قواعد ومسائل في حوادث السير
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/07/108.jpg
قواعد ومسائل في حوادث السير
[1]
القاضي محمد تقي العثماني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد، فإن موضوع "حوادث السير" من الموضوعات الفقهية التي تحتاج إلى دراسة متقنة ودقيقة، بالنظر إلى الظروف المعاصرة التي تنوعت فيها صور الحوادث وجزيئاتها، وكثرت واقعاتها للتوسع في استخدام الوسائل الجديدة السريعة السير، وبالرغم من قواعد المرور المنضبطة والمطبقة في أكثر البلاد.
وإن الشريعة الإسلامية التي تضمن العدل والسلامة في أحكامها لم تغفل هذا الجانب المهم، بل وضعت لها أصولا وقواعد نستطيع أن نعرف في ضوئها أحكام هذه الحوادث الجديدة. وإن فقهاءنا المتقدمين قد تحدثوا عن أحكام هذه الحوادث في ضوء القرآن والسنة في باب الديات، وذكروا فيه أصولا وفروعا تدل على مدى توسعهم في تصوير الحوادث وتعمقهم في الفرق بين حادثة وأخرى. والذي يبدو من دراسة المذاهب الفقهية المختلفة أن هذا الباب من الأحكام الفقهية من أقل ما وقع فيها الاختلاف بين الفقهاء. ويشاهد الباحث خلال دراسته لمختلف جزئياته في كتب المذاهب المختلفة أن جميعها قد خرجت من مشكاة واحدة، ونسجت على منوال واحد، والخلاف بينها في ذلك قليل.
ولكن من الطبيعي أن العصر الذي دون فيه الفقهاء هذه المسائل لم يكن يعرف هذه المراكب السريعة من السيارات والقطر والطائرات وهذا النظام الجديد للمرور. ولذا فإنهم إنما تكلموا عن المراكب المعروفة في عهدهم من الدواب والعجلات والسفن ووسائل السير التي كانت تستخدم في البيئة التي يعيشون فيها. ولكن كلامهم المبني على مآخذ الشريعة الأصلية من القرآن والسنة والإجماع والقياس قد أوضح لنا أصولا عامة يمكن تطبيقها على كل ما وجد، أو سيوجد، من الوسائل الجديدة للسير. فمهمة الفقيه المعاصر اليوم هي أن يعرف هذه الأصول العامة ويطبقها على الحياة المعاصرة، مع الاعتناء بالفوارق في نظام السير الجديد التي تميزه عن النظام القديم، ويشرح جزيئاته على ذلك الأساس شرحا واضحا، ليتبين حكم كل جزئية من حوادث السير على حدة من غيرها.
وبما أن الموضوع لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث في كتابات العلماء المعاصرين، فإنه جدير بالاهتمام، وإن بحثي هذا يهدف إلى مساهمة متواضعة في الجهود التي يقوم بها مجمع الفقه الإسلامي لسد هذا الفراغ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني للحق والصواب، ويبعدني عن الزلل والخطل، وهو المستعان وعليه التكلان.
الضرر وضمانه في الشريعة الإسلامية:
الأصل في الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز لأحد أن يفعل فعلا يضر بآخر، فإن أضر بفعله أحدًا، فالأصل أنه ضامن، إلا في حالات سيجيء تفصيلها وإن هذا الأصل ثابت بنصوص القرآن والسنة .
فأما القرآن الكريم، فأوضح ما يستدل به على ذلك قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79].
النفش: هو الرعي بالليل. وروى ابن جرير في تفسيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الحرث المذكور كان كرما قد أنبت عناقيده، فافسدته الغنم. فقضى داود عليه السلام بالغنم لصاحب الكرم، يعني قضى بتمليكه الغنم تعويضا عما أتلفه له، ونقل القرطبي في تفسيره أن سيدنا داود عليه السلام رأى قيمة الغنم تقارب قيمة الغلة التي أفسدت، وذهب سليمان عليه السلام إلى رأي آخر، فقال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها.
