بسم الله
أولاً : النقل عن الإمام الشافعي رحمه الله
قال الإمام : ((قال فإني أجد أهل العلم قديماً وحديثاً مختلفين في بعض أمورهم فهل يسعهم ذلك رضي الله تعالى عنهما قال فقلت له الاختلاف من وجهين أحدهما محرم ولا أقول ذلك في الآخر
قال فما الاختلاف المحرم
قلت كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصا بينا لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسا فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس وإن خالفه فيه غيره لم أقل أنه يضيق الخلاف في المنصوص، قال فهل في هذا حجة تبين فرقك بين الاختلافين قلت قال الله في ذم التفرق (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) الله تعالى وقال جل ثناؤه (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) فذم الاختلاف فيما جاءتهم به البينات رضي الله تعالى عنهما فأما ما كلفوا فيه الاجتهاد فقد مثلته لك بالقبلة والشهادة وغيرها قال فمثل لي بعض ما افترق عليه من روى قوله من السلف مما لله فيه نص حكم يحتمل التأويل فهل يوجد على الصواب فيه دلالة قلت قل ما اختلفوا فيه إلا وجدنا فيه عندنا دلالة من كتاب الله أو سنة رسوله أو قياسا عليهما أو على واحد منهما))
قلتُ : وهذا صريح جداً في أن مراده بالبينات مالا يحتمل التأويل أو يدخل الاجتهاد(القياس) فهمه من النصوص.فهذا لا يسع فيه الخلاف.
أما ما يحتمل النظر والاجتهاد فيسع فيه الخلاف رغم أنه قد قامت عنده أدلة على الترجيح لكنه لا يراها قاطعة للنظر..فظهر انضباط القسمة التي ذكرناها وصلاحيتها لبناء وصف الخلاف بالسعة وعدمها عليها والحمد لله وحده.
وننقل الآن نصاً آخر يقطعُ سياقُه النزاعَ ويجتثه :
قال الشافعي في : ((إبطال الاستحسان)) : ((فَإِنْ قِيلَ ذَمَّ اللَّهُ على الِاخْتِلَافِ قِيلَ الِاخْتِلَافُ وَجْهَانِ: فما أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْحُجَّةَ على خَلْقِهِ حتى يَكُونُوا على بَيِّنَةٍ منه ليس عليهم إلَّا اتِّبَاعُهُ وَلَا لهم مُفَارَقَتُهُ فَإِنْ اخْتَلَفُوا فيه فَذَلِكَ الذي ذَمَّ اللَّهُ عليه وَاَلَّذِي لَا يَحِلُّ الِاخْتِلَافُ فيه فَإِنْ قال فَأَيْنَ ذلك قِيلَ قال اللَّهُ تَعَالَى { وما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا من بَعْدِ ما جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ } فَمَنْ خَالَفَ نَصَّ كِتَابٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أو سُنَّةً قَائِمَةً فَلَا يَحِلُّ له الْخِلَافُ وَلَا أَحْسَبُهُ يَحِلُّ له خِلَافَ جَمَاعَةِ الناس وَإِنْ لم يَكُنْ في قَوْلِهِمْ كِتَابٌ أو سُنَّةٌ وَمَنْ خَالَفَ في أَمْرٍ ليس فيه إلا الِاجْتِهَادُ فَذَهَبَ إلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ وَيَكُونُ عليه دَلَائِلُ لم يَكُنْ في ضيق من خِلَافٍ لِغَيْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ حِينَئِذٍ كِتَابًا نَصَّا وَلَا سُنَّةً قَائِمَةً وَلَا جَمَاعَةً وَلَا قِيَاسًا)).
وهذا قاطع والله أعلم في بيان معنى النص في سياق كلام أهل العلم عن الخلاف الواسع وضده،وأنه عندهم النص القطعي الذي لا يدخله الاحتمال،وليس هو مطلق الدليل الصحيح،وليس هو (الواضح) ذلك اللفظ المجمل الذي لا يظهر في كلام أهل العلم،وهذا صريح أيضاً في مراده بالبينات..والحمد لله وحده
ثانياً : نقولات شيخ الإسلام..
كل هذه النقولات التي سوف ننقلها عن شيخ الإسلام تنبني على فصله بين مسائل الاجتهاد وغيرها...وبين ما فيه نص وغيره..
