رد: تفسير وفقه آياتُ الصيام
تفسير وفقه آياتُ الصيام (2)
عبد الله مسعود
6-أحكام المريض:
قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] للمريض حالتان:
إحداهما: ألا يُطيق الصوم بحال، فعليه الفطر واجبٌ.
الثانية: أن يقدر على الصوم بضررٍ ومشقّةٍ، فهذا يستحبُّ له الفطر ولا يصوم إلا جاهل.
وقال جمهورٌ من العلماء: إذا كان به مَرضٌ يُؤْلمهُ ويُؤذيهِ أو يَخافُ تماديهِ أو يخافُ تزيّدهُ صَحَّ لهُ الفِطْرُ.
قال ابن عطية: وهذا مذهب حذَّاق أصحاب مالك وبه يناظرون.
وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغُ به.
وقال ابن خويزمنداد: واختلفتْ الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر.
فقال مَرَّة: هو خوف التلَف من الصيام.
وقال مرَّة: شدَّة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة. وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر، لأنه لم يخصَّ مَرضاً من مرض فهو مباح في كل مرض، إلا ما خصَّهُ الدليل من الصُّداع والحمى والمرضَى اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام.
وقال الحسن: إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائماً أَفطر. وقاله النخعي.
وقالت فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من دعتهُ ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر. وهذا قول الشافعي رحمه الله تعالى.
وقال أبو حنيفة: إذا خافَ الرجل على نفسهِ وهو صائم إن لم يفطر أنْ تزدادَ عينهُ وجعاً، أو حمَّاهُ شِدَّة أفطر.
7-أحكام المسافر
قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] وههنا مسائل تتعلّق بهذه الآية:
(إحداها): فإنه قد ثبتت السنّة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:( أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم «خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الكَدِيدَ، أَفْطَرَ»، فَأَفْطَرَ النَّاسُ).
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله-البخاري-: وَالكَدِيدُ: مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ.
(عُسْفَانَ) قرية بين مكة والمدينة. (قُدَيْد) موضعٌ قريبٌ من مكة]
وأخرجه مسلم في الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر. (1). وأنه صلى الله عليه وآله وسلم خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح فسَار حتى بلغ الكديد ثم أَفطر وأمر الناس بالفطر.
(الثانية): الصحيح قولُ الجمهور أنَّ الأمرَ في ذلكَ على التخيير وليس بحتمٍ؛ لأنَّهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان قال: أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ، وَلاَ المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ»(2)، فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكرَ عليهم الصيامَ، بل الذي ثبتَ من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهُ كان في مثل هذه الحالة صَائماً، ثبتَ في الصحيحين عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَابْنِ رَوَاحَةَ» عبد الله بن رواحة(3).
(الثالثة): قالت طائفة، منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار لفعل النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم.
وقالتْ طائفةٌ: بل الإفطارُ أفضل أخذاً بالرخصة.
وقالتْ طائفةٌ: هما سواء لحديث عائشة - زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم-: أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ -وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ -فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» (4)
وقيل: إن شقَّ الصِّيامُ فالإفطار أفضل لحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي سَفَرٍ، فَرَأَى رَجُلًا قَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا لَهُ...؟» قَالُوا: رَجُلٌ صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ» (5).
(الرابعة): القضاء هل يجب مُتَتَابعاً أو يجوز فيه التفريق فيه قولان:
(الأول): أنه يجبُ التتابعُ لأن القضاءَ يحكي الأداءَ.
(الثاني): لا يجب التَّتَابع بل إن شاء فرّق وإن شاء تابع، وهذا قول جمهور السلف والخلف وعليه ثبتت الدلائل؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدّة ما أفطر، ولهذا قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].
ثم قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} [البقرة: 185].
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: «بشِّرا ولا تُنَفِّرا، ويَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وتَطَاوَعَا ولا تَختَلِفا» (6). وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيّةِ السَّمْحَةِ» (7).
ومعنى قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185].
أي إنَّما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر، ونحوهما من الأعذار، لإرادته بكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عِدَّةَ شهركم.
ب ـ المسافر وأحواله: اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يُبيت الفطر، لأن المسافر لا يكون مسافراً بالنية بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافراً بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين، لأن الإقامة لا تفتقر إلى عملٍ فافترقا.
ولا خلاف بينهم أيضاً في الذي يُؤمِّل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج.
وقال أحمد: يُفطر إذا برز عن البيوت.
وقال إسحاق: لا، بل حين يضعَ رجلهُ في الرَّحْلِ.
