-
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: فتح العليم العلَّام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف: الإمام/ تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728 هـ)
جمع وترتيب/ العاجز الفقير: عبد الرحمن القماش
(من علماء الأزهر الشريف)
عدد الأجزاء: 18
عدد الصفحات: 9236
[الكتاب مرقم آليا، وهو غير مطبوع]
(تنبيه)
جميع حقوق الطبع والنسخ والنشر حق لكل مسلم
(يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)
عن الربيع بن سليمان، قال: سمعتُ الشافعيَّ يقول: «ألفتُ هذه الكتب» واستفرغتُ مجهودي فيها، ووددتُ أن يتعلمها الناس ولا تُنْسَبُ إليَّ. اهـ (مناقب الشافعي، للبيهقي. 1/ 257).
وَإِنْ تَجِدْ عَيْباً فَسُدَّ الْخَلَلَا ... جَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيهِ وَعَلَا
* * *
(تقديم)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
سبحانه هو المحمودُ بكلِّ لسانٍ [1]، المعبودُ في كلِّ زمانٍ، الذي لا يخلو من علمهِ مكان، صَاحبُ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاء ِ، وَالْعِزَّةِ وَالْبَقَاءِ، وَالرِّفْعَةِ وَالْعَلَاءِ، وَالْمَجْدِ وَالثَّنَاءِ تَعَالَى عَنِ الْأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ، وَتَقَدَّسَ عَنِ الْأَمْثَالِ وَالنُّظَرَاءِ.
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ وَصَفِّيِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ، عَدَدَ ذَرَّاتِ الثَّرَى، وَنُجُومِ السَّمَاءِ، حَبِيبِهِ، وَخِيرَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْأَنَامِ، مُعَلِّمِ الْحِكْمَةَ، وهَادِي الأمَّةِ، ذِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ، الْمُبْتَعَثِ بِالْحَقِّ الْأَبْهَجِ لِلْأَنَامِ دَاعِيًا، وَبِالطَّرِيقِ الْأَنْهَجِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُنَادِيًا، الصَّادِعِ بِالْحَقِّ، الْهَادِي لِلْخَلْقِ، أَرْسَلَهُ بالنورِ الساطعِ، والضياءِ اللامعِ، الْمَخْصُوصِ بِالْقُرْآنِ الْمُبِينِ، وَالْكِتَابِ الْمُسْتَبِينِ، الَّذِي هُو أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ، وَأَكْبَرُ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، السَّائِرَةِ فِي الْآفَاقِ، الْبَاقِي بَقَاء الْأَطْوَاقِ فِي الْأَعْنَاقِ، الْجَدِيدُ عَلَى تَقَادُمِ الْأَعْصَارِ، اللَّذِيذُ عَلَى تَوَالِي التَّكْرَارِ، الْبَاسِقُ فِي الْإِعْجَازِ إِلَى الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا، الْجَامِعُ لِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، الْجَالِي بِأَنْوَارِهِ ظُلَم الْإِلْحَادِ، الْحَالِي بِجَوَاهِرِ مَعَانِيهِ طَلَى الْأَجْيَادِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَى مَنْ أُنْزِل عَلَيْهِ، وَأَهْدَى أَرَج تَحِيَّةٍ وَأَزْكَاهَا إِلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ الْمُخْتَصِّين بِالزُّلْفَى لَدَيْهِ، وَرَضِي اللَّهُ عَنْ صَحْبِهِ الَّذِين نَقَلُوا عَنْهُ كِتَاب اللَّهِ أَدَاءً وَعَرْضًا، وَتَلَقَّوْهُ مِنْ فِيهِ جَنِيًّا وَغَضًّا، وَأَدَّوْهُ إِلَيْنَا صَرِيحًا مَحْضًا.
فاللهم صلِّ عليه وعلى آله الأبرارِ، وصحبه الأخيارِ، مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
__________
[1] اقتباس من مقدمتي لتفسير (مصباح التفاسير القرآنية الجامع لتفسير ابن قيم الجوزية).
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (2)
من صــ 236 الى صــ 249
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -:
فَصْلٌ:
أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ
الْقُرْآنُ الْفُرْقَانُ الْكِتَابُ الْهُدَى النُّورُ الشِّفَاءُ الْبَيَانُ الْمَوْعِظَةُ الرَّحْمَةُ بَصَائِرُ الْبَلَاغُ الْكَرِيمُ الْمَجِيدُ الْعَزِيزُ الْمُبَارَكُ التَّنْزِيلُ الْمُنَزَّلُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ حَبْلُ اللَّهِ الذِّكْرُ الذِّكْرَى تَذْكِرَةٌ {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} {إنَّهُ تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} و {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الْمُتَشَابِهُ الْمَثَانِي الْحَكِيمُ {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الحكيم} محكم المفصل {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا} البرهان {قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} على أحد القولين الحق {قد جاءكم الحق من ربكم} عربي مبين أحسن الحديث أحسن القصص على قول كلام الله {فأجره حتى يسمع كلام الله} العلم {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} العلي الحكيم {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} القيم {يتلو صحفا مطهرة} {فيها كتب قيمة} {أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} {قيما} وحي في قوله: {إن هو إلا وحي يوحى} حكمة في قوله: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر} {حكمة بالغة} وحكما في قوله: {أنزلناه حكما عربيا} ونبأ على قول في قوله: {عن النبإ العظيم} ونذير على قول {هذا نذير من النذر الأولى} في حديث أبي موسى شافعا مشفعا وشاهدا مصدقا وسماه النبي صلى الله عليه وسلم " حجة لك أو عليك " وفي حديث الحارث عن علي {عصمة لمن استمسك به}. وأما وصفه بأنه يقص وينطق ويحكم ويفتي ويبشر ويهدي فقال: {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل} {هذا كتابنا ينطق عليكم} {قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب} أي يفتيكم أيضا {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون}.
فصل:
في الآيات الدالة على اتباع القرآن. {قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} فإنه في التفسير المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله}. . . (1) .
وسئل - رحمه الله -:
عن أحاديث هل هي صحيحة وهل رواها أحد من المعتبرين بإسناد صحيح؟ إلخ فقال.
فصل:
وأما حديث فاتحة الكتاب فقد ثبت في الصحيح عن {النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله: أثنى علي عبدي وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال الله: مجدني عبدي. وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل}.
وثبت في صحيح مسلم عن {ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض ولم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته} وفي بعض الأحاديث: {إن فاتحة الكتاب أعطيها من كنز تحت العرش}.
وسئل:
هل من يلحن في الفاتحة تصح صلاته أم لا؟
فأجاب:
أما اللحن في الفاتحة الذي لا يحيل المعنى فتصح صلاة صاحبه إماما أو منفردا مثل أن يقول: {رب العالمين} والضالين ونحو ذلك.
وأما ما قرئ به مثل: الحمد لله رب ورب ورب. ومثل الحمد لله والحمد لله بضم الدال أو بكسر الدال. ومثل عليهم وعليهم وعليهم. وأمثال ذلك فهذا لا يعد لحنا.
وأما اللحن الذي يحيل المعنى: إذا علم صاحبه معناه مثل أن يقول: {صراط الذين أنعمت عليهم} وهو يعلم أن هذا ضمير المتكلم لا تصح صلاته وإن لم يعلم أنه يحيل المعنى واعتقد أن هذا ضمير المخاطب ففيه نزاع والله أعلم.
فصل:
قال الله تعالى: في أم القرآن والسبع المثاني والقرآن العظيم: {إياك نعبد وإياك نستعين} وهذه السورة هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني والقرآن العظيم وهي الشافية وهي الواجبة في الصلوات لا صلاة إلا بها وهي الكافية تكفي من غيرها ولا يكفي غيرها عنها. والصلاة أفضل الأعمال وهي مؤلفة من كلم طيب وعمل صالح؛ أفضل كلمها الطيب وأوجبه القرآن وأفضل عملها الصالح وأوجبه السجود كما جمع بين الأمرين في أول سورة أنزلها على رسوله حيث افتتحها بقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وختمها بقوله: {واسجد واقترب} فوضعت الصلاة على ذلك أولها القراءة وآخرها السجود. ولهذا قال سبحانه في صلاة الخوف: {فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم} والمراد بالسجود الركعة التي يفعلونها وحدهم بعد مفارقتهم للإمام وما قبل القراءة من تكبير واستفتاح واستعاذة هي تحريم للصلاة ومقدمة لما بعده أول ما يبتدئ به كالتقدمة وما يفعل بعد السجود من قعود وتشهد فيه التحية لله والسلام على عباده الصالحين والدعاء والسلام على الحاضرين فهو تحليل للصلاة ومعقبة لما قبله قال النبي صلى الله عليه وسلم {مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم}.
ولهذا لما تنازع العلماء أيما أفضل كثرة الركوع والسجود أو طول القيام أو هما سواء؟ على ثلاثة أقوال عن أحمد وغيره: كان الصحيح أنهما سواء القيام فيه أفضل الأذكار والسجود أفضل الأعمال فاعتدلا؛ ولهذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدلة يجعل الأركان قريبا من السواء وإذا أطال القيام طولا كثيرا - كما كان يفعل في قيام الليل وصلاة الكسوف - أطال معه الركوع والسجود وإذا اقتصد فيه اقتصد في الركوع والسجود وأم الكتاب كما أنها القراءة الواجبة فهي أفضل سورة في القرآن. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {لم ينزل في التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن مثلها وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته}
وفضائلها كثيرة جدا. وقد جاء مأثورا عن الحسن البصري رواه ابن ماجه وغيره أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع علمها في الأربعة وجمع علم الأربعة في القرآن وجمع علم القرآن في المفصل وجمع علم المفصل في أم القرآن وجمع علم أم القرآن في هاتين الكلمتين الجامعتين {إياك نعبد وإياك نستعين} وإن علم الكتب المنزلة من السماء اجتمع في هاتين الكلمتين الجامعتين. ولهذا ثبت في الحديث الصحيح حديث: {إن الله تعالى يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله أثنى علي عبدي وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال الله عز وجل: مجدني عبدي وفي رواية: فوض إلي عبدي وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل} فقد ثبت بهذا النص أن هذه السورة منقسمة بين الله وبين عبده وأن هاتين الكلمتين مقتسم السورة ف {إياك نعبد} مع ما قبله لله {وإياك نستعين} مع ما بعده للعبد وله ما سأل. ولهذا قال من قال من السلف: نصفها ثناء ونصفها مسألة وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء. وإذا كان الله قد فرض علينا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين في كل صلاة فمعلوم أن ذلك يقتضي أنه فرض علينا أن نعبده وأن نستعينه؛ إذ إيجاب القول الذي هو إقرار واعتراف ودعاء وسؤال هو إيجاب لمعناه ليس إيجابا لمجرد لفظ لا معنى له فإن هذا لا يجوز أن يقع؛ بل إيجاب ذلك أبلغ من إيجاب مجرد العبادة والاستعانة فإن ذلك قد يحصل أصله بمجرد القلب أو القلب والبدن بل أوجب دعاء الله عز وجل ومناجاته وتكليمه ومخاطبته بذلك ليكون الواجب من ذلك كاملا صورة ومعنى بالقلب وبسائر الجسد. وقد جمع بين هذين الأصلين الجامعين إيجابا وغير إيجاب في مواضع كقوله في آخر سورة هود: {فاعبده وتوكل عليه} وقول العبد الصالح شعيب: {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} وقول إبراهيم والذين معه: {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} وقوله سبحانه إذ أمر رسوله أن يقول: {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب}. فأمر نبيه بأن يقول: على الرحمن توكلت وإليه متاب كما أمره بهما في قوله: {فاعبده وتوكل عليه} والأمر له أمر لأمته وأمره بذلك في أم القرآن وفي غيرها لأمته ليكون فعلهم ذلك طاعة لله وامتثالا لأمره ولا يتقدموا بين يدي الله ورسوله؛ ولهذا كان عامة ما يفعله نبينا صلى الله عليه وسلم والخالصون من أمته من الأدعية والعبادات وغيرها إنما هو بأمر من الله؛ بخلاف من يفعل ما لم يؤمر به وإن كان حسنا أو عفوا وهذا أحد الأسباب الموجبة لفضله وفضل أمته على من سواهم وفضل الخالصين من أمته على المشوبين الذين شابوا ما جاء به بغيره كالمنحرفين عن الصراط المستقيم. وإلى هذين الأصلين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد في عباداته وأذكاره ومناجاته مثل قوله في الأضحية: {اللهم هذا منك ولك} فإن قوله: " منك " هو معنى التوكل والاستعانة وقوله: " لك " هو معنى العبادة ومثل قوله في قيامه من الليل: {لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا تموت والجن والإنس يموتون} إلى أمثال ذلك.
إذا تقرر هذا الأصل فالإنسان في هذين الواجبين لا يخلو من أحوال أربعة هي القسمة الممكنة إما أن يأتي بهما وإما أن يأتي بالعبادة فقط وإما أن يأتي بالاستعانة فقط وإما أن يتركهما جميعا. ولهذا كان الناس في هذه الأقسام الأربعة؛ بل أهل الديانات هم أهل هذه الأقسام وهم المقصودون هنا بالكلام. قسم يغلب عليه قصد التأله لله ومتابعة الأمر والنهي والإخلاص لله تعالى واتباع الشريعة في الخضوع لأوامره وزواجره وكلماته الكونيات؛ لكن يكون منقوصا من جانب الاستعانة والتوكل فيكون إما عاجزا وإما مفرطا وهو مغلوب إما مع عدوه الباطن وإما مع عدوه الظاهر وربما يكثر منه الجزع مما يصيبه والحزن لما يفوته وهذا حال كثير ممن يعرف شريعة الله وأمره ويرى أنه متبع للشريعة وللعبادة الشرعية ولا يعرف قضاءه وقدره وهو حسن القصد طالب للحق لكنه غير عارف بالسبيل الموصلة والطريق المفضية. وقسم يغلب عليه قصد الاستعانة بالله والتوكل عليه وإظهار الفقر والفاقة بين يديه والخضوع لقضائه وقدره وكلماته الكونيات؛ لكن يكون منقوصا من جانب العبادة وإخلاص الدين لله فلا يكون مقصوده أن يكون الدين كله لله وإن كان مقصوده ذلك فلا يكون متبعا لشريعة الله عز وجل ومنهاجه؛ بل قصده نوع سلطان في العالم إما سلطان قدرة وتأثير وإما سلطان كشف وإخبار أو قصده طلب ما يريده ودفع ما يكرهه بأي طريق كان أو مقصوده نوع عبادة وتأله بأي وجه كان همته في الاستعانة والتوكل المعينة له على مقصوده فيكون إما جاهلا وإما ظالما تاركا لبعض ما أمره الله به راكبا لبعض ما نهى الله عنه وهذه حال كثير ممن يتأله ويتصوف ويتفقر ويشهد قدر الله وقضاءه ولا يشهد أمر الله ونهيه ويشهد قيام الأكوان بالله وفقرها إليه وإقامته لها ولا يشهد ما أمر به وما نهى عنه وما الذي يحبه الله منه ويرضاه وما الذي يكرهه منه ويسخطه. ولهذا يكثر في هؤلاء من له كشف وتأثير وخرق عادة مع انحلال عن بعض الشريعة ومخالفة لبعض الأمر وإذا أوغل الرجل منهم دخل في الإباحية والانحلال وربما صعد إلى فساد التوحيد فيخرج إلى الاتحاد والحلول المقيد كما قد وقع لكثير من الشيوخ ويوجد في كلام صاحب " منازل السائرين " وغيره ما يفضي إلى ذلك. وقد يدخل بعضهم في " الاتحاد المطلق والقول بوحدة الوجود " فيعتقد أن الله هو الوجود المطلق كما يقول صاحب " الفتوحات المكية " في أولها:الرب حق والعبد حق ... يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت ... أو قلت رب أنى يكلف
وقسم ثالث معرضون عن عبادة الله وعن الاستعانة به جميعا. وهم فريقان: أهل دنيا وأهل دين فأهل الدين منهم هم أهل الدين الفاسد الذين يعبدون غير الله ويستعينون غير الله بظنهم وهواهم {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} وأهل الدنيا منهم الذين يطلبون ما يشتهونه من العاجلة بما يعتقدونه من الأسباب. واعلم أنه يجب التفريق بين من قد يعرض عن عبادة الله والاستعانة به وبين من يعبد غيره ويستعين بسواه.
__________
Q (1) بياض بالأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
(مبحث الاستعاذة)
المجلد الثانى
الحلقة (3)
من صــ 250 الى صــ 254
(مبحث الاستعاذة)
مسألة: ثم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
السنة: لكل من قرأ في الصلاة أو خارج الصلاة: أن يستعيذ؛ لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} يعني: إذا أردت القراءة كقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وقوله: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} أي: يريدون العود.
فإن قيل: هذا أمر لمن كان أكبر مقصوده القراءة فقط, وهو القارئ خارج الصلاة, والقارئ للقرآن في صلاة التراويح.
قلنا: الآية تعم القسمين, بل إذا استحب الاستعاذة للقارئ في غير الصلاة, فهي للقارئ في الصلاة أوكد؛ طردا لوسوسة الشيطان عنه, ولما تقدم من حديث جبير بن مطعم, وروى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة استفتح, ثم يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».
وفي رواية: «من همزه ونفخه ونفثه» رواه أحمد, والترمذي, وقال: (هذا أشهر حديث في هذا الباب) والذي قبله, وإن كان في النافلة, فإنه لا فرق في الاستعاذة بين الفريضة والنافلة, ولو لم يكن كان يبلغنا أنه كان يستعيذ امتثالا لأمر الله سبحانه, كما لم ينقل عنه نقلا ظاهرا أنه كان يستعيذ عند القراءة خارج الصلاة, إلا في حديث أو حديثين , ومعلوم أن ذلك لا محالة له.
وقال الأسود بن يزيد. رأيت عمر حين يفتتح الصلاة يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك وتعالى جدك, ولا إله غيرك» ثم يتعوذ. رواه النجاد والدارقطني.
وجاءت الاستعاذة في الصلاة عن ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة.
فصل
وفي صفة الاستعاذة أربعة أنواع:
أحدها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, كما ذكره الشيخ, وذكره جماعة من أصحابنا, وذكره الآمدي, رواية عن أحمد؛ لظاهر قوله تعالى: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} وقال: ابن المنذر: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} وقد روى سليمان بن صرد قال: أستب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم, فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه, فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه هذا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» رواه البخاري ومسلم.
ولأن في حديث جبير بن مطعم: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم» وكذلك روى النجاد ثلاث روايات: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, إن الله هو السميع العليم» قاله في رواية جماعة, واختاره أبو بكر والقاضي والآمدي وابن عقيل وغيرهم.
وقد روي ذلك عن مسلم بن يسار, وهو من أفضل التابعين؛ لأن ذلك فيه جمع بين ظاهر قوله: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} مع قوله في الآية الأخرى: {إنه هو السميع العليم} , وهو أبلغ معنى؛ لأن ذكر الصفة بعد الحكم بحرف «إن» يقتضي أن يكون علمه وسمعه سبحانه لدعاء الداعي, وعلمه بما في قلبه, سبب لإعاذته وإجارته من الشيطان.
وثانيها: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ لأن فيه جمعا بين صفة الله تعالى مع تقديمها, وقد تقدم في حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يقول بعد الاستفتاح: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».
وروى أبو داود والنجاد في قصة الإفك أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».
وروى أحمد في «المسند» عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال إذا أصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ... } إلى آخر سورة الحشر, وكل الله به سبعين ألف ملك يحفظونه حتى يمسي, ومن قالها إذا أمسى, وكل الله به سبعين ألف ملك يحفظونه حتى يصبح».
وروى النجاد عن ابن عمر أنه كان يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
وثالثهما: أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, إن الله هو السميع العليم. واختاره ابن أبي موسى وأبو الخطاب, تخصيصا للصفة بإعادتها, وعملا بظاهر قوله: «إن الله هو السميع العليم» مع السنة الواردة لذلك, وكيف ما استعاذ بما روى فقد أحسن, مثل أن يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, من همزه ونفخه ونفثه» وهمزه: الموتة, وهي الصرع. ونفخه: الكبر والخيلاء. ونفثه: الشعر والأغاني الكاذبة.
وسئل:
عن رجل يؤم الناس وبعد تكبيرة الإحرام يجهر بالتعوذ ثم يسمي ويقرأ ويفعل ذلك في كل صلاة؟.
فأجاب:
إذا فعل ذلك أحيانا للتعليم ونحوه فلا بأس بذلك كما كان عمر بن الخطاب يجهر بدعاء الاستفتاح مدة وكما كان ابن عمر وأبو هريرة يجهران بالاستعاذة أحيانا.
وأما المداومة على الجهر بذلك فبدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين فإنهم لم يكونوا يجهرون بذلك دائما بل لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جهر بالاستعاذة والله أعلم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (4)
من صــ 255 الى صــ 259
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
(فَصْلٌ: هَلِ الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ)
فَأَمَّا صِفَةُ الصَّلَاةِ وَمِنْ شَعَائِرِهَا مَسْأَلَةُ الْبَسْمَلَةِ فَإِنَّ النَّاسَ اضْطَرَبُوا فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ وَفِي قِرَاءَتِهَا وَصَنَّفْت مِنْ الطَّرَفَيْنِ مُصَنَّفَاتٍ يَظْهَرُ فِي بَعْضِ كَلَامِهَا نَوْعُ جَهْلٍ وَظُلْمٍ مَعَ أَنَّ الْخَطْبَ فِيهَا يَسِيرٌ.
وَأَمَّا التَّعَصُّبُ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِهَا فَمِنْ شَعَائِرِ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي نُهِينَا عَنْهَا؛ إذْ الدَّاعِي لِذَلِكَ هُوَ تَرْجِيحُ الشَّعَائِرِ الْمُفْتَرِقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَإِلَّا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنْ أَخَفِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ جَدًّا لَوْلَا مَا يَدْعُو إلَيْهِ الشَّيْطَانُ مِنْ إظْهَارِ شِعَارِ الْفُرْقَةِ.
فَأَمَّا كَوْنُهَا آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَمَالِكِ: لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ.
وَالْتَزَمُوا أَنَّ الصَّحَابَةَ أَوْدَعُوا الْمُصْحَفَ مَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَحَكَى طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد هَذَا رِوَايَةً عَنْهُ وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ: مَا كَتَبُوهَا فِي الْمُصْحَفِ بِقَلَمِ الْمُصْحَفِ مَعَ تَجْرِيدِهِمْ لِلْمُصْحَفِ عَمَّا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا وَهِيَ مِنْ السُّورَةِ مَعَ أَدِلَّةٍ أُخْرَى.
وَتَوَسَّطَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالُوا: كِتَابَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ تَقْتَضِي أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنِ لَكِنْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهَا مِنْ السُّورَةِ؛ بَلْ تَكُونُ آيَةً مُفْرَدَةً أُنْزِلَتْ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كَمَا كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ سَطْرًا مَفْصُولًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ هِيَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كُتِبَتْ فِيهِ.
وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورِ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
وَلَمْ يُوجَدْ عَنْهُ نَقْلٌ صَرِيحٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ وَأَعْدَلُهَا.
وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي تِلَاوَتِهَا فِي الصَّلَاةِ. طَائِفَةٌ لَا تَقْرَؤُهَا لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا.
كَمَالِكِ وَالْأَوْزَاعِي . وَطَائِفَةٌ تَقْرَؤُهَا جَهْرًا كَأَصْحَابِ ابْنِ جريج وَالشَّافِعِيِّ . وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ الْمُتَوَسِّطَة ُ جَمَاهِيرُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مَعَ فُقَهَاءِ أَهْلِ الرَّأْيِ يَقْرَءُونَهَا سِرًّا كَمَا نُقِلَ عَنْ جَمَاهِيرِ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّ أَحْمَد يَسْتَعْمِلُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَيَسْتَحِبُّ الْجَهْرَ بِهَا لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ حَتَّى إنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ يَجْهَرُ بِهَا فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَجْهَرُ بِهَا.
وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ إلَى تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ بِتَرْكِ هَذِهِ الْمُسْتَحَبَّا تِ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ التَّأْلِيفِ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ فِعْلِ مِثْلِ هَذَا كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغْيِيرَ بِنَاءِ الْبَيْتِ لِمَا فِي إبْقَائِهِ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَكَمَا أَنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى عُثْمَانَ إتْمَامَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ ثُمَّ صَلَّى خَلْفَهُ مُتِمًّا. وَقَالَ الْخِلَافُ شَرٌّ.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا حَسَنًا فَمَقْصُودُ أَحْمَد أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَهَا فَيَجْهَرُ بِهَا لِيُبَيِّنَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا سُنَّةٌ كَمَا جَهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْكِتَابِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ وَكَمَا جَهَرَ عُمَرُ بِالِاسْتِفْتَا حِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْآيَةِ أَحْيَانًا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ.
وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ الْجَهْرُ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ الْمُخَافَتَةَ فَكَأَنَّهُمْ جَهَرُوا لِإِظْهَارِ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَهَا كَمَا جَهَرَ بَعْضُهُمْ بِالِاسْتِعَاذَ ةِ أَيْضًا وَالِاعْتِدَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ اسْتِعْمَالُ الْآثَارِ عَلَى وَجْهِهَا فَإِنَّ كَوْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِهَا دَائِمًا - وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ لَمْ يَنْقُلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ - مُمْتَنِعٌ قَطْعًا.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْيُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ خَبَرٌ ثَابِتٌ إلَّا وَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَكَوْنُ الْجَهْرِ بِهَا لَا يُشْرَعُ بِحَالِ - مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - نِسْبَةً لِلصَّحَابَةِ إلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ وَإِقْرَارِهِ؛ مَعَ أَنَّ الْجَهْرَ فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ يُشْرَعُ لِعَارِضِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَرَاهَةُ قِرَاءَتِهَا مَعَ مَا فِي قِرَاءَتِهَا مِنْ الْآثَارِ الثَّابِتَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ الْمَرْفُوعِ بَعْضُهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَوْنِ الصَّحَابَةِ كَتَبَتْهَا فِي الْمُصْحَفِ وَأَنَّهَا كَانَتْ تَنْزِلُ مَعَ السُّورَةِ فِيهِ مَا فِيهِ مَعَ أَنَّهَا إذَا قُرِئَتْ فِي أَوَّلِ كِتَابِ سُلَيْمَانَ فَقِرَاءَتُهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ اللَّهِ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ فَمُتَابَعَةُ الْآثَارِ فِيهَا الِاعْتِدَالُ والائتلاف وَالتَّوَسُّطُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْأُمُورِ.
ثُمَّ مِقْدَارُ الصَّلَاةِ يَخْتَارُ فِيهِ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا غَالِبًا وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمُعْتَدِلَةُ الْمُتَقَارِبَة ُ الَّتِي يُخَفِّفُ فِيهَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ وَيُطِيلُ فِيهَا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَيُسَوِّي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَبَيْنَ الِاعْتِدَالِ مِنْهُمَا. كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مَعَ كَوْنِ الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ بِمَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ وَفِي الظُّهْرِ نَحْوَ الثَّلَاثِينَ آيَةً وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُخَفِّفُ عَنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ لِعَارِضِ {كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفُ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ}.
كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُطِيلُهَا عَلَى ذَلِكَ لِعَارِضِ كَمَا قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ وَهِيَ الْأَعْرَافُ. وَيُسْتَحَبُّ إطَالَةُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى الثَّانِيَةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمُدَّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَيَحْذِفَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَمَا رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا يَسْتَحِبُّ أَنْ يَمُدَّ الِاعْتِدَالَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ رُكْنًا خَفِيفًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ تَابِعًا لِأَجْلِ الْفَصْلِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ أَلَّا يَزِيدَ الْإِمَامُ فِي تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى ثَلَاثٍ؛ إلَى أَقْوَالٍ أُخَرَ قَالُوهَا.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (5)
من صــ 260 الى صــ 289
وسئل:
عن حديث نعيم المجمر قال: " كنت وراء أبي هريرة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم الكتاب حتى بلغ {ولا الضالين}.
قال: آمين وقال الناس: آمين ويقول: كلما سجد: الله أكبر فلما سلم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم " وكان المعتمر بن سليمان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها ويقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا حديث ثابت في الجهر بها. ذكر الحاكم أبو عبد الله: أن رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات. فهل يحمل {ما قاله أنس: وهو صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم} على عدم السماع؟ وما التحقيق في هذه المسألة والصواب؟.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما حديث أنس في نفي الجهر فهو صريح لا يحتمل هذا التأويل فإنه قد رواه مسلم في صحيحه فقال فيه: {صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها} وهذا النفي لا يجوز إلا مع العلم بذلك لا يجوز بمجرد كونه لم يسمع مع إمكان الجهر بلا سماع. واللفظ الآخر الذي في صحيح مسلم: {صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يجهر أو قال: يصلي ببسم الله الرحمن الرحيم} فهذا نفي فيه السماع ولو لم يرو إلا هذا اللفظ لم يجز تأويله بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ جهرا ولا يسمع أنس لوجوه: أحدها: أن أنسا إنما روى هذا ليبين لهم ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله إذ لا غرض للناس في معرفة كون أنس سمع أو لم يسمع إلا ليستدلوا بعدم سماعه على عدم المسموع فلو لم يكن ما ذكره دليلا على نفي ذلك لم يكن أنس ليروي شيئا لا فائدة لهم فيه ولا كانوا يروون مثل هذا الذي لا يفيدهم. الثاني: أن مثل هذا اللفظ صار دالا في العرف على عدم ما لم يدرك فإذا قال: ما سمعنا أو ما رأينا لما شأنه أن يسمعه ويراه كان مقصوده بذلك نفي وجوده وذكر نفي الإدراك دليل على ذلك.
ومعلوم أنه دليل فيما جرت العادة بإدراكه. وهذا يظهر (بالوجه الثالث وهو أن أنسا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة إلى أن مات وكان يدخل على نسائه قبل الحجاب ويصحبه حضرا وسفرا وكان حين حج النبي صلى الله عليه وسلم تحت ناقته يسيل عليه لعابها أفيمكن مع هذا القرب الخاص والصحبة الطويلة أن لا يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها مع كونه يجهر بها هذا مما يعلم بالضرورة بطلانه في العادة. ثم إنه صحب أبا بكر وعمر وعثمان وتولى لأبي بكر وعمر ولايات ولا كان يمكن مع طول مدتهم أنهم كانوا يجهرون وهو لا يسمع ذلك فتبين أن هذا تحريف لا تأويل. لو لم يرو إلا هذا اللفظ فكيف والآخر صريح في نفي الذكر بها وهو يفضل هذه الرواية الأخرى. وكلا الروايتين ينفي تأويل من تأول قوله: يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين أنه أراد السورة فإن قوله: يفتتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها صريح أنه في قصد الافتتاح بالآية لا بسورة الفاتحة التي أولها بسم الله الرحمن الرحيم إذ لو كان مقصوده ذلك لتناقض حديثاه.
وأيضا فإن افتتاح الصلاة بالفاتحة قبل السورة هو من العلم الظاهر العام الذي يعرفه الخاص والعام كما يعلمون أن الركوع قبل السجود وجميع الأئمة غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان يفعلون هذا ليس في نقل مثل هذا فائدة ولا هذا مما يحتاج فيه إلى نقل أنس وهم قد سألوه عن ذلك وليس هذا مما يسأل عنه وجميع الأئمة من أمراء الأمصار والجيوش وخلفاء بني أمية وبني الزبير وغيرهم ممن أدركه أنس كانوا يفتتحون بالفاتحة ولم يشتبه هذا على أحد ولا شك؛ فكيف يظن أن أنسا قصد تعريفهم بهذا وأنهم سألوه عنه. وإنما مثل ذلك مثل أن يقال: فكانوا يصلون الظهر أربعا والعصر أربعا والمغرب ثلاثا أو يقول: فكانوا يجهرون في العشاءين والفجر ويخافتون في صلاتي الظهرين أو يقول: فكانوا يجهرون في الأوليين دون الأخيرتين. ومثل حديث أنس حديث عائشة الذي في الصحيح أيضا {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين} إلى آخره وقد روى {يفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين} وهذا صريح في إرادة الآية؛ لكن مع هذا ليس في حديث أنس نفي لقراءتها سرا؛ لأنه روى " فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " وهذا إنما نفى هنا الجهر.
وأما اللفظ الآخر " لا يذكرون " فهو إنما ينفي ما يمكنه العلم بانتفائه وذلك موجود في الجهر فإنه إذا لم يسمع مع القرب علم أنهم لم يجهروا.
وأما كون الإمام لم يقرأها فهذا لا يمكن إدراكه إلا إذا لم يكن له بين التكبير والقراءة سكتة يمكن فيها القراءة سرا؛ ولهذا استدل بحديث أنس على عدم القراءة من لم ير هناك سكوتا كمالك وغيره؛ لكن قد ثبت في الصحيحين من {حديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: كذا وكذا} إلى آخره. وفي السنن من حديث عمران وأبي وغيرهما: أنه كان يسكت قبل القراءة. وفيها أنه كان يستعيذ وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسا أن ينفي قراءتها في ذلك السكوت فيكون نفيه للذكر وإخباره بافتتاح القراءة بها إنما هو في الجهر وكما أن الإمساك عن الجهر مع الذكر سرا يسمى سكوتا كما في حديث أبي هريرة فيصلح أن يقال: لم يقرأها ولم يذكرها؛ أي جهرا؛ فإن لفظ السكوت ولفظ نفي الذكر والقراءة: مدلولهما هنا واحد.
ويؤيد هذا {حديث عبد الله بن مغفل. الذي في السنن: أنه سمع ابنه يجهر بها فأنكر عليه وقال: يا بني إياك والحدث وذكر أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يجهرون بها} فهذا مطابق لحديث أنس وحديث عائشة اللذين في الصحيح.
وأيضا فمن المعلوم أن الجهر بها مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها كالجهر بسائر الفاتحة لم يكن في العادة ولا في الشرع ترك نقل ذلك بل لو انفرد بنقل مثل هذا الواحد والاثنان لقطع بكذبهما إذ التواطؤ فيما تمنع العادة والشرع كتمانه كالتواطؤ على الكذب فيه. ويمثل هذا بكذب دعوى الرافضة في النص على علي في الخلافة وأمثال ذلك.
وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس في الجهر بها حديث صريح ولم يرو أهل السنن المشهورة: كأبي داود والترمذي والنسائي شيئا من ذلك وإنما يوجد الجهر بها صريحا في أحاديث موضوعة يرويها الثعلبي والماوردي وأمثالهما في التفسير. أو في بعض كتب الفقهاء الذين لا يميزون بين الموضوع وغيره بل يحتجون بمثل حديث الحميراء.
وأعجب من ذلك أن من أفاضل الفقهاء من لم يعز في كتابه حديثا إلى البخاري إلا حديثا في البسملة وذلك الحديث ليس في البخاري ومن هذا مبلغ علمه في الحديث كيف يكون حالهم في هذا الباب أو يرويها من جمع هذا الباب: كالدارقطني والخطيب وغيرهما فإنهم جمعوا ما روي وإذا سئلوا عن صحتها قالوا: بموجب علمهم.
كما قال الدارقطني لما دخل مصر. وسئل أن يجمع أحاديث الجهر بها فجمعها قيل له: هل فيها شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف. وسئل أبو بكر الخطيب عن مثل ذلك فذكر حديثين حديث معاوية لما صلى بالمدينة وقد رواه الشافعي رضي الله عنه قال: حدثنا عبد المجيد عن ابن جريج قال أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره.
أن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالمدينة فجهر فيها بأم القرآن فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كل مكان يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن وكبر حين يهوي ساجدا.
وقال الشافعي أنبأنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني ابن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر إذا خفض وإذا رفع فناداه المهاجرون حين سلم والأنصار: أي معاوية؟ سرقت الصلاة؟ وذكره. وقال الشافعي أنبأنا يحيى بن سليم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده عن معاوية والمهاجرين والأنصار بمثله أو مثل معناه لا يخالفه وأحسب هذا الإسناد أحفظ من الإسناد الأول وهو في كتاب إسماعيل ابن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده عن معاوية. وذكر الخطيب أنه أقوى ما يحتج به وليس بحجة كما يأتي بيانه.
فإذا كان أهل المعرفة بالحديث متفقين على أنه ليس في الجهر حديث صحيح ولا صريح فضلا أن يكون فيها أخبار مستفيضة أو متواترة امتنع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها كما يمتنع أن يكون كان يجهر بالاستفتاح والتعوذ ثم لا ينقل.
يتبع
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (6)
من صــ 260 الى صــ 289
فإن قيل: هذا معارض بترك الجهر بها فإنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله ثم هو مع ذلك ليس منقولا بالتواتر بل قد تنازع فيه العلماء كما أن ترك الجهر بتقدير ثبوته كان يداوم عليه ثم لم ينقل نقلا قاطعا بل وقع فيه النزاع.
قيل: الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها أن الذي تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة ويجب نقله شرعا: هو الأمور الوجودية فأما الأمور العدمية فلا خبر لها ولا ينقل منها إلا ما ظن وجوده أو احتيج إلى معرفته فينقل للحاجة؛ ولهذا قالوا لو نقل ناقل افتراض صلاة سادسة أو زيادة على صوم رمضان أو حجا غير حج البيت أو زيادة في القرآن أو زيادة في ركعات الصلاة أو فرائض الزكاة ونحو ذلك لقطعنا بكذبه فإن هذا لو كان لوجب نقله نقلا قاطعا عادة وشرعا وإن عدم النقل يدل على أنه لم ينقل نقلا قاطعا عادة وشرعا؛ بل يستدل بعدم نقله مع توافر الهمم والدواعي في العادة والشرع على نقله أنه لم يكن. وقد مثل الناس ذلك بما لو نقل ناقل: أن الخطيب يوم الجمعة سقط من المنبر ولم يصل الجمعة أو أن قوما اقتتلوا في المسجد بالسيوف فإنه إذا نقل هذا الواحد والاثنان والثلاثة دون بقية الناس علمنا كذبهم في ذلك؛ لأن هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة؛ وإن كانوا لا ينقلون عدم الاقتتال ولا غيره من الأمور العدمية. يوضح ذلك أنهم لم ينقلوا الجهر بالاستفتاح والاستعادة واستدلت الأمة على عدم جهره بذلك وإن كان لم ينقل نقلا عاما عدم الجهر بذلك فبالطريق الذي يعلم عدم جهره بذلك يعلم عدم جهره بالبسملة وبهذا يحصل الجواب عما يورده بعض المتكلمين على هذا الأصل وهو كون الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها يمتنع ترك نقلها فإنهم عارضوا أحاديث الجهر والقنوت والأذان والإقامة فأما الأذان والإقامة فقد نقل فعل هذا وهذا وأما القنوت فإنه قنت تارة وترك تارة وأما الجهر فإن الخبر عنه أمر وجودي ولم ينقل فيدخل في القاعدة.
(الوجه الثاني أن الأمور العدمية لما احتيج إلى نقلها نقلت فلما انقرض عصر الخلفاء الراشدين وصار بعض الأئمة يجهر بها كابن الزبير ونحوه سأل بعض الناس بقايا الصحابة كأنس فروى لهم أنس ترك الجهر بها وأما مع وجود الخلفاء فكانت السنة ظاهرة مشهورة ولم يكن في الخلفاء من يجهر بها فلم يحتج إلى السؤال عن الأمور العدمية حتى ينقل.
(الثالث أن نفي الجهر قد نقل نقلا صحيحا صريحا في حديث أبي هريرة والجهر بها لم ينقل نقلا صحيحا صريحا مع أن العادة والشرع يقتضي أن الأمور الوجودية أحق بالنقل الصحيح الصريح من الأمور العدمية. وهذه الوجوه من تدبرها وكان عالما بالأدلة القطعية قطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بها بل ومن لم يتدرب في معرفة الأدلة القطعية من غيرها يقول أيضا: إذا كان الجهر بها ليس فيه حديث صحيح صريح فكيف يمكن بعد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها ولم تنقل الأمة هذه السنة بل أهملوها وضيعوها؟ وهل هذه إلا بمثابة أن ينقل ناقل:
أنه كان يجهر بالاستفتاح والاستعاذة كما كان فيهم من يجهر بالبسملة ومع هذا فنحن نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بالاستفتاح والاستعاذة كما كان يجهر بالفاتحة كذلك نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بالبسملة كما كان يجهر بالفاتحة ولكن يمكن أنه كان يجهر بها أحيانا أو أنه كان يجهر بها قديما ثم ترك ذلك كما روى أبو داود في مراسيله عن سعيد بن جبير ورواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس:
{أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها بمكة فكان المشركون إذا سمعوها سبوا الرحمن فترك الجهر فما جهر بها حتى مات} فهذا محتمل.
وأما الجهر العارض، فمثل ما في الصحيح أنه كان يجهر بالآية أحيانا ومثل جهر بعض الصحابة خلفه بقوله:
{ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه} ومثل جهر عمر بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ومثل جهر ابن عمر وأبي هريرة بالاستعاذة ومثل جهر ابن عباس بالقراءة على الجنازة ليعلموا أنها سنة. ويمكن أن يقال جهر من جهر بها من الصحابة كان على هذا الوجه ليعرفوا أن قراءتها سنة؛ لا لأن الجهر بها سنة. ومن تدبر عامة الآثار الثابتة في هذا الباب علم أنها آية من كتاب الله وأنهم قرءوها لبيان ذلك لا لبيان كونها من الفاتحة وأن الجهر بها سنة مثل ما ذكر ابن وهب في جامعه قال أخبرني رجال من أهل العلم عن ابن عباس وأبي هريرة وزيد بن أسلم؛ وابن شهاب: مثله بغير هذا الحديث عن ابن عمر أنه كان يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن شهاب: يريد بذلك أنها آية من القرآن فإن الله أنزلها قال: وكان أهل الفقه يفعلون ذلك فيما مضى من الزمان وحديث ابن عمر معروف من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: أنه كان إذا صلى جهر ببسم الله الرحمن الرحيم فإذا قال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال:
بسم الله الرحمن الرحيم فهذا الذي ذكره ابن شهاب الزهري هو أعلم أهل زمانه بالسنة بين حقيقة الحال. فإن العمدة في الآثار في قراءتها إنما هي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر.
وقد عرف حقيقة حال أبي هريرة في ذلك وكذلك غيره رضي الله عنهم أجمعين.
ولهذا كان العلماء بالحديث ممن يروي الجهر بها ليس معه حديث صريح لعلمه بأن تلك أحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يتمسك بلفظ محتمل مثل اعتمادهم على حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة المتقدم. وقد رواه النسائي. فإن العارفين بالحديث يقولون إنه عمدتهم في هذه المسألة ولا حجة فيه.
فإن ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أظهر دلالة على نفي قراءتها من دلالة هذا على الجهر بها؛ فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
{يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال: أثنى علي عبدي فإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي - أو قال فوض إلي عبدي - فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل} وقد روى عبد الله بن زياد بن سمعان - وهو كذاب - أنه قال: في أوله فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم قال ذكرني عبدي}ولهذا اتفق أهل العلم على كذب هذه الزيادة وإنما كثر الكذب في أحاديث الجهر؛ لأن الشيعة ترى الجهر وهم أكذب الطوائف فوضعوا في ذلك أحاديث لبسوا بها على الناس دينهم؛ ولهذا يوجد في كلام أئمة السنة من الكوفيين كسفيان الثوري أنهم يذكرون من السنة المسح على الخفين وترك الجهر بالبسملة كما يذكرون تقديم أبي بكر وعمر ونحو ذلك؛ لأن هذا كان من شعار الرافضة. ولهذا ذهب أبو علي بن أبي هريرة أحد الأئمة من أصحاب الشافعي إلى ترك الجهر بها قال: لأن الجهر بها صار من شعار المخالفين كما ذهب من ذهب من أصحاب الشافعي إلى تسنمة القبور؛ لأن التسطيح صار من شعار أهل البدع. فحديث أبي هريرة دليل على أنها ليست من القراءة الواجبة ولا من القراءة المقسومة وهو على نفي القراءة مطلقا أظهر من دلالة حديث نعيم المجمر على الجهر؛ فإن في حديث نعيم المجمر أنه قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ أم القرآن وهذا دليل على أنها ليست من القرآن عندهم وحديث أبي هريرة الذي في مسلم يصدق ذلك فإنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج؛ فهي خداج فقال له رجل: يا أبا هريرة - أنا أحيانا أكون وراء الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين} الحديث.
وهذا صريح في أن أم القرآن التي يجب قراءتها في الصلاة عند أبي هريرة القراءة المقسومة التي ذكرها مع دلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ وذلك ينفي وجوب قراءتها عند أبي هريرة فيكون أبو هريرة وإن كان قرأ بها؛ قرأ بها استحبابا لا وجوبا. والجهر بها مع كونها ليست من الفاتحة قول لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة؛ وغيرهم من الأئمة المشهورين؛ ولا أعلم به قائلا؛ لكن هي من الفاتحة وإيجاب قراءتها مع المخافتة بها قول طائفة من أهل الحديث؛ وهو إحدى الروايتين عن أحمد؛ وإذا كان أبو هريرة إنما قرأها استحبابا لا وجوبا؛ وعلى هذا القول لا تشرع المداومة على الجهر بها؛ كان جهره بها أولى أن يثبت دليلا على أنه ليعرفهم استحباب قراءتها؛ وأن قراءتها مشروعة؛ كما جهر عمر بالاستفتاح:
وكما جهر ابن عباس بقراءة فاتحة الكتاب على الجنازة؛ ونحو ذلك؛ ويكون أبو هريرة قصد تعريفهم أنها تقرأ في الجملة؛ وإن لم يجهر بها وحينئذ فلا يكون هذا مخالفا لحديث أنس الذي في الصحيح؛ وحديث عائشة الذي في الصحيح؛ وغير ذلك.
هذا إن كان الحديث دالا على أنه جهر بها؛ فإن لفظه ليس صريحا بذلك من وجهين:أحدهما أنه قال قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ أم القرآن ولفظ القراءة محتمل أن يكون قرأها سرا ويكون نعيم علم ذلك بقربه منه؛ فإن قراءة السر إذا قويت يسمعها من يلي القارئ ويمكن أن أبا هريرة أخبره بقراءتها وقد أخبر أبو قتادة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخيرتين بفاتحة الكتاب وهي قراءة سر كيف وقد بين في الحديث أنها ليست من الفاتحة فأراد بذلك وجوب قراءتها فضلا عن كون الجهر بها سنة فإن النزاع في الثاني أضعف. (الثاني أنه لم يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها قبل أم الكتاب وإنما قال في آخر الصلاة: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث أنه أمن وكبر في الخفض والرفع وهذا ونحوه مما كان يتركه الأئمة فيكون أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الوجوه التي فيها ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوه هم ولا يلزم إذا كان أشبههم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون صلاته مثل صلاته من كل وجه. ولعل قراءتها مع الجهر أمثل من ترك قراءتها بالكلية عند أبي هريرة؛ وكان أولئك لا يقرءونها أصلا؛ فيكون قراءتها مع الجهر أشبه عنده بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان غيره ينازع في ذلك.
وأما حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه؛ فيعلم أولا:
أن تصحيح الحاكم وحده وتوثيقه وحده لا يوثق به فيما دون هذا؛ فكيف في مثل هذا الموضع الذي يعارض فيه بتوثيق الحاكم. وقد اتفق أهل العلم في الصحيح على خلافه ومن له أدنى خبرة في الحديث وأهله لا يعارض بتوثيق الحاكم ما قد ثبت في الصحيح خلافه؛ فإن أهل العلم متفقون على أن الحاكم فيه من التساهل والتسامح في (باب التصحيح حتى إن تصحيحه دون تصحيح الترمذي والدارقطني وأمثالهما بلا نزاع فكيف بتصحيح البخاري ومسلم.
بل تصحيحه دون تصحيح أبي بكر ابن خزيمة وأبي حاتم بن حبان البستي وأمثالهما بل تصحيح الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاره خير من تصحيح الحاكم فكتابه في هذا الباب خير من كتاب الحاكم بلا ريب عند من يعرف الحديث وتحسين الترمذي أحيانا يكون مثل تصحيحه أو أرجح وكثيرا ما يصحح الحاكم أحاديث يجزم بأنها موضوعة لا أصل لها فهذا هذا.
والمعروف عن سليمان التيمي وابنه معتمر أنهما كانا يجهران بالبسملة لكن نقله عن أنس هو المنكر كيف وأصحاب أنس الثقات الأثبات يروون عنه خلاف ذلك حتى إن شعبة سأل قتادة عن هذا قال: أنت سمعت أنسا يذكر ذلك؟ قال: نعم وأخبره باللفظ الصريح المنافي للجهر.
يتبع
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (7)
من صــ 260 الى صــ 289
ونقل شعبة عن قتادة ما سمعه من أنس في غاية الصحة وأرفع درجات الصحيح عند أهله إذ قتادة أحفظ أهل زمانه أو من أحفظهم وكذلك إتقان شعبة وضبطه هو الغاية عندهم وهذا مما يرد به قول من زعم أن بعض الناس روى حديث أنس بالمعنى الذي فهمه وأنه لم يكن في لفظه إلا قوله: يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين ففهم بعض الرواة من ذلك نفي قراءتها فرواه من عنده فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو أبعد الناس علما برواة الحديث وألفاظ روايتهم الصريحة التي لا تقبل التأويل وبأنهم من العدالة والضبط في الغاية التي لا تحتمل المجازفة أو أنه مكابر صاحب هوى يتبع هواه ويدع موجب العلم والدليل.
ثم يقال: هب أن المعتمر أخذ صلاته عن أبيه وأبوه عن أنس وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا مجمل ومحتمل؛ إذ ليس يمكن أن يثبت كل حكم جزئي من أحكام الصلاة بمثل هذا الإسناد المجمل؛ لأنه من المعلوم أن مع طول الزمان وتعدد الإسناد لا تضبط الجزئيات في أفعال كثيرة متفرقة حق الضبط؛ إلا بنقل مفصل لا مجمل وإلا فمن المعلوم أن مثل منصور بن المعتمر وحماد بن أبي سليمان والأعمش وغيرهم أخذوا صلاتهم عن إبراهيم النخعي وذويه وإبراهيم أخذها عن علقمة والأسود ونحوها وهم أخذوها عن ابن مسعود وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الإسناد أجل رجالا من ذلك الإسناد وهؤلاء أخذ الصلاة عنهم أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وأمثالهم من فقهاء الكوفة فهل يجوز أن يجعل نفس صلاة هؤلاء هي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الإسناد حتى في موارد النزاع فإن جاز هذا كان هؤلاء لا يجهرون ولا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الافتتاح ويسفرون بالفجر وأنواع ذلك مما عليه الكوفيون.
ونطير هذه احتجاج بعضهم على الجهر بأن أهل مكة من أصحاب ابن جريج كانوا يجهرون وأنهم أخذوا صلاتهم عن ابن جريج وهو أخذها عن عطاء وعطاء عن ابن الزبير وابن الزبير عن أبي بكر الصديق وأبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن الشافعي رضي الله عنه أول ما أخذ الفقه في هذه المسألة وغيرها عن أصحاب ابن جريج. كسعيد بن سالم القداح ومسلم بن خالد الزنجي لكن مثل هذه الأسانيد المجملة لا يثبت بها أحكام مفصلة تنازع الناس فيها. ولئن جاز ذلك ليكونن مالك أرجح من هؤلاء فإنه لا يستريب عاقل أن الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين كانوا بالمدينة أجل قدرا وأعلم بالسنة وأتبع لها ممن كان بالكوفة ومكة والبصرة. وقد احتج أصحاب مالك على ترك الجهر بالعمل المستمر بالمدينة فقالوا:
هذا المحراب الذي كان يصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم الأئمة وهلم جرا. ونقلهم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل متواتر كلهم شهدوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلاة خلفائه وكانوا أشد محافظة على السنة وأشد إنكارا على من خالفها من غيرهم فيمتنع أن يغيروا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا العمل يقترن به عمل الخلفاء كلهم من بني أمية وبني العباس فإنهم كلهم لم يكونوا يجهرون وليس لجميع هؤلاء غرض بالإطباق على تغيير السنة في مثل هذا ولا يمكن أن الأئمة كلهم أقرتهم على خلاف السنة بل نحن نعلم ضرورة أن خلفاء المسلمين وملوكهم لا يبدلون سنة لا تتعلق بأمر ملكهم وما يتعلق بذلك من الأهواء وليست هذه المسألة مما للملوك فيها غرض. وهذه الحجة إذا احتج بها المحتج لم تكن دون تلك بل نحن نعلم أنها أقوى منها فإنه لا يشك مسلم أن الجزم بكون صلاة التابعين بالمدينة أشبه بصلاة الصحابة بها والصحابة بها أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب من الجزم بكون صلاة شخص أو شخصين أشبه بصلاة آخر حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لم يذهب ذاهب قط إلى أن عمل غير أهل المدينة أو إجماعهم حجة وإنما تنوزع في عمل أهل المدينة وإجماعهم: هل هو حجة أم لا؟ نزاعا لا يقصر عن عمل غيرهم وإجماع غيرهم إن لم يزد عليه.
فتبين دفع ذلك العمل عن سليمان التيمي وابن جريج وأمثالهما بعمل أهل المدينة لو لم يكن المنقول نقلا صحيحا صريحا عن أنس يخالف ذلك فكيف والأمر في رواية أنس أظهر وأشهر وأصح وأثبت من أن يعارض بهذا الحديث المجمل الذي لم يثبت وإنما صححه مثل الحاكم وأمثاله.
ومثل هذا أيضا يظهر ضعف حديث معاوية الذي فيه أنه صلى بالصحابة بالمدينة فأنكروا عليه ترك قراءة البسملة في أول الفاتحة وأول السورة حتى عاد يعمل ذلك فإن هذا الحديث وإن كان الدارقطني قال:
إسناده ثقات وقال الخطيب:
هو أجود ما يعتمد عليه في هذه المسألة كما نقل ذلك عنه نصر المقدسي فهذا الحديث يعلم ضعفه من وجوه:
أحدها أنه يروي عن أنس أيضا الرواية الصحيحة الصريحة المستفيضة الذي يرد هذا.
الثاني أن مدار ذلك الحديث على عبد الله بن عثمان بن خثيم وقد ضعفه طائفة وقد اضطربوا في روايته إسنادا ومتنا: كما تقدم. وذلك يبين أنه غير محفوظ.