فوجب أولاً تبيين مراده بمسائل الاجتهاد وتبيين مراده بالنص حتى يتضح وجه الدلالة من هذه النقولات...
أولاً : مراده بمسائل الاجتهاد...
قال الشيخ رحمه الله : ((إن القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسائل الاجتهاد كما قد بيناه وبينا إجماع الصحابة على المنع منها بكلام غليظ يخرجها من مسائل الاجتهاد واتفاق السلف على أنها بدعة محدثة وكل بدعة تخالف السنة وآثار الصحابة فإنها ضلالة وهذا منصوص الإمام أحمد وغيره، وحينئذ فلا يجوز تقليد من يفتي بها ويجب نقض حكمه ولا يجوز الدلالة لأحد من المقلدين على من يفتي بها مع جواز ذلك في مسائل الاجتهاد)).
وقال : ((المسائل الخبرية العلمية .. قَدْ تَكُونُ قَطْعِيَّةً . وَقَدْ تَكُونُ اجْتِهَادِيَّة)).
وهذا نص قاطع للنزاع في أن مسائل الاجتهاد عند الشيخ هي غير القطعيات أما القطعيات فليست مسائل اجتهاد.
أما لفظ النص فيقول الشيخ : (( وَلَفْظُ النَّصِّ يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَلْفَاظَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَاهِرَةٌ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ : النُّصُوصُ تَتَنَاوَلُ أَحْكَامَ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ . وَيُرَادُ بِالنَّصِّ مَا دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ لَا تَحْتَمِلُ النَّقِيضَ كَقَوْلِهِ { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ })).
قلتُ ومراد الشيخ في هذه السياقات عن الاجتهاد والخلاف = هو المعنى الثاني مثله في ذلك مثل الإمام الشافعي بل ومثل سائر أهل العلم فيما أعلم.
النقولات :
1-((وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ وَلِيَ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمَذْهَبُهُ لَا يُجَوِّزُ " شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ " فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ ؟ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : لَيْسَ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَلَا مِنْ نَظَائِرِهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَلَيْسَ مَعَهُ بِالْمَنْعِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ ؛ لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا يَعْمَلُ بِهِ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الْأَمْصَارِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَ غَيْرِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَشَارَ الرَّشِيدُ مَالِكًا أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى " مُوَطَّئِهِ " فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ : إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ وَقَدْ أَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْ الْعِلْمِ مَا بَلَغَهُمْ . وَصَنَّفَ رَجُلٌ كِتَابًا فِي الِاخْتِلَافِ فَقَالَ أَحْمَد : لَا تُسَمِّهِ " كِتَابَ الِاخْتِلَافِ " وَلَكِنْ سَمِّهِ " كِتَابَ السُّعَّةِ " . وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : إجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَاخْتِلَافُهُم ْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى قَوْلٍ فَخَالَفَهُمْ رَجُلٌ كَانَ ضَالًّا وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَأَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا وَرَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا كَانَ فِي الْأَمْرِ سَعَةٌ . وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ مَالِكٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ : لَيْسَ لِلْفَقِيهِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ : إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيّ َةِ لَا تُنْكَرُ بِالْيَدِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهَا ؛ وَلَكِنْ يَتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تَبِعَهُ وَمَنْ قَلَّدَ أَهْلَ الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَا إنْكَارَ عَلَيْهِ . وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثِيرَةٌ : مِثْلَ تَنَازُعِ النَّاسِ فِي بَيْعِ الباقلا الْأَخْضَرِ فِي قِشْرَتِهِ وَفِي بَيْعِ المقاثي جُمْلَةً وَاحِدَةً وَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَالسَّلَمِ الْحَالِّ وَاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بَعْدَ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ وَالتَّوَضُّؤِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَالنِّسَاءِ وَخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَالْقَهْقَهَةِ وَتَرْكِ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ وَالْقِرَاءَةِ بِالْبَسْمَلَةِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا وَتَرْكِ ذَلِكَ . وَتَنْجِيسِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثِهِ أَوْ الْقَوْلِ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ وَبَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِالصِّفَةِ وَتَرْكِ ذَلِكَ . وَالتَّيَمُّمِ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ إلَى الْكُوعَيْنِ أَوْ الْمِرْفَقَيْنِ وَالتَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ أَوْ الِاكْتِفَاءِ بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ وَقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ .))
