه أنني لم أقف له على وصفٍ صريح بالتدليس لأحد من الرواة ،إلا للشيخين : البخاري ومسلم ! وقد بيّنتُ في موضع آخر( ) أنَّ وصْفه لهما بذلك لم يوافقه عليه أحد من الأئمة الذين سبقوه ،ولا الذين لحقوه.
د ـ المعلّق ،وقد استعمله ابن منده بكثرة ،وهو على نوعين : نوعٍ وصله في نفس الكتاب ،أو في كتاب آخر له ،ونوعٍ لم يصله مطلقاً ـ حسب البحث ـ.
وهو يورد هذه المعلقات حيناً في صدر الترجمة ،وحيناً بعد حديث الباب.
ثالثاً : الأنواع المتعلقة بصفة الرواية والمروي ،وفيه الأنواع التالية :
أ ـ أقسام التحمل والأداء ،وخلاصة آرائه فيه ،كما يلي :
1 ـ أن ابن منده يرى أن استعمال عبارة : قال لنا ،وقال فلان في الأداء ، يلحق الراوي عنده بالمدلسين ،ومن أجل هذا حكم على الشيخين ـ البخاري ومسلم ـ بأنهما مُدَلّسين ،وقد بيّنتُ مأخذ ابن منده ،ومناقشة قوله بما يؤول إلى أن وصفه للشيخين بهذا ليس بصحيح.
2 ـ أنه يرى أن سماع المشتغل بالنسخ أثناء مجلس الحديث صحيح ،واختار ـ أيضاً ـ أنه يصح السماع إذا كان الشيخ ،أو السامع يتحدث ،أو كان القارئ خفيف القراءة يُفرط في الإسراع ،أو كان يُهَيْنِم ـ بحيث يخفي بعض الكلام ـ أو كان السامع بعيداً عن القارئ ، وما أشبه ذلك.
وبيّنتُ أنه ينبغي أن يحمل كلام ابن منده في هذه الصورة على من عرَف طرَف الحديث ،لا لكل أحد.
3 ـ أنه يجيز العمل بالإجازة ،وتوسع في ذلك حتى قبل الإجازة العامة ،وللمجهول.
4 ـ جواز التعبير بـ(أنا)( ) في الأداء ـ جمعاً ، وإفراداً ـ لما سمعه من لفظ الشيخ ،ولم يكن يقول : (سمعتُ) ،أو (حدثني ،أو حدثنا) ،وقد تبين أن ابن منده إنما يفعل ذلك في الغالب ،لا دائماً.
ب ـ آداب طالب الحديث ،وقد أثرَ عن ابن منده كلمة فسّر بها كلمةً رويت عن أبي عاصم النبيل ،وهي قوله : "من استخف بالحديث استخف به الحديث" ، وقد فسّرها ابن منده بقوله : "بطلبه للحجة على الخصم ،لا للإيمان به ،والعمل بمضمونه".
ت ـ العلو والنزول ،والمسألة التي أثرت عن ابن منده في هذا النوع ،هي أنه حدّ العلو بمرور ثلاثين سنة ،وقد وصُفَ قوله هذا بأن فيه توسعاً.
ث ـ المشهور ،والغريب ،والعزيز ،وهذه هي الأنواع الوحيدة التي وجدت له فيها تعريفاً يشبه صناعة الحدود ،وحاصل آرائه في هذه الأنواع ما يلي :
1 ـ عرّف هذه الأنواع فقال : "الغريب من الحديث : كحديث الزهري وقتادة وأشباههما من الأئمة ـ ممن يجمع حديثهم ـ إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث ،يسمى : غريباً.
فإذا روى عنهم رجلان ،وثلاثة ـ واشتركوا في حديث ـ يسمى : عزيزاً.
فإذا روى الجماعة عنهم حديثاً ،سمي : مشهوراً".
وقد ظهر لي أن هذا أقدم تعريف للمشهور ـ حسب البحث ـ .
2 ـ أن الغرابة عنده لا ترتفع برواية الضعفاء الحديثَ عن الإمام المشهور الذي يجمعُ حديثه.
3 ـ استظهرتُ أن ابن منده لا يريد ـ في تعريفه للغريب ـ حصر الغريب بما ذكر في تعريفه ،بل مراده أخصّ صور الغرابة.
