-
المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
مقدمة
من صــ 4 الى صـ 9
ـ[المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة دراسة الأسباب رواية ودراية]ـ
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
الناشر: دار ابن الجوزي، الدمام - المملكة العربية السعودية
الطبعة: الأولى، (1427 هـ - 2006 م)
عدد الأجزاء: 2
أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن دعا بدعوته واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله - عَزَّ وَجَلَّ - بعلمه وحكمته اختار لصحبة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبر الناس قلوباً، وأصدقهم ألسناً، وأوعاهم حفظًا وفهماً، فشاهدوا التنزيل، وفقهوا التأويل، ووقفوا على ما لم يقف عليه غيرهم من طبقات الأمة، وكان أكبر همهم، ومنتهى سعيهم أن يفهموا خطاب الله لعباده، ويعرفوا مراده من كتابه فبذلك حازوا أفضل العلوم واكتسبوا خلاصة الفهوم.
ولم تزل الأمة تغترف من بحر علمهم وفقههم لا تتجاوز حد فهمهم برأي
أو قياس، سيما إذا كان الأمر يتعلق بكتاب الله حتى قال محمد بن سيرين: سألت عَبيدة عن آية من القرآن. فقال: اتق الله وقل سداداً، ذهب الذين يعلمون فيما أُنزل القرآن. يعني الصحابة.
وقد كفى سلف الأمة من العلماء الأعلام والرواة الأثبات من بعدهم مؤنة جمع العلم وتبويبه، وفقهه ودرايته حتى اجتمع للمتأخرين قدر كبير من المرويات في كل باب من أبواب العلم، وجملةٌ أكبر من الشروحات والتعليقات بحسب ما آتاهم الله من الفهم والاستنباط، وصارت مهمة الباحثين المعاصرين النظر والتأمل في ذلك التراث الضخم، والتدقيق، والترجيح، والتفنن في العرض والتأليف لجمع الشوارد، وتقريب البعيد، ولَمِّ الأشباه والنظائر والمقارنة والموازنة للوصول إلى أقرب النتائج للصواب وأسعدها بالدليل.
وقد حظي (علم أسباب النزول) بعناية العلماء قديماً وحديثاً، ولا غرو، فرغبت بالمشاركة في هذا الفن الشريف، والاشتغال بشعبة منه في دراستي لنيل درجة (الدكتوراه) واخترت لذلك الموضوع التالي:
أسباب النزول
من خلال الكتب التسعة جمعاً ودراسة
وأعني بها موطأ مالك، ومسند أحمد، وسنن الدارمي، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، وسنن النَّسَائِي وسنن ابن ماجه.
* أهمية الموضوع:
تكمن أهمية البحث في هذا الموضوع في أمور عديدة من أهمها:
أولاً: شرف العلم بأسباب النزول، لشرف التنزيل، وشرف العلم مبني على شرف المعلوم، ولا شيء أشرف وأجل مما تكلم به سبحانه، أعني كلامه الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، فخير ما بذلت فيه الجهود، وصرفت فيه الأعمار الاشتغال بكتابه العزيز وفهمه وتدبره.
ثانياً: فائدة هذا العلم الجليل في تفسير كتاب الله، والكشف عن وجوه الحِكَم والأحكام التي لا تدرك إلا بالوقوف على أسباب نزول الآيات، قال الواحدي عن أسباب النزول: (إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية، وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها).
وقال ابن دقيق العيد: (بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب).
بالإضافة إلى ما يتبع ذلك من تخصيص عام، أو دفع إيهام ونحوه.
* أسباب اختيار الموضوع:
أولاً: أهمية جمع أسباب النزول من مصادرها الأصلية مقرونة بدراسة وافية بين دفتي كتاب، وجاء اختياري للكتب التسعة لتكون مصادر لأسباب النزول لجلالة قدر مؤلفيها وعلو إسنادها، وتلقي الأمة للصحيحين منها بالقبول حتى تكاد تستوعب ما في سواها من دواوين السنة ولهذا اقتصرت على ما ورد فيها.
ثانياً: حاجة المكتبة القرآنية قديمًا وحديثًا إلى مؤلف مفرد يجمع الأسباب ويقدم لها دراسة متكاملةً كي يسهل على القارئ والباحث مقارنة الروايات في مقام واحد، ويلقي الضوء على أوجه الترجيح بينها.
ثالثاً: الحاجة إلى تحقيق المرويات ودراستها دراسة نقدية من الناحيتين التفسيرية والحديثية بسبب تعدد المرويات في الواقعة الواحدة، وتعارضها أحيانًا في أصلها أو أجزائها، وفشو المرويات الضعيفة في كتب التفسير والسنة وشيوعُها في الأمة، فكان لا بد من عمل علمي يستنبط الحقيقة المضيئة من عتامة المرويات المظلمة، ويستخرج الرواية النقية من النبع الصافي الذي كدرته الدلاء الدخيلة.
رابعاً: افتقار المؤلفات المعنية بهذا العلم إلى التحرير والترجيح، حيث يلحظ القارئ وبلا تكلف عناية المؤلفين لهذه المؤلفات بجانب السرد، دون التدقيق والتمحيص واختيار السبب الصحيح، وهذا ما سيضيفه هذا البحث.
خامساً: قصور بعض المؤلفات في هذا الفن عن استيعاب جميع أسباب النزول خصوصًا المذكورة في الكتب التسعة.
سادساً: حرصي على أن يكون موضوع أطروحتي لنيل الدكتوراه ذا فائدة علمية لي أولاً، ثم لأهل التخصص وعامة المسلمين ثانيًا.
* الدراسات السابقة:
تتابع العلماء - رحمهم اللَّه - في التأليف في علم أسباب النزول من قديم الزمان، وهي ما بين مطبوع، ومخطوط، ومفقود، ومع هذا فقد انبرى للتأليف في هذا الزمان جملة من العلماء والباحثين فأجادوا وأفادوا - جزاهم اللَّه خير الجزاء - وقد يسر الله لي الاطلاع على بعض ما أُلف في هذا الباب فرأيته حسناً مفيدًا لكنه لم يتناول هذا العلم على النسق الذي أردت والأسلوب الذي رسمت، وفي ظني - إن شاء اللَّه - أنه سيسهم مساهمة فعالةً في تنقيته من الدخيل والغريب.
ومن المؤلفات التي اطلعت عليها في هذا الباب:
1 - أسباب النزول للواحدي، وعليه بعض الملحوظات على أن هذا لا يعني القدح فيه فمنها:
أ - أن المؤلف قد فاته شيء كثير من أسباب النزول فلم يذكرها.
ب - أنه ساق روايات على أنها أسباب نزول وليست كذلك.
جـ - أنه أغفل مرويات قوية واستشهد بمرويات ضعيفة.
ويغني في وصف الكتاب قول أبي حيان: (وقد صنف الواحدي في ذلك كتاباً قلَّما يصح فيه شيء، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح) اهـ.
2 - العجاب في بيان الأسباب للحافظ ابن حجر.
وهذا الكتاب لا يخرج في مضمونه في بعض الأسباب عن نسق غيره من المؤلفات المهتمة بجانب السرد دون الاستيعاب والتدقيق والترجيح، ودون استخراج الأسباب من المصادر الأصلية كالصحاح والسنن والمسانيد.
3 - لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي. وعليه الملاحظات التالية:
أ - أن كثيراً من الآيات لها أسباب نزول لم يذكرها وقد تكون صحيحة مشهورة.
ب - أن بعض الآيات لها أكثر من سبب ولا يذكر إلا واحدًا.
جـ - قد يكون السبب في الصحيحين أو أحدهما ويترك العزو إليهما أو لأحدهما.
د - تصحيحه لبعض الأحاديث الضعيفة.
هـ - صيغة السبب يحولها من غير صريحة إلى صريحة.
4 - الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل بن هادي الوادعي.
وهذا الكتاب تضمن أسبابًا صحيحة لكنه مع هذا يحتاج للإضافة سواء من حيث العدد، أو تحقيق صحتها، أو الجمع والترجيح.
5 - أسباب النزول وأثرها في التفسير للدكتور عصام الحميدان، وقد وضع في كتابه قواعد مفيدة في أسباب النزول، وعقد مقارنة بين كتابي: الواحدي والسيوطي، وقام بدراسة لما فيهما دراسة مختصرة تشبه التعليق في أكثر الأحيان.
6 - أسباب النزول أسانيدها وأثرها في تفسير القرآن الكريم للدكتور جمعة سهل، لم يتيسر لي الاطلاع عليها لكني اطلعت على فهرسها من أحد الفضلاء، ومن خلال اطلاعي على ذلك لم أجد الشيخ ذكر أسباب النزول، لكنه ذكر بعض الضوابط، والقواعد، وحِكم التشريع من خلال أسباب النزول، وما يتبع ذلك.
7 - جامع النقول في أسباب النزول للشيخ ابن خليفة عليوي، فقد ذكر ما أخرجه الواحدي والسيوطي في كتابيهما ثم شرح الآيات التي تضمنتها أسباب النزول عندهما.
هذه بعض المؤلفات المصنفة في هذا الباب، وهناك العديد غيرها لكنها لا تخرج عن منوالها وطريقتها.
وإني لأرجو أن يكون البحث الذي أُقدم له الآن قد شق طريقًا جديدًا وأضاءَ مصباحًا منيراً، تأصيلاً وتأطيرًا، لكل سالك في ميدان أسباب النزول.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 17 الى صـ 25
الحلقة (2)
التمهيد
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: مكانة أسباب النزول وأهميتها.
المبحث الثاني: فوائد معرفة أسباب النزول.
المبحث الثالث: نشأة علم أسباب النزول.
المبحث الرابع: مصادر أسباب النزول.
المبحث الخامس: بواعث الخطأ في أسباب النزول.
المبحث الأول
مكانة أسباب النزول وأهميتها
القرآن العظيم هو حبل اللَّه المتين وصراطه المستقيم، وحجته البالغة على العالمين يقول - جل وعلا - في وصفه: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42).
أنزله - عَزَّ وَجَلَّ - لهداية المتقين فقال - جل شأنه -: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2).
وجعل من حِكم إنزاله إخراج الناس به من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان به، فقال تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1).
ثم لم يقصر المنعم المتفضل النعمة على إخراجهم من الظلمات إلى النور بل زادهم من لدنه خيراً كثيراً ثباتاً وهدى وبشرى فقال - جل وعلا -: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102).
وهذه الأوصاف العظيمة وغيرها من المنح الإلهية لا تتحقق للعبد بدون التفكر في القرآن وتدبر معانيه، والنظر في حكمه، وأسراره، ونحن نشاهد أن أرسخ الناس إيماناً وأعمقهم فهماً هم العلماء الربانيون الذين أُوتوا من التدبر والتفكر حظاً عظيماً.
وإذا كان الشأن كذلك فلن يكون الأمر غريباً أن يعيب اللَّه على أولئك المعرضين عن التدبر بقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)، لأن اللَّه أخبر وهو أصدق القائلين أنه إنما أنزل القرآن للتدبر والتذكر فقال جل شأنه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)، وهذا التدبر لا يتأتى إلا بمعرفة تفسير الآية، لأن التدبر بدون فهم المعنى ممتنع ومعرفة تفسيرها لا تمكن بغير معرفة سبب نزولها، قال الواحدي: (إنه يمتنع معرفة تفسير الآية وقصدِ سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها) اهـ.
فإذا كان التدبر لكتاب اللَّه، وهو مفتاح العلوم والمعارف موقوفاً على التفسير، والتفسير موقوفاً على سبب النزول، فإننا ندرك بذلك المنزلة العالية، والمكانة السامية التي تحظى بها أسباب النزول.
ولا شك أن لأسباب النزول أثراً في التفسير وبيان المراد، ومن ذلك:
1 - أن أسباب النزول في غالبها حكايات وقصص، منها ما هو مختصر ومنها ما هو طويل مبسوط، وهذه القصص تصور العصر الإسلامي الأول، وتصور واقع الذين كانت تتنزل عليهم الآيات القرآنية لتعليمهم، وتوجيههم، وتربيتهم، وتصور بيئتهم العامة، ومفاهيمهم التي كانت سائدة بينهم، من الأمور التي تقدم نفعاً جليلاً في فهم المعنى، إذ هي تبصرة بالمناخ الذي نزل فيه النص، وكثيرًا ما يقع المفسِّر في الخطأ؛ لأنه فهم النص وهو يضع في اعتباره واقع المجتمع الذي يعيش فيه، لا واقع البيئة والمجتمع الذي نزل النص لمعالجته بالتعليم والتوجيه والتربية.
وإذا أردت أن تتحقق من هذا فانظر في قصة الإفك مثلاً فإنها تصوِّر لك البيئة العامة، والخاصة، وتكشف لك الأنماط السائدة ذلك الوقت.
2 - أن أسباب النزول تكشف لنا عن الظرفين الزماني والمكاني اللذين أنزلت فيهما الآيات، فهو يقدم للمفسر نفعًا جليلاً، ويهديه إلى مفهوم أدق وأقرب إلى المراد، وذلك أن من الآيات ما يلائم ظرفًا من الظروف في حين أنه قد لا يلائم ظرفًا آخر، إذ ما يلائم في مواسم الأعياد قد لا يلائم في أوقات التحريض على الجهاد، وما يلائم حال المناسك قد لا يلائم في مواضع البيع والشراء.
3 - أن أسباب النزول تبين الحال النفسية والفكرية والاجتماعية التي كان عليها الذين أُنزلت عليهم الآيات، وهذا يفيد المفسر في فهم المعنى، أو في استنباط الفوائد من الآيات.
ويدخل في ذلك تصور حالات السلم والحرب، والأمن والخوف، وسعة الرزق والجوع، والنصر والهزيمة، والإيمان والكفر والنفاق ونحو ذلك من الأحوال النفسية التي يستدعي كلٌ منها ما يلائمه من التعليم والتوجيه والتربية.
ويدخل في ذلك تصور الحالات الاجتماعية كالبداوة والتحضر، والرفعة والضعة والقوة والضعف، والقيادة والانقياد وغيرها من الأحوال التي تتطلب ما يلائمها من البيان.
وكل هذا إنما ينكشف ويتبين بمعرفة أسباب النزول.
ومما يبرز أهمية أسباب النزول ومكانتها احتواؤها على حِكم التشريع البالغة وأسرارها الباهرة التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب تعالى، وحكمته، ورحمته وبره بعباده، ولطفه بهم، وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها، وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها، وأنه سبحانه لم يرحمهم في الدنيا برحمة. ولم يحسن إليهم إحساناً أعظم من إحسانه إليهم بهذا الدين القيم وهذه الشريعة الكاملة، ولهذا لم يذكر في القرآن لفظة المن عليهم إلا في سياق ذكرها كقوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)، وقوله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17).
وليس يخفى على كل منصف أن العلم بالحكمة الداعية إلى التشريع، يزيد الإيمان واليقين في قلوب المكلفين، وتطمئن به نفوسهم، وتقر به عيونهم،
ولهذا نجد أن الله يقرن الحكم بعلته في مواضع عديدة من كتابه الكريم كقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).
وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).
وقوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3).
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91).
فأسباب النزول تكشف حِكَم الشريعة وأسرارها وفي هذا من الخير ما لا يخفى.
ومن الآثار الحسنة لأسباب النزول، والتي تظهر فيها مكانتها وتسمو بها منزلتها إزالتها للإشكالات التي قد تنشأ عند بعض الناس من فهم غير سديد لآيات القرآن فيفهم منها ما لا يُفهم، ويظن فيها ما لا يُظن، وما ذاك إلا لخفاء أسباب نزول الآيات على أولئك، وعدم علمهم بها، ولو علموا هذه الأسباب وفيما كانت، لتحولت أفهامهم، واستقامت على الصواب نظرتهم وإذا كانت المعاني القرآنية قد تشكل على بعض الصحابة كما وقع لقدامة بن مظعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين ظن أن شرب الخمر جائز واستدل على ذلك بالكتاب، حتى بيّن له عمر وابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن الآية التي استدل بها هي حجة عليه، وعذراً لمن مات من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهم يشربون الخمر قبل تحريمها.
أو تشكل على بعض كبار التابعين كما جرى لعروة بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع خالته عائشة - رضي الله عنها - حين ظن أن السعي بين الصفا والمروة ليس واجبا أخذاً من قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فبينت له أم المؤمنين - رضي الله عنها - سبب نزولها، وأن اللفظ لا يدل على عدم الوجوب.
أو كما جرى لمروان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين أشكل عليه قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188). فأزال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الإشكال من قلبه ببيان سبب نزولها وأنها ليست كما يظن مروان.
أقول إذا كانت هذه الإشكالات تقع من هؤلاء الأكابر مع رسوخهم في الدين والعلم، فكيف الظن بمن بعدهم من الذين لم يدركوا ما أدرك هؤلاء السابقون من الخير والدين، ولم تسعفهم علومهم في فهم شيء من أسباب النزول بتة، ولم تنطلق ألسنتهم بلغة القرآن والسنة.
أليس هؤلاء أحوج ما يكونون إلى فهم أسباب النزول أجمعَ والعنايةِ بها ليتمكنوا من فهم معاني القرآن، وفيم نزل، وفيم أُريد به؟
والجواب: بلى وفي ظني وتقديري القاصرَيْن أن حاجتهم ماسة للجميع وليس للآيات المشكلة فحسب؛ لأن السحب بينهم وبين فهم القرآن جِدُّ كثيفة.
وقد تحدث ابن عاشور عن أهمية أسباب النزول ومكانتها في مقدمة تفسيره حيث قال: إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه؛ لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز، ومنها ما يكون وحده تفسيرًا، ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة، التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك، ففي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عبَّاسٍ يقول: لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون، يشير إلى قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)، فأجاب ابن عبَّاسٍ قائلاً: إنما دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اليهود، فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ ابن عبَّاسٍ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ... ) الآية.
وفي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذٍ حديث السن: أرأيت قول اللَّه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا (158) فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (158) ومنها: ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات، فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام.
ثم ذكر أنه تصفح أسباب النزول التي صحت أسانيدها فوجدها أقسامًا:
منها: ما هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلا بد من البحث عنه للمفسر، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}، ونحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} ومثل بعض الآيات التي فيها {مِنَ النَّاسِ}.
ومنها: ما يفيد البحث فيه زيادة تفهم في معنى الآية، وتمثيلاً لحكمها وهي مساوي لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها مثل قصة عويمر العجلاني الذي نزلت عليه آية اللعان، ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عليه آية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ... (196)}.
ومنها: قسم يبين مجملات، ويدفع متشابهات مثل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}.
فإذا ظن أحد أن (من) للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرًا، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصارى علم أن (من) موصولة، وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: ما لا يبين مجملاً، ولا يؤول متشابهًا، ولكنه يبين وجه تناسب الآي بعضها مع بعض كما في قوله تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)، فقد تخفى الملازمة بين الشرط وجزائه فيبينها ما في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن عروة بن الزبير سألها عنها فقالت: (هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن). اهـ.
وبهذا تتبين لنا مكانة أسباب النزول وأهميتها في فهم الكتاب العزيز، وإزالة ما قد يعلق بالأذهان من إشكال في فهم معاني القرآن، كما تكشف عن حكم الشريعة وأسرارها الباهرة، والله أعلم.
* * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 26 الى صـ 31
الحلقة (3)
المبحث الثاني
فوائد معرفة أسباب النزول
لمعرفة أسباب النزول فوائد عديدة تناول ذكرها طائفة من العلماء المحققين أوجزها في الآتي:
الفائدة الأولى: أن معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية.
قال الواحدي عن أسباب النزول: (إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية، وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها). اهـ.
وقال ابن دقيق العيد: (بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن (21). اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ولهذا كان أصح قولي الفقهاء أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رُجع إلى سبب يمينه، وما هيجها وأثارها). اهـ.
وقال الشاطبي مقرراً هذا المعنى:
(إن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام لفظه واحد، ويدخله معان أخر من تقرير، وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال يُنقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال). اهـ.
ومن آيات القرآن التي كان لسبب النزول أثر في فهم معناها ما يلي: -
1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت وأنه صلى أو صلاها، صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد، وهم راكعون، قال:
أشهد بالله، لقد صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبل مكة فداروا كما هم قِبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قِبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل اللَّه:
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)، فسبب النزول بيّن أن المراد بالإيمان هنا الصلاة، وليس الإقرار والاعتراف المتضمن للقبول والإذعان، ولولا سبب النزول ما كنا لِنقف على المعنى الصحيح للآية.
2 - أخرج البخاري ومسلم عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:
نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا، لم يدخلوا من قِبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قِبَل بابه فكأنه عُيِّر بذلك فنزلت: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا). فسبب النزول بيَّن أن المراد بالإتيان هو الدخول وليس مجرد المجيء، كما أفاد أن المراد بالبيوت بيوتهم وليست بيوتَ غيرهم، ولولا وجود سبب النزول ما تبين هذان المعنيان من لفظ الآية المجرد.
3 - أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة - رضي الله عنها -:
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) قالت:
هي اليتيمة في حجر وليها فيرغب في جمالها، ومالها، ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء. فسبب النزول هنا بيَّن الصلة في الآية بين الأمر بالقسط في اليتامى، وبين نكاح ما طاب من النساء، ولولا وجود السبب لم تتبين الصلة.
الفائدة الثانية:
أن العلم بسبب النزول يرفع الإشكال، ويحسم النزاع قال الشاطبي:
(إن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشُّبه والإشكالات، ومُورِد للنصوص الظاهرة مُورَد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي. قال: خلا عمر ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة، ونبيها واحد، وقبلتها واحدة، فقال ابن عبَّاسٍ: يا أمير المؤمنين إنا أُنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن، ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي، فماذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. قال:
فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن عبَّاسٍ، ونظر عمر فيما قال، فعرفه فأرسل إليه، فقال: أعد عليَّ ما قلت، فأعاده عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه، وما قاله صحيح في الاعتبار، ويتبين بما هو أقرب.
فقد روى ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعًا كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟
قال: يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أُنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عبَّاسٍ عليه، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.
ثم ذكر أمثلة حتى انتهى إلى قوله:
وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل، بحيث لو فُقد ذكر السبب، لم يُعرف من المنزل معناه على الخصوص دون تطرق الاحتمالات، وتوجه الإشكالات.
وقد قال ابن مسعود في خطبة خطبها: واللَّه لقد علم أصحابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني من أعلمهم بكتاب اللَّه، وقال في حديث آخر: والذي لا إله غيره ما أُنزلت سورة من كتاب اللَّه إلا أنا أعلم أين أُنزلت؟ ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أُنزلت؟ ولو أعلم أحداً أعلمَ بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه.
وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالماً بالقرآن.
وعن الحسن أنه قال: ما أنزل اللَّه آية إلا وهو يحب أن يُعلم فيم أُنزلت وما أراد بها؟ وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب). اهـ باختصار.
ومن آيات القرآن التي كان لسبب النزول أثر في دفع الإشكال عنها ما يلي:
1 - أخرج البخاري ومالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عروة بن الزبير قال:
قلت لعائشة - رضي الله عنها - أرأيت قول اللَّه - تبارك وتعالى -: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فلا أُرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة:
كلا، لو كانت كما تقول، كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانت مناةُ حذو قُديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فأنزل اللَّه تعالى:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
فسبب النزول هنا دفع الإشكال الذي وقع في نفس عروة حين ظن أن السعي بين الصفا والمروة ليس واجبًا فبينت له أم المؤمنين - رضي الله عنها - أن الآية إنما أُنزلت لرفع الحرج عمن امتنع من السعي بينهما، بسبب ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، والله أعلم.
2 - أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي أن مروان قال:
اذهب يا رافع (لبوَّابه) إلى ابن عبَّاسٍ فقل:
لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عبَّاسٍ: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أُنزلت هذه الآية في أهل الكتاب سألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.
فسبب النزول هنا بيَّن أن الأمر ليس كما ظنه مروان، بل الآية نزلت بسبب اليهود حين كتموا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما سألهم عنه، وأخبروه بغيره وفرحوا بكتمانهم إياه ما سألهم عنه، واللَّه أعلم.
3 - أخرج البخاري وأحمد والدارمي ومسلم عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:
كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذٍ الفضيخ فأمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مناديًا ينادي، ألا إن الخمر قد حُرِّمت، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قُتل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا).
فمعنى هذه الآية أشكل على قدامة بن مظعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث فهم منها جواز شرب الخمر قال الشاطبي:
(وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر، فقال: إن قدامة شرب فسكر. فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟
قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول، وذكر الحديث، فقال عمر: يا قدامة إني جالدك، قال: واللَّه لو شربتُ كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم؟ قال:
لأن اللَّه يقول: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ) فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اللَّه اجتنبت ما حرم الله، وفي رواية فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب اللَّه. فقال عمر: وأيَّ كتاب اللَّه تجد أن لا أجلدك؟ قال:
إن اللَّه يقول في كتابه: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ... ) الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدراً، وأُحداً، والخندق، والمشاهد، فقال عمر:
ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عبَّاسٍ: إن هؤلاء الآيات أُنزلن عذراً للماضين، وحجةً على الباقين فعذر الماضين بأنهم لقوا اللَّه قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجةً على الباقين لأن الله يقول:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا فإن اللَّه قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر: صدقت). اهـ.
فقدامة بن مظعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما جهل سبب نزول الآية استدل بها على جواز شرب الخمر فوقع في الإشكال، والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لعلمهم بسبب النزول أبطلوا استدلاله بالآية على شرب الخمر.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 32 الى صـ 37
الحلقة (4)
الفائدة الثالثة: أن معرفة سبب النزول تبين الحكمة الداعية إلى تشريع الحكم.
قال الزركشي: (وأخطأ من زعم أنه لا طائل تحته - يعني العلم بأسباب النزول - لجريانه مجرى التاريخ وليس كذلك بل له فوائد:
منها: وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم). اهـ.
قال الزرقاني مبينًا فائدة العلم بحكمة التشريع:
(وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن. أما المؤمن فيزداد إيماناً على إيمانه، ويحرص كل الحرص على تنفيذ أحكام اللَّه، والعمل بكتابه لما يتجلى له من المصالح والمزايا التي نيطت بهذه الأحكام، ومن أجلها جاء هذا التنزيل، وأما الكافر فتسوقه تلك الحكم الباهرة إلى الإيمان إن كان منصفًا حين يعلم أن هذا التشريع الإسلامي قام على رعاية مصالح الإنسان، لا على الاستبداد، والتحكم، والطغيان؛ خصوصًا إذا لاحظ سيرَ ذلك التشريع وتدرجه في موضوع واحد. وحسبك شاهدًا على هذا تحريم الخمر وما نزل فيه). اهـ.
ومن الأمثلة التي يبين فيها السببُ الحكمة الداعية إلى تشريع الأحكام ما يلي:1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قوله تعالى:
(وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) قال: نزلت ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مختفٍ بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به فقال الله لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) أي: بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك فلا تسمعهم (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).
فالآية خلت من ذكر الحكمة الداعية إلى التشريع، بينما السبب نص عليها، وهي كف المشركين عن سب القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به.
2 - أخرج مسلم وأحمد والدارمي والترمذي والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه سُئل عن المتلاعنين أيفرق بينهما؟ قال:
سبحان الله نعم إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان. قال:
يا رسول اللَّه أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك ... الحديث.
فآيات اللعان خلت من ذكر الحكمة الداعية إلى التشريع، لكن السبب بيّنها، ذلك أن الزوج هنا بيْن أمرين أحلاهما مرّ، فإن تكلم فحد القذف أمامه، وإن سكت سكت على أمر عظيم كما قال.
ولن يطيق هذا مؤمن فكانت مشروعيةُ اللعان مخرجاً من حد القذف، أو السكوت على الريبة، واللَّه أعلم.
3 - أخرج مسلم وأحمد والبخاري عن جابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد الناس جلوساً ببابه، لم يؤذن لأحد منهم، قال:
فأُذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأُذن له، فوجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسًا حوله نساؤه، واجمًا، ساكتًا، قال: لأقولن شيئًا أُضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال:
(هن حولي كما ترى يسألنني النفقة)، فقام أبو بكر لعائشة يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول: تسألن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ليس عنده، فقلن: واللَّه لا نسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئًا أبدًا ليس عنده ثم اعتزلهن شهرًا ثم نزلت عليه هذه الآية:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) - حتى بلغ (أَجْرًا عَظِيمًا).
فسبب النزول بيَّن الحكمة الباعثة على تخييرهن بهذه الآية، وهي سؤالهن النفقة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أما الآية فلم تتناول الحكمة بالحديث عنها، والله أعلم.
الفائدة الرابعة: أن يخصص الحكم بالسبب الذي نزل من أجله.
قال الزركشي: (ومنها: تخصيص الحكم به - أي بالسبب - عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب). اهـ.
وتخصيص الحكم بالسبب لا ينافي العموم، لكنّ القائلين به يقولون:
أخذنا ذلك العموم من القياس، أي قياس الحوادث المشابهة على الحوادث الواقعة في العهد النبوي، ولم نأخذ العموم من طريق اللفظ العام؛ لأن هذا اللفظ العام مختص بسببه، وكل سبب نزول يصح أن يكون مثالاً لهذا عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.
الفائدة الخامسة: دفع توهم الحصر.
قال الزركشي: (قال الشافعي في معنى قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ... ) الآية:
إن الكفار لما حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم اللَّه، وكانوا على المضادة والمحادة، جاءت الآية مناقضة لغرضهم فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه نازلاً منزلة من يقول:
لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلا الحلاوة، والغرض: المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة، فكأنه قال: لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهل لغير اللَّه به، ولم يقصد حِلَّ ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل). اهـ.
الفائدة السادسة: بيان أخصية السبب بالحكم.
قال الطوفي: (أي أن السبب أخص بالحكم من غيره من صوره لأن اللفظ ورد بياناً لحكم السبب فكان مقطوعًا به فيه فيمتنع تخصيصه بالاجتهاد). اهـ بتصرف.
الفائدة السابعة: معرفة التاريخ.
قال الطوفي: (معرفة تاريخ الحكم بمعرفة سببه، مثل أن يقال: قذف هلال بن أمية امرأته في سنة كذا فنزلت آية اللعان فيعرف تاريخها بذلك، وفي معرفة التاريخ فائدة معرفة الناسخ من المنسوخ). اهـ.
الفائدة الثامنة:
قال الطوفي: (ومنها توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها، فيكثر ثواب المصنفين، كالذين صنفوا أسباب نزول القرآن، والمجتهدين بسعة محل اجتهادهم). اهـ.
الفائدة التاسعة: التأسي والاقتداء بما وقع للسلف من حوادث في الصبر على المكاره واحتمال الأقدار المؤلمة.
قال الطوفي:
(ومنها: التأسي بوقائع السلف وما جرى لهم، فيخف حكم المكاره على الناس، كمن زنت زوجته فلاعنها، فهو يتأسى بما جرى لهلال بن أُمية، وعويمر العجلاني في ذلك، ويقول: هؤلاء خير مني، وقد جرى لهم هذا فلي أُسوة بهم). اهـ.
الفائدة العاشرة: تعيين المبهم.
قال السيوطي: (ومنها معرفة اسم النازل فيه الآية وتعيين المبهم فيها). اهـ.
قال الزرقاني: (معرفة من نزلت فيه الآية على التعيين، حتى لا يشتبه بغيره فيتهم البريء ويبرأُ المريب). اهـ.
وسأذكر بعض الأمثلة الدالة على هذا فأقول:
1 - أخرج البخاري عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وقال السفهاء من الناس - وهم اليهود -:
(مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ... )، فقد فسر السفهاء هنا بأنهم اليهود.
2 - أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش: ألا ترى إلى هذا المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا؟
قال: أنتم خير منه فنزلت:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51).
3 - أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي) فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل اللَّه فينا شيئاً من القرآن إلا أن اللَّه أنزل عذري).
الفائدة الحادية عشر: تيسير الفهم والحفظ.
قال الزرقاني: (تيسير الحفظ وتسهيل الفهم، وتثبيت الوحي في ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها، وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات،والأح كام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة كل أولئك من دواعي تقرر الأشياء، وانتقاشها في الذهن، وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها فى الفكر وذلك هو قانون تداعي المعاني المقرر في علم النفس). اهـ.
هذه أبرز الفوائد الناشئة عن معرفة أسباب النزول، وأهمها الثلاثة الأول، واللَّه أعلم.
* * *
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 38 الى صـ 43
الحلقة (5)
المبحث الثالث
نشأة علم أسباب النزول
مدخل: نشأة علم ما أمرٌ يحتاج إلى رصدٍ وملاحظةٍ منذ اللَّبِنَات الأولى التي قام عليها بناء هذا العلم، وهكذا تبدا العلوم بجزئيات متفرقة لا تحمل اسماً يميزها، ومع تكاثرها، وظهور شيء من ملامحها العامة تنطوي تحت الاسم العام الذي يشملها، ويشمل غيرها بجامع من التجانس العلمي، ولكن هذا ليس آخر المطاف - بالنسبة إلى بعض العلوم - حيث يمضي في التشكل والنمو، وتتظافر الهمم في دراسته وتطويره حتى يستقل بنفسه ويتميز باسمه الخاص، وهكذا علم أسباب النزول بدأ بروايات متفرقة لا يضمها اسم، ولا يجمعها كتاب، فلم يزل ينمو ويتطور حتى انتهى به المآل إلى الحال التي هو عليها الآن مروراً بالمراحل التالية:
أولاً: عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -:
ارتبط هذا العلم في بداياته الأولى بالوحي الإلهي الذي كان ينزل به جبريل - عليه السلام - من رب العالمين - جل وعلا - على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إثر حادثة تحدث، أو سؤالٍ يُسأل، أو مقالةٍ تقال، أو شكاية ترفع فينزل الوحي لبيان هذا الأمر الطارئ، فيحفظ ذلك من حضره من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويكون ذلك من جملة العلم الذي تلقوه عن نبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكنه يتميز بأنه أمر حادث يعقبه وحي إلهي ينزل، ويحفظ في الصدور، حيث لم تكن الكتابة آنذاك أسلوباً مستعملاً لعامة الناس.
فالصحابة عرب خُلص أُميون لا يقرؤون ولا يكتبون، فكل اعتمادهم على ملكاتهم في الحفظ، وقوة شأنهم فيه، واعتبر ذلك بحالهم في الجاهلية فقد حفظوا أنسابهم، ومناقبهم، وأشعارهم، وخطبهم.
فكانت هذه الصدور الحافظة مهداً لآي الذكر الحكيم، وكانت هذه القلوب الواعية أوعية لحديث النبي الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثانياً: عهد التابعين قبل تدوين السنة:
انتهى العهد النبوي الشريف بموت المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحمل الراية بعده أصحابه الكرام، حيث نذروا أنفسهم لتبليغ الدين بكل ما يستطيعون من قول أو عمل أو جهاد أو بذل، فكان التابعون يقصدون أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأخذ العلم عنهم بالسؤال تارةً، وبصحبتهم وسماع ما يروون تارةً، وكان هذا العلم من جملة ما حفظه التابعون عن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واشتهر لبعض الصحابة رواة وتلاميذ يأخذون عنهم، ويروون علمهم فهذا عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتلاميذه زر بن حبيش وأبو وائل شقيق بن سلمة، وعلقمة، والأسود، وغيرهم، وهذا عبد اللَّه بن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وتلاميذه سعيد بن جبير، وعطاء ابن أبي رباح، وطاووس بن كيسان اليماني وغيرهم، وهذه أم المؤمنين عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتلاميذها كمسروق، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم، وقد نُقل هذا العلم في هذه المرحلة بطريق التلقي والحفظ في الصدور أيضاً.
ثالثاً: عهد تدوين السنة:
التدوين على نحو محدود كان موجودًا حتى على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولهذا كتب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتابه الشهير لعمرو بن حزم، وأذن للصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن يكتبوا لأبي شاه، وكذلك على عهد الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كما كتب أبو بكر لأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتابًا في شأن زكاة بهيمة الأنعام، واستمرت الحال كذلك على نحو فردي، حتى جاء الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - ورأى الحاجة داعيةً إلى تدوين الأحاديث وكتابتها، فكتب بذلك على رأس المائة الأولى إلى عامله وقاضيه على المدينة أبي بكر بن حزم: (انظر ما كان من حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاكتبه فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء) وأوصاه أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وكذلك كتب إلى عماله في أمهات المدن الإسلامية بجمع الحديث، وممن كتب إليه بذلك محمد بن شهاب الزهري ومن هذا الوقت أقبل العلماء على كتابة السنن وتدوينها، وشاع ذلك في الطبقة التي تلي طبقة الزهري، فكتب ابن جريج بمكة (150)، وابن إسحاق (151) ومالك (179) بالمدينة، والربيع بن صبيح (160)، وسعيد بن أبي عروبة (156). وحماد بن سلمة (176) بالبصرة، وسفيان الثوري (161) بالكوفة والأوزاعي (156) بالشام، وهشيم (188) بواسط، ومعمر (153) باليمن وجرير بن عبد الحميد (188)، وابن المبارك (181) بخراسان.
وكان معظم هذه المصنفات والمجاميع يضم الحديث الشريف وفتاوى الصحابة والتابعين كما يتجلى لنا هذا في موطأ الامام مالك بن أنس.
رابعا: عهد تصنيف العلوم:
بعد المرحلة السابقة رأى بعضهم أن تفرد أحاديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مؤلفات خاصة، فأُلفت المسانيد، وهي كتب تضم أحاديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأسانيدها خالية من فتاوى الصحابة والتابعين تجمع فيها أحاديث كل صحابي، ولو كانت في مواضيع مختلفة تحت اسم مسند فلان ومسند فلان وهكذا، وأول من ألف المسانيد أبو داود سليمان بن داود الطيالسي (204 هـ)، كما يعتبر مسند الإمام أحمد بن حنبل - وهو من أتباع أتباع التابعين أوفى تلك المسانيد وأوسعها -.
جمع هؤلاء الأئمة الحديث ودونوه بأسانيده، وذكروا طرقاً كثيرة لكل حديث يتمكن بها جهابذة هذا العلم، وصيارفته من معرفة الصحيح من الضعيف والقوي من المعلول.
ثم رأى بعض الأئمة أن يصنفوا في الحديث الصحيح فقط، وكان أول من صنف ذلك الإمام البخاري (256 هـ) ثم الإمام مسلم (261 هـ).
ثم ظهرت الكتب الأربعة مرتبةً على الأبواب كسنن أبي داود السجستاني (275 هـ) وأبي عيسى الترمذي (267 هـ)، والنَّسَائِي (353 هـ) وابن ماجه (273 هـ).
وكانت أسباب النزول القرآني مبثوثة في بطون هذه المؤلفات الضخمة حتى جاءت المرحلة اللاحقة وهي:
خامساً: مرحلة إفراد أسباب النزول بالتأليف:
وسأذكر المؤلفات التي أفردت أسباب النزول بشكل مستقل حسب الوفاة وهي على النحو التالي:
1 - (تفصيل لأسباب التنزيل) عن ميمون بن مهران ت (117 هـ) مخطوط.
2 - (أسباب النزول) لعلي بن المديني ت (234 هـ).
3 - (القصص والأسباب التي نزل من أجلها القرآن) للمحدث القاضي عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس ت (402 هـ) في نحو مائة جزء ونيف.
4 - (أسباب النزول) لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي ت (468 هـ).
5 - (أسباب النزول والقصص الفرقانية) لأبي المظفر محمد بن أسعد العراقي الحنفي الحكيمي ت (567 هـ) وهو كتاب يخلو من الأسانيد تماماً.
6 - (الأسباب والنزول على مذهب آل الرسول) لأبي جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب الطبري الشيعي ت (588 هـ).
7 - (أسباب النزول) لأبي الفرج ابن الجوزي ت (597 هـ).
8 - (أسباب نزول الآي) للأرتقي ت (619 هـ). وهو مختصر كتاب الواحدي.
9 - (عجائب النقول في أسباب النزول) لأبي إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري ت (732 هـ) ذكر السيوطي أنه اختصره من كتاب الواحدي، فحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئاً.
10 - (سبب النزول في تبليغ الرسول) لابن الفصيح: فخر الدين أحمد بن علي بن أحمد الكوفي ت (755 هـ).
11 - (رسالة في أسباب النزول) لعلي بن شهاب الدين حسن بن محمد الهمذاني ت (786 هـ).
12 - (العجاب في بيان الأسباب) للحافظ ابن حجر العسقلاني ت (852 هـ).
13 - (مدد الرحمن في أسباب نزول القرآن) للقاضي زين الدين عبد الرحمن بن علي بن إسحاق التميمي الداري الخليلي المقدسي الشافعي ت (876 هـ).
14 - الباب النقول في أسباب النزول) للحافظ جلال الدين السيوطي ت (911 هـ).
15 - (إرشاد الرحمن لأسباب النزول والنسخ المتشابه وتجويد القرآن) لعطية اللَّه بن عطية البرهاني الشافعي الأجهوري ت (1190 هـ).
16 - (أسباب التنزيل) لأحمد بن علي بن أحمد بن محمود الحنفي (مجهول الوفاة).
17 - (أسباب النزول) لعبد الجليل النقشبندي.
أما الكتب الحديثة التي تناولت أسباب النزول فمنها:
أ - (أسباب النزول عن الصحابة والمفسرين) تأليف عبد الفتاح القاضي.
ب - (الصحيح المسند من أسباب النزول) للشيخ مقبل الوادعي.
جـ - (أسباب النزول القرآني) للدكتور غازي عناية.
د - (أسباب نزول القرآن) للدكتور حماد عبد الخالق حلوة.
هـ (أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص) للدكتور عماد الدين محمد الرشيد.
و (تسهيل الوصول إلى معرفة أسباب النزول) الجامع بين روايات الطبري والنيسابوري وابن الجوزي، والقرطبي وابن كثير والسيوطي، تصنيف الشيخ خالد عبد الرحمن العك.
ز - (أسباب النزول وأثرها في التفسير) رسالة جامعية لم تطبع بعد للدكتور عصام الحميدان.
ح - (أسباب النزول) للدكتور الشيخ جمعة سهل. رسالة جامعية لم تطبع بعد.
أما المؤلفات التي تناولت أسباب النزول ضمن موضوعات عديدة فمنها:
أ - (البرهان في علوم القرآن) للإمام بدر الدين محمد بن عبد اللَّه الزركشي ت (794 هـ).
ب - (الإتقان في علوم القرآن) تأليف جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي.
جـ (مناهل العرفان في علوم القرآن) للشيخ محمد بن عبد العظيم الزرقاني.
د - (المدخل لدراسة القرآن الكريم) للشيخ الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة.
هـ - (مباحث في علوم القرآن) للدكتور مناع بن خليل القطان.
و (مباحث في علوم القرآن) للدكتور صبحي الصالح.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
https://majles.alukah.net/imgcache/2019/08/72.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 44 الى صـ 49
الحلقة (6)
ز - (دراسات في علوم القرآن الكريم) للدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي.
وبهذا نصل إلى آخر العتبات التاريخية التي انتهى إليها علم أسباب النزول في نشأته وتطوره، على أن كل مرحلتين متتاليتين بينهما قدر من التداخل والمخالطة.
* * *
المبحث الرابع
مصادر أسباب النزول
وأعني بها المؤلفات التي روت أسباب النزول، سواءٌ أكانت مرويةً بأسانيدها كما في أكثر المؤلفات أم بغير أسانيد كما في بعضها الآخر، وتعتبر مرجعا رئيسًا في أسباب النزول.
وهذه المؤلفات يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مصادر رئيسة:
الأول: كتب السنة.
الثاني: كتب التفسير.
الثالث: كتب أسباب النزول، وإليك التعريف بأبرزها:
* المصدر الأول: كتب السنة:
1 - الموطأ للإمام مالك.
المؤلف: إمام دار الهجرة، مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الحِمْيري الأصبحي، أبو عبد اللَّه، ولد سنة ثلاث وتسعين، وطلب العلم وهو حدث فأخذ عن خلق كثير، وتأهل للفتيا، وجلس للإفادة، وله إحدى وعشرون سنة، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة تسع وسبعين ومائة، وله من العمر ست وثمانون سنة.
الكتاب: الموطأ.
هذا الكتاب ألفه مالك في الحديث على طريقة الأبواب، ولم يلتزم قصره على الأحاديث المرفوعة إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل أضاف إليه أقوال الصحابة، وفتاوى التابعين.
وحين البداءة بالموضوع يقدم حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ما ورد من أقوال الصحابة، ثم ما ورد من فتاوى التابعين، وغالبًا يكونون من أهل المدينة، وأحيانًا يذكر ما عليه العمل أو الأمر المجمع عليه بالمدينة وقد يذكر بعض آرائه الفقهية، ومع هذا فصبغة الكتاب حديثية لا فقهية كما أنه - رحمه الله - لم يتقيد بالمسند المتصل، بل ذكر فيه حتى المرسل والمنقطع والبلاغات، وهي ما يقول فيها مالك: بلغني أو نحوه من غير أن يعين من روى عنه.
وقد روي أن عبد العزيز بن عبد اللَّه الماجشون سبق مالكًا فعمل كتابًا ذكر فيه ما اجتمع عليه أهل المدينة وأنه عمل ذلك كلامًا وآراء بغير حديث، فلما رآه مالك نظر فيه وقال: ما أحسن ما عمل، ولو كنت أنا الذي عملت لابتدأت بالآثار، ثم شددت ذلك بالكلام، ويظهر أن هذا هو الذي قوّى عزمه على إخراج كتابه كما أراد.
وقد اختلف في سبب تسميته (الموطأ) فقيل: إن مالكاً قال: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ.
وقيل: لأنه بصنيعه هذا قد وطأ العلم والحديث ويسرهما للناس.
وقد روي الموطأ بروايات مختلفة تختلف في ترتيب الأبواب، وفي عدد الأحاديث، وقد ذكر القاضي عياض أن الذي اشتهر من نسخ الموطأ نحو عشرين نسخة، وذكر بعضهم أنها ثلاثون.
والذي يظهر أن سبب الاختلاف يرجع إلى أن الإمام مالكًا كان دائم التهذيب والتنقيح لموطئه وحذف بعض الأحاديث، والذين سمعوا الموطأ سمعوه في أزمان مختلفة، فكان من ذلك الاختلاف في النسخ.
وقد اختلف في عدد أحاديث الموطأ نتيجة لاختلاف النسخ.
أما درجة أحاديثه فمن أهل العلم من قدمه على الصحيحين كأبي بكر بن العربي ومنهم من جعله في مرتبة دون الصحيحين كابن الصلاح في مقدمته، وقال به ابن حزم وبعض المتأخرين يسوي بين موطأ مالك والصحيحين في الصحة.
وقد اختصر الموطأ: الإمام الخطابي حمْد بن محمد البستي المتوفى سنة 388 هـ. وأبو الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة 474 هـ، وابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 456 هـ.
أما شروحه فكثيرة أجلها وأوسعها "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" لأبي عمر يوسف بن عبد البر النمري المتوفى سنة 463 هـ.
وقد شرحه أيضا أبو محمد عبد اللَّه بن محمد النحوي البطليوسي المتوفى سنة 521 هـ.
وكذا القاضي اابو بكر بن العربي المتوفى سنة 546 هـ، وسماه (القبس).
وممن شرحه الجلال السيوطي المتوفى سنة 911 هـ، وسمى شرحه (كشف المغطا في شرح الموطأ).
وكذا شرحه ولي اللَّه الدهلوي أحمد بن عبد الرحيم المتوفى سنة 1176 هـ، وسماه (المصفّى).
أما أسباب النزول في الموطأ فهي قليلة، والموجود منها متفرق في أجزاء الكتاب.
2 - مسند الإمام أحمد بن حنبل.
المؤلف: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي هو الإمام حقًا، وشيخ الإسلام صدقًا، ولد في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة، وطلب الحديث وهو ابن خمس عشرة سنة، عدة شيوخه الذين روى عنهم في المسند مائتان وثمانون ونيف، امتحن في فتنة القول بخلق القرآن، وعُذب على ذلك، فصبر ولم يجبهم، كانت وفاته - رحمه الله - في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين.
الكتاب: المسند.
المسند في اصطلاح المحدثين هو الكتاب الذي جمعت فيه أحاديث كل صحابي على حدة من غير نظر إلى وحدة الموضوع، فحديث صلاة بجانب حديث زكاة وهكذا، فإذا فرغ من حديث الصحابي أخذ في حديث غيره حتى يتم الكتاب.
وقد اختلف أصحاب هذه الطريقة في ترتيب الصحابة، فمنهم من يرتبهم على حسب الفضل بأن يبدأ بالعشرة المبشرين بالجنة ثم بمن بعدهم كما فعل الإمام أحمد، ومنهم من يرتبهم على حروف المعجم كما فعل الطبراني في المعجم الكبير ومنهم من يرتبهم حسب القبائل.
وقد انتقى الإمام مسنده من ألوف الأحاديث التي كان يحفظها ويرويها وقد قال أبو موسى المديني: (هذا الكتاب أصل كبير، ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتقى من حديث كثير ومسموعات وافرة فجعله إماماً، ومعتمداً، وعند التنازع ملجأً ومستنداً، ثم روى بسنده عن حنبل بن إسحاق قال: جمعنا عمي أنا وصالح وعبد الله، وقرأ علينا المسند، وما سمعه منه تاماً غيرنا، وقال لنا: إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فارجعوا إليه، فإن كان فيه وإلا فليس بحجة).
أما عدد أحاديثه فما بين ثلاثين وأربعين ألفاً، ومن هذه الألوف ما يزيد على ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد أي بين الرسول فيها والإمام ثلاثة رواة.
وقد زاد على المسند عبد الله بن الإمام، وتلميذه أبو بكر القطيعي لكنهما لم يلتزما فيما زاداه ما التزمه الإمام من شدة التحري والتثبت، فمن ثمَّ وجد في المسند أحاديث ضعيفة.
أما درجة أحاديثه ففيه الصحيح، والحسن والضعيف، والمنكر، بل والموضوع على ندرة جدا، كأحاديث فضائل مرو، وعسقلان، والبرث الأحمر عند حمص كما نبه عليه طائفة من الحفاظ.
وسبب وجود الموضوعات في المسند يعود إلى أمور:
الأول: أن الإمام أحمد كان ينوي تهذيب الكتاب وتنقيحه، لكن حلت به المنية قبل حصول الأُمنية.
الثاني: التساهل في رواية الفضائل فقد روي عنه قوله: (نحن إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل تساهلنا) ولا يعني هذا إخراج الموضوعات لكن النظر يختلف في تحديد الموضوع من الضعيف عند العلماء.
الثالث: ما زاده ابنه عبد اللَّه، وأبو بكر القطيعي وفي تلك الزيادات أحاديث كثيرة موضوعة.
وقد اختصره زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي وسمى مختصره: (در المنتقد من مسند الإمام أحمد) وكذا اختصره سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن الشافعي، المتوفى سنة 804 هـ.
أما ترتيبه: فقد قام به أبو بكر محمد بن المحب الصامت فرتبه على معجم الصحابة ورتب الرواة كذلك كترتيب كتب الأطراف، ثم أضاف ابن كثير لهذا الترتيب أحاديث الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي إلا مسند أبي هريرة فإنه مات قبل إكماله.
قال ابن الجزري: (وقد بلغني أن بعض فضلاء الحنابلة بدمشق رتبه على ترتيب صحيح البخاري وهو الشيخ أبو الحسن علي بن زكنون الحنبلي).
وقد قيض الله لترتيب المسند في القرن الهجري الأخير أحمد بن عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي وقد قسمه سبعة أقسام وفق الترتيب التالي: -
1 - التوحيد وأصول الدين. 2 - الفقه. 3 - التفسير. 4 - الترغيب.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 50 الى صـ 56
الحلقة (7)
5 - الترهيب. 6 - التاريخ ويدخل فيه السير والمناقب. 7 - القيامة وأحوال الآخرة وكل قسم من هذه الأقسام السبعة يشتمل على جملة كتب، وكل كتاب يندرج تحته جملة أبواب، وبعض الأبواب يندرج فيه جملة فصول. وسمى ترتيبه هذا (الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني).
أما شروحه: فقد شرحه شرحًا وجيزًا أبو الحسن بن عبد الهادي السندي المتوفى سنة 1138 هـ. كتعليقاته على كتب الحديث الستة.
وكذلك الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا الساعاتي وهو شرح وجيز على كتابه الجليل (الفتح الرباني) سماه (بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني).
أما أسباب النزول في المسند فهي كثيرة لكنها مفرقة في نواحيه لأنه مرتب على المسانيد.
3 - المسند الجامع للدارمي.
المؤلف: هو عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد اللَّه أبو محمد التميمي ثم الدارمي السمرقندي. طوّف أبو محمد الأقاليم، وصنف التصانيف، يضرب به المثل في الديانة، والحلم، والرزانة، والاجتهاد والعبادة، كانت وفاته سنة خمس وخمسين ومائتين يوم التروية بعد العصر، ودُفن يوم عرفة يوم الجمعة وهو ابن خمس وسبعين سنة - رحمه اللَّه تعالى -.
الكتاب: المسند الجامع.
اعتنى الدارمي في كتابه بإخراج حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآثار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة أهل العلم في الفقه والزهد ومسائل الفروع وبيان اختلافهم وأدلة مذاهبهم، ولم يقتصر على ما صح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -سندًا ومتنًا، لكنه أخرج في المقدمة شيئًا مرفوعًا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس من وجه صحيح.
وبكل حال فإن غالب ما في الأصول أحاديث صحيحة أو حسنة، والأحاديث الضعيفة غالباً ما تكون في الفضائل والترغيب والترهيب، وربما يوردها في الشواهد والمتابعات.
كما أن المصنف إذا أورد الحديث علق عليه بفائدة فقهية، أو بيان مذهبه، أو قول الأئمة فيه، أو يعدل أو يجرح أحد رواته، أو يذكر اختلاف الحفاظ في إسناده باتصال أو انقطاع.
ومن الملاحظ أيضا أنه رتب كتابه على أبواب الفقه، لكن جعل له مقدمة ضمنها خمسة عشر باباً في فضائل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعجزاته، ثم أتبع تلك المقدمة بأبواب العلم ذكر فيها ستة وخمسين بابًا ... وهكذا.
وله في كتابه أربعة عشر حديثاً ثلاثيًا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أما أسباب النزول في هذا المسند فليست كثيرة كما أنها مفرقة في نواحي الكتاب.
4 - صحيح البخاري.
المؤلف: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدزَبة وهي لفظة بخارية معناها الزراع، ولد أبو عبد اللَّه في شوال سنة أربع وتسعين ومائة، روى عن ألف وثمانين شيخًا، وكانت وفاته - رحمه اللَّه تعالى - سنة ست وخمسين ومائتين.
الكتاب: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسننه وأيامه.
جمع الإمام الحافظ البخاري كتابه في الأحاديث الصحيحة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن كان الأئمة يجمعون في مؤلفاتهم بين الصحيح والحسن والضعيف وكان الحامل له على هذا العمل قوله: كنت عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم مختصراً لصحيح سنة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فوقع في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح.