2- ((وَسُئِلَ : عَمَّنْ يُقَلِّدُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ : فَهَلْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ أَمْ يُهْجَرُ ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ يَعْمَلُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ مَنْ عَمِلَ فِيهَا بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُهْجَرْ وَمَنْ عَمِلَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ : فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَظْهَرُ لَهُ رُجْحَانُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَمِلَ بِهِ وَإِلَّا قَلَّدَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ فِي بَيَانِ أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ )).
3- ((كَمَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ : أَيُّهُمَا أَفْضَلُ التَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ أَوْ تَرْكُهُ ؟ أَوْ إفْرَادُ الْإِقَامَةِ أَوْ تَثْنِيَتُهَا ؟ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ بِغَلَسِ أَوْ الْإِسْفَارُ بِهَا ؟ وَالْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ أَوْ تَرْكُهُ ؟ وَالْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ ؛ أَوْ الْمُخَافَتَةُ بِهَا ؛ أَوْ تَرْكُ قِرَاءَتِهَا ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَهَذِهِ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فَكُلٌّ مِنْهُمْ أَقَرَّ الْآخَرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ مَنْ كَانَ فِيهَا أَصَابَ الْحَقَّ فَلَهُ أَجْرَانِ وَمَنْ كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ فَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ مَالِكٍ وَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ أَحْمَد لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ))
4- (( أَنَّهُمْ قَالُوا يُمْنَعُ مِنْ الْفَتَاوَى الْغَرِيبَةِ الْمَرْدُودَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْحُكْمُ بِهِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا أَوْ مَعْنَى ذَلِكَ . فَأَمَّا مَا وَافَقَ قَوْلَ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِين َ فِي " مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ " فَإِنَّهُ لَا يُنْقَضُ لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهِ قَوْلَ الْأَرْبَعَةِ(أرجو من الإخوة تأمل هذا فالشيخ يجعل مخالفة الأئمة الأربعة قد تكون من مسائل الاجتهاد ..أفيعقل أن يكون قول الأئمة الأربعة ليس فيه ومعه دليل واضح ؟؟!!) وَمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ الْمُفْتِي بِالْإِجْمَاعِ ؛ بَلْ الْفُتْيَا أَيْسَرُ ؛ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُلْزِمُ وَالْمُفْتِيَ لَا يُلْزِمُ . فَمَا سَوَّغَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ فَهُوَ يُسَوِّغُونَ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَمَنْ حَكَمَ بِمَنْعِ الْإِفْتَاءِ بِذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . فَمَا قَالُوهُ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ )).
قلتُ فهذ ه نقولات عن الإمامين بينة ظاهرة في ضبطهم الخلاف من جهة السعة وعدمها = بالقطعية وعدمها.ولو رمتُ النقل عن أئمة مذاهب الأصوليين لاحتجت زماناً فلا مخالف منهم ولا بينهم في هذا التقرير جملة فيما أعلم.
وترى في تضاعيف هذه النقول أن الإنكار الممنوع في الخلاف السائغ هو ماكان باليد وما هو من جنس تصرفات أرباب الولايات أما بيان ضعف المقالات (كما كان يكون بين الصحابة)فهو إنكار مشروع في الخلاف السائغ وغير السائغ.فالخلاف السائغ يُنكر فيه بمعنى توضيح الحجة وبيان المحجة،ولا تنكر باليد ولا يشدد فيها القول ولا يُحمل الناس فيها على قول واحد.
والخلاف غير السائغ يُنكر فيه بما هو من جنس تشديد أرباب الولايات كل بحسبه.
تنبيهات :
1- الاستدلال بمجرد نصوص العلماء عن أن من استبانت له السنة لم يجز له تركها ولزمه القول بها = لا محل لهذا الاستدلال هنا ،لأنا لا ننازع أن من استبان له الحق ولو من دليل ظني الثبوت ظني الدلالة = لا يجوز له أن يُخالفه إلى غيره ،وإنما محل نزاعنا هاهنا في الفصل بين مقامات من لم تستبن لهم السنة بسبب قيام المعارض في نفوسهم من الأدلة التي يظنوها معارضة هل هم على رتبة واحدة فيسع خلافهم الناس أن يقولوا بأي قول اطمئنوا إليه ، وهل دعوى كل أحد أن دلالة الخبر لم تظهر له تقبل (؟؟)
فمقامنا هاهنا مقام بيان أن ثم نصوص ومسائل ظاهرة القطعية عند عامة المجتهدين وأن لمن ظهرت له هذه القطعية أن يُخبروا بعلمهم هذا فيمنعوا الناس من اتباع قول المجتهد المخالف لتلك النصوص في هذه المسألة بعينها ولا يرون لأحد عذر في تقليده في قوله هذا.ولا يرونها من جنس مسائل الاجتهاد التي لا يُنكر فيها.