4 ـ أن تعريف العزيز ـ بالمعنى الذي ذكره ابن منده ـ لا يوجد له مثالٌ واحدٌ في تطبيق التعريف عليه عسرٌ.
ولذا فقد ذكرتُ أن تقسيم الحديث إلى قسمين : غريب ومشهور ـ كما جرى عليه عمل الأئمة الأكابر من واضعي علم هذه الصناعة ـ أصحُّ وأيسر.
ث ـ المتابعات والشواهد ،وخلاصة رأي ابن منده جواز إطلاق الشاهد على المتابعة ،كما يصح إطلاق المتابعة بالمعنى المشهور عند المتأخرين.
ج ـ المدرج ،وقد تبين أنه لم يستعمل هذا الاسم صراحةً ،وإن كان طبقّه عملياً في عباراته.
رابعاً : الأنواع المتعلقة بصفة مَنْ تقبلُ روايته وتردّ ، وفيه الأنواع التالية :
أ ـ معرفة الثقات والضعفاء ،وقد ذكرتُ شيئاً من جهود ابن منده في بيان أحوال الرواة.
ب ـ معرفة ألفاظ الجرح والتعديل ،وقد خلصتْ الدراسة إلى ما يلي :
1 ـ أن ابن منده يستعمل عبارات الأئمة الذين سبقوه في الجرح والتعديل ،أي أنه لم يتفرد بلفظة من الألفاظ لم يسبق إليها ـ حسبما وقفت عليه ـ وذكرتُ أن أكثر الأئمة الذين تأثر باصطلاحاتهم وأحكامهم هو أبو أحمد الحاكم.
2 ـ أن مجموع عبارات التعديل التي استخدمها ـ فيما وقفت عليها ـ : عشر عبارات ،وهي : (أحد الأئمة ، أحد الحفاظ ، الحافظ ، ثقة ،أحد الثقات ، لم يخرج عنه أحد الشيخين ومحله الصدق ، صالح ،من أهل المعرفة ،أحد المذكورين بعلم الحديث ، يجمع حديثه) بينما بلغ مجموع عبارات الجرح التي استخدمها ـ فيما وقفت عليه ـ : ست عشرة عبارة ،وهي : (مجهول ، فيه نظر ،ليس بالقوي عندهم ، ليس بالمتين عندهم ،حديثه ليس بالقائم ، حديثه ليس بالمعروف ، ضعيف ، في حديثه بعض المناكير ،متروك ، ذاهب الحديث ، صاحب مناكير ، صاحب غرائب ،حدث عن فلان بمناكير ، حدث عن فلان بغرائب ،منكر الحديث ، حدث عن فلان بموضوعات).
3 ـ بالنظر في الألفاظ التي أطلقها في باب التعديل ـ وبعد دراستها ـ يمكن تقسيم هذه الألفاظ على ثلاث مراتب ،فصّلتها في موضعها.
بينما مراتب الجرح ـ بالنظر في الألفاظ التي أطلقها ،وبعد دراستها وتطبيقها على الرواة الذين وصفوا بها ـ يمكن تقسيمها إلى خمس مراتب ،ذكرتها مفصّلةً في موضعها.
خامساً : الأنواع المتعلقة بطبقات الرواة ،وبلدانهم ،وأسمائهم ، وكناهم ،وألقابهم ،وصلة القرابة بينهم ،وفيه اثنا عشر نوعاً :
أ ـ معرفة الصحابة ،وخلاصة آرائه في هذا النوع ،فيما يلي :
1 ـ أن ابن منده مع الجمهور في إثبات الصحبة بمجرد الرؤية.
2 ـ يرى أن مجرد إدراك زمن النبي ج كافٍ في إثبات الصحبة للشخص المخضرم ،وقد بيّنتُ ما في قوله هذا من التوسع غير المرضي.
3 ـ اصطلح ابن منده على أن الصحابي إذا لم يرو عنه إلا راوٍ واحد فهو مجهول ،ولو كان الراوي عنه إماماً مشهوراً كالشعبي ،وابن المسيب.
ب ـ معرفة التابعين ،وخلاصة جهوده وآرائه في هذا النوع في أمرين :
1 ـ كان حريصاً في كتابه "المعرفة" ،وكتابه "الفتح" على تمييز الصحابي من التابعي ،وبيان ما وقع لغيره من أوهام في هذا الباب.