وقد مكث في تأليفه ست عشرة سنة، وانتقاه من ستمائة ألف حديث.
ولئن كان الكتاب حديثياً فإنه مع هذا لم يخل من الفوائد الفقهية، فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرقها في أبواب كتابه، ففقهه يتجلى في تراجمه، ولذلك قيل: (فقه البخاري في تراجمه). وقد قسم البخاري كتابه إلى كتب والكتب إلى أبواب، فعدة كتبه (97) كتاباً وعدة أبوابه (3450) باباً.
ومما ينبغي أن يعلم أن النسخ كما اختلفت في تقديم بعض الكتب والأبواب على بعض اختلفت في اعتبار بعض الكتب أبواباً وبعض الأبواب كتباً كما يعلم ذلك من مراجعة متن البخاري المطبوع وكتب الشروح، كما أنه يقع في كثير من أبوابه أحاديث كثيرة، وفي بعضها حديث واحد، وفي بعضها آية، وبعضها لا شيء فيه ألبتة، وقد ادعى بعضهم أنه صنع ذلك عمداً، وغرضه أن يبين أنه لم يصح عنده حديث بشرطه في المعنى الذي ترجم عليه.
وقد جرى البخاري في صحيحه على تكراره لبعض الأحاديث، وتقطيعه لها، واختصارها في الأبواب المختلفة.
فأما تكراره فلمعانٍ وفوائد متعددة منها:
1 - أنه يخرج الحديث عن صحابي ثم يورده عن صحابي آخر ليخرج الحديث عن حد الغرابة.
2 - تكثير الطرق بأن يورده في كل باب من طريق غير الطريق الأولى فيزداد الحديث صحة وقوة.
3 - إزالة الشبهة عن ناقليها وذلك في الأحاديث التي يرويها بعض الرواة تامة وبعضهم مختصرة.
ومنها: أحاديث تعارض فيها الوصل والإرسال، ورجح عنده الوصل فاعتمده وأورد المرسل لينبه على عدم تأثيره.
ومنها: أحاديث تعارض فيها الوقف والرفع والحكم فيها كذلك.
ومنها: أنه ربما أورد حديثًا عنعنه راويه فيورده من طريق أخرى مصرحًا فيها بالسماع، وأما تقطيعه للحديث فللأسباب التالية:
1 - لأنه إن كان المتن قصيرًا أو مرتبطًا بعضه ببعض وقد اشتمل على حكمين فصاعدًا فإنه يعيده بحسب ذلك.
2 - إن كان المتن مشتملاً على جمل متعددة لا تعلق لإحداها بالأخرى يخرج كل جملة في باب مستقل فرارًا من التطويل وربما نشط فساقه بتمامه.
وأما اقتصاره على بعض المتن ثم لا يذكر الباقي في موضع آخر فإنه لا يقع له ذلك في الغالب إلا حيث يكون المحذوف موقوفًا على الصحابي فيقتصر بالنقل على قول صاحب الشرع لأنه موضوع كتابه.
أما المعلقات في صحيحه فمنها ما هو مرفوع ومنها ما هو موقوف، ومنها ما هو بصيغة الجزم كقال وروى، ومنها ما هو بصيغة التمريض كقيل ورُوي.
أما ثلاثيات البخاري فعدتها اثنان وعشرون حديثًا.
أما عدد أحاديثه الموصولة بلا تكرير (2602) حديثًا، وبالمكرر (7397).
أما شروحه فكثيرة أبرزها:
1 - أعلام الحديث لأبي سليمان الخطابي المتوفى (388 هـ).
2 - الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري لشمس الدين الكرماني المتوفى (786 هـ).
3 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى (852 هـ) وهو أجمل الشروح مطلقًا.
4 - عمدة القاري لبدر الدين العيني المتوفى سنة 855 هـ.
5 - إرشاد الساري إلى صحيح البخاري لشهاب الدين القسطلاني المتوفى (922 هـ).
أما أسباب النزول في هذا الكتاب فهي كثيرة وليس لها كتاب يحويها وإنما هي مفرقة بحسب ما يناسبها من الأبواب.
5 - صحيح مسلم.
المؤلف: هو الإمام الكبير الحافظ المجود أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري ولد سنة أربع ومائتين، وقد روى عن شيوخ كثر، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور عن بضع وخمسين سنة.
الكتاب: المسند الصحيح.
هو أحد الكتابين اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -، وقد بالغ مسلم في البحث والتحري عن الرجال وتمحيص المرويات وليس أدل على هذا من انتقائه لكتابه من ألوف الروايات المسموعة، روي عنه أنه قال: (صنفت هذا الحديث من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة)، وقد مكث مع بعض تلاميذه خمس عشرة سنة يكتبون ويحررون حتى أتم تأليفه.
ومن خصائص هذا الصحيح أن مؤلفه سلك فيه طريقة حسنة حيث يجمع المتون كلها بطرقها في موضع ولا يفرقها، إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك فلا بد من إعادة الحديث.
ومن هذه الخصائص التدقيق في الألفاظ والمحافظة عليها ما وسعه الأمر، حتى إذا خالف راو غيره في لفظة والمعنى واحد بيّنه، وكذا إذا قال راو حدثنا، وقال آخر أخبرنا بيّن الخلاف في ذلك، وكذا إذا تغايرت الألفاظ يقول: (واللفظ لفلان) أما التحويل: فإنه سلك مسلك الإيجاز في كتابه بالجمع بين المتفق عليه من رجال الأسانيد وذكر غير المتفق عليه من الرجال وهو ما يعرف بالتحويل وقد أكثر مسلم من هذه الطريقة ورمز إلى ذلك بحرف (ح).
ومن خصائصه أن لا يذكر في كتابه إلا الأحاديث المسندة المرفوعة، فلذلك لم يذكر مع الأحاديث المرفوعة أقوال الصحابة والتابعين.
أما التعاليق: فلم يكثر في كتابه من التعليق فليس فيه منها إلا اثنا عشر موضعاً وهي في المتابعات لا في الأصول، ثم هي موصولة من جهات صحيحة في نفس الكتاب. ومن تحريه وورعه أيضاً أنه إذا ذُكر بعض الرواة باسمه من غير نسبته أو بكنيته فإنه يبين نسبته بما يدل على أنه منه.
ولصحيح مسلم مقدمة قيمة عرض فيها لتقسيم الأخبار، وما يخرجه في صحيحه منها وأحوال الرواة، والكشف عن معايبهم، وبيان حرمة الكذب على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والحث على التثبت في الرواية، وبيان أن الإسناد من الدين إلى غير ذلك.
أما تراجم الكتاب: فينبغي أن يعلم أن مسلماً لم يضع لكتابه تراجم للأبواب وإنما جمع الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد، وأحسن من ترجم لهذه الإمام النووي.
أما عدد أحاديثه فيقال إنها أربعة آلاف حديث أصول دون المكررات.
أما شروحه: فمنها (المعلم بفوائد كتاب مسلم) لأبي عبد اللَّه محمد بن علي المازري المتوفى سنة 536 هـ.
ومنها: إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم للقاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي المتوفى سنة 544 هـ.
ومنها: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج لأبي زكريا النووي المتوفى سنة 676 هـ.
ومنها: شرح أبي الفرج عيسى بن مسعود الزواوي المتوفى سنة 744 هـ.
أما مختصراته: فمنها:
1 - مختصر الشيخ أبي عبد اللَّه شرف الدين محمد بن عبد الله المرسي المتوفى سنة 656 هـ.
2 - مختصر الشيخ الإمام أحمد بن عمر القرطبي، وله شرح على هذا المختصر سماه المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم.
3 - مختصر الإمام عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. المتوفى سنة 656 هـ.
وأما أسباب النزول في هذا الكتاب، فليست مجموعة وإِنَّمَا مفرقة وفق اختلاف الكتب التي تنتمى إليها.
6 - سنن أبي داود:
المؤلف: سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر الإمام شيخ السنة مقدم الحفاظ أبو داود الأزدي السجستاني محدث البصرة، ولد سنة اثنتين ومائتين، ورحل، وجمع، وصنف وبرع في هذا الشأن، كانت وفاته - رحمه الله - سنة خمس وسبعين ومائتين.
الكتاب: سنن أبي داود.
كانت المؤلفات في الحديث - الجوامع والمسانيد ونحوها - يذكر فيها إلى جانب الأحكام أحاديث الفضائل والقصص والمواعظ والآداب حتى جاء أبو داود فجعل كتابه خاصًا بالسنن والأحكام مع الاستيفاء والاستقصاء.
- ولم يلتزم فيه مؤلفه تخريج الصحيح فحسب بل حتى الحسن لذاته ولغيره والضعيف المحتمل، وما لم يجمع الأئمة على تركه، وأما ما فيه وهن شديد فقد بينه ونبه عليه.
وقد بيّن أبو داود طريقته في سننه وبيان درجة أحاديثها في رسالته التي كتبها إلى أهل مكة جوابًا لهم.
قال ابن القيم عن كتابه: (إنه جمع شمل أحاديث الأحكام، ورتبها أحسن ترتيب، ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، وإطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء).
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 57 الى صـ 62
الحلقة (8)
أما عدة أحاديثه فأربعة آلاف وثمان مائة حديث قسمها إلى كتب، والكتب إلى أبواب وعدة الكتب خمسة وثلاثون كتابًا منها ثلاثة كتب لم يبوب فيها أبوابًا، وعدة الأبواب واحد وسبعون وثمان مائة وألف، على أن هذا يختلف باختلاف النسخ.
أما شروحه: فمنها.
1 - معالم السنن لأبي سليمان الخطابي المتوفى سنة 388 هـ.
2 - شرح سراج الدين ابن الملقن المتوفى سنة 804 هـ فقد شرح زوائده على الصحيحين في مجلدين.
3 - شرح قطب الدين اليمني الشافعي المتوفى سنة 652 هـ في أربعة مجلدات كبار. وغيرها.
أما أسباب النزول هنا فهي مفرقة وفق مناسبات الكتب والأبواب.
7 - سنن الترمذي:
المؤلف: هو محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك الحافظ العلم البارع ابن عيسى السلمي الترمذي ولد في حدود سنة عشر ومائتين، وارتحل فسمع بخراسان والعراق والحرمين، وقد أضر في كبره بعد رحلته وكتابته العلم، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة تسع وسبعين ومائتين بترمذ.
الكتاب: جامع الترمذي.
كتاب الترمذي كبقية كتب السنن لم يلتزم فيه مؤلفه تخريج الصحيح وحده، لكنه يبين عن علته إذا كان معلولاً.
وقد التزم أن لا يخرج في كتابه إلا حديثاً عمل به فقيه أو احتج به محتج، وهذا شرط واسع، وكان من طريقته - رحمه الله - أن يترجم الباب الذي فيه حديث مشهور عن صحابي قد صح الطريق إليه، وأخرج من حديثه في الكتب الصحاح، فيورد في الباب ذلك الحكم من حديث صحابي آخر لم يخرجوه من حديثه، ولا تكون الطرق إليه كالطريق الأول وإن كان الحكم صحيحاً ثم يتبعه بأن يقول: (وفي الباب عن فلان وفلان) ويعد جماعةً فيهم ذلك الصحابي المشهور وأكثر، وقلما يسلك هذه الطريقة إلا في أبواب معدودة.
قال الذهبي عنه: (إنه يترخص في قبول الأحاديث ولا يشدد، ونَفَسُه في التضعيف رخْوٌ).
وكتاب الترمذي يتميز بأمور:
الأول: من جهة حسن الترتيب وعدم التكرار.
الثاني: من جهة ذكر مذاهب الفقهاء ووجوه الاستدلال لكل أحد من أهل المذاهب.
الثالث: من جهة بيان أنواع الحديث من الصحيح والحسن والضعيف والغريب والمعلل.
الرابع: من جهة بيان أسماء الرواة وألقابهم وكناهم ونحوها من الفوائد، وفي آخره كتاب العلل، وفيه من الفوائد الحسنة ما لا يخفى على الفطن.
وللترمذي ثلاثي واحد بينه وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة رواة.
أما شروحه فمنها:
عارضة الأحوذي على الترمذي لأبي بكر بن العربي المتوفى سنة 543 هـ.
ومنها شرح أبي الفتح محمد بن سيد الناس اليعمري الشافعي المتوفى سنة 734 هـ.
بلغ فيه نحو ثلثي الجامع ولم يتم، ثم كمله الحافظ زبن الدين العراقى المتوفى سنة 806 هـ.
ومنها: شرح الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795 هـ وغيرها كثير.
أمّا مختصراته:
فمنها مختصر الجامع لنجم الدين محمد بن عقيل الميالسي المتوفى سنة 729 هـ.
ومنها: مختصر الجامع لنجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 710 هـ.
أما أسباب النزول هنا فهي مفرقة، وعدد لا بأس به منها موجود في أبواب تفسير القرآن.
8 - سنن النَّسَائِي.
المؤلف: أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر الخراساني النَّسَائِي أبو عبد الرحمن الإمام الحافظ الثبت، ناقد الحديث، ولد بنَسَا في سنة خمس عشرة ومائتين، وطلب العلم في صغره، وكان من بحور العلم مع الفهم والإتقان ونقد الرجال، وحسن التأليف، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة ثلاث وثلاثمائة.
الكتاب: المجتبى من السنن.
ألف النَّسَائِي كتابه (المجتبى) مقتصرًا فيه على الصحيح، وذلك بعد أن أهدى كتابه (السنن الكبرى) إلى أمير الرملة، فسأله: هل كل ما فيها صحيح؟ فقال: فيها الصحيح والحسن وما يقاربها، فقال له: ميز لي الصحيح من غيره، فصنف كتابه السنن الصغرى وسماه المجتبى من السنن، وكتاب السنن مرتب على الأبواب الفقهية كبقية كتب السنن.
وكان النَّسَائِي متشددًا في نقد الرجال، مبالغًا في التحري، فمن ثم قال العلماء إن درجة السنن الصغرى بعد الصحيحين لأنها أقل السنن بعدهما ضعيفا، وليس بقليل من يفضل المجتبى على سنن أبي داود.
وسنن النَّسَائِي (المجتبى) اشتمل على الصحيح والحسن والضعيف لكنه قليل بالنسبة إلى غيره.
وأما ما ذكره بعض أهل العلم من أن كل ما في السنن صحيح فتساهل صريح وقول غير دقيق ولذا قال ابن كثير: (فيه رجال مجهولون إما عيناً وإما حالاً، وفيهم المجروح، وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة).
وهذه السنن الصغرى هي التي عدت من الأصول المعتمدة عند أهل الحديث ونقاده، وأما سننه الكبرى فكان من طريقته فيها أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه.
أما شروحه:
فمنها زهر الربى على المجتبى لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ، وهو إلى التعليق أقرب منه إلى الشرح.
ومنها: تعليق أبي الحسن السندي المتوفى 1138 هـ.
أما أسباب النزول عند النَّسَائِي ففي سننه الكبرى جمعها في كتاب التفسير، وفي المجتبى فرقها من نواحيه، ولم يضع فيه كتابًا للتفسير.
9 - سنن ابن ماجه:
المؤلف: محمد بن يزيد ابن ماجة، أبو عبد اللَّه القزويني، حافظ قزوين في عصره، ولد سنة تسع ومائتين، ارتحل إلى العراقين، ومكة والشام ومصر والري لِكَتْبِ الحديث، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
الكتاب: سنن ابن ماجه.
هذا الكتاب رابع كتب السنن المشهورة بالأربعة وقد رتبه مؤلفه على الكتب والأبواب، وقد ذكروا أن كتبه اثنان وثلاثون كتاباً، وجملة أبوابه ألف وخمسمائة باب، وجملة ما فيه أربعة آلاف حديث، وهي مرتبة ترتيباً فقهيًا، وقد بدأ كتابه بباب اتباع سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذه السنن متخلفة عن باقي السنن في الرتبة لكثرة الأحاديث الضعيفة فيها حتى قال المزي: (إن كل ما انفرد به ابن ماجه عن الخمسة فهو ضعيف).
أما شروحه: فمنها الديباجة لكمال الدين الدميري المتوفى سنة 808 هـ.
ومنها: ما تمس إليه الحاجة على سنن ابن ماجه لسراج الدين بن الملقن المتوفى سنة 804 هـ.
أما أسباب النزول عند ابن ماجه فهي قليلة كما أنها مفرقة في نواحي الكتاب.
* المصدر الثاني: كتب التفسير:
لا ريب أن كتب التفسير عمومًا، والتي تعنى بالتفسير بالمأثور خصوصًا لها النصيب الأوفى في إيراد أسباب النزول عند تفسير الآيات، ولبعض هذه المؤلفات التصاق أكبر بأسباب النزول من غيرها، وسأتناول بالتعريف ما رأيت أنه أكثر احتواءً لها.
1 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري:
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الإمام العلم، المجتهد، أبو جعفر الطبري صاحب التصانيف البديعة من أهل آمُل طبرستان، ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، وأكثر الترحال، ولقي نبلاء الرجال، وكان من أفراد الدهر علماً، وذكاءً، وكثرة تصانيف قل أن تر العيون مثله، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة عشر وثلاثمائة ببغداد.
الكتاب: جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
هذا الكتاب من أقوم كتب التفسير وأشهرها، وعليه يُعول، وإليه يرجع فهو إمام كتب التفسير بلا منازع قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير، والكلبي).
وقال عنه أيضاً: (وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرًا) اهـ.
وهذا التفسير وإن اشتُهر عنه أنه من كتب التفسير بالمأثور إلا أن مؤلفه لم يقتصر فيه على المأثور عن السلف بل كان له فيه صولة وجولة ورأي ونظر.
أما منهجه في تفسيره فإنه إذا أراد تفسير الآية يقول: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا ثم يذكر أحد المعاني في تفسيرها ثم يستشهد على ذلك بما يرويه عن السلف في ذلك المعنى، فإن كان في الآية قولان فأكثر فإنه يعرض كل قول على حدة ثم يمضي في سرد الروايات عن السلف في ذلك المعنى مسندة فإن كان للآية سبب نزول بدا به قبل غيره، وفي ذلك يقول: (وأول ما نبدأ به من القول في ذلك الإبانة عن الأسباب التي البداية بها أولى، وتقديمها قبل ما عداها أحرى).
والطبري من المكثرين من أسباب النزول، فلا تكاد تمر آية وفيها سبب نزول إلا أورده مسندًا، وبأكثر من إسناد، معزوًا لمن قاله من الصحابة والتابعين ثم يتحول بعد ذلك إلى الترجيح والتعليل.
ومن منهج الطبري أنه يفسر القرآن بالقرآن، وبالسنة، وأقوال الصحابة والتابعين وباللغة.
وله عناية فائقة في القراءات فيوردها، ويرجح بينها، وليس بغريب أن يكون كذلك لأنه من علماء القراءات المشهورين.
كما أنه يورد أقوال الفقهاء في آيات الأحكام، وينفرد أحيانًا ببعض الآراء مؤيدًا قوله بالدليل.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 63 الى صـ 67
الحلقة (9)
ومن منهجه مناقشة المسائل النحوية بعد إيرادها والأقوال فيها، وكثيرًا ما يورد الأعاريب في مواضع من الآيات ويستشهد لما يذهب إليه بالشعر الجاهلي والإسلامي، ولتفسير الطبري مزايا، وعليه مآخذ.
فمن مزاياه:
1 - الالتزام بأحسن طرق التفسير من تفسير القرآن بالقرآن، وبالسنة وبأقوال الصحابة والتابعين، وتابعيهم.
2 - جمع أقوال أعلام المفسرين من السلف والاحتفاظ بخلاصة تفاسير مأثورة سابقة، فقدت، وضاعت أصولها.
3 - ذكر أسانيد الروايات المأثورة ولو تعددت طرقها، وهذا ضروري للحكم على هذه الأحاديث، ولو لم يذكر الأسانيد ما أمكن ذلك.
4 - جمعه بين الأثر والنظر، والمنقول والمعقول.
5 - ذكر أقوال المخالفين وأدلتهم، وهذا من الإنصاف والموضوعية.
6 - ترجيح الراجح من الأقوال في تفسير الآية، وذكر أسباب الترجيح، وعدم ترك القارئ حيران في متاهات الاختلاف.
7 - تقرير قواعد وأسس التفسير المنهجية، سواءً في بداية تفسيره أم في أثنائه.
أما المآخذ عليه فمنها:
1 - عدم نقد الروايات والطرق والأسانيد التي يوردها، وعدم الحكم عليها.
2 - الخوض في (مبهمات القرآن) ومحاولة تفسيرها من الإسرائيليات التي لم تصح.
3 - عدم إسناد القراءات إلى أصحابها من القراء المشهورين وعدم التمييز بين الصحيح والشاذ.
4 - وجود الجمل الكثيرة المعترضة في الصياغة مما يكلف القارئ (في) إعادة الضمائر في الجمل، وربط الجمل بعضها ببعض.
2 - تفسير ابن أبي حاتم:
المؤلف: عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي الغطفاني من تميم بن حنظلة بن يربوع، وقيل عرف بالحنظلي لأن أباه كان يسكن في درب حنظلة بمدينة الري، العلامة الحافظ، يكنى أبا محمد، ولد سنة أربعين أو إحدى وأربعين ومائتين، كان بحرًا في العلوم، ومعرفة الرجال وكان زاهداً يعد من الأبدال، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالري، وله بضع وثمانون سنة.
الكتاب: تفسير القرآن العظيم مسنداً عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة والتابعين.
وكان الحامل للمؤلف على تأليف الكتاب أن جماعة من إخوانه سألوه أن يخرج تفسيراً للقرآن مختصراً بأصح الأسانيد، مع حذف الطرق، والشواهد، والحروف، والروايات، وتنزيل السور، وأن يخرج التفسير مجردًا، مع تقصي كل حرف من القرآن له تفسير.
فأجابهم إلى طلبهم، وتحرى إخراج ذلك بأصح الأخبار إسنادًا، وأشبهها متنًا، فإذا وجد التفسير عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر معه أحداً من الصحابة (ممن) أتى بمثل ذلك، وإذا وجده عن الصحابة، فإن كانوا متفقين ذكره عن أعلاهم درجة بأصح الأسانيد، وسمى موافقيهم بحذف الإسناد.
وإن كانوا مختلفين، ذكر اختلافهم، وذكر لكل واحد منهم إسناداً، وسمى موافقيهم بحذف الإسناد، فإن لم يجد عن الصحابة، ووجده عن التابعين، عمل فيه مثل ما عمل في الصحابة، وكذا الأمر في أتباع التابعين وأتباعهم.
وهذا الكتاب قد تميز بأمور:
1 - أنه جمع بين دفتيه تفسير الكتاب بالسنة وآثار الصحابة والتابعين بالإسناد.
2 - أنه ذكر روايات كثيرة لا توجد عند غيره، وبأسانيده هو.
3 - أنه حفظ لنا كثيرًا من التفاسير المفقودة مثل تفسير سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان وغيرهما.
4 - أنه مصدر أصيل معتمد لدى جمهور علماء التفسير في كل العصور بعده، ولهذا نجد معظم التفاسير تنقل عنه كثيرًا من الآثار والروايات التي سردها.
أما أسباب النزول فهي كثيرة في تفسيره، فإن ذكر آية لها سبب ذكره ضمن الروايات فيها.
3 - تفسير الثعلبي:
المؤلف: هو العلامة، أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري، كان أحد أوعية العلم، كان صادقاً موثقًا، بصيرًا بالعربية، طويل الباع في الوعظ، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
الكتاب: الكشف والبيان عن تفسير القرآن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا التفسير: (فيه فوائد جليلة، وفيه غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها، والثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليدًا لغيره) اهـ.
وقد ذكر المؤلف الحامل له على التأليف وهو أنه لم يجد في كتب من سبقه كتاباً جامعًا مهذبًا يعتمد عليه، ثم ذكر ما كان من رغبة الناس إليه في إخراج كتاب في تفسير القرآن، فأجاب طلبهم رعاية لحقهم، وتقرباً إلى الله تعالى.
وقد بدأ تفسيره بمقدمة ألقى فيها الضوء عليه، وأبان عن منهجه وطريقته فيه، كما ذكر في أول كتابه أسانيده إلى من يروي عنهم التفسير من علماء السلف مكتفياً بذلك عن تكرارها في ثنايا الكتاب، كما ذكر أسانيده إلى مصنفات أهل عصره، ومنها كتب الغريب، والمشكل، والقراءات، ثم ذكر بابًا في (فضل) القرآن وأهله، وبابًا في معنى التفسير والتأويل.
كما أن له عناية في اللغة وأصولها، وتصاريفها ويستشهد على قوله بشعر العرب، وكان يتوسع في الأحكام الفقهية، وخصوصًا مذهب الشافعي.
كما كان مولعاً بالأخبار والقصص ولهذا يتوسع في ذكر الإسرائيليات بدون تعقب أو تنبيه كما كان ينقل ما وجد في كتب التفسير حتى من الموضوعات، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع) اهـ.
وكان يذكر القراءات في الآية ويعتني بتوجيهها، والاستدلال لها.
أما أسباب النزول فكان يعتني بسردها، دون عزو أو إسناد كما أنه لا يتعقبها بالتعليق.
4 - تفسير البغوي:
المؤلف: الإمام العلامة أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي المفسر، كان زاهداً قانعاً باليسير، وكان أبوه يعمل الفراء ويبيعها، كانت وفاته - رحمه الله - في مرو الروذ من مدائن خراسان سنة ست عشرة وخمسمائة، وعاش بضعًا وسبعين سنة.
الكتاب: معالم التنزيل:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (تفسير البغوي مختصر من تفسير الثعلبي، وحذف منه الأحاديث الموضوعة، والبدع التي فيه وحذف أشياء غير ذلك) اهـ.
أما منهجه في كتابه فإنه يعتمد على تفسير القرآن بالقرآن، وبالسنة، وبأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
أما الأحاديث الموضوعة فقد نفاها من كتابه، وكذلك البدع التي ملأ الثعلبي بها كتابه.
أما أحاديث بني إسرائيل فقد اجتنب أكثرها لكنه مع ذلك روى بعضها، وهي في تفسيره أقل من غيره.
كما أن عنايته باللغة والنحو عناية يسيرة سريعة، وإن عرضها كان عرضه إياها موجزًا ومختصرًا.
أما القراءات فله حظ فيها، فكان يفصل فيها، ويبسطها، ويذكر الفرق بين القراءتين.
وكان يذكر المسائل الفقهية، ويعتني بها، ولعل ذلك يعود لكونه من فقهاء الشافعية.
وكان يبين في أوائل السور المكي والمدني، ويعتمد في ذلك على المأثور، وأحيانًا يرجح ويختار، وأحيانًا يدع الأمر مرسلاً بلا تحديد.
أما أسباب النزول فله بها عناية لاعتماده على المأثور في التفسير، مع ما للأسباب من أثر بيِّن في بيان المعنى، وهي كثيرة في تفسيره.
وبالجملة فكتاب البغوي يغلب عليه النقل، ويقل فيه الترجيح والنقد.
5 - تفسير ابن كثير:
المؤلف: الحافظ الكبير عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن زرع البصري ثم الدمشقي، الفقيه، الشافعي، ولد بقرية من أعمال بُصرى سنة سبعمائة، وقيل إحدى وسبعمائة، ثم انتقل إلى دمشق سنة ست وسبعمائة، برع في الفقه والتفسير والنحو، وأمعن النظر في الرجال والعلل، وكان كثير الاستحضار، قليل النسيان، جيد الفهم، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة أربع وسبعين وسبعمائة.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 68 الى صـ 72
الحلقة (10)
الكتاب: تفسير القرآن العظيم.
هذا الكتاب من أنفع كتب التفسير، وأكثرها شيوعًا، وهو يعد من كتب التفسير بالمأثور.
وقد كان مؤلفه يعتمد في تفسيره طريقة ابن جرير الطبري حيث يفسر القرآن بالقرآن، وبالسنة، وأقوال الصحابة والتابعين.
وكان له عناية بدراسة المسائل الفقهية لكن على نحو معتدل بعيدًا عن المبالغة والتقصير.
كما كان له عناية بالأحداث التاريخية التي تناولها القرآن بالحديث عنها، وهذا ليس بغريب إذا علمنا أن مؤلفه البداية والنهاية يعد من المراجع التاريخية، أما الإسرائيليات فقد كان يكثر منها في تفسيره، وكثيرًا ما كان يتعقبها وينهج في ذلك ما أذن الشارع في نقله منها مما لا يخالف كتابًا ولا سنة.
أما أسباب النزول فهي كثيرة في تفسيره، وأحيانًا يحرر القول في متونها وأسانيدها وأحيانًا أخرى يرويها ولا يتعقبها بشيء.
وكان اهتمامه باللغة في تفسير القرآن ودلالاتها، محدودًا.
ومن مميزات هذا التفسير ما يلي:
1 - اختار أن يفسر القرآن بالمأثور وهذه الطريقة من أحسن الطرق في التفسير.
2 - سلامة المعتقد في باب الأسماء والصفات، فقد خلا تفسيره من البدع.
3 - عنايته بنقد الأسانيد، وهذا قليل وجوده في كتب التفسير.
4 - عدم استطراده في المباحث التي لا تمس التفسير.
أما أبرز المآخذ فمنها:
1 - أنه حفل بالكثير من الإسرائيليات.
2 - أنه يحشد أعدادًا كبيرة من الأحاديث بأسانيدها في المعنى الواحد وهذا يبلبل القارئ.
6 - الدر المنثور للسيوطي:
المؤلف: الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق السيوطي الشافعي، صاحب التصانيف، ولد سنة تسع وأربعين وثمانمائة.
سمع الحديث من جماعة، وأجازه أكابر علماء عصره، وبرز في جميع الفنون وفاق الأقران، واشتهر ذكره، وبعُدَ صيته، وكانت وفاته سنة إحدى عشرة وتسعمائة.
الكتاب: الدر المنثور في التفسير بالمأثور.
هذا الكتاب اختصره المؤلف من كتاب آخر أوسع منه وهو (ترجمان القرآن) ساق فيه التفسير بالأسانيد، فلما رأى الهمم عن تحصيله قاصرة والرغبة في الاقتصار على متون الأحاديث وافرة لخصه في كتابه الدر المنثور، وهذا الكتاب يحوي بين دفتيه الروايات المأثورة من كتب الحديث الصحاح، والسنن، والمسانيد، والمصنفات، وكتب التفسير.
ولم يقتصر كتابه على الصحيح من الروايات بل أورد فيه الضعيف والموضوع والإسرائيليات.
وأما أسباب النزول في كتابه فهي كثيرة ضرورة كثرة المرويات، لكنها بحاجة إلى دراسة نقدية في أسانيدها ومتونها واللَّه أعلم.
* ثالثاً: المصادر المستقلة:
وأعني بها المصادر التي أفردت أسباب النزول بالتناول، وهي كثيرة إلا أني سأقتصر في التعريف على كتابين يعدان من أشهرها، وأكثرها تداولاً بين أهل التخصص وهما:
1 - أسباب النزول للواحدي:
المؤلف: الإمام أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي النيسابوري، الشافعي، صاحب التفسير، صنف التفاسير الثلاثة: - البسيط، والوسيط، والوجيز.
تصدر للتدريس مدة، وعظم شأنه، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة ثمان وستين وأربعمائة.
الكتاب: أسباب النزول:
قدم الواحدي كتابه بمقدمة بيَّن فيها أهمية علوم القرآن، والآثار الدالة على جواز تفسيره، وكيف نزل ابتداءً، وأول وآخر ما نزل ثم تكلم عن كل آية لها سبب منقول، ومن منهجه:
أنه رتب الآيات على ترتيب المصحف إلا في مواضع نادرة، كما أنه يذكر اسم السورة، وبعد ذكر الآية يتبعها بذكر السبب أو الأسباب، وأحيانًا يذكر السبب بدون ذكر الآية قبله، وأحيانًا يذكر الخلاف في سبب نزول الآية، وقد يعدد الروايات للسبب الواحد، كما أنه أحيانًا يذكر الحديث المتصل والمرسل بالسند، وأحيانًا بغير سند، لكن إسناده للمتصل أكثر من إسناده للمرسل.
أما إسناده القول للمفسرين فتارة يقول قال المفسرون، أو قال أكثر المفسرين أو قال أهل التفسير، أو عند أكثر المفسرين نزلت في كذا، ونحو هذا، وأحيانًا لا يعين المفسرين، بل يقول قال آخرون، وقال قوم، يروى، روي، ومن الكثير عنده أنه لا ينسب السبب لقائله.
كما أنه في بعض المواضع يبين معاني الآيات، كما أنه قد يذكر بعض الفوائد في معاني الأحاديث، وقد يذكر الآية، ويبين معناها من غير ذكر سبب نزولها وقد يعقب على ذكر الحديث الذي رواه بسنده فيقول رواه البخاري أو مسلم أو الحاكم عن فلان.
كما أنه يذكر بعض الروايات على أنها أسباب نزول وليست كذلك.
2 - لباب النقول في أسباب النزول:
المؤلف: تقدم التعريف به.
الكتاب:
هذا الكتاب يعد من الكتب الرئيسة في علم أسباب النزول، فقد حوى منها شيئاً كثيراً، واستفاد مؤلفه من كتاب الواحدي الذي سبقه في اقتناص محاسنه وزاد عليها من عنده ومن ذلك:
أ - أنه حفظ في كتابه نصوصًا من كتب مفقودة، فكتابه فيها مرجع أصيل.
ب - حكمه على بعض الأحاديث والآثار بالصحة أو الضعف أو غيرهما.
جـ - نقله لأقوال العلماء في الحكم على بعض الأحاديث والآثار.
د - ذكره لطريق الحديث والأثر مما يعين على الحكم على السبب خاصة إذا كان الكتاب مفقودًا.
هـ - ذكره عدة أسباب لنزول الآية، ومحاولة الجمع بينها.
وتعقيبه على بعض الأقوال العلمية.
ز - ترجيحه واختياره لبعض الأسباب دون بعضها.
حـ - تحديده لظروف نزول الآية هل هي مكية أو مدنية ليلية أو نهارية.
أما ما يلاحظ على كتابه فالآتي:
أ - أنه لم يستوعب جميع الآيات التي ورد فيها سبب نزول.
ب - أنه ذكر بعض الأحاديث والآثار الضعيفة مع أنه أشار في مقدمة كتابه إلى عدم ذكر ذلك.
جـ - في مواضع نادرة لا يرتب الآيات كترتيب المصحف.
المبحث الخامس
بواعث الخطأ في أسباب النزول
من رحمة اللَّه بهذه الأمة حفظه لكتابها الذي لا يقوم دينها إلا به، وصيانته من التحريف والتبديل الذي نال كثيراً من الكتب السماوية السابقة فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، بل زاد على ذلك أن صانه من الاختلاف والتناقض فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)، فتمت بذلك كلمة ربك صدقاً وعدلاً أن الاختلاف واقع ولا بد إلا من المعصوم - صلوات الله وسلامه عليه - كما قال عنه ربه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)، وإن نظرةً في العلوم عامةً على اختلاف مشاربها، وتنوع مصادرها تجد فيها اختلافاً كثيرًا، فما كان بالأمس من النظريات ثابتًا قائماً لا يجوز تكذيبه، أصبح اليوم نائمًا لا يجوز تصديقه، وما كان في السابق من الظنيات أصبح في الحاضر من الحقائق المسلّمات.
وليست علوم الشريعة بجميع تخصصاتها بلا استثناء سِلْمَا من هذا فقد نالها حظها ونصيبها من الاختلاف، إلا أن ما يميز تلك العلوم عن غيرها ثبوت الأصلين شامخين معصومين من الخطأ والزلل، كتاب الله، وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما يفتح الباب واسعًا لكل من ينشد التحقيق والتدقيق في تحرير المسائل وتصويبها إن استمسك بغرز هذين الأصلين.
وإن علوم التفسير عامة، وأسباب النزول على وجه الخصوص قد أصابها ما أصابها من ذلك، فتجد من يقول: سبب نزول الآية كذا، وآخر يقول: هذا لا يصح أن يكون سببًا لها، وآخر يذكر حدثًا ثم يقول: فأنزل الله، وآخر يذكر القصة نفسها ثم يقول: فتلا عليه، أو يقول: فذلك قوله تعالى.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 73 الى صـ 77
الحلقة (11)
ومنهم من يقول: نزلت هذه الآية بمكة، وآخر يقول: بل نزلت في المدينة، وثالث يقول: بل نزلت مرتين.
اختلاف وتباين يجعل الحليم حيرانًا، يقرأ وينظر لكنه لم يستفد إلا بلبلة الفكر وتشتت الذهن.
وقد حاولت في هذا المبحث جمع الأسباب التي قادت إلى الوقوع في الخطأ وحصرها مع التمثيل لكل منها بعدد من الأمثلة ليتبين للناظر حقيقة الأمر بدليله.
وإني أعتقد جازماً أن هذا المبحث ثمرة حسنة من ثمار البحث لأمرين:
أولاً: أن العلم بسبب الخطأ سبب للوقاية منه، وقد قيل: من لا يعرف الشوك لا يتقيه.
ثانياً: الوقوف على القواعد المعتبرة، والضوابط المقررة في تحديد سبب النزول من غيره، وإن العلم بالخطأ يورث العلم بالصواب، وقد قيل: وبضدها تتميز الأشياء.
وقد تبين لي بعد التتبع والاستقراء أن البواعث الرئيسة على الخطأ تنحصر في خمسة يندرج تحتها صور متعددة، وأقسام متنوعة، سأذكر تحت كل قسم خمسة أمثلة، وأُحيل في الحاشية إلى المواضع الأخرى.
السبب الأول: أن تقع المخالفة بين سبب النزول وآيات القرآن باعتبار التاريخ وهو قسمان:
أ - أن تقع المخالفة بين ما نزل قبل الهجرة أو بعدها. وإليك الأمثلة:
1 - أخرج ابن ماجه عن خباب - رضي الله عنه- في قوله: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) - إلى قوله -: (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول - النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقروهم، فأتوه، فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسًا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: (نعم) قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، قال: فدعا بصحيفة، ودعا علياً ليكتب، ونحن قعود في ناحية فنزل جبرائيل - عليه السلام - فقال: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ .... ). مختصراً.
قال ابن عطية: (وهذا تأويل بعيد في نزول الآية لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم يفدوا إلا في المدينة، وقد يمكن أن يقع هذا القول منهم، لكنه إن كان وقع فبعد نزول الآية بمدة) اهـ.
وقال ابن كثير: (وهذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر). اهـ.
2 - أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33).
وقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبَّاسٍ: سورة الأنفال. قال: نزلت في بدر وقال ابن عاشور: (وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر. قال ابن إسحاق: أُنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها). اهـ.
وجه المخالفة: أن سورة الأنفال بالاتفاق نزلت بعد الهجرة، وأن دعاء أبي جهل كان بمكة لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وإنما كان فيهم قبل الهجرة.
3 - أخرج الترمذي عن ابن أخي عبد اللَّه بن سلام قال: لما أُريد عثمان جاء عبد اللَّه بن سلام، فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرتك، قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارجٌ خير لي منك داخل، فخرج عبد اللَّه إلى الناس، فقال: أيها الناس، إنه كان اسمي في الجاهلية فلان، فسماني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد اللَّه، ونزلت فيَّ آيات من كتاب اللَّه، نزلت فيَّ: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ .. ) ونزلت فيَّ: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43).
قال القرطبي: (وكيف يكون عبد اللَّه بن سلام، وهذه السورة مكية، وابن سلام ما أسلم إلا بالمدينة؟).
وقال ابن كثير: (قيل: نزلت في عبد اللَّه بن سلام. قاله مجاهد، وهذا القول غريب لأن هذه الآية مكية، وعبد اللَّه بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة).
وقال ابن عاشور: (وقيل: أُريد به عبد اللَّه بن سلام، الذي آمن بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول مقدمه المدينة، ويبعده أن السورة مكية).
والآية المقصودة هنا آية سورة الرعد.
4 - أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن آثاركم تكتب فلا تنتقلوا).
قال ابن عطية: (وهذه السورة مكية بإجماع إلا أن فرقة قالت: إن قوله: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) نزلت في بني سلمة، وليس الأمر كذلك إنما نزلت الآية بمكة ولكنه احتج بها عليهم في المدينة). اهـ. باختصار.
وقال ابن كثير عن هذا الحديث: (وفيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية، والسورة بكمالها مكية فاللَّه أعلم). اهـ.
وقال ابن عاشور: (وتوهم راوي الحديث أن هذه الآية نزلت في ذلك وسياق الآية يخالفه، ومكيتها تنافيه). اهـ.
5 - أخرج أحمد والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: مر يهودي برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو جالس، قال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السماء على ذِه وأشار بالسبابة، والأرض على ذِه، والجبال على ذِه، وسائر الخلق على ذِه؟ كل ذلك يشير بأصابعه، قال: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
قال ابن عطية: (فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تمثل بالآية وقد كانت نزلت). اهـ.
وقال ابن عاشورة (وهو وهم من بعض رواته، وكيف وهذه مكية، وقصة الحبر مدنية). اهـ.
ب - أن تقع المخالفة فيما نزل بعد الهجرة كان في أولها أم في آخرها وإليك الأمثلة:
1 - أخرج مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر، ويرفع رأسه (سمع اللَّه لمن حمده ربنا ولك الحمد) ثم يقول وهو قائم: (اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم كسني يوسف، اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان وعصية عصت الله ورسوله) ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أُنزل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128).
وجه المخالفة: أن قصة رعل، ولحيان، وذكوان وعصية كانت لما قُتل القراء في بئر معونة وذلك في صفر من السنة الرابعة، والآية فى سياق غزوة أحد، فكيف يتقدم النزول على السبب؟
2 - أخرج أبو داود والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: نزلت هذه الآية: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ .. ) الآية.
أفاد ابن عاشور أن هذا الحديث لا يصح أن يكون سبباً لنزول الآية، إذ كيف تفقد القطيفة يوم بدر، ولا تنزل الآية لأجل هذا إلا يوم أحد مع أن بين الغزوتين سنة وشهرًا.
3 - أخرج البخاري وأحمد عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت:كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - احجب نساءك قالت: فلم يفعل، وكان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرجن ليلا إلى ليل قبل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس. فقال: عرفناك يا سودة، حرصا على أن ينزل الحجاب، قالت: فأنزل الله - عز وجل - آية الحجاب.
قال ابن كثير عن هذا الحديث: (المشهور في قصة سودة أنها كانت بعد نزول الحجاب). اهـ. وإذا كان كذلك فكيف تكون القصة سبب نزول الآية ولم تقع إلا بعدها.
4 - أخرج البخاري وأحمد عن المسور بن مخرمة ومروان في قصة الحديبية قالا: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية حتى كانوا ببعض الطريق فذكر الحديث ... إلى أن قالا: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده بالله والرحم: لما أرسل: فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فأنزل الله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ... ).
قال ابن حجر: (ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، وفيه نظر، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك أيضا وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بسند صحيح أنها نزلت بسبب القوم من قريش الذين أرادوا أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، فعفا عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية). اهـ. وهذا كان في الحديبية، وقصة أبي بصير بعد الحديبية.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 78 الى صـ 82
الحلقة (12)
5 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وركب حمارا، فانطلق المسلمون يمشون معه، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها أنزلت: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما).
قال ابن عاشور: (ويناكد هذا - أي القول بأنها سبب النزول - أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة). اهـ. مختصرا.
ومن هنا نعلم أنه من رام السلامة من الخطأ في تحديد السبب فلا بد له من معرفة وقت النزول ووقت السبب.
السبب الثاني: أن تقع المخالفة بين سبب النزول وآيات القرآن باعتبار السياق وهو ثلاثة أقسام:
أ - أن يقع الاختلاف بينهما في الألفاظ وإليك الأمثلة:
1 - أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء فنزلت هذه الآية التي في البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير) قال: فدعي عمر فقرئت عليه.
بيان مخالفة السبب للآية من وجهين:
الأول: أن الآية فيها السؤال عن الخمر والميسر جميعا، بينما حديث عمر فيه الدعاء بالبيان عن الخمر فقط.
الثاني: أن الله قال في الآية: (يسألونك) وعمر لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدل على هذا لفظ الحديث، وإنما فيه أنه دعا الله، وفرق بين دعاء الله وسؤال رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
2 - أخرج الترمذي عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن رجلا عض يد رجل فنزع يده، فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك) فأنزل الله: (والجروح قصاص).
وجه المخالفة هنا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى حقه في الدية فكيف يكون له قصاص مع أن شأن القصاص أعظم وأكبر ثم يقال: فأنزل الله: (والجروح قصاص). اهـ.
3 - أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: نزلت في أربع آيات أصبت سيفا فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله نفلنيه: فقال: (ضعه) ثم قام، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ضعه من حيث أخذته) ثم قام، فقال: نفلنيه يا رسول الله فقال: (ضعه) فقام فقال: يا رسول الله نفلنيه. أأجعل كمن لا غناء له؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ضعه من حيث أخذته) قال: فنزلت هذه الآية: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول).
قال أبو العباس القرطبي عن حديث سعد: (يقتضي أن يكون ثم سؤال عن حكم الأنفال، ولم يكن هنالك سؤال عن ذلك على ما يقتضيه هذا الحديث). اهـ. فالذي وقع في حديث سعد أنه سأل نفلا وفرق بين من يسأل عن الشيء وبين من يسأل الشيء، فالأول مستفهم والثاني يريد العطاء.
4 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت أو سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك) قلت: ثم أي؟ قال: (ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) قلت: ثم أي؟ قال: (أن تزاني بحليلة جارك) قال: ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) فالفرق بين الآية وحديث ابن مسعود أن الحديث حصر القتل في الولد خشية الطعام وحصر الزنا بحليلة الجار وهذا الحصر لا يوافق العموم في الآية. اهـ.
5 - أخرج البخاري ومسلم وأحمد والنسائي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: إن قريشا لما استعصت على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجدب وحتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ... فذكر الحديث حتى قال فأنزل الله: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10). باختصار.
قال ابن كثير عن الآية: (أي بين واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسر به ابن مسعود إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، وهكذا قوله تعالى: (يغشى الناس) أي يتغشاهم ويعميهم ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه (يغشى الناس). اهـ.
وقال أبو العباس القرطبي: (لا شك في أن تسمية هذا دخانا تجوز، وحقيقة الدخان ما ذكر في حديث أبي سعيد). اهـ.
ب - أن يقع الاختلاف بينهما في المقصود بالخطاب وإليك الأمثلة:
1 - أخرج الإمام أحمد والنسائي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: أخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة. قال: (أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم) قال: وأنزل هؤلاء الآيات: (ليسوا سواء من أهل الكتاب) - حتى بلغ - (والله عليم بالمتقين).
وجه المخالفة: أن القول بالنزول يقتضي نفي المساواة بين الذين آمنوا من هذه الأمة وبين أهل الكتاب.
بينما اتفق المفسرون على أن الآية تنفي المساواة بين مؤمني أهل الكتاب وكافريهم قال ابن العربي: (وقد اتفق المفسرون أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب وعليه يدل ظاهر القرآن، ومفتتح الكلام نفي المساواة بين من أسلم منهم وبين من بقي منهم على الكفر). اهـ.
وقال ابن عاشور: (استئناف قصد به إنصاف طائفة من أهل الكتاب بعد الحكم على معظمهم بصيغة تعمهم تأكيدا لما أفاده قوله: (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون).
2 - أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) - إلى قوله - (غفور رحيم) نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.
وجه المخالفة: أن الله قال في آيات الحرابة: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) والحديث يقتضي المؤاخذة إذا تاب المحارب قبل القدرة.
قال القرطبي: (وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم). اهـ. فإذا كان الإجماع منعقدا على قبول توبة المشرك بعد القدرة فقبلها من باب أولى.
3 - أخرج النسائي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو بلعم، وقال نزلت في أمية.
وجه المخالفة: أن الله قال عن المذكور: (آتيناه آياتنا) فكيف لأمية بن أبي الصلت أن تأتيه الآيات.
4 - أخرج البخاري عن محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عباس قرأ: (ألا إنهم تثنوني صدورهم) قلت: يا أبا العباس ما تثنوني صدورهم؟ قال: كان الرجل يجامع امرأته فيستحي أو يتخلى فيستحي فنزلت: (ألا إنهم تثنوني صدورهم).
قال ابن عاشور بعد ذكر السبب: (وهذا التفسير لا يناسب موقع الآية ولا اتساق الضمائر. فلعل مراد ابن عباس أن الآية تنطبق على صنيع هؤلاء وليس فعلهم هو سبب نزولها). اهـ.
وهذا ظاهر لأن الآية تتحدث عن المذكورين حديث ذم وقدح، بينما المذكورون في الحديث أهل للثناء والمدح.
5 - أخرج الدارمي عن يحيى بن جعدة قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتف فيه كتاب، فقال: كفى بقوم ضلالا أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به نبي غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم فأنزل الله - عز وجل -: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب).
وجه المخالفة بين الآية والحديث: أن الله قال قبل هذه الآية: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين (50) وقال بعدها: (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون) فالضمير في (يكفهم) يعود على الكافرين القائلين: (لولا أنزل عليه آيات من ربه).
والحديث يقتضي أن عدم الاكتفاء واقع من بعض المؤمنين.
جـ - أن يقع الاختلاف بينهما في أصل الموضوع وإليك الأمثلة:
1 - أخرج ابن ماجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة، وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة فنزلت: (من أوسط ما تطعمون أهليكم).
وجه المخالفة: أن حديث الآية عن الكفارة حين يحنث الحالف في يمينه، بينما السبب يدور على القوت والإنفاق وفرق كبير بين هذين.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 83 الى صـ 87
الحلقة (13)
2 - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فكان بعض القوم يستقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف الآخر، فماذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل اللَّه في شأنها: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِ ينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِ ينَ).
قال الطبري: (وأولى الأقوال بالصحة قول من قال معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدم موته ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم لدلالة ما قبله من الكلام وهو قوله: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) وما بعده وهو قوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ). اهـ. بتصرف.
وقال ابن عاشور عن الحديث: (وهو خبر واهٍ لا يلاقي انتظام هذه الآيات ولا يكون إلا من التفاسير الضعيفة). اهـ. باختصار.
3 - أخرج البخاري ومالك ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها -: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) أنزلت في الدعاء.
وجه المخالفة هنا: أن اللَّه نهى عن المخافتة بالصلاة في الآية، ولو كان المراد بالصلاة الدعاء لما نهى عن المخافتة لأن هذا هو الأصل في الدعاء لقوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً).
4 - أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت بنو سلِمة في ناحية المدينة فأرادوا النُّقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إدْ آثاركم تكتب فلا تنتقلوا).
وجه المخالفة: أن حديث الآية عن الموتى لقوله: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى) بينما الحديث في الأحياء، فكيف تنزل بسببه.
قال ابن عطية: (ووافقها - أي الآية - قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المعنى فمن هنا قال منْ قال: إنها نزلت في بني سلمة) والمراد بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (دياركم تكتب آثاركم).
5 - أخرج الترمذي عن يوسف بن سعد قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال: سودت وجوه المؤمنين، أو يا مسوِّد وجوه المؤمنين فقال: لا تؤنبني - رحمك الله - فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك فنزلت: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) يا محمد، يعني نهرًا في الجنة، ونزلت: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)، يملكها بعدك بنو أُمية يا محمد. قال القاسم: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يومًا ولا تنقص.
قال ابن كثير: (ومما يدل على ضعف هذا الحديث أنه سيق لذم بني أمية، ولو أُريد ذلك لم يكن بهذا السياق، فإن تفضيل ليلة القدر على أيامهم، لا يدل على ذم أيامهم فإن ليلة القدر شريفة جدًا، والسورة الكريمة إنما جاءت لمدح ليلة القدر فكيف تمدح بتفضيلها على أيام بني أُمية التي هي مذمومة بمقتضى هذا الحديث.
والسورة مكية فكيف يحال على ألف شهر هي دولة بني أُمية ولا يدل عليها لفظ الآية ولا معناها، والمنبر إنما صنع بالمدينة بعد مدة من الهجرة فهذا كله مما يدل على ضعف الحديث ونكارته واللَّه أعلم). اهـ. بتصرف.
وقال ابن عاشور: (وهو مختل المعنى وسمات الوضع لائحة عليه وهو من وضع أهل النحل المخالفة للجماعة). اهـ. باختصار.
ومن هنا يمكن القول أنه لا بد لاستقامة السبب وقبوله أن يوافق الآية في اللفظ، والخطاب، وأصل الموضوع.
السبب الثالث: وقوع الخطأ في الإسناد وهو أقسام:
أ - أن يكون السبب ضعيف الإسناد وإليك الأمثلة:
1 - أخرج الترمذي وابن ماجه عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مظلمة فلم ندرِ أين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
هذا الحديث مداره على عاصم بن عبيد اللَّه العمري، وقد قال أبو حاتم، وأبو زرعة والبخاري: (منكر الحديث، زاد أبو حاتم: مضطرب الحديث ليس له حديث يعتمد عليه). اهـ.
2 - أخرج النَّسَائِي عن عبد اللَّه بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رجلاً أتى امرأته في دبرها في عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد من ذلك وجدًا شديدًا فأنزل اللَّه تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).
ظاهر هذا الإسناد الصحة ولكنه ليس كذلك فقد نص أبو حاتم الرازي على علته وأن الأصح في سنده هو ما رواه عبد اللَّه بن نافع الصائغ عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال ابنه ما نصه: (قال أبي: هذا أشبه - أي كونه من حديث أبي سعيد - وهذا أيضاً منكر، وهو أشبه من حديث ابن عمر لأن الناس أقبلوا قِبل نافع فيما حكى عن ابن عمر في قوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) في الرخصةِ، فلو كان عند زيد بن أسلم عن ابن عمر لكانوا لا يولعون بنافع، وأول ما رأيت حديث ابن عبد الحكم استغربناه ثم تبين لي علته).
3 - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فكان بعض القوم يستقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل اللَّه في شأنها: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِ ينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِ ينَ (24).
قال ابن كثير: (وهذا الحديث فيه نكارة شديدة، فالظاهر أنه من كلام أبى الجوزاء). اهـ. مختصرًا.
ومدار الحديث على عمرو بن مالك النكري لم يوثقه أحد من ذوي الشأن باستثناء ابن حبان ومع ذلك فقد قال: (يخطئ ويغرب).
4 - أخرج الترمذي عن أبي أُمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:(لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام)، في مثل هذا أُنزلت هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
وإسناد هذا الحديث يدور على عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن.
قال الدارقطني: (عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد نسخة باطلة).
وقال ابن حبان: (وإذا روى ابن زحر عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسنادٍ خبر عبيد اللَّه بن زحر، وعلي بن يزيد، والقاسم بن عبد الرحمن لا يكون متن ذلك الخبر إلا مما عملت أيديهم فلا يحل الاحتجاج بهذه الصحيفة). اهـ. مختصراً.