وقد أشارت الآية الكريمة إلى أنه قد اختلف نظر كل من داود وسليمان عليهما السلام في وجه الحكم في هذه القضية، دون أن يذكر القرآن الكريم تفصيل حكمهما، وقد صرح باستحسان رأي سليمان عليه السلام.
ويستفاد من التفاسير أن المقصود في رأي كل من داود وسليمان عليهما السلام هو تضمين الذي أضر بالكرم بما يقع به التعادل بين الضرر والعوض، ثم اختلفت أنظارهما في صورة هذا التعادل، ومع قطع النظر عن خصوص صورة التعادل، فإن القصة التي ذكرتها الآية الكريمة تنبئ عن مبدأ عام، وهو أن الذي يحدث ضررا بنفس الآخر أو بماله، فإنه يضمن له ذلك الضرر.
وأما السنة النبوية، على صاحبها السلام، فإن أصرح ما ورد في هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه ابن ماجة[2] وأحمد في مسنده[3] ، وأخرجه مالك في موطئه مرسلا[4] ، وقال البوصيري[5] : إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع لأن إسحاق بن الوليد قال الترمذي وابن عدي: لم يدرك عبادة بن الصامت - ا هـ، ونحوه في مجمع الزوائد[6] ، ولكنّ للحديث طرقا أخر سوى ما تقدم كما في المقاصد الحسنة للسخاوي[7].
وإن هذا الحديث الشريف قد قرر مبدأ هاما من مبادئ الشريعة الإسلامية من نفي الضرر وحرمة ما يسببه. وإن الحديث إذا تأملنا فيه، لا يكتفي بتحريم إضرار الغير فقط، بل يشير إلى وجوب الضمان على من سببه، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين هذا الأصل بصيغة النهي الذي يدل على التحريم فقط، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره بصيغة نفي الجنس، وفيه إشارة لطيفة إلى أنه كما يجب على الإنسان أن يجتنب من إضرار غيره، كذلك يجب عليه، إن صدر منه شيء من ذلك، أن ينفي عن المضرور الضرر الذي أصابه، إما برده إلى الحالة الأصلية إن أمكن، وإما بتعويضه عن الضرر وأداء الضمان إليه، ليكون عوضا عما فاته.
ومما يدل على وجوب تعويض المصاب أحكام الديات المبسوطة في الكتاب والسنة، ومن جملتها فيما يخص موضوعنا: ما أخرجه مالك في الأقضية من موطئه[8] عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها.
وإن هذا الحديث من أصرح الأدلة على أن من سبب ضررا لآخر، فإنه ضامن لما أصابه، وكذلك أخرج الدارقطني في سننه[9] عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فأوطأت بيد أو رجل، فهو ضامن" . وهذا الحديث، وإن كان في إسناده كلام، لضعف سري بين إسماعيل الهمداني الكوفي[10] ولكن مضمونه مما اتفق عليه جمهور الفقهاء قديما وحديثا.
وعلى أساس هذه المبادئ حكم فقهاء الصحابة والتابعين وقضاتهم بالضمان على من أضر الآخر بفعله، وإن أقضيتهم وفتاواهم في هذا الباب كثيرة يمكن مراجعتها في كتب الحديث.
وفي ضوء هذه المبادئ والأقضية والفتاوى، استخلص الفقهاء المتأخرون قواعد فقهية في هذا الباب، وأرى من المناسب أن أذكر هذه القواعد بشيء من شرحها، وكيفية تطبيقها على حوادث المرور.
قواعد فقهية تتعلق بالضرر والضمان
القاعدة الأولى: المرور في طريق العامة مباح بشرط السلامة :
هذه القاعدة ذكرها غير واحد من الفقهاء. وحاصلها أن السير في طريق العامة حق لكل إنسان ولكن استعمال هذا الحق مقيد بأن لا يحدث ضررا بغيره فيما يمكن التحرز عنه. وقال العلامة خالد الأتاسي رحمه الله:
"والأصل أن المرور في طريق المسلمين مباح بشرط السلامة، بمنزلة المشي؛ لأن الحق في الطريق مشترك بين الناس، فهو يتصرف في حقه من وجه، وفي حق غيره من وجه، فالإباحة مقيدة بالسلامة.
