ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: التوازن
ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: التوازن
عبدالستار المرسومي
لقد سَمَت الشريعةُ الإسلامية بالعلاقات الإنسانية إلى أعلى درجات السُّمُو؛ حين أطلقت عليها اسمًا تجاوز كلَّ الاعتبارات العِرقية، والنزَعات الفئوية، والنعرات الطائفيَّة، فوحَّدتهم تحتَ عنوان جديد، تجتمع فيه كلُّ الروابط الإنسانيَّة الجميلة، والشمائل المحمودة؛ هو: (الأُخوَّة)، فكانت الهُوية الجديدة الواضحة والمشتركة بينهم، والأخوَّة هي الحقيقةُ التي تتلاشى عندها كلُّ الأوهام الشيطانية، والهواجس النفسيَّة التي تحاول أن تضعَ حواجزَ أو عوائقَ في طريق هذه العَلاقة السامية؛ لتجعل منها عَلاقةَ عبد بعبد، وليس شيئًا غير ذلك، فضلاً عن أن التسمية جاءت قرآنيَّة؛ لتعطيَها مزيدًا من التأكيد والأهميَّة، والأحقيَّة والقيمة والمكانة الرفيعة، فيقول تعالى: ï´؟ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ï´¾ [الحجرات: 10].
وبَدَت مظاهر هذه (الأخوَّة) الرائعة على طبيعتِها الحقيقية المتوازنة، حين مارسَها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم شخصيًّا مع أصحابه، فبالرغم من كونه نبيًّا ورسولاً؛ بل سيد الأنبياء والمرسلين، وحبيب الله جل جلاله، وسيد ولد آدم، وقائدًا للأمة والرجل الأول فيها، ومؤيدًا من جبريل عليه السلام، رغم كلِّ ذلك وأكثر - فقد كان حين يكونُ معهم يقول صلى الله عليه وسلم لهم: ((أنتم أصحابي))[1]، ونعلم أن للصاحب على الصاحب حقوقًا، كما كان يخاطب أحدهم أحيانًا بـ (أخي)، وللأخ على أخيه حقوق، فعن ابن عمر رضي الله عنه، أن عمر رضي الله عنه استأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له، فقال صلى الله عليه وسلم: ((يا أخي، أَشرِكْنا في صالح دعائك ولا تنسَنا))، فقال: عمر رضي الله عنه: "ما أحبُّ أن لي بها ما طلعَت عليه الشمس"[2].
وكان رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم بالفعل خيرَ صديق، وخيرَ صاحب، وخير أخ لهم؛ فقد كان يؤدي كاملَ الحقوق المترتِّبة على هذه العَلاقات على أتمِّ الأوجه وزيادة.
ثم ارتقى الإسلامُ بالأخُوَّة كمثالٍ عن أجمل العلاقات الإنسانية، التي تربَّعت بجدارة في قمة مراتب الحب العاطفي، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لو كنتُ متَّخذًا من أمتي خليلاً، لاتخذْتُ أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي))[3]، فالخلة مَرتَبةٌ خاصة منفردة من الحب، ولا ينبغي أن يقسمها فرد بين اثنين، وقد خصَّها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لربِّه ومولاه الله جل جلاله، فلم يَكن لأبي بكر أن يكون خليلَه، ولكنه أخوه وصاحبه، يقول ابن المعتز:
ولا بدَّ لأيِّ عَلاقة إنسانيَّة متوازنة أن تتوفَّر فيها مجموعةٌ من القيم، هذه القِيمُ تُمثِّل الأساس الذي تقوم عليه هذه العَلاقة؛ لأن العَلاقات الإنسانيَّة التي لا تُبنَى على قيم (أسس) ستكون وكأنها عائمةٌ في الفضاء، وستتلاعب بها الرياح حيث شاءت، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
ولا خيرَ في ودِّ امرئ متلوِّنٍ ♦♦♦ إذا الريحُ مالَت مالَ حيث تميلُ
وأما القِيمُ التي ينبغي أن تتوفَّر في العَلاقة المتوازنة، فهي:
