الأدلة النادية على إثبات مشروعية الجماعة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعه بإحسان إلى يوم الدين وبعد : فصلاة الجماعة مِن أفضلِ العبادات وأجَلِّ الطَّاعات و سبب في إظهار شعيرة من أعظم شعائر الإسلام[1] ألا وهي الصلاة ،ومن أسباب إظهار عِزِّ المسلمين إذا دخلوا المساجدَ ثم خرجوا جميعاً بهذا الجَمْعِ ،و لأجل صلاة الجماعة بنيت المساجد ، وقد تضافرت النصوص الشرعية على فضلها ،وقد اختلف العلماء في حكم شهودها بين قائل بالإيجاب العيني وقائل بالاستحباب وقائل بالإيجاب الكفائي ،وكل عالم قد أدلى بدلوه فهي مسألة طويلة الذيول كثيرة النقول ،وأعدل الأقوال فيها القول بأن صلاة الجماعة فرض كفاية ،وليست فرض عين لعدم جواز الاجتماع على تعطيل المساجد كلها من الجماعات فإذا قامت الجماعة في المسجد فصلاة المنفرد في بيته جائزة ،ومن فاتته الجماعة الأولى يشرع له إقامة جماعة ثانية لعموم الأدلة في فضل صلاة الجماعة ،و لا يوجد دليل يمنع من الجماعة الثانية، ونظرا لأهمية المسألة فهي تتعلق بالصلاة التي هي خير موضوع كما قال r: « الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر »[2] أحببت في كتابة بحث فيها ،وأسميته : (( الأدلة النادية على إثبات مشروعية الجماعة الثانية )) وكان هذا البحث مكونا من مقدمة وتمهيد وسبعة فصول وخاتمة فما كان من توفيق فمن الله ، وما كان من خطأ أو نسيان فالله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه والصلام عليكم ورحمة الله . *
[1] - شعائر الإسلام لغة : معالمه الظاهرة ومتعبداته ،وشرعا : ما يؤدى من العبادات على سبيل الاشتهار، كالاذان، الجماعة، والجمعة، وصلاة العيد،و الأضحية. القاموس الفقهي للدكتور سعدي أبو حبيب 1/197 دار الفكر الطبعة الثانية 1408هـ 1988م
[2]- صحيح الجامع الصغير للألباني قال حديث حسن رقم 3870
تمهيد : تعريفات لابد منها
الأحكام الشرعية هي الأحكام المتلقاة من الشرع أي التي أخذناها من الشرع ، و الشرع هو ما أنزله الله من الأحكام ، والأحكام التي أنزلها الله منها ما يتعلق بالعلم بأركان الإيمان ،وتسمى أحكام علمية أو عقدية ،ويختص بها علم العقيدة ومن الأحكام التى أنزلها الله ما يتعلق بكيفية العمل من عبادات ومعاملات (أفعال المكلفين ) وتسمى الأحكام العملية ،ويختص بها علم الفقه ، ومن الأحكام التى أنزلها الله ما يتعلق بسلوك الناس مع أنفسهم ومع غيرهم وتسمى الأحكام التهذيبية ويختص بها علم الأخلاق أو الآداب أو السلوك فالخلاصة أن الأحكام الشرعية ثلاثة : أحكام علمية وأحكام عملية وأحكام تهذيبية .
والأحكام العملية من العبادات والمعاملات منها ما أمر الشرع بفعلها ومنها ما أمر الشرع بتركها ومنها ما سكت عنها ، وما أمر الشرع بفعله إما أن يكون على سبيل الإلزام بفعله ،ويسمى ( الواجب أو الفرض ) أو يكون على سبيل التخيير في فعله ،ويسمى ( المندوب أو المستحب ) وما أمر الشرع بتركه إما على سبيل الإلزام بتركه ويسمى الحرام وأما على سبيل التخيير في تركه ويسمى المكروه ،وما سكت عنه الشرع فالإنسان مخير في فعله أوتركه ،ويسمى المباح أو الجائز ،والواجب والمستحب والمباح والمكروه والحرام بالأحكام التكليفية الخمسة . والمشروع ما شرع الله فعله وجوبا أو استحبابا ،وضده الممنوع وهو ما منع الشرع فعله تحريما أو كراهة .