وإنما تقيدت بها فيما يمكن التحرز عنه، دون ما لا يمكن التحرز عنه، لأنا لو شرطنا عليه السلام عما لا يمكن التحرز عنه، يتعذر عليه استيفاء حقه، لأنه يمتنع عن المشي والسير مخافة أن يبتلى بما لا يمكن التحرز عنه. والتحرز عن الوطء والإصابة باليد أو الرجل، والكدم، وهو العض بمقدم الأسنان، والخبط وهو الضرب باليد، والصدم، وهو الضرب بنفس الدابة وما أشبه ذلك في وسع الراكب إذا أمعن النظر في ذلك، وأما ما لا يمكن التحرز عنه كما إذا نفحت برجلها، يعني ضربت بحافرها أو ذنبها، فلا تضمن"[11].
القاعد الثانية: المباشر ضامن، وإن لم يكن متعديا :
وحاصل هذه القاعدة أن من باشر الإضرار بالغير، فهو ضامن للضرر الذي أصابه بالمضرور بفعله، وإن لم يكن المباشر متعديا، بمعني أنه لم يكن فعله محظورا في نفسه، وهذا كالنائم الذي انقلب على آخر فقتله، فإنه قد باشر القتل، مع أن نومه لم يكن محظورا في نفسه، ولذلك يضمن دية المقتول.
وإن هذه القاعدة قد ذكرها الفقهاء بعبارات متقاربة، واتفقوا على مضمونها، وهي من أهم القواعد المتبعة في مسئلة ضمان الضرر، ولكن ربما وقع هناك اشتباه في فهمها وخطأ في تطبيقها على بعض الجزئيات، فيجب أن تدرس القاعدة بدقة في مفهومها الصحيح.
1- فالاشتباه الأول إنما وقع من جهة أن بعض الفقهاء ذكروا القاعدة بلفظ " المباشر ضامن، وإن لم يتعمد " وقد وقعت القاعدة بهذه اللفظ في "مجلة الأحكام العدلية" (مادة 92) وشرحها بعض العلماء بأنه لا يشترط لتضمين المباشر أن يكون متعمدا، ولكن بشرط أن يكون متعديا، فقال الشيخ أحمد الزرقاء[12]: "المباشر للفعل… ضامن لما تلف بفعله، إذا كان متعديا فيه" وهذا ظاهر في أنه يشترط لتضمين المباشر أن يكون متعديا، مع أن معظم الفقهاء ذكروا أنه لا يشترط التعدي لتضمين المباشر، فمثلا قال الزيلعي[13]: "وغيره تسبيب، وفيه يشترط التعدي، فصار كحفر البئر في ملكه وفي المباشرة لا يشترط".
وقال ابن غانم البغدادي رحمه الله[14]: "المباشر ضامن، وإن لم يتعمد، ولم يتعد، والمتسبب لا يضمن إلا أن يتعدي".
وقد رفع فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء حفظه الله تعالى هذا التعارض[15] بما حاصله أن التعدي يستعمل في معنيين يجب التمييز بينهما:
فالمعني الأول للتعدي: هو المجاوزة الفعلية إلى حق الغير أو ملكه المعصوم.
والمعني الثاني: هو العمل المحظور في ذاته شرعا، بقطع النظر عن كونه متجاوزا على حدود الغير أو لا. فالتعدي بالمعني الأول يشترط لتضمين المباشر أيضا. أما التعدي بالمعني الثاني، فلا يشترط في تضمين المباشر. فمن أكل طعام غيره في حالة المخمصة بدون إذنه لدفع الهلاك عن نفسه فإن فعله جائز، بل واجب، فلم يصدر منه التعدي بالمعني الثاني، ولكن حصل التعدي من حيث أنه تصرف في ملك الغير، فوجب عليه الضمان، وكذلك لو زلق إنسان أو أغمي عليه، فوقع على مال غيره فأتلفه، فإنه ضامن، وإن لم يأت عملا محظورا.