5 - أخرج الترمذي عن يوسف بن سعد قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال: سودت وجوه المؤمنين، أو يا مسود وجوه المؤمنين فقال: لا تؤنبني - رحمك اللَّه - فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك فنزلت: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) يا محمد يعني: نهرًا في الجنة ونزلت: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)، يملكها بعدك بنو أُمية يا محمد. قال القاسم: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يومًا ولا تنقص.
قال ابن كثير: (ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جداً قال شيخنا الإمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي: هو حديث منكر ... ثم ذكر كلامًا حتى قال: فهذا كله مما يدل على ضعف الحديث ونكارته والله أعلم). اهـ. باختصار.
وقال ابن عاشور: (واتفق حذاق العلماء على أنه حديث منكر صرح بذلك ابن كثير وذكره عن شيخه المزي، وأقول: هو مختل المعنى، وسمات الوضع لائحة عليه). اهـ. باختصار.
ب - أن يكون أصل الحديث صحيحاً وفيه علة إسنادية خفية وإليك الأمثلة:
1 - أخرج مسلم وأحمد والبخاري والدارمي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ويرفع رأسه (سمع اللَّه لمن حمده ربنا ولك الحمد) ثم يقول وهو قائم: (اللهم انج الوليد ابن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف اللهم العن لحيان، ورعلاً وذكوان، وعصية عصت اللَّه ورسوله) ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أُنزل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128).
هذه الرواية في تسمية القبائل تفرد بها يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري عند مسلم وقد تابعه اثنان بدونها: شعيب، وإبراهيم بن سعد عند البخاري، والحديث له طريق أخرى عن أبي هريرة بدونها أيضاً من رواية الأعرج عند البخاري، فهذه الرواية شاذة لأن يونس تفرد بها عن بقية الثقات.
وقال ابن حجر عن رواية البخاري للحديث وقوله: (حتى أنزل اللَّه): (ثم ظهر لي علة الخبر وأن فيه إدراجاً، وأن قوله: حتى أنزل اللَّه منقطع من رواية الزهري عمن بلَّغه، بيَّن ذلك مسلم في رواية يونس المذكورة فقال هنا - يعني الزهري -: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت وهذا البلاغ لا يصح لما ذكرته). اهـ. يعني الانقطاع.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 88 الى صـ 92
الحلقة (14)
2 - أخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع عقد لي فأقام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التماسه وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت عائشة: فجاء أبو بكر، ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء اللَّه أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فخذي فنام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أصبح على غير ماء فأنزل اللَّه تبارك وتعالى آية التيمم فتيمموا، فقال أُسيد بن حضير ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنتُ عليه فوجدنا العقد تحته.
وفي لفظ للبخاري: ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استيقظ، وحضرت الصبح فالتُمس الماء فلم يوجد فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ).
وهذه الزيادة في ذكر الآية انفرد بذكرها عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري، وخالف الجماعة الذين أعرضوا عن ذكرها، وعمرو بن الحارث وإن كان من الثقات الأثبات فقد ذكر أحمد أن له مناكير.
3 - أخرج البخاري وأحمد عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: كان عمر بن الخطاب يقول لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احجب نساءك، قالت: فلم يفعل، وكان أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرجن ليلاً إلى ليلِ قِبَل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلةً فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس، فقال: عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب قالت: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - آية الحجاب.
وللشيخين عنها: قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه فقال: (إنه قد أُذن لكنَّ أن تخرجن لحاجتكن).
وهذا الحديث رواه عن عائشة عروة وعنه اثنان، الأول: ابنه هشام بدون ذكر الآية.
الثاني: الزهري وعنه جماعة كلهم ذكروا الآية، وهذه الرواية وإن كانت ثابتة عن الزهري إلا أن مما يؤيد رواية هشام حديث أنس في قصة زينب بنت جحش حيث وقع النزول.
4 - أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن موسى كان رجلاً حيياً ستيرًا، لا يُرى من جلده شيء استحياءً منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص، وإما أُدرة وإما آفة، وإن اللَّه أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق اللَّه، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه، فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فواللَّه إن بالحجر لَنَدَبا من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً فذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69).
ولفظ مسلم ونزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ... ).
فالتصريح بالنزول شاذ غير محفوظ إذ انفرد به عبد اللَّه بن شقيق ولم يتابعه على الزيادة أحد من أصحاب أبي هريرة الذين أكثروا عنه، وهم أثبت منه عموماً، وفي أبي هريرة خصوصًا.
5 - أخرج البخاري ومسلم وأحمد والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن قريشاً لما استعصت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجهد، حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فذكر الحديث ... حتى قال فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11).
فالتصريح بالنزول إنما جاء من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، وقد خالف سبعة من أصحاب الأعمش كلهم لم يذكروا نزول الآية، والأعمش أيضًا قد توبع بدونها فتكون شاذة لا اعتبار بها.
جـ - أن يكون السبب صحيحاً لكنه يخالف سبباً أصح منه وإليك الأمثلة:
1 - أخرج أحمد وأبو داود والنَّسَائِي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها قال فنزلت: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين.
فهذا يخالف ما روى مسلم وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فأُمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
وفي رواية للبخاري: (إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) فأمرنا بالسكوت).
فهذا الحديث أصح سندًا ومتنًا من حديث زيد بن ثابت، وتفصيل ذلك في الدراسة.
2 - أخرج البخاري عن عبد اللَّه بن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً أقام سلعة في السوق فحلف فيها، لقد أُعطي بها ما لم يُعْطَه لبوقع فيها رجلاً من المسلمين فنزلت: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ... ) الآية.
فهذا يخالف ما روى البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حلف على يمين وهو فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي اللَّه وهو عليه غضبان) قال: فقال الأشعث بن قيس: فيَّ واللَّه كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ألك بينة)؟ قال: قلت لا. قال: فقال لليهودي: احلف. قال: فقلت: يا رسول اللَّه إذن يحلف وبذهب بمالي قال: فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) إلى آخر الآية.
فهذا الحديث أصح سنداً ومتناً من حديث ابن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3 - أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا قدم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ... ) الآية. فهذا يخالف ما روى مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن هذه الآية أُنزلت في أهل الكتاب ثم تلا ابن عبَّاسٍ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) هذه الآية. وتلا ابن عبَّاسٍ: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) وقال ابن عبَّاسٍ: سألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.
فهذا السبب أصح من حديث أبي سعيد من أنها نزلت في المنافقين، لأنه مؤيد بالسياق القرآني.
4 - أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا حتى إذا نهلوا عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه ولحيته فيقول: قد فعل بي هذا أخي - وكانوا إخوةً ليس في قلوبهم ضغائن - واللَّه لو كان بي رءوفا رحيماً ما فعل بي هذا فوقعت في قلوبهم الضغائن فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) - إلى قوله - (مُنْتَهُونَ) فقال ناس: هي رجس ... الحديث. اهـ. موضع الشاهد.
فهذا يخالف ما روى مسلم وأحمد عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وأتيت على نفرٍ من الأنصار والمهاجرين فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً. وذلك قبل أن تحرم الخمر. قال: فأتيتهم في حشٍّ - والحش البستان -فإذا رأس جزورٍ مشوي عندهم، وزق من خمر. قال: فأكلت وشربت معهم قال: فذكرت الأنصار والمهاجرون عندهم. فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح بأنفي. فأتيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيَّ - يعني نفسه - شأن الخمر: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ).
فهذا السبب أصح من حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في سبب النزول.
5 - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قالت قريش ليهود أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت: (وَيَسْأَلُونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)، قالوا: أُوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، ومن أُوتي التوراة فقد أُوتي خيراً كثيراً قال فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي).
فهذا الحديث يخالف ما روى البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرث بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يُوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي ثم قال: (وَيَسْأَلُونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
فهذا الحديث أصح سنداً ومتناً من حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وبهذا يتبين أن كثيراً من الأخطاء في روايات أسباب النزول ناتج من عدم النظر في أسانيدها من حيث صحتها وضعفها، وشذوذها وحفظها. واللَّه أعلم.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 93 الى صـ 97
الحلقة (15)
السبب الرابع: وقوع الالتباس في التعبير وهو قسمان:
1 - أن يعبر عن التفسير بالنزول وإليك الأمثلة:
1 - أخرج مسلم والبخاري وابن ماجه عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) قال: نزلت في عذاب القبر، فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي اللَّه، ونبيي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذلك قول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).
فلم أرَ من صرح بأن للآية سبب نزول، وأن هذا هو سببها، بل الحديث من باب التفسير فقط.
2 - أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن موسى كان رجلاً حييًا ستيرًا لا يُرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما أُدرة، وإما آفة، وإن اللَّه أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق اللَّه، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فواللَّه إن بالحجر لنَدَبا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا فدْلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69).
ولفظ مسلم ونزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ... ) الآية.
فهذا تفسير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للآية، أما النزول فلا يصح لشذوذه، وعدم وجود الحدث زمن النزول.
3 - أخرج أحمد والبخاري عن طاووس قال: سأل رجل ابن عبَّاسٍ المعنى عن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فقال سعيد بن جبير: قرابة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال ابن عبَّاسٍ: عجلت. إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن بطن من قريش إلا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم قرابة فنزلت: قُل (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم.
وقد صحح ابن حجر بأن مقصود ابن عبَّاسٍ التفسير وليس السبب، فقال: (وقوله: (إلا أن تصلوا) كلام ابن عبَّاسٍ تفسير لقوله تعالى: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فعرف بهذا أن المراد ذكر بعض الآية بالمعنى على جهة التفسير). اهـ.
4 - أخرج البخاري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد اللَّه ابن سلام، قال: وفيه نزلت هذه الآية: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) يقول الشعبي: (واللَّه ما نزلت في عبد الله بن سلام، ما نزلت إلا بمكة، وما أسلم عبد اللَّه إلا في المدينة، ولكنها خصومة خاصم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها قومه منزلت: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ).
5 - أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما أراد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يرفع عيسى - عليه السلام - إلى السماء، خرج على أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلاً، ورأسه يقطر ماء، فقال: أيُّكم يُلقى شبهي عليه فيقتل مكاني، فيكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنًا، فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم الثالثة فقال الشاب: أنا، فقال عيسى - عليه السلام - نعم أنت، فأُلقي عليه شبه عيسى، ثم رُفع عيسى من روزنة كانت في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشاب للشبه فقتلوه ثم صلبوه فتفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة: كان فينا اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء اللَّه ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية وقالت طائفة: كان فينا عبد اللَّه ورسوله ما شاء الله ثم رفعه فهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعثا الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) يعني الطائفة التي كفرت في زمان عيسى - عليه السلام - والطائفة التي آمنت في زمان عيسى: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ) بإظهار محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دينهم على دين الكفار (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ).
فهذا الحديث لا يكون من أسباب النزول لأن الحدث سبق النزول بزمن طويل واللَّه أعلم.
ب - أن يعبر عن التلاوة والقراءة بالنزول وإليك الأمثلة:
1 - أخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي عبيدة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص كان الرجل فيهم يرى أخاه يقع على الذنب فينهاه عنه فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن فقال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) - حتى بلغ - فَاسِقُونَ) وكان نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متكئًا فجلس فقال: لا حتى تأخذوا على يد الظالم فتأطروه على الحق أطرًا).
فالتصريح بالنزول لا يصح لأن الحديث عن الأمم السابقة، وبعض المفسرين لما ذكر الحديث قال: ثم قرأ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
2 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت أو سُئل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيُّ الذنب عند اللَّه أكبر؟ قال: (أن تجعل للَّه ندًا وهو خلقك) قلت: ثم أيٌّ قال: (ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) قلت: ثم أي؟ قال: (أن تزاني بحليلة جارك) قال: ونزلت هذه الآية تصديقًا لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ).
وفي لفظ للترمذي وأحمد عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتلا هذه الآية: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ... ولم يقل ونزلت.
فهذا الحديث ليس سببًا للنزول لأنه معارض بحديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
3 - أخرج أحمد والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم، أبلغك أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يحمل الخلائق على إصبع والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت نواجذه فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
وفي لفظ: ثم قرأ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
قال ابن عطية: (فرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تمثل بالآية وقد كانت نزلت). اهـ. وقال ابن عاشور: (وفي بعض روايات الحديث فنزل قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وهو وهم من بعض رواته وكيف وهذه مكية، وقصة الحبر مدنية). اهـ.
4 - أخرج البخاري ومسلم وأحمد والنَّسَائِي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن قريشًا لما استعصت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فذكر الحديث ... حتى قال: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) وفي لفظ للبخاري: ثم قرأ: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11).
فهذا ليس سببًا للنزول لعدم وجود الحدث الذي يقتضي ذلك.
5 - أخرج مسلم عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: مُطر الناس على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَصبح من الناس شاكر ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، قال: (فنزلت هذه الآية: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) - حتى بلغ - (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).
قال ابن عاشور: العل الراوي عنه - أي عن ابن عبَّاسٍ - لم يحسن التعبير عن كلامه فأوهم بقوله: فنزلت: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) بأن يكون ابن عبَّاسٍ قال: فتلا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) أو نحو تلك العبارة، وقد تكرر مثل هذا الإيهام في أخبار أسباب النزول). اهـ. مختصراً.
السبب الخامس: مخالفة السبب للمستقر الثابت من حال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وإليك الأمثلة:
1 - أخرج أبو داود والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: نزلت هذه الآية: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) في قطيفة حمراء فُقدت يوم بدر. فقال بعض الناس: لعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها، فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) إلى آخر الآية.
قال الطبري: (لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتهموا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغلول لعقَّب ذلك بالوعيد على التهمة وسوء الظن برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا بالوعيد على الغلول). اهـ. مختصراً.
2 - أخرج النَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما جاء نعي النجاشي، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلوا عليه) قالوا: يا رسول الله نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ).
فقول الصحابة حسب الحديث: نصلي على عبد حبشي، لا يليق بهم، ولا يوافق الواقع؛ لأن النجاشي ليس عبدًا بل هو ملك حر، فالعبد شرعاً: هو الرقيق المملوك.
أما كونه لا يليق بهم فلأنهم أوفى الناس للناس، ويعرفون فضله ووقوفه معهم حين هاجروا إليه مرتين، مع أن هذا القول لو ثبت عنهم لكان يتضمن أيضًا ردًا لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمره.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 98 الى صـ 102
الحلقة (16)
3 - أخرج البخاري عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان قوم يسألون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استهزاءً فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل اللَّه فيهم هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) حتى فرغ من الآية كلها.
وقد أفاد ابن عاشور بأن أولئك ليسوا مؤمنين؛ لأن المؤمنين لا يستهزئون برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أن الآية صُدرت بنداء الإيمان.
4 - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فكان بعض القوم يستقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله في شأنها: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِ ينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِ ينَ (24).
فهذا السبب لا يصح للنزول لما يتضمنه من القدح في أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والنيل منهم، والله أعلم. اهـ.
5 - أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) قال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما ترى. دينار؟) قلت: لا يطيقونه، قال: (فنصف دينار؟) قلت: لا يطيقونه.
قال: (فكم؟) قلت: شعيرة. قال: (إنك لزهيد) قال: فنزلت: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ) قال: فبي خفف اللَّه عن هذه الأمة.
هذا الحديث يقتضي أن علياً أرحم بالناس من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس الأمر كذلك فليس أحد أرحمَ بالمؤمنين من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128).
القسم الأول
قواعد في أسباب النزول وضوابط الترجيح فيها
وفيه فصلان:
الفصل الأول: قواعد في أسباب النزول.
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: تعريف أسباب النزول ومفهومه لدى العلماء.
المبحث الثاني: أسباب النزول من حيث صيغتها.
المبحث الثالث: تعدد النازل والسبب واحد.
المبحث الرابع: تعدد السبب والنازل واحد.
المبحث الخامس: عموم اللفظ وخصوص السبب.
المبحث السادس: تكرر النزول.
الفصل الثاني: ضوابط الترجيح في أسباب النزول.
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: الترجيح بتقديم الصحيح على الضعيف.
المبحث الثاني: الترجيح بتقديم السبب الموافق للفظ الآية على غيره.
المبحث الثالث: الترجيح بتقديم قول صاحب القصة على غيره.
المبحث الرابع: الترجيح بتقديم قول الشاهد للسبب على الغائب عنه.
المبحث الخامس: الترجيح بدلالة السياق القرآني.
المبحث السادس: الترجيح بدلالة الوقائع التاريخية.
الفصل الأول
قواعد في أسباب النزول
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: تعريف أسباب النزول ومفهومه لدى العلماء.
* معنى السبب.
* معنى النزول.
* معنى سبب النزول.
* الأركان التي تُعرف بها أسباب النزول.
المبحث الثاني: أسباب النزول من حيث صيغتها.
المبحث الثالث: تعدد النازل والسبب واحد.
المبحث الرابع: تعدد السبب والنازل واحد.
المبحث الخامس: عموم اللفظ وخصوص السبب.
المبحث السادس: تكرر النزول.
المبحث الأول
تعريف أسباب النزول ومفهومه لدى العلماء
هذه اللفظة (أسباب النزول) تتكون من كلمتين: (أسباب) و (نزول)، ولمعرفة معناها لا بد من بيان معنى كل كلمة، ثم معنى الكلمتين معاً بعد أن صارتا عَلَماً لعلم مخصوص فأقول:
معنى السبب: هو كل شيء يتوصل به إلى غيره.
وقيل: كل شيء يتوسل به إلى شيء غيره، والجمع أسباب، والسبب يأتي لعدة معاني منها:
(1) الوصل والمودة، قال الله تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)، أي: الوُصَل والمودات.
(2) ومنها الحبل، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) أي: فليمدد بحبل إلى السماء.
(3) ومنها الباب، قال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى .. ) الآية، أي لعلي أبلغ أبواب السماوات.
والجامع بين هذه المعاني هو الوصول بالشيء إلى غيره.
معنى النزول: النزول في الأصل هو انحطاطٌ من عُلوٍّ، يقال: نزل عن دابته ونزل في مكان كذا حطَّ رحله فيه، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 103 الى صـ 107
الحلقة (17)
قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا).
وقال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ).
وقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48).
وقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ).
* * *
سبب النزول في الاصطلاح
من منهج العلماء في مؤلفاتهم وضع التعريفات لبعض المصطلحات العلمية، لأن التعريفات حدود تدل على الشيء، وتمنع غيره من الدخول فيه، ومن الطبيعي أن يكون لسبب النزول حدود وضوابط، يُعرف بها السبب، ويتميز عن غيره سيما إذا أدركنا أن أسباب النزول نشأت مع نزول القرآن.
ومن الملفت للنظر أنه لا يوجد تعريف واضح لهذا المصطلح عند المتقدمين، ولعل هذا يعود إلى عدم عنايتهم بالدراسات النظرية لعلم أسباب النزول فقد كان همهم منصبًّا على ذكر الأحاديث وتطريقها شأنهم شأن المؤلفين في تلك العصور.
ونظرًا لهذا فإني سأذكر هنا بعض التعريفات المتداولة في كتب المتأخرين ثم ما ترجح لديَّ في تعريف سبب النزول، ثم أقوم بشرحه مع التمثيل مستغنيًا بذلك عن الاستدراك المباشر على هذه التعريفات.
ولعل أقرب من عرف سبب النزول - فيما أعلم - هو السيوطي حيث قال: (والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه). اهـ.
وقال الزرقاني: (سبب النزول هو ما نزلت الآية، أو الآيات متحدثةً عنه، أو مبينة لحكمه أيام وقوعه). اهـ.
وقال القطان: (ولذا نعرف سبب النزول بما يأتي: هو ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه كحادثة أو سؤال). اهـ.
أما التعريف الذي خلصت إليه بعد التتبع والاستقراء فهو:(كل قول أو فعل نزل بشأنه قرآن عند وقوعه.
وإنما اخترت التعبير عن السبب: بالقول والفعل لأن أعمال المكلفين لا تعدو ثلاثة: النية والقول والفعل.
فالنية المجردة عن معمولها لا يترتب عليها أثرها، ولهذا لا صلة لها بأسباب النزول ولا بغيرها من سائر الأحكام.
فلم يبق إلا الأقوال والأفعال، وهذان يتناولان جميع أحوال المرء الظاهرة، وعليها يترتب الأثر في الدنيا والآخرة.
وقولي: (كل قول): هذا يتناول السؤال، والدعاء، والتعجب، والعرض، والتمني والخبر، والطلب، وغير ذلك.
وسواءً أكان ذلك من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم من أصحابه أم من المنافقين، أم من اليهود، أم من المشركين.
ولم أرَ من نبّه إلى أن قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قول الشهداء، أو قول الجن يكون سبباً لنزول الآية مع وجود الأدلة على ذلك.
بل من كتب في هذا إنما يذكر سؤالاً وجهه أحد الحاضرين إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت الآية مع أن الأسئلة لا تمثل إلا نسبة يسيرة من الأقوال.
وقولي: (أو فعلٍ) أي كل فعل، ويتناول ذلك الأفعال في العبادات والعادات والمعاملات في السفر والحضر، والسلم والحرب، والأمن والخوف.
وسواءٌ أكان ذلك من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم من أصحابه أم من المنافقين، أم من اليهود، أم من المشركين.
وأول من وقفت على قوله في إشارة إلى أن فعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد يكون سبباً للنزول هو الرومي حيث قال: (والحادثة التي ينزل القرآن لأجلها قد تكون من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما حدث في سبب نزول عبس ... ).
وقولي: (نزل) احترازاً من المتلو والمقروءِ، فلو قرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآية عند حدث ما، لما كان هذا من أسباب النزول، بل كان هذا من باب الاستشهاد بالآية على الحدث.
مثاله ما روى الشيخان عن علي بن أبي طالب أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طرقه وفاطمةَ بنت النبي - عليه الصلاة والسلام - ليلةً، فقال: (ألا تصليان) فقلت: يا رسول اللَّه، أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلنا ذلك، ولم يرجع إليَّ شيئاً، ثم سمعته وهو مولٍ، يضرب فخذه وهو يقول: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً).
وقولي: (بشأنه) أي بسببه ولأجله، وقد اقتضت حكمة اللَّه البالغة ربط الأسباب بالمسبَبَات، ورتب على وجودها أثرها، فمن الآيات ما لا ينزل من السماء حتى يقع السبب في الأرض، ومنها ما ليس له سبب حاضر، فليس النزول موقوفاً على السبب دوماً، بل يكون أحياناً به، وأحيانًا أخرى بغيره وهذا أكثر.
وقولي: (قرآن) هذا يتناول السورة وبعضها، والآية وبعضها، وسواءٌ أكان النازل مستقلاً بالمعنى، كما في أكثر الآيات النازلة، أو لا يستقل بالمعنى كقوله تعالى: (مِنَ الْفَجْرِ) ضمن قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) وقوله تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ضمن قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإن هذا يتناوله لفظ القرآن.
وقولي: (عند وقوعه) وجه التعبير ب (عند) لأمرين:
الأول: أنها تدل على الزمن والدليل على هذا ما روى الشيخان عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
ومثله ما روى البخاري عن عمرو بن الحارث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما ترك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وفاته درهماً، ولا دينارًا، ولا عبداً، ولا أَمة ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقة.
الثاني: أنها تدل على المقاربة لما روى الشيخان عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما حقُّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده).
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 108 الى صـ 112
الحلقة (18)
ومثله ما روى البخاري عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال ومن بلغت صدقتُه بنتَ لبون وليست عنده، وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت مخاض ويعطي معها عشرين درهماً أو شاتين).
وبهذه الأمثلة تتبين دلالة (عند) على الزمن والمقاربة كما قاله ابن هشام والذي دعاني لاستعمال الظرف الدال على المقاربة دون التحديد أن لديَّ سببين تأخر النزول فيهما وهما قصة الإفك في أم المؤمنين - رضي الله عنها - حيث تأخر نزول براءتها شهراً، وقصة كعب بن مالك وصاحبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حيث تخلفوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خروجه إلى غزوة تبوك فأرجأ اللَّه التوبة عليهم خمسين ليلةً.
ولو عبرتُ بقولهم: زمن وقوعه، أو أيام وقوعه فربما فُهم من هذا المبادرة والمباشرة وهذا ما لا أُريده ولا أَعنيه.
فالمقاربة المستفادة من الظرف نسبية فمن الآيات ما قرب نزوله من سببه كثيراً ومنها ما بَعُدَ قليلاً ومنها ما بين ذلك.
وسأذكر بعض الأمثلة الدالة على التفاوت في زمن النزول على سبيل الاختصار.
فمن الآيات التي نزلت مباشرة: -
1 - قوله تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فما فرغ ابن أم مكتوم من شكايته حتى نزل الوحي، وإن فخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فخذ زيد بن ثابت - رضي الله عنه.
2 - آية الروح، فما فرغ اليهود من السؤال حتى نزل قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
ومن الآيات التي تأخر نزولها يسيراً: -
1 - نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة على أحد من المنافقين بعد صلاته على ابن أُبي.
2 - قضية نزول الحجاب، ومكثهم في بيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحدثون حتى أحرجوه فأنزل اللَّه الآية.
ومن الآيات التي تأخر نزولها كثيراً: قضية الإفك، وكعب بن مالك وصاحبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
ومن الأسباب ما يكون زمن نزوله بين ذلك وفق ما تقتضيه الحكمة الإلهية واللَّه أعلم.
* * *
الأركان التي تعرف بها أسباب النزول
وبعد تعريف سبب النزول وشرحه تبين لي أنه يرتكز على أربعة أركان ينضبط باجتماعها، ويختلُّ باختلالها أو بعضها وهي:
أولاً: الحدث الجديد، فلا بد من تصورِ أمرٍ جديدٍ قد وقع سواءٌ أكان قولاً أم فعلاً، والغالب الكثير من الأسباب أن يقع ذلك بعد بعثة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إني لم أجد إلا ستة أسباب، كان الحدث فيها قبل البعثة ومع هذا فقد أنزل اللَّه بشأنها قرآناً.
والسبب في ذلك، - والله أعلم - أنها كانت تتجدد بعد رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إما سنوياً، وإما أقل من ذلك، فلما كانت تتجدد أصبحت كالحدث الجديد، وإليك الأسباب:
1 - أخرج البخاري ومالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا يومئذٍ حديث السن: أرأيت قول الله - تبارك وتعالى -: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فلا أُرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يهلون لمناة، وكانت مناةُ حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأنزل اللَّه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
فالحرج استمر حتى بعد الإسلام، ولهذا سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فكان كالحدث الجديد.
ب - أخرج البخاري ومسلم عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا، لم يدخلوا من قِبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبل بابه فكأنه عُيِّرَ بذلك فنزلت: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
وفي رواية للبخاري والنَّسَائِي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
والدليل على تجدد الفعل هنا أن الآية نزلت عقب تعييره لما دخل البيت من بابه فدل على وقوعه في زمن الرسالة، بل بعد الهجرة لأنها نزلت في الأنصار.
جـ - أخرج مسلم والبخاري والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه قال: كانت الحمس لا يخرجون من مزدلفة، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات. قال هشام: فحدثني أبي عن عائشة قالت: الحمس هم الذين أنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيهم: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من مزدلفة يقولون: لا نفيض إلا من الحرم. فلما نزلت: (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) رجعوا إلى عرفات.
وفي رواية للشيخين عنها - رضي الله عنها - قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي عرفات، ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ).
وجه تجدد الفعل هنا: أن وقوفهم في مزدلفة استمر حتى حج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السنة العاشرة فأمره اللَّه أن يأتي عرفات ثم يفيض منها.
د - أخرج الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته: واللَّه لا أُطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبداً. قالت: وكيف ذاك؟ قال: أُطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها فسكتت عائشة، حتى جاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، فسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نزل القرآن: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) قالت عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلاً من كان طلق ولم يكن طلق.
هـ - أخرج البخاري وأبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك.
فقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ) الآية، هذا النداء لم يقع لهم إلا بعد الرسالة لأنهم قبلها لم يكونوا من أهل الإيمان، ولو لم يكن هذا الفعل فيهم لكان نهيهم عنه لغواً ينزه عنه القرآن.
و أخرج مسلم والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول: من يعيرني تِطوَافاً؟ تجعله على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدأ منه فلا أُحِلُّه
فنزلت هذه الآية: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
وبما تقدم يمكن أن أقول: إن السبب المصطلح عليه ينقسم إلى قسمين من حيث النشأة:
الأول: أن ينشأ السبب سواء أكان فعلاً أم قولاً بعد الرسالة، وهذا الغالب.
الثاني: أن يكون السبب موجودًا قبل الرسالة لكنه يتجدد بعدها فيكون كالجديد أصلاً.
ثانياً: الموافقة بين اللفظين، لفظ الآية، ولفظ الحديث فلا بد أن يكون بينهما قدر مشترك في الألفاظ والمعاني، ولهذا يقال: السؤال معاد في الجواب وذلك لما بينهما من الصلة، فالسؤال سبب الجواب، وكذلك الحديث سبب لنزول الآية، وإذا كان بينهما توافق في الألفاظ فلا بد أن يتوافقا في المعاني، وأسباب النزول مع الآيات تشهد بهذا.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 113 الى صـ 117
الحلقة (19)
ثالثاً: سياق الآيات وأعني به الآيات التي تسبق موضع النزول وتتبعه، فهذه الآيات لا بد أن تكون في موضوعها وخطابها غير مخالفة للسبب في أصله وخطابه فلو كان سياق الآيات في أهل الكتاب ما صح أن يكون السبب في آيةٍ منه نازلاً في المشركين وكذلك أصل الموضوع فلو كان السياق القرآني في موضوع يخالف موضوع السبب قطعنا بأنه ليس بينهما صلة، وإن كان الحديث صحيحًا صريحاً في النزول.
رابعاً: مراعاة التاريخ بين السبب والنزول، وقد لاحظت من تتبعي للأسباب أن السبب لا يتأخر عن النزول إلا لحكمة إلهية وفي أمثلة معروفة، فإذا وقعت المباعدة بينهما علمنا أنها ليست مما نحن فيه، وسواءٌ أكانت المباعدة الزمنية بين مكي ومدني أو بين المدني المتقدم أوائل الهجرة والمدني النازل في أواخرها.
هذه أركان السبب كما بدت لي فمن حفظها ورعاها فهو حري أن يصيب ولا يخطئ في تحديد السبب من غيره، ومن تركها وأهملها فقد أضاع المفتاح الذي يفتح بابها.
وثمَّ أمران آخران ليسا كهذه الأركان في المنزلة وإن كانا مؤثرين وهما: صحة الإسناد والتعبير بالنزول.
فأما صحة الحديث فهي قرينة قوية في صحة السبب وثبوته، ومع هذا فمراسيل التابعين الذين تلقوا التفسير عن كبار الصحابة كانت ولا زالت تحظى بالقبول من العلماء، والاحتجاج بها في المعاني والأسباب.
وأما التعبير بالنزول فلا ريب أنه ينفي التردد، وبجرئ القلب على الإقدام، والحكم بالسببية، فوجوده قرينة قوية في الدلالة على الأسباب، والله الموفق للصواب.
المبحث الثاني
أسباب النزول من حيث صيغتها
صيغة أسباب النزول من المباحث الرئيسة عند المؤلفين في الدراسات القرآنية عامة، وأسباب النزول خاصة، ولا تكاد عين القارئ تخطئ هذا الموضوع عند الحديث عن أسباب النزول، إلا أن الحديث في بعضها قديم تليد، وفي بعضها حديث جديد، وسأذكر ابتداء أقوالهم في الموضوع، ناقلاً قول الزرقاني في تقسيمه ذلك إلى صيغة صريحة، وغير صريحة؛ لأنه أول من قسم هذا التقسيم - حسب علمي - ثم تتابع المؤلفون بعده على ذلك بلا تعقب أو تنبيه، ثم أُعقِّب على ذلك بما أراه صحيحاً راجحاً في الموضوع. فأقول:
لأسباب نزول القرآن عند المعاصرين صيغتان:
الأولى: صيغة صريحة قال عنها الزرقاني: (تختلف عبارات القوم في التعبير عن سبب النزول فتارةً يصرح فيها بذكر السبب فيقال: (سبب نزول الآية كذا) وهذه العبارة نص في السببية لا تحتمل غيرها، وتارة لا يصرح بلفظ السبب ولكن يؤتى بفاء داخلة على مادة نزول الآية عقب سرد حادثة، وهذه العبارة مثل تلك في الدلالة على السببية أيضًا، ومثاله رواية جابر الآتية قريبًا، ومرة يسأل الرسول فيوحى إليه، ويجيب بما نزل عليه، ولا يكون تعبير بلفظ سبب النزول، ولا تعبير بتلك الفاء، ولكن السببية تفهم قطعًا من المقام كرواية ابن مسعود الآتية عندما سُئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الروح، وحكم هذه أيضًا حكم ما هو نص في السببية). اهـ. موضع الشاهد وخلاصة هذا الكلام أن الصريح عنده قسمان:
الأول: قول الراوي: (سبب نزول هذه الآية كذا).
الثاني: قول الراوي: (حدث كذا فنزل كذا أو فنزلت الآية).
وذكر حالاً أخرى جعل حكمها كحكم الأول، وهي أن يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أمر فيُوحى إليه بشأنه، ويجيب بما نزل عليه بدون ذكر السبب أو الفاء الداخلة على مادة النزول.
فأما الأول وهو قوله: (سبب نزول الآية كذا) فهذا لا وجود له في الواقع فمع معاصرتي لأسباب النزول طوال مدة البحث، وكثرة تقليبي لها لم أجد سببًا واحدًا وردت فيه هذه الصيغة، كما أن الزرقاني لم يذكر مثالاً لهذا، ولا يخفى أن القواعد إنما تستمد من الأمثلة فأين هي الأمثلة هنا؟.
ولعلي أعتذر للزرقاني هنا بأنه كان يتصور وجود شيء من هذا مع عدم استحضاره للمثال حين الكتابة فسطَّر ما كان يتصور.
لكني أعجب كثيرًا ممن تابعه من المؤلفين على ذلك، إذ كان بإمكانهم البحث والتحرير قبل التسليم والتسطير.
وأما الثاني: وهو دخول الفاء على مادة النزول بعد سرد حادثة فهذا أكثر الأساليب استعمالاً في أسباب النزول، ومع هذا فلا يعني وجود هذه الصيغة أن يكون الحديث سببًا للنزول، ولديّ من الأمثلة ما يكفي لإثبات هذا.
1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرقتين، فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم فنزلت: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) وقال: إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة.
2 - أخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التماسه. وأقام الناس معه وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماءٌ قالت عائشة: فجاء أبو بكر ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضعٌ رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماءٌ، قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء اللَّه أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فخذي فنام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أصبح على غير ماءٍ فأنزل الله تبارك وتعالى آية التيمم.
وفي لفظ للبخاري: ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استيقظ، وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) فقال أُسيد بن حضير: لقد بارك اللَّه للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركةً لهم.
3 - أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت فيَّ أربع آيات. أصبت سيفاً، فأتى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه نفلنيه، فقال: (ضعه) ثم قام، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ضعه من حيث أخذته) ثم قام فقال: نفلنيه يا رسول اللَّه. فقال: ضعه، فقام فقال يا رسول اللَّه نفلنيه أَأُجعل كمن لا غناء له؟ فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ضعه من حيث أخذته) قال: فنزلت هذه الآية: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).
4 - أخرج البخاري عن محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عبَّاسٍ قرأ: (ألا إنهم تثنوني صدورهم) قلت: يا أبا العباس ما تثنوني صدورهم؟ قال: كان الرجل يجامع امرأته فيستحي، أو يتخلى فيستحي فنزلت: (ألا إنهم تثنوني صدورهم).
5 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً فتواصيت أنا وحفصة: أن أيَّتنا دخل عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، قال: (لا بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له) فنزلت: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ) - إلى - (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ).
لعائشة وحفصة: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) لقوله: (بل شربت عسلاً) فهذه الأحاديث وقع فيها المنصوص وهو دخول فاء التعقيب على مادة النزول وليست أسباب نزول كما سيتضح من دراستها.
وأما الحال الملحقة بالقسم الأول وهي قوله: (ومرةً يُسأل الرسول فيوحى إليه، ويجيب بما نزل عليه، ولا يكون تعبير بلفظ سبب النزول ولا تعبير بتلك الفاء لكن السببية تُفهم قطعاً من المقام).
فأقول: إذا كانت السببية إنما تُفهم من المقام، فهذا يعني عدم وجود صيغة فضلاً عن كونها صريحة.
ثم كيف يكون حكمُ هذه حكمَ ما هو نص في السببية، مع أن هذا النص ليس له وجود أصلاً.
بل لو قال قائل: إن هذا من أبين الأدلة على عدم وجود صيغ معينة لأسباب النزول فضلاً عن تقسيمها إلى صريحة وغير صريحة لكان قائله حرياً بالصواب.
الثانية: صيغة غير صريحة.
قال الزرقاني: (ومرةً أخرى لا يصرح بلفظ السبب، ولا يؤتى بتلك الفاء ولا بذلك الجواب المبني على السؤال بل يقال: (نزلت هذه الآية في كذا) وهذه العبارة ليست نصاً في السببية بل تحتملها وتحتمل أمراً آخر وهو بيان ما تضمنته الآية من الأحكام.
والقرائن وحدها هي التي تعيّن أحد هذين الاحتمالين أو ترجحه). اهـ.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 118 الى صـ 122
الحلقة (20)
وهذا القول حق، وقد نص عليه بعض الأئمة الأعلام قبل زمن بعيد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقولهم: نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارةً أنه سبب النزول، ويراد به تارةً أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول عنى بهذه الآية كذا). اهـ.
وقال الزركشي: (وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فذكر كلامًا ... حتى قال: فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع). اهـ.
وقد قيّد بعض الفضلاء كلام هذين العَلَمَين فقال: (وقول هذين الإمامين لا ينطبق إلا إذا كان المحكي من الراوي حكمًا فقهياً لا حدثا أو شخصًا نزلت في أحدهما الآية، فإن الاسم أو الحدث لا يمكن أن يقال فيه: عُني بهذه الآية كذا وكذا، وإنما يُقال نزلت في فلان أو في الحدث الفلاني.
وهذا القيد لم أرَ من سبق إليه، مع أنه واضح في كلام المتقدمين كما مضى والحمد للَّه على توفيقه). اهـ.
ثم ذكر في الحاشية أنه وجد عبارةً لابن تيمية تقارب ما ذكر من تخصيص السبب بذكر الشخص.
وإنما الغرض من نقل هذا الكلام هنا لأجل أن أُبين أن كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - لا يدل على تخصيص السبب بذكر الشخص.
وبيان ذلك أن شيخ الإسلام قال: (الصنف الثاني): أن يذكر كلٌّ منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه ثم ذكر أمثلة لهذا حتى قال: وقد يجيء كثيرًا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصًا كأسباب النزول المذكورة في التفسير، ثم ذكر كلامًا قال بعده: وإذا عُرف هذا فقول أحدهم نزلت في كذا، لا ينافي قول الآخر نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما كما ذكرناه في التفسير بالمثال). هذا هو كلام شيخ الإسلام في هذا الموضوع، وأوله وآخره دائر على التفسير بالمثال. ولا يعني قوله: (لا سيما إن كان المذكور شخصًا) تخصيص السبب بذكر الشخص لأنه قال قبل ذلك: وقد يجيء كثيراً من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا. فإنه يعني بهذا الباب الصنف الثاني الذي جعله عنواناً لهذا الكلام.
كما أن الأمثلة التي بين يديّ تتفق وما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من أنهم تارةً يريدون بقولهم نزلت في كذا أنه سبب نزول، وتارةً يريدون أن ذلك داخل في الآية دن لم يكن السبب.
فأما الأمثلة على إرادة السببية فمنها: -
1 - قال الله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188).
أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي أن ابن عبَّاسٍ قال: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أُنزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عبَّاسٍ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وقال ابن عبَّاسٍ: سألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء فكتموه، وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.
2 - أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) في عبد اللَّه بن حذافة السهمي إذ بعثه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السرية.
3 - أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية.
وأما الأمثلة على أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب:
1 - أخرج البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها ... الحديث.
2 - أخرج مسلم والبخاري والنَّسَائِي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم الجنيُّون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون فنزلت: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ).
3 - أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي وابن ماجه عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقسم قسمًا: إن هذه الآية: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزةَ وعلي وعبيدةَ بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة.
والخلاصة التي تبينت لي بعد تتبع الموضوع واستقرائه أنه لا يوجد صيغة محددة لأسباب النزول سواء أكانت صريحة، أم غير صريحة إما لعدم الدليل على ذلك ألبتَّة كما في قولهم: سبب نزول الآية كذا، وإما لاضطراب الأساليب المستعملة في ذلك واختلافها وتناقضها من حيث التطبيق، وإن كان أكثرها شيوعًا قولهم: فأنزل اللَّه، أو فنزلت، ومع هذا فلا يعني استعمال هذين اللفظين تحقق السببية فيما دخلا عليه، وإنما يعني التصريح بذكر النزول فقط، والأساليب المستعملة في التعبير عن النزول كثيرة كقولهم: ونزلت، حتى أنزل اللَّه، فلما أنزل اللَّه، فيَّ نزلت، فينا نزلت، حتى نزل القرآن، حتى نزلت، ونزل فيهم القرآن، فأنزل الله تصديق ذلك، فبلغنا أنها نزلت، ما أحسب هذه الآية أُنزلت إلا في ذلك.
ومع كثرتها وتعددها تجد منها ما يكون سبباً حقاً، ومنها ما ليس كذلك مما يشير إلى أن الأسلوب المستعمل في التعبير عن النزول ليس أُسًّا ينتفي السبب بانتفائه، ويبقى ببقائه حتى عند مستعمليه.
ولعلي أُبين بعض الأسباب التي أَدت إلى عدم إحكام أساليب التعبير عن أسباب النزول فأقول:
أولاً: تصرف الرواة في الألفاظ كثير في هذا الباب، وإذا كانوا يُبدلون تلا بأنزل مع ما بينهما من فرق فلأن يكون الإبدال فيما هو أقل من ذلك من باب أولى.
ثانياً: توسع السلف - رحمهم اللَّه - في استعمال التعبير بالنزول حيث يطلقون هذا المفهوم على ما تضمنته الآية بعمومها من صور وأَمثلة فيظن من بعدهم أنهم يريدون بالنزول ما اصْطُلِح عليه أخيراً، وهو الحدث الذي تنزل بسببه الآية، وليس الأمر كذلك عندهم.
ثالثاً: ظن بعضهم - رحمهم اللَّه - في قضايا معينة أنها أسباب لنزول بعض الآيات وليس الأمر كذلك كما في الأمثلة التالية:
1 - أخرج البخاري وأحمد والنَّسَائِي عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول: (اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً) بعدما يقول: (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) فأنزل الله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) إلى قوله: (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).
2 - أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا قدم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ... ) الآية.
3 - أخرج النَّسَائِي وأحمد وأبو داود عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن نفرًا من عُكْلٍ قدموا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاجتووا المدينة فأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا، فقتلوا راعيها، واستاقوها، فبعث النبي - كل - في طلبهم، فقال: فأُتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسَمَّرَ أعينهم، ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... ).
وحينئذٍ يبقى أن أقول إن ذكر مادة النزول في الحديث قرينة قوية، ورافد مهم في السببية لكن بضمها إلى غيرها.
فالحديث إذا تحققت فيه أركان السبب كان سبباً للنزول وإن غابت عنه مادة النزول.
كما أن المادة لا تغني عن الحديث شيئاً، ولا تصيره سبباً إذا دخلت عليه لكن غابت عنه أركان السبب. واللَّه أعلم.
* * *
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 123 الى صـ 127
الحلقة (21)
المبحث الثالث
تعدد النازل والسبب واحد
المراد هنا بتعدد النازل أن تكون الآيات النازلة بسبب واحد متعددة المواضع فبعضها في سورة، وبعضها في سورة أُخرى مع أن السبب الذي أدى إلى نزولها واحد، وقد ذكر المعاصرون أمثلة لهذا، أعرضت عنها لعلمي بضعفها في الدلالة على المقصود باستثناء مثال واحد ذكروه أرى أنه موافق للصواب، وسأشير إليه عند تدوينه وإليك الأمثلة:
1 - أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال: نعم، قالوا: ألا ترى إلى هذا المنْبَتِر من قومه يزعم أنه خير منا؟ ونحن - يعني أهل الحجيج وأهل السدانة - قال: أنتم خير منه فنزلت: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ونزلت: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) - إلى قوله -: (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا).
ب - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والنَّسَائِي عن المسيب قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد عنده أبا جهل وعبد اللَّه بن أبي أُمية بن المغيرة، فقال: (أيْ عمِّ، قل لا إله إلا اللَّه، كلمةً أحاجُّ لك بها عند اللَّه) فقال أبو جهل، وعبد اللَّه بن أبي أُمية: أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا اللَّه قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (واللَّه لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك) فأنزل الله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) وأنزل اللَّه في أبي طالب: فقال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
جـ - أخرج الترمذي والنَّسَائِي عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت: يغزو الرجال، ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث فأنزل اللَّه: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) قال مجاهد: وأنزل فيها: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ) وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت مهاجرة.
د - أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا فأتوا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارةً فنزل: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ)، ونزل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ).
وهذا النوع - أعني - تعدد الآيات النازلة لسبب أو حدث واحد واقع ولا إشكال فيه، ولا يوجد مانع من حصوله كما ظهر في الأمثلة.
* * *
المبحث الرابع
تعدد السبب والنازل واحد
المراد هنا أن تتعدد الأسباب ويكون النازل آيةً أو آيات في موضع واحد، وقد ذكر المؤلفون في أسباب النزول، وعلوم القرآن عددا من الأمثلة على ذلك، لكنها لا تخلو من مقال. ولا تسلم من نقد، سيما أن هذه الأمثلة مكررة ينقلها اللاحق عن السابق.
وسأذكر هنا الأمثلة التي تبينت لي بعد دراستي لأسباب النزول:
1 - قال اللَّه تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187).
أخرج البخاري وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان أصحابُ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فنزلت هذه الآية: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ففرحوا بها فرحًا شديداً، ونزلت: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ).
وأخرج البخاري أيضاً عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ).
فالسبب تعدد هنا وهو الجوع والجهد، مع خيانة بعضهم أنفسهم في إتيان النساء مع أن النازل واحد.
ب - قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189).
أخرج البخاري ومسلم عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قِبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبَل بابه، فكانه عُيِّر بذلك فنزلت: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
فالآية نزلت على سببين:
أحدهما: سؤالهم لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأهلة، وجواب اللَّه لهم.
الثاني: دخولهم لبيوتهم من ظهورها حال إحرامهم، فبين اللَّه أن ذلك ليس من البر.
جـ - قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43).
أخرج أبو داود والترمذي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر فأمهم عليٌّ في المغرب فقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) فخلط فيها فنزلت: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ).
وأخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء فجاء أبو بكر ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واضعٌ رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء اللَّه أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فخذي فقام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أصبح على غير ماء فأنزل اللَّه آية التيمم فتيمموا فقال أُسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته.
فهذان سببان نزلت الآية بشأنهما، وهما الصلاة حال السكر، والتيمم عند عدم الماء.
د - قال اللَّه تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ... ) إلى آخر السورة.
هذه السورة نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منصرفه من الحديبية كما دلت على ذلك الأحاديث، وأقوال المفسرين، وقد تناولت عدداً من القضايا كانت سبباً لنزول بعض مقاطعها ومن ذلك:
مبايعتهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على القتال حين أُشيع أن عثمان قد قتل فكان ذلك سببًا لنزول قول اللَّه تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ... ) الآية.
ومن ذلك: كف اللَّه أيدي المشركين عن المؤمنين حين همت طائفة منهم بالعدوان عليهم فأنزل اللَّه: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24).
إلى غير ذلك من الأسباب المتعددة التي تناولتها السورة بالحديث عنها واللَّه أعلم.
وهكذا نجد أنه بالإمكان أن تتعدد الأسباب وينزل في ذلك آية واحدة أو آيات متعددة في موضع واحد وليس ثمةَ ما يمنع من ذلك.
* * *
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 128 الى صـ 132
الحلقة (22)
المبحث الخامس
عموم اللفظ وخصوص السبب
هذا المبحث أساسه ومصدره من المباحث الأصولية الهامة والمؤثرة في التطبيقات العملية للأحكام الشرعية، ونظراً لصلته الوثيقة بالنصوص الشرعية بوجه عام، فسيكون لزاماً أن يرتبط بأسباب النزول على نحو خاص، ويكون من المباحث الرئيسة في هذا الموضوع.
وقبل الشروع في المقصود أود التعريف باللفظ العام والسبب الخاص فأقول:
اللفظ العام: هو لفظ وضع وضعاً واحداً لكثير فير محصور مستغرق جميع ما يصلح له.
مثال ذلك: لفظ المحسنين في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
وقد احتُرز بقوله: (وضع وضعاً واحداً) عن المشترك، كالعين مثلاً تطلق على العين المعهودة، والجاسوس، والماء.
وبقوله: (لكثير) عما لم يوضع للكثير كزيد وعمرو.
وبقوله: (غير محصور): عن أسماء العدد فإن المائة مثلاً وضعت وضعاً واحدًا للكثير، لكن الكثير محصور.
وبقوله: (مستغرق جميع ما يصلح له) عن الجمع المنكر الذي تدل القرينة على أنه غير عام، فإن هذا يكون واسطةٌ بين العام والخاص، نحو رأيت رجالاً، فإن من المعلوم أن جميع الرجال غير مرئي.
أما السبب الخاص: فالمراد به السبب الداعي إلى الخطاب أي سبب الورود.
- وقد ذكر بعض أهل العلم أن القسمة العقلية لأحوال اللفظ مع السبب في العموم والخصوص لا تجاوز أربعة أحوال وهي:
1 - أن يكون السبب عاماً، واللفظ النازل عليه خاصاً.
2 - أن يكون كلٌّ من السبب واللفظ النازل عليه عاماً.
3 - أن يكون كل من السبب واللفظ النازل عليه خاصاً.
4 - أن يكون السبب خاصًا واللفظ النازل عليه عاماً.
وسأنظر فيما يمكن قبوله أو رده من هذه الأحوال وفقا لما بين يديّ من الأسباب وأقوال العلماء.
فأما الحال الأولى: وهي أن يكون السبب عامًا واللفظ النازل عليه خاصاً فهذا لا وجود له في أسباب النزول، وقد قال أبو شهبة:
(وهذا القسم وإن صح عقلاً لكنه لا يجوز بلاغةً لعدم وجود التطابق بين السبب الذي هو بمنزلة السؤال، واللفظ النازل عليه الذي هو بمنزلة الجواب له فيكون بمنزلة من يقول هل للمسلمين أن يفعلوا كذا؟ فيجاب بأن لفلان أن يفعل كذا، ويترك حال الباقين، ومن ثمَّ لم يقع هذا في الكلام البليغ كالقرآن والسنة). اهـ.
قلت: هذا يأتي في الكلام المعتاد وقد قال الطوفي:
(ولو سأله جميع نسائه الطلاق، فقال فلانة طالق، اختص الطلاق بها وإن عمَّ السبب). اهـ.
لكن العموم في السبب هنا ليس مطلقًا، بل هو نسبي لاختصاصه بنسائه فقط.
وأما الحال الثانية: وهي أن يكون كلٌّ من السبب واللفظ النازل عليه عاماً، فقد ذكر هذا بعض المؤلفين في علوم القرآن واستدلوا له بأدلة منها:
1 - الآيات النازلة في غزوة بدر، والآيات النازلة في غزوة أحد من سورة آل عمران.
2 - قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ).
3 - قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).
4 - قوله تعالى: (وَيَسْتَفْتونك فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ).
ففي آية المحيض سأل المسلمون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن معاملة الحائض.
وفي الثانية سألوه عن كيفية توزيع الأنفال، وفي الثالثة سألوه عن معاملة يتامى النساء المسلمات في النكاح.
فالسائلون جماعة من المسلمين وليس واحداً، فمن ثمَّ كان السؤال عاماً.
وعندي - والله أعلم - أن هذا ليس دقيقاً، وفي نفسي منه شىء، ويعكر عليه أمران:
الأول: أن الأُصوليين وهم أصحاب الشأن لم يذكروا أن السبب يكون عاماً - حسب اطلاعي - وهذا يوجب الشك فيما ذكره غيرهم.
الثاني: ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: مرضت فجاءني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعودني، وأبو بكر وهما ماشيان، فأتاني وقد أُغمي عليَّ، فتوضأ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم صب وضوءه عليَّ، فأفقت، فقلت: يا رسول اللَّه، كيف أقضي في مالي، كيف أصنع في مالي؟ قال: فما أجابَنِي بشيء حتى نزلت آية الميراث.
وآية الميراث هي قوله تعالى: (يَسْتَفْتونك قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ... ).
وجه الدلالة من الحديث على المقصود أن يقال:
إن المستفتي عن ذلك واحد وهو جابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وحينئذٍ فالأمر لا يخلو من حالين:
الأولى: أن تقولوا إن السبب خاص وليس عامًا لأن السائل واحد وهو جابر فيقال لكم: ما الفرق إذن بين قوله: يسألونك، وقوله: يستفتونك، لأن طريقتكم تقتضي أن الأول سبب عام، والثاني سبب خاص؟
الثانية: أن تقولوا إن السبب عام إذ لا فرق بين يسألونك ويستفتونك، وحينئذٍ يقال لكم كيف جعلتم هذا سبباً عاماً مع أن السائل واحد وهو جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟
وهذا المثال بيِّن في التعكير على ما ذكروه من خصوص السبب وعمومه والله أعلم.
أما الحال الثالثة: وهي أن يكون كلٌ من السبب واللفظ النازل عليه خاصاً فهذا واقع، والأمثلة عليه من أسباب النزول كثيرة ومنها:
1 - أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما كان يوم أحد كسرت رباعية رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشُج في وجهه، قال: فجعل الدم يسيل على وجهه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله؟ قال: فأنزل اللَّه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128).
فالسبب واللفظ كلاهما خاص هنا.
2 - أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بلغ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أصحابه شيء فخطب فقال: (عرضت عليَّ الجنة والنار، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً؛ قال: فما أتى على أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أشدُّ منه، قال: غطوا رؤوسهم ولهم خنين، قال: فقام عمر فقال: رضينا باللَّه رباً، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبياً، قال: فقام ذاك الرجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك فلان فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).
فالسبب خاص فيمن سأل، واللفظ خاص بعهد النبوة لأنه زمن نزول القرآن.
3 - أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما مات عبد اللَّه بن أُبي بن سلول، دُعي له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي عليه، فلما قام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثبتُ إليه فقلت: يا رسول اللَّه أَتصلي على ابن أُبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ أُعدد عليه قوله، فتبسم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: (أخِّر عني يا عمر) فلما أكثرت عليه قال: (إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها) قال: فصلى عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) - إلى قوله -: (وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ).
فالسبب خاص بصلاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا المنافق، واللفظ خاص به أيضًا، لأن النفاق المانع من الصلاة على صاحبه لا يُعلم إلا من قِبَل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -.