والواجب العيني هو ما أمر الله بفعله من جميع المكلفين ،ولايجزئ قيام مكلف به عن الآخر كالصلاة والصوم والزكاة والحج واجتناب المحرمات والواجب الكفائي هو ما أمر الله بفعله من مجموع المكلفين ،وليس من كل فرد فيها بحيث إذا قام به البعض فقد أدى الواجب وسقط الأثم عن الباقين ،وإذا لم يقم به أي فرد من المكلفين أثموا جميعا فالله أمر أن توجد في الأمة ، ولم يأمر كل فرد بفعلها ؛لأن المصلحة تتحقق بوجودها في بعض المكلفين ،ولا تتوقف على قيام كل مكلف بها.
فصل 1: مشروعية صلاة الجماعة
أجمع العلماء على مشروعية صلاةِ الجماعةِ لكنهم اختلفوا في فرضيتها بين قائل بأنها فرض عين و قائل بانها سنة وقائل بأنها فرض كفاية ،و استدل القائلين بسنية صلاة الجماعة بأدلة تدل على جواز صلاة المنفرد كقوله رسول الله r: « إذا صلى أحدكم في بيته ثم دخل المسجد والقوم يصلون فليصل معهم تكون له نافلة »[1] ، فالحديث صرح بِأَنَّ الصلاة الثَّانِيَة نَافِلَة ،والصلاة الأولى فرض ، ولم ينكر النبي rعلى من صلي في بيته لقوله r( إذا صلى أحدكم في رحله ) ولو كانت صلاة الجماعة واجبة وجوبا عينيا لأنكر ذلك ،واستدلوا القائلين بسنية صلاة الجماعة أيضا بأدلة تدل على المفاضلة بين صلاة المنفرد وصلاة الجماعة كقوله r : « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة »[2] والمفاضلة حقيقة تكون بين فاضلين جائزين لما في صيغة أفضل من اقتضاء الاشتراك والتفاضل ، والحرام لا فضيلة له و الباطل لا فضيلة له ،و حَدَّ المفاضلة بعدد من الدرجات دليل على جواز صلاة المنفرد ؛ لأنه إِذَا لَمْ يَكُنْ لِصَلَاةِ المنفرد مِقْدَارٌ مِنْ الْفَضِيلَةِ لاَ يَصِحُّ أَنْ تَتَقَدَّرَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِدَرَجَاتٍ مَعْدُودَةٍ مُضَافَةٍ إلَيْهَا ،فإن قيل قد جاءت أدلة تدل على أن الطاعات خير من المعاصى وأزكي[3] قيل هذا من باب مسايرة الناس فيما يتوهمونه حتى يتضح لهم ما هم عليه من الخطأ أي لو سلمنا جدلا أن هذه الأشياء المحرمة فيها خير و زكاة فأمر الله هو الأفضل والأزكى ،ولم تأت أدلة تؤكد اشتراك الطاعات والمعاصي في الفضل أما الأحاديث التي فيها تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد فقد أتى ما يؤكد اشتراك صلاة الجماعة والمنفرد في الفضل فقد أتت بلفظ تفضل[4] وبلفظ تزيد[5] و وبلفظ تعدل[6] وبلفظ أفضل[7] وبلفظ أعظم أجرا[8]وقد حَدَّ رسول الله r المفاضلة بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً فَلَوْ لَمْ تَكُنْ لِصَلَاةِ الْفَذِّ دَرَجَةٌ مِنْ الْفَضِيلَةِ لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَيْهَا سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَلَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِصَلَاةِ الْفَذِّ مِقْدَارٌ مِنْ الْفَضِيلَةِ فَـلَا يَصِـحُّ أَنْ تَتَقَدَّرَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِدَرَجَاتٍ مَعْدُودَةٍ مُضَافَةٍ إلَيْهَا ، و استدلوا القائلين بسنية صلاة الجماعة أيضا بنهي النبي r عن إتيان من أكل ثوما المسجد ، وأباح أكل الثوم فقال r: « من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئا فلا يقربنا في المسجد يا أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها »[9] ،ويستلزم من إباحة أكل الثوم جواز الصلاة في المنزل ؛ لأن لازم المباح مباح ، ويؤكد هذا قوله r : ( ليس لي تحريم ما أحل الله ) فهذا يستلزم ألا تكون الجماعة في المسجد واجبة على الأعيان .
