اللمعة في استحباب التحلق والتدريس يوم الجمعة
بسم الله وبعد :
فهذا العنوان هو عبارة عن كتاب كبير أعددته وأكملته قبل عدة سنوات جمعت فيه المئات والمئات من الآلف والآلاف من أئمة السلف ممن كانوا يتحلقون يوم الجمعة قبل الصلاة، ومن المعلوم أن حلق الجمعة يحضرها كل المسلمين بلا استثناء لمكان الجمعة خاصة عند الأولين، لم ينكر هذا التحلق أحد منهم فكان أمرا مشروعا بإجماع السلف ، والعجب كل العجب هو تسارع جماعة من المتأخرين لتبديع هذا الفعل المشتهر جدا بين الأولين، وقد أجبت في الكتاب على كل شبههم ومواردهم الجديدة ،
ونظرا لطول الكتاب جدا فقد رأيت أن أكتب المرة بعد المرة بعض الآثار عن السلف فأقول :
الدليل الثاني عشر: حديث السائب رضي الله عنه : قال أبو بكر في المصنف (1/468) باب الحديث يوم الجمعة قبل الصلاة : ثنا ابن المبارك عن أسامة بن زيد عن يوسف بن السائب عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال:" كنا نتحلق يوم الجمعة قبل الصلاة ",
وهذا حديث حسن له حكم الرفع ، ورجال إسناده كلهم ثقات، فابن المبارك حجة إمام, وقد تابعه عبد الله بن وهب كلاهما عن أسامة بن زيد وهو الليثي, وهذا قال عنه ابن معين: ثقة حجة, وقال مرة: ليس به بأس, وقال الفسوي في التاريخ:" هو عندنا وعند أهل المدينة ثقة مأمون"، وقال المزي:" استشهد به البخاري, وروى له الباقون", وقال ابن عدي في الكامل: ليس به بأس, وقال أيضا:" روى عنه عبد الله بن وهب نسخة صالحة "، وهذا الحديث منها، وهو صحيح على شرط مسلم .
وقد أخطأ في حقه ابن حجر فقال عنه :" صدوق يهم"، لأن يحيى بن سعيد القطان ترك التحديث عنه، لكن هذا لا يضره لكون يحيى من المتشددين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع (24\350):" وشعبة ويحي بن سعيد وابن مهدي ومالك ونحوهم قد كانوا يتركون الحديث عن أناس لنوع شبهة بلغتهم لا توجب رد أخبارهم, فهم إذا رووا عن شخص كانت روايتهم تعديلا له, وأما ترك الرواية فقد يكون لشبهة لا توجب الجرح وهذا معروف في غير واحد قد خرج له في الصحيح "، وأسامة هذا ممن خرج له في الصحيح .
وأما يوسف بن السائب ففيه احتمالان :
أحدهما : أن لا يكون في المصنف تصحيف ولا وهم , فيكون يوسف بن السائب قد نسب إلى جده لأمه, واسمه يوسف بن عبد الله بن يزيد, وهذا قال عنه ابن حبان في الثقات (5/551)" يروي عن أبيه وله صحبة, روى عنه ابنه محمد بن يوسف"، وعلى هذا فيكون أسامة بن زيد قد روى الحديث من الوجهين: عن محمد بن يوسف كما سيأتي، وعن يوسف بن السائب كلاهما عن السائب بن يزيد به، وفي هذا قوة للحديث .
إلا أن هذا الاحتمال الثاني هو الأقوى : وهو أن الصواب فيه هو محمد بن يوسف بن السائب فسقطت كلمة محمد من المطبوع، أو يكون قد حدث خطأ من بعض الرواة ، وهذا أقوى الاحتمالات لأمور:
أولاها: وهو أن أسامة بن زيد معروف بالرواية عن محمد بن يوسف، ومحمد معروف بالرواية عن جده السائب بن يزيد،
والأمر الثاني: ما قاله البخاري في التاريخ الكبير (1/264):" محمد بن يوسف بن عبد الله بن يزيد, وأمه بنت السائب...وقال لي ابن أبي شيبة نا حفص عن محمد بن يوسف بن السائب عن السائب ", فدل هذا على أن الراوي هنا هو محمد بن يوسف بن السائب، فإما سقطت كلمة محمد من المطبوع، أو من حفظ أحدهم والله أعلم .
ثم وجدت ذلك الأخير صريحا بحمد الله تعالى، ففي كتاب العلل لابن أبي حاتم (ر610) قال: سمعت أبا زرعة وحدثنا عن ابن أبي شيبة عن ابن المبارك عن أسامة بن زيد عن يوسف بن السائب عن السائب قال:" كنا نتحلق يوم الجمعة قبل الجمعة" سمعت أبا زرعة يقول: هكذا قال، وإنما هو: أسامة بن زيد عن محمد بن يوسف عن السائب "، فزال الاحتمال وصح هذا الأثر ، بل قد ورد صريحا أيضا أنه محمد نفسه كما قال أبو زرعة الحافظ .
والأمر الثالث: أنه قد جاء ذكر محمد بن يوسف على الصواب عند أبي نعيم في طبقات الأصبهانيين (4/190) من ترجمة عبد الله بن أبي عمرو, وقال عنه: شيخ ثقة، ثم قال: ثنا عبد الله بن أبي عمرو نا هارون بن طريف المكي نا ابن وهب نا أسامة بن زيد أن محمد بن يوسف حدثه أنه سمع السائب بن يزيد رضي الله عنه يقول:" كنا نتحلق يوم الجمعة قبل النداء الأول، فإذا نودي للصلاة قمنا "، فصح هذا الخبر وبالله التوفيق، وله شواهد أخرى من حديث السائب ستأتي .
وهذا الحديث يفيد استمرارية الصحابة رضي الله عنهم على هذا التحلق، وذلك مأخوذ من لفظة: "كنا", التي تفيد الاستمرارية منذ عصر النبي عليه السلام إلى عصر أصحابه ، يؤيد ذلك رواية " قبل النداء الأول"، وقد وجد النداءان بعد عصر النبوة، ولما سيأتي من شواهد أخرى ، في تحلق عامة الصحابة الكرام، يوم الجمعة قبل خروج الإمام، في عدد كبير، وجم غفير ، من غير إنكار من كبير ولا صغير .
فإذا قد تبينت لك هذه البراهين، فإن فيما سنذكر منها أو ذكرناه ، لدلالات كافيات على مشروعية التدريس أيام الجمعات قبل الصلوات، ومن لم يكتف بذا، فسنُقفي له بذاك الجمع الهائل من الدلائل لعله عن تبديعه ينكف، وللسنة ينصرف، ولآثار الأصحاب يغترف, لكن الله هو الهادي وحده إلى الصواب .
الدليل الثالث عشر: .................