وإن هذا التمييز الذي ذكره الشيخ مصطفى الزرقاء حفظه الله تعالى جيد وواضح، وبه يرتفع التعارض بين من اشترط التعدي لضمان المباشر ومن لم يشترطه، والحاصل إذن: أن المباشر كلما أحدث ضررا في نفس معصوم، أو في بدنه أو في ماله فإنه ضامن، ولو صدر ذلك منه عند مباشرة فعل مباح في نفسه بدون تعمد.
2- والاشتباه الآخر الذي ربما يقع في فهم هذه القاعدة، هو أن بعض الفقهاء ذكروا قاعدة أخرى ربما تبدو معارضة لقاعدة " المباشر ضامن وإن لم يكن متعديا " وهي قاعدة "الجواز الشرعي ينافي الضمان" وهي مذكورة في المادة 91 من قواعد المجلة.
وظاهر هذه القاعدة معارض لتضمين المباشر إذا أضر أحدا بفعل مباح، ولكن هذه القاعدة إنما تعمل في ممارسة حق من الحقوق المطلقة التي لا تتقيد بوصف السلامة، أما الحقوق التي تتقيد بوصف السلامة، كحق المرور في الطريق، فمجرد كون الفعل جائزا في نفسه لا ينفي الضمان، وقد ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى هذا الفرق في مسألة من قعد في المسجد فحدث به ضرر لآخر، قال رحمه الله:
"و إذا قعد الرجل في مسجد لحديث، أو نام فيه في غير صلاة، أو مر فيه فهو ضامن لما أصاب، كما يضمن في الطريق الأعظم في قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف و محمد: لا ضمان عليه، لأنه لو كان مصليا في هذه البقعة لم يضمن ما يعطب به، فكذلك إذا كان جالسا فيه لغير الصلاة، بمنزلة الجالس في ملكه فيكون ذلك مباحا مطلقا، والمباح المطلق لا يكون سببا لوجوب الضمان على الحر. وأبو حنيفة يقول: المسجد معد للصلاة، والقعود والنوم فيه لغير الصلاة مقيد بشرط السلامة ….. وإن كان ذلك مباحا أو مندوبا إليه"[16].
ما هي المباشرة ؟
وبعد إيضاح هاتين النقطتين، لا يشترط لتضمين المباشر إلا أن تتحقق منه مباشرة الإضرار في محل معصوم، سواء كان بفعل مباح في نفسه، أو بفعل محظور.
ولكن لا بد ههنا من التنبه لنقطة مهمة أخرى، وهي أنه يجب لتطبيق هذه القاعدة أن تتحقق المباشرة بمفهومها الصحيح، فيجب أن نفهم معني المباشرة، وقد عرفها الفقهاء بما يلي[17]:
"حد المباشر أن يحصل التلف بفعله من غير أن يتخلل بين فعله والتلف فعل مختار".
فلا يضمن المرء إذا صح نسبة الضرر أو التلف إلى فعله، دون أن يتخلل بينه وبين التلف فعل مختار. فإن تخلل، لم تتحقق المباشرة فلا يضمن، وإن ذلك يتضح بعدة فروع ذكرها الفقهاء في باب الجنايات :
1- قال العلامة خالد الأتاسي رحمه الله في شرح المجلة[18]:
"إن الدابة إذا وطئت بيدها أو رجلها، وهو راكبها يضمن ولو في ملكه؛ لأن هذا مباشرة يضاف التلف إلى تسييره وعدم ضبطه، إلا إذا جمحت بحيث ليس في إمكانه ردها".