قال ابن المنذر: قول أحمد صحيح، لأنََّّهم يقولون لمن أصبحَ صحيحاً ثم اعتلَّ: إنَّهُ يُفطر بقيَّة يومهِ، وكذلكَ إذا أصبحَ في الحضر ثم خرج إلى السفر فلهُ كذلك أن يفطر.
وقالت طائفة: لا يُفطر يومه ذلك وإن نهض في سفره، كذلك قال الزهري ومكحول ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. واختلفوا إن فعل، فكلهم قال: يَقضي ولا يُكَفِّر.
قال مالك: لأنَّ السفر عذر طارئ، فكان كالمرض يطرأ عليه.
وأما قولهم لا يُفطر فإنما ذلك استحبابٌ لما عقدهُ فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء.
وقد روي عن ابن عمر في هذه المسألة: (يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافراً) وهو قول الشعبي وأحمد وإسحاق.
وقد ترجم البخاري رحمه الله على هذه المسألة [باب من أفطر في السفر ليراهُ الناس] وساق الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، مِنَ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاسَ، فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ» (8).
وفيه أيضاً حجَّة على من يقول: إن مَن بَيَّتَ الصوم في السفر فلهُ أن يُفطر وإنْ لم يكنْ لهُ عذرٌ، وإليه ذهب مُطرِّف، وهو أحد قولي الشافعي وعليه جماعة من أهل الحديث.
وقد رُوي عن مالك أنه لا كفارة عليه،
وهو قول أكثر أصحابه، إلا عبد الملك فإنه قال: إنْ أفطر بِجِمَاعٍ كَفَّرَ؛ لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عُذْرَ له؛
لأنَّ المسافر إنما أبيح له الفطر ليقوى بذلك على سفره.
*وقال سائر الفقهاء بالعراق والحجاز: إنَّه لا كفارة عليه، منهم الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة، (9).
ج-ما هو الأفضل في السفر الصوم أم الفطر.؟
عن عائشةَ رضي الله عنها: أنّ حمزةَ بنَ عَمْرو الأسْلمي قال يا رسولَ الله: أَأَصُومُ في السَّفَرِ؟ ـ وكان كثيرَ الصِّيَام ـ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنْ شِئْتَ فَصُمْ وإنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» (10).
الأحاديث الواردة في صيام المسافر في رمضان مختلفة المفهوم والدلالة فبعضها يفيدُ بظاهرهِ عدم صحة الصَّوم؛ وأكثرها يفيد صحَّة الصوم. ومن هذه الكثيرة ما يرجِّح جانب الفِطر، ومنها ما يرجِّح جانب الصِّيام،
ومنها ما يفيد استواء الأمرين. ولهذا تعدَّدت المذاهب في المسألة بتعدُّدِ هذه الجهات. فذهب بعض الظاهرية إلى فساد صوم المسافر أخذاً بظاهر قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] الآية. ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس من البرِّ الصيام في السفر»، (11)ولقوله في حديث آخر: «أولئك العصاة»(12). وعلى هذا فيجب على من صام في سفره القضاء.
وذهب جمهور العلماء إلى جواز الصوم وصحّته وإجزائه.
1ـ تفضيل الصوم:
رأى أكثر الأئمة تفضيل الصوم على الفطر عند استطاعة المسافر بلا مشقَّة وعدم التضرُّر به، ومن هؤلاء مالك وأبو حنيفة والشافعي، فإنْ تضرَّر فالفطر أفضل. واحتجُّوا بصوم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعبد الله بن رواحة وغيره، ولأنه تحصل به براءة الذمة في الحال.
2 ـ تفضيل الفطر:
ورأى بعضهم تفضيل الفطر، ومن هؤلاء أحمد وإسحاق والأوزاعي وسعيد بن المسيب، واحتجُّوا بما احتجّ به أهل الظاهر وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «هي رُخْصَةٌ مِنَ الله فمَنْ أخذ بها فحَسَنٌ، ومَن أحبَّ أن يصومَ فلا جُناح عليه» (13) فظاهرهُ ترجيح الفطر.
وأجاب الأكثرون بأنَّ هذا فيمنْ يخاف ضرراً أو يجد مشقّةً، واعتمدوا حديث أنس الآتي بعد هذا وغيره الذي صرّح فيه بأن بعضهم كان يصوم وبعضهم كان يفطر فَمَا يعيبُ فريقٌ فريقاً.
3 ـ استواء الأمرين:
وذهبتْ طائفة ثالثة إلى أنَّ الأمرين سِيّان، أعنِي الفطر والصِّيام لتعادل الأحاديث، ورجّح النووي الصوم، والله أعلم (14).
(1) -صحيح البخاري (3/ 34)،1944 ومسلم (2660). تفسير القرطبي 1/185
(2) -صحيح البخاري (3/ 34)1947.
(3) -رواه البخاري (1945)، ومسلم (2686).