الثالث أنه ليس فيه إسناد متصل السماع؛ بل فيه من الضعف والاضطراب ما لا يؤمن معه الانقطاع أو سوء الحفظ.
الرابع أن أنسا كان مقيما بالبصرة ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحد علمناه أن أنسا كان معه بل الظاهر أنه لم يكن معه.
الخامس أن هذه القضية بتقدير وقوعها كانت بالمدينة والراوي لها أنس وكان بالبصرة وهي مما تتوافر الهمم والدواعي على نقلها. ومن المعلوم أن أصحاب أنس المعروفين بصحبته وأهل المدينة لم ينقل أحد منهم ذلك؛ بل المنقول عن أنس وأهل المدينة نقيض ذلك والناقل ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء.
(السادس أن معاوية لو كان رجع إلى الجهر في أول الفاتحة والسورة لكان هذا أيضا معروفا من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه ولم ينقل هذا أحد عن معاوية؛ بل الشاميون كلهم: خلفاؤهم وعلماؤهم كان مذهبهم ترك الجهر بها؛ بل الأوزاعي مذهبه فيها مذهب مالك لا يقرؤها سرا ولا جهرا. فهذه الوجوه وأمثالها إذا تدبرها العالم قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له وإما مغير عن وجهه وأن الذي حدث به بلغه من وجه ليس بصحيح فحصلت الآفة من انقطاع إسناده. وقيل: هذا الحديث لو كان تقوم به الحجة لكان شاذا؛ لأنه خلاف ما رواه الناس الثقات الأثبات عن أنس وعن أهل المدينة وأهل الشام ومن شرط الحديث الثابت أن لا يكون شاذا ولا معللا وهذا شاذ معلل إن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته.
والعمدة التي اعتمدها المصنفون في الجهر بها ووجوب قراءتها إنما هو كتابتها في المصحف بقلم القرآن وأن الصحابة جردوا القرآن عما ليس منه. والذين نازعوهم دفعوا هذه الحجة بلا حق كقولهم:
القرآن لا يثبت إلا بقاطع ولو كان هذا قاطعا لكفر مخالفه.
وقد سلك أبو بكر ابن الطيب الباقلاني وغيره هذا المسلك وادعوا أنهم يقطعون بخطأ الشافعي في كونه جعل البسملة من القرآن معتمدين على هذه الحجة وأنه لا يجوز إثبات القرآن إلا بالتواتر ولا تواتر هنا فيجب القطع بنفي كونها من القرآن.
والتحقيق: أن هذه الحجة مقابلة بمثلها فيقال لهم: بل يقطع بكونها من القرآن حيث كتبت كما قطعتم بنفي كونها ليست منه. ومثل هذا النقل المتواتر عن الصحابة بأن ما بين اللوحين قرآن فإن التفريق بين آية وآية يرفع الثقة بكون القرآن المكتوب بين لوحي المصحف كلام الله ونحن نعلم بالاضطرار أن الصحابة الذين كتبوا المصاحف نقلوا إلينا أن ما كتبوه بين لوحي المصحف كلام الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم لم يكتبوا فيه ما ليس من كلام الله.
فإن قال المنازع: إن قطعتم بأن البسملة من القرآن حيث كتبت فكفروا النافي قيل لهم: وهذا يعارض حكمه إذا قطعتم بنفي كونها من القرآن فكفروا منازعكم.
وقد اتفقت الأمة على نفي التكفير في هذا الباب مع دعوى كثير من الطائفتين القطع بمذهبه وذلك لأنه ليس كل ما كان قطعيا عند شخص يجب أن يكون قطعيا عند غيره وليس كل ما ادعت طائفة أنه قطعي عندها يجب أن يكون قطعيا في نفس الأمر؛ بل قد يقع الغلط في دعوى المدعي القطع في غير محل القطع كما يغلط في سمعه وفهمه ونقله وغير ذلك من أحواله كما قد يغلط الحس الظاهر في مواضع وحينئذ فيقال:
الأقوال في كونها من القرآن ثلاثة: طرفان ووسط.
الطرف الأول: قول من يقول إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل كما قال مالك وطائفة من الحنفية وكما قاله بعض أصحاب أحمد. مدعيا أنه مذهبه أو ناقلا لذلك رواية عنه.
والطرف المقابل له: قول من يقول إنها من كل سورة آية أو بعض آية كما هو المشهور من مذهب الشافعي ومن وافقه وقد نقل عن الشافعي أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة وإنما يستفتح بها في السور تبركا بها وأما كونها من الفاتحة فلم يثبت عنه فيه دليل.
والقول الوسط: أنها من القرآن حيث كتبت وأنها مع ذلك ليست من السور بل كتبت آية في أول كل سورة وكذلك تتلى آية منفردة في أول كل سورة كما تلاها النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة {إنا أعطيناك الكوثر} كما ثبت ذلك في صحيح مسلم وكما في قوله: {إن سورة من القرآن هي ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي سورة {تبارك الذي بيده الملك} رواه أهل السنن وحسنه الترمذي وهذا القول قول عبد الله بن المبارك وهو المنصوص الصريح عن أحمد بن حنبل.
وذكر أبو بكر الرازي أن هذا مقتضى مذهب أبي حنيفة عنده وهو قول سائر من حقق القول في هذه المسألة وتوسط فيها جمع من مقتضى الأدلة وكتابتها سطرا مفصولا عن السورة ويؤيد ذلك قول ابن عباس: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم} رواه أبو داود
وهؤلاء لهم في الفاتحة قولان هما روايتان عن أحمد.
أحدهما أنها من الفاتحة دون غيرها تجب قراءتها حيث تجب قراءة الفاتحة.
والثاني وهو الأصح لا فرق به بين الفاتحة وغيرها في ذلك وأن قراءتها في أول الفاتحة كقراءتها في أول السور والأحاديث الصحيحة توافق هذا القول لا تخالفه.
وحينئذ الخلاف أيضا في قراءتها في الصلاة ثلاثة أقوال:
أحدها أنها واجبة وجوب الفاتحة كمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وطائفة من أهل الحديث بناء على أنها من الفاتحة.
والثاني قول من يقول: قراءتها مكروهة سرا وجهرا كما هو المشهور من مذهب مالك.
والقول الثالث أن قراءتها جائزة؛ بل مستحبة وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه.
وأكثر أهل الحديث وطائفة من هؤلاء يسوي بين قراءتها وترك قراءتها ويخير بين الأمرين معتقدين أن هذا على إحدى القراءتين وذلك على القراءة الأخرى. ثم مع قراءتها هل يسن الجهر أو لا يسن على ثلاثة أقوال:
قيل: يسن الجهر بها كقول الشافعي ومن وافقه. قيل: لا يسن الجهر بها كما هو قول الجمهور من أهل الحديث والرأي وفقهاء الأمصار. وقيل: يخير بينهما.
كما يروى عن إسحاق وهو قول ابن حزم وغيره. ومع هذا فالصواب أن ما لا يجهر به قد يشرع الجهر به لمصلحة راجحة فيشرع للإمام أحيانا لمثل تعليم المأمومين ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحيانا ويسوغ أيضا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفا من التنفير عما يصلح كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم؛ لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية وخشي تنفيرهم بذلك ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم.
وقال ابن مسعود - لما أكمل الصلاة خلف عثمان وأنكر عليه فقيل له في ذلك فقال - الخلاف شر؛ ولهذا نص الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة وفي وصل الوتر وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول مراعاة ائتلاف المأمومين أو لتعريفهم السنة وأمثال ذلك والله أعلم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (8)
من صــ 288 الى صــ 292
وَسُئِلَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟.
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ} وَتَنَازَعُوا فِيهَا فِي أَوَائِلِ السُّورِ حَيْثُ كُتِبَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا:
أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا كُتِبَتْ تَبَرُّكًا بِهَا وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَيُحْكَى هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا فِي مَذْهَبِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ إمَّا آيَةٌ وَإِمَّا بَعْضُ آيَةٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد ابْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِمَا.
وَذَكَرَ الرَّازِي أَنَّهُ مُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَهُ. وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ.
فَإِنَّ كِتَابَتَهَا فِي الْمُصْحَفِ بِقَلَمِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَكِتَابَتُهَا مُفْرِدَةٌ مَفْصُولَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثِينَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلِ حَتَّى غُفِرَ لَهُ.
وَهِيَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وَهَذَا لَا يُنَافِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغْفَى إغْفَاءَة فَقَالَ: لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ. وَقَرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّهَا مِنْ السُّورَةِ بَلْ فِيهِ أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَهَذَا سُنَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْرَأُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ السُّورَةِ. وَمِثْلُهُ {حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِيهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ لِلْفَصْلِ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ثَلَاثُونَ آيَةً بِدُونِ الْبَسْمَلَةِ؛ وَلِأَنَّ الْعَادِّينَ لِآيَاتِ الْقُرْآنِ لَمْ يَعُدَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْبَسْمَلَةَ مِنْ السُّورَةِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِي الْفَاتِحَةِ: هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد:أَحَدُه مَا:
أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَهَذَا مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَظُنُّهُ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِالْآثَارِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ وَهَؤُلَاءِ يُوجِبُونَ قِرَاءَتَهَا وَإِنْ لَمْ يَجْهَرُوا بِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ غَيْرِهَا وَهَذَا أَظْهَرُ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لَهُ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ:
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يَقُولُ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. يَقُولُ اللَّهُ: فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلَى آخِرِهَا.
يَقُولُ اللَّهُ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ}. فَلَوْ كَانَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَذَكَرَهَا كَمَا ذَكَرَ غَيْرَهَا. وَقَدْ رُوِيَ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ فَذَكَرَهُ مِثْلُ الثَّعْلَبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ وَمِثْلُ مَنْ جَمَعَ أَحَادِيثَ الْجَهْرِ وَأَنَّهَا كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ أَوْ مَوْضُوعَةٌ. وَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَمَا كَانَ لِلرَّبِّ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ وَلِلْعَبْدِ ثَلَاثٌ وَنِصْفٌ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْقِسْمَةَ وَقَعَتْ عَلَى الْآيَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ: " فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي ".
وَهَؤُلَاءِ إشَارَةٌ إلَى جَمْعٍ فَعُلِمَ أَنَّ مِنْ قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلَى آخِرِهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَعُدُّ الْبَسْمَلَةَ آيَةً مِنْهَا وَمَنْ عَدَّهَا آيَةً مِنْهَا جَعَلَ هَذَا آيَتَيْنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَاتِحَةَ سُورَةٌ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَالْبَسْمَلَةَ مَكْتُوبَةٌ فِي أَوَّلِهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ السُّورِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَتُلِيَتْ فِي الصَّلَاةِ جَهْرًا كَمَا تُتْلَى سَائِرُ آيَاتِ السُّورَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى الْجَهْرَ بِهَا كَالشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّي نَ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ يُجْهَرُ بِهَا:
كَسَائِرِ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ وَاعْتَمَدَ عَلَى آثَارٍ مَنْقُولَةٍ بَعْضُهَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَبَعْضُهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا الْمَأْثُورُ مِنْ الصَّحَابَةِ:
كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ صَحِيحٌ وَفِيهِ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ حُفَّاظُ الْحَدِيثِ كالدارقطني وَغَيْرِهِ.
وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجهر بها حديثا واحدا؛ وإنما يروي أمثال هذه الأحاديث من لا يميز من أهل التفسير:
كالثعلبي ونحوه وكبعض من صنف في هذا الباب من أهل الحديث كما يذكره طائفة من الفقهاء في كتب الفقه وقد حكى القول بالجهر عن أحمد وغيره بناء على إحدى الروايتين عنه من أنها من الفاتحة فيجهر بها كما يجهر بسائر الفاتحة وليس هذا مذهبه بل يخافت بها عنده. وإن قال هي من الفاتحة لكن يجهر بها عنده لمصلحة راجحة مثل أن يكون المصلون لا يقرءونها بحال فيجهر بها ليعلمهم أن قراءتها سنة كما جهر ابن عباس بالفاتحة على الجنازة وكما جهر عمر بن الخطاب بالاستفتاح وكما نقل عن أبي هريرة أنه قرأ بها ثم قرأ بأم الكتاب وقال: أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه النسائي وهو أجود ما احتجوا به.
وكذلك فسر بعض أصحاب أحمد خلافه أنه كان يجهر بها إذا كان المأمومون ينكرون على من لم يجهر بها وأمثال ذلك فإن الجهر بها والمخافتة سنة فلو جهر بها المخافت صحت صلاته بلا ريب وجمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد والأوزاعي لا يرون الجهر؛ لكن منهم من يقرؤها سرا: كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما ومنهم من لا يقرؤها سرا ولا جهرا كمالك.
وحجة الجمهور ما ثبت في الصحيح من {أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم وفي لفظ لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها} والله أعلم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (9)
من صــ 293 الى صــ 310
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
فصل: في " الاسم والمسمى "
هل هو هو أو غيره؟ أو لا يقال هو هو ولا يقال هو غيره؟ أو هو له؟ أو يفصل في ذلك؟. فإن الناس قد تنازعوا في ذلك والنزاع اشتهر في ذلك بعد الأئمة بعد أحمد وغيره والذي كان معروفا عند " أئمة السنة " أحمد وغيره: الإنكار على " الجهمية " الذين يقولون: أسماء الله مخلوقة.
فيقولون: الاسم غير المسمى وأسماء الله غيره وما كان غيره فهو مخلوق؛ وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلظوا فيهم القول؛ لأن أسماء الله من كلامه وكلام الله غير مخلوق؛ بل هو المتكلم به وهو المسمي لنفسه بما فيه من الأسماء.
و " الجهمية " يقولون: كلامه مخلوق وأسماؤه مخلوقة؛ وهو نفسه لم يتكلم بكلام يقوم بذاته ولا سمى نفسه باسم هو المتكلم به؛ بل قد يقولون: إنه تكلم به وسمى نفسه بهذه الأسماء بمعنى أنه خلقها في غيره؛ لا بمعنى أنه نفسه تكلم بها الكلام القائم به. فالقول في أسمائه هو نوع من القول في كلامه.
والذين وافقوا " السلف " على أن كلامه غير مخلوق وأسماءه غير مخلوقة يقولون: الكلام والأسماء من صفات ذاته؛ لكن هل يتكلم بمشيئته وقدرته. ويسمي نفسه بمشيئته وقدرته؟ هذا فيه قولان: النفي هو قول " ابن كلاب " ومن وافقه. والإثبات قول " أئمة أهل الحديث والسنة " وكثير من طوائف أهل الكلام كالهشامية والكرامية وغيرهم كما قد بسط هذا في مواضع.
(والمقصود هنا أن المعروف عن " أئمة السنة " إنكارهم على من قال أسماء الله مخلوقة وكان الذين يطلقون القول بأن الاسم غير المسمى هذا مرادهم؛ فلهذا يروى عن الشافعي والأصمعي وغيرهما أنه قال:
إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة؛ ولم يعرف أيضا عن أحد من السلف أنه قال الاسم هو المسمى؛ بل هذا قاله كثير من المنتسبين إلى السنة بعد الأئمة وأنكره أكثر أهل السنة عليهم. ثم منهم من أمسك عن القول في هذه المسألة نفيا وإثباتا؛ إذ كان كل من الإطلاقين بدعة كما ذكره الخلال عن إبراهيم الحربي وغيره؛ وكما ذكره أبو جعفر الطبري في الجزء الذي سماه " صريح السنة " ذكر مذهب أهل السنة المشهور في القرآن والرؤية والإيمان والقدر والصحابة وغير ذلك. وذكر أن " مسألة اللفظ " ليس لأحد من المتقدمين فيها كلام؛ كما قال لم نجد فيها كلاما عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا إلا عمن في كلامه الشفاء والغناء ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى " أبو عبد الله أحمد بن حنبل " فإنه كان يقول: اللفظية جهمية.
ويقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. وذكر أن القول في الاسم والمسمى من الحماقات المبتدعة التي لا يعرف فيها قول لأحد من الأئمة وأن حسب الإنسان أن ينتهي إلى قوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى} وهذا هو القول بأن الاسم للمسمى. وهذا الإطلاق اختيار أكثر المنتسبين إلى السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيره.
والذين قالوا الاسم هو المسمى كثير من المنتسبين إلى السنة:
مثل أبي بكر عبد العزيز وأبي القاسم الطبري واللالكائي وأبي محمد البغوي صاحب " شرح السنة " وغيرهم؛ وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري اختاره أبو بكر بن فورك وغيره. و (القول الثاني وهو المشهور عن أبي الحسن أن الأسماء ثلاثة أقسام تارة يكون الاسم هو المسمى كاسم الموجود. و " تارة " يكون غير المسمى كاسم الخالق. و " تارة " لا يكون هو ولا غيره كاسم العليم والقدير.
وهؤلاء الذين قالوا: إن الاسم هو المسمى لم يريدوا بذلك أن اللفظ المؤلف من الحروف هو نفس الشخص المسمى به؛ فإن هذا لا يقوله عاقل.
ولهذا يقال: لو كان الاسم هو المسمى لكان من قال " نار " احترق لسانه. ومن الناس من يظن أن هذا مرادهم ويشنع عليهم وهذا غلط عليهم؛ بل هؤلاء يقولون: اللفظ هو التسمية والاسم ليس هو اللفظ؛ بل هو المراد باللفظ؛ فإنك إذا قلت: يا زيد يا عمر فليس مرادك دعاء اللفظ؛ بل مرادك دعاء المسمى باللفظ وذكرت الاسم فصار المراد بالاسم هو المسمى.
وهذا لا ريب فيه إذا أخبر عن الأشياء فذكرت أسماؤها فقيل: {محمد رسول الله} {وخاتم النبيين} {وكلم الله موسى تكليما} فليس المراد أن هذا اللفظ هو الرسول وهو الذي كلمه الله. وكذلك إذا قيل: جاء زيد وأشهد على عمرو وفلان عدل ونحو ذلك فإنما تذكر الأسماء والمراد بها المسميات وهذا هو مقصود الكلام.
فلما كانت أسماء الأشياء إذا ذكرت في الكلام المؤلف فإنما المقصود هو المسميات: قال هؤلاء: " الاسم هو المسمى " وجعلوا اللفظ الذي هو الاسم عند الناس هو التسمية كما قال البغوي: والاسم هو المسمى وعينه وذاته. قال الله تعالى: {إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} أخبر أن اسمه يحيى. ثم نادى الاسم فقال {يا يحيى} وقال: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها} وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسميات. وقال: {سبح اسم ربك الأعلى} و {تبارك اسم ربك}.
قال: ثم يقال " للتسمية " أيضا اسم. واستعماله في التسمية أكثر من المسمى. وقال أبو بكر بن فورك: اختلف الناس في حقيقة " الاسم " ولأهل اللغة في ذلك كلام ولأهل الحقائق فيه بيان وبين المتكلمين فيه خلاف. فأما " أهل اللغة " فيقولون: الاسم حروف منظومة دالة على معنى مفرد ومنهم من يقول إنه قول يدل على مذكور يضاف إليه؛ يعني الحديث والخبر.
قال: وأما أهل الحقائق فقد اختلفوا أيضا في معنى ذلك فمنهم من قال: اسم الشيء هو ذاته وعينه والتسمية عبارة عنه ودلالة عليه فيسمى اسما توسعا.
وقالت الجهمية والمعتزلة. " الأسماء والصفات " هي الأقوال الدالة على المسميات وهو قريب مما قاله بعض أهل اللغة. والثالث: لا هو هو ولا هو غيره؛ كالعلم والعالم ومنهم من قال اسم الشيء هو صفته ووصفه.
قال: والذي هو الحق عندنا قول من قال: اسم الشيء هو عينه وذاته واسم الله هو الله وتقدير قول القائل: بسم الله أفعل أي بالله أفعل وإن اسمه هو هو. قال:
وإلى هذا القول ذهب " أبو عبيد القاسم بن سلام " واستدل بقول لبيد. إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر والمعنى ثم السلام عليكما؛ فإن اسم السلام هو السلام.
قال: واحتج أصحابنا في ذلك بقوله تبارك وتعالى: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} وهذا هو صفة للمسمى لا صفة لما هو قول وكلام وبقوله: {سبح اسم ربك} فإن المسبح هو المسمى وهو الله وبقوله سبحانه: {إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} ثم قال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} فنادى الاسم وهو المسمى.
وبأن الفقهاء أجمعوا على أن الحالف باسم الله كالحالف بالله في بيان أنه تنعقد اليمين بكل واحد منهما؛ فلو كان اسم الله غير الله لكان الحالف بغير الله لا تنعقد يمينه؛ فلما انعقد ولزم بالحنث فيها كفارة دل على أن اسمه هو. ويدل عليه أن القائل إذا قال:
ما اسم معبودكم؟ قلنا الله. فإذا قال:وما معبودكم؟ قلنا الله فنجيب في الاسم بما نجيب به في المعبود؛ فدل على أن اسم المعبود هو المعبود لا غير. وبقوله.
{ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} وإنما عبدوا المسميات لا الأقوال التي هي أعراض لا تعبد. قال: فإن قيل: أليس يقال: الله إله واحد وله أسماء كثيرة فكيف يكون الواحد كثيرا؟ قيل إذا أطلق " أسماء " فالمراد به مسميات المسمين والشيء قد يسمى باسم دلالته كما يسمى المقدور قدرة.
قال: فعلى هذا يكون معنى قوله: باسم الله: أي بالله والباء معناها الاستعانة وإظهار الحاجة وتقديره: بك أستعين وإليك أحتاج وقيل تقدير الكلمة: أبتدئ أو أبدأ باسمك فيما أقول وأفعل.
قلت: لو اقتصروا على أن أسماء الشيء إذا ذكرت في الكلام فالمراد بها المسميات - كما ذكروه في قوله:
{يا يحيى} ونحو ذلك - لكان ذلك معنى واضحا لا ينازعه فيه من فهمه لكن لم يقتصروا على ذلك؛ ولهذا أنكر قولهم جمهور الناس من أهل السنة وغيرهم؛ لما في قولهم من الأمور الباطلة مثل دعواهم أن لفظ اسم الذي هو " اس م " معناه ذات الشيء ونفسه وأن الأسماء - التي هي الأسماء - مثل زيد وعمرو هي التسميات؛ ليست هي أسماء المسميات وكلاهما باطل مخالف لما يعلمه جميع الناس من جميع الأمم ولما يقولونه. فإنهم يقولون:
إن زيدا وعمرا ونحو ذلك هي أسماء الناس والتسمية جعل الشيء اسما لغيره هي مصدر سميته تسمية إذا جعلت له اسما و " الاسم " هو القول الدال على المسمى ليس الاسم الذي هو لفظ اسم هو المسمى؛ بل قد يراد به المسمى؛ لأنه حكم عليه ودليل عليه.
وأيضا: فهم تكلفوا هذا التكليف؛ ليقولوا إن اسم الله غير مخلوق ومرادهم أن الله غير مخلوق وهذا مما لا تنازع فيه الجهمية والمعتزلة؛ فإن أولئك ما قالوا الأسماء مخلوقة إلا لما قال هؤلاء هي التسميات فوافقوا الجهمية والمعتزلة في المعنى ووافقوا أهل السنة في اللفظ. ولكن أرادوا به ما لم يسبقهم أحد إلى القول به من أن لفظ اسم وهو " ألف سين ميم " معناه إذا أطلق هو الذات المسماة؛ بل معنى هذا اللفظ هي الأقوال التي هي أسماء الأشياء مثل زيد وعمرو وعالم وجاهل. فلفظ الاسم لا يدل على أن هذه الأسماء هي مسماه. ثم قد عرف أنه إذا أطلق الاسم في الكلام المنظوم فالمراد به المسمى؛ فلهذا يقال:
ما اسم هذا؟ فيقال: زيد. فيجاب باللفظ ولا يقال: ما اسم هذا فيقال هو هو؛ وما ذكروه من الشواهد حجة عليهم. أما قوله: {إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا} ثم قال:
{يا يحيى} فالاسم الذي هو يحيى هو هذا اللفظ المؤلف من (يا وحا ويا هذا هو اسمه ليس اسمه هو ذاته؛ بل هذا مكابرة. ثم لما ناداه فقال: {يا يحيى}.
فالمقصود المراد بنداء الاسم هو نداء المسمى؛ لم يقصد نداء اللفظ لكن المتكلم لا يمكنه نداء الشخص المنادى إلا بذكر اسمه وندائه؛ فيعرف حينئذ أن قصده نداء الشخص المسمى وهذا من فائدة اللغات وقد يدعى بالإشارة وليست الحركة هي ذاته ولكن هي دليل على ذاته.
وأما قوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} ففيها قراءتان: الأكثرون يقرءون {ذي الجلال} فالرب المسمى: هو ذو الجلال والإكرام. وقرأ ابن عامر: {ذو الجلال والإكرام} وكذلك هي في المصحف الشامي؛ وفي مصاحف أهل الحجاز والعراق هي بالياء.
وأما قوله {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} فهي بالواو باتفاقهم قال ابن الأنباري وغيره {تبارك} تفاعل من البركة والمعنى أن البركة تكتسب وتنال بذكر اسمه؛ فلو كان لفظ الاسم معناه المسمى لكان يكفي قوله تبارك ربك فإن نفس الاسم عندهم هو نفس الرب؛ فكان هذا تكريرا.
وقد قال بعض الناس: إن ذكر الاسم هنا صلة والمراد تبارك ربك؛ ليس المراد الإخبار عن اسمه بأنه تبارك؛ وهذا غلط فإنه على هذا يكون قول المصلي تبارك اسمك أي تباركت أنت ونفس أسماء الرب لا بركة فيها. ومعلوم أن نفس أسمائه مباركة وبركتها من جهة دلالتها على المسمى. ولهذا فرقت الشريعة بين ما يذكر اسم الله عليه وما لا يذكر اسم الله عليه في مثل قوله: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} وقوله: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} وقوله {واذكروا اسم الله عليه} وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم " {وإن خالط كلبك كلاب أخرى فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره} ".
وأما قوله تعالى {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم}. فليس المراد كما ذكروه: أنكم تعبدون الأوثان المسماة فإن هذا هم معترفون به.
والرب تعالى نفى ما كانوا يعتقدونه وأثبت ضده ولكن المراد أنهم سموها آلهة واعتقدوا ثبوت الإلهية فيها؛ وليس فيها شيء من الإلهية فإذا عبدوها معتقدين إلهيتها مسمين لها آلهة لم يكونوا قد عبدوا إلا أسماء ابتدعوها هم ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأن الله لم يأمر بعبادة هذه ولا جعلها آلهة كما قال:
{واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} فتكون عبادتهم لما تصوروه في أنفسهم من معنى الإلهية وعبروا عنه بألسنتهم وذلك أمر موجود في أذهانهم وألسنتهم لا حقيقة له في الخارج؛ فما عبدوا إلا هذه الأسماء التي تصوروها في أذهانهم وعبروا عن معانيها بألسنتهم؛ وهم لم يقصدوا عبادة الصنم إلا لكونه إلها عندهم وإلهيته هي في أنفسهم؛ لا في الخارج فما عبدوا في الحقيقة إلا ذلك الخيال الفاسد الذي عبر عنه.