• الهدف المشترك: وحين يكون الهدف محدَّدًا ومشتركًا ينبغي أن يسعى الجميع لأن يصلوا إليه، وربما اختلفَ التوقيتُ الزمنيُّ للوصول للأهداف المشتركة، فقد يَصِلُ البعضُ قبلَ آخرين، أو ربما بعدَهم؛ لضرورة مرحلة، أو لأسباب خارجة عن الإرادة، ولكن العبرةَ في أن يَصِلَ الجميعُ، وهذا هو السرُّ في الرفض القاطع الذي اختاره عثمانُ بنُ عفان رضي الله عنه عندما طلب منه وهو يفاوض قريشًا كممثل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية - أن يطوفَ بالكعبة بمفرده، بعيدًا عن الجماعة التي جاء معها، فلم يكن هدفُ عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يطوفَ وحده، فلقد كان الهدفُ مُحدَّدًا ومشتركًا، وهو يحبُّ ويرغب أن يتحقَّق للجميع، وأولُهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
وعينُ هدف أيِّ عَلاقة لا بد أن يكون رضا الله جل جلاله، والوصولَ إليه جل جلاله؛ لأن ذلك كما ذكرنا ضابطٌ للبوصلة، والذي يمكن أن يتحقق عبر ممارسات وآليات مختلفة، وكما هو معلوم بالضرورة حين تكون الأهداف كبيرة وراقية وسامية، لا بد أن تكون الوسائلُ والسبل سامية أيضًا، وليس هناك أدنى اعتبار للقول الشائع: (الغاية تبرِّر الوسيلة)، ولكن المصيبةَ أننا اليوم نسمعُ الجميع ينتقدون هذا القول، ويُفنِّدون مُدَّعيه، ويُفسِّقون سالكيه، ويُعنِّفون مروِّجيه، ولكنهم يمارسونه بكل قوة ومع سبق الإصرار والترصُّد، ولا يترددون، بل ولا يغمض لهم جَفنٌ في استخدام أي وسيلة أو طريقة - وإن كانت محرمةً شرعًا، أو منبوذة عرفًا وأخلاقًا - للوصول للهدف.
• التعاون والتضحية: والتعاونُ حقيقتُه أن الفرد يحتاج لأخيه، وهذه الحاجة تكون متوازنةً بينهم، فأصحاب القضية - كما وصفهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم - كالجسدِ الواحد الذي تتعاون أعضاؤه من أجل حمايته، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ترى المؤمنين في تراحمِهم وتوادِّهم وتعاطفهم كمَثَل الجسد؛ إذا اشتكى عضوًا، تداعى له سائرُ جسدِه بالسَّهر والحمى))[4].
ويُقدِّمُ الفرد عونَه لأخيه كلٌّ حسب مهاراته واختصاصه، وإن أعلى درجات التعاون هو الوصولُ إلى مرتبة التضحية في سبيل القضية وأصحابها، التي من أجلها يتعاون الأفراد، فقد روى عبدالله بنُ المبارك في كتابه الجهاد: أن بعضَهم مرَّ يومَ الجسرِ - يوم أبي عبيد - برجل قد قُطِعت يداه ورجلاه، وهو يقول: ï´؟ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ï´¾ [النساء: 69]، فقال بعضُ مَن مرَّ عليه: مَن أنت؟ فقال: أنا امرُؤ من الأنصار.
والتضحيةُ ينبغي أن تُقدَّم من قِبَل الجميع: من الكبير والصغير، من القائد والجندي، من الغنيِّ والفقير، لا أن يُضحِّيَ الصغار والفقراء وعامَّة القوم من الأتباع، ويبقى عِلْيَةُ القوم وساداتُهم يتفرَّجون؛ بحجة أنهم في القيادة يُقدِّمون الخُطَط والنصائح والأموال وما إلى ذلك، فالردُّ على هؤلاء أن كبارَ الصحابة كأبي بكر الصديق رضي الله عنه وعثمان بن عفان رضي الله عنه كانوا يُقدِّمون الأموال الطائلةَ ولم يمنعهم ذلك من المشاركة في الغزوات بأنفسهم، بل إن رسولَ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم لم تَمنعه مكانتُه وأهميته من أن يخوضَ غِمار المعارك مع أصحابه، وأن يُجرَح ويضرب ويُصاب، وكان كبار الصحابة يتقدمون الصفوف في التضحية بالغالي والنَّفيس من أجل دينهم، من هنا كانت التضحيةُ على الغني، والقوي، والكبير، وصاحب الجاه، والمكانة - أكثرَ وجوبًا من غيره.