4 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما تزوج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب بنت جحش، دعا الناس طعموا ثم جلسوا يتحدثون، قال: فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام معه من الناس وبقي ثلاثة، وإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء ليدخل فماذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقوا، قال: فجئت فأخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فأرخى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) - إلى قوله -: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا).
فالسبب خاص بالصحابة المتحدثين واللفظ خاص بالصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 133 الى صـ 137
الحلقة (23)
5 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نزل جبريل بالوحي، وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه، وكان يعرف منه فأنزل الله الآية التي في: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) فإن علينا أن نجمعه في صدرك ... فذكر الحديث وفيه: وكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده اللَّه.
فالسبب واللفظ كلاهما خاص برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما الحال الرابعة: وهي أن يكون اللفظ عاماً والسبب خاصاً فهذه الحال لبُّ المبحث وخلاصته، والغاية منه، ونظراً لهذا فسوف أتوسع قليلاً في ذكر أقوال العلماء وحججهم في هذه المسألة سواءً أكانوا من الأُصوليين أم غيرهم فأقول:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
الأول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلا يَسقط عموم اللفظ بالسبب الذي ورد عليه وإلى هذا ذهب أكثر العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد وهو المذهب المعتبر عند المحققين من الفقهاء والأُصوليين وعزاه ابن الحاجب إلى الجمهور واستدلوا بما يلي:
أولاً: أن هذا اللفظ الوارد على سبب خاص، لو عري عن السبب كان عاماً؛ لأن دلالة العموم لفظية لا لعدم السبب، وإذا كانت دلالة العموم مستفادة من لفظه، فإن ورود اللفظ مع وجود السبب كوروده مع عدم السبب، فيكون مقتضيًا للعموم مع وجود السبب كما كان مقتضياً له مع عدمه.
ثانياً: أن الحجة في لفظ الشارع لا في السبب، وإذا كان الأمر كذلك وجب مراعاة اللفظ عمومًا وخصوصًا كما لو ورد ابتداءً على غير سبب، فلو سألت امرأة زوجها الطلاق فقال كل نسائي طوالق عمهن الطلاق مع خصوص السبب، ولو سأله جميعُ نسائه الطلاق فقال: فلانة طالق اختص الطلاق بها وإن عم السبب.
ثالثاً: لو كان ورود اللفظ العام على سبب خاص يسقط العموم لكان المانع للعموم وجودَ السبب وهذا ممتنع لوجهين:
الأول: أن الأصل عدم منع السبب للعموم ومن ادعى ذلك فعليه الدليل.
الثاني: أن أكثر العمومات وردت بناء على أسباب خاصة، وقد عمم الصحابة أحكامها ولم يقصروها على أسباب ورودها، ولم ينكر ذلك عليهم فكان إجماعًا على التعميم ولو كان السبب مانعًا من اقتضاء اللفظ للعموم، لكان إجماع الأمة على التعميم خلاف الدليل.
رابعاً: اللفظ العام الوارد على سبب خاص لا يقصر على سببه كالخطاب الوارد في مكان وزمان فإنه لا يقصر عليهما.
خامساً: أن تخصيص اللفظ العام الوارد على سبب خاص بسببه الخاص يعني إلغاء الزيادة التي تكلم بها، وإذا قيل بعمومه كان ذلك اعتبارًا لها، واعتبار الزيادة أولى من إلغائها.
القول الثاني: أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، فيسقط عموم اللفظ بالسبب الذي ورد عليه، وقد نقل هذا المذهب عن مالك والشافعي وأحمد، وأبي ثور، والمزني وغيرهم وقال به جمع كثير من أهل العلم واستدلوا بما يلي:
أولاً: أن المراد بهذا اللفظ بيان حكم السبب فقط، ولولا ذلك لما أخَّر بيان الحكم إلى زمن وقوع الواقعة لأنه ممتنع، وإذا كان المقصود بيان حكم السبب فقط وجب قصر اللفظ عليه.
وأُجيب عن هذا بجوابين:
أحدهما: أن وقوع الواقعة في هذا الوقت أمر تقتضيه حكمة الله التي استأثر بعلمها دون غيره، فربما تفوت المصلحة، ولا يتأتى انقياد العباد لو تقدم الوقوع أو تأخر.
الثاني: أنه يلزم منه أن تكون العمومات الواردة على أسباب خاصة كآية الظهار واللعان مختصةً بأسبابها لأنه أخر البيان إلى وقوع الواقعة وذلك خلاف الإجماع.
ثانياً: لو كان اللفظ العام الوارد على سبب خاص مقصوداً به العموم لجاز تخصيص السبب وإخراجه عن العموم بالاجتهاد كما يجوز تخصيص غيره من الصور الداخلة تحت العموم بالاجتهاد ضرورة تساوي نسبة العموم إلى جميع الصور الداخلة تحته.
وأُجيب بمنع الملازمة بين قصد العموم باللفظ وجواز تخصيص السبب بالاجتهاد؛ لأن اللفظ ورد بياناً لحكم السبب فكان مقطوعاً به فيه فلذلك امتنع تخصيصه بالاجتهاد بخلاف غيره من الصور، فإن الخلاف جارٍ في كونه بيانًا لها أو لا، فكان تناوله لها مظنوناً، فلذلك جاز إخراجها عن عموم اللفظ بالتخصيص بالاجتهاد.
ثالثاً: لولا اختصاص الحكم بسببه لما نقل الراوي السبب؛ لأن نقله على هذا التقدير يكون عديم الفائدة، لكن لما نقل الرواة أسباب الأحكام، وحافظوا على نقلها دل ذلك على اختصاص الحكم بالسبب.
وأجيب بأنا لا نسلم أن نقل السبب لا فائدة له بل له فوائد:
منها: بيان أخصية السبب بالحكم، أي أن السبب أخص بالحكم من غيره من صوره فيمتنع تخصيصه على ما سبق فيه.
ومنها: معرفة تاريخ الحكم بمعرفة سببه، وفي معرفة التاريخ فائدة معرفة الناسخ من المنسوخ.
ومنها: توسعة علم الشريعة بمعرفة الأحكام بأسبابها.
ومنها: التأسي بوقائع السلف، وما جرى لهم، فيخف حكم المكاره على الناس.
رابعاً: أن العام الوارد على سبب خاص، جواب له، والأصل في جواب السؤال أن يكون مطابقاً له، فلو كان هذا العام مراداً به العموم لم يكن مطابقًا، بل يصير ابتداء كلام فدل ذلك على أنه مراد به الاختصاص بسببه.
وأجيب: بأنه إن أُريد بمطابقة الجواب للسؤال الكشف عنه وبيان حكمه فقد وجد. وإن أُريد بها أن يكون الجواب مساوياً للسؤال فلا يكون بياناً لغير ما سُئل عنه فلا نسلم أنها الأصل. ولهذا لما سأل اللَّه موسى بقوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى)، فقد كان يكفي في الإجابة قوله: (هِيَ عَصَايَ) ولو كان الاقتصار على نفس المسؤول عنه هو الأصل لكان بيان موسى - عليه السلام - لذلك على خلاف الأصل.
ومثل ذلك سؤاله - عليه الصلاة والسلام - عن الوضوء بماء البحر فأجابهم وزادهم بحلِّ ميتته.
وبما تقدم من أدلة القولين فقد تبين أن أسعد القولين بالصواب قول من قال: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لسلامة الأدلة وخلوها من معارض صحيح.
ولا يعني الخلاف في المسألة أن الأحكام النازلة بسبب حوادث خاصة أنها تختص بمن نزلت بسببهم، بل هي عامة لهم ولغيرهم حتى على قول من يرى أن العبرة بخصوص السبب لكن الفرق بين القولين أن من يرى أن العبرة بعموم اللفظ يقول أخذنا هذا العموم عن طريق اللفظ العام.
أما من يرى أن العبرة بخصوص السبب فيقولون لم نأخذ العموم في هذه الأحكام من طريق اللفظ العام؛ لأن هذا اللفظ العام مختص بسببه، ولكن أخذنا ذلك العموم من القياس، أي قياس الحوادث المشابهة لما حدث لعويمر، وهلال، وأَوس على ما حدث لهؤلاء والله أعلم.
وبعد ذكر قول الأُصوليين في المسألة سأذكر ما وقفت عليه من أقوال العلماء في اعتبارهم لعموم اللفظ دون خصوص السبب. فأقول:
قال الطبري مقرراً هذه القاعدة: (وأن الآية كانت قد نزلت لسبب من الأسباب ويكون الحكم بها عاماً في كل ما كان بمعنى السبب الذي نزلت فيه) اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد يجيء كثيرًا من هذا الباب قولهم هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصاً كأسباب النزول المذكورة في التفسير كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت) فذكر كلامًا ... حتى قال: (فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم، ولا عاقل على الإطلاق.
والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين وإنما غاية ما يقال إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ). اهـ.
وقال أيضاً في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) ووجهه ظاهر الخطاب، فإنه عام فيجب إجراؤه على عمومه، إذ لا موجب لخصوصه، وليس هو مختصاً بنفس السبب بالاتفاق، لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داخل في العموم، وليس هو من السبب، ولأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل، فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك، وقد علم أن شيئًا منها لم يقصرعلى سببه).
وقال ابن كثير في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ... ) الآية: (قلت: والصحيح أن الآية عامة وإن صح أنها وردت على سبب خاص، والأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء). اهـ.
وقال السيوطي: (اختلف أهل الأصول هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ والأصح عندنا الأول، وقد نزلت آيات في أسباب واتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها). اهـ.
وقال السعدي: (العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، وهذه قاعدة نافعة جدًا بمراعاتها يحصل للعبد خير كثير، وعلم غزير، وبإهمالها وعدم ملاحظتها يفوته علم كثير ويقع الغلط والارتباك، وهذا الأصل اتفق عليه المحققون من أهل الأصول وغيرهم). اهـ.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 138 الى صـ 142
الحلقة (24)
وقال الشنقيطي: (فما الدليل في ذلك على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟
فالجواب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل بما معناه هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ فأجاب بما معناه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثم ساق حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً أصاب من امرأة قبلةً فأتى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له فأنزلت عليه: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) قال الرجل: ألي هذه؟ قال: (لمن عمل بها من أمتي)، وفي رواية في الصحيح قال: الجميع أمتي كلهم).
فهذا الذي أصاب القبلة من المرأة نزلت فى خصوصه آية عامة اللفظ، فقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألي هذه؟ ومعنى ذلك: هل النص خاص بي لأني سبب وروده؟ أو هو على عموم لفظه؟ وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له: (لجميع أُمتي) معناه أن العبرة بعموم لفظ: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) لا بخصوص السبب والعلم عند اللَّه تعالى). اهـ.
وبعد هذا التقرير من اعتبار عموم الألفاظ دون خصوص الأسباب سأذكر عددًا من الأمثلة تناولتها بالدراسة تدل على ذلك. ومنها:
1 - أخرج البخاري وأحمد والدارمي والترمذي والنَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث، فقلت: يا رسول اللَّه لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).
2 - أخرج البخاري وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ويومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً (فلما) حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت هذه الآية: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ففرحوا بها فرحاً شديدًا، ونزلت: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ).
3 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن كعب بن عجرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وقف عليَّ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً، فقال: (يؤذيك هوامك) قلت: نعمِ قال: (فاحلق رأسك) قال: فيَّ نزلت هذه الآية: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ ... ) إلى آخرها فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفَرَق بين ستة أو انسك بما تيسر).
4 - أخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن معقل بن يسار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها نزلت فيه: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) قال: زوجت أُختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وفرشتك وأكرمتك، فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلاً لا بأس، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل اللَّه هذه الآية: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) فقلت: الآن أفعل يا رسول اللَّه قال: (فزوجها إياه).
5 - أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول اللَّه، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قُتل أبوهما معك في أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال قال: فقال:(يقضي اللَّه في ذلك) قال: فنزلت آية الميراث فأرسل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عمهما، فقال: (أعطِ ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك).
وآية الميراث هي قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ... ) الآية.
بقي أن يُقال جاء عن أبي أيوب الأنصاري، وابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما يدل على أنهما يريان أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.
فأما أبو أيوب فقد أخرج الترمذي وأبو داود والنَّسَائِي عن أسلم أبي عمران التجيبي قال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا سبحان اللَّه، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري، فقال: يا أيها الناس إنكم لتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أُنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز اللَّه الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أموالنا قد ضاعت، وإن اللَّه قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل اللَّه على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرد علينا ما قلنا: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).
والجواب أن يقال: لا دلالة في الحديث على اعتبار خصوص السبب دون عموم اللفظ لأن أبا أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يرى الاقتحام في صفوف الأعداء مأذوناً به شرعاً لأنه كان يشاهد ذلك من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا ينكر عليهم وإذا أُذن فيه شرعاً فلن تنهى الآية عنه، وأما ما عدا ذلك من صور إلقاء النفس إلى التهلكة فإن الآية تتناولها، ولا تختص بمن نزلت فيه وهم الأنصار واللَّه أعلم.
وأما ابن عبَّاسٍ فقد أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي أن مروان قال: اذهب يا رافع (لبوَّابه) إلى ابن عبَّاسٍ فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: مالكم ولهذه الآية؟ إنما أُنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. سألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.
والجواب عن هذا أن يقال: لا دلالة في الحديث على اعتبار خصوص السبب دون عموم اللفظ ولعل هذا يتبين بتقسيم القضية إلى صورتين:
الأولى: أن يفرح المرء بما أتى من فعل لا معصية فيه، وأحب أن يحمد بما لم يفعل، من غير أن يقع منه كتمان شيء أو كذب على أحد فهذا لا تتناوله الآية كما قاله ابن عبَّاسٍ لأن صاحبه لم يقع منه عمل.
غاية الأمر: أنه أحب أن يحمد بما لم يفعل، وهذه طبيعة النفس البشرية، وهذا هو الذي قصده مروان، ويدل على ذلك قوله: (لنعذبن أجمعون)، ولا يخفى أنه ليس كل الناس يكتمون ويكذبون، فتبين أن مراده ما تقدم.
الثانية: أن يفعل المرء عين ما فعل اليهود من الكذب والكتمان فهذا ما يتناوله نص الآية، ولا فرق بين أن يقع الفعل من اليهود أو من غيرهم، وهذه الصورة لم يسأل عنها مروان لأنه لا يُستغرب أن يعذَّب من هذا حاله، وإنما كان استغرابه أن يُعذَّب على فعلٍ يقع من الجميع، ولا ذنب فيه.
* * *
المبحث السادس
تكرر النزول
القول بتكرر نزول بعض آيات القرآن من المباحث القديمة المتجددة، يبعثه ويغذيه بعض الروايات المتعارضة في الظاهر، حيث ألجأت بعض العلماء إلى القول بهذا لما أشكل عليهم الجمع بينها أو ترجيح بعضها، وسأذكر ما وقفت عليه من قولي العلماء، وما احتجوا به على هذه المسألة، ثم أُتبع هذا بدراسة الأمثلة التي احتجوا بها على التكرر دراسة مختصرة ثم أُبين الراجح في المسألة فأقول:
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
الأول: قول من يرى أن من القرآن ما تكرر نزوله واختار هذا ابن الحصار والسخاوي والزركشي والسيوطي.
قال ابن الحصار: (قد يتكرر نزول الآية تذكيراً وموعظة). اهـ. وقال السخاوي: (فإن قيل: فما فائدة نزولها مرة ثانية؟ قلت: يجوز أن تكون نزلت أول مرة على حرف واحد، ونزلت في الثانية ببقية وجوهها نحو: ملك، ومالك، والسِّراط، والصراط ونحو ذلك). اهـ.
وقال الزركشي: (وقد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه، وتذكيراً به عند حدوث سببه خوف نسيانه.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 143 الى صـ 147
الحلقة (25)
والحكمة في هذا كله: أنه قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة تقتضي نزول آية وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها، فتؤدَّى تلك الآية بعينها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تذكيراً لهم بها، وبأنها تتضمن هذه.
والعالِم قد يحدث له حوادث فيتذكر أحاديث وآيات تتضمن الحكم في تلك الواقعة وإن لم تكن خطرت له تلك الحادثة قبل، مع حفظه لذلك النص). اهـ.
وقال السيوطي: (تنبيه: قد يجعل من ذلك الأحرف التي تقرأ على وجهين فأكثر ويدل له ما أخرجه مسلم من حديث أُبي: (إن ربي أرسل إليَّ أن اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أُمتي، فأرسل إليَّ أن اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هون على أمتي فأرسل إليَّ أن اقرأه على سبعة أحرف) فهذا الحديث يدل على أن القرآن لم ينزل من أول وهلة بل مرةً بعد أخرى). اهـ.
وخلاصة حجتهم ما يلي:
1 - أن النزول يتكرر لغرض إنزال بقية الأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها.
2 - تذكير المخاطبين وموعظتهم بها.
3 - تعظيم شأن المنزل.
4 - تذكير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها خوف النسيان.
5 - وجود أمثلة من القرآن تدل على هذا.
القول الثاني: أنه ليس في القرآن شيء تكرر نزوله واحتجوا بما يلي:
1 - أن هذا خلاف الأصل، قال ابن حجر: (والأصل عدم تكرر النزول).
2 - عدم الفائدة في تكرر النزول لأنه تحصيل حاصل.
3 - عدم الدليل الصحيح على وقوع التكرر.
والبداية بالجواب عما ذكره القائلون بتكرر النزول.
فقولهم: إن النزول يتكرر لغرض إنزال بقية الأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها. فالجواب عنه من وجوه:
أ - أن من لازم القول بهذا ارتباطَ الأحرف السبعة بأسباب النزول؛ لأن النزول لن يتكرر إلا بوجود أسبابه.
والواقع أن الأحرف السبعة تخالف أسباب النزول في الموضوع والغاية، فالغرض من تكرر النزول على فرض وقوعه معالجة ما يستدعي ذلك من القضايا الخاصة، بينما الغرض من إنزال القرآن على سبعة أحرف التيسير والتسهيل على الأمة عامة في قراءة القرآن وفرق بيِّن بين الأمرين.
ب - أن مقتضى استدلالكم بنزول الأحرف السبعة على تكرر النزول أن يكون لما ذكرتم من الأمثلة صلة بالأحرف وهذا ما لا يوجد، حتى أنتم لما ذكرتم التكرار لم تقولوا إنها في النزول الأول كانت بحرف كذا، وبالنزول الثاني كانت بحرف كذا، بل غاية الأمر عندكم أنكم لجأتم للقول بتكرر النزول لما اشتبه عليكم المكي بالمدني.
جـ - أن الأحرف السبعة التي نزل القرآن بها لو كان لها صلة بتكرر النزول لكانت الأدلة على تكرر النزول تربو عن المذكور بكثير، وهذا ليس بغريبٍ، إذا علمنا أن الأحرف سبعة وأن عدد سور القرآن يبلغ مائة وأربع عشرة سورة، فلماذا اقتصرتم على بضعة أمثلة يرددها اللاحق عن السابق، وتركتم الجم الغفير منها، ولم تصدروا بها قولكم مع أن الأدلة والأمثلة هي مادة حياة القول وسبب بقائه.
وأما قولهم: إن في تكرر النزول لبعض الآيات تذكيراً وموعظةً بها.
فالجواب أن يقال: إن التذكير والموعظة يحصل بالتفكر والتدبر في آيات اللَّه الشرعية والكونية.
قال اللَّه تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29).
وقال تعالى: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45).
وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185).
فالذكرى تنال بالتدبر والتفكر لا بتكرار النزول، ولو كان التذكير والموعظة يستلزم التكرار لترتب على هذا أمران:
الأول: تعطيل التفكر والتدبر في كتاب اللَّه مع أنه الغاية من الإنزال كما دلت على هذا الآية السابقة.
الثاني: استمرار النزول ودوامه إلى قيام الساعة لأن حاجة الناس للتذكير والموعظة لا تنقطع، فهل كلما دعت حاجة إلى التذكير اقتضى الأمر النزول؟ هذا لا يقوله أحد، حتى وإن قال بتكرر النزول، ولعل المرء يقول القول لكن يغيب عن ذهنه لازمُه وما يترتب عليه واللَّه أعلم.
وأما قولهم: إن في تكرر النزول تعظيماً لشأن المنزّل.
فالجواب أن يقال: المنزّل لا يفتقر للتكرار حتى يكون عظيمًا بل يكفيه تعظيماً وتشريفًا أنه كلام اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فهذا أعظم شرف للقرآن.
ولو أننا ضربنا مثلاً - وللَّه المثل الأعلى - بملِكين من ملوك الدنيا، أحدهما يُصدر الأمر بالشيء فتتم الاستجابة لأمره بشكل كامل، ومن غير إبطاء.
والآخر يفعل الشيء نفسه لكن أمره أحيانًا يواجه بالرفض، وأحيانًا بالتنفيذ الجزئي، وأحياناً بالإبطاء، فهو يضطر لفعل الشيء الواحد أن يصدر عددًا من الأوامر.
فأيُّ المَلِكين أعظم شأناً في أمره وسلطانه؟
فالجواب: بلا ريب أن الأول أعظم شأناً في نفسه وأمره مع أنه لم يكرر أمره، بخلاف الثاني فالضعف يلتف حوله ويحيط بأمره مع كونه يكرر الأوامر التي لم تغن عنه شيئاً.
فإذا كان هذا شأن المخلوق على ما فيه من ضعف، فكيف الشأن بالخالق الذي له القوة جميعاً.
وبهذا يتبين أن التكرر في النزول لا يدل على تعظيم المنزّل، بل التعظيم حاصل بنزوله فقط مرة واحدة. والله أعلم.
وأما قولهم: إن في تكرر النزول تذكيراً لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها خوف نسيانه.
فالجواب عن هذا أن يقال: إن الله تعالى قال: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) وقال تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ).
ولن يصطفي الله لرسالته أحداً إلا إن كان مهيأ للرسالة، صالحاً لها، مع إمداده، بما يكون به صلاح الدعوة، وقوة الحجة من الأسباب المادية الحسية والمعنوية، ولرسولنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأسباب أسماها وأعلاها، كيف لا وهو سيد ولد آدم، وخاتم النبيين، ورسالته أوعبت الجنس والمكان والزمان.
أفيمكن بعد هذا أن يقال إنه نسي الآية التي بين يديه، أو خفيت عليه دلالتها على تلك الحادثة حتى ينزل الوحي مرة ثانية.
إن أحداً من العلماء الراسخين لو وقع هذا منه لكان مستغرباً باعثاً على الشك في حسن فهمه لنصوص الوحي، فكيف يقال هذا في رسول الله -- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ --؟
فقول الزركشي: (قد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه وتذكيراً به عند حدوث سببه خوف نسيانه) لا يخلو من أمرين:
الأول: إن أراد أن النسيان واقع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أظهرهم يذكرهم بكتاب الله، وحينئذٍ تنتفي الحاجة للتكرار.
الثاني: إن أراد أن النسيان واقع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهذا عين الخطأ والخطل والخطر، والله المستعان.
أما استدلالهم ببعض الروايات على تكرر النزول لتعارضها في الظاهر فإليك مناقشتها:
أولاً: الفاتحة فقد ذهب بعض أهل العلم إلى نزولها مرتين ظنا منهم أنها نزلت مرة في مكة، ومرة في المدينة.
وقد استُدل على نزولها بمكة بأن الله ذكرها في سورة الحجر بقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ومما يدل على أن المراد بالآية هنا سورة الفاتحة ما روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أُصلي في المسجد، فدعاني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أُصلي فقال: (ألم يقل اللَّه: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) ثم قال لي: (لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد)، ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن. قال: (الحمد للَّه رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيتُه).
وجه الدلالة من الحديث على أنها مكية أن اللَّه تعالى ذكر إيتاءها رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سورة الحجر، وهذه السورة مكية كلها.
قال ابن عاشور: (حكي الاتفاق عليها).
وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن تكون الفاتحة قد نزلت قبل سورة الحجر، وبناءً عليه لا بد أيضًا أن يكون نزولها في مكة.
أما من استدل على نزولها بالمدينة فاحتج بما روى مسلم عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: بينما جبريل قاعد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع نقيضًا من فوقه فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم. فنزل منه ملك. فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال: أبشر بنورين أُوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة لن تقرا بحرف منهما إلا أُعطيته.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 148 الى صـ 152
الحلقة (26)
وجه الدلالة من الحديث على أنها مدنية: أنها قرنت بنزول الملك بها مع خواتيم سورة البقرة مع أنها مدنية.
والراجح - واللَّه أعلم - أنه لا معارضة بين الحديثين، وأن السورة إنما أُنزلت في مكة فقط، أما حديث ابن عبَّاسٍ فلا يدل على أنها مدنية، بل غاية الأمر أن الحديث يدل على فضلها ولهذا قال القرطبي: (إن جبريل - عليه السلام - نزل بها في مكة، ونزل هذا الملك بفضلها وثوابها في المدينة، فجبريل هو أمين الوحي وقد قال اللَّه تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) وهذا يقتضي نزوله بجميع القرآن دون استثناء). اهـ.
ثانياً: قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113).
أ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والنَّسَائِي عن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد عنده أبا جهل ابن هشام، وعبد اللَّه بن أبي أُمية بن المغيرة، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي طالب: (يا عَمِّ قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند اللَّه) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمية: أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا اللَّه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أما واللَّه لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك) فأنزل الله فيه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ... ).
ب - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه، وهما مشركان. فقلت: أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان؟ فقال: أوَلم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) - إلى قوله -: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) قال: (لما مات).
جـ - أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردوية والبيهقي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومًا إلى المقابر فاتبعناه حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلاً ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم قام فقام إليه عمر فدعاه ثم دعانا فقال: ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك. قال: إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، وإني استأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل عليَّ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني.
هذه ثلاثة أحاديث جاء فيها نزول هذه الآية الكريمة، فذهب بعض العلماء لتكرر النزول. وعندي - واللَّه أعلم - أن هذه الأحاديث لا تدل على ذلك، وبيان ذلك أن يقال:
إن حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في زيارة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبر أمه واستغفاره لها، ونزول الآية فيه لا يصح سبباً للنزول لضعف سنده وقد قال فيه الذهبي: (هذا من غرائب الحديث) وقال ابن كثير: (غريب).
وأما حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سماعه رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فالحديث أيضاً لا يصح لضعفه في سنده، وشذوذه في متنه، فكيف يحتج به على النزول. فلم يبق إلا حديث المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في استغفار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمه أبي طالب لصحة إسناده، واحتجاج جمهور العلماء به واللَّه أعلم.
ثالثاً: قال اللَّه تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114).
أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً أصاب من امرأةٍ قبلةً فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره فأنزل اللَّه: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟ قال: (لجميع أمتي كلهم).
قال الزركشي: (فهذا كان في المدينة، وسورة هود مكية بالاتفاق ولهذا أشكل على بعضهم هذا الحديث مع ما ذكرنا ولا إشكال لأنها نزلت مرة بعد مرة). اهـ.
وما ذكره الزركشي لا ريب أنه ضعيف، وقوله: إنها مكية بالاتفاق ليس بصحيح فقد قال ابن عبَّاسٍ وقتادة: إنها مدنية، وحسبك. بهما، ولا مانع أن تكون السورة مكيةً وهذه الآية منها مدنية لوجود السبب الدال على ذلك، وحينئذ ينتفي القول بتكرر النزول.
رابعاً: قال الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126).
أخرج الترمذي والنَّسَائِي عن أُبيّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما كان يوم أحد أُصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لنربينَّ عليهم، قال: فلما كان يوم فتح مكة فأنزل الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كفوا عن القوم إلا أربعة).
قال ابن الحصار: (إنها نزلت أولاً بمكة قبل الهجرة مع السورة لأنها مكية، ثم ثانيًا بأحد، ثم ثالثًا يوم الفتح تذكيرًا من الله لعباده). اهـ.
وعندي - واللَّه أعلم - أن ما ذكره ابن الحصار في تكرر النزول ثلاث مرات قول ضعيف لا يستند إلى دليل.
والعلماء متفقون على أن الآية نزلت لما همَّ الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن يضاعفوا العقوبة بالمشركين حين مثَّلوا بشهدائهم يوم أُحد.
قال ابن عطية: (أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد). اهـ.
فأما قول ابن الحصار: إنها نزلت أولاً بمكة قبل الهجرة مع السورة لأنها مكية، فيكفي هذا القول ضعفا عدم وجود الدليل عليه، ونزول سورة النحل بمكة قبل الهجرة لا يلزم منه أن تكون السورة كلها كذلك، ومن المعلوم أن من السور المكية آياتٍ مدنية والعكس صحيح.
وأما قوله: إنها نزلت ثالثًا يوم الفتح فليس له دليل إلا ما جاء في حديث أُبي: فلما كان يوم فتح مكة فأنزل اللَّه تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ... ) الآية.
فهذا وهم بلا ريب إذ كيف يتأخر النزول عن السبب خمس سنين، ومما يدل على تطرق الوهم للحديث أن مداره على الربيع بن أنس وهو صدوق له أوهام.
فإذا انتفى القول بنزولها قبل الهجرة ويوم الفتح لم يبق إلا نزولها عند غزوة أُحد واللَّه أعلم.
خامساً: قال اللَّه تعالى: (وَيَسْأَلونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85).
أ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرث بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود. فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يُوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي ثم قال: (وَيَسْأَلونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
ب - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت: (وَيَسْأَلونك عَنِ الرُّوحِ ... ) قالوا: أُوتينا علماً كثيرًا أُوتينا التوراة ومن أُوتي التوراة فقد أُوتي خيرًا كثيرًا قال: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109).
قال الزركشي عما تكرر نزوله: (ومثله ما في الصحيحين عن ابن مسعود في قوله تعالى: (وَيَسْأَلونك عَنِ الرُّوحِ) أنها نزلت لما سأله اليهود عن الروح وهو في المدينة ومعلوم أن هذه في سورة (سبحان) وهي مكية بالاتفاق). اهـ.
وعندي - واللَّه أعلم - أن ما ذكره الزركشي ليس بسديد لأن القول بأن الإسراء مكية بالاتفاق يعارضه حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدال على نزول هذه الآية في المدينة، ونزول السورة في مكة لا يعني أنها بكمالها مكية، بل هي مكية في الغالب.
هذا من حيث المكي والمدني، أما النظر في الإسناد فحديث ابن مسعود في الصحيحين وغيرهما وليس الأمر كذلك بالنسبة لحديث ابن عبَّاسٍ فكيف إذا كان مختلَفًا في وصله وإرساله.
ثم ابن مسعود كان حاضرًا مشاهدًا لما وقع وقد روى ما شهد، بينما ابن عباس كان صغيراً لا يصح تحمله أو لم يولد بعد فكيف يكون حديثه على ما فيه ندًا لحديث ابن مسعود، وُيبنى عليه القول بالتكرار؟
سادساً: قال الله تعالى: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ... ) الآيات.
أخرج الترمذي عن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ) - إلى قوله -: (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس.
فهذا الحديث يدل على نزول الآيات يوم بدر، وهذا يعني أنها مدنية، بينما دلت الآثار وأقوال المفسرين على نزولها في مكة لما غلبت الفرسُ الرومَ فاستبشر بذلك المشركون.
ومن هنا ذهب من ذهب إلى تكرر النزول لأنها نزلت قبل الهجرة وبعدها.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 153 الى صـ 157
الحلقة (27)
والراجح - واللَّه أعلم - أن ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد هذا لا يصح أن يكون سبباً للنزول لأن سياق الآيات يأبى ذلك ويرده وبيان ذلك أن يقال:
إن الحديث يدل على أن ظهور الروم على فارس إنما وقع يوم بدر، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يبشر اللَّه المؤمنين بأن الروم ستنتصر على فارس في بضع سنين، والنصر قد تم للروم في يوم بدر - حسبما يقتضيه الحديث -.
وإذا أضفت إلى هذه العلةِ إعراضَ المفسرين عنه واختيارهم لخلافه، وكون السورة مكية، وضعف إسناده واضطرابه تبين لك أنه لم يبق في الحديث رمق، وحينئذٍ تبقى آثار السلف وأقوال المفسرين الدالة على نزولها في مكة سالمةً من معارض صحيح، فينتفي القول بتكرر النزول لعدم الدليل عليه واللَّه أعلم.
سابعاً: قال الله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4).
أخرج أحمد والترمذي عن أُبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن المشركين قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا محمد انسب لنا ربك فأنزل اللَّه: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ... ) السورة.
فهذا الحديث يدل على نزولها في مكة لأن المشركين كانوا في مكة.
وذهب بعض أهل العلم إلى نزولها في المدينة لأن السائلين من اليهود.
قال الزركشي: (وكذلك ما ورد في (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أنها جواب للمشركين في مكة، وأنها جواب لأهل الكتاب بالمدينة). اهـ.
والراجح - واللَّه أعلم - أن سورة الصمد لم تنزل إلا مرةً واحدةً في مكة، هذا على افتراض أن الحديث في سؤال المشركين لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نسب ربه يصح الاحتجاج به وإلا فالحديث مرسل ضعيف لأن مداره على أبي جعفر الرازي وهو صدوق سيئ الحفظ، وروايته عن الربيع خصوصًا فيها اضطراب كثير.
فإذا كان هذا شأن النزول في مكة مع أنه قول جمهور العلماء، فكيف إذن شأن النزول في المدينة مع أن المرويات فيه ضعيفة جداً بسبب الشذوذ، والانقطاع، وغير ذلك؟
وبناءً على ما تقدم هل يصح القول بتكرر النزول مع عدم الدليل الصحيح على ذلك؟
الجواب: لا، فليس للقائلين بتكرر النزول مثال واحد صحيح يسلم عند البحث والمناظرة، مع أن الأمثلة هي أقوى ما يُحتج به لقولهم. واللَّه أعلم.
وأما القائلون بعدم تكرر النزول فاحتجوا بما يلي:
أ - أن تكرر النزول خلاف الأصل. قال ابن حجر: (والأصل عدم تكرر النزول). وهذا حق أن الأصل عدمه، ومن خالف الأصل طولب بالدليل.
ب - عدم الفائدة في تكرر النزول لأنه تحصيل حاصل، وهذا صحيح فلم أجد فيما ذكروا فائدة من تكرر النزول، بل هو تحصيل أمرٍ حاصل موجود.
جـ - عدم وجود الدليل الصحيح على التكرر. وهذا حق بعدما تبين من دراسة الأمثلة التي ذكروها، وإذا انتفى دليل القول انتفى القول ضرورةً.
وبما تقدم يتبين أنه ليس لتكرر نزول بعض السور والآيات وجود أصلاً في كتاب اللَّه تعالى أو سنّة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد ذكر ابن القيم معنًى خاصاً لقولهم: نزلت مرتين وهو التذكير بالآية إما من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإما من جبريل فأُطلق على ذلك النزول.
ولهذا لما ذكر قول بعض العلماء في نزول قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) وأنها نزلت في بني سلمة لما أرادوا النُّقلة إلى قرب المسجد قال: (وفي هذا القول نظر، فإن سورة يس مكية، وقصة بني سلمة بالمدينة إلا أن يُقال هذه الآية وحدها مدنية، وأحسن من هذا أن تكون ذُكرت عند هذه القصة ودلت عليها، وذُكروا بها عندها، إما من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإما من جبريل فأطلق على ذلك النزول ولعل هذا مراد من قال في نظائر ذلك: نزلت مرتين). اهـ.
وفي قول ابن القيم - رحمه الله - نظر من وجهين:
الأول: أن المعنى الذي ذكره لا يسعفه اللفظ؛ لأن التذكير لا يعبر عنه بالنزول، ولو أرادوا بتكرر النزول التذكير بالنازل لقالوا فذكرهم بها ولم يقولوا نزلت مرة بعد مرة.
الثانى: أن هذا التوجيه منه متوجه لو كان بأيدينا مثال صحيح، أما مع عدم الدليل فلا يصح واللَّه أعلم.
* * *
الفصل الثاني
ضوابط الترجيح في أسباب النزول
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: الترجيح بتقديم الصحيح على الضعيف.
المبحث الثاني: الترجيح بتقديم السبب الموافق للفظ الآية على غيره.
المبحث الثالث: الترجيح بتقديم قول صاحب القصة على غيره.
المبحث الرابع: الترجيح بتقديم قول الشاهد للسبب على الغائب عنه.
المبحث الخامس: الترجيح بدلالة السياق القرآني.
المبحث السادس: الترجيح بدلالة الوقائع التاريخية.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 158 الى صـ 162
الحلقة (28)
الفصل الثاني
ضوابط الترجيح في أسباب النزول
الضوابط الترجيحية بمنزلة النجوم التي يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر كما قال اللَّه تعالى: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)، كما أن أثرها عميق في تحديد الراجح من المرجوح، وبيان الصواب من الخطأ، ولهذا أكبَّ بعض العلماء على تحديد الضوابط المؤثرة في الترجيح، وألَّفوا لأجل ذلك المؤلفات، وصنّفوا المصنفات إما استقلالاً، وإما تبعاً وإلحاقاً، إدراكاً منهم لأهمية ذلك في تحديد المسائل وتحريرها.
ولئن كانت الضوابط مفيدة في الترجيح بين الأقوال والأسباب، فإن هذا لا يعني اطرادها في كل مسألة، فقد يتخلف هذا أحياناً إذا اقتضى الأمر ذلك ودلت عليه الدلائل من هنا وهناك كما هو الشأن فى سائر القواعد والضوابط.
كما أن الحديث عن الترجيح بين الأسباب لا يعني بالضرورة أن يوجد سببان فأكثر، فتطبيق تلك الضوابط ممكن حتى مع وجود السبب الواحد فقط، فقد يتبين من إعمال الضوابط أن الآية لم تنزل على سبب أصلاً وإنما نزلت ابتداءً، وقد يتبين أيضاً أن للآية سببًا آخر غير الذي معنا.
ومهما يكن من أمر فإن الغرض هنا هو الوصول إلى النتيجة عبر وسائل شرعية ومسالك علمية بعيداً عن هوى النفس وحظوظها.
أما اختياري لهذه الضوابط دون غيرها فلاعتقادي أن لها تأثيراً في تعيين الأسباب.
وسأجتهد في ذكر بعض الأمثلة التي تناولتها بالدراسة، إذ لا يخفى أثر المثال في ترسيخ المقال.
وسأذكر - إن شاء الله - لكل ضابط خمسة أمثلة ليتبين للناظر وفرة الأمثلة في أسباب النزول، وأنها ليست نادرةً كما يفعله بعض المؤلفين في الدراسات القرآنية، حيث يقتصرون على مثال واحد، وأحياناً لا يخلو من مقال.
وأنا عازم - بإذن اللَّه - على بذل وسعي في اجتناب تكرار الأمثلة ما استطعت ومع هذا السعي فقد يوجد شيء تقتضيه مناسبة المثال.
المبحث الأول
الترجيح بتقديم الصحيح على الضعيف
عناية العلماء بأسباب نزول القرآن خاصةً تبعٌ لعنايتهم بمباحث السنّة النبوية عامة، ذلك أن أسباب النزول أحاديث وقعت في العصر النبوي فنزل القرآن بسببها، وحينئذٍ يكون شأنها كشأن سائر الأحاديث سواء بسواء.
ومن صور ذلك: العناية بدراسة أسانيدها، وتمييز صحيحها من سقيمها، وقد بذل العلماء لأجل ذلك جهوداً مضنية عظيمة، وأوقاتاً ثمينةً من أعمارهم وألّفوا المؤلفات المختصرة والمطولة في التاريخ، والطبقات، والجرح والتعديل، وارتحلوا لأجل ذلك شرقاً وغرباً، طلباً للحديث، تحملاً وأداءً، سماعاً وإسماعاً، ووضعوا الأسانيد، وقعّدوا القواعد التي لم يجرِ لها نظير في التاريخ، كل ذلك وغيره طلباً لحفظ سنّة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصيانة لها من الضعيف والدخيل.
وكانت نتيجة ذلك إعمالَ تلك القواعد في النصوص الشرعية، وتطبيقها عليها، وصولاً إلى خلاصة ذلك وهي معرفة أحكام اللَّه على المكلفين.
ولئن كان هذا هو الأصل في الموضوع، فإن نظرةً في مناهج المحدثين تنبئك بأن هذا ليس مطرداً دوماً، إذ اعتمد العلماء أحاديث ضعيفة في الأحكام، ورتبوا عليها القول بالحلال والحرام.
ومثلهم المفسرون فاستدلالهم بالأحاديث والآثار الضعيفة في إثبات المعاني، وأسباب النزول لا يخفى على من نظر فيه.
ولعل سبب سلوكهم هذا المنهج مع الأحاديث والآثار الضعيفة نظراً منهم، ومراعاةً لما يحتف بها من قرائن الترجيح المتعددة.
وقد شجعني هذا على الاعتقاد بأن بعض الأحاديث التي تناولتها بالبحث والدراسة، وإن كانت ضعيفةً في أسانيدها إلا أنها صالحة لأن تكون أسباب نزول، للقرائن التي تؤيدها كمطابقتها لِلفظ الآية، وسياق القرآن وأقوال المفسرين، وتعدد مخارج الحديث وشواهده.
وسأذكر من أقوال العلماء ما يدل على أن صحة الإسناد ليست شرطاً ثابتًا لقبول الحديث والاحتجاج به، بل إذا احتف به ما يقويه كان ذلك كافيًا في قبوله، والاعتماد عليه.
وقال الزركشي: وقد يعلم الفقيه صحة الحديث بموافقة الأصول أو آية من كتاب اللَّه تعالى فيحمله ذلك على قبول الحديث، والعمل به، واعتقاد صحته، وإذا لم يكن في سنده كذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب اللَّه تعالى وسائر أصول الشريعة.
قال ابن حجر: (وقد صرح أبو الحسن بن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل المغرب بأن هذا القسم - يعني الضعيف والمنقطع - لا يحتج به كله، بل يعمل به في فضائل الأعمال، ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه، أو عضده اتصال عمل، أو موافقة شاهد صحيح، أو ظاهر القرآن، وهذا حسن قوي رايق ما أظن منصفاً يأباه واللَّه الموفق).
وقال بعده بيسير: (والقلب إلى ما حرره ابن القطان أميل). اهـ بتصرف يسير.
وقال اللكنوي: (قال أبو الحسن بن الحضّار المالكي: قد يعلم الفقيه صحة الحديث - إذا لم يكن في سنده كذاب - بموافقة آية من كتاب اللَّه، أو بعض أصول الشريعة فيحمله ذلك على قبوله والعمل به). اهـ.
ونقل عن السيوطي أنه اختار ذلك فقال: (المقبول ما تلقاه العلماء بالقبول، أو اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم، أو وافق آية من القرآن،أو بعض أصول الشريعة، حيث لم يكن في سنده كذاب على ما ذكره ابن الحصار). اهـ باختصار.
وقد نقل اللكنوي نصوصًا كثيرة عن العلماء في هذا الباب تدل على ما تقدم، ولا ريب أن هذا يوجب للقلب طمأنينة وراحة في سلوك هذا المسلك والركون إليه.
ومع هذا فلا يعني الكلام المتقدم إهمال صحة الإسناد، وعدم اعتباره، بل إذا اجتمعت ضوابط الترجيح مع صحة الإسناد كان الحديث هو المقدم في سبب النزول.
وسأذكر من أقوال العلماء ما يبين رعايتهم لصحة الإسناد في إثبات الأسباب: -
أولاً: البغوي ففي نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ... ) الآية. ذكر حديث البراء عند مسلم في قضية اليهودي الذي زنى، ثم ذكر قضية القبيلتين من اليهود وحال الدية بينهما فقال: (والأول أصح لأن الآية في الرجم).
ثانياً: ابن العربي ففي نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ... ) الآية.
فقد ذكر ابن العربي ستة أسباب لنزول الآية ثم قال: (هذه الروايات ضعيفة إلا الأولى - يعني بها قصة زينب - والسادسة - يعني بها حديث أنس عن عمر في موافقته لله). اهـ.
ثالثاً: ابن كثير ففي قوله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ... ) الآية.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 163 الى صـ 167
الحلقة (29)
لما ذكر حديث خباب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي،وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدًا في ناسٍ من أصحابه ... الحديث.
قال ابن كثير: (وهذا حديث غريب فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر). اهـ.
رابعاً: ابن حجر العسقلاني ففي قوله تعالى: (وَيَسْأَلونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).
لما ذكر حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (قال: وهذا يدل على أن نزول الآية وقع بالمدينة لكن روى الترمذي ثم ساق حديث ابن عبَّاسٍ ...
ثم قال: ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح).
وسأذكر أمثلة تناولتها بالدراسة يتبين فيها ترجيح الصحيح على الضعيف.
1 - قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94).
فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) قال: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه، فأخذوا غنيمته، فأنزل اللَّه في ذلك إلى قوله: (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) تلك الغنيمة.
فهذا الحديث هو سبب نزول الآية لصحة إسناده وليس ما رواه أحمد من حديث عبد اللَّه بن أبي حدرد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعثنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى إِضَم فخرجت في نفر من المسلمين ... الحديث.
فإن هذا الحديث ضعيف لا يقارب حديث ابن عبَّاسٍ في صحة الإسناد.
2 - قال الله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128).
أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها -: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) قالت: الرجل تكون عنده المرأة، ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حلٍ فنزلت هذه الآية في ذلك.
فهذا الحديث هو سبب نزولها لصحة سنده وليس ما رواه الترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. فهذا الحديث ضعيف لا يحتج به. والله أعلم.
3 - قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102).
فقد أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بلغ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أصحابه شيء فخطب فقال: (عرضت عليَّ الجنة والنار، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً) قال: فما أتى على أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أشدُّ منه، قال: غطوا رؤوسهم ولهم حنين قال: فقام عمر فقال: رضينا باللَّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبياً، قال: فقام ذاك الرجل فقال: من أبي؟ قال: (أبوك فلان) فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).
فهذا الحديث هو سبب نزول الآية لصحة سنده، وليس سببها ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزلت هذه الآية: (وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) قالوا: يا رسول اللَّه، أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام؟ فسكت. قال: ثم قالوا: أفي كل عام؟ فقال: (لا، ولو قلت نعم لوجبت) فأنزل اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ). فإن هذا الحديث ضعيف لا يقارب حديث أنس في الصحة.
4 - قال اللَّه تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1).
أخرج أبو داود والنَّسَائِي من حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا قال: فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها، فلما فتح اللَّه عليهم قال المشيخة: كنا ردءاً لكم لو انهزمتم لفئتم إلينا فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنا فأنزل اللَّه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ... ) الآية.
فهذا الحديث هو سبب نزولها لصحة سنده وليس سببها ما أخرجه أحمد عن عبادة بن الصامت فهذا ضعيف لا يثبت كما قاله البخاري - رحمه الله -.
5 - قال اللَّه تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) ... الآية.
وقد أخرج البخاري وأحمد ومسلم والنَّسَائِي عن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد اللَّه بن أبي أمية بن المغيرة. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي طالب: (يا عمِّ قل لا إله إلا اللَّه كلمةً أشهد لك بها عند اللَّه) فقال أبو جهل وعبد اللَّه بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا اللَّه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك) فأنزل الله فيه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ... ) الآية.
فهذا الحديث هو سبب نزول الآية لصحة إسناده، وليس ما رواه أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان؟ فقال: أوَلم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت. (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) - إلى قوله -: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) قال: لما مات، فهذا الحديث لا يصح الاحتجاج به على النزول لضعف إسناده.
* * *
المبحث الثاني
الترجيح بتقديم السبب الموافق لِلفظ الآية على غيره
أسباب النزول التي نزلت بشأنها بعض آيات القرآن لوحِظ بعد تتبعها واستقرائها أنها تنحصر في نمطين:
الأول: الأقوال التي تقع من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو من أصحابه أو من غيرهم فكان اللَّه تعالى يجيبهم عنها تارةً بالتفصيل كما في قوله تعالى: (يَسْتَفْتونك قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ... ) الآية. فقد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصبَّ عليَّ من وضوئه، فعقلت، فقلت: يا رسول اللَّه لمن الميراث؟ إنما يرثني كلالة فنزلت آية الفرائض.
وتارة بالإجمال كما في قوله تعالى: (وَيَسْألونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا). فقد ثبت في الصحيح أن سبب نزولها قول اليهود لبعضهم حين مر بهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلوه عن الروح، فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن الروح، فنزلت الآية.
وتارةً بصرفهم عما سألوا وتنبيههم إلى الأهم كما في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالْأَقْرَبِين َ وَالْيَتَامَى ... ) الآية. فالسؤال إنما وقع عن المنفَق، وجاء الجواب ببيان المنفَق عليه لأنه الأهم.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 168 الى صـ 172
الحلقة (30)
وأيَّاً كان فالجامع المشترك بين هذه الأسئلة وأجوبتها هو الموافقة بين لفظي الآية وسبب نزولها.
الثاني: الأفعال التي تقع من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو من أصحابه أو من غيرهم فينزل القرآن معالجًا لها ومتحدثاً عنها وهذا هو الكثير في أسباب نزول القرآن.
ومن خلال تتبعي لأسباب النزول ودراستها تبين لي أنه لا بد من وجود قدر من الاتفاق بين أسباب النزول، والآيات التي نزلت لأجلها في الألفاظ، وإذا كان سياق الآيات قبل الآية وبعدها مؤثراً في تحديد سبب النزول - كما سيتبين لك - مع أن العلاقة بينهما ليست مباشرة، فلا ريب أن الصلة بين لفظ الآية وسبب نزولها أكثر التصاقاً، وأشد اتفاقاً، وبالتالي أبلغ أثراً.
ولأجل هذا فقد أثبتُّ أسباباً، ونفيت أخرى تطبيقاً لهذا الضابط وتثبيتاً له.
وسأذكر من أقوال العلماء ما يبين ملاحظة الألفاظ في تحديد المعاني:
أولاً: محمد بن جرير الطبري فقد ذكر قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205).
ثم ذكر قولين في معنى الإفساد: أحدهما: قطع الطريق وإخافة السبيل، والثاني: قطع الرحم إلى أن قال: (غير أن الأشبه بظاهر التنزيل أن يكون كان يقطع الطريق، ويخيف السبيل لأن اللَّه - تعالى ذكره - وصفه في سياق الآية بأنه سعى في الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، وذلك بفعل مخيف السبيل أشبه منه بفعل قطاع الرحم). اهـ.
وكأنه - والله أعلم - راعى معنى السعي والإهلاك وأنهما يقتضيان الفعل بخلاف قطع الرحم فليس فيه إلا الترك.
ثانياً: ابن عطية الأندلسي فإنه لما ذكع قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنّ َ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16).
قال: (قال السدي وقتادة وغيرهما: الآية الأولى في النساء المحصنات، يريد ويدخل معهم من أحصن من الرجال بالمعنى والآية الثانية هي في الرجل والمرأة البكرين، ومعنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه). اهـ.
فانظر كيف وصف القول بالتمام ثم استدرك ذلك لأن لفظ الآية يقلق عنه، أي لا يناسبه فكيف تفسر الآية به؟.
ثالثاً: ابن كثير فإنه لما ذكر حوار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع الأنصار وفيه: (يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم اللَّه بي)؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ألم تكونوا ضلالاً فهداكم اللَّه بي؟) قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: (أفلا تجيبوني؟) قالوا: ما نقول يا رسول اللَّه؟ قال: ألا تقولون: (ألم يخرجك قومك فآويناك، أو لم يكذبوك فصدقناك، أوَلم يخذلوك فنصرناك) قال: فما زال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول حتى جثوا على الركب وقالوا: أموالنا في أيدينا للَّه ولرسوله قال: فنزلت: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى).
قال: (وليس يظهر بين هذه الآية وهذا السياق مناسبة واللَّه أعلم).
رابعاً: الحافظ ابن حجر فإنه لما شرح حديث تميم الداري وعديِّ بن بداء في قصتهما مع السهمي الذي مات بأرض ليس بها مسلم، ونزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ).
قال: (وخص جماعة القبول باهل الكتاب، وبالوصية، وبفقد المسلم حينئذ منهم ابن عبَّاسٍ، وأبو موسى الأشعري وغيرهم، وهؤلاء أخذوا بظاهر الآية. وقوَّى ذلك عندهم حديث الباب فإن سياقه مطابق لظاهر الآية). اهـ باختصار يسير.
خامساً: الشوكاني فإنه لما ذكر المستضعفين في قوله تعالى:
(وَالْمستضعفين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ... ).
- قال: (والمراد بالمستضعفين هنا من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال الكفار، وهم الذين كان يدعو لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر كلامًا إلى أن قال: ولا يبعد أن يقال: إن لفظ الآية أوسع، والاعتبار بعموم اللفظ لولا تقييده بقوله: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) فإنه يشعر باختصاص ذلك بالمستضعفين الكائنين في مكة). اهـ.
سادساً: الشنقيطي فإنه ذكر قوله تعالى:
(وَالْمُحْصنات مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... ) الآية. ثم ذكر ثلاثة أقوال في معنى المحصنات فقال: (قال بعض العلماء: المراد بالمحصنات هنا أعم من العفائف والحرائر والمتزوجات.
وقال بعض العلماء: المراد بالمحصنات في الآية الحرائر.
وقال بعض العلماء: المراد بالمحصنات المتزوجات، وعليه فمعنى الآية: وحرمت عليكم المتزوجات لأن ذات الزوج لا تحل لغيره إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من الكفار وهذا القول هو الصحيح.
ثم رد القول الأول، ورد الثاني وقال: إنه غير ظاهر لأن المعنى عليه: وحرمت عليكم الحرائر إلا ما ملكت أيمانكم وهذا خلاف الظاهر من معنى لفظ الآية كما ترى. وصرح العلامة ابن القيم بأن هذا القول مردود لفظًا ومعنى فظهر أن سياق الآية يدل على المعنى الذي اخترنا، ويؤيده سبب النزول). اهـ بتصرف.
وسأذكر من الأمثلة التي تناولتها بالدراسة ما يبين ارتباط الآيات بأسبابها من حيث الألفاظ.
1 - أخرج أحمد ومسلم والدارمي وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوهن ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْأَلونك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) حتى فرغ من الآية. فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح).
2 - أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لما مات عبد اللَّه بن أُبيّ بن سلول دُعي له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي عليه، فلما قام رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثبتُ إليه. فقلت: يا رسول الله، أَتصلي على ابن أبي، وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ أُعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: (أخِّر عني يا عمر) فلما أكثرتُ عليه. قال: (إني خُيّرت فاخترت لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها) قال. فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) - إلى قوله -: (وَهُمْ فَاسِقُونَ) قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ واللَّه ورسوله أعلم.
3 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها اللَّه مما قالوا، فقال أبو بكر الصديق، وكان ينفق على مسطح لقرابته منه: والله لا أُنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة فأنزل اللَّه: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى ... ) قال أبو بكر: بلى واللَّه إني لأحب أن يغفر اللَّه لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: واللَّه لا أنزعها عنه أبداً.
4 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب بنت جحش دعا الناس طعموا ثم جلسوا يتحدثون قال: فأخذ كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام معه من الناس وبقي ثلاثة، وإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فأرخى الحجاب بيني وبينه وأنزل اللَّه - تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ)- إلى قوله -: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا).