ولهذا قال في الآية الأخرى:
{وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول} يقول: سموهم بالأسماء التي يستحقونها هل هي خالقة رازقة محيية مميتة أم هي مخلوقة لا تملك ضرا ولا نفعا؟؟ فإذا سموها فوصفوها بما تستحقه من الصفات تبين ضلالهم. قال تعالى: {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} وما لا يعلم أنه موجود فهو باطل لا حقيقة له ولو كان موجودا لعلمه موجودا {أم بظاهر من القول} أم بقول ظاهر باللسان لا حقيقة له في القلب؛ بل هو كذب وبهتان. وأما قولهم: إن الاسم يراد به " التسمية " وهو القول: فهذا الذي جعلوه هم تسمية هو الاسم عند الناس جميعهم والتسمية جعله اسما والإخبار بأنه اسم ونحو ذلك وقد سلموا أن لفظ الاسم أكثر ما يراد به ذلك وادعوا أن لفظ الاسم الذي هو " ألف سين ميم ":
هو في الأصل ذات الشيء ولكن التسمية سميت اسما لدلالتها على ذات الشيء: تسمية للدال باسم المدلول ومثلوه بلفظ القدرة؛ وليس الأمر كذلك؛ بل التسمية مصدر سمى يسمي تسمية والتسمية نطق بالاسم وتكلم به ليست هي الاسم نفسه وأسماء الأشياء هي الألفاظ الدالة عليها ليست هي أعيان الأشياء.
يتبع
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (10)
من صــ 293 الى صــ 310
وتسمية المقدور قدرة هو من باب تسمية المفعول باسم المصدر وهذا كثير شائع في اللغة كقولهم للمخلوق خلق وقولهم درهم ضرب الأمير أي مضروب الأمير ونظائره كثيرة.
وابن عطية سلك مسلك هؤلاء وقال: الاسم الذي هو " ألف وسين وميم " يأتي في مواضع من الكلام الفصيح يراد به المسمى ويأتي في مواضع يراد به التسمية نحو قوله صلى الله عليه وسلم " {إن لله تسعة وتسعين اسما} " وغير ذلك ومتى أريد به المسمى فإنما هو صلة كالزائد كأنه قال في هذه الآية: سبح ربك الأعلى أي نزهه.
قال: وإذا كان الاسم واحد الأسماء كزيد وعمرو فيجيء في الكلام على ما قلت لك. تقول: زيد قائم تريد المسمى وتقول:
زيد ثلاثة أحرف تريد التسمية نفسها على معنى نزه اسم ربك عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له: " إله أو رب ". قلت: هذا الذي ذكروه لا يعرف له شاهد لا من كلام فصيح ولا غير ذلك ولا يعرف أن لفظ اسم " ألف سين ميم " يراد به المسمى بل المراد به الاسم الذي يقولون هو التسمية. وأما قوله: تقول زيد قائم زيد المسمى.
فزيد ليس هو " ألف سين ميم " بل زيد مسمى هذا اللفظ فزيد يراد به المسمى ويراد به اللفظ. وكذلك اسم " ألف سين ميم " يراد به هذا اللفظ؛ ويراد به معناه وهو لفظ زيد وعمرو وبكر؛ فتلك هي الأسماء التي تراد بلفظ اسم؛ لا يراد بلفظ اسم نفس الأشخاص؛ فهذا ما أعرف له شاهدا صحيحا فضلا عن أن يكون هو الأصل كما ادعاه هؤلاء.
قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه}. فأسماؤه الحسنى مثل: الرحمن الرحيم والغفور الرحيم فهذه الأقوال هي أسماؤه الحسنى وهي إذا ذكرت في الدعاء والخبر يراد بها المسمى. إذا قال: {وتوكل على العزيز الرحيم} فالمراد المسمى ليس المراد أنه يتوكل على الأسماء التي هي أقوال؛ كما في سائر الكلام: كلام الخالق وكلام المخلوقين.
وما ذكروه من أن القائل إذا قال: ما اسم معبودكم؟ قلنا: الله. فنجيب في الاسم بما نجيب به في المعبود؛ فدل على أن اسم المعبود هو المعبود: حجة باطلة وهي عليهم لا لهم. فإن القائل إذا قال: ما اسم معبودكم؟ فقلنا: الله.
فالمراد أن اسمه هو هذا القول ليس المراد أن اسمه هو ذاته وعينه الذي خلق السموات والأرض فإنه إنما سأل عن اسمه لم يسأل عن نفسه؛ فكان الجواب بذكر اسمه.
وإذا قال: ما معبودكم؟ فقلنا الله: فالمراد هناك المسمى؛ ليس المراد أن المعبود هو القول فلما اختلف السؤال في الموضعين اختلف المقصود بالجواب وإن كان في الموضعين قال الله لكنه في أحدهما أريد هذا القول الذي هو من الكلام وفي الآخر أريد به المسمى بهذا القول.
كما إذا قيل: ما اسم فلان؟ فقيل: زيد أو عمر فالمراد هو القول. وإذا قال: من أميركم أو من أنكحت؟ فقيل زيد أو عمرو فالمراد به الشخص فكيف يجعل المقصود في الموضعين واحدا. ولهذا قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} كان المراد أنه نفسه له الأسماء الحسنى.
ومنها اسمه الله. كما قال: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} فالذي له الأسماء الحسنى هو المسمى بها؛ ولهذا كان في كلام الإمام أحمد أن هذا الاسم من أسمائه الحسنى؛ وتارة يقول الأسماء الحسنى له أي المسمى ليس من الأسماء؛ ولهذا في قوله {ولله الأسماء الحسنى} لم يقصد أن هذا الاسم له الأسماء الحسنى؛ بل قصد أن المسمى له الأسماء الحسنى.
وفي حديث أنس الصحيح {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نقش خاتمه: محمد رسول الله محمد سطر ورسول سطر والله سطر} ويراد الخط المكتوب الذي كتب به ذلك؛ فالخط الذي كتب به محمد سطر والخط الذي كتب به رسول سطر والخط الذي كتب به الله سطر.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم {يقول الله تعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه} " فمعلوم أن المراد تحرك شفتاه بذكر اسم الله وهو القول ليس المراد أن الشفتين تتحرك بنفسه تعالى. وأما احتجاجهم بقوله: {سبح اسم ربك الأعلى} وأن المراد سبح ربك الأعلى وكذلك قوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} وما أشبه ذلك فهذا للناس فيه قولان معروفان وكلاهما حجة عليهم.
منهم من قال: " الاسم " هنا صلة والمراد سبح ربك وتبارك ربك. وإذا قيل: هو صلة فهو زائد لا معنى له؛ فيبطل قولهم إن مدلول لفظ اسم " ألف سين ميم " هو المسمى فإنه لو كان له مدلول مراد لم يكن صلة.
ومن قال إنه هو المسمى وأنه صلة كما قاله ابن عطية؛ فقد تناقض فإن الذي يقول هو صلة لا يجعل له معنى؛ كما يقوله من يقول ذلك في الحروف الزائدة التي تجيء للتوكيد كقوله: {فبما رحمة من الله لنت لهم} و {قال عما قليل ليصبحن نادمين} ونحو ذلك. ومن قال: إنه ليس بصلة بل المراد تسبيح الاسم نفسه فهذا مناقض لقولهم مناقضة ظاهرة. و " التحقيق " أنه ليس بصلة بل أمر الله بتسبيح اسمه كما أمر بذكر اسمه.
والمقصود بتسبيحه وذكره هو تسبيح المسمى وذكره فإن المسبح والذاكر إنما يسبح اسمه ويذكر اسمه؛ فيقول: سبحان ربي الأعلى فهو نطق بلفظ ربي الأعلى والمراد هو المسمى بهذا اللفظ فتسبيح الاسم هو تسبيح المسمى.
ومن جعله تسبيحا للاسم يقول المعنى أنك لا تسم به غير الله ولا تلحد في أسمائه فهذا مما يستحقه اسم الله لكن هذا تابع للمراد بالآية ليس هو المقصود بها القصد الأول. وقد ذكر " الأقوال الثلاثة " غير واحد من المفسرين كالبغوي قال قوله: {سبح اسم ربك الأعلى} أي قل سبحان ربي الأعلى.
وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة وذكر حديث ابن عباس {أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {سبح اسم ربك الأعلى}. فقال: سبحان ربي الأعلى}.
قلت: في ذلك حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه {لما نزل {فسبح باسم ربك العظيم} قال اجعلوها في ركوعكم ولما نزل: {سبح اسم ربك الأعلى} قال: اجعلوها في سجودكم} " والمراد بذلك أن يقولوا في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى كما ثبت في الصحيح عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه {قام بالبقرة والنساء وآل عمران ثم ركع نحوا من قيامه يقول: سبحان ربي العظيم وسجد نحوا من ركوعه يقول: سبحان ربي الأعلى} ".
وفي السنن عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " {إذا قال العبد في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثا فقد تم ركوعه وذلك أدناه وإذا قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثا فقد تم سجوده وذلك أدناه} " وقد أخذ بهذا جمهور العلماء. قال البغوي: وقال قوم معناه نزه ربك الأعلى عما يصفه به الملحدون. وجعلوا الاسم صلة. قال: ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحدا؛ لأن أحدا لا يقول سبحان اسم الله وسبحان اسم ربنا إنما يقولون: سبحان الله وسبحان ربنا. وكان معنى: {سبح اسم ربك} سبح ربك.
قلت: قد تقدم الكلام على هذا والذي: يقول سبحان الله وسبحان ربنا إنما نطق بالاسم الذي هو الله والذي هو ربنا: فتسبيحه إنما وقع على الاسم لكن مراده هو المسمى فهذا يبين أنه ينطق باسم المسمى والمراد المسمى.
وهذا لا ريب فيه لكن هذا لا يدل على أن لفظ اسم الذي هو " ألف سين ميم " المراد به المسمى.
لكن يدل على أن " أسماء الله " مثل الله وربنا وربي الأعلى ونحو ذلك يراد بها المسمى مع أنها هي في نفسها ليست هي المسمى لكن يراد بها المسمى فأما اسم هذه الأسماء " ألف سين ميم " فلا هو المسمى الذي هو الذات ولا يراد به المسمى الذي هو الذات؛ ولكن يراد به مسماه الذي هو الأسماء كأسماء الله الحسنى في قوله: {ولله الأسماء الحسنى} فلها هذه الأسماء الحسنى التي جعلها هؤلاء هي التسميات وجعلوا التعبير عنها بالأسماء توسعا؛ فخالفوا إجماع الأمم كلهم من العرب وغيرهم وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول. والذين شاركوهم في هذا الأصل وقالوا:
الأسماء ثلاثة " قد تكون هي المسمى وقد تكون غيره وقد تكون لا هي هو ولا غيره وجعلوا الخالق والرازق ونحوهما غير المسمى وجعلوا العليم والحكيم ونحوهما للمسمى: غلطوا من وجه آخر فإنه إذا سلم لهم أن المراد بالاسم الذي هو " ألف سين ميم " هو مسمى الأسماء؛ فاسمه الخالق هو الرب الخالق نفسه ليس هو المخلوقات المنفصلة عنه واسمه العليم هو الرب العليم الذي العلم صفة له فليس العلم هو المسمى؛ بل المسمى هو العليم؛ فكان الواجب أن يقال على أصلهم:
الاسم هنا هو المسمى وصفته.
وفي الخالق الاسم هو المسمى وفعله؛ ثم قولهم إن الخلق هو المخلوق وليس الخلق فعلا قائما بذاته قول ضعيف مخالف لقول جمهور المسلمين. كما قد بسط في موضعه. فتبين أن هؤلاء الذين قالوا:
" الاسم هو المسمى " إنما يسلم لهم أن أسماء الأشياء إذا ذكرت في الكلام أريد به المسمى وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء؛ لا أن لفظ اسم.
ألف سين ميم يراد به الشخص. وما ذكروه من قول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما فمراده ثم النطق بهذا الاسم وذكره وهو التسليم المقصود؛ كأنه قال ثم سلام عليكم ليس مراده أن السلام يحصل عليهما بدون أن ينطق به ويذكر اسمه. فإن نفس السلام قول فإن لم ينطق به ناطق ويذكره لم يحصل. وقد احتج بعضهم بقول سيبويه إن الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبني لما مضى ولما لم يكن بعد وهذا لا حجة فيه؛ لأن سيبويه مقصوده بذكر الاسم والفعل ونحو ذلك الألفاظ. وهذا اصطلاح النحويين سموا الألفاظ بأسماء معانيها؛ فسموا قام ويقوم وقم فعلا؛ والفعل هو نفس الحركة؛ فسموا اللفظ الدال عليها باسمها. وكذلك إذا قالوا: اسم معرب ومبني فمقصودهم اللفظ ليس مقصودهم المسمى وإذا قالوا هذا الاسم فاعل فمرادهم أنه فاعل في اللفظ؛ أي أسند إليه الفعل ولم يرد سيبويه بلفظ الأسماء المسميات كما زعموا؛ ولو أراد ذلك فسدت صناعته.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (11)
من صــ 310 الى صــ 317
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى فَهُمْ إذَا أَرَادُوا أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي هِيَ أَقْوَالٌ لَيْسَتْ نَفْسُهَا هِيَ الْمُسَمَّيَاتُ فَهَذَا أَيْضًا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ. وَأَرْبَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يُنَازِعُونَ فِي هَذَا؛ بَلْ عَبَّرُوا عَنْ الْأَسْمَاءِ هُنَا بِالتَّسْمِيَات ِ وَهُمْ أَيْضًا لَا يُمْكِنُهُمْ النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكَلَامِ مِثْلُ قَوْلِهِ يَا آدَمُ يَا نُوحُ يَا إبْرَاهِيمُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا نِدَاءُ الْمُسَمِّينَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ.
وَإِذَا قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَالْمُرَادُ خَلَقَ الْمُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ خَلَقَ لَفْظَ السَّمَاءِ وَلَفْظَ الْأَرْضِ وَالنَّاسُ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِهِ وَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِ أَحَدٍ إرَادَةُ الْأَلْفَاظِ؛ لِمَا قَدْ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَالْأَسْمَاءَ يُرَادُ بِهَا الْمَعَانِي وَالْمُسَمَّيَا تُ؛ فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهَا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ؛ لَكِنْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ الْمُرَادُ إنْ لَمْ يَنْطِقْ بِالْأَلْفَاظِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْمُرَادِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مِنْ الْبَيَانِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي قَوْلِهِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وَقَدْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولكن هؤلاء الذين أطلقوا من الجهمية والمعتزلة أن الاسم غير المسمى مقصودهم أن أسماء الله غيره؛ وما كان غيره فهو مخلوق. ولهذا قالت الطائفة الثالثة: لا نقول هي المسمى ولا غير المسمى. فيقال لهم:
قولكم إن أسماءه غيره مثل قولكم إن كلامه غيره وإن إرادته غيره ونحو ذلك وهذا قول الجهمية نفاة الصفات وقد عرفت شبههم وفسادها في غير هذا الموضع؛ وهم متناقضون من وجوه كما قد بسط في مواضع. فإنهم يقولون:
لا نثبت قديما غير الله؛ أو قديما ليس هو الله حتى كفروا أهل الإثبات وإن كانوا متأولين كما قال أبو الهذيل: إن كل متأول كان تأويله تشبيها له بخلقه وتجويزا له في فعله وتكذيبا لخبره فهو كافر؛ وكل من أثبت شيئا قديما لا يقال له الله فهو كافر ومقصوده تكفير مثبتة الصفات والقدر ومن يقول إن أهل القبلة يخرجون من النار ولا يخلدون فيها. فمما يقال لهؤلاء:
إن هذا القول ينعكس عليكم فأنتم أولى بالتشبيه والتجويز والتكذيب؛ وإثبات قديم لا يقال له الله فإنكم تشبهونه بالجمادات بل بالمعدومات بل بالممتنعات وتقولون إنه يحبط الحسنات العظيمة بالذنب الواحد؛ ويخلد عليه في النار وتكذبون بما أخبر به من مغفرته ورحمته وإخراجه أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها وإنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. وأنتم تثبتون قديما لا يقال له الله فإنكم تثبتون ذاتا مجردة عن الصفات ومعلوم أنه ما ليس بحي ولا عليم ولا قدير؛ فليس هو الله فمن أثبت ذاتا مجردة فقد أثبت قديما ليس هو الله وإن قال أنا أقول إنه لم يزل حيا عليما قديرا فهو قول مثبتة الصفات؛ فنفس كونه حيا ليس هو كونه عالما ونفس كونه عالما ليس هو كونه قادرا ونفس ذلك ليس هو كونه ذاتا متصفة بهذه الصفات فهذه معان متميزة في العقل ليس هذا هو هذا.
فإن قلتم هي قديمة فقد أثبتم معاني قديمة؛ وإن قلتم هي شيء واحد جعلتم كل صفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف فجعلتم كونه حيا هو كونه عالما وجعلتم ذلك هو نفس الذات ومعلوم أن هذا مكابرة وهذه المعاني هي معاني أسمائه الحسنى وهو سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء.
فهو المسمي نفسه بأسمائه الحسنى كما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه لما سئل عن قوله:
{وكان الله عزيزا حكيما} {غفورا رحيما} فقال هو سمى نفسه بذلك وهو لم يزل كذلك؛ فأثبت قدم معاني أسمائه الحسنى وأنه هو الذي سمى نفسه بها.
فإذا قلتم إن أسماءه أو كلامه غيره فلفظ " الغير " مجمل؛ إن أردتم أن ذلك شيء بائن عنه فهذا باطل؛ وإن أردتم أنه يمكن الشعور بأحدهما دون الآخر فقد يذكر الإنسان الله ويخطر بقلبه ولا يشعر حينئذ بكل معاني أسمائه؛ بل ولا يخطر له حينئذ أنه عزيز وأنه حكيم فقد أمكن العلم بهذا دون هذا؛ وإذا أريد بالغير هذا فإنما يفيد المباينة في ذهن الإنسان؛ لكونه قد يعلم هذا دون هذا وذلك لا ينفي التلازم في نفس الأمر فهي معان متلازمة لا يمكن وجود الذات دون هذه المعاني ولا وجود هذه المعاني دون وجود الذات.
واسم " الله " إذا قيل الحمد لله أو قيل بسم الله يتناول ذاته وصفاته لا يتناول ذاتا مجردة عن الصفات ولا صفات مجردة عن الذات وقد نص أئمة السنة - كأحمد وغيره - على أن صفاته داخلة في مسمى أسمائه فلا يقال: إن علم الله وقدرته زائدة عليه؛ لكن من أهل الإثبات من قال: إنها زائدة على الذات.
وهذا إذا أريد به أنها زائدة على ما أثبته أهل النفي من الذات المجردة فهو صحيح؛ فإن أولئك قصروا في الإثبات فزاد هذا عليهم وقال الرب له صفات زائدة على ما علمتموه.
وإن أراد أنها زائدة على الذات الموجودة في نفس الأمر فهو كلام متناقض؛ لأنه ليس في نفس الأمر ذات مجردة حتى يقال إن الصفات زائدة عليها؛ بل لا يمكن وجود الذات إلا بما به تصير ذاتا من الصفات ولا يمكن وجود الصفات إلا بما به تصير صفات من الذات فتخيل وجود أحدهما دون الآخر ثم زيادة الآخر عليه تخيل باطل.
وأما الذين يقولون: إن " الاسم للمسمى " كما يقوله أكثر أهل السنة فهؤلاء وافقوا الكتاب والسنة والمعقول قال الله تعالى:
{ولله الأسماء الحسنى} وقال: {أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " {إن لله تسعة وتسعين اسما} " {وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لي خمسة أسماء:
أنا محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب} " وكلاهما في الصحيحين.
وإذا قيل لهم: أهو المسمى أم غيره؟ فصلوا؛ فقالوا: ليس هو نفس المسمى ولكن يراد به المسمى؛ وإذا قيل إنه غيره بمعنى أنه يجب أن يكون مباينا له فهذا باطل؛ فإن المخلوق قد يتكلم بأسماء نفسه فلا تكون بائنة عنه فكيف بالخالق وأسماؤه من كلامه؛ وليس كلامه بائنا عنه ولكن قد يكون الاسم نفسه بائنا مثل أن يسمي الرجل غيره باسم أو يتكلم باسمه. فهذا الاسم نفسه ليس قائما بالمسمى؛ لكن المقصود به المسمى فإن الاسم مقصوده إظهار " المسمى " وبيانه. وهو مشتق من " السمو " وهو العلو كما قال النحاة البصريون وقال النحاة الكوفيون هو مشتق من " السمة " وهي العلامة وهذا صحيح في " الاشتقاق الأوسط " وهو ما يتفق فيه حروف اللفظين دون ترتيبهما فإنه في كليهما (السين والميم والواو والمعنى صحيح فإن السمة والسيما العلامة. ومنه يقال: وسمته أسمه كقوله: {سنسمه على الخرطوم} ومنه التوسم كقوله: {لآيات للمتوسمين} لكن اشتقاقه من " السمو " هو الاشتقاق الخاص الذي يتفق فيه اللفظان في الحروف وترتيبها ومعناه أخص وأتم فإنهم يقولون في تصريفه سميت ولا يقولون وسمت وفي جمعه أسماء لا أوسام وفي تصغيره سمي لا وسيم. ويقال لصاحبه مسمى لا يقال موسوم وهذا المعنى أخص.
" فإن العلو مقارن للظهور " كلما كان الشيء أعلى كان أظهر وكل واحد من العلو والظهور يتضمن المعنى الآخر ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " {وأنت الظاهر فليس فوقك شيء} " ولم يقل فليس أظهر منك شيء؛ لأن الظهور يتضمن العلو والفوقية؛ فقال: " فليس فوقك شيء ".
ومنه قوله: {فما اسطاعوا أن يظهروه} أي يعلوا عليه. ويقال ظهر الخطيب على المنبر إذا علا عليه. ويقال للجبل العظيم علم؛ لأنه لعلوه وظهوره يعلم ويعلم به غيره. قال تعالى: {ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام}. وكذلك " الراية العالية " التي يعلم بها مكان الأمير والجيوش يقال لها علم وكذلك العلم في الثوب لظهوره كما يقال لعرف الديك وللجبال العالية أعراف لأنها لعلوها تعرف فالاسم يظهر به المسمى ويعلو؛ فيقال للمسمى:
سمه: أي أظهره وأعله أي أعل ذكره بالاسم الذي يذكر به؛ لكن يذكر تارة بما يحمد به ويذكر تارة بما يذم به كما قال تعالى: {وجعلنا لهم لسان صدق عليا} وقال: {ورفعنا لك ذكرك} وقال: {وتركنا عليه في الآخرين} {سلام على نوح في العالمين}.
وقال في النوع المذموم: {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} وقال تعالى: {نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون}. فكلاهما ظهر ذكره؛ لكن هذا إمام في الخير وهذا إمام في الشر.
وبعض النحاة يقول: سمي اسما لأنه علا على المسمى؛ أو لأنه علا على قسيميه الفعل والحرف؛ وليس المراد بالاسم هذا بل لأنه يعلى المسمى فيظهر؛ ولهذا يقال سميته أي أعليته وأظهرته فتجعل المعلى المظهر هو المسمى وهذا إنما يحصل بالاسم.
ووزنه فعل وفعل وجمعه أسماء كقنو وأقناء وعضو وأعضاء. وقد يقال فيه سم وسم بحذف اللام. ويقال:
سمى كما قال: والله أسماك سما مباركا. وما ليس له اسم فإنه لا يذكر ولا يظهر ولا يعلو ذكره؛ بل هو كالشيء الخفي الذي لا يعرف؛ ولهذا يقال: الاسم دليل على المسمى وعلم على المسمى ونحو ذلك.
ولهذا كان " أهل الإسلام والسنة " الذين يذكرون أسماء الله يعرفونه ويعبدونه ويحبونه ويذكرونه ويظهرون ذكره. " والملاحدة ": الذين ينكرون أسماءه وتعرض قلوبهم عن معرفته وعبادته ومحبته وذكره؛ حتى ينسوا ذكره {نسوا الله فنسيهم} {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين}. والاسم يتناول اللفظ والمعنى المتصور في القلب وقد يراد به مجرد اللفظ وقد يراد به مجرد المعنى فإنه من الكلام؛ " والكلام " اسم للفظ والمعنى، وقد يراد به أحدهما؛ ولهذا كان من ذكر الله بقلبه أو لسانه فقد ذكره لكن ذكره بهما أتم.
والله تعالى قد أمر بتسبيح اسمه وأمر بالتسبيح باسمه كما أمر بدعائه بأسمائه الحسنى؛ فيدعى بأسمائه الحسنى ويسبح اسمه وتسبيح اسمه هو تسبيح له؛ إذ المقصود بالاسم المسمى؛ كما أن دعاء الاسم هو دعاء المسمى. قال تعالى:
{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}. والله تعالى يأمر بذكره تارة وبذكر اسمه تارة؛ كما يأمر بتسبيحه تارة وتسبيح اسمه تارة؛ فقال: {اذكروا الله ذكرا كثيرا} {واذكر ربك في نفسك} وهذا كثير.
وقال: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} كما قال:
{فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه}. لكن هنا يقال: بسم الله؛ فيذكر نفس الاسم الذي هو " ألف سين ميم " وأما في قوله: {واذكر اسم ربك} فيقال:
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله. وهذا أيضا مما يبين فساد قول من جعل الاسم هو المسمى. وقوله في الذبيحة {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} كقوله: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وقوله: {بسم الله مجراها ومرساها} فقوله: {اقرأ باسم ربك} هو قراءة بسم الله في أول السور.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (12)
من صــ 318 الى صــ 324
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن هذه الآية تدل على أن القارئ مأمور أن يقرأ بسم الله وأنها ليست كسائر القرآن؛ بل هي تابعة لغيرها وهنا يقول: بسم الله الرحمن الرحيم كما كتب سليمان وكما جاءت به السنة المتواترة وأجمع المسلمون عليه؛ فينطق بنفس الاسم الذي هو اسم مسمى لا يقول بالله الرحمن الرحيم؛ كما في قوله:
{واذكر اسم ربك} فإنه يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ونحو ذلك وهنا قال: {اقرأ باسم ربك} لم يقل: اقرأ اسم ربك وقوله:
{واذكر اسم ربك} يقتضي أن يذكره بلسانه. وأما قوله: {واذكر ربك} فقد يتناول ذكر القلب. وقوله: {اقرأ باسم ربك} هو كقول الآكل باسم الله. والذابح باسم الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " {ومن لم يكن ذبح فليذبح بسم الله} ". وأما التسبيح فقد قال: {وسبحوه بكرة وأصيلا} وقال: {سبح اسم ربك الأعلى} وقال: {فسبح باسم ربك العظيم}.
وفي الدعاء: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} فقوله:
{أيا ما تدعوا} يقتضي تعدد المدعو لقوله {أيا ما} وقوله {فله الأسماء الحسنى} يقتضي أن المدعو واحد له الأسماء الحسنى وقوله {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} - ولم يقل ادعوا باسم الله أو باسم الرحمن - يتضمن أن المدعو هو الرب الواحد بذلك الاسم.
فقد جعل الاسم تارة مدعوا وتارة مدعوا به في قوله: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} فهو مدعو به باعتبار أن المدعو هو المسمى وإنما يدعى باسمه. وجعل الاسم مدعوا باعتبار أن المقصود به هو المسمى وإن كان في اللفظ هو المدعو المنادى كما قال {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} أي ادعوا هذا الاسم أو هذا الاسم والمراد إذا دعوته هو المسمى؛ أي الاسمين دعوت ومرادك هو المسمى:
{فله الأسماء الحسنى}.