(4)- رواه البخاري (1943)، ومسلم (2681).
(5) - رواه البخاري (1946)، صحيح مسلم (2/ 786)92 - (1115).
(6) - رواه البخاري (3038)، ومسلم (4623).
(7) -رواه أحمد في مسنده (22951).
(8)- أخرجه البخاري (1948)، ومسلم (2664).
(9)- تفسير القرطبي باختصار.
(10) -أخرجه البخاري (1943).
(11) مسند أبي داود الطياليسي (2/ 679)1440
(12) -صحيح مسلم (2/ 785)90 - (1114)
(13) أخرجه مسلم (2685).
(14) انظر مسند الإمام الشافعي.
رد: تفسير وفقه آياتُ الصيام
تفسير وفقه آياتُ الصيام (3)
عبد الله مسعود
8-شرفُ رمضان بنزول القرآن والكتب الإلهية:
أ-قال تعالى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
ب-التفسير:
يَمدحُ الله تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختارهُ من بينهنَّ لإنزال القرآن العظيم، وأنَّه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء.
أخرج الإمام أحمد:عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ» (1) *أمّا الصحف والتوراة والزبور والإنجيل، فنزل كل منها على النبيّ الذي أُنزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزّة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]،
وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3].
ثم نزلَ بعدُ مفرَّقاً بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
هكذا رُويَ من غير وجهٍ عن ابن عباس أنه سأله عطيَّة بن الأسود قال: وقعَ في قلبي الشكّ؛ في قولُ الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدْر:1] وقد أنزل في شوّال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجّة، وفي المحرّم وصفر وشهر ربيع...!!
قال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر، وفي ليلة مباركة جملةً واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلاً في الشهور والأيام (2).
وقوله تعالى: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [البقرة: 185] هذا مدحٌ للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممَّن آمن به وصدّقه واتبعه، (وَبَيِّنَاتٍ) أيّ دلائل وحجج بيِّنة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها، دالة على صحَّة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغيّ، ومفرّقاً بين الحقّ والباطل، والحلال والحرام، وقد روي عن بعض السلف أنه كره أن يقال: (رَمَضَانَ) ورخّص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت، وقد انتصر البخاري لهذا فقال: باب ـ يقال رمضان ـ وساق أحاديث في ذلك، منها: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ونحو ذلك(3)...
9-تكبير الله وشكره:
وقوله: {وَلِتُكبروا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، كما قال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]
وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] ولهذا جاءتْ السنّة باستحبابِ التسبيحِ والتحميدِ والتكبيرِ بعد الصلواتِ المكتوباتِ.
وقال ابن عباس: ما كنَّا نعرفُ انقضَاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالتكبير. ولهذا أخذ كثيرٌ من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، وقوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] أي: إذا قمتُمْ بما أمرَكمُ الله من طاعتهِ بأداء فرائضه، وترك محارمهِ، وحفظِ حدودهِ، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين
10-يُسْرُ الدِّين:
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] قال: اليسر الإفطار في السفر، والعسر الصوم في السفر. وأخرج أحمد عن الأعرج أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إنّ خَيْرَ دينِكُم أَيْسَرَه، إنَّ خَيْرَ دينِكُم أيسَرَه» (4).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَسِّرُوا ولا تُعَسِّروا، وسَكِّنُوا ولا تُنَفِّروا» (5).
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ هذا الدِّينَ متينٌ فأوغِلْ فيه بِرِفْقٍ، فإنّ المُنْبَتَّ لا أرْضاً قطعَ ولا ظهراً أبقى» (6).
وأخرج أحمد مسند عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّصلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْإِسْلَامُ ذَلُولٌ لَا يَرْكَبُ إِلَّا ذَلُولًا " (7).
وأخرج البخاري والنسائي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الدِّينُ يُسْرٌ، ولن يُغالِبَ الدِّينَ أَحَدٌ إلا غَلَبَهُ. سدِّدوا وقارِبُوا، وأَبْشِرُوا واستعينوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ من الدُّلجة» (8).
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنّ هذا الدِّينَ متينٌ فأوغِلْ به برِفْقٍ،
ولا تُبَغِّضْ إلى نفسِكَ عبادةَ ربِّكَ، فإنّ المنبَتّ لا سَفراً قطعَ ولا ظهراً أبقى، فاعمَلْ عَمَلَ امرِئ يظنُّ أنْ لنْ يموتَ أبداً،
واحذَرْ حذراً تخشى أنْ تموتَ غداً» (9).
(1) - رواه أحمد في مسنده (28/ 191)16984
(2)- تفسير ابن أبي حاتم، باب قوله: الذي أنزل فيه القرآن رقم (1672).
(3) -رواه البخاري (38).