5 - أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن أبي مُليكة قال: كاد الخيِّران أن يهلكا أبو بكر وعمر، لما قدم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد بني تميم أشار أحدهما بالأقرع بن حابس الحنظلي أخي بني مجاشع، وأشار الآخر بغيره، فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي، فقال عمر: ما أردتُ خلافك فارتفعت أصواتهما عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) - إلى قوله -: (عَظِيمٌ).
وفي لفظ للبخاري: فنزل في ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) حتى انقضت.
* * *
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 173 الى صـ 177
الحلقة (31)
المبحث الثالث
الترجيح بتقديم قول صاحب القصة على غيره
من ضوابط الترجيح عند العلماء بين الروايات عند اختلافها تقديم ما رواه صاحب القصة على غيره لأنه أعلم بملابساتها، وقد أشار ابن قدامة إلى هذا المعنى فقال: (الرابع: أن يكون راوي أحدهما صاحب الواقعة فقول ميمونة: تزوجني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن حلالاًن يقدم على رواية ابن عبَّاسٍ: نكحها وهو محرم). اهـ.
وهذا هو مذهب جمهور العلماء لكون ميمونة أعرف بحال العقد، ووقته، نظراً لاهتمامها ومراعاتها.
وسأذكر أمثلة من دراستي وقع الترجيح فيها لهذا الاعتبار:
1 - قال اللَّه تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
أخرج الترمذي وأبو داود والنَّسَائِي عن أسلم أبي عمران التجيبي، قال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم، أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يُلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس: إنكم لتُأوِّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أُنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرد علينا ما قلنا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم.
2 - قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77).
أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من حلف على يمين وهو فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) قال: فقال الأشعث بن قيس: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ألك بيّنة؟) قال: قلت: لا، قال: فقال لليهودي: (احلف). قال: قلت: يا رسول الله! إذن يحلف ويذهب بمالي قال: فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ... ) الآية.
3 - قال الله تعالى: (يَسْتَفْتونك قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176).
أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: مرضت فجاءني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعودني وأبو بكر، وهما ماشيان، فأتاني وقد أُغمي علي، فتوضأ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم صب وضوءه عليَّ فأفقت، فقلت: يا رسول الله - وربما قال سفيان: فقلت: أي رسول اللَّه - كيف أقضي في مالي، كيف أصنع في مالي؟ قال: فما أجابني بشيء حتى نزلت آية الميراث.
فجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صاحب القصة، وبهذا يعلم أن ما رواه ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال: سأل عمر بن الخطاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكلالة، فقال: (أليس قد بيّن اللَّه ذلك؟) قال: فنزلت: (يَسْتَفْتونك قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ).
خطأ لا يصح لأن يكون سببًا للنزول.
4 - قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91).
أخرج مسلم وأحمد عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وأتيتُ على نفر من الأنصار والمهاجرين. فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً. وذلك قبل أن تحرم الخمر. قال: فأتيتهم في حشٍّ، والحشُّ البستان، فإذا رأس جزور مشوي عندهم، وزِقّ من خمر. قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذُكرت الأنصار والمهاجرون عندهم، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح بأنفي. فأتيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيَّ - يعني نفسه - شأن الخمر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ).
5 - قال اللَّه تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24).
أخرج مسلم عن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدمنا الحديبية مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها قال:فقعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جبا الركية، فإما دعا وإما بسق فيها، قال: فجاشت فسقينا واستقينا. قال: ثم إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعانا للبيعة في أصل الشجرة. قال: فبايعته أول الناس، ثم بايع وبايع، حتى إذا كان في وسط من الناس، قال: (بايع يا سلمة) قال: قلت: قد بايعتك يا رسول اللَّه في أول الناس. قال: (وأيضاً) قال: ورآني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَزِلاً - يعني ليس معه سلاح -. قال: فأعطاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَفةً أو درقةً، ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال: (ألا تبايعني يا سلمة) قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس، قال: (وأيضاً) قال: فبايعته الثالثة، ثم قال لي: (يا سلمة أين حَجَفَتُكَ أو درقتك التي أعطيتك؟) قال: قلت: يا رسول اللَّه لقيني عمي عامر عَزِلاً فأعطيته إياها، قال: فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: (إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيباً هو أحب إليَّ من نفسي) ثم إن المشركين راسلونا الصلح، حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا، قال: وكنت تبيعاً لطلحة بن عبيد اللَّه أسقي فرسه، وأَحسه، وأخدمه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجرًا إلى الله ورسوله، قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها، فاضطجعت في أصلها، قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم، واضطجعوا، فبينما هم كذلك، إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين قُتل ابن زُنيم. قال: فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذتُ سلاحهم، فجعلته ضِغثاً في يدي. قال: ثم قلت: والذي كرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربتُ الذي فيه عيناه. قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وجاء عمي عامر برجل من القَبَلات يُقال له مكرز يقوده إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فرس مُجَفف في سبعين من المشركين. فنظر إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (دعوهم يكن لهم بدءُ الفجور وثناه) فعفا عنهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل اللَّه: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ... ) الآية.
المبحث الرابع
الترجيح بتقديم قول الشاهد للسبب على الغائب عنه
من ضوابط الترجيح بين الروايات عند اختلافها، وعدم إمكان الجمع بينها تقديم رواية من باشر القصة أو حضرها، وقد تحدث عن ذلك ابن قدامة قائلاً: (الخامس: أن يكون أحدهما باشر القصة كرواية أبي رافع تزوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ميمونة وهو حلال وكنت السفير بينهما مع رواية ابن عباس (يعني نكاحه إياها وهو محرم) فإن المباشر أحق بالمعرفة من الأجنبي ولذلك قدم الصحابة أخبار أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صحة صوم من أصبح جنبًا وفي وجوب الغسل من التقاء الختانين بدون الإنزال على خبر من روى خلاف ذلك). اهـ.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 178 الى صـ 182
الحلقة (32)
وقال السيوطي: (متى يرجح سبب على سبب. الحال الرابع: أن يستوي الإسنادان في الصحة فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر القصة ثم ذكر قصة الروح وحديث ابن مسعود). اهـ.
وسأذكر أمثلة من دراستي للأسباب تدل على ذلك:
1 - أخرج أحمد وأبو داود عن أبي أُمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نكري فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرَّف، وترمون الجمار وتحلقون رؤوسكم؟ قال: قلنا: بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن الذي سألتني، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل - عليه السلام - بهذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (أنتم حجاج).
2 - أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما كان يوم أُحد كُسرت رباعية رسول الله -- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشُجَّ في وجهه. قال: فجعل الدم يسيل على وجهه، فجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: (كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله؟) قال: فأنزل الله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128).
3 - أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بلغ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أصحابه شيء فخطب فقال: (عرضت عليَّ الجنة والنار، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً) قال: فما أتى على أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أشدُّ منه. قال: غطوا رؤوسهم ولهم خنين قال: فقام عمر، فقال: رضينا باللَّه رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، قال: فقام ذاك الرجل فقال:من أبي؟ قال: (أبوك فلان) فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).
4 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرث بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يُوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي، ثم قال: (وَيَسْألونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
5 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما تزوج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب بنت جحش دعا الناس، طعموا ثم جلسوا يتحدثون، قال: فأخذ كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام معه من الناس، وبقي ثلاثة، وإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا قال: فجئت فأخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فأرخى الحجاب بيني وبينه وأنزل اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) - إلى قوله -: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا).
* * *
المبحث الخامس
الترجيح بدلالة السياق القرآني
المراد بسياق القرآن هنا: (الآيات التي تسبق موضع الشاهد وتتبعه) ولدلالة السياق أثر كبير في فهم المعنى المنشود من الآية من حيث الموضوع، والخطاب، والأسباب التي أدت إليه، والآثار المترتبة عليه. ذلك لأن مقتضى البلاغة ارتباط الكلام بسابقه ولاحقه ارتباطاً يحوي المعنى ويضمه دون انفصال أو تشتت، بل مع حسن انتقال وتدرج في مراقي المباني والمعاني.
ولكتاب اللَّه وكلامه من هذه المعاني أسماها وأوفاها، كيف لا واللَّه قد قال: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ... ) الآية.
وهذه الدلالة لا تختص بأسباب النزول، بل هي جوهرية لفهم أيِّ نص كان سواءٌ أكان النص إلهياً أم نبوياً أم من سائر الكلام، إلا أن دلالة السياق القرآني أبلغ أثراً من كل سياق؛ لأن القرآن العظيم لا يطرقه احتمال الخطأ والوهم بخلاف غيره فقد أصابه حظه من ذلك.
ولئن كانت دلالة سياق القرآن في فهم معنى الآية هامة، فأثرها في تحديد سبب النزول أهم؛ لأن أسباب النزول قضايا وحوادث تعلق النزول بها، فلا بد أن يكون بينهما قدر من الاشتراك في الألفاظ والمعاني، وإلا فلا معنى لتسميتها أسباب نزول.
وقد تبيّنتُ أثر السياق منذ البداية، وكان محل عنايتي حتى النهاية، وأسندتُ الحكم إليه كثيراً على الأسباب قبولاً ورداً، فكان صارماً لا ينبو، وجواداً لا يكبو، وفتح الله عليَّ بسبب إعماله خيراً كثيراً، وقادني إلى نتائج لم أرَ من أشار إليها أو نبّه عليها، فما أكثر المعضلات التي تصدى لها السياق وحلها كأن لم تكن، وما أهون المشكلات إذا نصبتها على ميزان السياق فعادت هباءً منبثاً.
ولست مبالغاً حين أقول: إن إهمال النظر في كامل السياق الذي ورد فيه الحديث قاد إلى زلل الأقدام، وضلال الأفهام في فهم النصوص الشرعية.
فكم من خطأ ينشأ في فهم المعاني، وتحديد الأسباب حين يجتث الكلام من وسطه دون نظر أو تأمل في أوله ومنتهاه.
والخطأ هنا لا يقتصر على مجرد اللفظ، بل تنسحب آثاره على الممارسة والعمل إذا كان محلُّ الخطأ نصوصَ الأعمال.
فيا ليت شعري متى ندرك أن الكلمات ليست ثمراتٍ تقطف إحداهن دون ما جاورها ولهذا كانت عناية المحققين من العلماء بالسياق كبيرة، ونصوصهم في التنبيه على دوره كثيرة، وسأنقل من أقوالهم ما يؤيد تلك الحقيقة، ثم أُتبعها بذكر أمثلة من دراستي للأسباب، وأثر السياق في نتيجتها.
فمن العلماء الذين بيّنوا أهميتها، أو جعلوها عمدة لهم في هذا الباب:
أولاً: ترجمان القرآن عبد اللَّه بن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حين اعترض على من فهم قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) على غير معناها لأنه لم يراع الآيات قبلها فقد أخرج مسلم وأحمد والبخاري والترمذي والنَّسَائِي أن مروان قال: اذهب يا رافع (لبوابه) إلى ابن عبَّاسٍ، فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عبَّاسٍ: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أُنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عبَّاسٍ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) وتلا ابن عبَّاسٍ: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ... ).
ثانياً: إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري فقد اعتبر السياق فيصلاً في تحديد سبب النزول، وترك الحديث في سبب النزول مع صحة إسناده لما خالف السياق فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدرًا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير: (اسق ثم أرسل إلى جارك) فغضب الأنصاري وقال: يا رسول اللَّه، أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال للزبير: (اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر) ... الحديث. قال عروة: قال الزبير: واللَّه ما أحسب هذه الآية أُنزلت إلا في ذلك: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65).
قال الطبري: (وذكر أنها نزلت فيمن ذكرهم الله بقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ... ) الآية.
وهذا القول أولى بالصواب لأن قوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) في سياق قصة الذين أسدى الله الخبر عنهم بقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم فإلحاق بعض ذلك ببعض ما لم تأتِ دلالة على انقطاعه أولى). اهـ.
ثالثاً: أبو بكر ابن العربي فقد اعتمد عند ترجيحه المراد بقوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً) على السياق فقال: (وقد اتفق المفسرون أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب وعليه يدل ظاهر القرآن، ومفتتح الكلام نفي المساواة بين من أسلم منهم وبين من بقي منهم على الكفر). اهـ.
وأهمل ما أخرج أحمد والنَّسَائِي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أخَّر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون ْالصلاة، قال: (أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر اللَّه هذه الساعة غيركم) قال: وأنزل هؤلاء الآيات: (لَيْسُوا سَوَاءً) - حتى بلغ -: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ).
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 183 الى صـ 187
الحلقة (33)
وهذا يدل على اعتباره السياق أصلاً، ولهذا قدم دلالته على دلالة الحديث.
رابعاً: ابن عطية فإنه لما ذكر قوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً) قال: (لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب، عقَّب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان، وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين، ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه). اهـ ثم أشار إلى حديث ابن مسعود باختصار شديد. وقوله هذا يلاحظ فيه السياق، ولو اعتبر حديث ابن مسعود ما قال هذا الكلام.
خامساً: القرطبي حيث اعتبر السياق في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ... ) الآية. وضعّف قول من قال: إنها نزلت في المشركين، فقد أخرج أبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... ) الآية. نزلت هذه الآية في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.
واستدل لتضعيف هذا القول بقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) ثم قال: قال. أبو ثور محتجاً لهذا القول: وفي الآية دليل على أنها نزلت فى غير أهل الشرك وهو قوله جل ثناؤه: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ). اهـ وهذه الآية تتلو آية الحرابة مباشرة.
سادساً: شيخ الإسلام ابن تيمية: فقد قال: (فمن تدبر القرآن، وتدبر ما قبل الآية، وما بعدها، وعرف مقصود القرآن تبين له المراد، وعرف الهدى والرسالة وعرف السداد من الانحراف والاعوجاج). اهـ.
سابعاً: ابن جزي الكلبي فقد اعتبر السياق أحد وجوه الترجيح فقال: (وأما وجوه الترجيح فهي اثنا عشر ثم قال:
السادس: أن يشهد بصحة القول سياق الكلام، ويدل عليه ما قبله أو ما بعده). اهـ.
ثامناً: أبو حيان الأندلسي حيث أعمل دلالة السياق في تفسير قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) وربطها بما قبلها وهو قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ... ) الآية حيث قال: (والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله، والسعي في تخريبها نبّه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات، ولا من ذكر الله إذ المشرق والمغرب للَّه تعالى فأيُّ جهة أديتم العبادة فيها فهي لله يثيب على ذلك ولا يختص مكان التأدية في المسجد).
ولم يجعل سبب نزول الآية ما أخرجه الترمذي وابن ماجه عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مظلمة فلم ندرِ أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
ولو اختار الحديث سبباً للنزول لألغى دلالة السياق القرآني ولا بد لأنهما لا يجتمعان.
تاسعاً: ابن كثير فقد احتج بالسياق على رد قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في تفسير الدخان، ورجح أنه من الآيات المنتظرة وقال: (إن هذا ظاهر القرآن، قال اللَّه تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) أي بيِّن واضح يراه كل أحد وعلى ما فسر به ابن مسعود إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد وهكذا قوله: (يَغْشَى النَّاسَ) أي يتغشاهم ويعميهم، ولو كان أمراً خياليًا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: (يَغْشَى النَّاسَ). اهـ.
عاشراً: بدر الدين الزركشي فقد قال: فصل: (ومما يعين على المعنى عند الإشكال أمور، ثم ذكر ثلاثة وقال:
الرابع: دلالة السياق فإنها ترشد إلى تبيين المجمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظيره، وغالط في مناظراته، وانظر إلى قوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير). اهـ.
الحادي عشر: ابن عاشور أعمل دلالة السياق في اختياراته، ورجح بها أقوالاً ورد بها أخرى ومن ذلك دفعه لحديث عمر في نزول قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ ... ) الآية. وأن ذلك نِزل في إشاعة طلاق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه فقال: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ ... ) عطف على جملة: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ) فضمير الجمع راجع إلى الضمائر قبله العائدة إلى المنافقين وهو الملائم للسياق ... إلى أن قال: والكلام مسوق مساق التوبيخ للمنافقين، واللوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة من المسلمين الأغرار). اهـ والآية نازلة في سرايا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعوثه.
ومن الأمثلة التي تكشف أهمية دلالة السياق القرآني في الترجيح بين الأسباب ما يلي:
1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من حلف على يمين وهو فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي اللَّه وهو عليه غضبان) قال: فقال الأشعث بن قيس: فيَّ واللَّه كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ألك بيّنة؟) قال: قلت: لا، قال: فقال لليهودي: (احلف) قال: قلت: يا رسول اللَّه إذن يحلف ويذهب بمالي، قال: فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ... ) إلى آخر الآية.
فسياق الآَيات يؤيد القول بأن الحديث سبب نزولها لأن الآية التي تلت هذه الآية تتحدث عن اليهود في قوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ) والآية التي قبلها تتحدث عنهم أيضًا في قوله: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا). اهـ.
2 - قال الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) وقد ذكر ابن القيم، وابن حجر - رحمهما اللَّه - أن هذه الآية نزلت في سياق الحديث عن قصة أُحد، وهذا يتفق مع ما أخرجه أحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما كان يوم أُحد كسرت رباعية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشُج في وجهه، قال: فجعل الدم يسيل على وجهه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى الله؟) قال: فأنزل الله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ). اهـ.
3 - قال الله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171).
وسياق هذه الآيات يتفق مع ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما أُصيب إخوانكم بأحد جعل الله - عَزَّ وَجَلَّ - أرواحهم في أجواف طير خضرٍ ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع اللَّه لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد،ولا ينكلوا عن الحرب، فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (أنا أبلغهم عنكم) فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هؤلاء الآيات عل رسوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا).
4 - قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91).
فقد أخرج مسلم وأحمد عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين. فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً.
وذلك قبل أن تحرم الخمر. قال: فأتيتهم في حشٍّ - والحشُّ البستان - فإذا رأس جزور مشوي عندهم، وزِقٌّ من خمر. قال: فأكلت وشربت معهم. قال: فذكرت الأنصار والمهاجرون عندهم. فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح بأنفي، فأتيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته. فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيَّ - يعني نفسه - شأن الخمر: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ).
وجه الموافقة بين الحديث وسياق الآية: أن الآية ذكرت وقوع العداوة والبغضاء بسبب الخمر والميسر وهذا قد وقع في قصة سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما شرب معهم الخمر فقد ضُرب وفُزِر أنفه.
5 - قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) - إلى قوله -: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَة ُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ).
وقد أخرج النَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... ).
* * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 188 الى صـ 192
الحلقة (34)
المبحث السادس
الترجيح بدلالة الوقائع التاريخية
لتاريخ النزول القرآني قَرُبَ أم بَعُدَ دوره الحيوي في الترجيح بين الروايات الواردة في أسباب النزول وقبل أن أذكر الأمثلة الدالة على هذا الدور أود إيضاح أن الأمر هنا لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يسبق النزولُ السببَ، كأن تنزل الآية في مكة، ثم يقع السبب في المدينة، أو تنزل الآية في أوائل الهجرة، ثم تقع قضية السبب في أواخرها فهذه الحال لا صلة لها بهذا المبحث، إذ ليست من أسباب النزول؛ لأن النزول لا يتقدم السبب، ويكون هذا من نزول القرآن ابتداء. وإنما ذكرتها هنا لكمال التقسيم.
الثانية: أن يسبقَ السببُ النزولَ وهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يقع السبب قبل الهجرة، وتنزل الآية بعدها، أو يقع السبب في أوائل الهجرة، وتنزل الآية في أواخرها، فهذا من حيث السبْق لا يمنع السببية، لكن يعكر عليه فارق الزمن بين السبب والنزول لأنه طويل، ولا يعهد أن يتباعد السؤال عن الجواب، والقضية عن نزول حكمها، كما إني لم أجد في بحثي مثالاً صحيحًا صالحًا لهذا.
الثاني: أن يقع السبب والنزول معًا قبل الهجرة أو بعدها في زمن متقارب وهذا هو الكثير الغالب، لكن قد يتأخر النزول عن السبب لأمر تقتضيه حكمة الحكيم العليم، كما وقع في قضية كعب بن مالك، وصاحبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حين تخلفوا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فقد نزلت توبة اللَّه عليهم بعد خمسين ليلة من اعتذارهم، وقريب من هذا قصة الإفك حيث تأخر النزول شهرًا لا يُوحى إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شأنه شيء ثم أنزل الله تعالى الآيات، ومع هذا فإن تأخير النزول في هاتين القضيتين لم يمنع السببية.
وهذا هو الضابط الزمني الدقيق عند العلماء في أسباب النزول كما وجدته في أقوالهم وتقريراتهم.
وحينئذٍ يرد السؤال الآتي: كيف وقع الخطأ الزمني في تحديد أسباب النزول؟
فيقال: من المعلوم قطعاً أن أسباب النزول مرتبطة بنزول الآيات مكيها، ومدنيها ولا أعلم أحداً قام بتحقيق نزول آيات القرآن آية آية ومواقعها وتاريخ نزولها على نحو مؤكد.
وقد قال ابن العربي عن الآيات: (ولم يحقق العلماء تعيين النازل بمكة من المدينة في الجملة). اهـ.
فإذا كان المكي والمدني لم يحقق في الجملة فما ارتبط به من أسباب النزول لا بد أن يقع فيه خطأ أيضاً.
ولهذا بعض المفسرين يرى الآية مكية، والسبب حدث في مكة، وعليه فلا مانع من القول بأنه سبب نزولها.
وآخر يرى القصة حدثت في مكة، والآية في المدينة فلا يراها سببًا لنزول الآية.
وثالث يقول: إن الآية نزلت مرتين ويذكر لكل مرة حديثاً روي أنه سبب نزولها وهكذا.
وهذا الاختلاف ناشئ من سببين:
الأول: ما ذكره ابن العربي من عدم تحقيق المكي من المدني في الجملة.
الثاني: الخطأ في الممارسة والتطبيق من قِبل بعض المفسرين.
وسأذكر من أقوال العلماء ما يبين أثر التاريخ في تقرير الأسباب:
أولاً: مسروق بن الأجدع الوادعي ففي قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أبى أن يكون الشاهد عبد الله بن سلام فقال: (واللَّه ما نزلت في عبد الله بن سلام، ما نزلت إلا بمكة، وما أسلم عبد الله إلا في المدينة، ولكنها خصومة خاصم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها قومه). اهـ موضع الشاهد.
ئانياً: سعيد بن جبير ففي قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43).
(قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) أهو عبد اللَّه بن سلام؟ فقال: وكيف يكون عبد الله بن سلام، وهذه السورة مكية). اهـ.
ثالثاً: عامر الشعبي. (قال ابن عون: ذكروا عند الشعبي قوله: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) فقيل: عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف يكون ابن سلام وهذه السورة مكية). اهـ.
رابعاً: البغوي ففي قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أنكر أن يكون سبب نزولها ما أخرجه أحمد عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: تشاورت قريش ليلةً بمكة فقال بعضهم: إذا أَصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه فأطلع الله نبيه على ذلك .. الحديث.
قال البغوي: (واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا، وإذ قالوا اللهم؛ لأن هذه السورة مدنية، وهذا القول والمكر إنما كانا بمكة، ولكن اللَّه ذكرهم بالمدينة كقوله تعالى: (إِلَّا تنَصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرُه آللَّهُ). اهـ.
خامساً: ابن عطية الأندلسي ففي قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) أنكر أن تكون قد نزلت في بني سلمة لما أرادوا الانتقال إلى قرب المسجد فقال: (وهذه السورة مكية بإجماع إلا أن فرقة قالت إن قوله: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم، وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لهم: دياركم تكتب آثاركم، وكره رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تعروا المدينة وعلى هذا فالآية مدنية، وليس الأمر كذلك وإنما نزلت الآية في مكة، ولكنه احتج بها عليهم في المدينة، ووافقها قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المعنى فمن هنا قال من قال: إنها نزلت في بني سلمة). اهـ.
سادساً: شيخ الإسلام ابن تيمية. فقد أنكر على الرافضي دعواه أن سورة (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين وقال: (إن السورة مكية باتفاق العلماء، وعلي إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد الهجرة، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر وولد له الحسن في السنة الثالثة من الهجرة، والحسين في السنة الرابعة من الهجرة بعد نزول (هَلْ أَتَى) بسنين كثيرة، فقول القائل: إنها نزلت فيهم، من الكذب الذي لا يخفى على من له علم بنزول القرآن، وعلم بأحوال هؤلاء السادة الأخيار). اهـ.
سابعاً: ابن كثير فقد جاء في نزول قوله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) ما أخرجه ابن ماجه عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعداً في ناسٍ من الضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقَّروهم فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العربُ فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك فنزل جبريل فقال: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ... ) الآية. قال ابن كثير: (وهذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس، وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر). اهـ.
ثامناً: ابن حجر العسقلاني ففي نزول قوله تعالى: (وَيَسْأَلونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) فقد أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرث بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم: سلوه عن الروح فذكر الحديث وفيه ... فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن الروح ثم قام ساعة ينظر فعرفت أنه يُوحى إليه فتأخرت عنه حتى صعد الوحي ثم قال: (وَيَسْأَلونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
قال ابن حجر: (وهذا يدل على أن نزول الآية وقع بالمدينة لكن روى الترمذي ... ثم ساق حديث ابن عبَّاسٍ ... إلى أن قال: ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح). اهـ.
تاسعاً: الشنقيطي ففي قوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126).
قال: (نزلت هذه الآية الكريمة من سورة النحل بالمدينة في تمثيل المشركين بحمزة ومن قتل معه يوم أُحد، فقال المسلمون: لئن أظفرنا اللَّه بهم لنمثلن بهم فنزلت الآية الكريمة فصبروا لقوله تعالى: (لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) مع أن سورة النحل مكية إلا هذه الآيات الثلاث من آخرها). اهـ.
عاشراً: ابن عاشور ففي قوله تعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13).
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
التمهيد
من صــ 193 الى صـ 197
الحلقة (35)
وقد ذكر بعض المفسرين أنها نزلت بسبب عامر بن الطفيل، لكن أبى ذلك ابن عاشور فقال: (ولما كان عامر بن الطفيل إنما جاء المدينة بعد الهجرة، وكان جدال اليهود لا يكون إلا بعد الهجرة أقدم أصحاب هذه الأخبار على القول بأن السورة مدنية أو أن هذه الآيات منها مدنية، وهي أخبار ترجع إلى قول بعض الناس بالرأي في أسباب النزول، ولم يثبت في ذلك خبر صحيح صريح فلا اعتداد بما قالوه فيها، ولا يخرج السورة عن عداد السور المكية). اهـ.
وسأذكر عددًا من الأمثلة التي قمت ببحثها خلال دراستي وأعملت فيها هذا الضابط:
1 - قال اللَّه تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) فقد أخرج البخاري وأحمد ومسلم والدارمي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع فربما قال إذا قال: سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد: (اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف) يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: (اللهم العن فلانًا وفلانًا) لأحياء من العرب حتى أنزل اللَّه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).
ولفظ مسلم عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (اللهم العن لحيان ورعلاً، وذكوان، وعصية عصت اللَّه ورسوله) ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل اللَّه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
فهذا الحديث لا يصح أن يكون سبباً للنزول لأن الآية نزلت في سياق الحديث عن قصة أُحد، وأحد إنما كانت في السنة الثالثة، والدعاء على هؤلاء القبائل كان بعد قتلهم القراء في بئر معونة وذلك في صفر من السنة الرابعة، فكيف يتقدم النزول على السبب؟.
2 - أخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم والنَّسَائِي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماء، فذكرت الحديث وفيه .. فعاتبني أبو بكر، فقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فخذي، فنام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أصبح على غير ماءٍ فأنزل الله تبارك وتعالى آية التيمم فقال أُسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
والسؤال هنا: أيُّ آيتي التيمم نزلت في هذه القصة أهي التي في النساء أم التي في المائدة؟.
والجواب: أنها التي في النساء لأمور:
أ - أن آية النساء تقدمت في النزول على آية المائدة لأنها في سياق النهي عن قربان الصلاة حال السكر وفي هذه المرحلة لم تحرم الخمر بعد، بخلاف آية المائدة فإن الخمر حرمت فيها بعد أُحد كما قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صبَّح أناس غداة أحد الخمر فقتلوا من يومهم جميعاً شهداء وذلك قبل تحريمها.
ب - أن صدر سورة المائدة قد تأخر نزوله ويدل على هذا أمران:
الأول: قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) أنها نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة يوم جمعة. ومعلوم أن وقوفه بعرفة كان في السنة العاشرة.
الثاني: ما ثبت في الصحيح عن همام بن الحارث قال: رأيت جرير بن عبد الله بال ثم توضأ ومسح على خفيه ثم قام فصلى فسئل فقال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع مثل هذا.
قال إبراهيم: فكان يعجبهم لأن جريراً كان من آخر من أسلم.
ولفظ مسلم: لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.
وجه الدلالة من هذا الحديث على تأخر نزول المائدة: أنه إذا كان يقع الاشتباه إلى هذا الحد بين إسلام جرير ونزول المائدة مع أنه من آخر من أسلم فهذا يدل على تأخر نزول آية الوضوء كثيرًا.
3 - قال اللَّه تعالى: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33).
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33).
فهذا الحديث وإن كان صحيحًا ليس سببًا لنزول الآية لأن سورة الأنفال نزلت في بدر كما قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وقال ابن إسحاق: (أُنزلت في أمر بدرٍ سورة الأنفال بأسرها). اهـ.
وهذا الدعاء المذكور إنما كان في مكة بدليل قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وهو إنما كان فيهم لما كان في مكة قبل الهجرة، فكيف يكون الدعاء قبل الهجرة سببًا لنزول الآيات بعدها؟.
4 - قال اللَّه تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76).
أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: جاء أبو سفيان إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم، فقد أكلنا العلهز - يعني الوبر والدم - فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76).
وهذا الحديث ليس سببًا للنزول لأن سبب القحط الذي أصابهم هو دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم بقوله: (اللهم اشدد وطاتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وهذا الدعاء إنما كان في المدينة، وسورة المؤمنون مكية بالاتفاق، وإذا كان الأمر كذلك فكيف تنزل الآية في شأن القحط في مكة مع أن سبب القحط وهو الدعاء كان بالمدينة.
5 - قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24).
أخرج البخاري وأحمد عن المسور بن مخرمة ومروان في قصة الحديبية قالا: خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمن الحديبية حتى كانوا ببعض الطريق فذكرا الحديث ... إلى أن قالا: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم، إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فواللَّه ما يسمعون بعيرٍ خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تناشده باللَّه والرحم لما أرسل: فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم، فأنزل اللَّه تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) - حتى بلغ - (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ).
فهذه القصة ليست سبب نزول الآية لأن الآية نزلت في الحديبية كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، وهذه القصة بعد رجوع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة فقد جاء في الحديث: (ثم رجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فذكر الحديث وفيه: فجاء أبو بصير فقال: يا نبي اللَّه قد واللَّه - أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد) فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده، فخرج حتى أتى سِيف البحر ... الحديث وفيه: فواللَّه ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها).
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القسم الثاني
دراسة أسباب النزول
دراسةً تفسيريةً وحديثية
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 198 الى صـ 203
الحلقة (36)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القسم الثاني
دراسة أسباب النزول
دراسةً تفسيريةً وحديثية
سُورَةُ البَقَرَة
1 - قال اللَّه تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أقبلت يهود إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا أبا القاسم، إنَّا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتّبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه، إذ قالوا: اللَّه على ما نقول وكيل. قال: (هاتوا) قالوا: أخبرنا عن علامة النبي. قال: (تنام عيناه ولا ينام قلبه) قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تُذْكِر؟ قال: (يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماءَ المرأة أذكرت، وإذا علا ماءُ المرأة ماءَ الرجل آنثت) قالوا: أخبرنا ما حرَّم إسرائيل على نفسه؟ قال: (كان يشتكي عرق النَّسَا، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا - قال أبي: قال بعضهم: يعني الإبل - فحرم لحومها) قالوا: صدقت. قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: (ملك من ملائكة الله - عَزَّ وَجَلَّ - موكل بالسحاب، بيده - أو في يده - مخراق من نار، يزجر به السحاب، يسوقه حيث أمر اللَّه) قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: (صوته) قالوا: صدقت، إنما بقيت واحدة وهي التي نبايعك إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه لخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: (جبريل - عليه السلام -): قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر، لكان. فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... ) إلى آخر الآية.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات الكريمة، وقد ذكر هذا الحديث بعض المفسرين كالطبري وابن عطية وابن كثير.
واقتصر البغوي والقرطبي والسعدي من الحديث على عداوة اليهود لجبريل - عليه السلام - دون سائر الأسئلة.
قال الطبري: (أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً على أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك، فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمر نبوته .. ثم ساق الحديث. اهـ.
وقال البغوي: (قال ابن عبَّاسٍ: إنَّ حَبْراً من أحبار اليهود قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيُّ ملك يأتيك من السماء، قال: جبريل، قال: ذاك عدونا من الملائكة، ولو كان ميكائيل لآمنا بك .. فذكر الحديث إلى أن قال: فلهذا نتخذه عدواً، فأنزل الله هذه الآية)، اهـ مختصراً.
وقال ابن عطية: (أجمع أهل التفسير أن اليهود قالت: جبريل عدونا ... فذكر الحديث)، اهـ.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 204 الى صـ 208
الحلقة (37)
وقال القرطبي: (سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبك حتى نتابعك؟ قال: جبريل. قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدونا. لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك، فأنزل اللَّه الآية)، اهـ.
وقال السعدي: (قل لهؤلاء اليهود الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان بك أن وليك جبريل - عليه السلام - ولو كان غيره من ملائكة اللَّه لآمنوا بك وصدقوا: إنّ هذا الزعم منكم تناقض وتهافت وتكبر على اللَّه)، اهـ.
وقد ذكر المفسرون سبباً آخر لنزولها، أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن الشعبي قال: (نزل عمر الروحاء ثم ذكر صدر حديثه حتى قال: كنت أشهد اليهود يوم مِدْرَاسِهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان، ومن الفرقان كيف يصدق التوراة، فذكر الحديث بطوله حتى بلغ قوله: قالوا: إنّ لنا عدواً من الملائكة، وسلماً من الملائكة، وإنه قُرن به عدونا من الملائكة قال: قلت: ومن عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل ... فذكر الحديث حتى قال: ثم قمت فاتبعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو خارج من خَرْفَة لبني فلان فقال لي: يا ابن الخطاب ألا أُقرئك آيات نزلن عليَّ فقرأ: (قُل مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) حتى قرأ الآيات، قال: قلت: بأبي وأمي يا رسول اللَّه، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أُريد أن أخبرك فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر) اهـ.
وبما تقدم تبين أنه لم يصح حديث مرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخمسة المذكورة جميعاً، لكن بعضها صحت مفرقة، ولبعضها شواهد.
فمن ذلك قولهم: أخبرنا عن علامة النبي.
قالت عائشة - رضي الله عنها -: قلت: يا رسول اللَّه، أتنام قبل أن توتر؟ قال: (يا عائشة إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي).
أما قولهم: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تُذكر؟
فقد روى ثوبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت قائماً عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد .. فذكر الحديث وفيه قال: جئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: (ينفعك إن حدثتك؟) قال: أسمع بأُذنيَّ. قال: جئت أسألك عن الولد؟ قال: (ماء الرجل أبيض وماءُ المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا منيُّ الرجل منيَّ المرأة، أَذْكَرَا بإذن اللَّه، وإذا علا منيُّ المرأة منيَّ الرجل، آنثا بإذن الله)، قال اليهودي: لقد صدقتَ وإنك لنبي.
وأمّا قولهم: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟
فقد ثبت أنه صحيح وقفه على ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كما تقدم.
وسبب ذلك أن أعرابياً قال لابن عبَّاسٍ: إني قلت لامرأتي: هي على حرام، قال: فإنها ليست عليك بحرام. قال: وأين قول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ)؟ قال: هل تدري ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: لا، قال: إن إسرائيل أخذته الأنساء فأضنته فجعل لِلَّهِ عليه: إن الله عافاه: أن لا يأكل عرقاً أبداً فلذلك تسلُّ اليهود العروق ولا يأكلونها.
أما قولهم: أخبرنا ما هذا الرعد؟
فهذا مما انفرد به بكير بن شهاب ولم يتابع عليه، وهو ممن لا يحتمل تفرده، فقصة الرعد لا تصح.
أما قولهم: فأخبرنا من صاحبك؟ قال: (جبريل - عليه السلام -).
فهذه الجملة من الحديث هي الأصل في سبب النزول وعليها يدور سياق القرآن وكلام المفسرين، وقد روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في أرض يخترف فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: فما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو أمه؟ قال: (أخبرني بهن جبريل آنفاً) قال: جبريل؟ قال: نعم. قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ).
وإذا ضممنا الآية للحديث تبين لنا الحقائق التالية:
1 - أن جبريل عدو اليهود من الملائكة.
2 - أن المراد بالكافرين في قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) هم اليهود.
3 - أن الآية ردٌّ على اليهود في كراهتهم لجبريل - عليه السلام - لكن يبقى النظر هل هذا الرد فوري فيكون قولُ عبد الله بن سلام سببَ نزولها أو ليس فوريًا؟ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - مال إلى الثاني، وقال: ظاهر السياق أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي قرأ الآية رداً لقول اليهود، ولا يستلزم ذلك نزولها حيئنذٍ وهذا هو المعتمد، وإنما تلا عليه الآية مذكرًا إياه سبب نزولها.
وبناءً على هذا قوى الحديث في سؤال اليهود للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأشياء السابقة فقال: (وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً).
وعندي - والله أعلم - أن سبب نزولها هو قول عبد الله بن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة وإنما اخترت هذا لأمور:
أ - ما حكاه الطبري من إجماع أهل العلم بالتأويل جميعاً على أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود.
ب - أنّ المتأمل في قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) يرى أنها جواب سريع نافع عن حدث واقع. وإنما لم تصدر بقوله: (يسألونك) لأن عبد اللَّه بن سلام لم يسأله بل أخبره بعداوة اليهود لجبريل بخلاف الأسئلة القرآنية التي صدرت بالسؤال والجواب جميعاً.
جـ - أنّ قول الراوي: فقرأ هذه الآية لا يمنع السببية؛ لأنه لن يقرأها إلا بعد أن تنزل فيكون اقتصار الراوي على القراءة لأنها متضمنة للنزول، وإن لم يُرِدْ نفيَ السببية. ويمكن أن يُقال أيضاً إن هذا من تصرّف الرواة في ألفاظ الحديث، وهو كثير معروف.
د - أنّ الآية لو كانت نزلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل حديثه مع عبد الله لما خفي ذلك على عبد الله بن سلام لأنه حبر من أحبارهم، وسيد من ساداتهم، ولم يحتج عبد الله أيضاً إلى إخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعداوة اليهود لجبريل لأنه سيكون علم قبل ذلك.
هـ - قول أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لما سمع عبد اللَّه بقدوم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهذا يدل على أن عبد اللَّه بن سلام بادره قبل غيره من اليهود حرصاً منه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على اتباع الحق.
وإذا كان الأمر كذلك فمتى وقعت الأسئلة الخمسة من يهود لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
و أنّ ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ممن تأخرت هجرته إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة؛ لأنه كان صغيراً يتبع أباه، وأبوه لم يهاجر إلا قبل الفتح بقليل. قال ابن حجر: (ثم هاجر قبل الفتح بقليل وشهد الفتح) اهـ، يعني العباس بن عبد المطلب.
وإذا كان الأمر كذلك فابن عبَّاسٍ لم يشهد القصة، بل سمعها من غيره، فلعل من أخبره سمعها متفرقة فجمعها له في سياق واحد، واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ليس سبب نزولها؛ لما تقدم من الأسباب آنفة الذكر، وإنما سبب نزولها حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قصة عبد اللَّه بن سلام، لصحة سندها، وموافقتها للفظ الآية، واتفاق المفسرين على معناها، والله أعلم.
* * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 209 الى صـ 213
الحلقة (38)
2 - قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج الترمذي وابن ماجه عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرٍ في ليلة مظلمة فلم ندرِ أين القبلة فصلى كل رجل منا على حيالها فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
ولفظ ابن ماجه: فتغيمت السماء وأشكلت علينا القبلة فصلينا وأعلَمْنا ... لحديث.
2 - أخرج مسلم وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وقد ذكر هذين الحديثين جمهور المفسرين، كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
فأما حديث عامر بن ربيعة الذي تضمن التصريح بالسببية فقد تبين أنه ضعيف لا يحتج به.
أما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقوله في الحديث: وفيه نزلت: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) فلا يخلو من احتمالين:
الأول: أن يريد أن الآية نزلت على سبب فأين ذلك السبب أو الحدث أو الواقعة؟ فلم يذكر المفسرون شيئاً من هذا، وهذا خلاف المعهود في أسباب النزول، كما أني لا أظن أن هذا مراده.
الثاني: أن يريد الاستدلال بالآية على جواز التنفل في السفر على الراحلة، ويكون قوله: وفيه نزلت، أي دلت الآية على ذلك الحكم فهو استدلال صحيح عند من يوافقه، (أعني استدلاله بالآية).
ولهذا قال ابن العربي: (لا يخفى أن عموم الآية يقتضي بمطلقه جواز التوجه إلى جهتي المشرق والمغرب بكل حال، لكن الله خص من ذلك جواز التوجه إلى جهة بيت المقدس في وقتٍ، وإلى جهة الكعبة في حال الاختيار في الفرض والحضر فيها أيضاً وبقيت على النافلة في السفر).
وعندي - والله أعلم - أنه لا بد لمن أراد التحقيق والتدقيق في معرفة تفسير الآية أو الوقوف على سبب نزولها أن يتأمل السياق القرآني الذي وردت فيه الآية؛ لأن الآيات في الأعم الأغلب، لا بد أن يكون لها ارتباط بما قبلها، وعلاقة بما بعدها، أما انتزاع الآية وحدها كأنها ثمرة فلا شك أنه يوقع المفسر في الخطأ والزلل.
وهذا السياق الذي معنا ليس بعيدًا من هذا، فالآية التي قبلها هي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ... ) الآية.
تتحدث عن المشركين الذين أخرجوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصدوه عن البيت حين قصده عام الحديبية كما هو الراجح من قولي المفسرين.
(ثم جاءت هذه الآية: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) تسلية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه الذين أُخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم).
وقال أبو حيان: (والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر اللَّه، والسعي في تخريبها نبَّه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات ولا من ذكر الله، إذ المشرق والمغرب لِلَّهِ تعالى، فأيُّ جهة أديتم العبادة فيها فهي لِلَّهِ يثيب على ذلك ولا يختص مكان التأدية في المسجد).
وقال الطاهر بن عاشور: (لما جاء بوعيدهم ووعد المؤمنين عطف على ذلك تسلية المؤمنين على خروجهم من مكة، ونكاية المشركين بفسخ ابتهاجهم بخروج المؤمنين منها وانفرادهم هم بمزية جوار الكعبة فبيَّن أن الأرض كلها لله تعالى وأنها ما تفاضلت جهاتها إلا بكونها مظنة للتقرب إليه تعالى، وتذكر نعمه وآياته العظيمة، فإذا كانت وجهة الإنسان نحو مرضاة الله تعالى فأينما تولى فقد صادف رضى اللَّه تعالى، وإذا كانت وجهته الكفر والغرور والظلم فما يغني عنه العياذ بالأماكن المقدسة. بل هو فيها دخيل لا يلبث أن يقلع منها) اهـ.
وهذا القول هو الصحيح، وهو أن الآية لا تتحدث عن استقبال القبلة بقدر حديثها عن توجه قلب العبد إلى ربه ومولاه، وأن الأماكن ظروف فقط لذلك التوجه، فإذا حيل بين العبد وبين ذلك التوجه في مكان فإن الأمر كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56).
فإن قيل: ما الدليل إذن على جواز التنفل على الراحلة في السفر؟
فالجواب أن يقال: إن الدليل مجرد فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في الصحيح، وهذا من أبلغ الحجج وليس بالضرورة أن يدل على الحكم آية من القرآن.
* النتيجة:
أنه لا يوجد سبب نزول صحيح صريح نزلت لأجله الآية، فالصريح المذكور غير صحيح، والصحيح غير صريح، بل راويه لم يُردْ بذكره السببية أصلاً والسياق القرآني لا يدل على ذلك كما بيّنت.
* * *
3 - قال الله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد والدارمي والترمذي والنَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول اللَّه، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وآية الحجاب، قلت: يا رسول اللَّه، لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البرُّ والفاجر.
فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن فنزلت هذه الآية.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية، وقد أورده جمهور المفسرين وجعلوه سبباً لنزولها، منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير، وغيرهم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 214 الى صـ 218
الحلقة (39)
وقوله: وافقت ربي في ثلاث، المعنى: وافقني ربي فأنزل القرآن على وفق ما رأيت، لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه.
وقد اختلفت أقوال العلماء في المراد بمقام إبراهيم.
فقال بعضهم: الحج كله مقام إبراهيم.
وقال بعضهم: هو عرفة والمزدلفة والجمار.
وقال بعضهم: الحرم كله مقام إبراهيم.
وقال بعضهم: مقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه وضعف عن رفع الحجارة.
وهذا القول الأخير هو الصحيح لما روى ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إن إبراهيم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإنّ الله أمرني أن أبْنِيَ هاهنا بيتًا، وأشار إلى أكمةٍ مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وفي لفظ قال: حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
ومما يؤيد هذا التفسير ويرجحه على غيره فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في صفة حج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ثم نَفَذَ إلى مقام إبراهيم - عليه السلام - فقرأ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان يقرأ في الركعتين: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ).
ولو كان المراد بالمقام أحد الأقوال الثلاثة الأولى لكان من المتعذر أو المتعسر اتخاذه مصلى - أي قبلة -. ولهذا قالوا: إن المراد بقوله: (مُصَلًّى) أي: مداعيَ تدعونني عندها. وهذا خلاف الصواب.
قال ابن كثير - رحمه الله -: (قلت: وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديمًا ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا واللَّه أعلم أُمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناءُ الكعبة فيه، وإِنَّمَا أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أُمِرْنَا باتباعهم، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده، ولذلك لم ينكر ذلك أحد من الصحابة - رضي اللَّه عنهم أجمعين -.
ثم ساق رواية عبد الرزاق عن عطاء ومجاهد أن أول من أخّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ثم ساق إسناد البيهقي إلى عائشة - رضي الله عنها - أن المقام كان زمان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزمان أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ملتصقاً بالبيت ثم أخّره عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم، ثم ذكر قول سفيان بن عيينة في ذلك إلى أن قال: فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه، واللَّه أعلم.
ثم ساق إسناد الحافظ أبي بكر بن مردويه إلى مجاهد وقال فيه: فحوّله رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى موضعه هذا، فقال: وهذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم، ورواية عبد الرزاق أصح من طريق ابن مردويه، واللَّه أعلم) اهـ بتصرف.
وقال ابن حجر: (وكان عمر رأى أن إبقاعه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى وأول من عمل عليه المقصورة الموجودة الآن).
* النتيجة:
أن سبب نزول هذه الآية هو قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية لصحة سنده، وتصريحه بالنزول واحتجاج المفسرين به، وموافقته للفظ الآية، واللَّه أعلم.
* * * * *
4 - قال الله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب أن يوجَّه إلى الكعبة، فأنزل اللَّه: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ). فتوجه نحو الكعبة. وقال السفهاء من الناس، وهم اليهود: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فصلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرّف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة.
وفي لفظ له: فداروا كما هم قِبَل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَل بيت المقدس، وأهل الكتاب، فلما ولّى وجهه قِبَل البيت أنكروا ذلك.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورده جمهور المفسرين وجعلوه سبباً لنزولها كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
قال الطبري: (أَعلم الله جل ثناؤه نبيَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما اليهود والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشام إلى المسجد الحرام، وعلّمه ما ينبغي أن يكون من رده عليهم من الجواب. فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا محمد، فقل لهم: (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) اهـ.
وقال ابن كثير: (ولما وقع هذا أي (تحويل القبلة) حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وتخبيط وشك وقالوا: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) أي قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا فأنزل الله جوابهم في قوله: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي الحكم والتصرف والأمر كله للَّه: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) و (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وُجّهنا توجّهنا، فالطاعة في امتثال أمره) اهـ.
وقد صرَّح ابن حجر بذلك؛ وهو أن اليهود لما أنكروا ذلك نزلت: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ).
وفي قوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ) قال ابن عطية: (وجعل المستقبل موضع الماضي في قوله: (سَيَقُولُ) دلالة على استدامة ذلك، وأنهم يستمرون على ذلك القول، ونص ابن عبَّاسٍ وغيره أن الآية نزلت بعد قولهم) اهـ.
أما الخلاف في المدة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بيت المقدس فقال فيها ابن حجر: (فيه تسع روايات - ثم حاول الجمع بين روايتي ستة عشر أو سبعة عشر باعتبارهما أصح الروايات - فقال: والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهراً وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معاً، ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور.
وقال: تحرير المدة المذكورة ستة عشر شهراً وأيام) اهـ.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 219 الى صـ 223
الحلقة (40)
أما المراد بالسفهاء فقد اختلفت أقوال المفسرين فقال بعضهم: هم مشركو قريش، وقال بعضهم: هم المنافقون، وقال بعضهم: هم اليهود، وهو قول الأكثرين، ويشهد له حديث البراء المتقدم: وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَل بيت المقدس فلما ولّى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك. ويؤيد هذا قول الله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).
قال ابن كثير - صلى الله عليه وسلم -: (أي واليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن اللَّه تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمته وما خصه اللَّه تعالى به وشرّفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا، ولهذا تهدَّدهم بقوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).
قلت: ومن المعلوم أن المنافقين والذين أشركوا ليسوا من الذين أُوتوا الكتاب فلم يبق إلا اليهود.
* النتيجة:
أن هذه الآية نزلت بسبب إنكار اليهود على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه التوجه إلى الكعبة بعد أن كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فالآية تبيّن سفههم في قولهم هذا وتُعَلِّم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يجيبهم به. وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ القرآن، واحتجاج المفسرين به، واللَّه أعلم.
* * * * *
5 - قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت وأنه صلى، أو صلاها، صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد باللَّه لقد صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل اللَّه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ).
ورواه ابن ماجه من حديث البراء بسياق مختلف.
2 - وأخرج أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي من حديث ابن عبَّاسٍ نحوه.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر هذا الحديث جمهور المفسرين كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
قال ابن العربي: (اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس).
قال القرطبي: (اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلى إلى بيت المقدس) اهـ.
وقال السعدي: (ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل القبلة، فإن اللَّه لا يضيع إيمانهم، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها) اهـ.
وقال ابن بطال: (لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت فى صلاتهم إلى بيت المقدس) اهـ.
وإذا كان قد تبين ضعف وشذوذ رواية ابن ماجه فإن الثابت فى سبب نزول الآية أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هم الذين استشكلوا الأمر وليس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي سأل جبريل - عليه السلام - فأنزل الله الآية. كما دلت على هذا رواية ابن ماجه.
وهنا إشكالان يحسن إيرادهما والجواب عنهما:
الأول: كيف قال البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجال قتلوا ولم يقع قبل تحويل القبلة قتال؟
فالجواب: قال ابن حجر: (ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدًا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير الجهاد ولم يضبط اسمه لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك) اهـ.
الثاني: كيف قال الله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين، والقوم المخاطبون إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس؟.
فالجواب: قال الطبري: (إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك فإنهم أيضًا قد كانوا مشفقين من حبوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة وظنوا أن عملهم قد بطل فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذٍ فوجَّه الخطاب بها إلى الأحياء ودخل فيهم الموتى منهم لأن من شأن العرب إذا اجتمع في الخبر المخاطب والغائب أن يُغَلِّبُوا المخاطب فيدخل الغائب في الخطاب فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه، وعن آخر غائب غير حاضر فعلنا بكما. وصنعنا بكما كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران ولا يستجيزون أن يقولوا فعلنا بهما وهم يخاطبون أحدهما فيردوا المخاطب إلى عداد الغُيَّب) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية ما ثبت في الصحيح من حديث البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته لِلفظ الآية، واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
* * * * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 228 الى صـ 225
الحلقة (41)
6 - قال الله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما قدم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، صلى نحو بيت المقدس ستة عشر، أو سبعة عشر شهراً وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل اللَّه تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) فوجه نحو الكعبة، وصلى معه رجل العصر، ثم خرج فمرَّ على قوم من الأنصار، فقال: هو يشهد أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه قد وُجِّه إلى الكعبة، فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر.
وأخرجه مسلم من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي نحو بيت المقدس. فنزلت: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... ) الحديث.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورده جمهور المفسرين وجعلوه سبباً لنزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية وابن كثير والسعدي.
قال الطبري: (إنما قيل له ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما بلغنا؛ لأنه كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من اللَّه جل ثناؤه أمره بالتحويل نحو الكعبة) اهـ.
وقال البغوي: (جعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة فأنزل اللَّه تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ). اهـ.
وقال السعدي: (يقول اللَّه لنبيه (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) أي كثرة تردده في جميع جهاته شوقاً وانتظارًا لنزول الوحي، باستقبال الكعبة إلى أن قال: وفي هذا بيان لفضله وشرفه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث إن اللَّه تعالى يسارع في رضاه، ثم صرح له باستقبالها فقال: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). اهـ.
وقد اختلف في السبب الذي كان لأجله رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب التوجه نحو المسجد الحرام:
فقال بعضهم: لمخالفة اليهود لأنهم كانوا يقولون يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا وهو المروي عن مجاهد وابن زيد.
وقال بعضهم: بل لأنها قبلة أبيه إبراهيم - عليه السلام - وهو المروي عن ابن عباس.
وقال بعضهم: بل ليتألف العرب لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم (1).
والظاهر - والله أعلم - أن الآية تحتمل هذه الأقوال جميعاً إذ لا منافاة بينها ولا تعارض وإن كنت أميل إلى أن سبب ذلك - واللَّه أعلم - أن هذه البقعة أحب البقاع إلى اللَّه تعالى وأرضاها عنده، ويدل لذلك ما روى عبد اللَّه بن عديِّ بن الحمراء قال: رأيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واقفاً على الحَزْوَرة فقال:(واللَّه إنك لخيرُ أرضِ الله، وأحبّ أرض الله إلى الله ولولا أَني أُخرجت منك ما خرجت).
وهنا إشكال أورده الماوردي حيث قال: (فإن قيل: أكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير راضٍ ببيت المقدس أن يكون له قبلة حتى قال له في الكعبة: (فَلَنُوَلينك قِبْلَةً تَرْضَاهَا)؟ قيل: لا يجوز أن يكون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير راضٍ ببيت المقدس، لما أمره الله تعالى به؛ لأن الأنبياء يجب عليهم الرضا بأوامر الله تعالى، لكن معنى ترضاها: أي تحبها وتهواها) اهـ.