فمن تدبر هذه المعاني اللطيفة تبين له بعض حكم القرآن وأسراره فتبارك الذي نزل الفرقان على عبده فإنه كتاب مبارك تنزيل من حكيم حميد لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء من ابتغى الهدى في غيره أضله الله ومن تركه من جبار قصمه الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو قرآن عجب يهدي إلى الرشد أنزله الله هدى ورحمة وشفاء وبيانا وبصائر وتذكرة.
فالحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. آخره ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(فصل)
وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله -:
عما يشتبه على الطالب للعبادة من جهة الأفضلية مما اختلف فيه الأئمة من المسائل التي أذكرها:
وهي أيما أفضل في صلاة الجهر ترك الجهر بالبسملة أو الجهر بها؟ وأيما أفضل المداومة على القنوت في صلاة الفجر أم تركه أم فعله أحيانا بحسب المصلحة؟ وكذلك في الوتر وأيما أفضل طول الصلاة ومناسبة أبعاضها في الكمية والكيفية أو تخفيفها بحسب ما اعتادوه في هذه الأزمنة؟ وأيما أفضل مع قصر الصلاة في السفر مداومة الجمع أم فعله أحيانا بحسب الحاجة؟ وهل قيام الليل كله بدعة أم سنة أم قيام بعضه أفضل من قيامه كله؟ وكذلك سرد الصوم أفضل أم صوم بعض الأيام وإفطار بعضها؟ وفي المواصلة أيضا؟ وهل لبس الخشن وأكله دائما أفضل أم لا؟ وأيما أفضل فعل السنن الرواتب في السفر أم تركها؟ أم فعل البعض دون البعض.
وكذلك التطوع بالنوافل في السفر وأيما أفضل الصوم في السفر أم الفطر؟ وإذا لم يجد ماء أو تعذر عليه استعماله لمرض أو يخاف منه الضرر من شدة البرد وأمثال ذلك فهل يتيمم أم لا؟ وهل يقوم التيمم مقام الوضوء فيما ذكر أم لا؟ وأيما أفضل في إغماء هلال رمضان الصوم أم الفطر؟ أم يخير بينهما؟ أم يستحب فعل أحدهما؟ وهل ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله وأحواله وأقواله وحركاته وسكناته وفي شأنه كله من العبادات والعادات هل المواظبة على ذلك كله سنة في حق كل واحد من الأمة؟ أم يختلف بحسب اختلاف المراتب والراتبين؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله هذه المسائل التي يقع فيها النزاع مما يتعلق بصفات العبادات أربعة أقسام:
منها: ما ثبت من النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن كل واحد من الأمرين واتفقت الأمة على أن من فعل أحدهما لم يأثم بذلك لكن قد يتنازعون في الأفضل وهو بمنزلة القراءات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي اتفق الناس على جواز القراءة بأي قراءة شاء منها كالقراءة المشهورة بين المسلمين فهذه يقرأ المسلم بما شاء منها وإن اختار بعضها لسبب من الأسباب.
ومن هذا الباب الاستفتاحات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقولها في قيام الليل وأنواع الأدعية التي كان يدعو بها في صلاته في آخر التشهد فهذه الأنواع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها سائغة باتفاق المسلمين لكن ما أمر به من ذلك أفضل لنا مما فعله ولم يأمر به.
وقد ثبت في الصحيح أنه قال: {إذا قعد أحدكم في التشهد فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات. ومن فتنة المسيح الدجال} فالدعاء بهذا أفضل من الدعاء بقوله:
{اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت} وهذا أيضا قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله في آخر صلاته لكن الأول أمر به. وما تنازع العلماء في وجوبه فهو أوكد مما لم يأمر به ولم يتنازع العلماء في وجوبه. وكذلك الدعاء الذي كان يكرره كثيرا كقوله: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} أوكد مما ليس كذلك.
القسم الثاني: ما اتفق العلماء على أنه إذا فعل كلا من الأمرين كانت عبادته صحيحة ولا إثم عليه؛ لكن يتنازعون في الأفضل وفيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ومسألة القنوت في الفجر والوتر والجهر بالبسملة وصفة الاستعاذة ونحوها من هذا الباب.
فإنهم متفقون على أن من جهر بالبسملة صحت صلاته ومن خافت صحت صلاته وعلى أن من قنت في الفجر صحت صلاته ومن لم يقنت فيها صحت صلاته وكذلك القنوت في الوتر.
وإنما تنازعوا في وجوب قراءة البسملة وجمهورهم على أن قراءتها لا تجب وتنازعوا أيضا في استحباب قراءتها وجمهورهم على أن قراءتها مستحبة. وتنازعوا فيما إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه مثل أن يترك قراءة البسملة والمأموم يعتقد وجوبها أو يمس ذكره ولا يتوضأ والمأموم يرى وجوب الوضوء من ذلك أو يصلي في جلود الميتة المدبوغة والمأموم يرى أن الدباغ لا يطهر أو يحتجم ولا يتوضأ والمأموم يرى الوضوء من الحجامة. والصحيح المقطوع به أن صلاة المأموم صحيحة خلف إمامه وإن كان إمامه مخطئا في نفس الأمر:
لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم}. وكذلك إذا اقتدى المأموم بمن يقنت في الفجر أو الوتر قنت معه سواء قنت قبل الركوع أو بعده. وإن كان لا يقنت لم يقنت معه. ولو كان الإمام يرى استحباب شيء والمأمومون لا يستحبونه فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف: كان قد أحسن. مثال ذلك الوتر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال:
أحدها أنه لا يكون إلا بثلاث متصلة. كالمغرب:
كقول من قاله من أهل العراق. والثاني: أنه لا يكون إلا ركعة مفصولة عما قبلها كقول من قال ذلك من أهل الحجاز.
والثالث: أن الأمرين جائزان كما هو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وهو الصحيح. وإن كان هؤلاء يختارون فصله عما قبله فلو كان الإمام يرى الفصل فاختار المأمومون أن يصلي الوتر كالمغرب فوافقهم على ذلك تأليفا لقلوبهم كان قد أحسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: {لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه} فترك الأفضل عنده: لئلا ينفر الناس.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (13)
من صــ 325 الى صــ 331
وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأم بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم كان قد أحسن وإنما تنازعوا في الأفضل فهو بحسب ما اعتقدوه من السنة. وطائفة من أهل العراق اعتقدت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت إلا شهرا ثم على وجه النسخ له فاعتقدوا أن القنوت في المكتوبات منسوخ وطائفة من أهل الحجاز اعتقدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما زال يقنت حتى فارق الدنيا ثم منهم من اعتقد أنه كان يقنت قبل الركوع ومنهم من كان يعتقد أنه كان يقنت بعد الركوع.
والصواب هو " القول الثالث " الذي عليه جمهور أهل الحديث. وكثير من أئمة أهل الحجاز وهو الذي ثبت في الصحيحين وغيرهما. أنه صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم ترك هذا القنوت ثم إنه بعد ذلك بمدة بعد خيبر وبعد إسلام أبي هريرة قنت وكان يقول في قنوته: {اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف}.
فلو كان قد نسخ القنوت لم يقنت هذه المرة الثانية وقد ثبت عنه في الصحيح أنه {قنت في المغرب وفي العشاء الآخرة}.
وفي السنن أنه كان يقنت في الصلوات الخمس وأكثر قنوته كان في الفجر ولم يكن يداوم على القنوت لا في الفجر ولا غيرها؛ بل قد ثبت في الصحيحين عن أنس أنه قال: {لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا}.
فالحديث الذي رواه الحاكم وغيره من حديث الربيع بن أنس عن أنس أنه قال: {ما زال يقنت حتى فارق الدنيا} إنما قاله في سياقه القنوت قبل الركوع وهذا الحديث لو عارض الحديث الصحيح لم يلتفت إليه فإن الربيع بن أنس ليس من رجال الصحيح فكيف وهو لم يعارضه. وإنما معناه أنه كان يطيل القيام في الفجر دائما قبل الركوع.
وأما أنه كان يدعو في الفجر دائما في الركوع أو بعده بدعاء يسمع منه أو لا يسمع فهذا باطل قطعا وكل من تأمل الأحاديث الصحيحة علم هذا بالضرورة وعلم أن هذا لو كان واقعا لنقله الصحابة والتابعون ولما أهملوا قنوته الراتب المشروع لنا مع أنهم نقلوا قنوته الذي لا يشرع بعينه وإنما يشرع نظيره؛ فإن دعاءه لأولئك المعينين وعلى أولئك المعينين ليس بمشروع باتفاق المسلمين؛ بل إنما يشرع نظيره.
فيشرع أن يقنت عند النوازل يدعو للمؤمنين ويدعو على الكفار في الفجر وفي غيرها من الصلوات وهكذا كان عمر يقنت لما حارب النصارى بدعائه الذي فيه: " اللهم العن كفرة أهل الكتاب " إلى آخره.
وكذلك علي - رضي الله عنه - لما حارب قوما قنت يدعو عليهم وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة وإذا سمى من يدعو لهم من المؤمنين ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسنا. وأما قنوت الوتر فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: لا يستحب بحال لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر.
وقيل: بل يستحب في جميع السنة كما ينقل عن ابن مسعود وغيره؛ ولأن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الحسن بن علي - رضي الله عنهما - دعاء يدعو به في قنوت الوتر وقيل: بل يقنت في النصف الأخير من رمضان.
كما كان أبي بن كعب يفعل. وحقيقة الأمر أن قنوت الوتر من جنس الدعاء السائغ في الصلاة من شاء فعله ومن شاء تركه. كما يخير الرجل أن يوتر بثلاث أو خمس أو سبع وكما يخير إذا أوتر بثلاث إن شاء فصل وإن شاء وصل.
وكذلك يخير في دعاء القنوت إن شاء فعله وإن شاء تركه وإذا صلى بهم قيام رمضان فإن قنت في جميع الشهر فقد أحسن وإن قنت في النصف الأخير فقد أحسن وإن لم يقنت بحال فقد أحسن.
كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عددا معينا؛ بل كان هو - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها.
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك. وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره.
ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ فإذا كانت هذه السعة في نفس عدد القيام فكيف الظن بزيادة القيام لأجل دعاء القنوت أو تركه كل ذلك سائغ حسن.
وقد ينشط الرجل فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة وقد لا ينشط فيكون الأفضل في حقه تخفيفها. وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدلة. إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود هكذا كان يفعل في المكتوبات وقيام الليل وصلاة الكسوف وغير ذلك.
وقد تنازع الناس هل الأفضل طول القيام؟ أم كثرة الركوع والسجود؟ أو كلاهما سواء؟ على ثلاثة أقوال: أصحها أن كليهما سواء فإن القيام اختص بالقراءة وهي أفضل من الذكر والدعاء والسجود نفسه أفضل من القيام فينبغي أنه إذا طول القيام أن يطيل الركوع والسجود وهذا هو طول القنوت الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم لما
{قيل له: أي الصلاة أفضل؟ فقال: طول القنوت} فإن القنوت هو إدامة العبادة سواء كان في حال القيام أو الركوع أو السجود كما قال تعالى:
{أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما} فسماه قانتا في حال سجوده كما سماه قانتا في حال قيامه.
وأما البسملة: فلا ريب أنه كان في الصحابة من يجهر بها وفيهم من كان لا يجهر بها بل يقرؤها سرا أو لا يقرؤها والذين كانوا يجهرون بها أكثرهم كان يجهر بها تارة ويخافت بها أخرى وهذا لأن الذكر قد يكون السنة المخافتة به ويجهر به لمصلحة راجحة مثل تعليم المأمومين فإنه قد ثبت في الصحيح أن ابن عباس قد جهر بالفاتحة على الجنازة ليعلمهم أنها سنة. وتنازع العلماء في القراءة على الجنازة على ثلاثة أقوال: قيل: لا تستحب بحال كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك.
وقيل: بل يجب فيها القراءة بالفاتحة. كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد. وقيل: بل قراءة الفاتحة فيها سنة وإن لم يقرأ بل دعا بلا قراءة جاز وهذا هو الصواب. وثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب كان يقول:
" الله أكبر سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " يجهر بذلك مرات كثيرة. واتفق العلماء على أن الجهر بذلك ليس بسنة راتبة؛ لكن جهر به للتعليم ولذلك نقل عن بعض الصحابة أنه كان يجهر أحيانا بالتعوذ فإذا كان من الصحابة من جهر بالاستفتاح والاستعاذة مع إقرار الصحابة له على ذلك فالجهر بالبسملة أولى أن يكون كذلك.
وأن يشرع الجهر بها أحيانا لمصلحة راجحة. لكن لا نزاع بين أهل العلم بالحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر بالاستفتاح. ولا بالاستعاذة؛ بل قد ثبت في الصحيح {أن أبا هريرة قال له: يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم بعد بيني وبين خطاياي كما بعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد}.
وفي السنن عنه أنه كان يستعيذ في الصلاة قبل القراءة والجهر بالبسملة أقوى من الجهر بالاستعاذة؛ لأنها آية من كتاب الله تعالى وقد تنازع العلماء في وجوبها وإن كانوا قد تنازعوا في وجوب الاستفتاح والاستعاذة.
وفي ذلك قولان في مذهب أحمد وغيره؛ لكن النزاع في ذلك أضعف من النزاع في وجوب البسملة. والقائلون بوجوبها من العلماء أفضل وأكثر لكن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر بها وليس في الصحاح ولا السنن حديث صحيح صريح بالجهر والأحاديث الصريحة بالجهر كلها
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (14)
من صــ 332 الى صــ 338
وفي ذلك قولان في مذهب أحمد وغيره؛ لكن النزاع في ذلك أضعف من النزاع في وجوب البسملة. والقائلون بوجوبها من العلماء أفضل وأكثر لكن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر بها وليس في الصحاح ولا السنن حديث صحيح صريح بالجهر والأحاديث الصريحة بالجهر كلها ضعيفة؛ بل موضوعة؛ وهذا لما صنف الدارقطني مصنفا في ذلك قيل له:
هل في ذلك شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف. ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها دائما لكان الصحابة ينقلون ذلك ولكان الخلفاء يعلمون ذلك ولما كان الناس يحتاجون أن يسألوا أنس بن مالك بعد انقضاء عصر الخلفاء ولما كان الخلفاء الراشدون ثم خلفاء بني أمية وبني العباس كلهم متفقين على ترك الجهر ولما كان أهل المدينة - وهم أعلم أهل المدائن بسنته - ينكرون قراءتها بالكلية سرا وجهرا والأحاديث الصحيحة تدل على أنها آية من كتاب الله وليست من الفاتحة ولا غيرها. وقد تنازع العلماء: هل هي آية أو بعض آية من كل سورة؟ أو ليست من القرآن إلا في سورة النمل؟ أو هي آية من كتاب الله حيث كتبت في المصاحف وليست من السور؟ على ثلاثة أقوال.
والقول الثالث: هو أوسط الأقوال وبه تجتمع الأدلة فإن كتابة الصحابة لها في المصاحف دليل على أنها من كتاب الله. وكونهم فصلوها عن السورة التي بعدها دليل على أنها ليست منها. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نزلت علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إنا أعطيناك الكوثر} إلى آخرها}.
وثبت في الصحيح {أنه أول ما جاء الملك بالوحي قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} {خلق الإنسان من علق} {اقرأ وربك الأكرم} {الذي علم بالقلم} {علم الإنسان ما لم يعلم} فهذا أول ما نزل ولم ينزل قبل ذلك بسم الله الرحمن الرحيم.
وثبت عنه في السنن أنه قال: {سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي {تبارك الذي بيده الملك} وهي ثلاثون آية بدون البسملة}. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: {يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله: أثنى علي عبدي. فإذا قال: {مالك يوم الدين} قال الله: مجدني عبدي.
فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال الله: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل}.
فهذا الحديث صحيح صريح في أنها ليست من الفاتحة ولم يعارضه حديث صحيح صريح. وأجود ما يرى في هذا الباب من الحديث إنما يدل على أنه يقرأ بها في أول الفاتحة لا يدل على أنها منها؛ ولهذا كان القراء منهم من يقرأ بها في أول السورة ومنهم من لا يقرأ بها.
فدل على أن كلا الأمرين سائغ لكن من قرأ بها كان قد أتى بالأفضل وكذلك من كرر قراءتها في أول كل سورة كان أحسن ممن ترك قراءتها؛ لأنه قرأ ما كتبته الصحابة في المصاحف فلو قدر أنهم كتبوها على وجه التبرك لكان ينبغي أن تقرأ على وجه التبرك وإلا فكيف يكتبون في المصحف ما لا يشرع قراءته وهم قد جردوا المصحف عما ليس من القرآن حتى أنهم لم يكتبوا التأمين ولا أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا غير ذلك.
مع أن السنة للمصلي أن يقول عقب الفاتحة: آمين فكيف يكتبون ما لا يشرع أن يقوله وهم لم يكتبوا ما يشرع أن يقوله المصلي من غير القرآن فإذا جمع بين الأدلة الشرعية دلت على أنها من كتاب الله وليست من السورة.
والحديث الصحيح عن {أنس ليس فيه نفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} أو فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم} ورواية من روى " فلم يكونوا يذكرون (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول قراءة ولا آخرها " إنما تدل على نفي الجهر لأن أنسا لم ينف إلا ما علم وهو لا يعلم ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم سرا.
ولا يمكن أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسكت؛ بل يصل.
التكبير بالقراءة فإنه قد ثبت في الصحيحين {أن أبا هريرة قال له: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول}. ومن تأول حديث أنس على نفي قراءتها سرا فهو مقابل لقول من قال مراد أنس أنهم كانوا يفتتحون بفاتحة الكتاب قبل غيرها من السور وهذا أيضا ضعيف فإن هذا من العلم العام الذي ما زال الناس يفعلونه وقد كان الحجاج بن يوسف وغيره من الأمراء الذين صلى خلفهم أنس يقرءون الفاتحة قبل السورة ولم ينازع في ذلك أحد ولا سئل عن ذلك أحد لا أنس ولا غيره ولا يحتاج أن يروي أنس هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ومن روى عن أنس أنه شك هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ البسملة أو لا يقرؤها فروايته توافق الروايات الصحيحة لأن أنسا لم يكن يعلم هل قرأها سرا أم لا وإنما نفى الجهر.
(الحمد لله رب العالمين (2)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
والحمد ضد الذم. والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته، والذم خبر بمساوئ المذموم مقرون ببغضه ; فلا يكون حمد لمحمود إلا مع محبته، ولا يكون ذم لمذموم إلا مع بغضه، وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة.
وأول ما نطق به آدم: [الحمد لله رب العالمين]، وأول ما سمع من ربه: يرحمك ربك، وآخر دعوى أهل الجنة: أن الحمد لله رب العالمين، وأول من يدعى إلى الجنة الحمادون، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - صاحب لواء الحمد، آدم فمن دونه تحت لوائه، وهو صاحب المقام المحمود، الذي يغبطه به الأولون والآخرون.
فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود، ولا يكون حمد إلا بحب المحمود، وهو سبحانه المعبود المحمود.
وأول نصف الفاتحة الذي للرب حمده، وآخره عبادته، أوله: {الحمد لله رب العالمين}، وآخره: {إياك نعبد}. كما ثبت في حديث القسمة: " يقول الله - تبارك وتعالى -: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل.
يقول العبد: {الحمد لله رب العالمين} ; فيقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: {الرحمن الرحيم}، فيقول الله تعالى: أثنى علي عبدي، يقول العبد: {مالك يوم الدين} فيقول الله - تبارك وتعالى -: مجدني عبدي، يقول العبد: {إياك نعبد وإياك نستعين}، فيقول الله تعالى: هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل.
يقول العبد: {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخر السورة. يقول الله تعالى: هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل» رواه مسلم [في صحيحه]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «أفضل ما قلت: أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» " فجمع بين التوحيد والتحميد. كما قال تعالى: {فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين} [سورة غافر 65].
وكان ابن عباس يقول: إذا قلت: لا إله إلا الله، فقل: الحمد لله رب العالمين، يتأول هذه الآية.
وفي سنن ابن ماجه وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله» ".
وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» ".
وقال أيضا: " «كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء» ".
فلا بد في الخطب من الحمد لله ومن توحيده ; ولهذا كانت الخطب في الجمع والأعياد وغير ذلك مشتملة على هذين الأصلين، وكذلك التشهد في آخر الصلاة أوله ثناء على الله، وآخره الشهادتان، ولا يكون الثناء إلا على محبوب، ولا التأله إلا لمحبوب، وقد بسطنا الكلام في حقائق هذه الكلمات في مواضع متعددة.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (15)
من صــ 339 الى صــ 345
وإذا كان العباد يحمدونه ويثنون عليه ويحبونه، فهو سبحانه أحق بحمد نفسه والثناء على نفسه والمحبة لنفسه، كما قال أفضل الخلق:
" «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» "فلا ثناء من مثن أعظم من ثناء الرب على نفسه، ولا ثناء إلا بحب، ولا حب من محبوب لمحبوب أعظم من محبة الرب لنفسه، وكل ما يحبه من عباده فهو تابع لحبه لنفسه، فهو يحب المقسطين والمحسنين، والصابرين والمؤمنين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويفرح بتوبة التائبين، كل ذلك تبعا لمحبته لنفسه ; فإن المؤمن إذا كان يحب ما يحبه من المخلوقات لله ; فيكون حبه للرسول والصالحين تبعا لحبه لله، فكيف الرب تعالى فيما يحبه من مخلوقاته؟!.
إنما يحبه تبعا لحبه لنفسه، وخلق المخلوقات لحكمته التي يحبها.
فما خلق شيئا إلا لحكمة، وهو سبحانه قد قال: {أحسن كل شيء خلقه} [سورة السجدة: 7]، وقال: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} [سورة النمل: 88].
وليس في أسمائه الحسنى إلا اسم يمدح به ; ولهذا كانت كلها حسنى، والحسنى بخلاف السوأى، فكلها حسنة، والحسن محبوب ممدوح.
فالمقصود بالخلق ما يحبه ويرضاه، وذلك أمر ممدوح، ولكن قد يكون من لوازم ذلك ما يريده ; لأنه من لوازم ما يحبه ووسائله، فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع، كما يمتنع وجود العلم والإرادة بلا حياة، ويمتنع وجود المولود -مع كونه مولودا - بلا ولادة.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح، حديث الاستفتاح:
" «والخير كله بيديك، والشر ليس إليك» " وقد قيل: في تفسيره لا يتقرب به إليك بناء على أنه الأعمال المنهي عنها، وقد قيل:
لا يضاف إليك بناء على أنه المخلوق.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
والحمد مفتاح كل أمر ذي بال: من مناجاة الرب ومخاطبة العباد بعضهم بعضا والشهادة مقرونة بالحمد وبالتكبير فهي في الأذان وفي الخطب خاتمة الثناء فتذكر بعد التكبير ثم يخاطب الناس بقول المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح وتذكر في الخطب ثم يخاطب الناس بقول: أما بعد وتذكر في التشهد ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فالحمد والتوحيد مقدم في خطاب الخلق للخالق والحمد له الابتداء.
فإن الله لما خلق آدم عليه السلام أول ما أنطقه بالحمد فإنه عطس وقال: الحمد لله رب العالمين فقال الله: يرحمك ربك وكان أول ما نطق به الحمد وأول ما سمع من الله الرحمة وبه افتتح الله أم القرآن والتشهد هو الخاتمة.
فأول الفاتحة {الحمد لله} وآخر ما للرب {إياك نعبد}. وكذلك التشهد. والخطب فيها التشهد بعد الفاتحة. فأن يتضمن إلهية الرب وهو أن يكون الرب هو المعبود هذا هو الغاية التي ينتهي إليها أعمال العباد و {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} لكن قدم الحمد؛ لأن الحمد يكون من الله ويكون من الخلق.
وهو باق في الجنة: فآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين بخلاف العبادة. فإن العبادة إنما تكون في الدنيا بالسجود ونحوه وتوحيده وذكره باق في الجنة يلهمه أهل الجنة كما يلهمهم النفس.
وهذه الأذكار هي من جنس الأقوال ليست من العبادات العملية كالسجود والقيام والإحرام والرب تعالى يحمد نفسه ولا يعبد نفسه فالحمد أوسع العلوم الإلهية والحمد يفتح به ويختم به. فالسنة لمن أكل وشرب أن يحمد الله وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها} وقال تعالى:
{وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} وقال تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وقال: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}.
وسئل:
عن " الحمد والشكر " ما حقيقتهما؟ هل هما معنى واحد أو معنيان؟ وعلى أي شيء يكون الحمد؟ وعلى أي شيء يكون الشكر؟.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، " الحمد " يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان فإن الله تعالى يحمد على ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى وما خلقه في الآخرة والأولى؛ ولهذا قال تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} وقال: {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة} وقال: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء}.
وأما " الشكر " فإنه لا يكون إلا على الإنعام فهو أخص من الحمد من هذا الوجه؛ لكنه يكون بالقلب واليد واللسان كما قيل: أفادتكم النعماء مني ثلاثة: يدي ولساني والضمير المحجبا ولهذا قال تعالى: {اعملوا آل داود شكرا}. و " الحمد " إنما يكون بالقلب واللسان فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه والحمد أعم من جهة أسبابه ومن هذا الحديث {الحمد لله رأس الشكر فمن لم يحمد الله لم يشكره} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها} والله أعلم.
تلخيص مناظرة في " الحمد والشكر "
بحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وبين ابن المرحل
كان الكلام في الحمد والشكر وأن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح والحمد لا يكون إلا باللسان. فقال ابن المرحل: قد نقل بعض المصنفين - وسماه -: أن مذهب أهل السنة والجماعة: أن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد. ومذهب الخوارج: أنه يكون بالاعتقاد والقول والعمل وبنوا على هذا: أن من ترك الأعمال يكون كافرا. لأن الكفر نقيض الشكر فإذا لم يكن شاكرا كان كافرا. قال الشيخ تقي الدين: هذا المذهب المحكي عن أهل السنة خطأ والنقل عن أهل السنة خطأ.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (16)
من صــ 346 الى صــ 352
فإن مذهب أهل السنة: أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل. قال الله تعالى: {اعملوا آل داود شكرا} {وقام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:
أفلا أكون عبدا شكورا}. قال ابن المرحل: أنا لا أتكلم في الدليل وأسلم ضعف هذا القول؛ لكن أنا أنقل أنه مذهب أهل السنة. قال الشيخ تقي الدين:
نسبة هذا إلى أهل السنة خطأ فإن القول إذا ثبت ضعفه كيف ينسب إلى أهل الحق؟ ثم قد صرح من شاء الله من العلماء المعروفين بالسنة أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل وقد دل على ذلك الكتاب والسنة. قلت: وباب سجود الشكر في الفقه أشهر من أن يذكر وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم عن سجدة سورة ص سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا}.
ثم من الذي قال من أئمة السنة: إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد؟. قال ابن المرحل: - هذا قد نقل والنقل لا يمنع لكن يستشكل. ويقال: هذا مذهب مشكل.