• المساواة: والقصدُ من المساواة في العَلاقة المتوازنة هو في حقوق الإنسانية، فلكل إنسان اعتبارٌ وقيمة معنوية، ينبغي أن تُحترَمَ في كلِّ الأحوال، وهذه القيمة الاعتباريَّة ليس لها عَلاقة بنوع التكليف الذي يُكلَّف به الفرد، فعلى سبيل المثال: في مؤسسة واحدة تتساوَى القِيم الإنسانيَّة لمدير المؤسسة ومَن يعملُ بوظيفة (سائق)، فكلٌّ منهما يؤدي دورًا في إطار خدمة المؤسسة، وكلٌّ منهما له الحق في الحياة الكريمة، فينبغي أن يكون أجرُ مَن يعمل معنا مناسبًا لتوفير مقوِّمات هذه الحياة، فلا معنى لعمل لا يُوفِّرُ حياة كريمة للإنسان، فإن لم يحققها صار ذُلاًّ وعبودية وليس عملاً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((قال الله: ثلاثةٌ أنا خصمُهم يوم القيامة: رجلٌ أعطى بي ثم غَدَر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يُعطِ أجرَه))[5].
وفي وقفةِ تأمُّلٍ مع هذا الحديث القدسي، الذي يؤشر إلى قضية كبيرة، وذنبٍ عظيم، وخصومة غيرِ متكافئةٍ على الإطلاق؛ فمَن يرضى أن يكونَ اللهُ - جل جلاله وتقدَّست أسماؤه - خصمًا له يوم القيامة؟! فقد خاب وخسر، والأمر يقتضي المراجعة لمن يقسم الأرزاقَ والأجور، عليه أن يراجع نفسه آلاف المرَّات.
وكلُّ التُّهم التي سيكون الله جل جلاله خصمًا فيها لأولئك الأفراد، متعلقة بالعَلاقة مع الآخرين، وسلبِهم حقوقَهم؛ فهي تشرحُ شَناعة ثلاثة أفعال مع العباد:
الأول: الذي يغدِرُ بالآخرين بعد إعطاء عهد مُوثَّق بيمين بالله جل جلاله.
الثاني: مَن حوَّل شخصًا من الحرية إلى العبودية، وذلك ببيعه وأَكْلِ ثمنه، وهذه القضية وجوهُها متعددة، فاليوم قد أَذِن الله جل جلاله بأن تكون تجارةُ الرقيق من أخبار الماضي، ولكنها ظهرَت بأشكال وصورة جديدة، فحين يضطر فردٌ ما بالقبول لأن يعمل مع شخص آخر مقابلَ عقدٍ تعسفيٍّ، تنافي بنودُه الجائرة كلَّ القيم والأعراف الشرعيَّة والإنسانية والأخلاقية، من الجانب المالي والوظيفي والاجتماعي والإنساني - فإنه رِقٌّ بشكل جديد، وعبودية العصر الحديث.
الثالث: عدمُ إعطاء أصحاب الحقوق أجورَهم.
• الاحترام الشخصي: وهذه القضية أبى الله جل جلاله إلا أن تكونَ بكلامه تعالى (القرآن)، ومع أحبِّ الخلق إليه، ومَن نصَّبه جل جلاله سيدًا على الناس كافَّة؛ هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد "ذكر غيرُ واحدٍ من المُفسِّرين أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يومًا يُخاطِبُ بعضَ عظماء قريش وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يُخاطِبُه ويناجيه إذ أقبَل ابنُ أم مكتومٍ، وكان ممن أسلم قديمًا، فجعل يَسأَلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ ويلحُّ عليه، وودَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كفَّ ساعته تلك؛ ليتمكَّن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعًا ورغبة في هدايته، وعبس صلى الله عليه وسلم في وجه ابن أمِّ مكتوم، وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله تعالى: ï´؟ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ï´¾ [عبس: 1 - 3]" [6].
فالفقيرُ الضعيف الأعمى احتُرمت شخصيتُه، وعوتب فيه خيرُ البشر وأحبُّهم إلى الله تعالى، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي كانت نيةُ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم طيبةً، وهو صلى الله عليه وسلم من عُرِف بكمال الأخلاق وسموِّ الهدف، ولكن رغم ذلك حدَث الذي حدث.
وعن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه، قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ الذِّكر، ويقلُّ اللَّغْو، ويطيلُ الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنفُ أن يمشي مع الأرملة أو المسكين، فيقضي حاجته"[7].
فضعفُ حال الأرملة والمسكين وأشباهِهم لا ينفي عنهم صفةَ الإنسانيَّة، ولا يُصادِرُ منهم حقوقهم البشرية في الاحترام والتقدير، وهكذا كان يفعلُ رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم معهم.
وكان الخطابُ القرآني يُؤكِّد على ضرورة الاهتمام بالآخرين، دونَ النظر إلى مستواهم المعاشي أو غِناهم، ولكن ينظرُ لهم كبشرٍ مثلُهم مثلُ غيرهم، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: "كنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ستة نفرٍ، فقال المشركون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: اطردْ هؤلاء؛ لا يجترئون علينا! قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسمِّيهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقَعَ، فحدَّث نفسه؛ فأنزل الله عز وجل: ï´؟ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ï´¾ [الأنعام: 52]"[8].