وعندي - والله أعلم - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم أن وجهته إلى بيت المقدس وجهة مؤقتة وليست دائمة لحكمة ذكرها الله في كتابه فقال: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ .. ) الآية فكان يتطلع ويتشوف أن يوجه إلى القبلة التي يحبها الله ويحبها هو، ولا يعني قوله: (تَرْضَاهَا) أنه لم يرض التوجه إلى بيت المقدس بل لأن رضاه بالتوجه إلى الكعبة أعظم وأبلغ (2).
* النتيجة:
أن سبب نزول هذه الآية أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب أن يوجه إلى الكعبة لأنها كانت أحبَّ البقاع إلى اللَّه وإليه، كما دلَّ على ذلك حديثًا البراء وعبد اللَّه بن عدي بن الحمراء وكان جرّاء ذلك يرفع بصره إلى السماء ويقلب وجهه فيها رجاءَ أن يُوجَّه إلى الكعبة فأجابه الله لذلك وأنزل عليه الآية. وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول وموافقته للفظ القرآن، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
7 - قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج البخاري ومالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنا يومئذٍ حديث السن: أرأيت قول اللَّه تبارك وتعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فلا أُرى على أحد شيئًا أن لا يطوف بهما؟. فقالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول، كانت فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يهلون لمناة، وكانت مناةُ حذو قُدَيْدٍ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فأنزل اللَّه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) زاد سفيان وأبو معاوية عن هشام: ما أتم اللَّه حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة.
وللبخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رجال من الأنصار ممن كان يُهلُّ لمناة، ومناةُ صنم بين مكة والمدينة قالوا: يا نبي اللَّه كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة.
ولمسلم عنها - رضي الله عنها - قالت: إنما أُنزل هذا في أُناس من الأنصار كانوا إذا أَهلّوا أهلّوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما قدموا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحج ذكروا ذلك له فأنزل الله هذه الآية.
__________
(1) في غاية البعد البعيد. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
(2) الرضا له معنيان رضا محبة، ورضا تفويض وتسليم، وكلاهما تحقق للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رضا محبة وكان متمثلاً في التوجه إلى البيت الحرام، ورضا تسليم وكان متمثلاً في التوجه إلى بيت المقدس. والله أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 229 الى صـ 233
الحلقة (42)
ولمسلم عنها - رضي الله عنها - أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة وكان ذلك سنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة وإنهم سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك حين أسلموا فأنزل اللَّه في ذلك: ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ .. ).
فمن خلال الروايات المتقدمة يتبين أن سبب امتناعهم من السعي بين الصفا والمروة هو تعظيم مناة وطائفة أخرى كان امتناعها عن السعي بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية ودليلها.
2 - ما أخرج البخاري عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قيل له: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل اللَّه: ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) وللبخاري في رواية: سُئل أنس عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).
وفي رواية لمسلم عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه سمع رجالاً من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية فأنزل اللَّه الآية، وطائفة كان امتناعها عن السعي بينهما لأن اللَّه ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر السعي بين الصفا والمروة.
3 - ودليل ذلك ما أخرج البخاري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن رجال من أهل العلم: أن اللَّه تعالى لما ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول اللَّه! كنا نطوف بالصفا والمروة وإن اللَّه أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل اللَّه: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ).
ولمسلم عنه قال: وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بين الصفا والمروة، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد أورد جمهور المفسريين هذه الروايات وجعلوها سبباً لنزول الآية، وخلاصة هذه الروايات أن الآية أُنزلت لرفع الحرج عن المطوِّفين بين الصفا والمروة، وقد تعددت دوافع الحرج والامتناع حسبما أفادته الروايات:
فطائفة كان امتناعها عن السعي بينهما تعظيماً لمناة.
وطائفة كان امتناعها عن السعي بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية.
وطائفة كان امتناعها عن السعي بينهما لأن الله ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر السعي بينهما.
وعندي - والله أعلم - أنه يمكن ردُّ الدافع الأخير إلى سابقيه وجعله نتيجةً لهما وأثراً عنهما.
وبيان ذلك: أن يُقال إن الامتناع إما أن يكون تعظيماً لمناة وإما لأن الطواف بينهما من أمر الجاهلية وأئاً كان الدافع فإن القوم قد أحجموا عن الطواف بينهما حتى أنزل اللَّه قوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فقالوا حينئذٍ: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بين الصفا والمروة، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).
ومن خلال ما تقدم يبقى الدافع الأول وهو تعظيم مناة خالٍ من الاشتباه والالتباس والروايات فيه صريحة واضحة في الامتناع عن الطواف بين الصفا والمروة حيث جاء فيها:بيان الحرج: (فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة).
نفي الوقوع وبيان العلة: (كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة).
نفي الحل: (كانوا إذا أهلّوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة).
أن هذا الفعل قديم موروث: (وكان ذلك سنةً في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة).
أما الدافع الثاني للامتناع عن الطواف بينهما فلأنه من أمر الجاهلية كما حدّث أنس بذلك لما قيل له: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية.
وفي رواية: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية.
ولم يبين أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كيف كانا من شعائر الجاهلية، لكن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر يُقال لهما: إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة ثم يحلقون فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية قالت: فأنزل اللَّه: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) .. قالت: فطافوا.
لكن قال القاضي عياض: (هذا خطأ والصواب ما جاء في الروايات الأُخر في الباب (يهلون لمناة) وأما إساف ونائلة فلم يكونا قط لجهة البحر) اهـ.
قلت: وقول القاضي مؤيد بما روى زيد بن حارثة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وكان صنمان من نحاس يُقال لهما إساف ونائلة فطاف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطفتُ معه فلما مررت مسحتُ به ... الحديث).
فقول زيد: فلما مررت مسحت به يدل على أنهما في المسجد إذ لو كانا على شط البحر لم يتمكن من المسح بهما.
وأخرج الطبري عن الشعبي: أن وثنًا كان في الجاهلية على الصفا يسمى إسافًا ووثنًا على المروة يسمى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان، قال المسلمون: إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين وليس الطواف بهما من الشعائر قال: فأنزل اللَّه إنهما من الشعائر.
وقال ابن كثير: يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضي السيول من إساف ونائل
وبهذا التقرير يسلم الدافع الثاني من الاعتراض والرد فهل إلى الجمع بينهما من سبيل؟
الحافظ ابن حجر كأنه يميل إلى ترجيح رواية إساف ونائلة فقال بعد أن ذكر كلامًا، (فهذا كله يوضح قوة رواية أبي معاوية وتقدمها على رواية غيره) اهـ.
وتارةً أخرى جعل المسألة محتملة فقال: (ويحتمل أن يكون الأنصار في الجاهلية كانوا فريقين: منهم من كان يطوف بينهما على ما اقتضته رواية أبي معاوية، ومنهم من كان لا يقربهما على ما اقتضته رواية الزهري أي (بسبب تعظيم مناة) واشترك الفريقان في الإسلام على التوقف عن الطواف بينهما لكونه كان عندهم جميعًا من أفعال الجاهلية فيجمع بين الروايتين بهذا) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن ما ذكره الحافظ احتمالاً هو المتعين لأنه يقتضي الجمع بين النصوص، ولا ريب أن إعمال الدليلين أولى من تعطيل أحدهما.
ثم إن ترك الطواف بينهما تعظيمًا لمناة رواتها أكثر وأشهر وأصح فكيف تترك ويقدم عليها غيرها.
وفي الروايات ما يدل على الجمع بينهما: وجه ذلك أن أنساً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما قيل له: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية، مع أن أنساً أنصاري، فليس كل الأنصار يدعون السعي بينهما تعظيمًا لمناة بل منهم من كان يفعل ذلك ومنهم من يرى أنهما من شعائر الجاهلية بسبب الصنمين عليهما وبهذا يتحقق الجمع بينهما واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الآية نزلت لرفع الحرج عن المطوفين بين الصفا والمروة لأن بعضهم كان قد امتنع عن السعي بينهما تعظيماً لمناة وبعضهم كان سبب امتناعه أنهما من شعائر الجاهلية لوجود الصنمين عليهما، فنزلت الآية إذناً من الله بالسعي بينهما. وإخباراً أنهما من شعائر اللَّه. وذلك لصحة أسانيد الأحاديث الواردة، وتصريحها بالنزول، واحتجاج المفسرين بها واللَّه أعلم.
* * * * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 234 الى صـ 238
الحلقة (43)
8 - قال الله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج البخاري وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان أصحابُ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الرجل صائمًا، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت هذه الآية: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ففرحوا بها فرحاً شديداً ونزلت: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ).
2 - أخرج البخاري أيضاً عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل اللَّه: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ).
3 - أخرج الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام، حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، وقد سهر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها، فقالت: إني قد نِمتُ، قال: ما نِمتِ، ثم وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك، فغدا عمر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره فأنزل اللَّه تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ).
4 - أخرج أبو داود عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فكان الناس على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء، وصاموا إلى القابلة، فاختان رجل نفسه، فجامع امرأته، وقد صلى العشاء ولم يفطر فأراد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يجعل ذلك يسراً لمن بقي ورخصة ومنفعة فقال سبحانه: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) وكان هذا مما نفع اللَّه به الناس ورخص لهم ويسر.
5 - أخرج أبو داود عن ابن أبي ليلى قال: أُحيلت الصلاة ثلاثة أحوال فذكر الحديث .. وفيه قال: وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح قال: فجاء عمر بن الخطاب، فأراد امرأته، فقالت: إني قد نِمتُ فظن أنها تعتل فأتاها، فجاء رجل من الأنصار، فأراد الطعام، فقالوا: حتى نسخن لك شيئاً فنام فلما أصبحوا أُنزلت عليه هذه الآية: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وقد ذكر جمهور المفسرين هذه الروايات وجعلوها سبباً لنزول الآية منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري: (إن قال لنا قائل وما هذه الخيانة التي كان القوم يختانونها أنفسهم التي تاب الله منها عليهم فعفا عنهم؟
قيل: كانت خيانتهم أنفسهم التي ذكرها الله في شيئين:
أحدهما: جماع النساء، والآخر: المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حراماً ذلك عليهم) اهـ.
ثم ساق الأسباب.
وقال البغوي: (قال أهل التفسير كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حلَّ له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة، أو يرقد قبلها، فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى الليلة القابلة). اهـ. ثم ساق الأسباب.
وقال ابن كثير: (وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن الخطاب، ومن صنع كما صنع، وفي صرمة بن قيس فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصةً ورفقاً) اهـ.
وقال السعدي: (كان في أول فرض الصيام يحرم على المسلمين الأكل والشرب والجماع في الليل بعد النوم فحصلت المشقة لبعضهم فخفف اللَّه عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع سواء نام أو لم ينم لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أُمروا به) اهـ.
وبناءً على ما تقدم فالآية في قول المفسرين نزلت على سببين: أحدهما في الطعام والشراب، والآخر في إتيان النساء.
فأما الأول: وهو الامتناع من الطعام والشراب بعد النوم فقد دلَّ عليه حديث البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ودلت الآية على رفع ذلك الحكم لأن اللَّه - جل وعلا - جعل غاية الامتناع من الطعام والشراب بيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فدل هذا على أن ما قبل الغاية زمناً للطعام والشراب لا سيما أن نوم صرمة كان في أول الليل فرخص اللَّه في الليل كله.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 239 الى صـ 243
الحلقة (44)
أما الثاني: وهو الامتناع من النساء فقد دلّ عليه حديث البراء عند البخاري مجملاً وجاء مفصلاً عن كعب بن مالك وابن عبَّاسٍ وابن أبي ليلى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لكن في أسانيدها كلام - سطرته في الحاشية - ومع هذا فمجموع هذه الأحاديث يدل على ثبوت هذه القصة لا سيما أن لها أصلاً عند البخاري.
وأما قول الطبري: (كانت خيانتهم أنفسهم في شيئين أحدهما المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حرامًا ذلك عليهم).
فهذا غريب منه لأن الخيانة لم تقع في الطعام والشراب، ولا ذكرها اللَّه في سياق الطعام والشراب، بل لو وقع ذلك لما غشي على صرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بسبب الجهد والجوع.
* مسألة:
هل التحريم يحصل بالنوم وحده، أو بصلاة العشاء وحدها أو بالسابق منهما؟
فالجواب: أن حديث ابن عبَّاسٍ يدل على تعلق التحريم بصلاة العشاء وحدها لقوله: (إذا صلوا العتمة) وسائر الأحاديث التي معنا تعلق التحريم بالنوم وحده ولهذا قال ابن حجر: (اتفقت الروايات في حديث البراء على أن المنع من ذلك كان مقيدًا بالنوم وهذا هو المشهور في حديث غيره، وقُيد المنع من ذلك بحديث ابن عبَّاسٍ بصلاة العتمة وهذا أخص من حديث البراء من وجه آخر، ويحتمل أن يكون ذكر صلاة العشاء لكون ما بعدها مظنة النوم غالبًا، والتقييد في الحقيقة إنما هو بالنوم كما في سائر الأحاديث) اهـ.
وعندي - واللَّه أعلم - أن قول الحافظ مؤيد بما جاء في حديث كعب بن مالك: (فرجع عمر من عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة وقد سهر عنده فوجد امرأته قد نامت) فقوله: (سهر عنده) يقتضي سهرُه أن يتجاوز صلاة العشاء، وحينئذٍ يكون الأمر بيِّنا ظاهرًا عند عمر لا اشتباه فيه.
ثم امرأته أيضًا احتجت بالنوم ولو كان التحريم معلقًا بصلاة العشاء، لقالت: قد صليت العشاء لأنها لن تنام قبل الصلاة.
* النتيجة:
أن الآية نزلت على سببين: الأول: قصة صرمة بن قيس في الطعام والشراب، والثاني: في الذين كانوا يخونون أنفسهم في إتيان النساء كعمر وكعب بن مالك وغيرهما - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كما دلت على هذا الآية الكريمة فأولها وآخرها يتحدث عن حكم إتيان النساء ووسطها يتناول حكم الطعام والشراب ليالي الصيام وما تقدم مؤيد بصحة الأحاديث وتصريحها بالنزول واحتجاج المفسرين بها واللَّه أعلم.
* * * * *
9 - قال اللَّه تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أُنزلت: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل اللَّه بعدُ (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذا المقطع من الآية وأورده جمهور المفسرين وجعلوه سبباً للنزول منهم: الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي، وابن كثير وابن عاشور وهنا يحسن التنبيه إلى أن المفسرين والمحدِّثين حين يوردون حديث سهل بن سعد السابق يذكرون معه حديث عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث قال: لما نزلت: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عمدتُ إلى عقالٍ أسودَ وإلى عقالٍ أبيضَ فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرتُ له ذلك فقال: (إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار).
ولفظ مسلم: لما نزلت: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).
والظاهر - والله أعلم - أن سبب هذا الإيراد ظن بعضهم أن لحديث عدي علاقةً بسبب النزول وليس الأمر كذلك.
ولهذا قال الطاهر بن عاشور: (يظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي بن حاتم كان قد عمله غيره من قبله بمدة طويلة، فإن عدياً أسلم سنة تسع أو سنة عشر وصيام رمضان فرض سنة اثنتين ولا يعقل أن يبقى المسلمون سبع أو ثماني سنين في مثل هذا الخطأ، فمحمل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مدة شرع الصيام ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عدياً وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه من تقدموه فإن الذي عند مسلم عن عدي أنه ذكر الآية مستكملة) اهـ. يعني إلى قوله: (مِنَ الْفَجْرِ).
قلت: ما ذكره ابن عاشور هو الصحيح المتعين لأن حديث سهل بن سعد صحيح صريح في أن سبب نزول قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) الخطأ الذي وقعوا فيه وهو ربط بعضهم في رجله خيطاً أبيض وخيطاً أسود.
وسواءٌ كان لفظ مسلم في سياق الآية إلى قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) محفوظاً عن عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أو هو من تصرّف الرواة فإن هذا لا يغير من الأمر شيئاً لأن إسلام عدي تأخر كثيراً عن نزول الآية.
(1) نعم لو كان هذا الاختلاف في حديث سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لكان اختلافاً مؤثراً في سبب النزول على اعتبار أن السببية مستمدة منه.
وأما قول عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لما نزلت فلا يعني هذا أنه شهد نزول الآية على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولهذا قال الحافظ ابن حجر: (إما أن يؤول قول عدي هذا على أن المراد بقوله: (لما نزلت) أي لما تليت عليّ عند إسلامي، أو لما بلغني نزول الآية أو في السياق حذف تقديره لما نزلت الآية ثم قدمت فأسلمت وتعلمت الشرائع عمدتُ) اهـ.
فإن قال قائل: إذا كان الرجال المذكورون في حديث سهل بن سعد قد تبين لهم الخطأ بنزول قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) فكيف يقع عديٌّ في الخطأ مع أن اللفظ بين يديه؟
فالجواب: ما ذكره ابن حجر بقوله: (وأما عديٌّ فكأنه لم يكن في لغة قومه استعارة الخيط للصبح، وحمل قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) على السببية فظن أن الغاية تنتهي إلى أن يظهر تمييز أحد الخيطين من الآخر بضياء الفجر، أو نسي قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) حتى ذكره بهذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
* النتيجة:
هي أن قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) نزلت بسبب ما وقع من بعض القوم المذكورين في حديث سهل لصحة سنده وتصريحه بالنزول واحتجاج المفسرين به، وهذا ليس بغريب في القرآن فقد نزل قوله تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بسبب شكوى ابن أم مكتوم وستأتي دراسته إن شاء الله تعالى.
وأما قضية عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلا علاقة لها بالنزول وعدمه، إنما ارتباطها بفهمه النص فقط واللَّه أعلم.
* * * * *
__________
(1) هذه الصفحة في النسخة المطبوعة وضعت - سهوًا - متأخرة عن ترتيبها، فتم تعديلها. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 244 الى صـ 248
الحلقة (45)
10 - قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري ومسلم عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤُوا، لم يدخلوا من قِبَل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبَل بابه، فكأنه عُيّرَ بذلك، فنزلت: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
وفي رواية للبخاري والنَّسَائِي عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل اللَّه: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء فى سبب نزول هذه الآية وقد أورده جمهور المفسرين وجعلوه سببًا لنزولها منهم: الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور.
قال البغوي: (قال أهل التفسير: كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة، لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه) اهـ.
فإن قيل: ما سبب فعلهم هذا؟
فالجواب: (أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك لأنهم كانوا إذا أحرموا يكرهون أن يحولَ بينهم وبين السماء سقف إلى أن ينقضيَ إحرامهم، ويصلوا إلى منازلهم، فإذا دخلوا منازلهم دخلوها من ظهورها. قاله الزهري. ويعتقدون أن ذلك من البِرِّ والقُرب) اهـ.
وقال القرطبي: (كان الأنصار إذا حجوا وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، فإنهم كانوا إذا أهلُّوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعاً ألا يحول بينهم وبين السماء حائل فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك، أي من بعد إحرامه من بيته، فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته فكانوا يرون هذا من النسك والبر، كما كانوا يعتقدون أشياء نسكاً فرد عليهم فيها وبيّن الرب تعالى أن البر في امتثال أمره) اهـ.
* تنبيه:
ما صلة قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) بقوله: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا)؟
قال القرطبي: (اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع القضيتين في وقت السؤال عن الأهلة وعن دخول البيوت من ظهورها، فنزلت الآية فيهما جميعاً).
* النتيجة:
أن الآية نزلت بسبب ما كان الأنصار يفعلونه عند إحرامهم بحج أو عمرة حيث كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها بل من ظهورها ظناً منهم أن هذا من البر والنسك فبين اللَّه أن هذا ليس من البر وأن البر في تقواه - عَزَّ وَجَلَّ - لصحة سند الحديث وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ القرآن، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
11 - قال الله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج الترمذي وأبو داود والنَّسَائِي عن أسلم أبي عمران التُّجِيبي، قال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلُهُم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يُلقي بيديه إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم لتُأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أُنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعزّ اللَّه الإسلام وكَثُر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أموالنا قد ضاعت، وإن اللَّه قد أعز الإسلام وكَثُر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله على نبيِّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يردُّ علينا ما قلنا: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم.
2 - وأخرج البخاري عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال: نزلت في النفقة.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد المفسرون مع ذلك جملة من الأقوال وجعلوها أسبابًا لنزول الآية ومنها مع ما تقدم:
1 - أن الأنصار كان احتبس عليهم بعض الرزق، وكانوا قد أنفقوا نفقات، قال: فساء ظنهم وأمسكوا قال: فأنزل اللَّه: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال: وكانت التهلكة سوء ظنهم وإمساكهم وهو مروي عن الشعبي ومجاهد وعكرمة.
2 - وقال آخرون: كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير نفقة فإما أن يقطع بهم وإما أن يكونوا عالة على غيرهم فأمرهم اللَّه أن يستنفقوا مما رزقهم اللَّه ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع والعطش أو من المشي. وهذا مروي عن زيد بن أسلم.
3 - وقال آخرون: هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم ويلقي بيده إلى التهلكة ويقول: لا توبة لي، وهو المروي عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني.
ما تقدم هو خلاصة ما قيل في سبب نزول هذه الآية. وبعد النظر والتأمل يتبين الآتي في قولهم: إن الأنصار احتبس عليهم الرزق فساء ظنهم وأمسكوا، وهو عندي - واللَّه أعلم - معلول بالآتي:
أ - أن القائل به من التابعين الذين لم يشهدوا التنزيل فقولهم فيه مرسل والمرسل من قسم الضعيف.
ب - قولهم: إن الأنصار احتبس عليهم الرزق، معلوم أن الرزق لو احتبس لم يحتبس عن الأنصار وحدهم إذ كان المهاجرون مخالطين لهم في ذلك الوقت فلماذا يختص الأنصار بانحباس الرزق ثم لو احتبس الرزق عليهم فأمسكوا لحاجتهم وأهليهم لم يكونوا ملومين لأن حفظ نفوسهم وأهليهم من أوجب الواجبات.
جـ - قولهم: فساء ظنهم وأمسكوا. هذا واللَّه لا يليق بمن هو دون الأنصار بمراحل فكيف يليق بهم ويوصفون به وهم من نَصَرَ الدين وذاد عن رسول رب العالمين وبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم وأهليهم رخيصة لإعلاء كلمة اللَّه، ومن كان في ريب في ذلك فليقرأ ثناء المولى عليهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أفيصح هذا القول مع هذا الثناء الرباني فتأمل وأنت الحكم؟
وأما ما ذكر من أنها نزلت في قوم يغزون بغير نفقة فهو مرسل كالأول وقد قال الحافظ ابن حجر معقبًا عليه بعد ذكره: (فيلزم على قوله اختلاف المأمورين فالذين قيل لهم: (أنفقوا وأحسنوا) أصحاب الأموال، والذين قيل لهم: (ولا تلقوا) الغزاة بغير نفقة ولا يخفى ما فيه) اهـ.
وأما قولهم: إن الآية نزلت في الرجل يذنب الذنب فيستسلم ويقول: لا يغفر لي. فالظاهر - واللَّه أعلم - أن قائل هذا القول لم يرد به السببية وإِنَّمَا أراد أن الآية بعمومها تتناول من هذا حاله، وأنه ممن يلقي بنفسه إلى التهلكة بفعله هذا.
ولعل مما يؤيد هذا الفهم من السياق خلوه من ذكر الذنوب والقنوط من رحمة اللَّه ولو كانت مرادةً أصلاً هنا لبينها اللَّه بأوضح من هذا كما قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وإنما الآية آمرةٌ بالإنفاق في أولها وبالإحسان في آخرها.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 249 الى صـ 253
الحلقة (46)
وبهذا يتبين أن الثلاثة السابقة ليست من أسباب نزول الآية.
فإن قيل: ما سبب نزول الآية إذن؟
فالجواب: أن السبب ما ذكره أبو أيوب الأنصاري من أن الآية نزلت فيهم لما همُّوا بالإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الجهاد مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومما يدل على هذا أمور:
1 - أن أبا أيوب أحد الذين وقع منهم هذا لقوله: فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحب القصة أعلم بالمراد بها من غيره.
2 - قول أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأنزل اللَّه على نبيه يردُّ علينا ما قلنا، فقد صرح بأن الآية ردٌّ عليهم في قولهم هذا، وإذا كانت رداً عليهم فكيف يقال إنها نزلت في غيرهم.
3 - أن أبا أيوب امتثل ما أُمر فلم يزل شاخصاً في سبيل اللَّه حتى قبض، ومن البعيد جداً أن يستمسك أبو أيوب بهذا حتى الموت وهو يشك أن الخطاب بالآية يعنيه.
4 - أن القائل بهذا القول هم أكثر السلف وأكثر المفسرين والأكثرون أقرب للصواب في الغالب.
فإن قيل: فما الجواب عن قول حذيفة نزلت في النفقة؟
فالجواب: أن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يضف جديداً لأن الآية صدرت بالأمر بالإنفاق في سبيل، وهذا يتفق مع قول أبي أيوب تماماً لأن الجهاد في سبيل اللَّه يتضمن الإنفاق فيه بخلاف القعود على الأموال وإصلاحها ففيه من قصد الدنيا ما لا يخفى.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية قول أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن معه من الأنصار في حديثهم عن الإقامة في الأموال وإصلاح ما ضاع منها لأن الحديث في ذلك صحيح صريح قائله صحابي شهد التنزيل بل هو أحد الذين نزلت بسببهم الآية، ولم يوجد ما يعترضه حقاً واللَّه أعلم.
12 - قال اللَّه تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن كعب بن عجرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وقف عليّ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً، فقال: (يؤذيك هوامُّك). قلت: نعم، قال: (فاحلق رأسك، أو قال: احلق). قال فيَّ نزلت هذه الآية: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) إلى آخرها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفَرَق بين ستة، أو انسك بما تيسر).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورده المفسرون وجعلوه سببًا لنزولها. كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
قال الطبري: (وقد تظاهرت الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن هذه الآية نزلت عليه بسبب كعب بن عجرة، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صِئبانه، وذلك عام الحديبية). اهـ.
وقال ابن عطية: (ونزلت هذه الآية في كعب بن عجرة حين رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورأسه يتناثر قملاً فأمره بالحلاق ونزلت الرخصة). اهـ.
* النتيجة:
أن الآية نزلت بسبب ما جرى لكعب بن عجرة من الأذى في رأسه فأنزل اللَّه الرخصة لإزالة الأذى وبيان الفدية.
* * * * *
13 - قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - ر. يما - قال: كان أهل اليمن يحجُّون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).
ورواه ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة مرسلاً.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورده جمهور المفسرين وجعلوه سبباً لنزولها منهم الطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور وغيرهم.
قال الطبري بعد أن ساق الروايات في ذلك: (وتزودوا من أقواتكم ما فيه بلاغكم إلى أداء فرض ربكم عليكم في حجكم ومناسككم، فإنه لا برَّ للَّه جل ثناؤه في ترككم التزود لأنفسكم ومسألتكم الناس، ولا في تضييع أقواتكم وإفسادها) اهـ.
وقال البغوي: (نزلت في ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون نحن متوكلون ويقولون نحن نحج بيت اللَّه فلا يطعمنا فإذا قدموا مكة سألوا الناس). اهـ.
وقال ابن العربي: (إنما خاطب اللَّه تعالى أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون نحن المتوكلون). اهـ.
وقال القرطبي: (إن المراد الزاد المتخذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما روى البخاري عن ابن عبَّاسٍ ثم ساق الحديث المذكور أعلاه .. ثم قال وهذا نص فيما ذكرنا وعليه أكثر المفسرين). اهـ.
* النتيجة:
أن الآية نزلت على السبب المذكور في حديث ابن عبَّاسٍ في شأن أهل اليمن الذين يحجون ولا يتزودون فأمرهم الله بالتزود المحسوس من الطعام والشراب والكساء وأخبرهم أن الزاد المعنوي وهو التقوى خير وأجل، كما قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ... ) وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 254 الى صـ 258
الحلقة (47)
14 - قال الله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج البخاري عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانت عكاظ ومجنَّةُ وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم،فنزلت: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) في مواسم الحج.
2 - أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت لابن عمر: إنا نُكري، فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرَّف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قال: قلنا: بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن الذي سألتني، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل - عليه السلام - بهذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أنتم حجاج.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية. وقد أورد جمهور المفسرين هذه الروايات وجعلوها سبباً لنزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي،وابن كثير والطاهر بن عاشور لكن بعد النظر والتأمل تبين أن بين السببين اختلافًا، فهل يمكن الجمع بينهما أو لا بد من الترجيح؟
أنا لم أجد من أهل العلم من تطرق لهذا ونظر فيه لكن لعل من أمثل ما يُجمع به بين السببين أن يقال: إن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - علم ما حصل في القصة المذكورة التي رواها ابن عمر ثم ساقها على وجه الإجمال كما في حديثه، لكن يعكر على هذا أن المذكور في حديث ابن عبَّاسٍ أسواق الجاهلية المشهورة وفيها البيع والشراء بخلاف المذكور في حديث ابن عمر فإنه الإجارة وبدون ذكر الأسواق.
ويمكن أن يقال بأن مراد ابن عبَّاسٍ بقوله: (فنزلت) ليس النزول المصطلح عليه عند العلماء وهو النزول عند حدوث واقعة أو إيراد سؤال فنزلت الآية جواباً لهذا لكن مراده أن الجمع بين التجارة والعبادة في الحج يتناول حكمَه لفظُ الآية وأنه مما أذن اللَّه فيه لكن يعكر على هذا قوله: فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت. فإن هذا اللفظ لا يسعف هذا الفهم.
فإذا تعذر الجمع بينهما فلا بد من الترجيح وحينئذ هل يقدم حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن راويه البخاري، بخلاف حديث ابن عمر فراويه أحمد وأبو داود وقد أجمعت الأمة على أن أصح كتاب بعد كتاب اللَّه تعالى الجامع الصحيح للبخاري؟
يشكل على هذا أن حديث ابن عمر صحيح لا مطعن فيه بوجه من الوجوه.
فما الجواب الفصل لحل هذا الإشكال؟
فالجواب: أن الحديث المقدم في السببية هو حديث ابن عمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيان ذلك أن الحديث فصّل الحديث تفصيلاً يدل على الضبط والإتقان فقول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن الذي سألتني. يبين أن سؤاله كسؤال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالقضية فيها سؤال، والسؤال أيضاً عن الكراء في الحج ثم قوله: فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية، دليل صريح على أن الآية نزلت بسبب سؤال الرجل.
وقوله: فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دليل على ما تقدم إذ لو كانوا جماعة كما في حديث ابن عبَّاسٍ لما قال الراوي (دعاه).
ثم مما يؤيد هذا ويؤكده أن الأسواق الثلاثة تنتهي، قبل الحج وحينئذ تنفك التجارة عن العبادة فلا يبقى إشكال يُسأل عنه.
فإن قيل: كيف قال ابن عبَّاسٍ: (فتأثموا فنزلت الآية)؟
فالجواب: ربما فهم ابن عبَّاسٍ هذا من قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) والجناح هو الإثم والحرج كما في قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ... ) الآية.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية هو حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قصة سؤال الرجل لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكراء في الحج، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل - عليه السلام - بهذه الآية، والآية بعموم لفظها تتناول جميع التجارات في الحج وليست مقصورة على صورة السبب وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية واللَّه أعلم.
* * * * *
15 - قال الله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مسلم والبخاري والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن هشام بن عروة ابن الزبير عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراةً إلا الحمس. والحمس قريش وما ولدت كانوا يطوفون عراةً إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً فيُعطي الرجالُ الرجالَ والنساءُ النساءَ. وكانت الحُمس لا يخرجون من المزدلفة وكان الناس كلهم يبلغون عرفات. قال هشام: فحدثني أبي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: الحمس هم الذين أنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - فيهم: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) قالت: كان الناس يفيضون من عرفات. وكان الحمس يفيضون من مزدلفة. يقولون: لا نفيض إلا من الحرم. فلما نزلت: (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) رجعوا إلى عرفات.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 259 الى صـ 263
الحلقة (48)
وفي رواية للبخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد ذلك جمهور المفسرين وجعلوه سببًا لنزولها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي وابن عاشور.
قال ابن العربي: (وقد اختلف الناس في المراد بهذه الإفاضة على قولين:
أحدهما: أن المراد به من عرفات مخالفةً لقريش، قاله الجماعة.
الثاني: المراد به من المزدلفة إلى منى، قاله الضحاك وإنما صار إلى ذلك لأنه رأى الله تعالى ذكر هذه الإفاضة بعد ذكره الوقوف بالمشعر الحرام، والإفاضة التي بعد الوقوف بالمشعر الحرام هي الإفاضة إلى منى). اهـ.
وقد اختلف العلماء في الجواب عن هذا الإشكال على أقوال:
الأول: (أن هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم، قاله الطبري). اهـ.
والمعنى على هذا: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات مع الناس فاذكروا الله عند المشعر الحرام.
الثاني: (أن لفظة ثم للترتيب الذكري بمعنى عطف جملة على جملة وترتيبها عليها في مطلق الذكر ونظيره قوله تعالى: (فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17). ومنه قول الشاعر:إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده
قاله الشنقيطي). اهـ واختاره أكثر المفسرين.
الثالث: (أن المعنى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللَّه عند المشعر الحرام: يا معشر من حل بالمشعر الحرام أفيضوا من حيث أفاض الناس. وأخر اللَّه تعالى الخطاب إلى المشعر الحرام ليعمَّ من وقف بعرفة ومن لم يقف حتى يمتثله مع من وقف. ذكره ابن العربي وقال هو التحقيق). اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن الصواب القول الثاني، وأن (ثم) للترتيب الذكري وليست للترتيب للزمني، أما الترتيب الزمني فقوله (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) أي من عرفات (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ).
بقي أن يُقال: كيف قالت عائشة - رضي الله عنها - في الرواية الأخرى: فلما جاء الإسلام أمر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، مع العلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقف بعرفات ثم يفيض منها؟
فالجواب: أن يقال إن أمر اللَّه لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يمنع أن يكون المقصود بالخطاب غيره وهم الحمس لكن الخطاب توجه إليه باعتبار الرسالة.
وقد يُقال: إن الآية لا تتضمن خطابًا مباشراً لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل خاطبت الناس بلفظ (أفيضوا) ويكون المراد بقولها (أمر اللَّه نبيه) أي أنزل اللَّه على نبيه.
ويمكن أن يُقال: إن لفظ هذا الحديث غير محفوظ بدليل مخالفته للحديث قبله وقولها فيه: (الحمس هم الذين أنزل اللَّه فيهم (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) لكن هذا خلاف الأصل وما دام الجمع ممكنًا بغيره فالعدول عنه أولى) واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية هو امتناع الحمس من الوقوف بعرفة والإفاضة منها واقتصارهم على الوقوف بالمزدلفة لأنها من الحرم فأنزل اللَّه على نبيه أمره إياهم بالإفاضة من عرفات كما يفيض سائر الناس. لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول واحتجاج المفسرين به، وموافقته للفظ الآية واللَّه أعلم.
* * * * *
16 - قال اللَّه تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43).
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91).
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، والنَّسَائِي عن عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بيّن لنا في
الخمر بيانًا شفاءً فنزلت هذه الآية التي في البقرة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) قال: فدُعي عمر، فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً فنزلت الآية التي في النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فكان منادي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال: فقال عمر: انتهينا انتهينا.
2 - أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حرمت الخمر ثلاث مرات؛ قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنهما فأنزل اللَّه على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) إلى آخر الآية، فقال الناس: ما حُرِّم علينا إنما قال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) وكانوا يشربون الخمر.
حتى إذا كان يوم من الأيام، صلى رجل من المهاجرين، أمَّ أصحابه في المغرب، خلط في قراءته فأنزل الله فيها آيةً أغلظ منها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 264 الى صـ 268
الحلقة (49)
ثم نزلت آية أغلظ من ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فقالوا: انتهينا ربنا، فقال الناس: يا رسول اللَّه، ناس قتلوا في سبيل الله، وماتوا على فُرُشهم، كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله اللَّه رجسًا من عمل الشيطان، فأنزل اللَّه: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد ذكر بعض المفسرين كابن العربي وابن كثير حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند آية سورة البقرة.
وعندي - واللَّه تعالى أعلم - أن هذا الحديث وان صح سنده ليس سبباً لنزول آية سورة البقرة فإن اللَّه تعالى نص فيها على وقوع السؤال بقوله: (يَسْأَلُونَكَ) وأن السؤال وقع عن شيئين وهما الخمر والميسر بقوله: (عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فأين حديث عمر من سياق الآية فالاختلاف بينهما ظاهر من وجهين:
الأول: أن الآية فيها السؤال عن الخمر والميسر جميعاً بينما حديث عمر فيه الدعاء بالبيان عن الخمر فقط.
الثاني: أن الله قال في الآية: (يَسْأَلُونَكَ) وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما يدل على هذا لفظ الحديث وإنما دعا اللَّه فقال: (اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شفاءً) وفرق بين دعاء الله وسؤال رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسياق الآية والحديث يأبيان الاجتماع.
ولهذا (أعني عدم التطابق بين لفظ الآية وحديث عمر) ساق الواحدي والبغوي وابن عاشور حديثاً آخر في نزولها فقالوا: نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
وهذا لا يصح سبباً في نزولها لأنه لا إسناد له في كتب السنة فتعيّن إطراحه.
وأما ما أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه نصٌّ في الموضوع لولا الضعف الشديد في إسناده مما يحول ويمنع من الاستدلال به، بالإضافة إلى أنه لم يذكره من المفسرين إلا ابن كثير فقط.
وإذا كان الأمر كذلك فإن الثابت الذي لا ريب فيه أن سبب نزول الآية أنهم سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخمر والميسر فأنزل اللَّه الآية لأن لفظ الآية الصريح يدل على ذلك.
ولم أجد دليلاً صحيحًا صريحًا من السنة يدل على هذا السؤال واللَّه تعالى أعلم.
أما سبب نزول الآيتين من سورة النساء والمائدة فستأتي دراستهما إن شاء الله في موضعهما من سورة النساء والمائدة.
* النتيجة:
أن السببين المذكورين لنزول الآية لا يصحان لأن حديث عمر صحيح غير صريح وحديث أبي هريرة صريح غير صحيح فلعل للآية سبباً لم يندرج ضمن نطاق البحث لكن الشيء الذي يدل عليه لفظ الآية أنها نزلت بسبب سؤالهم عن الخمر والميسر واللَّه أعلم.
* * * * *
17 - قال الله تعالى: (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما نزلت: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) عزلوا أموال اليتامى حتى جعل الطعام يفسد واللحم ينتن فذُكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) قال: فخالطوهم.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وعلى هذا جمهور المفسرين منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور.
وهذا السبب وإن كان ضعيفاً من جهة إسناده لكنه يعتضد بأمرين:
الأول: سياق الآية القرآني فإنه يدل على هذا السبب حيث يلاحظ التطابق بينه وبين لفظ الحديث من جهة توجيه السؤال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومجيء الجواب من الله بقوله: (قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ).
الثاني: أن هذا السبب قال به جمهور السلف والخلف ولهذا لما ساق ابن كثير هذا السبب قال: (وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد وعطاء والشعبي، وابن أبي ليلى وقتادة وغير واحد من السلف والخلف). اهـ.
وإذا كان السبب مؤيدًا بما تقدم فإن هذا يدل على أن له أصلاً ثابتًا - والعلم عند اللَّه تعالى -.
* النتيجة:
أن هذه الآية نزلت على سبب ولم تنزل ابتداء ويدل على هذا سياقها حيث ذكر السؤال والجواب، لكن السبب المذكور هنا لا يخلو من ضعف ولعله يتأيد بما تقدم واللَّه أعلم.
* * * * *
18 - قال الله تعالى: (وَيَسْألونك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ (222)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج الإمام أحمد والدارمي ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوهن ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْأَلونك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) حتى فرغ من الآية فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول اللَّه، إن اليهود قالت: كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أنه لم يجد عليهما.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 269 الى صـ 273
الحلقة (50)
2 - أخرج الدارمي عن عكرمة قال: كان أهل الجاهلية يصنعون في الحائض نحواً من صنيع المجوس فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: (وَيَسْأَلونك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) فلم يزدد الأمر فيهن إلا شدة.
3 - وأخرج الدارمي عن مجاهد قال: كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن فسألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْأَلونك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) في الفرج ولا تعدوه.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية والذي عليه جمهور المفسرين في سبب نزولها ما جاء من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن فعل اليهود مع نسائهم حال الحيض فأنزل اللَّه الآية منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور.
وأما قول عكرمة: كان أهل الجاهلية يصنعون في الحائض نحواً من صنيع المجوس فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت الآية فهذا الأثر معلول بالآتي:
1 - أنه مرسل فعكرمة لم يدرك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو يدرك زمن نزولها بالإضافة إلى مخالفة هذا الأثر للحديث الصحيح الصريح المرفوع كما سيتبين بعد ذلك.
2 - قول عكرمة: كان أهل الجاهلية. هذا المصطلح اشتهر إطلاقه على الكفار في مكة فأما بعد الهجرة إلى المدينة فلا يعرف إلا المهاجرون والأنصار والمنافقون واليهود فكيف يكون فعل أهل الجاهلية سببًا لنزول آية مدنية، هذا إذا أدركنا أن المسلمين لم يتأثروا بفعل أهل الجاهلية لأنهم يعرفون جهلهم بل كانوا يلحظون فعل اليهود لأنهم أهل كتاب وعندهم شبهة حق فيما لم ينزل على المسلمين فيه شيء.
3 - لو كان أهل الجاهلية يصنعون هذا في الحائض أعني (الاعتزال التام) لما استغرب أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا من اليهود لأنهم سيكونون قد عهدوه من قبل من أهل الجاهلية.
أما قول مجاهد: كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن فهو معلول بالإرسال أيضًا كالأول وقد قال عنه ابن العربي: (وهذا ضعيف) اهـ.
ثم لو كانوا يأتونهن في أدبارهن فأين جواب هذا في الآية؟
الآية لم تتعرض لهذا إلا بقوله تعالى: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) وهذا ليس صريحًا لأن يكون سبب نزولها؛ لأن السؤال في الآية موجّه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شأن المحيض فقال: (وَيَسْأَلونك عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى).
فتبين بهذا ضعف هذين الأثرين وأنه لا يعول عليهما بشأن سبب نزول الآية.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية هو حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث استشكل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل اليهود مع نسائهم حال الحيض فسألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله الآية مبينًا للمسلمين ما يحرم وما يحل من المرأة في تلك الحال. وذلك لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية، واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
* * * * *
19 - قال اللَّه تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج مسلم والدارمي والبخاري وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن جابر بن عبد اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).
2 - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: جاء عمر إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: حوّلت رحلي الليلة، قال: فلم يرد عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً قال: فأوحي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة.
3 - أخرج النَّسَائِي عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى عبد اللَّه بن عمر: قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر: إنه أفتى بأن يؤتى النساء في أدبارهن، قال نافع: لقد كذبوا عليَّ، ولكني سأخبرك كيف كان الأمر: إن ابن عمر عرض المصحف يومًا وأنا عنده حتى بلغ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال: يا نافع، هل تعلم ما أمر هذه الآية؟ إنا كنا معشر قريش نجبيءُ النساء، فلما دخلنا المدينة، ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد من نسائنا، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه وكانت نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل اللَّه تعالى: ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).
4 - أخرج أبو داود عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إن ابن عمر - واللَّه يغفر له - أوهم، إنما كان هذا الحي من الأنصار - وهم أهل وثن - مع هذا الحي من يهود - وهم أهل كتاب - وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يُشرِّحُون النساء شرحًا منكرًا، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نُؤتى على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى شري أمرهما فبلغ ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 274 الى صـ 278
الحلقة (51)
5 - أخرج النَّسَائِي عن عبد اللَّه بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رجلاً أتى امرأته في دبرها في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد من ذلك وجداً شديداً فأنزل الله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية، وقد ذكر جمهور المفسرين هذه الأحاديث على تفاوت بينهم في ذكر بعضها وترك بعضها، ومن هؤلاء الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال السعدي: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) مقبلة ومدبرة، غير أنه لا يكون إلا في القبل، لكونه موضع الحرث، وهو الموضع الذي يكون منه الولد، وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر؛ لأن اللَّه لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث، وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تحريم ذلك ولعن فاعله) اهـ.
فأما ما روى النَّسَائِي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رجلاً أتى امرأته في دبرها في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد من ذلك وجداً شديداً.
ففيه علتان قويتان:
الأولى: في إسناده، فقد أنكر أبو حاتم أن يكون هذا الإسناد المروي لهذا المتن بل له إسناد آخر غيره تبين تفصيله في الحاشية.
الثانية: في متنه، فقد قال ابن القيم: (هذا غلط بلا شك، غلط فيه سليمان بن بلال، أو ابن أبي أويس راويه عنه، وانقلبت عليه لفظة (مِن) بلفظة (في) وإنما هو (أتى امرأته من دبرها) ولعل هذه هي قصة عمر بن الخطاب بعينها لما حوَّل رحله، ووجد من ذلك وجداً شديداً فقال لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هلكت، أو يكون بعض الرواة ظن أن ذلك هو الوطء في الدبر فرواه بالمعنى الذي ظنه) اهـ.
وحينئذٍ ينحسر البحث في أربعة أحاديث، منها حديث النَّسَائِي عن أبي النضر في قصة نافع مع ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وهذا الحديث - واللَّه أعلم - ليس سبب نزولها، وإن كان إسناده يحتمل التحسين لما روى أحمد والدارمي عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: إن الأنصار كانوا لا يُجبُّون النساء، وكانت اليهود تقول: إنه من جبَّى امرأته خرح ولده أحول، فلما قدم المهاجرون المدينة، نكحوا في نساء الأنصار، فجبّوهُن، فأبت امرأة أن تطيع زوجها، فقالت لزوجها: لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدخلت على أم سلمة فذكرت ذلك لها، فقالت: اجلسي حتى يأتي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحيت الأنصارية أن تسأله، فخرجت، فحدثت أمُّ سلمة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (ادعي الأنصارية)، فدعيت فتلا عليها هذه الآية: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) صمامًا واحدًا.
فسياق أم سلمة لهذا الحديث يقارب كثيرًا حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مما يشير إلى أن القصة في الحديثين واحدة، وهي في سياق أم سلمة أتم وأوفى كيف لا وقد وقعت في بيتها، وهي راويتها من غير واسطة، وقد أشار الحديث إلى حقيقتين هامتين:
الأولى: أن حديث أم سلمة - رضي الله عنها - لم يتعرض للنزول أعني قوله: (فأنزل) وإنما فيه أنه تلا عليها الآية فقط، وهذا كالتذكير لها بحكم نازل سابق.
وإذا كان الأمر كذلك فان قول ابن عمر: فأنزل الله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) إما أن يكون من تصرف الرواة، أو يكون من قول ابن عمر، ولم يرد به النزول المصطلح عليه، وإنما أراد أن لفظ الآية يتضمن حكم هذه المسألة، أو ربما ظن أنها نزلت بسبب ذلك وليس الأمر كذلك.
الثانية: أن أم سلمة - رضي الله عنها - ذكرت في حديثها قول اليهود: من جبّى خرج ولده أحول، وهذا يدل على أن أصل الإشكال عند الأنصار ناشئ من اعتقاد اليهود في ذلك.
أما حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عند أبي داود في توهيمه لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فالجواب عنه كالجواب عما رواه النَّسَائِي عن نافع عن ابن عمر سواء بسواء، لأن شأن الحديثين واحد لوجهين:
الأول: أن في حديث ابن عبَّاسٍ قالت: إنما كنا نُؤتى على حرف، وفي حديث ابن عمر: وكانت نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن.
الثاني: أن في حديث ابن عبَّاسٍ: أن الأنصار يقتدون بأهل الكتاب، وفي حديث ابن عمر: فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وسبب الكراهة والتعظيم اقتداؤهم بأهل الكتاب كما أشار إلى ذلك حديث أم سلمة - رضي الله عنها - وحينئذٍ يؤول الحديثان إلى حديث أم سلمة وقد وقعت القصة في بيتها وخلا لفظها من النزول، والله أعلم.
وهنا ينحسر البحث في حديثي جابر، وابن عبَّاسٍ في قصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فأيهما السبب؟
فيقال: المقدم في سبب النزول هو حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لصحة إسناده، وكثرة رواته، وحديث ابن عبَّاسٍ في قصة عمر ضعيف لا يداني حديث جابر، فضلاً عن أن ينازعه السببية.
وعلى فرض صحته يقال: إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ممن تأثر بقول اليهود، فلهذا قال: هلكت، ووجه تأثره: أنه قرشي، والقرشيون لم يكونوا يستنكرون التجبية كما دلت الأحاديث المتقدمة على ذلك، فلما سمع بقول اليهود تأثر به، فلما وقع منه ذلك خشي الهلاك فسأل فنزلت الآية ردًا على يهود فيما زعموا، وتطميناً لعمر ومن فعل فعله. واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن سبب نزول هذه الآية الكريمة حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما زعمه اليهود أن الرجل إذا أتى امرأته من دبرها في قُبلها كان الولد أحول لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وعدم المعارض واللَّه أعلم.
* * * * *
20 - قال الله تعالى: (وَالْمُطَلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية - رضي الله عنها - أنها طُلقت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - حين طُلقت أسماء العدة للطلاق، فكانت أول من أُنزلت فيها العدة للمطلقات.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وقد أورد ابن كثير هذا الحديث عند تفسيره لهذه الآية، وزاد على ذلك أن عيّن الآية النازلة فقال يعني: (وَالْمُطَلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ).
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 279 الى صـ 283
الحلقة (52)
وكذلك فعل أبو الطيب شمس الحق أبادي حيث قال: والمنزل قوله تعالى: (وَالْمُطَلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ).
ولعل اختيارهما لهذه الآية عائد إلى الغالب، إذ عامّة المطلقات إنما يُطلقن بعد الدخول بهن، وقبل إياسهن من المحيض، وهنّ حوائل.
وإلا فإن عِدَدَ المطلقات متفاوتة، فمن المطلقات من تعتد بوضع الحمل، فيما إذا كانت حاملاً، ومنهن من تعتد ثلاثة أشهر كالآيسة، والصغيرة التي لم تحض، ومنهن من لا عدة عليها كالتي طُلقت قبل الدخول.
وإذا نظرنا إلى الحديث، ومدى مناسبته لنزول الآية وجدنا المطابقة بينهما تامة من جميع الوجوه، مما يدل على أنه سبب نزولها.
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وموافقته للفظ الآية، وسياق الآيات وتصريحه بالنزول والله أعلم.
* * * * *
21 - قال الله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان الناس، والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته: واللَّه لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويكِ أبداً. قالت: وكيف ذاك؟ قال: أُطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها فسكتت عائشة حتى جاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، فسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نزل القرآن: ((الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) قالت عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلاً من كان طلق ومن لم يكن طلق.
وأخرجه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلاً.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وهذا الذي عليه جمهور المفسرين كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور فقد ذكروا هذا الحديث عند سياقهم لتفسيرها.
قال الطبري: (ذِكر من قال إن هذه الآية أُنزلت لأن أهل الجاهلية، وأهل الإسلام قبل نزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه، فجعل اللَّه تعالى ذكره لذلك حداً حرم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل امرأته المطلقة إلا بعد زوج وجعلها حينئذٍ أملك بنفسها منه) اهـ.
وقال ابن العربي: (ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكان عندهم العدة معلومةً مقدرة) اهـ.
وقال ابن كثير: (هذه الآية رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مئة مرة ما دامت في العدة فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم اللَّه إلى ثلاث طلقات وأباح الرجعة في المرة والثنتين وأبانها بالكلية في الثالثة) اهـ.
وقال السعدي: (كان الطلاق في الجاهلية واستمر أول الإسلام هو أن يطلق الرجل زوجته بلا نهاية، فكان إذا أراد مضارتها طلقها، فإذا شارفت انقضاء عدتها راجعها، ثم طلقها، وصنع بها مثل ذلك أبدًا، فيحصل عليها من الضرر ما اللَّه به عليم. فأخبر تعالى أن الطلاق الذي تحصل به الرجعة مرتان) اهـ.
وعندي - واللَّه أعلم - أن اتفاق جمهور المفسرين على المعنى الذي دلَّ عليه حديث عروة المرسل يدل على أن لهذا أصلاً ثابتاً حملهم على القول بمقتضاه واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا، وإن كان الصحيح فيه الإرسال، هو سبب نزول الآية لصحة سنده إلى عروة، وتصريحه بالنزول، واحتجاج المفسرين به وتعويلهم عليه واللَّه أعلم.
22 - قال اللَّه تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مالك عن ثور بن زيد الديلي، أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يراجعها ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها. كيما يُطول بذلك عليها العدة ليضارها فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) يعظهم الله بذلك.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وهو المروي عن ابن عبَّاسٍ ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك والربيع والزهري، والسدي وغيرهم.
قال الطبري: (أي لا تراجعوهنّ إن راجعتموهن في عددهن مضارةً لهن لتطولوا عليهن مدة انقضاء عددهن أو لتأخذوا منهن بعض ما آتيتموهن بطلبهن الخلع منكم لمضارتكم إياهن بإمساككم إياهن ومراجعتكم إياهن ضراراً واعتداءً) اهـ.
وقال القرطبي: (وهذا الخبر موافق للخبر الذي نزل بترك ما كان عليه أهل الجاهلية من الطلاق والارتجاع حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) فأفادنا هذان الخبران أن نزول الآيتين المذكورتين كان في معنى واحد متقارب وذلك حبس الرجل المرأة ومراجعته لها قاصداً إلى الإضرار بها وهذا ظاهر) اهـ.
* النتيجة:
أن السبب المذكور في نزول الآية ضعيف لا يصلح للاحتجاج لكنه معتضد بما يروى عن ابن عبَّاسٍ والتابعين في ذلك، وظاهر السياق القرآني يؤيد ذلك ويدل على أن له أصلاً لأن قوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) يدل على وجود شيء من ذلك وأن العلة لفعلهم هذا هي الاعتداء والظلم ولهذا كرر اللَّه في هذه الآية النهي والتذكير والعظة وختمها ببيان علمه بكل شيء وهذا يدل على تحذير بليغ وزجرٍ شديد.
فلولا وجوده ما بلغ الله في التحذير هذا المبلغ واللَّه أعلم.