[1] - صححه الألباني في صحيح الجامع رقم 654
[2]- رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة رقم 645 ، و رواه مسلم في صحيحه رقم 650
[3] -كقوله تعالى : ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِين َ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ سورة النور آية 30 وغض البصر عما حرم واجب ،وإطلاق البصر لما حرم
[4]- كحديث : « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة » متفق عليه
[5]- كحديث : « صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفذ خمسا وعشرين درجة » صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود رقم 839
[6] - كحديث : «الصلاة في جماعة تعدل خمسا وعشرين صلاة» صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود رقم 56
[7]- كحديث : « صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة » رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي
[8] - كحديث : «أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصليها ثم ينام »متفق عليه رواه البخارى رقم 853 ومسلم رقم 662
[9]- صحيح وضعيف الجامع الصغير رقم 6090
تابع الفصل الأول : مشروعية صلاة الجماعة :
أما القائلين بأن صلاة الجماعة فرض عين فاستدلوا بقوله تعالى : ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾[1] وقالوا
مع تقتضي المعية والجمعية فأمرهم الله بالصلاة مع شهود الجماعة[2] ،والأمر يفيد الوجوب ما لم تات قرينة [3] ،وهذا غير مسلم فالمعية لا تستلزم الاختلاط أو المصاحبة في المكان، وإنما تدل على مطلق المصاحبةكما هو مقرر في كتب اللغة[4]ويمكن أن يكون قوله تعالى : ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ كقوله تعالى : ﴿ َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [5] أي كونوا منهم ،ومثلهم ،وهي كقولهم أذكر الله مع الذاكرين ، و هذا لا يقتضى الِاخْتِلَاطَ وَالْمُجَاوَرَة َ الْحِسِّيَّةَ ،و المعنى المختار هو قاله الطبري في تفسيره : ( هذا أمرٌ من الله جل ثناؤه - لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها - بالإنابة والتوبة إليه، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والدخولِ مع المسلمين في الإسلام، والخضوع له بالطاعة؛ ونهيٌ منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد تظاهر حججه عليهم، بما قد وصفنا قبل فيما مضى من كتابنا هذا، وبعد الإعذار إليهم والإنذارِ، وبعد تذكيرهم نعمه إليهم وإلى أسلافهم تعطُّفًا منه بذلك عليهم، وإبلاغًا في المعذرة )[6]
[1]- البقرة الآية 43
[2]- انظر تفسير القرطبي 1/358
[3]- انظر أصول الفقه الشيخ محمد الخضري 193 - 196 دار الحديث الطبعة الأولى 1422هـ 2001م ، وعلم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف 224 - 225 دار الحديث 1423هـ 2003م و شرح الأصول من علم الأصول لابن عثيمين 109 المكتبة التوفيقية ، و الواضح في أصول الفق د.محمد سليمان الأشقر 219 - 220 دار السلام الطبعة الأولى 1422هـ 2001م ، و الوجيز في أصول الفقه د.عبد الكريم زيدان 292 - 295 مؤسسة الرسالة الطبعة السابعة 1421هـ 2000 ،و علم أصول الفقه د. محمد الزحيلي 230 دارالقلم الطبعة الأولى 1425هـ 2004م ، أصول الفقه القسم الثاني الحكم الشرعي د. محمود بلال مهران 342 - 345 دار الثقافة العربية بجامعة القاهرة 1425هـ 2004م ،و الوجيز في أصول الفقه د. وهبة الزحيلي 211- 212 دار الفكر الإعادة الحادية عشرة 1427هـ 2006م
[4]- انظر الصحاح للجوهري (3/1286) تحقيق أحمد عبدالغفار عطار دار العلم للملايين بيروت ،و المحكم والمحيط الأعظم في اللغة لابن سيده (1/55) ولسان العرب لابن منظور (13/144) مؤسسة التاريخ العربي بيروت،و القاموس المحيط للفيروز آبادى ص987 تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة ودار الريان للتراث و تاج العروس من جواهر القاموس لمحمد مرتضي الزبيدي (5/514) منشورات دار مكتبة الحياة بيروت
[5]- سورة التوبة الاية 119
[6] - تفسير الطبري 1/575
فصل 2: فضل صلاة الجماعة عن صلاة المنفرد
ورد في فضل صلاة الجماعة العديد من الأحاديث منها ما رواه ابن عمر أن رسول الله r: « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة »[1] ، وعن أبي هريرة أن رسول الله r: « صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ »[2] ، ومعنى الحديثين أن صلاة الفذ لها ثواب مقدر معلوم عِنْدَ الله ،و تزيد صلاة الجماعة عَلَى ثواب صلاة الفذ خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين .و عنْ أَبِي مُوسَى قَالَالنَّبِيُّ r : «أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ»[3] ،وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ rقَالَ : « مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ »[4].