وأصل هذه المسائلة ذكرها البغدادي في مجمع الضمانات ، قال[19]:
"سئل الإمام أبو الفضل الكرماني: سكران جمح فرسه فاصطدم إنسانا فمات، أجاب: إن كان لا يقدر على منعه فليس بمسير له، فلا يضاف سيره إليه، فلا يضمن.
قال: وكذا غير السكران إذا لم يقدر على المنع".
وذكر ابن مفلح من الحنابلة[20]:
"إن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن".
وذكره المرداوي[21] فقال: "جزم به في الترغيب، والوجيز، والحاوي الصغير". وقال الكاساني من الحنفية[22]:
"ولو نفرت الدابة من الرجل أو انفلتت منه، فما أصابت في فورها ذلك فلا ضمان عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "العجماء جبار" ، أي البهيمة جرحها جبار، لأنه لا صنع له في نفارها أو انفلاتها، ولا يمكنه الاحتراز عن فعلها، فالمتولد منه لا يكون مضمونا".
وفي مذهب الشافعية في هذه المسألة قولان، ذكرهما النووي رحمه الله تعالى، قال[23]:
"ولو غلبتهما الدابتان، فجرى الاصطدام والراكبان مغلوبان، فالمذهب أن المغلوب كغير المغلوب كما سبق. وفي قول أنكره جماعة أن هلاكهما وهلاك الدابتين هدر، إذ لا صنع لهما ولا اختيار، فصار كالهلاك بآفة سماوية، ويجري الخلاف فيما لو غلبت الدابة راكبها أو سائقها".
ونرى في هذه الجزئية أن راكب الدابة لا يضمن بما وطئته دابته، لأنها بعد الجموح والانفلات صارت مستقلة في سيرها، فلا يمكن أن تنسب المباشرة إلى الراكب.
2- وكذلك ذكر الفقهاء أنه إذا نخس الدابة رجل غير الراكب، فالضمان على الناخس، دون الراكب، قال صاحب الهداية[24]:
ومن سار على دابة في الطريق، فضربها رجل أو نخسها،فنفحت رجلا، أو ضربته بيدها، أو نفرت فصدمته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب وهو المروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ولان الراكب والمركب مدفوعان بدفع الناخس، فأضيف فعل الدابة إليه، كأنه فعله بيده، ولأن الناخس متعد في تسبيبه، والراكب في فعله غير متعد، فيترجح جانبه في التغريم للتعدي حتى لو كان واقفا دابته على الطريق يكون الضمان على الراكب والناخس نصفين لأنه متعد في الإيقاف أيضا (وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا) لأنه بمنزلة الجاني على نفسه … (ولو وثبت بنخسة على رجل أو وطئته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب) لما بيناه.
وقد ورد فيه أثر لابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه[25]، قال: "أقبل رجل بجارية من القادسية ، فمر على رجل واقف على دابة، فنخس الرجل الدابة، فرفعت رجلها، فلم تخطئ عين الجارية، فرفع إلى سلمان بن ربيعة الباهلي، فضمن الراكب، فبلغ ذلك ابن مسعود، فقال: على الرجل، إنما يضمن الناخس" وأخرجه أيضا عبد الرزاق في مصنفه[26] ، وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن شريح والشعبي، وراجع نصب الراية للزيلعي[27] والمسألة هي هي عند الشافعية أيضا[28] .
ففي هذه المسألة أيضا لم يضمن الراكب؛ لأن ما فعلته دابته لا ينسب إليه فلم تتحقق منه مباشرة الإتلاف.
3- وكذلك قال البغدادي رحمه الله في مجمع الضمانات[29]:
"جاء راعي أحمر ليعبرها (أي النهر) وجاء من جانب آخر صبي غير بالغ مع العجلة، فقال له الراعي: أمسك الثور مع العجلة حتى تمر الأحمرة، فلم يمكنه إمساكه، فمضي ووقع الحمار في النهر لم يضمن، وكذا الراعي إذا لم يمكنه إمساكه الحمار، وإلا يضمن".