* * * * *
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 284 الى صـ 288
الحلقة (53)
23 - قال اللَّه تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن معقل بن يسار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها نزلت فيه، قال: زوجتُ أُختًا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوّجتك وفرشتك وأكرمتك، فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً. وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) فقلت: الآن أفعل يا رسول اللَّه، قال: فزوجها إياه.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد ذكر المفسرون هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري: (ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل كانت له أُخت كان زوَّجها من ابن عم لها، فطلقها وتركها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم خطبها منه، فأبى أن يزوجها إياه ومنعها منه وهي فيه راغبة ... ثم اختلف أهل التأويل في الرجل الذي كان فعل ذلك فنزلت فيه هذه الآية، فقال بعضهم: كان ذلك الرجل معقل بن يسار المزني، ثم ساق الروايات في ذلك) اهـ.
وقال البغوي: (نزلت في جميلة بنت يسار أخت معقل بن يسار المزني كانت تحت أبي القداح بن عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها) اهـ.
وقال ابن العربي: (وقد صح أن معقل بن يسار كانت له أُخت فطلقها زوجها فلما انقضت عدتها خطبها فأبى معقل فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية) اهـ.
وقال ابن كثير: (وهكذا ذكر غير واحد من السلف أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته) اهـ.
* النتيجة:
أن حديث معقل بن يسار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سبب نزول الآية لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته لِلفظ الآية، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
24 - قال اللَّه تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج مسلم وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
وفي رواية للبخاري، إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) فأمرنا بالسكوت.
2 - أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنَّسَائِي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها قال فنزلت: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) وقال إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد المفسرون هذه الروايات وجعلوها من أسباب نزول الآية منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور وغيرهم.
وعند النظر في حديث زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجد أنه مشكل من وجهين: الأول: قوله: ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها فإن أراد بالأصحاب أهل الإيمان منهم فهذه الحال لا تنطبق عليهم فقد وصفهم اللَّه في كتابه بأجمل الأوصاف فقال عنهم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ... ) الآية. فقوله: (وَالَّذِينَ مَعَهُ) هم أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن أراد بقوله أصحاب الظاهر وهم المنافقون فهذه الحال أيضاً لا تنطبق عليهم لما روى مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أثقل صلاةٍ على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ... الحديث).
الوجه الثاني: استدلاله بالآية على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر وهذا يخالف النص الصحيح الصريح من سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن المراد بالصلاة الوسطى صلاة العصر فقد أخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللَّه بيوتهم وقبورهم نارًا) ثم صلاها بين العشائين بين المغرب والعشاء.
وبهذا يتبين أن حديث زيد بن ثابت غير محفوظ فلا يستقيم الاحتجاج به على السببية، إذ مقتضى الاستدلال به أن نضرب بكتاب اللَّه سنةَ رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصحيحة وهذا أمر يبرأ منه من له أدنى حظ من علم أو إيمان واللَّه المستعان.
وعند النظر في حديث زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يظهر لنا الإشكال التالي:
وهو أن ظاهر الحديث أن تحريم الكلام في الصلاة إنما كان في المدينة لأن الآية مدنية بالاتفاق وهذا يخالف بظاهره حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقد روى الشيخان عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نسلِّم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي فيردّ علينا فلما رجعنا من عند النجاشي، سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول اللَّه، إنا كنا نسلم عليك فترد علينا؟ قال: إن في الصلاة شغلاً.
وهذا يدل على أن تحريم الكلام في الصلاة سابقٌ للهجرة إلى المدينة لأن هجرتهم إلى الحبشة قبلها قطعًا فما الجواب؟
فالجواب من خمسة أوجه:
أولاً: (أن زيد بن أرقم أراد بقوله: كان الرجل يكلم أخاه في حاجته في الصلاة، الإخبار عن جنس الكلام واستدل على تحريم ذلك بهذه الآية بحسب ما فهمه منها.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 289 الى صـ 293
الحلقة (54)
ثانياً: أنه أراد أن ذلك قد وقع بالمدينة بعد الهجرة إليها ويكون ذلك قد أُبيح مرتين وحرم مرتين) اهـ.
ثالثاً: (أن تحريم الكلام كان بمكة وحملوا حديث زيد بن أرقم على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ وقالوا: لا مانع أن يتقدم الحكم ثم تنزل الآية بوفقه).
رابعاً: ذهب آخرون إلى الترجيح فقالوا يترجح حديث ابن مسعود لأنه حكى لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخلاف زيد بن أرقم فلم يحكه.
خامساً: قالوا: إن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أراد بقوله: فلما رجعنا، رجوعه الثاني وذلك أن بعض المسلمين هاجر إلى الحبشة ثم بلغهم أن المشركين أسلموا فرجعوا إلى مكة فوجدوا الأمر بخلاف ذلك واشتد الأذى عليهم فخرجوا إليها أيضاً فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأولى وكان ابن مسعود مع الفريقين، وقد ورد أنه قدم المدينة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتجهز إلى بدر، فظهر أن اجتماعه بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد رجوعه كان بالمدينة وإلى هذا الجمع نحا الخطابي ويقوي هذا الجمع رواية كلثوم فإنها ظاهرة في أن كلاً من ابن مسعود وزيد بن أرقم حكى أن الناسخ قوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) اهـ بتصرف.
قلت: رواية كلثوم التي أشار إليها ابن حجر هي قول عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كنت آتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فأسلم عليه فيرد عليَّ، فأتيته فسلمتُ عليه وهو يصلي فلم يرد عليَّ فلما سلم أشار إلى القوم فقال: إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يعني أحدث في الصلاة أن لا تكلموا إلا بذكر اللَّه وما ينبغي لكم وأن تقوموا للَّه قانتين.
فقول عبد اللَّه في الحديث وأن تقوموا للَّه قانتين مع حديث زيد بن أرقم يدلان على أن القصة واحدة وأن ذلك كان بالمدينة.
بل لو قدرنا جدلاً أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يذكر في حديثه وقوموا لله قانتين واقتصر ذكرها في حديث زيد بن أرقم لما كان في هذا إشكال لأن التحريم سيكون حينئذٍ ثابتاً بحديث زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ويكون مجيء ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى المدينة بعد تحريم الكلام في الصلاة ولهذا قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن في الصلاة شغلاً.
وهذا القول الأخير في الجمع بين الحديثين هو أصح الأقوال التي ذكرها ابن حجر والله أعلم.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية ما دلّ عليه حديث زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من أن الصحابة كانوا يتكلمون في الصلاة فيما بينهم عن حوائجهم فأنزل الله الآية آمرةً بالمحافظة على الصلاة والسكوت فيها ناهيةً عن الكلام الذي ليس من شأنها. لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
25 - قال الله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانت المرأة تكون مقلاةً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).
وفي لفظ للنسائي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت المرأة من الأنصار لا يكون لها ولد تجعل على نفسها لئن كان لها ولد لتهوِّدنه فلما أسلمت الأنصار قالوا: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري: (اختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار، أو في رجل منهم كان لهم أولاد قد هوَّدوهم أو نصَّروهم فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه فنهاهم اللَّه عن ذلك حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام). اهـ.
وقال ابن كثير: (يقول تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى اللَّه قلبه، وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار وإن كان حكمها عاماً). اهـ.
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا سبب نزول الآية لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية، واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
* * * * *
26 - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي وابن ماجه عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) قال: نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحابَ نخلٍ فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلَّته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلِّقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل، وكان ناسٌ ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلِّقه فأنزل اللَّه تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) قالوا: لو أن أحدكم أُهدي إليه مثلُ ما أَعطى لم يأخذه إلا على إغماض أو حياء.
قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 294 الى صـ 298
الحلقة (55)
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد ذكر المفسرون هذا الحديث عند تفسيرها وجعلوه سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية وابن كثير.
قال الطبري: (لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدقوا منه، ولكن تصدقوا من الطيب الجيد، وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار علق قنواً من حشف في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم صدقةً من تمره). اهـ.
وقال ابن العربي: (لا خلاف بين أهل التفسير أنها نزلت في الرجل كان يأتي بالقنو من الحشف فيعلقه في المسجد يأكل منه الفقراء فنزلت: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ما جاء فى حديث البراء، وإن كان إسناده لا يخلو من مقال، لتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية، واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
* * * * *
27 - قال اللَّه تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُم ْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسبائهم من المشركين فسألوا فرضخ لهم فنزلت هذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُم ْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد ذكر بعض المفسرين الحديث بنصه كالطبري وابن العربي وابن كثير، وغيرهم ذكره بمعناه كالبغوي وابن عطية والقرطبي.
قال الطبري: (يعني تعالى ذكره بذلك: ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام فتمنعهم صدقة التطوع ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، ولكن اللَّه هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له فلا تمنعهم الصدقة) اهـ.
وقال ابن عاشور: (نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين عن الصدقة على الكفار إلجاءً لأولئك الكفار على الدخول في الإسلام.
والمعنى: أن ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد دون هداهم بالفعل أو الإلجاء إذ لا هادي لمن يضلل الله وليس مثل هذا بميسّر للهدى) اهـ.
وكلام الطبري وابن عاشور وغيرهما من المفسرين تجدهم فيه ينسبون النهي عن التصدق على الكافرين إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليحملهم ذلك على الدخول في الإسلام عند الحاجة.
وهذا القول - فيما أعلم - ليس له مستند شرعي صحيح من كتاب اللَّه، أو سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما حمل قائلَه عليه فهمُه لسياق الآية في قوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) وهذا ليس بسديد لأنه لا يلزم من التنبيهِ الوقوعُ في المحذور ودليل ذلك قول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65).
فهل وقع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشرك أو قارب الوقوع فيه؟.
والجواب: لا بلا ريب ولا تردد فلم يقع شيء من ذلك بحمد اللَّه.
ثم أيضاً هذا الكلام معارض بأمرين:
الأول: سبب النزول، فقد جاء في السبب كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسبائهم ولم يقل كانوا ينهون، وأيضاً قوله فسألوا فرخص لهم، ولم يقل فمنعهم.
ولهذا قال ابن العربي: (في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تصدقوا إلا على أهل دينكم فنزلت: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ).
الثاني: أنه ساق الحديث الذي معنا ثم قال: وهذا هو الصحيح لوجهين:أحدهما: أن الأول حديث باطل.
الثاني: أن أسماء - رضي الله عنها - قالت: (قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أبيها، فاستفتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: إن أُمي قدمت وهي راغبة؟ قال: نعم صِلِي أُمكِ) فإنما شكوا في جواز الموالاة لهم، والصدقة عليهم فسألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأذن لهم). اهـ.
الأمر الثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الزكاة الواجبة كان يعطي المؤلفة قلوبهم امتثالاً لأمر اللَّه، وترغيباً لهم في الدخول في الإسلام مع أن شأنها أعظم وأخطر وأجلُّ من صدقة التطوع في وجوب التحري والنظر لمستحقها، فكيف يفعل العكس والضد في غير الأموال الزكوية ويتخذه سبيلاً لجرِّ الناس إلى الإسلام؟
أليس هذا ينافي حكمة العقلاء فضلاً عن حكمة سيد الأنبياء.
* تنبيه:
فإن قال قائل: الآية خاطبتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والكراهة وقعت من غيره فلماذا يوجه الخطاب إليه؟
والجواب: هذا صحيح، ووجه توجيه الخطاب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه إمامهم وقدوتهم ومثل هذا موجود في القرآن كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية، واحتجاج المفسرين بالمعنى الذي دلَّ عليه واللَّه أعلم.
28 - قال الله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مسلم وأحمد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم بركوا على الركب، فقالوا: أيْ رسول اللَّه كُلِفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
فلما اقترأها القوم ذلَّت بها ألسنتهم: فأنزل اللَّه في إثرها: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلما فعلوا ذلك نسخها اللَّه تعالى. فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (قال: نعم) (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (قال: نعم) (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (قال: نعم) (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (قال: نعم).
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة آل عمران
من صــ 299 الى صـ 304
الحلقة (56)
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سبب نزول الآيتين منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال ابن عطية: (سبب هذه أنه لما نزلت: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) وأشفق منها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ثم تقرر الأمر على أن قالوا: سمعنا وأطعنا فرجعوا إلى التضرع والاستكانة مدحهم اللَّه وأثنى عليهم في هذه الآية، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم، فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى اللَّه تعالى، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله أعاذنا اللَّه من نقمه) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ .. ) الآية أنهم قالوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)بعد نزول قوله سبحانه: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ).
وأن سبب نزول قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا .. ) الآية مكافأتهم على السمع والطاعة والاستجابة لأمر اللَّه حيث رفع عنهم المؤاخذة على الخطأ والنسيان وصرف عنهم الآصار التي كانت على من قبلهم. وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول، وموافقته لِلفظ الآيات، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
سورة آل عمران
29 - قال الله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أبو داود عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما أصاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريشاً يوم بدر وقدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال: (يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثلُ ما أصاب قريشاً) قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - في ذلك: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) قرأ مصرف إلى قوله: (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ببدر (وَأُخْرَى كَافِرَةٌ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سبباً لنزول الآية منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور وعند النظر في سبب النزول المذكور تبين أنه لا يصح للعلة المشار إليها، ولعل النظر في السياق القرآني يؤيد ذلك فإن اللَّه قال في الآية: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ... ) وهذا مما شاهده المشركون يوم بدر، ولم يشاهده اليهود، فكيف يكون لهم آية؟
فإن قيل: يمكن أن يكون ذلك آية لليهود ولو لم يروه لكنهم سمعوه من المشركين وحينئذٍ تتحقق العظة؟
فالجواب: أن العظة تتحقق بالسماع لكن بالنظر أبلغ ولهذا كرر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك وختم به الآية فقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) وهذه الجملة الأخيرة من الآية دالةٌ بوضوح على الحديث عن أمر مشاهد وهذا ما لم يتحقق لليهود وإنما وقع للمشركين، فصح بهذا أن يكون الخطاب موجهاً لهم وليس لغيرهم.
وربما يؤيد هذا أن اللَّه صدّر الحديث عن الكافرين بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ).
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة آل عمران
من صــ 305 الى صـ 309
الحلقة (57)
والمفاخرة والمباهاة بالأموال والأولاد من شأن المشركين لا الكتابيين كما قال تعالى عن أحدهم (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77).
(وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35).
وقد مال إلى هذا الطاهر بن عاشور فقال: (والظاهر أن المراد بهم المشركون خاصة ولذلك أُعيد الاسم الظاهر ولم يؤت بالضمير بقرينة قوله بعده: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ) إلى قوله: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) وذلك مما شاهده المشركون يوم بدر) اهـ.
* النتيجة:
أن هذه الآية لم تنزل على سبب إنما هي وعيد للكافرين بأنهم سيحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ثم ذكرهم بما جرى لأشباههم يوم بدر وأنهم إن لم يؤمنوا فسيصيبهم ما أصابهم. وذلك لضعف سند الحديث، ومخالفته لسياق القرآن واللَّه أعلم.
* * * * *
30 - قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي، والنَّسَائِي وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من حلف على يمين وهو فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) قال: فقال الأشعث بن قيس: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجلٍ من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ألك بينة)؟ قال: قلت: لا، قال: فقال لليهودي: (احلف). قال: قلت: يا رسول الله إذن يحلف ويذهب بمالي، قال: فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) إلى آخر الآية.
2 - أخرج البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً أقام سلعة في السوق فحلف فيها: لقد أَعطَى بها ما لم يُعْطَه، ليوقع فبها رجلاً من المسلمين، فنزلت: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) إلى آخر الآية.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد جمهور المفسرين هذين الحديثين عند ذكرهم لنزول الآية الكريمة منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
وحينئذٍ لا بد من النظر هل نزلت الآية على أحد السببين أو نزلت عليهما جميعاً؟
الحافظ ابن حجر - رحمه الله - مال إلى الثاني وقال: (لا منافاة بينهما ويحمل على أن النزول كان بالسببين جميعاً، ولفظ الآية أعم من ذلك ولهذا وقع في صدر حديث ابن مسعود ما يقتضي ذلك) اهـ.
وابن العربي - رحمه الله - يميل إلى ترجيح حديث ابن مسعود في قصة الأشعث بن قيس فقال بعد أن ذكر أسباب النزول في الآية: (والذي يصح أن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث .... ثم قال: وذلك يحتمل ما صح في الحديث وما روي عن اليهود) اهـ.
وعندي - واللَّه أعلم - أن الراجح ما اختاره ابن العربي في ترجيح حديث ابن مسعود لأن القصة بين الأشعث وبين رجل من اليهود والآية التي بعد هذه الآية تتحدث عن اليهود في قوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ ... ) والآية التي قبلها تتحدث عنهم أيضًا في قوله: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ... ).
ومما يؤيد هذا أيضًا أن حديث ابن مسعود رواه السبعة بينما لم يرو حديث ابن أبي أوفى سوى البخاري، والكثرة في الغالب قرينة على الصواب.
ثم الأشعث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يحلف ويقول: فيَّ واللَّه كان ذلك وهو لن يحلف إلا على ما ثبت عنده.
بقي أن يُقال: ما الجواب عن حديث ابن أبي أوفى؟
فالجواب: أن يُقال هذا ما غلب على ظنه من نزولها وليس بالضرورة أن يكون هو الصواب.
أو يُقال: قوله (فنزلت) أن حكم تلك الصورة يتناوله لفظ الآية فعبر عن ذلك بالنزول وهذا مبني على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
* النتيجة:
أن سبب نزول هذه الآية ما جرى للأشعث بن قيس في خصومة له مع يهودي في أرض حين خاف من يمين اليهودي أن تذهب بأرضه فأنزل اللَّه الآية. لصحة سنده، وموافقته لسياق الآيات، وتصريحه بالنزول والله أعلم.
* * * * *
31 - قال الله تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي وأحمد عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم فأرسل إلى قومه: سلوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إن فلانًا قد ندم، دانه قد أمرنا أن نسألك: هل له من توبة؟ فنزلت: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) إلى (غَفُورٌ رَحِيمٌ) فأرسل إليه فأسلم.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة آل عمران
من صــ 310 الى صـ 314
الحلقة (58)
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات، وقد ذكر المفسرون هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري: (اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، وفيمن نزلت، فقال بعضهم: نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري وكان مسلماً فارتد بعد إسلامه ثم ساق الحديث الذي معنا، وذكر قولاً آخر في نزولها، إلا أن الأخبار بالقول الأول أكثر، والقائلين به أعلم بتأويل القرآن) اهـ بتصرف.
وقال البغوي عن الآية: (فحملها إليه رجل من قومه، وقرأها عليه فقال الحارث: إنك والله فيما علمت لصدوق، وإن رسول الله - جمعّ - لأصدق منك، وإن الله - عَزَّ وَجَلَّ - لأصدق الثلاثة، فرجع الحارث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه) اهـ.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور سبب نزول الآيات الكريمة لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، واحتجاج المفسرين به، وموافقته لسياق الآيات والله أعلم.
* * * * *
32 - قال اللَّه تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الإمام أحمد والنَّسَائِي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أخَّر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، قال: (أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر اللَّه هذه الساعة غيركم) قال: وأُنزل هؤلاء الآيات: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) حتى بلغ: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية، وقد أورد بعض المفسرين هذا الحديث عند تفسير الآية لكنهم لم يعتمدوه سببًا لنزولها، وخالفوا ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي يرى أن معنى الآية: ليس أهل الكتاب، وأُمة محمد القائمة بحق اللَّه سواء عند اللَّه.
فقال الطبري: (ليس فريقاً أهل الكتاب، أهل الإيمان منهم والكفر سواء، يعني بذلك أنهم غير متساوين وليسوا متعادلين، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد، والخير والشر، وإنما قيل: ليسوا سواءً، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب الذَين ذكرهما اللَّه بقوله: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)، ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده، المؤمنة منهما والكافرة، فقال: ((لَيْسُوا سَوَاءً) أي ليس هؤلاء سواء المؤمنون منهم والكافرون، ثم ابتدأ الخبر عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل الكتاب ومدحهم بعدما وصف الفرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع ونخب الجنان، ومحالفة الذل والصغار وملازمة الفاقة والمسكنة وتحمل خزي الدنيا وفضيحة الآخرة) اهـ.
وقال ابن العربي: (وقد اتفق المفسرون أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب وعليه يدل ظاهر القرآن، ومفتتح الكلام نفي المساواة بين من أسلم منهم وبين من بقي منهم على الكفر) اهـ.
وقال ابن عطية: (لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب، عقّب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه) اهـ.
وقال ابن كثير بعد أن ساق حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (والمشهور عند كثير من المفسرين كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العوفي عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن سعيه وغيرهم) اهـ.
وقال ابن عاشور: (استئناف قصد به إنصاف طائفة من أهل الكتاب بعد الحكم على معظمهم بصيغة تعمهم، تأكيداً لما أفاده قوله: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) فالضمير في قوله: (لَيْسُوا) لأهل الكتاب المتحدث عنهم آنفاً وهم اليهود) اهـ.
ومن خلال ما تقدم من نصوص العلماء في تفسير الآية المذكورة يتبين أنه ليس بين الآية المذكورة والحديث الذي سيقت فيه أيُّ ارتباط وعلى هذا فليست القصة المذكورة هي سبب نزول الآية واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الحديث الذي سيقت في ثناياه الآية ليس هو سبب نزولها لضعف سنده، ومخالفته لسياق القرآن وأقوال المفسرين، فلعل لها سبباً آخر لم يخرجه أصحاب الكتب التسعة.
* * * * *
33 - قال الله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: فينا نزلت: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سَلِمة، وما نحب - وقال سفيانُ مرةً: وما يسرني - أنها لم تنزل، لقول الله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد المفسرون هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية وابن كثير وابن عاشور.
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة آل عمران
من صــ 315 الى صـ 319
الحلقة (59)
قال البغوي: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا) أي: تجبنا وتضعفا وتتخلفا، والطائفتان بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى أحد في ألف رجل وقيل: في تسعمائة وخمسين رجلاً، فلما بلغوا الشوط انخذل عبد اللَّه بن أبي بثلث الناس ورجع في ثلاث مائة وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال: أنشدكم باللَّه في نبيكم وفي أنفسكم، فقال عبد الله بن أبي: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد اللَّه بن أبي، فعصمهم الله فلم ينصرفوا فذكَّرهم اللَّه عظيم نعمته فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا)، ناصرهما وحافظهما) اهـ.
وقال القرطبي: (والهم من الطائفتين كان بعد الخروج لما رجع عبد الله بن أُبيّ بمن معه من المنافقين فحفظ اللَّه قلوبهم فلم يرجعوا فذلك قوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) يعني حافظ قلوبهما عن تحقيق هذا الهم) اهـ.
وقال ابن عاشور: (وهمت بنو سلمة وبنو حارثة من المسلمين بالانخزال ثم عصمهم الله، فذلك قوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) أي ناصرهما على ذلك الهم الشيطاني الذي لو صار عزمًا لكان سبب شقائهما فلعناية اللَّه بهما برأهما اللَّه من فعل ما همَّتا به) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ما جرى لبني حارثة وبني سلمة من الهم في الانصراف عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وترك الجهاد معه في غزوة أحد لما انصرف رأس المنافقين بثلث الجيش مغاضبًا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه لم يأخذ برأيه ومشورته في البقاء في المدينة وترك الخروج إلى أحد. لصحة سنده وتصريحه بالنزول، واحتجاج المفسرين به، وموافقته للفظ الآية واللَّه أعلم.
* * * * *
34 - قال الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما كان يوم أُحد كسرت رباعية رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشُجَّ في وجهه، قال: فجعل الدم يسيل على وجهه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيهم بالدم، وهو يدعوهم إلى اللَّه؟). قال: فأنزل اللَّه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).
2 - أخرج البخاري وأحمد والنَّسَائِي عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول: (اللهم العن فلانًا وفلاناً وفلانًا) بعد ما يقول: (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) فأنزل اللَّه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)
إلى قوله (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).
وفي لفظ لأحمد والنَّسَائِي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ثم قال: (اللهم العن فلاناً وفلانًا) دعا على ناسٍ من المنافقين فأنزل اللَّه تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ... ). وفي لفظ لأحمد عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (اللهم العن فلاناً، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية) قال: فنزلت هذه الآية: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ... ). قال: فتيب عليهم كُلِّهم.
وأخرجه البخاري معلقاً عن حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد اللَّه يقول: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو على صفوان بن أُمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام. فنزلت: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) إلى قوله (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).
3 - أخرج البخاري وأحمد والدارمي ومسلم، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فربما قال: إذا قال سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد: (اللهم انج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف) يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: (اللهم العن فلانًا وفلانًا) لأحياءٍ من العرب، حتى أنزل الله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).
ولفظ مسلم عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (اللهم العن لحيان ورِعْلاً وذكوان وعُصَيَّةَ عصت الله ورسوله) ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أُنزل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد ذكر المفسرون هذه الأحاديث في سبب نزولها لكنهم لم يخلصوا فيها إلى سبب معين يركن إليه ويعتمد عليه، ومن هؤلاء الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور، ومن المعلوم قطعاً أنه لا يمكن القول بأن هذه الأحاديث جميعاً سبب لنزول الآية الكريمة وحينئذٍ لا بد من النظر فيما يمكن اعتباره سبباً لنزولها فأقول مستعيناً باللَّه تعالى:
حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الدعاء على القبائل المذكورة ليس سبباً للنزول لما يلي:
1 - أن الآية نزلت في سياق الحديث عن قصة أحد - كما ذكره ابن القيم، وابن حجر - رحمة اللَّه عليهما، وقصة رعل، ولحيان، وذكوان، وعصيَّة كانت لما قُتل القراء في بئر معونة، وذلك في صفر من السنة الرابعة فكيف يتقدم النزول على السبب؟.
2 - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك الدعاء عليهم لما جاؤوا تائبين مسلمين وليس لأن الآية نزلت ناهيةً عن الدعاء عليهم.
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479137079.gif
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة آل عمران
من صــ 320 الى صـ 324
الحلقة (60)
3 - أن ذكر النزول بسبب هذه القضية لم يثبت من حيث الإسناد وقد تقدم شيء من هذا عند الكلام على رواية مسلم ومع هذا فقد قال ابن حجر معقباً على رواية البخاري: (ثم ظهر لي علة الخبر وأن فيه إدراجاً، وأن قوله: حتى أنزل الله، منقطع من رواية الزهري عمن بلّغه، بيّن ذلك مسلم في رواية يونس المذكورة فقال هنا يعني الزهري ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت وهذا البلاغ لا يصح لما ذكرته) اهـ - يعني الانقطاع -.
وبما تقدم يتبين أن ذكر نزول الآية عند الدعاء على هؤلاء الأحياء من العرب لم يصح سنداً ومتناً وإن كان الدعاء عليهم ثابتًا في الصحيح والعلم عند الله تعالى.
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ناسٍ من المنافقين فأنزل اللَّه الآية. فقد تقدم بيان شذوذها من جهة الإسناد، وهي كذلك شاذة من جهة المتن إذ كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعامل المنافقين كما يعامل أصحابه المؤمنين لأنهم أصحاب في الظاهر ويشهد لذلك ما روى البخاري عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا في غزاةٍ فذكر الحديث ... إلى أن قال عبد اللَّه بن أبي: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ، فبلغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام عمر، فقال: يا رسول اللَّه دعني أضربْ عنق هذا المنافق. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه). فانظر كيف عدهم أصحابًا فقد كانوا يصحبونه في الظاهر، وأمر سرائرهم إلى الله وحده فلماذا الدعاء عليهم؟.
أما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في تسمية النفر الثلاثة من قريش عند الدعاء عليهم فلم يصح في حديث مرفوع كما تقدم بحث ذلك، وإنما الذي صح هو الدعاء على أُناس مبهمين فأنزل اللَّه الآية.
وحينئذٍ ينحسر النظر في حديث أنس في قصة أحد والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح الدم عن وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيهم بالدم) وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الركوع فما الجواب عن هذين السببين؟.
الطبري ذهب إلى صلة الآية بما قبلها فقال: (يعني بذلك تعالى ذكره: ليقطع طرفاً من الذين كفروا، أو يكبتهم، أو يتوب عليهم، أو يعذبهم فإنهم ظالمون ليس لك من الأمر شيء، فقوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) منصوب عطفاً على قوله: (أَوْ يَكْبِتَهُمْ). اهـ.
ثم ساق حديث أنس وذكر من القائلين به ابن عبَّاسٍ، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس.
وما ذُكر يشير إلى اختياره لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سبب نزولها.
وقال السعدي: (لما أُصيب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد، وكسرت رباعيته وشج في رأسه جعل يقول: كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية وبيّن أن الأمر كله للَّه، وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس له من الأمر شيء؛ لأنه عبد من عبيد اللَّه، والجميع تحت عبودية ربهم مدبَّرون لا مدبرون.
وهؤلاء الذين دعوت عليهم أيها الرسول، أو استبعدت فلاحهم وهدايتهم إن شاء اللَّه تاب عليهم، ووفقهم للدخول في الإسلام، وقد فعل فإن أكثر أولئك هداهم اللَّه فأسلموا.
وإن شاء اللَّه عذبهم فإنهم ظالمون، مستحقون لعقوبات اللَّه وعذابه) اهـ.
فالسعدي - رحمه الله - وإن كان قدم حديث أنس، إلا أنه أشار إلى حديث ابن عمر في قوله: وهؤلاء الذين دعوت عليهم أيها الرسول. فإن حديث أنس خلا من الدعاء على أحد.
أما الطاهر بن عاشور فرد حديث أنس بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدّع لنفسه شيئاً أو عملاً حتى يقال: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ).
وردَّ حديث ابن عمر بحديث ورد فيه قولُه: (إني لم أبعث لعاناً) ولم يعزه وبما ثبت من خُلُقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان لا ينتقم لنفسه.
أما ابن حجر فمرةً قال: (والصواب أنها نزلت في شأن الذين دعا عليهم بسبب قصة أحد والله أعلم، ويؤيد ذلك ظاهر قوله في صدر الآية (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بقتلهم (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أي يخزيهم، ثم قال: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي فيسلموا (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) أي إن ماتوا كفاراً) اهـ.
ومرةً جمع بينهما فقال: (وطريق الجمع بينه - أي حديث أنس - وبين حديث ابن عمر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا على المذكورين بعد ذلك في صلاته فنزلت الآية في الأمرين معاً، فيمًا وقع له من الأمر المذكور، وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم وذلك كله في أحد) اهـ.
وعندي - والله أعلم - أن حديث أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسعد بنزول الآية لما يلي:
1 - أن العلماء - فيما أعلم - متفقون على أن الآية نزلت في قصة أحد، وهذا ما جاء نصاً في حديث أنس، بخلاف حديث ابن عمر الذي خلا من هذا.
2 - أن السبب معلوم في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيهم بالدم) لأنهم كسروا رباعيته، وشجوا وجهه، بينما السبب في لعنه لهؤلاء النفر غير معلوم، إذ يحتمل أن لعنهم كان في أحد ويحتمل أنه في غيرها، ولا يوجد ما يُعيّن ذلك.
وقول ابن حجر: (أنها نزلت في شأن الذين دعا عليهم بسبب قصة أحد) غير مسلَّم فأين الدليل على ذلك؟ ثم ما صلة هؤلاء النفر على وجه الخصوص بأحد؟ تعيينهم بالأسماء لم يثبت كما تقدم. ولو فرضنا جدلاً ثبوته لقلنا ألم يكن في المشركين من هو أنكى على المسلمين من هؤلاء النفر كخالد بن الوليد مثلاً فلماذا ترك الدعاء عليه إذا كان للدعاء علاقة بأحد؟
3 - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لعنه لهؤلاء النفر لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يلعنهم بإذن اللَّه له، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعاتبه الله على ذلك بقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) مع أنه قد أذن له فيه.
الثانية: أن يلعنهم اجتهادًا من نفسه، وعليه فكيف نجمع بين هذا وبين ما ثبت في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن اليهود أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: السام عليك، قال: (وعليكم) فقالت عائشة: السام عليكم، ولعنكم اللَّه، وغضب عليكم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مهلاً يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف أو الفحش ... الحديث).
فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هنا نهى عائشة، وأخبر أن فعلها من العنف أو الفحش الذي ينافي الرفق، مع أن اليهود هم أول من بدأ بالسوء، والله قد لعنهم وغضب عليهم في كتابه.
أفيمكن بعد هذا أن يفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته، وهو يناجي ربه، ما ينهى عنه عائشة - رضي الله عنها - وهو أتقى الناس لله وأخشاهم له؟
فلم يبق إلا أن لعنه لهؤلاء كان بأمر إلهي يستحق عليه الثناء، لا التوبيخ والعتاب.
4 - أن المستقر من سيرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحاله مع الناس أنه لا ينتقم لنفسه كما روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما خُيِّر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه إلا أن تُنتهك حرمةُ الله فينتقم للَّه بها.
ولو كان لِلعنه صلة بأُحد لكان انتقاماً لنفسه لأن أبلغ ما فعله المشركون بأحد إصابتهم إياه، ولهذا استبعد فلاحهم بقوله: (كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى اللَّه). ومعلوم أن الدعاء على أحدٍ بسبب مع إهمال سببٍ أبلغَ منه ينافي حكمة العقلاء، فكيف بحكمة سيد الثقلين؟.
فإن قيل: ما الجواب عن حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؟
فالجواب: أن حديث ابن عمر ثابت في دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هؤلاء المبهمين، لكن ليس للدعاء صلة بغزوة أحد، بل في مناسبة أخرى، كما دعا على بعض أَحياء العرب من رعل، وذكوان، ولحيان، وعصيّة لما قتلوا القراء، وأن دعاءه إنما كان بإذن ربه.
وذِكرُ آية آل عمران في القصة لا تدل على نزولها في أُحدٍ وإنما تدل على اجتهاد ابن عمر وظنه أنها نزلت في أحد وليس الأمر كذلك واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أُصيب في أُحد: كيف يفلح قوم خضَّبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى اللَّه، لصحة سنده، وتصريحه بالنزول وتحديداً في غزوة أحد، وموافقته للفظ الآية ومناسبته لحال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واللَّه أعلم.
* * * * *
http://www.7lwthom.net/up/uploads/1492479128182.gif
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة آل عمران
من صــ 325 الى صـ 329
الحلقة (61)
35 - قال اللَّه تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أبو داود والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: نزلت هذه الآية (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) في قطيفة حمراء فُقدت يوم بدر، فقال بعض الناس لعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها، فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) إلى آخر الآية.
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسير الآية منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور، لكن منهم من تعقبه كالطبري وابن عاشور ومنهم من سكت عنه وهم الباقون.
وقد قال الطبري معقبا: (وما كان لنبي أن يغل) بمعنى: ما الغلول من صفات الأنبياء ولا يكون نبيا من غل، وإنما اخترنا ذلك لأن الله - عز وجل - أوعد عقيب قوله: (وما كان لنبي أن يغل) أهل الغلول، فقال: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ... ) الآية والتي بعدها، فكان في وعيده عقيب ذلك أهل الغلول، الدليل الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول، وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله: (وما كان لنبي أن يغل) لأنه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتهموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغلول لعقب ذلك بالوعيد على التهمة وسوء الظن برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا بالوعيد على الغلول، وفي تعقيبه ذلك بالوعيد على الغلول بيان بين، أنه إنما عرف المؤمنين وغيرهم من عباده أن الغلول منتف من صفة الأنبياء وأخلاقهم؛ لأن ذلك جرم عظيم والأنبياء لا تأتي مثله).
وقد أجاد وأفاد الطاهر بن عاشور حين أشار إلى أن هذا الحديث لا يصح أن يكون سببا لنزول الآية إذ كيف تفقد القطيفة يوم بدر ولا تنزل الآية لأجل هذا إلا يوم أحد مع أن بين الغزوتين سنة وشهرا إذ كانت بدر في رمضان من السنة الثانية، وأحد في شوال من الثالثة، والآية إنما جاءت في سياق الحديث عن غزوة أحد، فهل يمكن أن يتأخر الجواب عن الحدث هذه المدة؟ هذا ما لم يقع والعلم عند الله تعالى.
فإن قال قائل: إن فقد القطيفة إنما كان يوم أحد فنزلت الآية جوابا لهذا.
فالجواب: أن هذا لا يستقيم أيضا لأن غزوة أحد لم يقع فيها غلول ولم يكن للمسلمين فيها غنيمة. اهـ بتصرف.
وهذا القول هو الراجح ويعضده من جهة السند أنه مضطرب، فهاتان علتان في المتن والإسناد.
* النتيجة:
أن هذا الحديث المذكور لا يصح أن يكون سببا لنزول الآية الكريمة لما تقدم فإما أن تكون الآية لم تنزل على سبب أصلا، أو كان لها سبب لا يندرج ضمن نطاق البحث فالله أعلم.
* * * * *
36 - قال الله تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (165)
* سبب النزول:
أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم بدر قال: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - القبلة، ثم مد يديه، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: (اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا) قال:
فما زال يستغيث ربه - عز وجل -، ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي الله، كذاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك وأنزل الله - عز وجل -: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين).
فلما كان يومئذ والتقوا فهزم الله - عز وجل - المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا فاستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعليا وعمر فقال أبو بكر: يا نبي الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم فيكونون لنا عضدا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(ما ترى يا ابن الخطاب؟) قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنني من فلان - قريبا لعمر - فأضرب عنقه وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان، أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فأخذ منهم الفداء فلما كان من الغد، قال عمر: غدوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو قاعد وأبو بكر وإذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، قال
: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الذي عرض علي أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة) - لشجرة قريبة - وأنزل الله - عز وجل -: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) إلى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم) من الفداء ثم أحل لهم الغنائم فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسأل الدم على وجهه وأنزل الله تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) بأخذكم الفداء.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة آل عمران
من صــ 330 الى صـ 334
الحلقة (62)
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وقد أورد ابن كثير - رحمه الله - هذا في تفسيره لكنه لم يتعقبه.
والصحيح والله أعلم أن هذا لا يصح سببا لنزول الآية الكريمة، لأمرين:
الأول: أنه قد تبين أن هذه الزيادة في قصة أحد مما انفرد بها عبد الرحمن بن غزوان الملقب (بقراد) وخالف فيها الثقات فهي شاذة لا تصح.
الثاني: قوله: فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فيقال: سبحان الله وهل يمكن أن يؤاخذ الله أحدا بذنب قد عفا عنه وغفر لصاحبه؟ فإن قيل: وكيف كان هذا؟
فالجواب: ما أنزله الله تعالى في سورة الأنفال في قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69). فانظر قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68). فالكتاب الذي سبق من الله منع من عذابهم وحال دونه.
وانظر قوله: (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) فقد أحل ذلك لهم وأذن لهم فيه، وختم ذلك بالمغفرة والرحمة. فهل يصح أن يقال بعد ذلك إن ما أصابكم يوم أحد عقوبة على أخذكم الفداء يوم بدر؟
* النتيجة:
أن ما ذكر هنا واعتبر سببا لنزول الآية لا يصح لشذوذ الزيادة وخلو الأحاديث الصحيحة منها مع ما فيها من مخالفة سياق القرآن، والآية إنما نزلت تتحدث عن قصة أحد وما جرى فيها من هزيمة المسلمين وأسباب ذلك ودواعيه ...
* * * * *
37 - قال الله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169)
* سبب النزول:
1 - أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله - عز وجل - أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله - عز وجل -: (أنا أبلغهم عنكم) فأنزل الله - عز وجل - هؤلاء الآيات على رسوله: (ولا تحسبن الذين قتلوا).
2 - أخرج الترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: (يا جابر ما لي أراك منكسرا)؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي، وترك عيالا ودينا، قال: (أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك)؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: (ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجابه، وأحيا أباك فكلمه كفاحا. فقال: يا عبدي تمن عليك أعطك. قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية. قال الرب - عز وجل -: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون وأنزلت هذه الآية: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون).
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة وقد أورد المفسرون هذين السببين وغيرهما وجعلوها سببا لنزول الآية منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وغيرهم.
قال ابن عطية بعد أن ساق الأسباب المذكورة في نزول الآية: (كثرت الأحاديث في هذا المعنى واختلفت الروايات، وجميع ذلك جائز على ما اقتضته من هذه المعاني) اهـ.
وقال القرطبي بعد ذكر الأسباب: (وبالجملة وإن كان يحتمل أن يكون النزول بسبب المجموع فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين، وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم) اهـ.
والظاهر والله تعالى أعلم أن حديث جابر في قصة والده عبد الله بن عمرو بن حرام لا تصح سببا لنزول الآية:
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة آل عمران
من صــ 335 الى صـ 339
الحلقة (63)
أولا: لما تبين من لا اعتلال إسناده وضعفه.
ثانيا: أن سياق الآيات لا يعين على ذلك لأن الله يتحدث عن هؤلاء الشهداء بصيغة الجمع فقال: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171). وهذا يصدق على الجماعة دون الواحد، فضمائر الجمع كثيرة في الآيات المتقدمة مما يبعد إرادة الواحد.
أما حديث ابن عباس: فهو وإن كان فيه انقطاع بين أبي الزبير وابن عباس إلا أنه مؤيد بما روى مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وبما روى عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس موقوفا عليه.
وسياق الآيات يدل على ذلك فإن الشهداء في حديث ابن عباس قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ... ) مرغبا لهم في الجهاد مبينا لهم عاقبته وأثره مخبرا لهم عن حياة وسعادة من ماتوا عليه، بخلاف حديث عبد الله بن حرام الذي ليس فيه إلا سؤاله أن يعيده الله ثانية لأجل الجهاد، على أن هذا لا يمنع أن يكون عبد الله بن حرام أحد الشهداء الذين نزلت فيهم الآية بل هو منهم - رضي الله عنهم - جميعا.
* النتيجة:
أن حديث جابر - رضي الله عنه - ليس سببا لنزول الآية لما في سنده من الضعف وعدم موافقته لسياق الآيات، أما حديث ابن عباس فهو وإن تكلم في سنده إلا أن له شواهد تجبره ومع هذا فلفظ الآيات يوافقه وأقوال المفسرين تؤيده والله أعلم.
* * * * *
38 - قال الله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم (172)
* سبب النزول:
1 - أخرج النسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما انصرف المشركون عن أحد وبلغوا. الروحاء قالوا لا محمدا قتلتموه ولا الكواعب أردفتم وبئس ما صنعتم ارجعوا، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فندب الناس، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد وبئر أبي عتبة فأنزل الله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) وقد كان أبو سفيان قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال والتجارة فلم يجدوا بها أحدا وتسوقوا فأنزل الله تعالى:(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء).
2 - وأخرج البخاري عن عائشة - رضي الله عنها -: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم). قالت لعروة: يا ابن أختي، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، قال: (من يذهب في إثرهم) فانتدب منهم سبعون رجلا، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير.
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد المفسرون ما تقدم وجعلوه سبب نزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وغيرهم، وحجتهم في ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها - المتقدم عند البخاري.
قال الطبري: (إنما عنى الله تعالى ذكره بذلك الذين اتبعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأسد في طلب العدو أبي سفيان ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أحد وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أثره حتى بلغ حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة ليرى الناس أن به وأصحابه قوة على عدوهم). اهـ.
وقال ابن عطية: (والمستجيبون لله والرسول هم الذين خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأسد في طلب قريش وانتظارهم لهم وذلك أنه لما كان في يوم الأحد وهو الثاني من يوم أحد نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس باتباع المشركين وقال: لا يخرج معنا إلا من شاهدنا بالأمس وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم ولكن تجلدوا ... إلى أن قال فأنزل الله تعالى في شأن أولئك المستجيبين هذه الآية ومدحهم لصبرهم) اهـ بتصرف.
ومما يؤيد القول بأنها نزلت في هذه القصة قول الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عند شرحه لحديث عائشة حيث قال: (قوله باب: (الذين استجابوا لله والرسول) أي سبب نزولها وأنها تتعلق بأحد) اهـ.
أما ما أخرجه النسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فقد تقدم أن الصحيح فيه أنه من مرسل عكرمة لكنه يعتضد ويقوى بحديث عائشة.
وإذا نظرت في حديث عائشة وصحة سنده وضممت إليه حديث ابن عباس وما فيه من التصريح بنزول الآية وجمعت الحديثين إلى سياق القرآن تبين لك أن سبب نزولها ما جرى من استجابة الصحابة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في اتباع المشركين من بعد ما أصابهم القرح وعلى هذا جرى المفسرون.
أما سبب نزول قوله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء .. ) الآية فستأتي دراسته إن شاء الله تعالى في النص الذي يليه.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ثناء الله سبحانه على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أجابوه لما ندبهم للحاق المشركين مع ما فيهم من الجراح والآلام إظهارا للجلد والقوة وإرهابا لأعداء الله وذلك لدلالة سياق القرآن، واتفاق المفسرين، مع ما في الحديثين مجتمعين من صحة السند والتصريح بالنزول والله أعلم.
* * * * *
39 - قال الله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174)
* سبب النزول:
أخرج النسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما انصرف المشركون عن أحد وبلغوا الروحاء قالوا: لا محمدا قتلتموه ولا الكواعب أردفتم وبئس ما صنعتم، ارجعوا فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فندب الناس فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد وبنو أبي عتبة فأنزل الله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح) وقد كان أبو سفيان قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع، فأخذ أهبة القتال والتجارة فلم يجدوا بها أحدا وتسوقوا فأنزل الله تعالى: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء).
* دراسة السبب:
هكذا جاء عن عكرمة في سبب نزول قوله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) .. الآية وبهذا قال مجاهد أيضا، لكن هذا مخالف لقول جمهور المفسرين وغيرهم من العلماء ولهذا قال ابن عطية: (وشذ مجاهد - رحمه الله - فقال: إن هذه الآية من قوله: (الذين قال لهم الناس) إلى قوله (فضل عظيم) إنما نزلت في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر الصغرى، وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في أحد إذ قال: موعدنا بدر من العام المقبل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قولوا: نعم. فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل بدر وكان بها سوق عظيم، فأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه دراهم وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعي فأخبره أن قريشا قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها، فأشفق المسلمون من ذلك لكنهم قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وصمموا حتى أتوا بدرا فلم يجدوا عدوا ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدما وتجارة وانقلبوا ولم يلقوا كيدا وربحوا في تجارتهم فذلك قوله تعالى: (بنعمة من الله وفضل) أي فضل في تلك التجارة، والصواب ما قاله الجمهور أن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد) اهـ.
وقال القرطبي: (وشذ مجاهد وعكرمة رحمهما الله تعالى فقالا: إن هذه الآية من قوله: (الذين قال لهم الناس) إلى قوله (عظيم) إنما نزلت في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر الصغرى) ثم ذكر ما تقدم عن ابن عطية.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة آل عمران
من صــ 340 الى صـ 344
الحلقة (64)
وقد ساق ابن القيم - رحمه الله - ما جرى سياقا جميلا مرتبا فقال: (ولما انقضت الحرب انكفأ المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال فشق ذلك عليهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: (اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم فيها). قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل، وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة، ولما عزموا على الرجوع إلى مكة أشرف على المسلمين أبو سفيان، ثم ناداهم: موعدكبم الموسم ببدر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قولوا نعم قد فعلنا) قال أبو سفيان: (فذلكم الموعد) ثم انصرف هو وأصحابه فلما كان في بعض الطريق، تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال:
(لا يخرج معنا إلا من شهد القتال) فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك؟ قال: (لا) فاستجاب له المسلمون على ما بهم من القرح الشديد والخوف، وقالوا: سمعا وطاعة. واستأذنه جابر بن عبد الله وقال: يا رسول الله إني أحب ألا تشهد مشهدا إلا كنت معك وإنما خلفني أبي على بناته فأذن لي أسير معك فأذن له فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد) وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله، فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه، قد تحرقوا عليكم وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله. وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة. فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم.
قال: فلا تفعل، فإني لك ناصح، فرجعوا على أعقابهم إلى مكة، ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريد المدينة، فقال: هل لك أن تبلغ محمدا رسالة، وأوقر لك راحلتك زبيبا إذا أتيت إلى مكة؟ قال: نعم. قال: أبلغ محمدا أنا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه، فلما بلغهم قوله قالوا: (حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174).
فتبين بما ذكره ابن عطية والقرطبي، شذوذ ما ذكراه عن مجاهد وعكرمة رحمهما الله تعالى، من أن السبب خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر الصغرى.
وتبين بما ذكره ابن القيم أن ذلك حصل عند خروجهم إلى حمراء الأسد، وإن كان قد ذكر أن أبا سفيان قد ناداهم فقال: موعدكم الموسم ببدر، وهو ما ذكره عكرمة أيضا في الحديث الذي معنا، لكن عكرمة جعله سبب النزول، وابن القيم وغيره جعلوه موعدا، وسبب النزول خروجهم إلى حمراء الأسد. والله أعلم.
فإن قيل: ما الدليل الصحيح على هذا الترجيح؟
فالجواب: أن الدليل ما تقدم في حديث عائشة عند البخاري في استجابتهم لله والرسول وسياق الآيات واحد لا يختلف في خروجهم ثم تخويفهم ثم توكلهم على الله ثم انقلابهم بالنعمة والفضل.
* النتيجة:
أن الآية الكريمة نزلت لما استجابوا وخرجوا للقتال بعد تحذيرهم وتخويفهم منه فلم يفت ذلك في عزيمتهم بل زادهم إيمانا بتوكلهم على الله وكانت العاقبة السارة لهم حيث انقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء بل واتبعوا رضوان الله والله عظيم الفضل والإحسان حيث قادهم إلى مواقع فضله ورحمته في خروجهم إلى حمراء الأسد، وإنما اخترت هذا لدلالة السياق القرآني عليه والموافقة بين تاريخ النزول وزمن القصة. والله أعلم.
* * * * *
40 - قال الله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186)
* سبب النزول:
أخرج أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، وكان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم وكان كعب بن الأشرف يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون والمشركون يعبدون الأوثان واليهود، وكانوا يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأمر الله - عز وجل - نبيه بالصبر والعفو، ففيهم أنزل الله:
(ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم)، فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ أن يبعث رهطا يقتلونه، فبعث محمد بن مسلمة وذكر قصة قتله، فلما قتلوه فزعت اليهود والمشركون، فغدوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: طرق صاحبنا فقتل فذكر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يقول ودعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه، فكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة آل عمران
من صــ 345 الى صـ 349
الحلقة (65)
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد المفسرون هذا الحديث وجعلوه من أسباب نزول الآية منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي، وغيرهم.
وقد ذكر المفسرون أيضا في نزولها قصة أبي بكر - رضي الله عنه - مع فنحاص اليهودي وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا بكر الصديق إلى فنحاص يستمده، وكتب إليه بكتاب، وقال لأبي بكر: (لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع) فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف، فأعطاه الكتاب، فلما قرأه قال: قد احتاج ربكم أن نمده، فهم أبو بكر أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع، فكف ونزلت: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله .. ) إلى قوله: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم).
وقد تبين من دراسة الإسنادين أن حديث كعب بن الأشرف مرسل، وحديث فنحاص اليهودي في قصة أبي بكر فيه انقطاع وإرسال، وبهذا يسقط الاحتجاج بهما على السببية وربما كان هذا هو السبب في إعراض ابن كثير - رحمه الله - عن هذين الحديثين حيث لم يذكرهما مع أنه شديد العناية بالروايات وأسانيدها، ولعل مما يعين على هذا الظن ويومئ إليه قوله - رحمه الله - عند هذه الآية: (يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسليا لهم عما ينالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين وآمرا لهم بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج الله فقال تعالى:
(وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) ثم ساق حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين أردفه في عيادته لسعد بن عبادة فذكر الحديث إلى أن قال: فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا، فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك. فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا فذكر الحديث ... إلى أن قال:
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى، قال الله - عز وجل -: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) وقال الله: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتأول العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرا فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام فأسلموا) فربما أراد ابن كثير - رحمه الله - بسياق هذا الحديث التنبيه إلى أنه سبب نزول الآية والله أعلم.
* النتيجة:
أن الأسباب المذكورة لنزول الآية الكريمة قد تبين ضعفها وعدم حجيتها ولا أعلم سببا صحيحا يمكن أن أسطره بين يدي القارئ، وأما حديث أسامة بن زيد فإن سياقه يتفق ولفظ الآية كثيرا لكني لا أجزم بأنه سبب نزولها لعدم الدليل على ذلك والعلم عند الله تعالى.
* * * * *
41 - قال الله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم (188)
* سبب النزول:
1 - أخرج مسلم وأحمد والبخاري، والترمذي والنسائي أن مروان قال: اذهب يا رافع - لبوابه - إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل، معذبا لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه). هذه الآية. وتلا ابن عباس: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا). وقال ابن عباس: سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.
2 - أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ... ) الآية.
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة وقد أورد المفسرون هذين السببين وغيرهما مما لا يستند إلى حجة في الإسناد وتباينت مواقفهم عند النظر فيهما فذهب بعضهم إلى الجمع بينهما وأن الآية نزلت بسببهما ومن هؤلاء القرطبي وابن كثير رحمهما الله تعالى.
قال القرطبي: (والحديث الأول خلاف مقتضى الحديث الثاني، ويحتمل أن يكون نزولها على السببين لاجتماعهما في زمن واحد فكانت جوابا للفريقين والله أعلم).
وقال ابن كثير: (ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء - أي نزولها بشأن المنافقين - لأن الآية عامة في جميع ما ذكر والله أعلم).
وذهب بعض المفسرين إلى أنها في أهل الكتاب خاصة ومن هؤلاء الطبري وابن عاشور، قال الطبري بعد أن ساق الأقوال في نزولها: (وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا .. ). الآية قول من قال: عنى بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله جل وعز أنه أخذ ميثاقهم ليبينن للناس أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يكتمونه، لأن قوله: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) في سياق الخبر عنهم، وهو شبيه بقصتهم، مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك).
وقال ابن عاشور بعد أن ساق الآية: (تكملة لأحوال أهل الكتاب المتحدث عنهم ببيان حالة خلقهم بعد أن بين اختلال أمانتهم في تبليغ الدين، وهذا ضرب آخر جاء به فريق آخر من أهل الكتاب فلذلك عبر عنهم بالموصول للتوصل إلى ذكر صلته العجيبة من حال من يفعل الشر والخسة ثم لا يقف عند حد الانكسار لما فعل أو تطلب الستر على شنعته، بل يرتقي فيترقب ثناء الناس على سوء صنعه ويتطلب المحمدة عليه) والراجح - والله أعلم - ما ذكره ابن عباس - رضي الله عنهما - في شأن نزولها في أهل الكتاب وما ذكره من الدليل على ذلك؛ لأنه لما قال: ما لكم ولهذه الآية إنما أنزلت في أهل الكتاب تلا قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وهذا نظر ظاهر منه - رضي الله عنه - إلى السياق القرآني وأثره في تفسير كلام الله وهذا هو اللائق بترجمان القرآن - رضي الله عنه - وهو أقرب طريق إلى الصواب في معرفة التفسير والله أعلم.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ما ذكره ابن عباس - رضي الله عنهما - في سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن. ولم يظهر لي من وجه صحيح ما هو الشيء الذي سألهم عنه فكتموه. وأما الحديث عن المنافقين وتخلفهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسيأتي في موضعه مع قصته في سورة براءة إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
* * * * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة آل عمران
من صــ 350 الى صـ 357
الحلقة (66)
42 - قال الله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّ هُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة فأنزل الله تعالى: (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسير الآية كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي.