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: النقل نوعان. أحدهما: أن ينقل ما سمع أو رأى. والثاني: ما ينقل باجتهاد واستنباط. وقول القائل: مذهب فلان كذا أو مذهب أهل السنة كذا قد يكون نسبه إليه لاعتقاده أن هذا مقتضى أصوله وإن لم يكن فلان قال ذلك. ومثل هذا يدخله الخطأ كثيرا.
ألا ترى أن كثيرا من المصنفين يقولون: مذهب الشافعي أو غيره كذا ويكون منصوصه بخلافه؟ وعذرهم في ذلك: أنهم رأوا أن أصوله تقتضي ذلك القول فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط لا من جهة النص؟. وكذلك هذا لما كان أهل السنة لا يكفرون بالمعاصي والخوارج يكفرون بالمعاصي. ثم رأى المصنف الكفر ضد الشكر -:
أعتقد أنا إذا جعلنا الأعمال شكرا لزم انتفاء الشكر بانتفائها ومتى انتفى الشكر خلفه الكفر ولهذا قال: إنهم بنوا على ذلك: التكفير بالذنوب. فلهذا عزي إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر. قلت: كما أن كثيرا من المتكلمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة. قال: وهذا خطأ لأن التكفير نوعان: أحدهما: كفر النعمة. والثاني: الكفر بالله. والكفر الذي هو ضد الشكر:
إنما هو كفر النعمة لا الكفر بالله. فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة لا الكفر بالله. قلت: على أنه لو كان ضد الكفر بالله فمن ترك الأعمال شاكرا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله. والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية. كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرا حتى يترك أصل الإيمان. وهو الاعتقاد.
ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة - التي هي ذات شعب وأجزاء - زوال اسمها كالإنسان إذا قطعت يده أو الشجرة إذا قطع بعض فروعها. قال الصدر ابن المرحل: فإن أصحابك قد خالفوا الحسن البصري في تسمية الفاسق كافر النعمة كما خالفوا الخوارج في جعله كافرا بالله. قال الشيخ تقي الدين: أصحابي لم يخالفوا الحسن في هذا فعمن تنقل من أصحابي هذا؟ بل يجوز عندهم أن يسمى الفاسق كافر النعمة حيث أطلقته الشريعة.
قال ابن المرحل: إني أنا ظننت أن أصحابك قد قالوا هذا لكن أصحابي قد خالفوا الحسن في هذا. قال الشيخ تقي الدين: - ولا أصحابك خالفوه. فإن أصحابك قد تأولوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي أطلق فيها الكفر على بعض الفسوق - مثل ترك الصلاة. وقتال المسلمين - على أن المراد به كفر النعمة. فعلم أنهم يطلقون على المعاصي في الجملة أنها كفر النعمة.
فعلم أنهم موافقو الحسن لا مخالفوه. ثم عاد ابن المرحل فقال: أنا أنقل هذا عن المصنف. والنقل ما يمنع لكن يستشكل. قال الشيخ تقي الدين: إذا دار الأمر بين أن ينسب إلى أهل السنة مذهب باطل أو ينسب الناقل عنهم إلى تصرفه في النقل كان نسبة الناقل إلى التصرف أولى من نسبة الباطل إلى طائفة أهل الحق مع أنهم صرحوا في غير موضع:
أن الشكر يكون بالقول والعمل والاعتقاد. وهذا أظهر من أن ينقل عن واحد بعينه. ثم إنا نعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول أهل الحق: إخراج الأعمال أن تكون شكرا لله. بل قد نص الفقهاء على أن الزكاة شكر نعمة المال. وشواهد هذا أكثر من أن تحتاج إلى نقل.
وتفسير الشكر بأنه يكون بالقول والعمل في الكتب التي يتكلم فيها على لفظ " الحمد " " والشكر " مثل كتب التفسير واللغة وشروح الحديث يعرفه آحاد الناس. والكتاب والسنة قد دلا على ذلك.
فخرج ابن المرحل إلى شيء غير هذا فقال: - الحسن البصري يسمى الفاسق منافقا وأصحابك لا يسمونه منافقا. قال الشيخ تقي الدين له: بل يسمى منافقا النفاق الأصغر لا النفاق الأكبر. والنفاق يطلق على النفاق الأكبر الذي هو إضمار الكفر وعلى النفاق الأصغر الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات. قال له ابن المرحل: - ومن أين قلت: إن الاسم يطلق على هذا وعلى هذا؟.
قال الشيخ تقي الدين: - هذا مشهور عند العلماء. وبذلك فسروا قول النبي صلى الله عليه وسلم {آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان} وقد ذكر ذلك الترمذي وغيره. وحكوه عن العلماء. وقال غير واحد من السلف " كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك ".
وإذا كان النفاق جنسا تحته نوعان فالفاسق داخل في أحد نوعيه.
قال ابن المرحل: كيف تجعل النفاق اسم جنس وقد جعلته لفظا مشتركا وإذا كان اسم جنس كان متواطئا والأسماء المتواطئة غير المشتركة فكيف تجعله مشتركا متواطئا ". قال الشيخ تقي الدين: أنا لم أذكر أنه مشترك.
وإنما قلت: يطلق على هذا وعلى هذا والإطلاق أعم. ثم لو قلت: إنه مشترك لكان الكلام صحيحا. فإن اللفظ الواحد قد يطلق على شيئين بطريق التواطؤ وبطريق الاشتراك. فأطلقت لفظ النفاق على إبطان الكفر وإبطان المعصية تارة بطريق الاشتراك وتارة بطريق التواطؤ كما أن لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن عند قوم باعتبار الاشتراك وعند قوم باعتبار التواطؤ. ولهذا سمي مشككا. قال ابن المرحل: - كيف يكون هذا؟ وأخذ في كلام لا يحسن ذكره.
قال له الشيخ تقي الدين: - المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر. وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز واللفظ يطلق على كل منهما فقد يطلق عليهما باعتبار ما به تمتاز كل ماهية عن الأخرى. فيكون مشتركا كالاشتراك اللفظي. وقد يكون مطلقا باعتبار القدر المشترك بين الماهيتين. فيكون لفظا متواطئا.
قلت: ثم إنه في اللغة يكون موضوعا للقدر المشترك ثم يغلب عرف الاستعمال على استعماله: في هذا تارة وفي هذا تارة. فيبقى دالا بعرف الاستعمال على ما به الاشتراك والامتياز.
وقد يكون قرينة مثل لام التعريف أو الإضافة تكون هي الدالة على ما به الامتياز مثال ذلك: " اسم الجنس " إذا غلب في العرف على بعض أنواعه كلفظ الدابة إذا غلب على الفرس قد نطلقه على الفرس باعتبار القدر المشترك بينها وبين سائر الدواب.
فيكون متواطئا. وقد نطلقه باعتبار خصوصية الفرس فيكون مشتركا بين خصوص الفرس وعموم سائر الدواب ويصير استعماله في الفرس: تارة بطريق التواطؤ وتارة بطريق الاشتراك. وهكذا اسم الجنس إذا غلب على بعض الأشخاص وصار علما بالغلبة:
مثل ابن عمرو والنجم فقد نطلقه عليه باعتبار القدر المشترك بينه وبين سائر النجوم وسائر بني عمرو. فيكون إطلاقه عليه بطريق التواطؤ. وقد نطلقه عليه باعتبار ما به يمتاز عن غيره من النجوم ومن بني عمرو.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (17)
من صــ 353 الى صــ 359
فيكون بطريق الاشتراك بين هذا المعنى الشخصي وبين المعنى النوعي.
وهكذا كل اسم عام غلب على بعض أفراده يصح استعماله في ذلك الفرد بالوضع الأول العام فيكون بطريق التواطؤ وبالوضع الثاني فيصير بطريق الاشتراك.
ولفظ " النفاق " من هذا الباب. فإنه في الشرع إظهار الدين وإبطان خلافه. وهذا المعنى الشرعي أخص من مسمى النفاق في اللغة فإنه في اللغة أعم من إظهار الدين. ثم إبطان ما يخالف الدين إما أن يكون كفرا أو فسقا.
فإذا أظهر أنه مؤمن وأبطن التكذيب فهذا هو النفاق الأكبر الذي أوعد صاحبه بأنه في الدرك الأسفل من النار. وإن أظهر أنه صادق أو موف أو أمين وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك. فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقا.
فإطلاق النفاق عليهما في الأصل بطريق التواطؤ. وعلى هذا؛ فالنفاق اسم جنس تحته نوعان. ثم إنه قد يراد به النفاق في أصل الدين مثل قوله {إن المنافقين في الدرك الأسفل} و {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} والمنافق هنا: الكافر. وقد يراد به النفاق في فروعه. مثل قوله صلى الله عليه وسلم:
{آية المنافق ثلاث} وقوله {أربع من كن فيه كان منافقا خالصا} وقول ابن عمر: فيمن يتحدث عند الأمراء بحديث. ثم يخرج فيقول بخلافه " كنا نعد هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نفاقا " فإذا أردت به أحد النوعين. فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية مثل لام العهد؛ والإضافة. فهذا لا يخرجه عن أن يكون متواطئا كما إذا قال الرجل: جاء القاضي.
وعنى به قاضي بلده لكون اللام للعهد. كما قال سبحانه: {فعصى فرعون الرسول} أن اللام هي أوجبت قصر الرسول على موسى لا نفس لفظ " رسول ".
وإما أن يكون لغلبة الاستعمال عليه فيصير مشتركا بين اللفظ العام والمعنى الخاص. فكذلك قوله {إذا جاءك المنافقون} فإن تخصيص هذا اللفظ بالكافر إما أن يكون لدخول اللام التي تفيد العهد والمنافق المعهود: هو الكافر.
أو تكون لغلبة هذا الاسم في الشرع على نفاق الكفر. وقوله صلى الله عليه وسلم {ثلاث من كن فيه كان منافقا} يعني به منافقا بالمعنى العام وهو إظهاره من الدين خلاف ما يبطن. فإطلاق لفظ " النفاق " على الكافر وعلى الفاسق إن أطلقته باعتبار ما يمتاز به عن الفاسق.
كان إطلاقه عليه وعلى الفاسق باعتبار الاشتراك. وكذلك يجوز أن يراد به الكافر خاصة. ويكون متواطئا إذا كان الدال على الخصوصية غير لفظ " منافق " بل لام التعريف.
وهذا البحث الشريف جار في كل لفظ عام استعمل في بعض أنواعه إما لغلبة الاستعمال أو لدلالة لفظية خصته بذلك النوع. مثل تعريف الإضافة أو تعريف اللام. فإن كان لغلبة الاستعمال صح أن يقال: إن اللفظ مشترك. وإن كان لدلالة لفظية كان اللفظ باقيا على مواطأته. فلهذا صح أن يقال " النفاق " اسم جنس تحته نوعان. لكون اللفظ في الأصل عاما متواطئا.
وصح أن يقال: هو مشترك بين النفاق في أصل الدين وبين مطلق النفاق في الدين. لكونه في عرف الاستعمال الشرعي غلب على نفاق الكفر.
بحث ثان
وهو أن الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص.
فالحمد أعم من جهة أسبابه التي يقع عليها؛ فإنه يكون على جميع الصفات والشكر لا يكون إلا على الإحسان. والشكر أعم من جهة ما به يقع فإنه يكون بالاعتقاد والقول والفعل. والحمد يكون بالفعل أو بالقول أو بالاعتقاد. أورد الشيخ الإمام زين الدين ابن المنجا الحنبلي: أن هذا الفرق إنما هو من جهة متعلق الحمد والشكر لأن كونه يقع على كذا ويقع بكذا خارج عن ذاته فلا يكون فرقا في الحقيقة والحدود إنما يتعرض فيها لصفات الذات لا لما خرج عنها.
فقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية: - المعاني على قسمين: مفردة ومضافة. فالمعاني المفردة: حدودها لا توجد فيها بتعلقاتها. وأما المعاني الإضافية فلا بد أن يوجد في حدودها تلك الإضافات. فإنها داخلة في حقيقتها. ولا يمكن تصورها إلا بتصور تلك المتعلقات فتكون المتعلقات جزءا من حقيقتها فتعين ذكرها في الحدود.
والحمد والشكر معلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. فلا يتم ذكر حقيقتهما إلا بذكر متعلقهما. فيكون متعلقهما داخلا في حقيقتهما. فاعترض الصدر ابن المرحل: بأنه ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية.
فلا يكون للحمد والشكر من متعلقهما صفة ثبوتية. فإن المتعلق صفة نسبية. والنسب أمور عدمية. وإذا لم تكن صفة ثبوتية لم تكن داخلة في الحقيقة. لأن العدم لا يكون جزءا من الوجود. فقال الشيخ تقي الدين: قولك: ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية. ليس على العموم.
بل قد يكون للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية وقد لا يكون. وإنما الذي يقوله أكثر المتكلمين: ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية. ثم الصفات المتعلقة نوعان: أحدهما: إضافة محضة. مثل الأبوة والبنوة والفوقية والتحتية ونحوها.
فهذه الصفة هي التي يقال فيها: هي مجرد نسبة وإضافة. والنسب أمور عدمية. والثاني صفة ثبوتية مضافة إلى غيرها كالحب والبغض والإرادة والكراهة والقدرة وغير ذلك من الصفات فإن الحب صفة ثبوتية متعلقة بالمحبوب. فالحب معروض للإضافة بمعنى أن الإضافة صفة عرضت له؛ لا أن نفس الحب هو الإضافة. ففرق بين ما هو إضافة وبين ما هو صفة مضافة. فالإضافة يقال فيها: إنها عدمية.
قال: وأما الصفة المضافة فقد تكون ثبوتية كالحب. قال ابن المرحل: الحب أمر عدمي. لأن الحب نسبة والنسب عدمية. قال الشيخ تقي الدين: كون الحب والبغض والإرادة والكراهة أمرا عدميا باطل. بالضرورة.
وهو خلاف إجماع العقلاء. ثم هو مذهب بعض المعتزلة في إرادة الله. فإنه زعم أنها صفة سلبية. بمعنى أنه غير مغلوب ولا مستكره. وأطبق الناس على بطلان هذا القول. وأما إرادة المخلوق وحبه وبغضه فلم نعلم أحدا من العقلاء قال: إنه عدمي. فأصر ابن المرحل على أن الحب - الذي هو ميل القلب إلى المحبوب - أمر عدمي. وقال: المحبة: أمر وجودي.
قال الشيخ تقي الدين: - المحبة هي الحب. فإنه يقال: أحبه وحبه حبا ومحبة. ولا فرق. وكلاهما مصدر. قال ابن المرحل: وأنا أقول: إنهما إذا كانا مصدرين فهما أمر عدمي. قال له الشيخ تقي الدين: الكلام إذا انتهى إلى المقدمات الضرورية فقد انتهى وتم.
وكون الحب والبغض أمرا وجوديا معلوم بالاضطرار؛ فإن كل أحد يعلم أن الحي إن كان خاليا عن الحب كان هذا الخلو صفة عدمية. فإذا صار محبا فقد تغير الموصوف وصار له صفة ثبوتية زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحب.
ومن يحس ذلك من نفسه يجده كما يجد شهوته ونفرته ورضاه وغضبه ولذته وألمه. ودليل ذلك: أنك تقول: أحب يحب محبة. ونقيض أحب: لم يحب. ولم يحب صفة عدمية ونقيض العدم الإثبات. قال ابن المرحل: هذا ينتقض بقولهم: امتنع يمتنع؛ فإن نقيض الامتناع: لا امتناع.
وامتناع صفة عدمية. قال الشيخ تقي الدين: الامتناع أمر اعتباري عقلي؛ فإن الممتنع ليس له وجود خارجي. حتى تقوم به صفة. وإنما هو معلوم بالعقل.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (18)
من صــ 360 الى صــ 366
وباعتبار كونه معلوما له ثبوت علمي وسلب هذا الثبوت العلمي: عدم هذا الثبوت؛ فلم ينقض هذا قولنا: نقيض العدم ثبوت وأما الحب فإنه صفة قائمة بالمحب. فإنك تشير إلى عين خارجة وتقول: هذا الحي صار محبا بعد أن لم يكن محبا. فتخبر عن الوجود الخارجي.
فإذا كان نقيضها عدما خارجيا كانت وجودا خارجيا.
وفي الجملة: فكون الحب والبغض صفة ثبوتية وجودية معلوم بالضرورة. فلا يقبل فيه نزاع ولا يناظر صاحبه إلا مناظرة السوفسطائية. قلت: وإذا كان الحب والبغض ونحوهما من الصفات المضافة المتعلقة بالغير: صفات وجودية. ظهر الفرق بين الصفات التي هي إضافة ونسبة. وبين الصفات التي هي مضافة منسوبة.
فالحمد والشكر من القسم الثاني؛ فإن الحمد أمر وجودي متعلق بالمحمود عليه. وكذلك الشكر أمر وجودي متعلق بالمشكور عليه. فلا يتم فهم حقيقتهما إلا بفهم الصفة الثبوتية لهما التي هي متعلقة بالغير.
وتلك الصفة داخلة في حقيقتهما. فإذا كان متعلق أحدهما أكبر من متعلق الآخر وذلك التعلق إنما هو عارض لصفة ثبوتية لهما. وجب ذكر تلك الصفة الثبوتية في ذكر حقيقتهما. والدليل على هذا: أن من لم يفهم الإحسان امتنع أن يفهم الشكر
فعلم أن تصور متعلق الشكر داخل في تصور الشكر. قلت: ولو قيل: إنه ليس هذا إلا أمرا عدميا. فالحقيقة إن كانت مركبة من وجود وعدم وجب ذكرهما في تعريف الحقيقة. كما أن من عرف الأب من حيث هو أب. فإن تصوره موقوف على تصور الأبوة التي هي نسبة وإضافة. وإن كان الأب أمرا وجوديا.
فالحمد والشكر متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. وإن لم يكن هذا المتعلق عارضا لصفة ثبوتية. فلا يفهم الحمد والشكر إلا بفهم هذا المتعلق. كما لا يفهم معنى الأب إلا بفهم معنى الأبوة الذي هو التعلق. وكذلك الحمد والشكر أمران متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه. وهذا التعلق جزء من هذا المسمى. بدليل أن من لم يفهم الصفات الجميلة لم يفهم الحمد. ومن لم يفهم الإحسان لم يفهم الشكر.
فإذا كان فهمها موقوفا على فهم متعلقهما فوقوفه على فهم التعلق أولى. فإن التعلق فرع على المتعلق. وتبع له. فإذا توقف فهمهما على فهم المتعلق الذي هو أبعد عنهما من التعلق. فتوقفه على فهم التعلق أولى. وإن كان التعلق أمرا عدميا. والله أعلم.
قال له الشيخ تقي الدين ابن تيمية: - قوله: {وأحل الله البيع} قد أتبع بقوله {وحرم الربا} وعامة أنواع الربا يسمى بيعا. والربا - وإن كان اسما مجملا - فهو مجهول. واستثناء المجهول من المعلوم يوجب جهالة المستثنى فيبقى المراد إحلال البيع الذي ليس بربا.
فما لم يثبت أن الفرد المعين ليس بربا لم يصح إدخاله في البيع الحلال. وهذا يمنع دعوى العموم. وإن كان الربا اسما عاما فهو مستثنى من البيع أيضا. فيبقى البيع لفظا مخصوصا. فلا يصح ادعاء العموم على الإطلاق. قال ابن المرحل: - هذا من باب التخصيص. وهنا عمومان تعارضا وليس من باب الاستثناء. فإن صيغ الاستثناء معلومة.
وإذا كان هذا تخصيصا لم يمنع ادعاء العموم فيه. قال الشيخ تقي الدين: - هذا كلام متصل بعضه ببعض وهو من باب التخصيص المتصل. وتسميه الفقهاء استثناء كقوله: له هذه الدار ولي منها هذا البيت. فإن هذا بمنزلة قوله: إلا هذا البيت. وكذلك لو قال: أكرم هؤلاء القوم ولا تكرم فلانا وهو منهم. كان بمنزلة قوله: إلا فلانا. وإذا كان كذلك صار بمنزلة قوله: أحل الله البيع إلا ما كان منه ربا.
فمن ادعى بعد هذا أنه عام في كل ما يسمى بيعا فهو مخطئ. قال ابن المرحل: أنا أسلم أنه إنما هو عام في كل بيع لا يسمى ربا. قال له الشيخ تقي الدين: وهذا كان المقصود. ولكن بطل بهذا دعوى عمومه على الإطلاق؛ فإن دعوى العموم على الإطلاق ينافي دعوى العموم في بعض الأنواع دون بعض. وهذا كلام بين. وادعى مدع. أن فيه قولين.
أحدهما: أنه عام مخصوص. والثاني: أنه عموم مراد. فقال الشيخ تقي الدين: فإن دعوى أنه عموم مراد: باطل قطعا فإنا نعلم أن كثيرا من أفراد البيع حرام. فاعترض ابن المرحل: بأن تلك الأفراد حرمت بعدما أحلت.
فيكون نسخا. قال الشيخ تقي الدين: - فيلزم من هذا أن لا نحرم شيئا من البيوع بخبر واحد ولا بقياس. فإن نسخ القرآن لا يجوز بذلك. وإنما يجوز تخصيصه به. وقد اتفق الفقهاء على التحريم بهذه الطريقة.
قال ابن المرحل: رجعت عن هذا السؤال؛ لكن أقول هو عموم مراد في كل ما يسمى بيعا في الشرع. فإن البيع من الأسماء المنقولة إلى كل بيع صحيح شرعي. قال الشيخ تقي الدين: البيع ليس من الأسماء المنقولة؛ فإن مسماه في الشرع والعرف هو المسمى اللغوي؛ لكن الشارع اشترط لحله وصحته شروطا. كما قد كان أهل الجاهلية لهم شروط أيضا بحسب اصطلاحهم. وهكذا سائر أسماء العقود مثل الإجارة والرهن والهبة والقرض والنكاح. إذا أريد به العقد وغير ذلك: هي باقية على مسمياتها.
والنقل إنما يحتاج إليه إذا أحدث الشارع معاني لم تكن العرب تعرفها. مثل الصلاة والزكاة والتيمم. فحينئذ يحتاج إلى النقل. ومعاني هذه العقود ما زالت معروفة. قال ابن المرحل: أصحابي قد قالوا: إنها منقولة. قال الشيخ تقي الدين: لو كان لفظ البيع في الآية المراد به البيع الصحيح الشرعي لكان التقدير: أحل الله البيع الصحيح الشرعي.
أو أحل الله البيع الذي هو عنده حلال. وهذا - مع أنه مكرر - فإنه يمنع الاستدلال بالآية. فإنا لا نعلم دخول بيع من البيوع في الآية حتى نعلم أنه بيع صحيح شرعي. ومتى علمنا ذلك استغنينا عن الاستدلال بالآية.
قال ابن المرحل: - متى ثبت أن هذا الفرد يسمى بيعا في اللغة.
قلت: هو بيع في الشرع؛ لأن الأصل عدم النقل وإذا كان بيعا في الشرع دخل في الآية. قال الشيخ تقي الدين: هذا إنما يصح لو لم يثبت أن الاسم منقول أما إذا ثبت أنه منقول. لم يصح إدخال فرد فيه. حتى يثبت أن الاسم المنقول واقع عليه.
وإلا فيلزم من هذا أن كل ما سمي في اللغة صلاة وزكاة وتيمما وصوما وبيعا وإجارة ورهنا: أنه يجوز إدخاله في المسمى الشرعي بهذا الاعتبار. وعلى هذا التقدير:
فلا يبقى فرق بين الأسماء المنقولة وغيرها. وإنما يقال: الأصل عدم النقل إذا لم يثبت. بل متى ثبت النقل فالأصل عدم دخول هذا الفرد في الاسم المنقول حتى يثبت أنه داخل فيه بعد النقل.
فصل:
قال الله عز وجل في أول السورة: {الحمد لله رب العالمين} فبدأ بهذين الاسمين: الله والرب. و " الله " هو الإله المعبود فهذا الاسم أحق بالعبادة؛ ولهذا يقال: الله أكبر. الحمد لله سبحان الله لا إله إلا الله و " الرب " هو المربي الخالق الرازق الناصر الهادي وهذا الاسم أحق باسم الاستعانة والمسألة.
ولهذا يقال: {رب اغفر لي ولوالدي} {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.
فعامة المسألة والاستعانة المشروعة باسم الرب. فالاسم الأول يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه وما خلق له وما فيه صلاحه وكماله وهو عبادة الله والاسم الثاني يتضمن خلق العبد ومبتداه وهو أنه يربه ويتولاه مع أن الثاني يدخل في الأول دخول الربوبية في الإلهية والربوبية تستلزم الألوهية أيضا. والاسم " الرحمن " يتضمن كمال التعليقين وبوصف الحالين فيه تتم سعادته في دنياه وأخراه.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (19)
من صــ 367 الى صــ 373
ولهذا قال تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} فذكر هنا الأسماء الثلاثة:
(الرحمن و (ربي و (الإله وقال: {عليه توكلت وإليه متاب} كما ذكر الأسماء الثلاثة في أم القرآن؛ لكن بدأ هناك باسم الله؛ولهذا بدأ في السورة بـ (إياك نعبد) فقدم الاسم وما يتعلق به من العبادة؛ لأن تلك السورة فاتحة الكتاب وأم القرآن فقدم فيها المقصود الذي هو العلة الغائية فإنها علة فاعلية للعلة الغائية.
وقد بسطت هذا المعنى في مواضع؛ في أول " التفسير " وفي " قاعدة المحبة والإرادة " وفي غير ذلك.
فصل:
ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود وقصدهم لدفع حاجاتهم العاجلة قبل الآجلة كان إقرارهم بالله من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته وكان الدعاء له والاستعانة به والتوكل عليه فيهم أكثر من العبادة له والإنابة إليه. ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية وقد أخبر عنهم أنهم {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} وأنهم إذا مسهم الضر ضل من يدعون إلا إياه وقال:
{وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} فأخبر أنهم مقرون بربوبيته وأنهم مخلصون له الدين إذا مسهم الضر في دعائهم واستعانتهم ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم.
وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية وأما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية وكذلك كثير من المتصوفة المتعبدة وأرباب الأحوال إنما توجههم إلى الله من جهة ربوبيته؛ لما يمدهم به في الباطن من الأحوال التي بها يتصرفون وهؤلاء من جنس الملوك وقد ذم الله عز وجل في القرآن هذا الصنف كثيرا فتدبر هذا فإنه تنكشف به أحوال قوم يتكلمون في الحقائق ويعملون عليها وهم لعمري في نوع من الحقائق الكونية القدرية الربوبية لا في الحقائق الدينية الشرعية الإلهية وقد تكلمت على هذا المعنى في مواضع متعددة وهو أصل عظيم يجب الاعتناء به والله سبحانه أعلم.
فصل:
وذلك أن الإنسان بل وجميع المخلوقات عباد لله تعالى فقراء إليه مماليك له وهو ربهم ومليكهم وإلههم لا إله إلا هو فالمخلوق ليس له من نفسه شيء أصلا؛ بل نفسه وصفاته وأفعاله وما ينتفع به أو يستحقه وغير ذلك إنما هو من خلق الله والله عز وجل رب ذلك كله ومليكه وبارئه وخالقه ومصوره.