(4)- مسند أحمد مخرجا (25/ 284)15936
(5) -صحيح البخاري (8/ 30)6125، صحيح مسلم (3/ 1359)8 - (1734)
(6) - شعب الإيمان للبيهقي (3728).
(7) -رواه أحمد في مسنده (21898).
(8)- رواه البخاري (39).
(9) - شعب الإيمان للبيهقي (3724).
رد: تفسير وفقه آياتُ الصيام
تفسير وفقه آياتُ الصيام (4)
عبد الله مسعود
11- ليلُ رمضان وأحكامه:
أ-قال الله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]
ب-تفسير الآية:
أ-الرحمة والتَّخفيف
هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك فمتى نام أو صلّى العشاء حَرُمَ عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقّة كبيرة.
كانوا يأكلونَ ويشربون ويأتون النساء مَا لم يناموا فإذا نامُوا امتنعوا.
ب-سبب نزول الآية:
كان السبب في نزول هذه الآية ما روي أنَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان الرجل صائماً فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها،
عَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلاَ يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لاَ وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ..!، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِي عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } [البقرة: 187]الى {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187](1)
(فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ) كناية عن النوم. (خَيْبَةً لَكَ): (تأسّفاً وتحسّراً على حاله).
(غُشِي عَلَيْهِ) من الغشيان وهو الإغماء. (فَنَزَلَتْ) أي: تتمة الآية. (الخَيْطُ الأَبْيَضُ) بياض الصبح الصادق أول ما يبدو معترضا في الأفق كالخيط الممدود، و(الخَيْطِ الأَسْوَدِ) ما يمتدُّ معه من غبش الليل وسواده]
وفي رواية: أحمد: فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ نَامَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا قَالَ: فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَقَدْ جَهَدَ جَهْدًا شَدِيدًا قَالَ: مَا لِي أَرَاكَ قَدْ جَهَدْتَ جَهْدًا شَدِيدًا.؟
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي عَمِلْتُ أَمْسِ فَجِئْتُ حِينَ جِئْتُ، فَأَلْقَيْتُ نَفْسِي فَنِمْتُ، وَأَصْبَحْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ صَائِمًا.
ج- قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ جَارِيَةٍ أَوْ مِنْ حُرَّةٍ بَعْدَ مَا نَامَ، وَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ). [البقرة: 187] (2)
والرَّفَثُ هنا: هو الجماع قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد.
{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]
قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني هُنّ سَكَنٌ لكم وأنتم سَكَنٌ لهنّ.
وقال الربيع: هنَّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهنَّ، وحاصله أنَّ الرجل والمرأة كلٌّ منهما يخالط الآخر ويماسُّه ويضاجعه، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان لئلا يشقّ ذلك عليهم ويُحرجوا.
{ علم الله أنَّكم كنتم تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلُّوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إنَّ أناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فَشَكُوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] } فأنزل الله عند ذلك: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، والرَّفَثُ: مجامعة النساء {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة: 187] يعني تُجامعونَ النِّساء وتأكلونَ وتشربون بعد العشاء، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] يعني جامعوهنّ {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] يعني الولد،
د-قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فكان ذلك عفواً من الله ورحمة.
قال ابن جرير: كانَ الناس في رمضان إذا صَام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنِّساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة وقد سَمر عندهُ، فوجدَ امرأته قد نامتْ فأرادها فقالتْ: إني قد نمتُ، فقال: ما نِمتِ، ثمَّ وقع بها.
وصنعَ كعب بن مالك رضي الله عنه مثل ذلك فغدَا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] الآية.
فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمةً ورخصةً ورِفقاً.
وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: يعني الولد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني الجماع. وقال قتادة: ابتغوا الرُّخصةَ التي كتبَ الله لكم، يقول ما أحلّ الله لكم.
واختار ابن جرير أنَّ الآية أعمّ من هذا كلّه.
قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
أباحَ تعالى الأكلَ والشربَ مع إباحة الجماع، في أيِّ الليل ما شاء الصائم إلى أن يتبيّنَ ضياء الصباح من سواد الليل، وعبّر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ورفع اللبس بقوله: (مِنَ الْفَجْرِ)، كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنما يعني الليل والنهار.
وعن عَدِي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ، وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ، فَلاَ يَسْتَبِينُ لِي، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ» (3).
وجاء في بعض الألفاظ: «إنك لعريض القفا». ففسّرهُ بعضهم بالبلادة، ويُفَسّره رواية البخاري أيضاً قال: «إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين»، ثم قال: «لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار».
(1) - صحيح البخاري (3/ 28)1915
(2) -مسند أحمد مخرجا (36/ 436)22124
(3) - أخرجه البخاري (1817)، ومسلم (33).