قال الطبري: (وذُكر أنه قيل لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بال الرجال يذكرون ولا تذكر النساء في الهجرة فأنزل اللَّه هذه الآية). اهـ.
وقال ابن عطية: (وروي أن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: يا رسول الله، قد ذكر اللَّه تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك فنزلت الآية). اهـ.
والراجح - واللَّه أعلم - أن الآية لم تنزل بسبب قول أم سلمة - رضي الله عنها - لوجهين:
الأول: أن هذا لم يصح عنها - رضي الله عنها - للعلة المذكورة في إسناد الحديث.
الثاني: أن السياق القرآني لا يؤيد هذا ولا يسعفه، وإنما يؤيد أن الآية جاءت جواباً من اللَّه لهؤلاء الذين يدعونه رهباً ورغباً بقولهم: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .. ) إلى قولهم .. (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194).
ثم قال: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ).
ولو كانت الآية نزلت بسبب قول أم سلمة - رضي الله عنها - لانقطع الاتصال بين الدعاء والجواب وهذا لا يخفى على من تأمله.
ولهذا قال الطبري مؤيداً لهذا المعنى بعد سياق الآية: (يعني تعالى ذكره فأجاب هؤلاء الداعين بما وصف اللَّه عنهم أنهم دعوا به ربهم بأني لا أضيع عمل عامل منكم عمل خيراً ذكراً كان العامل أو أنثى) اهـ.
وقال ابن كثير بعد سياق الآية: (ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب كما قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، وقوله تعالى: (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) هذا تفسير للإجابة أي قال لهم مخبرًا أنه لا يضيع عمل عامل منكم لديه، بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى) اهـ.
*النتيجة:
أن الآية لم تنزل بسبب قول أم سلمة - رضي الله عنها - وإنما جاءت جوابًا من اللَّه سبحانه لهؤلاء الخاشعين الذين يدعون ربهم رغبةً في جزائه وعطائه ورهبة من عقابه وعذابه فاجابهم المنعم المتفضل إلى ما طلبوا ونجاهم مما هربوا والله ذو الفضل العظيم، وإنما اخترت هذا لدلالة سياق الآيات عليه وعدم وجود معارض راجح صحيح والله أعلم.
* * * * *
43 - قال الله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما جاء نعي النجاشي قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صلوا عليه) قالوا: يا رسول اللَّه، نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة وقد أورد المفسرون هذا الحديث وغيره عند تفسير الآية منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وغيرهم.
والظاهر عندي واللَّه أعلم أن الآية إنما تتحدث عن مؤمني أهل الكتاب كعبد اللَّه بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره وبيان ذلك أن يقال:
إذ قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)، قد تقرر أنها نزلت في اليهود كما تقدم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثم ذكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حال المؤمنين في تفكرهم وذكرهم لربهم ودعائهم إياه وما أجابهم به وتفضل عليهم ثم عاد بعد ذلك إلى ذكر الطائفة الأخرى من أهل الكتاب فأثنى عليهم بإيمانهم وخشوعهم وما لهم من الأجر عند الله على ذلك.
ولعل مما يعضد هذا الفهم وأن الحديث عن طائفتين من أهل الكتاب كافرة؛ ومؤمنة أن اللَّه قال عن الكافرة: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) أي نبذوا الكتاب. بينما وصف الأخرى بأنهم (لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) فهاتان طائفتان متقابلتان.
فإن قال قائل: لماذا قدم الحديث عن الفئة الكافرة وأخّرَ الحديث عن الطائفة المؤمنة ولم يجعل الحديث عنهما متصلاً؟
فالجواب: أن الحديث عن الفئة الكافرة قدمه لصلته بما قبله من الحديث عنهم في وصفهم لربهم بأنه فقير وهم أغنياء وما تلى ذلك من مقالات السوء التي لا ينقطعون عنها.
وأخّر الحديث عن مؤمني أهل الكتاب لأنهم يتلون في الرتبة والمنزلة
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة النساء
من صــ 358 الى صـ 364
الحلقة (67)
الذين آمنوا وهاجروا وهذا ليس بغريب في القرآن، فلو نظرت إلى الآيات في سورة الحشر لوجدت الله قدم المهاجرين بقوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ .. ) ثم أتبعهم بالأنصار في قوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ثم أتبعهم (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ... )، ومثله: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِي نَ وَالْأَنْصَارِ).
أما الحديث عن النجاشي، فضعيف لضعف الحديث في ذلك، وعدم المناسبة بين سياق القرآن وسياق الحديث.
* النتيجة:
أن الآية لم تنزل على سبب صحيح بل هي تتحدث عن المؤمنين من أهل الكتاب في إيمانهم وخشوعهم لِلَّهِ وما أعد الله لهم من النعيم المقيم بعد الحديث عن الكافرين منهم ليظهر ويتبين عدل الله بين عباده وأنه لا يظلم أحداً. واللَّه أعلم.
* * * * *
سورة النساء
44 - قال الله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3)
* سبب النزول:
1 - أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة - رضي الله عنها -: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) قالت: هي اليتيمة في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها فنهوا عن نكاحهن، إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء.
قالت عائشة: ثم استفتى الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد، فأنزل الله - عز وجل -: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) قالت: فبين الله في هذه أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها بإكمال الصداق فإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء، قال: فكما يتركونها حين يرغبون عنها، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها الأوفى من الصداق ويعطوها حقها.
2 - أخرج البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله.
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب النزول عن عائشة - رضي الله عنه - وقد أورده جمهور المفسرين مع غيره من الأسباب التي ذكرت لهذه الآية، وقبل الكلام على حديث عائشة الأول سأنقل كلام الحافظ ابن حجر على حديثها الثاني وفيه: (أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها) فقال: (هكذا قال هشام عن ابن جريج فأوهم أنها نزلت في شخص معين، والمعروف عن هشام ابن عروة التعميم، وكذلك أخرجه الإسماعيلي، من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج ولفظه: (أنزلت في الرجل يكون عنده اليتيمة .. ) وكذا هو عند المصنف من طريق ابن شهاب عن عروة، وفيه شيء آخر نبه عليه الإسماعيلي، وهو قوله: (فكان لها عذق فكان يمسكها عليه) فإن هذا نزل في التي يرغب عن نكاحها، وأما التي يرغب في نكاحها فهي التي يعجبه مالها وجمالها فلا يزوجها لغيره، ويريد أن يتزوجها بدون صداق مثلها) اهـ محل الشاهد. ومراد الإسماعيلي بالتنبيه الآخر أن لفظ الحديث يخالف سياق القرآن.
وبهذا يتبين أن حديث عائشة - رضي الله عنها - الثاني قد وقع فيه وهم فلا يحتج به على السببية أما الحديث الأول لعائشة - رضي الله عنها - في حكم نكاح اليتامى فهو أحد الأقوال في سبب نزول الآية ولهذا قال الطبري: (اختلف أهل التأويل في ذلك فقال بعضهم: معنى ذلك: وإن خفتم يا معشر أولياء اليتامى ألا تقسطوا في صداقهن فتعدلوا فيه وتبلغوا بصداقهن صدقات أمثالهن، فلا تنكحوهن، ولكن انكحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلهن الله لكم وطيبهن من واحدة إلى أربع.
وقال بعضهم: بل معنى ذلك النهي عن نكاح ما فوق الأربع، حذرا على أموال اليتامى أن يتلفها أولياؤهم وذلك أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل فإذا صار معدما، مال على مال يتيمه الذي في حجره فأنفقه أو تزوج به فنهوا عن ذلك.
ومن طريق عكرمة فنزلت هذه الآية: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء).
وقال بعضهم: كانوا يشددون في اليتامى ولا يشددون في النساء ينكح أحدهم النسوة فلا يعدل بينهن فنزلت الآية: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى).
لكن هذه الأسباب المذكورة لا تقارب حديث عائشة - رضي الله عنها - من جهة الإسناد والرتبة لأنها مراسيل لعكرمة وسعيد بن جبير والحسن.
ولعل هذا هو السبب في اقتصار ابن كثير - رحمه الله - على حديث عائشة - رضي الله عنها - دون سائر المذكورات.
وقد قال أبو العباس القرطبي - رحمه الله - بعد أن ساق الأسباب السابقة: (وأقرب هذه الأقوال وأصحها: قول عائشة - إن شاء الله تعالى - وقد اتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) ليس له مفهوم، إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة اثنتين أو ثلاثا أو أربعا كمن خاف فدل ذلك على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف وأن حكمها أعم من ذلك).
فإن قال قائل: عائشة لم تسند هذا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فالجواب من ابن عاشور: (وهو أن سياق كلامها يؤذن بأنه عن توقيف، ولذلك أخرجه البخاري في باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة اعتدادا بأنها ما قالت ذلك إلا عن معاينة حال النزول، وأفهام المسلمين التي أقرها الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا سيما وقد قالت: ثم إن الناس استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه فيكون إيجاز لفظ الآية اعتدادا بما فهمه الناس مما يعلمون من أحوالهم).
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ما ذكرته عائشة - رضي الله عنها - في اليتيمة التي يرغب في مالها وجمالها ويريد أن يتزوجها وليها لكنه لا يقسط لها في صداقها ولا يعطيها حقها منه، فأمروا أن يتركوهن ويلتمسوا غيرهن من النساء اللاتي يطالبن بحقوقهن أو يطالب بها أولياؤهن لصحة سنده، وتصريحه بالنزول وموافقته للفظ الآية واتفاق جمهور المفسرين عليه. وسيأتي مزيد بحث لهذا إن شاء الله تعالى عند نزول قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن). والله أعلم.
* * * * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة النساء
من صــ 365 الى صـ 372
الحلقة (68)
45 - قال الله تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا (6)
* سبب النزول:
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) أنزلت في والي اليتيم الذي يقيم عليه ويصلح في ماله، إن كان فقيرا أكل منه بالمعروف.
* دراسة السبب:
هكذا جاء عن عائشة - رضي الله عنها - في ذكر نزول الآية بدون قصة وقد أورده بعض المفسرين عند ذكر الآية كالقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور لكنهم لم يشيروا إلى أن الحديث سبب نزولها.
وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني فقير ليس لي شيء، ولي يتيم، قال: فقال: (كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل).
وهذا الحديث ليس فيه ذكر لسبب النزول لكن إذا ضممته إلى حديث عائشة في قولها: أنزلت في والي اليتيم، وقولها: إن كان فقيرا أكل منه بالمعروف، فإنه يوافقه من وجهين:
الأول: أن الرجل في حديث عمرو بن شعيب هو ولي اليتيم، والآية أنزلت في والي اليتيم.
الثاني: أن الرجل قال إني فقير ليس لي شيء، وهذا يوافق قولها: إن كان فقيرا أكل منه بالمعروف، ولعل مما يعضد هذا النظر سياق الآية فإنه يوافق كثيرا حديث عمرو بن شعيب ففي الآية: (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا) وفي الحديث: (كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر).
ولقائل أن يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا الحديث أخذا واستنباطا من الآية فوافق لفظه لفظها.
فالجواب: أن هذا ممكن لكن يعكر عليه قول عائشة: أنزلت في والي اليتيم فإن هذا مشعر بوجود سبب، ولو لم يوجد حديث عمرو بن شعيب لكان الجزم ممكنا بأنها أرادت التفسير ولم ترد الحديث عن سبب نزول معين والله أعلم.
* النتيجة:
الحديث المذكور لا يتضمن التصريح بالسببية، لكن بضم الحديثين إلى بعضهما، وانضمامهما إلى الآية الكريمة يغلب على الظن نزول الآية بسبب سؤال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكله من مال اليتيم والعلم عند الله تعالى.
* * * * *
46 - قال الله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما (11)
* سبب النزول:
1 - أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن جابر - رضي الله عنه - قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا ولهما مال قال: فقال: (يقضي الله فى ذلك) قال: فنزلت آية الميراث فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمهما، فقال: (أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك).
ولفظ أبي داود: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقضي الله فى ذلك) قال: ونزلت سورة النساء: (يوصيكم الله في أولادكم) الآية.
2 - أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن جابر - رضي الله عنه - قال: عادني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ منه، ثم رش علي فأفقت، فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله، فنزلت: (يوصيكم الله في أولادكم).
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، فأما حديث جابر - رضي الله عنه - في قصة ابنتي سعد بن الربيع فقد ذكره جمع من المفسرين وجعلوه من أسباب نزولها كالبغوي، وابن العربي، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، وابن عاشور.
قال ابن العربي بعد أن ساق هذا الحديث عن عبد الله بن محمد بن عقيل الذي عليه يدور الإسناد: (هو مقبول لهذا الإسناد).
وقال القرطبي: (إن هذه الآية نزلت في ورثة سعد بن الربيع، وقيل: نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس، والأول أصح عند أهل النقل فاسترجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الميراث من العم) اهـ باختصار.
وقال ابن كثير بعد أن ساق الحديثين حديث الإغماء وحديث ابنتي سعد: (والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ولم يكن له بنات، وإنما كان يورث كلالة ولكن ذكرنا الحديث هاهنا تبعا للبخاري فإنه ذكره هاهنا، والحديث الثاني عن جابر - في قصة ابنتي سعد - أشبه بنزول هذه الآية والله أعلم) اهـ.
وقال ابن حجر معلقا على اختلاف الروايات: (وآية المواريث نزلت قبل ذلك بمدة - يعني (يوصيكم الله) - كما أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر ثم ساق الحديث ... وهذا ظاهر في تقدم نزولها - لأنها نزلت بعد أحد - نعم وبه احتج من قال إنها لم تنزل في قصة جابر إنما نزلت في قصة ابنتي سعد بن الربيع، وليس ذلك بلازم إذ لا مانع أن تنزل في الأمرين معا، ويحتمل أن يكون نزول أولها في قصة البنتين، وآخرها وهي قوله: (وإن كان رجل يورث كلالة) في قصة جابر، ويكون مراد جابر فنزلت: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر) أي ذكر الكلالة المتصل بهذه الآية والله أعلم) اهـ.
هكذا قال - رحمه الله - وإنما ذكرت كلامه لأبين قوله في قصة ابنتي سعد بن الربيع وأنها إن لم تكن السبب الوحيد لنزول الآية فهي أحد السببين.
وأما قوله: يحتمل أن يكون نزول أولها في قصة البنتين، وآخرها وهي قوله: (وإن كان رجل يورث كلالة) في قصة جابر ففي هذا الكلام عندي نظر ظاهر، إذ كيف يكون آخرها في قصة جابر وهي قوله: (وإن كان رجل يورث كلالة) مع أن هذه بإجماع العلماء يراد بها الإخوة لأم، وهذا ما لا يصدق على جابر، ولا يتفق مع حال أخواته لأنهن شقيقاته، فسبحان من لا يضل ولا ينسى.
أما حديث جابر - رضي الله عنه - في قصة الإغماء فالاختلاف فيه جد كبير فقد جاء أيضا في القصة نفسها أن الآية التي نزلت هي قوله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة)، وجاء أيضا أن الآية التي نزلت هي آخر آية من سورة النساء في الكلالة، وقد تقدم قريبا أن سبب نزول قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر) قصة ابنتي سعد بن الربيع وهذا الاختلاف أدى إلى الإطالة في دراسة أسانيدها، خلاصتها اجتهاد بعض الرواة في تعيين الآية. وستأتي إن شاء الله تعالى دراسة الأسباب المعنية في مواضعها أما الآية التي هنا فلا صلة لها بقصة جابر - رضي الله عنه - في قضية الإغماء والله أعلم.
* النتيجة:
أن هذه الآية نزلت بسبب شكوى زوج سعد بن الربيع - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمهما الذي أخذ مال ابنتي سعد، ولم يدع لهما شيئا، وذلك لأن الحديث يحتمل التحسين كما أنه صريح في السببية، وقد قال به جمع من العلماء مع موافقته لسياق القرآن والله أعلم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة النساء
من صــ 373 الى صـ 380
الحلقة (69)
47 - قال الله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم (12)
* سبب النزول:
أخرج ابن ماجه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: مرضت فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني هو وأبو بكر معه وهما ماشيان، وقد أغمي علي فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصب علي من وضوئه، فقلت: يا رسول الله كيف أصنع؟ كيف أقضي في مالي؟ حتى نزلت آية الميراث في آخر النساء: (وإن كان رجل يورث كلالة) (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة).
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية، ولم يذكر هذا الحديث جمهور المفسرين عند تفسيرهم لها، وهذا هو الصواب لأمور:
1 - أن ابن عيينة اضطرب في تعيين الآية كما تقدم بيان ذلك عند دراسة السبب السادس والأربعين.
2 - قوله حتى نزلت آية الميراث في آخر النساء (وإن كان رجل يورث كلالة) مع أن هذه الآية ليست في آخر النساء، بل في أولها.
3 - أن قوله: (وإن كان رجل يورث كلالة) لا يناسب قصة جابر في هذا الحديث لأن الآية تتحدث عن ميراث الأخوة لأم، بينما كان جابر - رضي الله عنه - شقيقا لأخواته وليس أخا من الأم كما هو معلوم، وفي ظني أن الذي أوجد الاشتباه تكرر لفظ الكلالة في الآيتين، وإلا فالفرق ظاهر بين الآيتين كظهوره بين الحكمين والله أعلم.
* النتيجة:
أن هذا الحديث ليس سبب نزولها لاضطرابه في متنه وإسناده ومخالفته لسياق القرآن، وإعراض المفسرين عنه. والله أعلم.
* * * * *
48 - قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19)
* سبب النزول:
1 - أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن). قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك.
2 - أخرج أبو داود عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها فأحكم الله عن ذلك ونهى عن ذلك.
3 - أخرج النسائي عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته من بعده، فكان ذلك لهم في الجاهلية، فأنزل الله - عز وجل -: (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها).
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذه الأحاديث أو بعضها عند بيانهم لسبب نزول هذه الآية منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي والشنقيطي، وابن عاشور.
قال الطبري: (إنهن في الجاهلية كانت إحداهن إذا مات زوجها كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره ومنها بنفسها، إن شاء نكحها، وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولم يزوجها حتى تموت فحرم الله تعالى ذلك على عباده، وحظر عليهم نكاح حلائل آبائهم ونهاهم عن عضلهن عن النكاح) اهـ.
وقال السعدي: (كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته، رأى قريبه، كأخيه وابن عمه ونحوهما، أنه أحق بزوجته من كل أحد، وحماها عن غيره أحبت أو كرهت، فإن أحبها، تزوجها على صداق يحبه دونها، وإن لم يرضها عضلها فلا يزوجها إلا من يختاره هو، وربما امتنع من تزويجها، حتى تبذل له شيئا من ميراث قريبه، أو من صداقها). اهـ.
وقال الشنقيطي: (وقد كان من مختلقات العرب في الجاهلية إرث الأقارب أزواج أقاربهم كان الرجل منهم إذا مات وألقى ابنه وأخوه مثلا ثوبا على زوجته ورثها وصار أحق بها من نفسها إن شاء نكحها بلا مهر، وإن شاء أنكحها غيره وأخذ مهرها، وإن شاء عضلها حتى تفتدي منه إلى أن نهاهم الله عن ذلك بقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها). اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية ما ذكره ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الرجل إذا مات فيهم كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، أو زوجها من يشاء، أو لم يزوجها عضلا منهم وظلما فأنزل الله الآية إحقاقا للحق وإزهاقا للباطل وتبيانا لحقوق الطرفين، وإنما اخترت هذا السبب دون سواه لصحة إسناده، وصراحة ألفاظه، واتفاقه مع سياق الآية وأقوال المفسرين.
وأما السببان الآخران المذكوران عن ابن عباس، وأبي أمامة - رضي الله عنه - فقد تقدم الكلام في بيان ضعفهما وعدم نهوضهما للاحتجاج بهما.
*تنبيه:
تقدم في كلام بعض المفسرين أنهم كانوا في الجاهلية يفعلون هذا، ومما لا يخفى أن هذا الذي وقع لم يكن في الجاهلية، إنما كان في الإسلام، ويؤيده النداء بـ (يا أيها الذين آمنوا) فلعل مراد العلماء أن أصل الفعل ابتداء كان في الجاهلية، وامتد حتى مجيء الإسلام فكانوا يفعلونه فيه والله أعلم.
* * * * *
49 - قال الله تعالى: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما (24)
* سبب النزول:
أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي، والنسائي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، بعث جيشا إلى أوطاس. فلقوا عدوا. فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا. فكأن ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله - عز وجل - في ذلك: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن.
وفي رواية للنسائي عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: أصابوا سبيا لهن أزواج فوطئوا بعضهن، فكأنهم أشفقوا من ذلك فأنزل الله - عز وجل -: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم).
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد أورد جمهور المفسرين حديث أبي سعيد الأول منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي.
قال القرطبي بعد أن ذكر حديث أبي سعيد: (وهذا نص صحيح صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وطء المسبيات ذوات الأزواج فأنزل الله تعالى في جوابهم (إلا ما ملكت أيمانكم) وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى). اهـ.
وقال ابن كثير في معنى الآية: (أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات وهن المزوجات إلا ما ملكتموهن بالسبي، فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن فإن الآية نزلت في ذلك). اهـ ثم ساق الحديث.
وقال الشنقيطي: (وقال بعض العلماء: المراد بالمحصنات، المتزوجات، وعليه فمعنى الآية وحرمت عليكم المتزوجات؛ لأن ذات الزوج لا تحل لغيره إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من الكفار، فإن السبي يرفع حكم الزوجية الأولى في الكفر وهذا القول هو الصحيح، وهو الذي يدل القرآن لصحته إلى أن قال .. ويؤيده سبب النزول). اهـ ثم ساق الحديث.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة هو ما جاء في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - حين ظهروا على عدوهم فتحرجوا من غشيان نسائهم من أجل أزواجهم لأن الحديث في ذلك صريح صحيح يتفق مع لفظ الآية وإجماع المفسرين عليه والله أعلم.
* * * * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة النساء
من صــ 381 الى صـ 386
الحلقة (70)
50 - قال الله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما (32)
* سبب النزول:
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو ولنا نصف الميراث فأنزل الله: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض).
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسير الآية الكريمة منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
وقد تبين بدراسة السند ضعف الحديث إلى أم سلمة - رضي الله عنها - وأن الصواب فيه أنه من مراسيل مجاهد ولأجل شهرته ذكره المفسرون قال الطبري: (وذكر أن ذلك نزل في نساء تمنين منازل الرجال وأن يكون لهم ما لهم فنهى الله عباده عن الأماني الباطلة، وأمرهم أن يسألوه من فضله إذ كانت الأماني تورث أهلها الحسد والبغي بغير الحق). اهـ.
وقال ابن العربي: (يروى أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو ... ) اهـ.
وصرح في موضع آخر بهذا حيث قال عن روايات الحديث: (وهي أحاديث حسان لم تبلغ درجة الصحة) اهـ.
وقال ابن عطية: (سبب الآية أن النساء قلن: ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشركناهم في الغزو، وروي أن أم سلمة قالت ذلك أو نحوه) اهـ.
وقال ابن كثير: (الآية نهت عن تمني عين نعمة الآخر يقول: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) أي في الأمور الدنيوية وكذا الدينية لحديث أم سلمة وابن عباس وهكذا قال عطاء بن أبي رباح نزلت في النهي عن تمني ما لفلان وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون). اهـ بتصرف يسير.
والظاهر والله أعلم أن الحديث وإن لم يصح سنده إلى أم سلمة - رضي الله عنها - فإنه مؤيد بوجهين:
أ - سياق الآية ومطابقته لسياق الحديث من وجوه:
1 - إن الآية نهت أن يتمنى المفضول ما حازه الفاضل، وهذا يطابق قولها في الحديث يغزو الرجال ولا نغزو ولنا نصف الميراث، فإنها أرادت بهذا أن تغزو النساء كالرجال وأن يكون ميراثها مساويا لميراث الرجال، وهذا هو التمني.
2 - قوله في الآية: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) يوافق في الحديث يغزو الرجال ولا نغزو ولنا نصف الميراث، فإنها تتحدث عن رجال ونساء وهو ما بينته الآية.
3 - قوله: (واسألوا الله من فضله) يوافق في الحديث رغبتها في الغزو وفضله أخروي ويوافق رغبتها في النصف الثاني من الميراث وهو فضل دنيوي فأرشدها الله وغيرها إلى - سؤاله من فضله فإن خزائن السماوات والأرض بيديه.
وختم الآية بالعلم مناسب كل المناسبة إذ بعلمه ميز بين الجنسين وقدر لكل واحد منهما ما يستحقه وفرض عليه من التكاليف ما يطيقه فسبحان العليم الخبير.
ب - أن الحديث مؤيد بقول جماهير السلف يتابعهم ويوافقهم عليه جمهور المفسرين ولا ريب أن مثل هذا يوجب للمرء جزما أن للحديث أصلا.
* النتيجة:
أن سبب النزول المذكور لم يصح سنده إلى أم سلمة - رضي الله عنها - وإنما هو من مراسيل مجاهد - رحمه الله - لكن الحديث يعتضد بسياق الآية القرآني كما تقدم وبقول المفسرين به وتقديمهم إياه والله أعلم.
* * * * *
51 - قال الله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا (33)
* سبب النزول:
أخرج أبو داود عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع وكانت يتيمة في حجر أبي بكر فقرأت: (والذين عاقدت أيمانكم) فقالت: لا تقرأ (والذين عاقدت أيمانكم) إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى الإسلام، فحلف أبو بكر ألا يورثه، فلما أسلم أمر الله تعالى نبيه - عليه الصلاة والسلام - أن يؤتيه نصيبه، زاد عبد العزيز: فما أسلم حتى حمل على الإسلام بالسيف.
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة ولم أجد فيما أعلم أحدا من المفسرين ذكر هذا الحديث إلا ابن كثير - رحمه الله - مع اختلاف يسير في لفظه حيث جاء فيه فقرأت عليها (والذين عاقدت أيمانكم) فقالت: لا ولكن (والذين عقدت أيمانكم .. ) ثم ذكر الحديث إلى أن قال: وهذا قول غريب.
قلت: ولعل غرابته سبب إعراض المفسرين عنه، فإن المعروف في تفسير قوله تعالى: (والذين عقدت أيمانكم) أنها فيمن جرى بينهم تحالف وتعاقد على المعونة والنصرة، وقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (ولكل جعلنا موالي) أي ورثة ويعني بقوله: (مما ترك الوالدان والأقربون) من تركة والديه وأقربيه من الميراث فتأويل الكلام، ولكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والده وأقربوه من ميراثهم له، وقوله تعالى: (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم): أي والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم فآتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا) اهـ بتصرف.
فإذا تقرر أن قوله تعالى: (والذين عقدت أيمانكم) فيمن جرى بينهم تحالف وتعاقد فكيف يقال إن سبب نزولها أبو بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى الإسلام فحلف أبو بكر أن لا يورثه مع أن الصلة بينهما صلة نسب وقرابة وليست صلة حلف ومعاقدة.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور في سبب نزول الآية الكريمة لم يصح سنده، ومتنه أيضا غريب لمناقضته ومخالفته لظاهر الآية فلا يكون سببا لنزولها لا سيما وقد أعرض عنه المفسرون والله أعلم.
* * * * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة النساء
من صــ 386 الى صـ 394
الحلقة (71)
52 - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج أبو داود والترمذي، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر، فأمّهُم علي في المغرب فقرأ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) فخلط فيها فنزلت: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ).
2 - أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنهما، فأنزل الله على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)، إلى آخر الآية، فقال الناس: ما حرم علينا إنما قال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) وكانوا يشربون الخمر.
حتى إذا كان يوم من الأيام، صلى رجل من المهاجرين، أمَّ أصحابه في المغرب، خَلَط في قراءته فأنزل اللَّه فيها آية أغلظ منها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق.
ثم نزلت آية أغلظ من ذلك: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) فقالوا: انتهينا ربنا، فقال الناس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله، وماتوا على فرشهم، كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان فأنزل الله: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا) إلى آخر الآية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم).
3 - أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء. فنزلت هذه الآية التي في البقرة: (يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير) قال: فدعي عمر، فقرئت عليه. فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء فنزلت الآية التي في النساء: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء. فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ (فهل أنتم منتهون) قال: فقال عمر: انتهينا، انتهينا.
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة حيث ورد فيها ثلاثة أسباب الأول لعلي والثاني لأبي هريرة والثالث لعمر رضي الله عنهم جميعا.
فأما حديث علي - رضي الله عنه - في شأن التخليط في القراءة فقد ذكره جمهور المفسرين منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري بعد أن ساق حديث علي: (وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، تأويل من قال: ذلك نهي من الله المؤمنين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى من الشراب قبل تحريم الخمر للأخبار المتظاهرة عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك كذلك نهي من الله وأن هذه الآية نزلت فيمن ذكرت أنها نزلت فيه) اهـ.
وقال ابن العربي بعد أن ساق الحديث: (وهذا حديث صحيح من رواية العدل عن العدل) اهـ.
وقال ابن عطية: (سبب النهي عن قرب الصلاة في حال سكر أن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شربت الخمر عند أحدهم قبل التحريم .. فذكر الحديث إلى أن قال: فنزلت الآية) اهـ.
أما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فقد تقدم الكلام على إسناده وما فيه من الضعف الشديد.
وأما حديث عمر - رضي الله عنه - فقد تبين من دراسته أنه حديث صحيح، وقبل الحديث عن الجمع بين هذه الأحاديث، لا بد من البيان لحديث علي - رضي الله عنه - وأنه قد وقع في سنده ومتنه اضطراب يوجب القدح فيه، لكن لعل مما يعضده ويقويه ما يلي:
1 - موافقة لفظه للفظ الآية القرآني فإنهم صلوا وهم سكارى، وخلطوا في القراءة وهذا عين ما نهت عنه الآية.
2 - أن جمهور المفسرين ذكروه سببا لنزول الآية مما يدل على اعتبارهم له وصحته عندهم وكلام ابن العربي المتقدم يدل على هذا.
3 - أن حديث أبي هريرة على ما فيه من الضعف، يشهد له، فقد جاء فيه (حتى إذا كان يوم من الأيام، صلى رجل من المهاجرين، أم أصحابه في المغرب، خلط في قراءته فأنزل الله فيها آية أغلظ منها: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى).
أما الجمع بين الأحاديث فيمكن القول إن حديث علي وأبي هريرة متطابقان في لفظيهما، وحديث عمر لا ينافيهما لأنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء، فربما كان دعاؤه أحد أسباب نزول الآية.
* النتيجة:
أن حديث علي - رضي الله عنه - المذكور في سبب نزول الآية لم يسلم من النقد سندا ومتنا ولعله يعتضد بما تقدم ويكون سببا لنزول الآية الكريمة وذلك لموافقته لسياق القرآن واحتجاج المفسرين به وتصريحه بالنزول. والله أعلم.
* * * * *
53 - قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا (43)
* سبب النزول:
أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته.
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية حيث ذكر بعض المفسرين هذه القصة عند تفسيرهم لهذه الآية كالطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير.
قال ابن العربي: (ولقد عجبت من البخاري بوب في كتاب التفسير في سورة النساء على الآية التي ذكر فيها التيمم، وأدخل حديث عائشة فقال: (وإن كنتم مرضى أو على سفر) وبوب في سورة المائدة فقال: باب (فلم تجدوا ماء) وأدخل حديث عائشة بعينه وإنما أراد أن يدل على أن الآيتين تحتمل كل واحدة منهما قصة عائشة) اهـ.
وقال ابن كثير: (ذكر سبب نزول مشروعية التيمم وإنما ذكرنا ذلك هاهنا لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير في محاصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني النضير، وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل لا سيما صدرها فناسب أن يذكر السبب هنا وبالله الثقة) اهـ.
* النتيجة:
وسيأتي إن شاء الله تعالى بحث موسع لهذه المسألة المعضلة عند آية سورة المائدة وبيان النتيجة هناك والله أعلم.
* * * * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة النساء
من صــ 395 الى صـ 400
الحلقة (72)
54 - قال الله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52)
* سبب النزول:
أخرج النسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة، قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال: نعم، قالوا: ألا ترى إلى هذا المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا؟ ونحن - يعني: أهل الحجيج وأهل السدانة - قال: أنتم خير منه فنزلت: (إن شانئك هو الأبتر) ونزلت: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) إلى قوله: (فلن تجد له نصيرا).
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور.
قال الطبري: (إن الله وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما، وأنهم قالوا إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به، وإن دين أهل التكذيب لله ولرسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ولرسوله، وذكر أن ذلك من صفة كعب بن الأشرف وأنه قائل ذلك) اهـ.
وقال ابن كثير: قوله: (ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) أي يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن الصحيح في السبب المذكور أنه مرسل لكنه يعتضد بأمرين:الأول: مطابقة السبب المذكور للفظ الآية فإن القائل في الآية من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، والرجل المذكور في الحديث كعب بن الأشرف اليهودي.
وقوله: (ويقولون للذين كفروا) هو قوله لكفار قريش أنتم خير من محمد.
وقوله تعالى: (أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا) هم اليهود كما أخبر الله عنهم بقوله: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل).
الثاني: أن هذا السبب قد قال به جمهور المفسرين واعتمدوه سببا لنزول الآية ولا ريب أن اجتماع المفسرين على قول كهذا مع ما يحتف به من قرائن يوجب غلبة الظن أن للحديث أصلا، أما نزول آية الكوثر فستأتي دراستها إن شاء الله تعالى في سورة الكوثر.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور وإن كان مرسلا فإن قرائن السببية تحيط به وذلك لموافقته للفظ الآية، وتصريحه بالنزول، واحتجاج المفسرين به على النزول والله أعلم.
* * * * *
55 - قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)
* سبب النزول:
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: نزلت: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي، إذ بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السرية.
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد أورد المفسرون هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها منهم الطبري والبغوي وابن العربي والقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور وقد ورد بسط هذه القصة في موضع آخر عن علي - رضي الله عنه -فقد قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية فاستعمل عليها رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمركم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون: فررنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف).
قال أبو عمر ابن عبد البر: (وكان في عبد الله بن حذافة دعابة معروفة ومن دعابته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره على سرية فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا فلما أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها فأبوا فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطاعتي وقال من أطاع أميري فقد أطاعني، فقالوا: ما آمنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار، فصوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلهم وقال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) وهو حديث صحيح الإسناد مشهور) اهـ.
وهذا الكلام من ابن عبد البر يدل على أنه يرى أن أمير السرية المذكور في حديث علي - رضي الله عنه - هو عبد الله بن حذافة المذكور في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - لأن سياق الحديث الذي ذكره يوافق حديث علي - رضي الله عنه - تماما.
وقد تبع ابن القيم ابن عبد البر على هذا فقال بعد سياقه لحديثي ابن عباس وعلي - رضي الله عنهم -: (وهذا هو عبد الله بن حذافة السهمي).
ففسر الأمير المبهم في حديث علي، بالرجل المذكور في حديث ابن عباس وهو عبد الله بن حذافة.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وصراحة لفظه، واحتجاج المفسرين به وموافقته للفظ الآية. والله أعلم.
* * * * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة النساء
من صــ 401 الى صـ 406
الحلقة (73)
56 - قال الله ثعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)
* سبب النزول:
أخرج الإمام أحمد والبخاري، ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث: أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في شراج الحرة، كانا يسقيان بها كلاهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير: (اسق ثم أرسل إلى جارك) فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال للزبير: (اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر). فاستوعى النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ للزبير حقه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استوعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه في صريح الحكم.
قال عروة: قال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ذلك (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
وفي رواية للبخاري: فقال الزبير: والله إن هذه الآية أنزلت في ذلك: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم).
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد اختار هذا الحديث سببا لنزول الآية بعض المفسرين كالبغوي والقرطبي وابن كثير.
قال القرطبي بعد أن ساق الأسباب المذكورة لنزول الآية: (وإذا كان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من الحديث ففقهها أنه - عليه الصلاة والسلام - سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال: (اسق يا زبير)). اهـ. وهذا يدل على اختياره لهذا السبب.
وقال أبو العباس القرطبي: (قوله: (إن رجلا من الأنصار) قيل: إن هذا الرجل كان من الأنصار نسبا، ولم يكن منهم نصرة ودينا، بل كان منافقا لما صدر عنه من تهمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجور في الأحكام لأجل قرابته ولأنه لم يرض بحكمه ولأن الله تعالى قد أنزل فيه (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) هذا هو الظاهر من حاله ويحتمل أنه لم يكن منافقا، ولكن أصدر ذلك منه بادرة نفس وزلة شيطان) اهـ.
فقوله: ولأن الله تعالى قد أنزل فيه (فلا وربك لا يؤمنون) يدل على أنه يرى القصة سببا لنزول الآية.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الآية نزلت فيمن ذكرهم الله بقوله: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت .. ).
قال الطبري: (وهذا القول أعني قول من قال: عنى به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) أولى بالصواب، لأن قوله: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) في سياق قصة الذين أسدى الله الخبر عنهم بقوله: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض ما لم تأت دلالة على انقطاعه أولى) اهـ.
وقال ابن العربي مؤيدا: (اختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي ثم تتناول بعمومها قصة الزبير وهو الصحيح) اهـ.
وقال ابن عاشور: (والظاهر عندي أن الحادثتين وقعتا في زمن متقارب ونزلت الآية في شأن حادثة بشر المنافق فظنها الزبير نزلت في حادثته مع الأنصاري) اهـ.
فهذا ما احتج به الفريقان، فالأولون احتجوا بصحة إسناد القصة والتنصيص على أنها سبب النزول من قبل الزبير وغيره وهو صاحب القصة.
والآخرون احتجوا بسياق الآيات القرآني وأنها نزلت فيمن يريد التحاكم إلى الطاغوت من المنافقين.
والظاهر والله أعلم أن القول الثاني أسعد بالصواب لوجوه:
الأول: أن سياق الآيات متصل بعضه ببعض لم يفصل بينها فاصل غريب ففي أولها قول الله: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت .. ) وفي آخرها قوله سبحانه:(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك .. ) فالآيات في أولها وآخرها تتحدث عن التحاكم إلى الله أو الطاغوت ومن المعلوم أن وحدة اللفظ دليل وحدة المعنى.
الثاني: أن الزبير - رضي الله عنه - كان لا يجزم بأن الآية نزلت في قصته فقد قال ابن حجر - رحمه الله -: (والراجح رواية الأكثر وأن الزبير كان لا يجزم بذلك).
ولا ريب أن تردد صاحب القصة في الجزم بنزولها يوجب لغيره التردد والريب.
الثالث: قال ابن حجر: (روى إسحاق بن راهويه في تفسيره بإسناد صحيح عن الشعبي، قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فدعا اليهودي المنافق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم لأنه علم أنهم يأخذونها فأنزل الله هذه الآيات إلى قوله: (ويسلموا تسليما) اهـ.
وهذا اختيار مجاهد أيضا كما رواه ابن أبي حاتم عنه.
ولا يخفى أن الشعبي ومجاهدا من كبار التابعين وقد صحبا صحابيين كبيرين فالأول قد صحب ابن مسعود في الكوفة والثاني قد صحب ابن عباس في مكة ولا شك أن هذه القرينة توجب لقولهما أصلا، كيف لا وقد عرفت منزلة هذين الصحابيين في تفسير القرآن، وسموهما فيه.
فإن قيل: فلماذا حسب الزبير - رضي الله عنه - أن الآية نزلت فيه؟
فالجواب ما ذكره ابن عاشور في قوله: (الظاهر عندي أن الحادثتين وقعتا في زمن متقارب ونزلت الآية في شأن حادثة المنافق فظنها الزبير نزلت في حادثته مع الأنصاري) اهـ.
* النتيجة:
أن الآية لم تنزل بسبب قصة الزبير مع الأنصاري لأن الزبير لم يكن يجزم بذلك وإذا كان صاحب القصة مترددا فغيره أولى بالتردد، ولأن السياق القرآني يدور حول تحاكم المنافقين إلى الطاغوت، واعتبار السياق أولى لبعده عن الاحتمال. والله أعلم.
57 - قال الله تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77)
* سبب النزول:
أخرج النسائي عن ابن عباس - ر. يمبا - أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال: (إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم) فلما حوله الله إلى المدينة أمر بالقتال فكفوا، فأنزل الله - عز وجل -: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس).
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وعلى هذا جمهور المفسرين كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري: (ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة وكانوا يسألون الله أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شق عليهم ذلك وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه) اهـ.
وقال ابن العربي: (كان المسلمون سراعا إلى القتال قبل أن يفرض القتال فلما أمر الله سبحانه بالقتال كاع عنه قوم ففيهم نزلت: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) اهـ.
وقال ابن كثير: (كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النصب وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليتشفوا من أعدائهم ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة فلم يؤمروا بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه جزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا وقالوا: (ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب) أي لولا أخرت فرضه إلى مدة أخرى فإن فيه سفك الدماء ويتم الأولاد وتأيم النساء) اهـ بتصرف.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة هو حديث ابن عباس المتقدم لصحة سنده وصراحته في السببية، وكذا موافقته للفظ الآية الكريمة واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
* تنبيه:
استشكل بعض المفسرين وقوع هذا الفعل من كبار الصحابة وذهبوا لأجل هذا إلى تأويلات بعيدة.
وعندي أنه لا إشكال إذ لا دليل في الآية يدل على أن جميع الصحابة وقع منهم هذا بل الآية نص على أن الذي قال هذا فريق منهم بقوله: (إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ... )
ثم إن عبد الرحمن بن عوف وأصحابه من كبار الصحابة كانوا من أوائل المجاهدين في غزوة بدر وغيرها كما هو بين معلوم في قصة قتل أبي جهل والله أعلم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة النساء
من صــ 407 الى صـ 412
الحلقة (74)
58 - قال الله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا (83)
* سبب النزول:
أخرج مسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لما اعتزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه قال: دخلت المسجد. فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه. وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب. فقال عمر فقلت: لأعلمن ذلك اليوم. قال: فدخلت على عائشة. فقلت: يا بنت أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: ما لي وما لك يا ابن الخطاب؟ عليك بعيبتك. قال: فدخلت على حفصة بنت عمر. وقلت لها: يا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ والله لقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحبك ولولا أنا لطلقك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكت أشد البكاء. فقلت لها: أين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدا على أسكفة المشربة مدل رجليه على نقير من خشب. وهو جذع يرقى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فنظر رباح إلى الغرفة. ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم قلت: يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فنظر رباح إلى الغرفة. ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإني أظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظن أني جئت من أجل حفصة. والله لئن أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقها لأضربن عنقها. ورفعت صوتي فأومأ إلي أن ارقه. فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع على حصير. فجلست. فأدنى عليه إزاره. وليس عليه غيره. وإذا الحصير قد أثر في جنبه. فنظرت ببصري في خزانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع. ومثلها قرظا في ناحية الغرفة. وإذا أفيق معلق.
قال: فابتدرت عيناي. قال: (ما يبكيك يا ابن الخطاب؟) قلت: يا نبي الله وما لي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثر في جنبك. وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى. وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار. وأنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفوته. وهذه خزانتك فقال: (يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟) قلت: بلى. قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب. فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول. ونزلت هذه الآية. آية التخيير: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)، وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقلت: يا رسول الله أطلقتهن؟ قال: (لا) قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى. يقولون: طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه. أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: (نعم إن شئت) فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه. وحتى كشر فضحك وكان من أحسن الناس ثغرا. ثم نزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلت. فنزلت أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده. فقلت: يا رسول الله إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين. قال: (إن الشهر يكون تسعا وعشرين) فقمت على باب المسجد. فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه. ونزلت هذه الآية: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر، وأنزل الله - عز وجل - آية التخيير.
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة واختار هذا من المفسرين ابن كثير - رحمه الله - فقد قال بعد إنكار المبادرة إلى الأمور قبل تحققها: (ولنذكر هاهنا حديث عمر بن الخطاب حين بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق نساءه فذكر الحديث مختصرا وفيه نزول هذه الآية الكريمة) اهـ.
وأما ابن عطية فقد جعل الأمر محتملا فقال عن السبب: (فإما أن يكون ذلك في أمر السرايا وإما أن يكون ذلك في سائر الأمور الواقعة، كالذي قاله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه جاء وقوم في المسجد يقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه .. ) اهـ.
وذهب بعض العلماء إلى أن المقصود بهذه الآية هم المنافقون الذين
تحدث الله عنهم بقوله: (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (81).
قال الطبري: (وإذا جاء هذه الطائفة المبيتة غير الذي يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر من الأمن، فالهاء والميم في قوله: (وإذا جاءهم) من ذكر الطائفة المبيتة.
يقول جل ثناؤه: (وإذا جاءهم) خبر عن سرية للمسلمين غازية بأنهم قد أمنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم، أو الخوف يقول: أو تخوفهم من عدوهم بإصابة عدوهم منهم أذاعوا به يقول أفشوه وبثوه في الناس قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبل أمراء سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) اهـ.
وقال البغوي: (قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث السرايا فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم فيفشون ويحدثون به قبل أن يحدث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضعفون به قلوب المؤمنين فأنزل الله: (وإذا جآءهم) يعني المنافقين) اهـ.
وقال ابن عطية: (قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن) قال جمهور المفسرين: الآية في المنافقين حسبما تقدم من ذكرهم، والآية نازلة في سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعوثه، والمعنى: أن المنافقين كانوا يشرهون إلى سماع ما يسوء النبي - صلى الله عليه وسلم - في سراياه، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين أو فتح عليهم حقروها وصغروا شأنها وأذاعوا بذلك التحقير والتصغير، وإذا طرأت لهم شبهة خوف للمسلمين أو مصيبة عظموها وأذاعوا بذلك التعظيم) اهـ.
وقال ابن عاشور: (وإذا جاءهم أمر من الأمن) عطف على جملة (ويقولون طاعة) فضمير الجمع راجع إلى الضمائر قبله العائدة إلى المنافقين وهو الملائم للسياق .. إلى أن قال: والكلام مسوق مساق التوبيخ للمنافقين، واللوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة من المسلمين الأغرار) اهـ.
فإن قال قائل: إذا كان الله يتحدث عن المنافقين كما تقدم فكيف وصف أولي الأمر بأنهم منهم؟
فالجواب: قد قال الزجاج: (وكان ضعفة المسلمين يشيعون ذلك معهم من غير علم بالضرر في ذلك، فقال الله - عز وجل -: ولو ردوا ذلك إلى أن يأخذوه من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن قبل أولي الأمر منهم، أي من قبل ذوي العلم والرأي منهم لعلمه هؤلاء الذين أذاعوا به من ضعفة المسلمين من النبي - صلى الله عليه وسلم - وذوي العلم، وكان يعلمون مع ذلك هل ينبغي أن يذل أو لا يذل) اهـ.
وقال ابن عاشور: (وصف أولي الأمر بأنهم منهم جار على ظاهر الأمر وإرخاء العنان، أي أولو الأمر الذين يجعلون أنفسهم بعضهم، وإن كان المتحدث عنهم المؤمنين فالتبعيض ظاهر) اهـ.
قلت: قوله فالتبعيض ظاهر يريد به (ولو ردوه) وما بعدها أنها في المؤمنين الضعفاء وما قبلها في المنافقين، ولم يرد أن الآية بكمالها في المؤمنين في قوله: وإن كان المتحدث عنهم المؤمنين لأن التبعيض ينتفي حينئذ.
* النتيجة:
أن الآية الكريمة لم تنزل بسبب قصة عمر - رضي الله عنه - مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين آلى من نسائه لأن زيادة السبب لم تثبت من حيث السند فقد تبين أنها شاذة، وكذلك سياق الآيات لا يؤيد نزولها في قصة الإيلاء وإنما السياق ظاهر في توبيخ المنافقين ولوم من يتابعهم من المؤمنين، وذلك لأن السياق نص في أن الذي يأتي أمر من الأمن أو الخوف. وأين هذان من قضية الإيلاء؟ فليس فيها أمن أو خوف. وعلى هذا جرى جمهور المفسرين والله أعلم.
* * * * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg
-
رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/26.jpg
المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سورة النساء
من صــ 413 الى صـ 417
الحلقة (75)
59 - قال الله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88)
* سبب النزول:
1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد، رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فرقتين: فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) وقال: إنها طيبة، تنفي الذنوب، كما تنفي النار خبث الفضة).
2 - أخرج الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف: أن قوما من العرب أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة فأسلموا، وأصابهم وباء المدينة: حماها فأركسوا، فخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من أصحابه - يعني أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة،فاجتوين ا المدينة. فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، هم مسلمون فأنزل الله - عز وجل -: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا).
* دراسة السبب:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وقد أورد جمهور المفسرين هذين السببين وأوردوا مع ذلك غيرهما من الأسباب التي سيقت لنزول الآية الكريمة ومن هذه الأسباب ما قال مجاهد - رحمه الله -: (نزلت في قوم خرجوا من أهل مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون فارتدوا واستأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجوع إلى مكة ليأتوا ببضائع، فاختلف فيهم المؤمنون، ففرقة تقول إنهم منافقون وفرقة تقول هم مؤمنون فبين الله - عز وجل - نفاقهم) اهـ.
وقال الضحاك: (هم ناس تخلفوا عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا: تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يهاجروا فسماهم الله منافقين، وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا) اهـ.
هذا خلاصة ما ذكر في الآية الكريمة من أسباب، ولا بد فيها من تأمل ونظر والبداية بحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فإن الحديث نص في أن القصة كانت في غزوة أحد وأنها كانت بسبب رجوع رأس المنافقين بثلث الجيش، وإذا نظرت إلى مطابقة هذه القصة للآية التي معنا والتي قيل إنها نزلت بسببها وجدت أنه لا تعارض بينهما، لكن الآية التي معنا متصلة بما بعدها اتصالا وثيقا، فالله - عز وجل - يقول فيها: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (89).
وقد نص جماعة من العلماء على أن الضمير في قوله: (ودوا) يعود على المنافقين، فقد قال الطبري: (ودوا لو تكفرون كما كفروا) أي: تمنى هؤلاء المنافقون الذين أنتم أيها المؤمنون فيهم فئتان أن تكفروا) اهـ.
وقال القرطبي: (أي تمنوا أن تكونوا كهم في الكفر والنفاق شرع سواء) اهـ.
وقال ابن عاشور: (الأظهر أن ضمير (ودوا) عائد إلى المنافقين فى قوله: (فما لكم في المنافقين فئتين) اهـ.
وإذا كان الأمر كذلك فان الله اشترط لولايتهم أن يهاجروا في سبيل الله في قوله: (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله) وأمر بأخذهم وقتلهم حيث وجدوا إن هم تولوا عن الهجرة في قوله: (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم) وهنا ينشأ إشكالات:
الأول: اشتراط الهجرة فإن سبب نزول الآية ليس فيه ذكر الهجرة مطلقا وإنما فيه التخلف عن الجهاد، ولهذا أول ابن العربي الهجرة في سبيل الله هنا بهجر الأهل والولد والمال، والجهاد في سبيل الله.
الثاني: سبب النزول يتحدث عن منافقي المدينة، والآية تتناول الهجرة في سبيل الله وعلى هذا فإلى أي مكان يهاجر منافقو المدينة إذا كانوا هم مقيمين في بلاد الهجرة، ولهذا قال الطبري: (فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرض هجرة لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه) اهـ.
الثالث: أن الله - عز وجل - أمر بأخذهم وقتلهم حيث وجدوا إذا تولوا عن الهجرة في سبيله والآية تتحدث عن منافقين كما سلف، ومعلوم لكل من شم رائحة العلم فضلا عمن ذاقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقتل المنافقين أو يأذن في قتلهم مع بشاعة ما صنعوا خشية أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.
فبأي وجه من الوجوه وافق سبب النزول سياق الآيات وطابق؟
وأما حديث عبد الرحمن بن عوف في القوم الذي اجتووا المدينة فخرجوا منها فاختلف الصحابة فيهم فنزلت الآية فالحديث ضعيف كما تقدم فلا يحتج به على السببية.
ثم إن هؤلاء قد هاجروا إلى المدينة، فلا يبقى معنى لقوله: (حتى يهاجروا في سبيل الله .. ).
وعلى هذا فالأمر دائر بين ما ذكره مجاهد والضحاك لموافقته السياق القرآني للآيات وفي الآية الحقائق التالية:
1 - أن هؤلاء منافقون يظهرون الإسلام والإيمان ويبطنون الكفر لقوله: (فما لكم في المنافقين فئتين) وقوله: (ودوا لو تكفرون كما كفروا).
2 - أن هؤلاء مطالبون بالهجرة في سبيل الله لإثبات إيمانهم، فليسوا من منافقي المدينة في شيء لأنهم غير مطالبين بالهجرة، وسواء كانت هجرتهم من مكة أو غيرها فالآية لم تعين شيئا.
3 - أن هؤلاء المنافقين إن لم يهاجروا في سبيل الله إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاز أخذهم وقتلهم حيث وجدوا.
وما ذكره مجاهد والضحاك يوافق الحقائق السابقة وإن كنت إلى قول مجاهد أميل لأن الله قال: (فما لكم في المنافقين فئتين) والتعريف بالمنافقين للعهد الذهني أي المعهودون في أذهانكم، وهذا يوافق قول مجاهد: (حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون فارتدوا) فالصحابة يعرفونهم، بخلاف من ذكر الضحاك أنهم مقيمون في مكة.
فإن قال قائل: عجبا من قولك، كيف تأتي إلى حديث يرويه الشيخان نص على أن سبب نزول الآية كذا، ثم تقول ليس هو سبب نزولها؟
فالجواب: أن القرآن يحكم ولا يحكم عليه، ولست أطعن في حديث الشيخين ولكني أضعف دلالته على النزول، لأن الله قال: (ومن أصدق من الله حديثا) وقال: (ومن أصدق من الله حديثا قيلا) وإذا كان الله قد بين صفة من نزلت فيه بيانا يخالف ما ذكره زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فحتما ولا بد أن يكون قول ربنا هو المقدم على قول كل أحد.
وهذا القول عليه أكثر المفسرين كالطبري وابن عطية والقرطبي والسعدي وابن عاشور.
أما غيرهم فقد ساق الأسباب وسكت عن الترجيح.
أما ابن العربى فمال إلى حديث زيد بن ثابت، فقال بعد سياق الأسباب: (والصحيح ما رواه زيد) اهـ.
وقال ابن حجر: (هذا هو الصحيح في سبب نزولها) اهـ يعني حديث زيد.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ما ذكره مجاهد - رحمه الله - لصحة إسناده إليه وموافقته لسياق الآيات القرآني، وأقوال المفسرين والله أعلم.
* * * * *
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/27.jpg