[1]- رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة رقم 645 ، و رواه مسلم في صحيحه رقم 650
[2] -رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة رقم 647 ، رواه مسلم في صحيحه رقم 649
[3]- متفق عليه رواه البخارى رقم 853 ومسلم رقم 662
[4] - رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة باب فضل من غدا إلى المسجد ،ومن راح رقم 662 ،ورواه مسلم في صحيحه رقم669
فصل 3: الحِكَم من تفضيل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد :
قد تضافرت النصوص على تفضيل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد ومن هذه النصوص يُتبَين عِظم ثواب صلاة الجماعة ، وعظم ثواب العبادة يدل على عظمة هذه العبادة وأفضليتها ذلك لأن الذي يصلي في جماعة يحصل له الكثير من الخير لإحداثه العديد من الطاعات عندما يصلي في جماعة ومنها أن حاضر الجماعة يجيب المؤذن بنية الصلاة في الجماعة والتبكير إليها في أول الوقت وكلاهما له أجر، ،و يمشي إلى المسجد بالسكينة ،وقد ورد في فضل المشي إلى المسجد قوله r : « مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ »[1] .وقوله r : « مَنْ تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ ، ثُمَّ مَضَى إلى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ ، لِيَقْضِي فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ ، كَانَتْ خُطُواتُهُ ، إحْدَاهَا تَحُطُّ خَطِيئَةً ، وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً »[2] ،وإذا دخل المسجد يقول أذكار دخول المسجد ، وهذا له أجر ،و عندما يدخل المسجد يصلي تحية المسجد ، وتحية المسجد لها أجر ، وبعدما يصلي تحية المسجد ينتظر الصلاة ،وانتظار الصلاة يمحو الخطايا ويرفع الدرجات ،وقال r :« لا يَزَالُ أحَدُكُمْ في صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ ، لا يَمنَعُهُ أنْ يَنقَلِبَ إلى أهلِهِ إلاَّ الصَّلاةُ »[3] وقال r : « الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ »[4] وبعدما ينتظر الصلاة تقام فيجيب الإقامة ، ويقف منتظر إحرام الإمام ،فيدرك تكبيرة الإحرام ، و يجيب الإمام عند قوله : سمع الله لمن حمده ، فإذا صلى ،وأراد الخروج من المسجد قال أذكار الخروج وهذا له أجر ،وفي صلاة الجماعة إظهارُ شعيرةٍ مِن أعظمِ شعائرِ الإسلامِ وهي الصَّلاةُ ، وإظهارُ عِزِّ المسلمين إذا دخلوا المساجدَ ثم خرجوا جميعاً بهذا الجَمْعِ ، وصلاة الجماعة سبب في الألفة والمحبة بين النَّاسِ ، وتعارف بعضهم على بعض ؛ لأنَّ النَّاسِ يلقى بعضهم بعضاً ويجتمعونعلى إمامٍ واحدٍ في عبادةٍ واحدةٍ ومكان واحدٍ ، وصلاة الجماعة سبب في شعورُ المسلمين بالمساواة في عبادة الله تعالى ؛ لأنه في هذا المسجدِ يجتمعُ الغني والفقير والجاهل والعالم والحاكم والمحكوم والصعير والكبير ، وفي صلاة الجماعة تفقد أحوال الناس فيعرف أن هناك مريض فيعاد ، ويُرى المسكين فيعطى وما سبق ما هو إلا غيض من فيض ،وقطرة من سيل في أسباب تفضيل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد .
[1] - رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة باب فضل من غدا إلى المسجد ،ومن راح رقم 662 ،ورواه مسلم في صحيحه رقم 669
[2]- رواه مسلم في صحيحه رقم 666
[3]- رواه البخاري في صحيحه رقم 659ومسلم رقم 649
[4]- رواه البخاري في صحيحه رقم 445
فصل 4: الاختلاف في مسألة حكم الجماعة الثانية ،و تحرير محل النزاع فيها :
اختلف العلماء في مشروعية الجماعة الثانية ، ومحل النزاع بينهم هو إقامة جماعة ثانية في مسجد له إمام راتب ،وليس في طريق عام أي أن الإمامَ الرَّاتبَ هو الذي يصلِّي بجماعةِ المسجدِ لكن أحياناً يتخلَّفُ بعض الناس ، وقلنا أحيانا لمنع إعادة الجماعة في المسجد الواحد بعد الجماعة الأولى إذا كان ذلك أمراً معتاداً أي جعل ذلك أمر راتبا بحيث يكون في المسجد إمامان إذا صلى أحدهما صلى الثاني بعده فهذا يمنع ؛ لأنه يؤدي إلى تفريق الجماعة فيشبه مسجد ضرارالذي قال الله فيه : ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾[1]فإن في مسجد الضرار تفريقاً بين المؤمنين في المكان ,وهذا تفريق بينهم في الزمان ؛ ولأن ذلك من البدع التي لم تكن معروفة في عهد سلف الأمة ،و الرسول r لما سلم ذات يوم و وجد رجلين معتزلين لم يصليا ، قال : علي بهما " . فجيء بهما ترعد فرائصهما . قال : ما منعكما أن تصليا معنا ؟ " . فقالا : يا رسول الله : قد صلينا في رحالنا[2] . قال : " فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم ، فإنها لكما نافلة " [3] فأمرهما النبي r أن يصليا مع الناس وإن كانا قد صليا في رحالهما,لئلا يحصل التفرق,وقال(إنها لكما نافلة) .ولأن جعل الجماعة الثانية أمرا راتبا دعوةٌ للكسلِ ؛ لأنَّ الناسَ يقولون : ما دامَ فيه جماعةٌ ثانية ننتظر حتى تأتي الجماعةُ الثانيةُ، فيتوانى النَّاسُ عن حضور الجماعةِ مع الإمامِ الرَّاتبِ الأولِ . والمسألة التي نحن بصددها هي حكم قيام جماعة بعد الجماعة الأولى إذا كان ذلك أمرا عارضا أي ليس معتادا فمن العلماءِ مَن قال بمشروعية قيام جماعة أخرى،وهو قول عطاء[4] والحسن[5] والنخعي[6] وقتادة [7]وإسحاق[8] و نص عليه أحمد[9] و هو قول الظاهرية [10]. و قول العلامة ابن باز[11] وابن عثيمين [12] ، من المعاصرين ، وأفتت به اللحنة الدائمة[14] ومن العلماءمَن قال بمنع قيام جماعة أخرى ،وعلى من فاتتهم الجماعة الأولى أن يصلُّوا فُرادى و هو قول ابن المبارك [15] وسفيان الثوري[16] و الأحناف [17] والشافعي [18] ونص عليه مالك[19] ، وهو قول العلامة الألباني من المعاصرين[20] .