وإذا قلنا ليس له من نفسه إلا العدم فالعدم ليس هو شيئا يفتقر إلى فاعل موجود؛ بل العدم ليس بشيء وبقاؤه مشروط بعدم فعل الفاعل لا أن عدم الفاعل يوجبه ويقتضيه كما يوجب الفاعل المفعول الموجود؛ بل قد يضاف عدم المعلول إلى عدم العلة وبينهما فرق وذلك أن المفعول الموجود إنما خلقه وأبدعه الفاعل وليس المعدوم أبدعه عدم الفاعل فإنه يفضي إلى التسلسل والدور؛ ولأنه ليس اقتضاء أحد العدمين للآخر بأولى من العكس؛ فإنه ليس أحد العدمين مميزا لحقيقة استوجب بها أن يكون فاعلا وإن كان يعقل أن عدم المقتضي أولى بعدم الأثر من العكس فهذا لأنه لما كان وجود المقتضي هو المفيد لوجود المقتضي صار العقل يضيف عدمه إلى عدمه إضافة لزومية؛ لأن عدم الشيء إما أن يكون لعدم المقتضي أو لوجود المانع.
وبعد قيام المقتضي لا يتصور أن يكون العدم إلا لأجل هاتين الصورتين أو الحالتين؛ فلما كان الشيء الذي انعقد سبب وجوده يعوقه ويمنعه المانع المنافي وهو أمر موجود وتارة لا يكون سببه قد انعقد صار عدمه تارة ينسب إلى عدم مقتضيه وتارة إلى وجود مانعه ومنافيه. وهذا معنى قول المسلمين:
ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ إذ مشيئته هي الموجبة وحدها لا غيرها فيلزم من انتفائها انتفاؤه لا يكون شيء حتى تكون مشيئته لا يكون شيء بدونها بحال فليس لنا سبب يقتضي وجود شيء حتى تكون مشيئته مانعة من وجوده بل مشيئته هي السبب الكامل فمع وجودها لا مانع ومع عدمها لا مقتضى {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}.
وإذا عرف أن العبد ليس له من نفسه خير أصلا؛ بل ما بنا من نعمة فمن الله وإذا مسنا الضر فإليه نجأر والخير كله بيديه كما قال: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقال: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في سيد الاستغفار الذي في صحيح البخاري:
{اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} وقال في دعاء الاستفتاح الذي في صحيح مسلم:{لبيك وسعديك والخير بيديك والشر ليس إليك تباركت ربنا وتعاليت}. وذلك أن الشر إما أن يكون موجودا أو معدوما فالمعدوم سواء كان عدم ذات أو عدم صفة من صفات كمالها أو فعل من أفعالها مثل عدم الحياة أو العلم أو السمع أو البصر أو الكلام أو العقل أو العمل الصالح على تنوع أصنافه مثل معرفة الله ومحبته وعبادته والتوكل عليه والإنابة إليه ورجائه وخشيته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وغير ذلك من الأمور المحمودة الباطنة والظاهرة من الأقوال والأفعال.
فإن هذه الأمور كلها خيرات وحسنات وعدمها شر وسيئات؛ لكن هذا العدم ليس بشيء أصلا حتى يكون له بارئ وفاعل فيضاف إلى الله وإنما هو من لوازم النفس التي هي حقيقة الإنسان قبل أن تخلق وبعد أن خلقت؛ فإنها قبل أن تخلق عدم مستلزم لهذا العدم وبعد أن خلقت - وقد خلقت ضعيفة ناقصة - فيها النقص والضعف والعجز فإن هذه الأمور عدمية فأضيف إلى النفس من باب إضافة عدم المعلول إلى عدم علته وعدم مقتضيه وقد تكون من باب إضافته إلى وجود منافيه من وجه آخر سنبينه إن شاء الله تعالى.
و " نكتة الأمر " أن هذا الشر والسيئات العدمية ليست موجودة حتى يكون الله خالقها فإن الله خالق كل شيء.
والمعدومات تنسب تارة إلى عدم فاعلها وتارة إلى وجود مانعها فلا تنسب إليه هذه الشرور العدمية على الوجهين:
أما " الأول " فلأنه الحق المبين فلا يقال عدمت لعدم فاعلها ومقتضيها.
وأما " الثاني " - وهو وجود المانع - فلأن المانع إنما يحتاج إليه إذا وجد المقتضي ولو شاء فعلها لما منعه مانع وهو - سبحانه - لا يمنع نفسه ما شاء فعله؛ بل هو فعال لما يشاء؛ ولكن الله قد يخلق هذا سببا ومقتضيا ومانعا فإن جعل السبب تاما لم يمنعه شيء وإن لم يجعله تاما منعه المانع لضعف السبب وعدم إعانة الله له فلا يعدم أمر إلا لأنه لم يشأه كما لا يوجد أمر إلا لأنه يشاؤه وإنما تضاف هذه السيئات العدمية إلى العبد لعدم السبب منه تارة ولوجود المانع منه أخرى.
أما عدم السبب فظاهر فإنه ليس منه قوة ولا حول ولا خير ولا سبب خير أصالة ولو كان منه شيء لكان سببا فأضيف إليه لعدم السبب؛ ولأنه قد صدرت منه أفعال كان سببا لها بإعانة الله له فما لم يصدر منه كان لعدم السبب.
وأما وجود المانع المضاد له المنافي فلأن نفسه قد تضيق وتضعف وتعجز أن تجمع بين أفعال ممكنة في نفسها متنافية في حقه فإذا اشتغل بسمع شيء أو بصره أو الكلام في شيء أو النظر فيه أو إرادته أو اشتغلت جوارحه بعمل كثير اشتغلت عن عمل آخر وإن كان ذلك خيرا لضيقه وعجزه؛ فصار قيام إحدى الصفات والأفعال به مانعا وصادا عن آخر.
والضيق والعجز يعود إلى عدم قدرته فعاد إلى العدم الذي هو منه والعدم المحض ليس بشيء حتى يضاف إلى الله تعالى وأما إن كان الشيء موجودا كالألم وسبب الألم فينبغي أن يعرف أن الشر الموجود ليس شرا على الإطلاق ولا شرا محضا وإنما هو شر في حق من تألم به وقد تكون مصائب قوم عند قوم فوائد. ولهذا جاء في الحديث الذي رويناه مسلسلا {آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره} وفي الحديث الذي رواه أبو داود:
{لو أنفقت ملء الأرض ذهبا لما قبله منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك} فالخير والشر هما بحسب العبد المضاف إليه كالحلو والمر سواء وذلك أن من لم يتألم بالشيء ليس في حقه شرا ومن تنعم به فهو في حقه خير كما {كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من قص عليه أخوه رؤيا أن يقول:
خيرا تلقاه وشرا توقاه خيرا لنا وشرا لأعدائنا} فإنه إذا أصاب العبد شر سر قلب عدوه؛ فهو خير لهذا وشر لهذا؛ ومن لم يكن له وليا ولا عدوا فليس في حقه خيرا ولا شرا وليس في مخلوقات الله ما يؤلم الخلق كلهم دائما ولا ما يؤلم جمهورهم دائما؛ بل مخلوقاته إما منعمة لهم أو لجمهورهم في أغلب الأوقات كالشمس والعافية فلم يكن في الموجودات التي خلقها الله ما هو شر مطلقا عاما.
فعلم أن الشر المخلوق الموجود شر مقيد خاص وفيه وجه آخر هو به خير وحسن وهو أغلب وجهيه كما قال تعالى: {أحسن كل شيء خلقه} وقال تعالى:
{صنع الله الذي أتقن كل شيء} وقال تعالى: {ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} وقال: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا}. وقد علم المسلمون أن الله لم يخلق شيئا ما إلا لحكمة؛ فتلك الحكمة وجه حسنه وخيره ولا يكون في المخلوقات شر محض لا خير فيه ولا فائدة فيه بوجه من الوجوه؛ وبهذا يظهر معنى قوله:
{والشر ليس إليك} وكون الشر لم يضف إلى الله وحده؛ بل إما بطريق العموم أو يضاف إلى السبب أو يحذف فاعله.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (20)
من صــ 374 الى صــ 380
فهذا الشر الموجود الخاص المقيد سببه: إما عدم وإما وجود؛ فالعدم مثل عدم شرط أو جزء سبب إذ لا يكون سببه عدما محضا فإن العدم المحض لا يكون سببا تاما لوجود؛ ولكن يكون سبب الخير واللذة قد انعقد ولا يحصل الشرط فيقع الألم؛ وذلك مثل عدم فعل الواجبات الذي هو سبب الذم والعقاب ومثل عدم العلم الذي هو سبب ألم الجهل وعدم السمع والبصر والنطق الذي هو سبب الألم بالعمى والصمم والبكم وعدم الصحة والقوة الذي هو سبب الألم والمرض والضعف. فهذه المواضع ونحوها يكون الشر أيضا مضافا إلى العدم المضاف إلى العبد حتى يتحقق قول الخليل:
{وإذا مرضت فهو يشفين} فإن المرض وإن كان ألما موجودا فسببه ضعف القوة وانتفاء الصحة الموجودة وذلك عدم هو من الإنسان المعدوم بنفسه حتى يتحقق قول الحق {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقوله: {قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} ونحو ذلك فيما كان سببه عدم فعل الواجب وكذلك قول الصحابي: وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان.
يبين ذلك أن المحرمات جميعها من الكفر والفسوق والعصيان إنما يفعلها العبد لجهله أو لحاجته فإنه إذا كان عالما بمضرتها وهو غني عنها امتنع أن يفعلها والجهل أصله عدم والحاجة أصلها العدم.
فأصل وقوع السيئات منه عدم العلم والغنى ولهذا يقول في القرآن: {ما كانوا يستطيعون السمع} {أفلم تكونوا تعقلون}؟ {إنهم ألفوا آباءهم ضالين} {فهم على آثارهم يهرعون} إلى نحو هذه المعاني. وأما الموجود الذي هو سبب الشر الموجود الذي هو خاص كالآلام مثل الأفعال المحرمة من الكفر الذي هو تكذيب أو استكبار والفسوق الذي هو فعل المحرمات ونحو ذلك.
فإن ذلك سبب الذم والعقاب وكذلك تناول الأغذية الضارة وكذلك الحركات الشديدة المورثة للألم فهذا الوجود لا يكون وجودا تاما محضا؛ إذ الوجود التام المحض لا يورث إلا خيرا كما قلنا إن العدم المحض لا يقتضي وجودا؛ بل يكون وجودا ناقصا إما في السبب وإما في المحل كما يكون سبب التكذيب عدم معرفة الحق والإقرار به وسبب عدم هذا العلم والقول عدم أسبابه من النظر التام والاستماع التام لآيات الحق وأعلامه.
وسبب عدم النظر والاستماع: إما عدم المقتضي فيكون عدما محضا وإما وجود مانع من الكبر أو الحسد في النفس {والله لا يحب كل مختال فخور} وهو تصور باطل وسببه عدم غنى النفس بالحق فتعتاض عنه بالخيال الباطل.
و " الحسد " أيضا سببه عدم النعمة التي يصير بها مثل المحسود أو أفضل منه؛ فإن ذلك يوجب كراهة الحاسد لأن يكافئه المحسود أو يتفضل عليه. وكذلك الفسوق كالقتل والزنا وسائر القبائح إنما سببها حاجة النفس إلى الاشتفاء بالقتل والالتذاذ بالزنا وإلا فمن حصل غرضه بلا قتل أو نال اللذة بلا زنا لا يفعل ذلك والحاجة مصدرها العدم وهذا يبين - إذا تدبره الإنسان - أن الشر الموجود إذا أضيف إلى عدم أو وجود فلا بد أن يكون وجودا ناقصا فتارة يضاف إلى عدم كمال السبب أو فوات الشرط وتارة يضاف إلى وجود ويعبر عنه تارة بالسبب الناقص والمحل الناقص وسبب ذلك إما عدم شرط أو وجود مانع والمانع لا يكون مانعا إلا لضعف المقتضي وكل ما ذكرته واضح بين إلا هذا الموضع ففيه غموض يتبين عند التأمل وله طرفان:
" أحدهما " أن الموجود لا يكون سببه عدما محضا. و " الثاني " أن الموجود لا يكون سببا للعدم المحض وهذا معلوم بالبديهة أن الكائنات الموجودة لا تصدر إلا عن حق موجود.
ولهذا كان معلوما بالفطرة أنه لا بد لكل مصنوع من صانع كما قال تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} يقول: أخلقوا من غير خالق خلقهم أم هم خلقوا أنفسهم؟.
ومن المتكلمين من استدل على هذا المطلوب بالقياس وضرب المثال. والاستدلال عليه ممكن ودلائله كثيرة. والفطرة عند صحتها أشد إقرارا به وهو لها أبده وهي إليه أشد اضطرارا من المثال الذي يقاس به.
وقد اختلف أهل الأصول في العلة الشرعية هل يجوز تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي فيها مع قولهم: إن العدمي يعلل بالعدمي؟ فمنهم من قال:
يعلل به ومنهم من أنكر ذلك ومنهم من فصل بين ما لا يجوز أن يكون علة للوجود في قياس العلة ويجوز أن تكون علته له في قياس الدلالة فلا يضاف إليه في قياس الدلالة وهذا فصل الخطاب وهو أن قياس الدلالة يجوز أن يكون العدم فيه علة وجزءا من علة؛ لأن عدم الوصف قد يكون دليلا على وصف وجودي يقتضي الحكم.
وأما " قياس العلة " فلا يكون العدم فيه علة تامة؛ لكن يكون جزءا من العلة التامة وشرطا للعلة المقتضية التي ليست بتامة وقلنا: جزء من العلة التامة. وهو معنى كونه شرطا في اقتضاء العلة الوجودية وهذا نزاع لفظي فإذا حققت المعاني ارتفع. فهذا في بيان أحد الطرفين وهو أن الموجود لا يكون سببه عدما محضا.
وأما " الطرف الثاني " وهو أن الموجود لا يكون سببا لوجود يستلزم عدما فلأن العدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود بل يكفي فيه عدم السبب الموجود؛ ولأن السبب الموجود إذا أثر فلا بد أن يؤثر شيئا والعدم المحض ليس بشيء فالأثر الذي هو عدم محض بمنزلة عدم الأثر؛ بل إذا أثر الإعدام فالإعدام أمر وجودي فيه عدم فإن جعل الموجود معدوما والمعدوم موجودا أمر معقول أما جعل المعدوم معدوما فلا يعقل إلا بمعنى الإبقاء على العدم والإبقاء على العدم يكفي فيه عدم الفاعل والفرق معلوم بين عدم الفاعل وعدم الموجب في عدم العلة وبين فاعل العدم وموجب العدم وعلة العدم. والعدم لا يفتقر إلى الثاني؛ بل يكفي فيه الأول.
فتبين بذلك الطرفان وهو أن العدم المحض الذي ليس فيه شوب وجود لا يكون وجودا ما: لا سببا ولا مسببا ولا فاعلا ولا مفعولا أصلا فالوجود المحض التام الذي ليس فيه شوب عدم لا يكون سببا لعدم أصلا ولا مسببا عنه ولا فاعلا له ولا مفعولا أما كونه ليس مسببا عنه ولا مفعولا له فظاهر وأما كونه ليس سببا له فإن كان سببا لعدم محض فالعدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود وإن كان لعدم فيه وجود فذاك الوجود لا بد له من سبب ولو كان سببه تاما وهو قابل لما دخل فيه عدم؛ فإنه إذا كان السبب تاما والمحل قابلا وجب وجود المسبب فحيث كان فيه عدم فلعدم ما في السبب أو في المحل فلا يكون وجودا محضا.
فظهر أن السبب حيث تخلف حكمه إن كان لفوات شرط فهو عدم وإن كان لوجود مانع فإنما صار مانعا لضعف السبب وهو أيضا عدم قوته وكماله فظهر أن الوجود ليس سبب العدم المحض وظهر بذلك القسمة الرباعية وهي أن الوجود المحض لا يكون إلا خيرا.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ...
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
آمين وفيكم بارك
جزاكم الله خيرا
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (21)
من صــ 381 الى صــ 387
يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَرًّ فِي الْعَالَمِ لَا يَخْرُجُ عَنْ قِسْمَيْنِ إمَّا أَلَمٌ وَإِمَّا سَبَبُ الْأَلَمِ وَسَبَبُ الْأَلَمِ مِثْلُ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْعَذَابِ وَالْأَلَمِ الْمَوْجُودِ لَا يَكُونُ إلَّا لِنَوْعِ عَدَمٍ فَكَمَا يَكُونُ سَبَبُهُ تَفَرُّقُ الِاتِّصَالِ؛ وَتَفَرُّقُ الِاتِّصَالِ هُوَ عَدَمُ التَّأْلِيفِ وَالِاتِّصَالِ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ الشَّرُّ وَالْفَسَادُ.
وَأَمَّا سَبَبُ الْأَلَمِ فَقَدْ قَرَّرْت فِي " قَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ " أَنَّ أَصْلَ الذُّنُوبِ هُوَ عَدَمُ الْوَاجِبَاتِ لَا فِعْلَ الْمُحَرَّمَات وَأَنَّ فِعْلَ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا وَقَعَ لِعَدَمِ الْوَاجِبَاتِ فَصَارَ أَصْلُ الذُّنُوبِ عَدَمَ الْوَاجِبَاتِ وَأَصْلُ الْأَلَمِ عَدَمَ الصِّحَّةِ؛ وَلِهَذَا {كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ أَنْ يَقُولُوا:
وَنَعُوذ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} فَيَسْتَعِيذُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهَا مِنْ ذُنُوبِهَا وَخَطَايَاهَا وَيَسْتَعِيذُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ عُقُوبَاتُهَا وَآلَامُهَا؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا} قَدْ يُرَادُ بِهِ السَّيِّئَاتُ فِي الْأَعْمَالِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْعُقُوبَاتُ؛ فَإِنَّ لَفْظَ السَّيِّئَاتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ مِنْ الشَّرِّ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ قَالَ تَعَالَى: {إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ}.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرَّ النَّفْسِ هُوَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ فَتَكُونُ سَيِّئَاتُ الْأَعْمَالِ هِيَ الشَّرُّ وَالْعُقُوبَاتُ الْحَاصِلَةُ بِهَا فَيَكُونُ مُسْتَعِيذًا مِنْ نَوْعَيْ السَّيِّئَاتِ: الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَعُقُوبَاتِهَا كَمَا فِي الِاسْتِعَاذَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ: {أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ} فَأَمَرَنَا بِالِاسْتِعَاذَ ةِ مِنْ الْعَذَابِ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَعَذَابِ الْبَرْزَخِ وَمِنْ سَبَبِ الْعَذَابِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَذَكَرَ الْفِتْنَةَ الْخَاصَّةَ بَعْدَ الْفِتْنَةِ الْعَامَّةِ فِتْنَةِ الْمَسِيح الدَّجَّالِ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْفِتَنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {مَا مِنْ خَلْقِ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فِتْنَةٍ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ}.
(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
(فَصْلٌ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
وَقَوْلُهُ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} جَعَلَهُ ثَنَاءً. وَقَوْلُهُ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} جَعَلَهُ تَمْجِيدًا. وَقَوْلُهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} حَمْدٌ مُطْلَقٌ. فَإِنَّ " الْحَمْدَ " اسْمُ جِنْسٍ وَالْجِنْسُ لَهُ كَمِّيَّةٌ وَكَيْفِيَّةٌ؛ فَالثَّنَاءُ كَمِّيَّتُهُ. وَتَكْبِيرُهُ وَتَعْظِيمُهُ كَيْفِيَّتُهُ وَ " الْمَجْدُ " هُوَ السَّعَةُ وَالْعُلُوُّ فَهُوَ يُعَظِّمُ كَيْفِيَّتَهُ وَقَدْرَهُ وَكَمِّيَّتَهُ الْمُتَّصِلَةَ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا وَصْفٌ لَهُ بِالْمِلْكِ. وَ " الْمِلْكُ " يَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ وَفِعْلَ مَا يَشَاءُ وَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَصْفٌ بِالرَّحْمَةِ الْمُتَضَمِّنَة ِ لِإِحْسَانِهِ إلَى الْعِبَادِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَيْضًا وَالْخَيْرُ يَحْصُلُ بِالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الرَّحْمَةَ.
فَإِذَا كَانَ قَدِيرًا مُرِيدًا لِلْإِحْسَانِ: حَصَلَ كُلُّ خَيْرٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ النَّقْصُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ أَوْ لِعَدَمِ إرَادَةِ الْخَيْرِ " فَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ " قَدْ اتَّصَفَ بِغَايَةِ إرَادَةِ الْإِحْسَانِ وَغَايَةِ الْقُدْرَةِ؛ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
(فَصْلٌ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
وَقَوْلُهُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مَعَ أَنَّهُ " مَلِكُ الدُّنْيَا " لِأَنَّ يَوْمَ الدِّينِ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ فِيهِ مُنَازَعَةً وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَعْظَمُ فَمَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا كَمَا يَضَعُ أَحَدُكُمْ إصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ وَ " الدِّينُ " عَاقِبَةُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَقَدْ يَدُلُّ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَبِطْرِيقِ الْعُمُومِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ: عَلَى مِلْكِ الدُّنْيَا فَيَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْحَمَ وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ وَصْفٌ لَهُ يَحْصُلُ بِمَشِيئَتِهِ وَهُوَ مِنْ " الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيّ َةِ ".
وَفِي الصَّحِيحِ " {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ: إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ:
اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ - وَيُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ - خَيْرًا لِي فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي: فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ؛ وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ} ".
فَسَأَلَهُ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمِنْ فَضْلِهِ وَفَضْلُهُ يَحْصُلُ بِرَحْمَتِهِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ جِمَاعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَكِنَّ " الْعِلْمَ " لَهُ عُمُومُ التَّعَلُّقِ: يَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ؛ وَأَمَّا " الْقُدْرَةُ " فَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَخْلُوقِ؛ وَكَذَلِكَ " الْمُلْكُ " إنَّمَا يَكُونُ مُلْكًا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ . " فَالْفَاتِحَةُ " اشْتَمَلَتْ عَلَى الْكَمَالِ فِي " الْإِرَادَةِ " وَهُوَ الرَّحْمَةُ وَعَلَى الْكَمَالِ فِي " الْقُدْرَةِ " وَهُوَ مُلْكُ يَوْمِ الدِّينِ وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ " بِالصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيّ َةِ " كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
(فَصْلٌ: الْعِبَادَةُ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:
" الْعِبَادَةُ " هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ: مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ؛ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَالْجِهَادُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِي نَ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْجَارِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالْمَمْلُوكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ. وَكَذَلِكَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ.
وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالصَّبْرُ لِحُكْمِهِ وَالشُّكْرُ لِنِعَمِهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ؛ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ؛وَالرّ َجَاءُ لِرَحْمَتِهِ وَالْخَوْفُ لِعَذَابِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ مِنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ وَالْمَرْضِيَّة ُ لَهُ الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} وَبِهَا أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إلَى الْمَوْتِ كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فَقَالَ تَعَالَى:
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ } {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَه ُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِ ينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّ ةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى:
{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} الْآيَاتِ. وَلَمَّا قَالَ الشَّيْطَانُ: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّ هُمْ أَجْمَعِينَ} {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلَى قَوْلِهِ:
{وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَسِيحِ - الَّذِي اُدُّعِيَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ - {إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ} وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ} وَقَدْ نَعَتَهُ اللَّهُ " بِالْعُبُودِيَّ ةِ " فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ فَقَالَ فِي الْإِسْرَاءِ:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وَقَالَ فِي الْإِيحَاءِ: {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} وَقَالَ فِي الدَّعْوَةِ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} وَقَالَ فِي التَّحَدِّي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ قَالَ:
أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ فَمَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ} فَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الدِّينِ.
وَ " الدِّينُ " يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ. يُقَالُ: دِنْته فَدَانَ أَيْ: ذَلَّلْته فَذَلَّ وَيُقَالُ يَدِينُ اللَّهَ وَيَدِينُ لِلَّهِ أَيْ: يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُطِيعُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ فَدِينُ اللَّهِ عِبَادَتُهُ وَطَاعَتُهُ وَالْخُضُوعُ لَهُ.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (22)
من صــ 388 الى صــ 394
وَ " الْعِبَادَةُ " أَصْلُ مَعْنَاهَا الذُّلُّ أَيْضًا يُقَالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إذَا كَانَ مُذَلَّلًا قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ. لَكِنَّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الذُّلِّ وَمَعْنَى الْحُبِّ فَهِيَ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الذُّلِّ لِلَّهِ بِغَايَةِ الْمَحَبَّةِ لَهُ فَإِنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ الْحُبِّ هُوَ التَّتْمِيمُ وَأَوَّلُهُ " الْعَلَاقَةُ " لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ ثُمَّ " الصَّبَابَةُ " لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ ثُمَّ " الْغَرَامُ " وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ ثُمَّ " الْعِشْقُ " وَآخِرُهَا " التَّتْمِيمُ " يُقَالُ: تَيْمُ اللَّهِ أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ فَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ لِمَحْبُوبِهِ. وَمَنْ خَضَعَ لِإِنْسَانِ مَعَ بُغْضِهِ لَهُ لَا يَكُونُ عَابِدًا لَهُ وَلَوْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَخْضَعْ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا لَهُ كَمَا قَدْ يُحِبُّ وَلَدَهُ وَصَدِيقَهُ وَلِهَذَا لَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ بَلْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ وَالذُّلَّ التَّامَّ إلَّا اللَّهُ. وَكُلُّ مَا أُحِبَّ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ وَمَا عُظِّمَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ كَانَ تَعْظِيمُهُ بَاطِلًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فَجِنْسُ الْمَحَبَّةِ تَكُونُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَالطَّاعَةِ؛ فَإِنَّ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ والإرضاء لله ورسوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} والإيتاء لله ورسوله: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله}.
وأما " العبادة " وما يناسبها من التوكل؛ والخوف؛ ونحو ذلك فلا يكون إلا لله وحده كما قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا} إلى قوله:
{فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} وقال تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} فالإيتاء لله والرسول كقوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
وأما الحسب وهو الكافي فهو الله وحده كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} وقال تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} أي حسبك وحسب من اتبعك الله.
ومن ظن أن المعنى حسبك الله والمؤمنون معه فقد غلط غلطا فاحشا كما قد بسطناه في غير هذا الموضع وقال تعالى: {أليس الله بكاف عبده}.
و " تحرير ذلك " أن العبد يراد به " المعبد " الذي عبده الله فذلله ودبره وصرفه وبهذا الاعتبار المخلوقون كلهم عباد الله من الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار؛ إذ هو ربهم كلهم ومليكهم لا يخرجون عن مشيئته وقدرته وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر؛ فما شاء كان وإن لم يشاءوا. وما شاءوا إن لم يشأه لم يكن كما قال تعالى: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون}.
فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم ومقلب قلوبهم ومصرف أمورهم لا رب لهم غيره ولا مالك لهم سواه ولا خالق إلا هو سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه وسواء علموا ذلك أو جهلوه؛ لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به؛ بخلاف من كان جاهلا بذلك؛ أو جاحدا له مستكبرا على ربه لا يقر ولا يخضع له؛ مع علمه بأن الله ربه وخالقه. فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كان عذابا على صاحبه كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} وقال تعالى:
{الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} وقال تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.