ولم تُسق هذا النصوص التي يوردها أهل العلم –في أغلب مواردها- للرد على من يُنازعون في دلالة أخبار هي عند الأئمة قطعية وإنما غالب ورودها كانت للرد على من يسلمون بظهور دلالة الأخبار ولكنهم يُنازعون في صلاحية الأخبار للحجية ..وبهذا يظهر خطأ من يُطلق الاستدلال بها للرد عمن يُنازعه في دلالات بعض النصوص ..
2- ليس معنى أن هذه المسائل القطعية يُنكر على المخالف فيها = أن يُرفع عنه عذر المجتهد وأجره ،بل مادام مجتهداً مسلماً لم يعلم عنه اتباع الهوى = فالعذر له قائم والأجر له باق .
قال شيخ الإسلام : ((وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وُجُوبًا ظَاهِرًا ، مِثْلُ حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ مِنْ جِنْسِهِ فَيَسُوغُ لَهُ - إذَا عَدِمَ ذَلِكَ فِيهَا - الِاجْتِهَادُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَارِبَة ِ .أَوْ لِخَفَاءِ الْأَدِلَّةِ فِيهَا .وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ كَوْنِ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً طَعْنٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الْمُجْتَهِدِين َ كَسَائِرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ)) .
وقال : ((قال شيخ الإسلام : ((فمن قال إن المخطىء في مسألة قطعية أو ظنية يأثم فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم))
ويقول الشيخ عمن خالف ما في عقيدته الواسطية (وجل خلاف ما في الواسطية إنما هو من الخلاف غير السائغ): ((وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَالِكًا فَإِنَّ الْمُنَازِعَ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا يَغْفِرُ اللَّهُ خَطَأَهُ وَقَدْ لَا يَكُونُ بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ أَلْفَاظُ الْوَعِيدِ الْمُتَنَاوَلَة ُ لَهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُ وَالْقَانِتُ وَذُو الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَغْفُورُ لَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ : فَهَذَا أَوْلَى ، بَلْ مُوجِبُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ نَجَا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ وَمَنْ اعْتَقَدَ ضِدَّهُ فَقَدْ يَكُونُ نَاجِيًا وَقَدْ لَا يَكُونُ نَاجِيًا كَمَا يُقَالُ مَنْ صَمَتَ نَجَا)).
ويقول شيخ الإسلام : ((نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يُعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع)).
فأثبت أنه حتى خلاف القطعيات قد يعذر مرتكبه.
3- الذي يذكره شيخ الإسلام من أن القطعيات تتفاوت ليس غرضه منه بطلان البناء على القسمة لقطعي وظني في اعتبار الخلاف سائغاً من عدمه.
وإنما كان غرضه من هذا التفاوت منع ترتيب الإثم على هذه القسمة ؛لأنه إذا تفاوت الناس في اعتبار القطعي والظني منع ترتيب الإثم على مجتهد لم تصل هذه النصوص في نفسه لرتبة القطعيات،أما مجرد جعل الخلاف غير سائغ وسائغ بالبناء على القطعية والظنية = فهذا يُقره الشيخ ولا يُنكره.
4- لا يُطلب هاهنا الدليل من الكتاب والسنة على هذا التقرير ؛ لأنه لا نزاع بيننا في أن من خالف بعد ظهور البينة أن خلافه من التفرق المذموم ،وإنما الشأن في صفة هذه البينة وكيف تكون وكيف تحصل ...فكلام أهل العلم لا أعلم لهم مخالف على صفة هذه البينة من جهتين :
الجهة الأولى : ما يتعلق بحكم المجتهد نفسه في نفسه فهذه ترجع له وما حصل له في نفسه من العلم وما انفع عنه من الجهل والهوى ..فمتى استبان له الحق لم يجز له العدول عنه ولو كان دليل الحق ظنياً.