وهنا أيضا لم يضمن الصبي ما حصل من عجلته من وقوع الحمار في النهر لأنه بالرغم من كونه راكبا، لا تصح نسبة رمي الحمار إليه، فلم تتحقق المباشرة".
4- وكذلك ذكر الفقهاء أنه إذا سقطت الدابة المركوبة ميتة فتلف بسقوطها شخص أو شيء، فلا ضمان على الراكب، قال الشربيني الخطيب رحمه الله[30]:
"لو سقطت الدابة ميتة، فتلف بها شيء لم يضمنه، وكذا لو سقط هو ميتا على شيء وأتلفه، لا ضمان عليه. قال الزركشي: وينبغي أن يلحق بسقوطها ميتة سقوطها بمرض أو عارض شديد ونحوه".
وهنا لم يضمن الراكب لأن موت الدابة أو موت نفسه ليس فيه صنع لفعله، ولا اختيار، فلم تتحقق منه مباشرة الإتلاف. وكذلك إذا حصل السقوط بآفة سماوية كالمرض أو الريح الشديدة كما قال الزركشى.
5- وكذلك ذكر الفقهاء مسألة اصطدام السفينتين، وأنه كاصطدام الراكبين في أن على كل واحد منهما ضمان الآخر، لكن قال الشربيني الخطيب رحمه الله[31]:
"محل هذا التفصيل إذا كان الاصطدام بفعلهما، أو لم يكن وقصرا في الضبط، أو سيرا في ريح شديد، فإن حصل الاصطدام لغلبة الريح فلا ضمان على الأظهر ، بخلاف غلبة الدابة (أي على أحد قولي الشافعية) فإن الضبط ثم ممكن باللجام ونحوه … وإن تعمد أحدهما أو فرط دون الآخر، فلكل حكمه".
والمسالة المذكورة أيضا في كتاب الأم[32] ، وروضة الطالبين[33] ، وتحفة المحتاج[34] ، وجاء في الإنصاف للمرداوي[35] :
"إن اصطدمت سفينتان فغرقتا، ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر وما فيها ، هكذا أطلق كثير من الأصحاب قال المصنف وغيره : محله إذا فرط. قال الحارثي: إن فرط ضمن كل واحد سفينة الآخر وما فيها، وإن لم يفرط فلا ضمان على واحد منهما … وإن كانت إحداهما منحدِرة، فعلى صاحبها ضمان المصعَدة إلا أن يكون غلبه ريح، فلم يقدر على ضبطها… وقال في المغني: إن فرط المصعد، فإن أمكنه العدول بسفينته، والمنحدر غير قادر ولا مفرط، فالضمان على المصعد؛ لأنه المفرط".
وراجع أيضا الشرح الكبير لابن قدامة مع المغني[36].
ومحصل المسألة عند المالكية ما ذكره الحطاب رحمه الله تعالى، قال[37] :
"قال أبو الحسن: مسألة السفينة والفرس على ثلاثة أوجه: إن علم أن ذلك من الريح في السفينة، وفي الفرس من غير راكبه، فهذا لا ضمان عليهم، أو يعلم أن ذلك من سبب النواتية في السفينة، ومن سبب الراكب في الفرس، فلا إشكال أنهم ضامنون، وإن أشكل الأمر حمل في السفينة على أن ذلك من الريح، وفي الفرس أنه من سبب راكبه".
فاتفق هؤلاء الفقهاء على أن ملاح السفينة لا يضمن ما تلف بسفينته إذا لم يفرط في ضبطها؛ لأن السفينة الشراعية لا تتمحض مقدورة بيد الملاح، بل للرياح دور كبير في تسييرها، فلو غلبتها الرياح، فإن الإتلاف لا ينسب إلى الملاح، فلا تتحقق منه المباشرة .
وإن هذه النصوص الفقهية تدل على مدى تعمق الفقهاء في التثبت من تحقق المباشرة، وإن هذه النقطة مهمة جدا، وسوف تفيد في عدة مسائل من حوادث السيارات وغيرها ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
يتبع