[1]- سورة التوبة الآية 107
[2] - رِحَالنَا جَمْع رَحْل بِفَتْحِ الرَّاء وَسُكُون الْمُهْمَلَة هُوَ الْمَنْزِل وَيُطْلَق عَلَى غَيْره وَلَكِنَّ الْمُرَاد هُنَا الْمَنْزِل
[3] - صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داودرقم 575 ، ورواه الترمذي رقم 219 ، ورواه النسائي في سننه رقم 858
[4] - انظر : المغني لابن قدامة ( 2 / 180)
[5] - انظر : المصدر السابق
[6] - انظر : المصدر السابق
[7] - انظر : المصدر السابق
[8] - انظر : المصدر السابق
[9] - انظر :الفروع لابن مفلح ( 1 / 583 ) ، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي ( 2 / 219 )
[10] - انظر :المحلى لابن حزم ( 4 / 236 ) دار الفكر تحقيق أحمد شاكر
[11] - انظر : مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لفضيلة الشيخ ابن باز 12/151 جمع محمد بن ناصر الشويعر
[12]- انظر :فتاوى لقاءات الباب المفتوح لابن عثيمين 3/421 جمع عبد الله محمد
[13] - استمع إلى أشرطته في فقه العبادات ، وهو من مشاهير الدعاة في مصر يقال أنه من تلامذة الشيخ ابن عثيمين
[14]- فتاوى إسلامية جمع محمد بن عبد العزيز 1/362
[15] - انظر :نيل الأوطار للشوكاني 3/159
[16]- انظر :المصدر السابق
[17] - انظر : حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ( 1 / 426) إشراف مكتب البحوث والدراسات الجزء الاول دار الفكر
[18] - انظر :الأم للشافعي ( 1 / 180 ) دار الفكرالطبعة الثانية : 1403 هـ 1983 م
[19] - انظر : المدونة الكبرى ( 1 / 89 ـ 90 )
[20] - انظر : الحاوي من فتاوي العلامة الألباني211 -216 إعداد محمد بن إبراهيم مكتب العلمية للتراث الطبعة الأولى1421هـ 2001م
فصل 5 : عموم أدلة مشروعية صلاة الجماعة دليل واضح على مشروعية الجماعة الثانية :
الأدلة التي وردت في مشروعية الجماعة أتت عامة كقوله r : « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة »[1] لأن لفظ صلاة الجماعة معرف بالإضافة ، والمعرف بالإضافة من صيغ العموم أي يصح وضع كلمة كل قبلها فتقول كل صلاة جماعة ،ومن المقرر في أصول الفقه أن العام يدخل فيه جميع أفراده ،ولا يجوز قصره على بعض أفراده إلا بدليل[2] فلا يصح أن تقول صلاة الجماعة في هذه الأحاديث قاصرة على الصلاة الأولى فقط إلا أن تأت ببرهان مبين ، ودليل متين ،ومجرد الرأي ليس بحجة ،و لو قلنا الجماعة الأولى فقط هي التي تقام ، ولا تقام جماعة أخرى لزم في هذه الحالة أَنْ جعلَ المفضولَ فاضلاً، لأنه بدل من أن يصل الرجل مع الرجل يصل وحده ،وصلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده ،والقول بأن الجماعة الثانية لا تشرع يستلزم أن تكون صلاة الرجل وحده أفضل من صلاته مع آخر فيكون بهذا المفضول فاضلا ، وهذا خلاف ما دلت عليه النصوص خاصة قوله r : « صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى »[3] .