الجهة الثانية : ما يتعلق بحكم المجتهد على خلاف غيره من المجتهدين له وعلى ما يتعلق بهذا الخلاف من أوصاف السعة وعدمها وعلى ما يتعلق بهذا الخلاف من تسويغ متابعة كلا القولين فيه من عدمها..فانضبطت كلمة العلماء على أنه إذا كان في المسألة نص قطعي أو إجماع أن الخلاف فيها لا يسوغ مع بقاء العذر للمجتهد المخالف مادامت القطعية لم تصل في المسألة لحد المعلوم ضرورة..والقطعية هنا هي القطعية الظاهرة لعامة المجتهدين والحكم بهذا التسويغ من عدمه يكون أحياناً من موارد الاجتهاد بحسب الحكم بظهور القطعية وخفاؤها..
وهذا التقرير في الجملة لا أعلم فيه خلافاً وإن وقع خلاف في بعض التفاريع والتفاصيل..
يقول شيخ الإسلام : ((ثُمَّ هِيَ-أي الأحاديث- مُنْقَسِمَةٌ إلَى : مَا دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ ؛ بِأَنْ يَكُونَ قَطْعِيَّ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ وَهُوَ مَا تَيَقَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ وَتَيَقَّنَّا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تِلْكَ الصُّورَةَ . وَإِلَى مَا دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ مُوجَبِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا ؛ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا قَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ هَلْ هُوَ قَطْعِيُّ السَّنَدِ أَوْ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ ؟ وَهَلْ هُوَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ أَوْ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ ... وَتَارَةً يَخْتَلِفُونَ فِي كَوْنِ الدَّلَالَةِ قَطْعِيَّةً لِاخْتِلَافِهِم ْ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ : هَلْ هُوَ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ ؟ وَإِذَا كَانَ ظَاهِرًا فَهَلْ فِيهِ مَا يَنْفِي الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ أَوْ لَا ؟ وَهَذَا أَيْضًا بَابٌ وَاسِعٌ فَقَدْ يَقْطَعُ قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِدَلَالَةِ أَحَادِيثَ لَا يَقْطَعُ بِهَا غَيْرُهُمْ إمَّا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمَعْنَى الْآخَرَ يَمْنَعُ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ .))
ومن تأمل هذا النقل جيداً علم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن القطعيات يحرم خلافها وأن ذلك غير سائغ وأن غيرها يسوغ فيه الخلاف فهي مسائل اجتهاد..وأنه لا يخدش في ذلك = أن يختلف العلماء في تحقيق مناط النص المعين هل هو قطعي أم ظني.وأن هذه القسمة هي التي يبني عليها أهل العلم في تلك الأبواب.
ومن تدبر هذه النقولات وغيرها مما لم ننقله عن مصنفي كتب الأصول = ظهر له أن ألفاظ القطعية والظنية هي الدائرة على ألسنتهم في هذا الباب،وأنهم يقسمون المسائل والنصوص إلى اجتهادية وقطعية..وأن لفظ الواضح هذا يكاد يكون من كيس مخالفنا الفاضل غالب الساقي لا أثارة عليه من علم في كلام أهل العلم،وأننا إذا اتفقنا على أن المدار على البينة وظهورها = كان من ضبط البينة بما نُقل عن أهل العلم هاهنا أسعد ممن ضبطها بلفظ مجمل موهم لم يجر على ألسنة أهل العلم ولا بنوا عليه أحكاماً..
وسواء سمى مخالفنا ضابطه وضوح أو قطع فليس هاهنا الإشكال ..المهم بم سيعرف هذا الوضوح؟؟
إن عرَّفه بأنه مالايدخله الاحتمال والاجتهاد بحيث تكون دلالته قطعية عند عامة النظار ..
وإن عرف غير الواضح بأنه هو مالم تتمحض دلالته لدلالة واحدة عند عامة النظار بل يتفاوت الناس في تعيين المراد منه ويدخله الاحتمال = فقد اتفق معنا ولا علينا من الأسماء..
وإن أصر على خلافنا إلى ما توهمه فوصفه من اللفظ والمعنى = فليس يُخالفنا وحدنا وليس معه من أهل العلم سند ولا معه من معقول الرأي عضد..
والحمد لله وحده..