• التقديرُ لنوع العمل الذي يُقدِّمه، وحتى لا تكونَ نوعية العمل سبَّةً لمن يمتهن الأعمال البسيطة، أو التي يراها الناس نقيصةً أو حقيرة؛ فقد جعل الله جل جلاله كلَّ الأنبياء من غير استثناء يعملون برعْيِ الغنم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعَث الله نبيًّا إلا رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنتَ؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريطَ لأهل مكة))[9].
والخطرُ الدَّاهم يكمن في الشعور الذي يتملَّكُ مدير المؤسسة بأن هذا العامل، أو السائق، أو الموظف البسيط يعمل عنده شخصيًّا؛ فيشعر بأنه عليه أن يَخْدُمَه، ويُقدِّم له فروض الطاعة والولاء؛ عندها يختلُّ توازنُ العَلاقة الإنسانيَّة، ويَفقِدُ مدير المؤسسة القابليَّة على العطاء، مثلما يفقد العاملُ الصغير القابلية على حسن الإنجاز وعلى الإبداع، فتشير البوصلة إلى الاتجاه الخطأ.
• التوازن العاطفي: المُؤَاخَذُ على العَلاقات السلبيَّة أنها عَلاقات عاطفيَّة، لا يتحقَّقُ فيها التوازن المنشودُ بين العقل والعاطفة، فتبدأ تحت غطاءِ الحبِّ في الله جل جلاله، وتتهيَّجُ المشاعر الجيَّاشة، وتسمو معاني الأخوَّة في ذات الله جل جلاله بشكل رائعٍ، حتى تصلَ إلى آفاقٍ واسعةٍ، وربما تصلُ إلى نقطة التضحيةِ بالنفس، ثم مع مرورِ الوقت ومباشرة أمورِ الحياة الواقعيَّة بشكل طبيعي؛ كالتعاملات المادية، أو التجارية، أو المرافقة في السفر، وأمور حياتيَّة عمليَّة كثيرة التي من شأنها أن تُظهِرَ الإنسان على حقيقته، هنا تخفُتُ العواطف، وتبدأ بالضُّمور شيئًا فشيئًا، ثم تذهب أدراجَ الرياح، وربما تحوَّلت إلى كراهية وعداوة، يَنتُجُ عنها طعنٌ لا مثيلَ له، وسعيٌ جادٌّ لسحقِ الآخر، أو تشويه صورته على الأقلِّ.
إن الاقتصاد والوسطيَّة في التعبير المنطقي للمشاعر العاطفيَّة للآخرين هو الحلُّ المناسب للوصول لحالة التوازن بين العاطفة والعقل في العَلاقات الإنسانيَّة، وأحيانًا فإن صغارَ القوم من أصحاب الفطرة السليمة يمارسون هذا العملَ، فيستثمِرُه الكبارُ بشكل سلبي، وتَحدُثُ خلال ذلك الطبقيَّةُ الاجتماعية المرفوضة، ومن هذا الأساس كان أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول: "أحْبِبْ حبيبَك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضَك يومًا ما، وأبغض بغيضَك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبَك يومًا ما "[10].
• المصير المشترك: ومثلما وجب أن تتَّصِفَ العَلاقة المتوازنة بالهدف المشترك، كذلك ينبغي أن يكونَ الفهمُ العميقُ للأخوَّة أو الأصدقاء أن مصيرَهم مشترك، لقد أحبَّ أولئك الذين بايعوا رسولَ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بيعةَ العقبةِ أن يستوثِقوا من قضية المصير المشترك إن هم بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأكَّدها لهم صلى الله عليه وسلم، حين قال: ((أبايعكُم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءَكم وأبناءَكم))، قال: فأخذ البراءُ بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعنَّك مما نمنَعُ منه أزُرَنا، فبايعْنا يا رسولَ الله، فنحن أهلُ الحروب، وأهلُ الحلقة، وَرِثْناها كابرًا عن كابر، قال: فاعترض القول - والبراءُ يُكلِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبدالأشهل، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنَّا قاطعوها - يعني: العهود - فهل عسيتَ إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك، وتدعنا؟ قال: فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((بل الدمَ الدمَ، والهدمَ الهدمَ، أنا منكم وأنتم مني، أحاربُ من حاربتُم، وأسالمُ مَن سالمتم))[11].
يتبع