[1]- رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة رقم 645 ، و رواه مسلم في صحيحه رقم 650
[2]- انظر مبحث صيغ العموم ودلالة العام في علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف 210- 212 ، و الوجيز في أصول الفقه د.عبد الكريم زيدان 305- 310 ،و علم أصول الفقه د. محمد الزحيلي 256- 261 و شرح الأصول من علم الأصول لابن عثيمين 190- 205 و مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي 195 -198
[3]- حسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود رقم 554
فصل 6 : حث النبي r من صلى الجماعة على الدخول مع المتخلف عنها نص في مشروعية الجماعة ال
فصل 6 : حث النبي r من صلى الجماعة على الدخول مع المتخلف عنها نص في مشروعية الجماعة الثانية :
الكل يعلم أنه إذا جاء الأثر بطل النظر ، ولا اجتهاد مع النص ، وقد وجدنا في السنة حديث قد نص على مشروعية صلاة الجماعة فعندما أبصر الرسول r رجلا يصلي وحده فقال : ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه ؟[1] وهذا نَصٌّ صحيح صريحٌ في إعادةِ الجماعةِ بعدَ الجماعةِ الراتبةِ حيث حث النَّبيُّ rمن عنده على أن يصلوا مع الذي فاتته الصلاة،ولو كانت الجماعة الثانية غير مشروعة ما ندب النبي r إليها فإذا كان الرسول الله r أمر واحداً يقوم ليصلي مع هذا المتخلف مع أنه أدى الواجب الذي عليه,فكيف إذا دخل اثنان فاتتهم الجماعة ؟, وإذا كان الرسول r أقام من لم يطالب بالجماعة أن يصلي مع هذا,فكيف نقول للمطالب بالجماعة لا تصل جماعة؟! والشريعة الإسلامية لا يمكن أن تأتي بمشروعية شيء,وتدع ما كان مثله أو أولى منه .فلا يصح أن يقال أن صلاة الجماعة هذه عقدت بمفترض مع متنفل ، وليس مفترض مع مفترض ، فهذا القول بعيد جدا ؛ لأنه لو جاء ثالث ورابع وخامس لم يصلوا الفريضة لدخلوا في هذه الجماعة التي عقدت بأمره r
[1] - صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود رقم 574
فصل 7 : لا دليل يمنع إقامة جماعة ثانية :
لا يوجد نص صحيح صريح في المنع من إقامة جماعة ثانية ، وكل ما استدل به مانعي إقامة الجماعة الثانية لا حجة فيهقال السرخسي ( وفي الحديث : « أن النبي rخرج ليصلح بين الأنصار ، فاستخلف عبد الرحمن بن عوف ، فرجع بعدما صلى فدخل رسول الله r بيته وجمع أهله فصلى بهم بأذان وإقامة » فلَوْ كَانَ يَجُوزُ إعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَمَا تَرَكَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ أَفْضَلُ )[1] ، وكلامه هذا غير مسلم ، ونوقش بأن الحديث إن كان صحيحا فهو لا يدل على المنع من إقامة جماعة ثانية فالنبي r لم يقل أن صلاتها في البيت أولى ، و قد أقيمت جماعة ثانية في مسجده r بأمر منه ، ولعموم قوله r في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد ، ولعموم قوله r :« عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة »[2] ،وهذا يدل على مشروعية الجماعة الثانية في المسجد ، وقول الألباني رحمه الله : ( أن الصحابة كانوا إذا فاتتهم الصلاة مع الجماعة صلوا فرادى ، وذكر هذا المعنى ابن القاسم في مدونة مالك عن جماعة من السلف كنافع مولى ابن عمر وسالم بن عبد الله وغيرهما أنهم كانوا إذا فاتتهم الصلاة صلوا فرادى ، ولم يعيدوها مرة أخرى ، وأيضا روى الإمام الطبراني في معجمه الكبير بإسناد جيد عن ابن مسعود أنه خرج مع صاحبين له من بيته إلى المسجد لصلاة الجماعة ، وإذا به يرى الناس يخرجون من المسجد ، وقد انتهوا منها فعاد بهما ،وصلى بهما إماما في بيته )[3] لا حجة فيه فليس فعل بعض الصحابة وبعض السلف حجة خاصة في وجود السنة ، وفعل ابن مسعود رغم أنه لا حجة فية لكنه أيضا معارض بما رواه عنه ابن شيبة في مصنفه أنه دخل المسجد وقد صلوا فجمع بعلقمة ومسروق والأسود[4]. وأيضا لا يفهم من رجوع ابن مسعود إلى بيته وصلاته فيه أن الصلاة الثانية لا تقام في المسجد فربما يكون هناك سبب آخر جعله يرجع لبيته . فربما يكون قد خاف أن يقيم الجماعة الثانية وهو من كبار الصحابة فيقتدي به الناس,ويتهاونون بشأن الجماعة
[1] - المبسوط للسرخسي 1/135 ،وذكره ابن كثير في البداية والنهاية ( 5 / 26 ) .
[2]- رواه مسلم في صحيحه
[3] - الحاوي من فتاوي العلامة الألباني211 -212
[4]- ذكره صاحب الفتح الرباني وقال إسناده صحيح