2 ـ أنه يرى أن المخضرم صحابي ،وأبى ذلك الجمهور ،فهو ـ عندهم ـ تابعي ،لا تثبت له أحكام الصحابة.
ت ـ معرفة الإخوة والأخوات ،وحاصل ما يقال عن جهوده في هذا النوع أنه كان مهتماً ببيان صلة القرابة بين الراوة في كتبه التي صنفها في الرجال ـ كما تقدم ـ .
ث ـ معرفة المفردات( )،وحاصل جهوده في هذا النوع أنه اعتنى بهذا النوع في كتابه "الفتح" بشكل جلي ،بحيث إنه إذا انتهى من ذكر كنى الباب الواحد ـ كحرف الألف مثلاً ـ فإنه يتبع هذا الباب بذكر الأفراد فيه ،أي : الذين لا يعرف غيرهم بتلك الكنية ـ وهذا في الغالب ـ إذ قد يذكر تحت هذا الباب أكثر من شخص.
ج ـ معرفة الأسامي والكنى ،وحاصل جهوده في هذا النوع ،التأليف المستقل فيه ،المتمثل في كتابه "الفتح" ،مع التنبيه عليه في مواضع متفرقة من كتبه.
ح ـ تمييز المهمل : فقد اعتنى ابن منده بتمييز المهملين ؛لما في ذلك من الفوائد المهمة ،وقد برز جهده بشكل كبير في كتابه "الفتح" ،وأما في بقية كتبه فهو قليل.
خ ـ معرفة ألقاب المحدثين ،وما قيل في تمييز المهمل يقال هنا ـ أيضاً ـ.
د ـ معرفة النسب التي على خلاف ظاهرها ،حيث اعتنى بهذا النوع ،وقد انحصرت جهوده في هذا ـ حسب تتبعي ـ في كتابه فتح الباب.
ذ ـ معرفة المبهمات : وأمثلة هذا في كتبه قليلة ،وقد بيّنت مواضعها في محلها.
ر ـ معرفة طبقات الرواة والعلماء : وأبرز كتبه التي تحدث فيها عن هذا النوع ،هو كتابه المطبوع باسم "شروط الأئمة" ،وله في ذلك إشارات في كتابه "أسامي مشايخ البخاري".
ز ـ معرفة تواريخ الرواة : وله في ذلك مصنّف مستقل ،وهو "تاريخ أصبهان" ،وأما بقية كتبه ـ التي صنفها في الرجال ،وهي : "المعرفة" ،و"فتح الباب" ،و"أسامي مشايخ البخاري" ـ فإن أدنى مطالعة لها تُظهرُ للقارئ مدى عنايته بهذا الأمر.
س ـ معرفة أوطان الرواة وبلدانهم : والمُطالع لمصنفات ابن منده ،يلاحظ لَهَجَه بهذا الأمر ،وعنايتَه به في كتبه التي صنفها في الرجال ،وهو يعبر عن ذلك بعبارات مختلفة ،ذكرتها في موضعها.
سادساً : الأنواع المتعلقة بمتن الحديث ، وفيه الأنواع التالية :
أ ـ معرفة غريب الحديث : مع أهمية هذا النوع ،إلا أن ظهوره في مصنفات ابن منده لم يكن كثيراً ـ رغم وجوده في كثير من المتون التي يرويها ـ وقد بيّنت عُذْرَ ابن منده في ذلك في موضعه.
ب ـ معرفة الشاذ ،وخلاصة آرائه في هذا النوع ،ألخصها فيما يلي :
1 ـ لم أجد في مصنفات ابن منده موضعاً واحداً نصّ فيه على هذه الكلمة ،إلا أنه عبّر عن هذا المصطلح بعبارتين أخريين ،وهما : التفرد ،عدم المتابعة.
2 ـ وقد وجدت ابن منده طبق نوعي الشذوذ ـ شذوذ السند والمتن ـ في بعض كتبه.
ت ـ مختلف الحديث : وهذا النوع لم أره طبقّه إلا في موضع واحد ،وهو حكايته ما وقع من اختلاف في الآثار التي رويت في التكني بكنية النبي ج ،وقد ظهر لي أن اختياره في هذه المسألة هو الأرجح ،وهو أن التكني بأبي القاسم كان ممنوعاً منه في حياة النبي ج ،وهو جائز بعد وفاته.
يتبع ـ إن شاء الله ـ