فإن اعترف العبد أن الله ربه وخالقه؛ وأنه مفتقر إليه محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله وهذا العبد يسأل ربه فيتضرع إليه ويتوكل عليه لكن قد يطيع أمره؛ وقد يعصيه وقد يعبده مع ذلك؛ وقد يعبد الشيطان والأصنام. ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة والنار ولا يصير بها الرجل مؤمنا. كما قال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فإن المشركين كانوا يقرون أن الله خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} وقال تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون} {سيقولون لله قل أفلا تذكرون} إلى قوله:
{قل فأنى تسحرون} وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة وهي " الحقيقة الكونية " التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر والبر والفاجر وإبليس معترف بهذه الحقيقة؛ وأهل النار. قال إبليس: {رب فأنظرني إلى يوم يبعثون} وقال: {رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين} وقال:
{فبعزتك لأغوينهم أجمعين} وقال: {أرأيتك هذا الذي كرمت علي} وأمثال هذا من الخطاب الذي يقر فيه بأن الله ربه وخالقه وخالق غيره؛ وكذلك أهل النار قالوا: {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين} وقال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا} فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار؛ وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الله وأهل المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان كان من أشر أهل الكفر والإلحاد.
ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين بالله ورسوله. حتى يدخل في " النوع الثاني " من معنى العبد وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابدا لله لا يعبد إلا إياه؛ فيطيع أمره وأمر رسله ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين؛ ويعادي أعداءه وهذه العبادة متعلقة بإلهيته ولهذا كان عنوان التوحيد " لا إله إلا الله " بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده:
أو يعبد معه إلها آخر فالإله الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها وبها وصف المصطفين من عباده وبها بعث رسله.
وأما " العبد " بمعنى المعبد سواء أقر بذلك أو أنكره: فتلك يشترك فيها المؤمن والكافر. وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين " الحقائق الدينية " الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي التي يحبها ويرضاها ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته وبين " الحقائق الكونية " التي يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر التي من اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين والكافرين برب العالمين.
ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض أو في مقام أو حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية. وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون وكثر فيه الاشتباه على السالكين حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين التحقيق والتوحيد والعرفان ما لا يحصيهم إلا الله الذي يعلم السر والإعلان؛ وإلى هذا أشار الشيخ " عبد القادر " رحمه الله فيما ذكر عنه فبين أن كثيرا من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إلا أنا فإني انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق؛ والرجل من يكون منازعا للقدر لا من يكون موافقا للقدر.
والذي ذكره الشيخ رحمه الله هو الذي أمر الله به ورسوله؛ لكن كثيرا من الرجال غلطوا فإنهم قد يشهدون ما يقدر على أحدهم من المعاصي والذنوب؛ أو ما يقدر على الناس من ذلك بل من الكفر؛ ويشهدون أن هذا جار بمشيئة الله وقضائه وقدره داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به ونحو ذلك دينا وطريقا وعبادة؛ فيضاهون المشركين الذين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء}.
وقالوا: {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه}. وقالوا: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} ولو هدوا لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب التي تصيبنا كالفقر والمرض والخوف قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه}. قال بعض السلف:
هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم وقال تعالى:
{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير} {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
{احتج آدم وموسى فقال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه فهل وجدت ذلك مكتوبا علي قبل أن أخلق؟ قال: نعم. قال فحج آدم موسى}.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (23)
من صــ 395 الى صــ 401
وآدم عليه السلام لم يحتج على موسى بالقدر ظنا أن المذنب يحتج بالقدر فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل ولو كان هذا عذرا لكان عذرا لإبليس وقوم نوح وقوم هود وكل كافر ولا موسى لام آدم أيضا لأجل الذنب فإن آدم قد تاب إلى ربه فاجتباه وهدى ولكن لامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة ولهذا قال:
فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فأجابه آدم أن هذا كان مكتوبا قبل أن أخلق فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدرا وما قدر من المصائب يجب الاستسلام له فإنه من تمام الرضا بالله ربا.
وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب. قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} وقال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} وقال: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} وقال يوسف: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.
وكذلك ذنوب العباد يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر - بحسب قدرته - ويجاهد في سبيل الله الكفار والمنافقين ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله ويحب في الله ويبغض في الله.
كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} إلى قوله:
{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده} وقال تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} إلى قوله: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} وقال تعالى:
{أفنجعل المسلمين كالمجرمين} وقال: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} وقال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} وقال تعالى:
{وما يستوي الأعمى والبصير} {ولا الظلمات ولا النور} {ولا الظل ولا الحرور} {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} وقال تعالى: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا} وقال تعالى: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} إلى قوله: {بل أكثرهم لا يعلمون} {وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء} إلى قوله:
{وهو على صراط مستقيم} وقال تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}.
ونظائر ذلك مما يفرق الله فيه بين أهل الحق والباطل وأهل الطاعة وأهل المعصية وأهل البر وأهل الفجور وأهل الهدى والضلال وأهل الغي والرشاد وأهل الصدق والكذب. فمن شهد " الحقيقة الكونية " دون " الدينية " سوى بين هذه الأجناس المختلفة التي فرق الله بينها غاية التفريق حتى يئول به الأمر إلى أن يسوي الله بالأصنام كما قال تعالى عنهم:
{تالله إن كنا لفي ضلال مبين} {إذ نسويكم برب العالمين} بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سووا الله بكل موجود وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقا لكل موجود إذ جعلوه هو وجود المخلوقات وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العباد. وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد لا بمعنى أنهم معبدون ولا بمعنى أنهم عابدون؛ إذ يشهدون أنفسهم هي الحق كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب " الفصوص " وأمثاله من الملحدين المفترين كابن سبعين وأمثاله ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون وهذا ليس بشهود لحقيقة؛ لا كونية ولا دينية؛ بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق وجعلوا كل وصف مذموم وممدوح نعتا للخالق والمخلوق إذ وجود هذا هو وجود هذا عندهم.
وأما المؤمنون بالله ورسوله عوامهم وخواصهم الذين هم أهل الكتاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن لله أهلين من الناس قيل: من هم يا رسول الله؟ قال أهل القرآن هم أهل الله وخاصته} فهؤلاء يعلمون أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه وأن الخالق سبحانه مباين للمخلوق ليس هو حالا فيه ولا متحدا به ولا وجوده وجوده.
و " النصارى " كفرهم الله بأن قالوا: بالحلول والاتحاد بالمسيح خاصة فكيف من جعل ذلك عاما في كل مخلوق. ويعلمون مع ذلك أن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله ونهى عن معصيته ومعصية رسوله وأنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وأن على الخلق أن يعبدوه فيطيعوا أمره ويستعينوا به على ذلك كما قال {إياك نعبد وإياك نستعين}.
ومن عبادته وطاعته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بحسب الإمكان - والجهاد في سبيله لأهل الكفر والنفاق. فيجتهدون في إقامة دينه مستعينين به دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات دافعين بذلك ما قد يخاف من ذلك كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل ويدفع به الجوع المستقبل وكذلك إذا آن أوان البرد دفعه باللباس وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه.
كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم {يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال: هي من قدر الله}.
وفي الحديث {إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض} فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله وكل ذلك من العبادة. وهؤلاء الذين يشهدون " الحقيقة الكونية " وهي ربوبيته تعالى لكل شيء ويجعلون ذلك مانعا من اتباع أمره الديني الشرعي على مراتب في الضلال. فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقا عاما فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة.
وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء}. وقالوا: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم}.
وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضا؛ بل كل من احتج بالقدر فإنه متناقض فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمي على ما فعل؛ فلا بد إذا ظلمه ظالم أو ظلم الناس ظالم وسعى في الأرض بالفساد وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من أنواع الضرر التي لا قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر؛ وأن يعاقب الظالم بما يكف عدوان أمثاله. فيقال له إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك: حجة.
وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية لا يطردون هذا القول ولا يلتزمونه وإنما هم بحسب آرائهم وأهوائهم؛ كما قال فيهم بعض العلماء. أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري؛ أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. ومنهم " صنف " يدعون التحقيق والمعرفة فيزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه فعلا وأثبت له صنعا؛ أما من شهد أن أفعاله مخلوقة؛ أو أنه مجبور على ذلك؛ وأن الله هو المتصرف فيه كما تحرك سائر المتحركات؛ فإنه يرتفع عنه الأمر والنهي والوعد والوعيد. وقد يقولون: من شهد " الإرادة " سقط عنه التكليف ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف لشهوده الإرادة فهؤلاء لا يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية فشهدوا أن الله خالق أفعال العباد وأنه يدبر جميع الكائنات وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علما وبين من يراه شهودا فلا يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك ويعلمه فقط ولكن عمن يشهده فلا يرى لنفسه فعلا أصلا وهؤلاء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعا من التكليف على هذا الوجه. وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد. وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلافه كما ضاق نطاق المعتزلة ونحوهم من القدرية عن ذلك.
ثم المعتزلة أثبتت الأمر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر الذي هو إرادة الله العامة وخلقه لأفعال العباد وهؤلاء أثبتوا القضاء والقدر ونفوا الأمر والنهي في حق من شهد القدر إذ لم يمكنهم نفي ذلك مطلقا.
وقول هؤلاء شر من قول المعتزلة؛ ولهذا لم يكن في السلف من هؤلاء أحد وهؤلاء يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه الأمر والنهي وصار من الخاصة.
وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى
{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة وقول هؤلاء كفر صريح. وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر؛ فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقله حاضرا
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (24)
من صــ 402 الى صــ 408
وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى
{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة وقول هؤلاء كفر صريح. وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر؛ فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقله حاضرا إلَى أَنْ يَمُوتَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا بِشُهُودِهِ الْقَدَرَ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ عَرَّفَهُ؛ وَبَيَّنَ لَهُ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. وَقَدْ كَثُرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي الْمُسْتَأْخِرِ ينَ.
وَأَمَّا الْمُسْتَقْدِمُ ونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ مَعْرُوفَةً فِيهِمْ. وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ هِيَ مُحَادَّةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُعَادَاةٌ لَهُ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِهِ وَمُشَاقَّةٌ لَهُ؛ وَتَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ؛ وَمُضَادَّةٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ قَدْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ طَرِيقُ الرَّسُولِ؛ وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ ؛ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِه ِ عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَا يَضُرُّهُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ؛ أَوْ أَنَّ الْفَاحِشَةَ حَلَالٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَحْرِ لَا تُكَدِّرُهُ الذُّنُوبُ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ؛ وَبَيْنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ؛ فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ فيهم شبه من المشركين إما أن يبتدعوا وإما أن يحتجوا بالقدر وإما أن يجمعوا بين الأمرين. كما قال تعالى عن المشركين: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} وكما قال تعالى عنهم: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام والعبادة التي لم يشرعها الله بمثل قوله تعالى {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه} إلى آخر السورة. وكذلك في سورة الأعراف في قوله: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} إلى قوله {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} إلى قوله:
{قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} إلى قوله: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} إلى قوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
وهؤلاء قد يسمون ما أحدثوه من البدع " حقيقة " كما يسمون ما يشهدون من القدر " حقيقة ". وطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه. ولكن بما يراه ويذوقه ويجده ونحو ذلك. وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقا؛ بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة وأمرهم باتباعها دون اتباع أمر الله ورسوله نظير بدع أهل الكلام من الجهمية وغيرهم الذين يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها دون ما دلت عليه السمعيات.
ثم الكتاب والسنة إما أن يحرفوه عن مواضعه وإما أن يعرضوا عنه بالكلية فلا يتدبرونه ولا يعقلونه بل يقولون: نفوض معناه إلى الله مع اعتقادهم نقيض مدلوله. وإذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة وجدت جهليات واعتقادات فاسدة. وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء الله المخالفة للكتاب والسنة وجدت من الأهواء التي يتبعها أعداء الله لا أولياؤه.
وأصل ضلال من ضل هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله واختياره الهوى على اتباع أمر الله فإن الذوق والوجد ونحو ذلك هو بحسب ما يحبه العبد فكل محب له ذوق ووجد بحسب محبته. فأهل الإيمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار}.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا}.
وأما أهل الكفر والبدع والشهوات فكل بحسبه قيل لسفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم فقال أنسيت قوله تعالى {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} أو نحو هذا من الكلام فعباد الأصنام يحبون آلهتهم كما قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} وقال:
{فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وقال: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} ولهذا يميل هؤلاء إلى سماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة التي لا تختص بأهل الإيمان بل يشترك فيها محب الرحمن ومحب الأوثان ومحب الصلبان ومحب الأوطان ومحب الإخوان ومحب المردان ومحب النسوان.
وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة. فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته وطاعة رسوله لا يكون متبعا لدين شرعه الله كما قال تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} {إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا} إلى قوله.
{والله ولي المتقين} بل يكون متبعا لهواه بغير هدى من الله قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه الله وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة كما أخبر الله به عن المشركين كما تقدم. ومن هؤلاء طائفة هم أعلاهم قدرا وهم مستمسكون بالدين في أداء الفرائض المشهورة واجتناب المحرمات المشهورة لكن يغلطون في ترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة ظانين أن العارف إذا شهد " القدر " أعرض عن ذلك مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قدر سيكون فلا حاجة إلى ذلك وهذا غلط عظيم. فإن الله قدر الأشياء بأسبابها كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله خلق للجنة أهلا خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وبعمل أهل الجنة يعملون} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم {لما أخبرهم بأن الله كتب المقادير فقالوا: يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا. اعملوا فكل ميسر لما خلق له.
أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة}.
فما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما في قوله تعالى {فاعبده وتوكل عليه} وفي قوله: {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} وقول شعيب عليه السلام {عليه توكلت وإليه أنيب} ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الأعمال دون الواجبات فتنقص بقدر ذلك. ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة؛ أو استجابة دعوة مخالفة للعادة العامة ونحو ذلك فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة والشكر ونحو ذلك.
فهذه الأمور ونحوها كثيرا ما تعرض لأهل السلوك والتوجه؛ وإنما ينجو العبد منها بملازمة أمر الله الذي بعث به رسوله في كل وقت.
كما قال الزهري: كان من مضى من سلفنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة. وذلك أن السنة - كما قال مالك رحمه الله - مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد ولها أصلان:
" أحدهما " ألا يعبد إلا الله. و " الثاني " أن يعبد بما أمر وشرع لا بغير ذلك من البدع.
قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} وقال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وقال تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} فالعمل الصالح هو الإحسان وهو فعل الحسنات.
و " الحسنات " هي ما أحبه الله ورسوله وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة فإن الله لا يحبها ولا رسوله فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح كما أن من يعمل ما لا يجوز كالفواحش والظلم ليس من الحسنات ولا من العمل الصالح.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (25)
من صــ 409 الى صــ 415
وأما قوله. {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} وقوله: {أسلم وجهه لله} فهو إخلاص الدين لله وحده وكان عمر بن الخطاب يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا. وقال الفضيل بن عياض في قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} قال: أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال:
إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة.
فإن قيل فإذا كان جميع ما يحبه الله داخلا في اسم العبادة فلماذا عطف عليها غيرها؛ كقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقوله: {فاعبده وتوكل عليه} وقول نوح: {اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} وكذلك قول غيره من الرسل قيل هذا له نظائر كما في قوله {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} والفحشاء من المنكر وكذلك قوله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} وإيتاء ذي القربى هو من العدل والإحسان كما أن الفحشاء والبغي من المنكر.
وكذلك قوله: {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة} وإقامة الصلاة من أعظم التمسك بالكتاب. وكذلك قوله: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا} ودعاؤهم رغبا ورهبا من الخيرات وأمثال ذلك في القرآن كثير.
وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الآخر فيعطف عليه تخصيصا له بالذكر لكونه مطلوبا بالمعنى العام والمعنى الخاص وتارة تكون دلالة الاسم تتنوع بحال الانفراد والاقتران فإذا أفرد عم وإذا قرن بغيره خص كاسم " الفقير " و " المسكين " لما أفرد أحدهما في مثل قوله: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} وقوله: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} دخل فيه الآخر.
ولما قرن بينهما في قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} صارا نوعين. وقد قيل: إن الخاص المعطوف على العام لا يدخل في العام حال الاقتران؛ بل يكون من هذا الباب. والتحقيق أن هذا ليس لازما قال تعالى: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} وقال تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} وذكر الخاص مع العام يكون لأسباب متنوعة:
تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام؛ كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وتارة لكون العام فيه إطلاق قد لا يفهم منه العموم كما في قوله: {هدى للمتقين} {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} فقوله: يؤمنون بالغيب؛ يتناول الغيب الذي يجب الإيمان به؛ لكن فيه إجمال فليس فيه دلالة على أن من الغيب ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب وبالإخبار بالغيب وهو ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.
ومن هذا الباب قوله تعالى {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة} وقوله: {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة} و " تلاوة الكتاب " هي اتباعه كما قال ابن مسعود في قوله تعالى {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} قال يحللون حلاله ويحرمون حرامه ويؤمنون بمتشابهه ويعملون بمحكمه فاتباع الكتاب يتناول الصلاة وغيرها لكن خصها بالذكر لمزيتها وكذلك قوله لموسى:
{إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} وإقامة الصلاة لذكره من أجل عبادته وكذلك قوله تعالى {اتقوا الله وقولوا قولا سديدا} وقوله {اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} وقوله:
{اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} فإن هذه الأمور هي أيضا من تمام تقوى الله وكذلك قوله: {فاعبده وتوكل عليه} فإن التوكل والاستعانة هي من عبادة الله؛ لكن خصت بالذكر ليقصدها المتعبد بخصوصها؛ فإنها هي العون على سائر أنواع العبادة إذ هو سبحانه لا يعبد إلا بمعونته. إذا تبين هذا فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه.
أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم. قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون}إلى قوله: {وهم من خشيته مشفقون} وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا} {لقد جئتم شيئا إدا} إلى قوله: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} {لقد أحصاهم وعدهم عدا} {وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} وقال تعالى في المسيح: {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} وقال تعالى:
{وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وقال تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} إلى قوله {ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} وقال تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وقال تعالى:
{ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} وقال تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة} إلى قوله: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}. وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر المخلوقات بالعبادة وذم من خرج عن ذلك متعدد في القرآن وقد أخبر أنه أرسل جميع الرسل بذلك.
فقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال تعالى لبني إسرائيل: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون} {وإياي فاتقون} وقال {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} وقال:
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وقال تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين} {وأمرت لأن أكون أول المسلمين} {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} {قل الله أعبد مخلصا له ديني} {فاعبدوا ما شئتم من دونه}.
وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله كقول نوح ومن بعده عليهم السلام {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري}.
وقد بين أن عباده هم الذين ينجون من السيئات قال الشيطان: {رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين} {إلا عبادك منهم المخلصين} قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} وقال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} {إلا عبادك منهم المخلصين} وقال في حق يوسف: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} وقال:
{سبحان الله عما يصفون} {إلا عباد الله المخلصين} وقال: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} {إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} وبها نعت كل من اصطفى من خلقه كقوله: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} {وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} وقوله: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} وقال عن سليمان:
{نعم العبد إنه أواب} وعن أيوب: {نعم العبد} وقال: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه} وقال نوح عليه السلام {ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا} وقال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} وقال: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه} وقال: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} وقال {فأوحى إلى عبده ما أوحى} وقال: {عينا يشرب بها عباد الله} وقال: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} ومثل هذا كثير متعدد في القرآن.
(فصل: تفاضل الناس في حقيقة الإيمان)
إذا تبين ذلك: فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلا عظيما وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان وهم ينقسمون فيه: إلى عام وخاص ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص. ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش إن أعطي رضي وإن منع سخط}. فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة.
وذكر ما فيه دعاء وخبر وهو قوله: {تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش} والنقش إخراج الشوكة من الرجل والمنقاش ما يخرج به الشوكة وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه وهذه حال من عبد المال وقد وصف ذلك بأنه {إذا أعطي رضي وإذا منع سخط} كما قال تعالى:
{ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله وهكذا حال من كان متعلقا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته فما استرق القلب واستعبده فهو عبده.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (26)
من صــ 416 الى صــ 422
ولهذا يقال: العبد حر ما قنع والحر عبد ما طمع وقال القائل أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا ويقال: الطمع غل في العنق قيد في الرجل فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الطمع فقر واليأس غنى وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه. وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه؛ فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه ولا يطمع به ولا يبق قلبه فقيرا إليه ولا إلى من يفعله وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه تعلق قلبه به فصار فقيرا إلى حصوله؛ وإلى من يظن أنه سبب في حصوله وهذا في المال والجاه والصور وغير ذلك. قال الخليل صلى الله عليه وسلم {فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون}.
فالعبد لا بد له من رزق وهو محتاج إلى ذلك فإذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله فقيرا إليه وإن طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا إليه. ولهذا كانت " مسألة المخلوق " محرمة في الأصل وإنما أبيحت للضرورة وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد كقوله صلى الله عليه وسلم {لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم} وقوله: {من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوحا في وجهه} وقوله: {لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع أو دمع موجع أو فقر مدقع} هذا المعنى في الصحيح.
وفيه أيضا {لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه}فصل:
في " العبادات " و " الفرق بين شرعيها وبدعيها ".
فإن هذا باب كثر فيه الاضطراب كما كثر في باب الحلال والحرام، فإن أقواما استحلوا بعض ما حرمه الله وأقواما حرموا بعض ما أحل الله تعالى وكذلك أقواما أحدثوا عبادات لم يشرعها الله بل نهى عنها.
و " أصل الدين " أن الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله؛ ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله. قال الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}.
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال: هذه سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}. وقد ذكر الله تعالى في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما ذم به المشركين حيث حرموا ما لم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة واستحلوا ما حرمه الله كقتل أولادهم وشرعوا دينا لم يأذن به الله فقال تعالى:
{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} ومنه أشياء هي محرمة جعلوها عبادات كالشرك والفواحش مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك. والكلام في " الحلال والحرام " له مواضع أخر. والمقصود هنا " العبادات " فنقول.
العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى منها ما كان محبوبا لله ورسوله مرضيا لله ورسوله إما واجب وإما مستحب كما في الصحيح {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى:
ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه}. ومعلوم أن الصلاة منها فرض وهي الصلوات الخمس ومنها نافلة كقيام الليل وكذلك الصيام فيه فرض وهو صوم شهر رمضان ومنه نافلة كصيام ثلاثة أيام من كل شهر وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض وإلى المسجدين الآخرين: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس - مستحب.
وكذلك الصدقة منها ما هو فرض ومنها ما هو مستحب وهو العفو كما قال تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا ابن آدم إنك إن تنفق الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول} والفرق بين الواجب والمستحب له موضع آخر غير هذا والمقصود هنا الفرق بين ما هو مشروع سواء كان واجبا أو مستحبا وما ليس بمشروع. فالمشروع هو الذي يتقرب به إلى الله تعالى وهو سبيل الله وهو البر والطاعة والحسنات والخير والمعروف وهو طريق السالكين ومنهاج القاصدين والعابدين وهو الذي يسلكه كل من أراد الله هدايته وسلك طريق الزهد والعبادة وما يسمى بالفقر والتصوف ونحو ذلك. ولا ريب أن هذا يدخل فيه الصلوات المشروعة واجبها ومستحبها ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع وقراءة القرآن على الوجه المشروع والأذكار والدعوات الشرعية.
وما كان من ذلك موقتا بوقت كطرفي النهار وما كان متعلقا بسبب كتحية المسجد وسجود التلاوة وصلاة الكسوف وصلاة الاستخارة وما ورد من الأذكار والأدعية الشرعية في ذلك. وهذا يدخل فيه أمور كثيرة وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه وكذلك يدخل فيه الصيام الشرعي كصيام نصف الدهر وثلثه أو ثلثيه أو عشره وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر ويدخل فيه السفر الشرعي كالسفر إلى مكة وإلى المسجدين الآخرين ويدخل فيه الجهاد على اختلاف أنواعه وأكثر الأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع.
و " العبادات الدينية " أصولها: الصلاة والصيام والقراءة التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص لما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {ألم أحدث أنك قلت لأصومن النهار ولأقومن الليل ولأقرأن القرآن في ثلاث؟ قال: بلى قال: فلا تفعل: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس ثم أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر فقال إني أطيق أكثر من ذلك فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم فقال: إني أطيق أكثر من ذلك فقال:
لا أفضل من ذلك وقال: أفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى. وأفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأمره أن يقرأ القرآن في سبع}. ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين:
{يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} فذكر اجتهادهم بالصلاة والصيام والقراءة وأنهم يغلون في ذلك حتى تحقر الصحابة عبادتهم في جنب عبادة هؤلاء. وهؤلاء غلوا في العبادات بلا فقه فآل الأمر بهم إلى البدعة فقال:
{يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة}. فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين وكفروا من خالفهم. وجاءت فيهم الأحاديث
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (27)
من صــ 423 الى صــ 429
الصحيحة قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى صح فيهم الحديث من عشرة أوجه وقد أخرجها مسلم في صحيحه وأخرج البخاري قطعة منها. ثم هذه الأجناس الثلاثة مشروعة؛ ولكن يبقى الكلام في القدر المشروع منها، وله صنف " كتاب الاقتصاد في العبادة ".
وقال أبي بن كعب وغيره: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. والكلام في سرد الصوم وصيام الدهر سوى يومي العيدين وأيام التشريق وقيام جميع الليل هل هو مستحب؟ كما ذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء والصوفية والعباد، أو هو مكروه كما دلت عليه السنة وإن كان جائزا؟ لكن صوم يوم وفطر يوم أفضل وقيام ثلث الليل أفضل ولبسطه موضع آخر.
إذ المقصود هنا الكلام في أجناس عبادات غير مشروعة حدثت في المتأخرين كالخلوات فإنها تشتبه بالاعتكاف الشرعي. والاعتكاف الشرعي في المساجد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله هو وأصحابه من العبادات الشرعية.
فصل:
وأهل " العبادات البدعية " يزين لهم الشيطان تلك العبادات ويبغض إليهم السبل الشرعية حتى يبغضهم في العلم والقرآن والحديث فلا يحبون سماع القرآن والحديث ولا ذكره وقد يبغض إليهم حتى الكتاب فلا يحبون كتابا ولا من معه كتاب ولو كان مصحفا أو حديثا؛ كما حكى النصرباذي أنهم كانوا يقولون: يدع علم الخرق ويأخذ علم الورق قال: وكنت أستر ألواحي منهم فلما كبرت احتاجوا إلى علمي. وكذلك حكى السري السقطي: أن واحدا منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلما خرج ولم يقعد عنده؛ ولهذا قال سهل بن عبد الله التستري: يا معشر الصوفية لا تفارقوا السواد على البياض فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق.
وقال الجنيد: علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن. وكثير من هؤلاء ينفر ممن يذكر الشرع أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب؛ وذلك لأنهم استشعروا أن هذا الجنس فيه ما يخالف طريقهم فصارت شياطينهم تهربهم من هذا كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلام المسلمين حتى لا يتغير اعتقاده في دينه وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم لئلا يسمعوا كلامه ولا يروه. وقال الله تعالى عن المشركين: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} وقال تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين} {كأنهم حمر مستنفرة} {فرت من قسورة}.
وهم من أرغب الناس في السماع البدعي سماع المعازف. ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات الله تعالى. وكان مما زين لهم طريقهم أن وجدوا كثيرا من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة الله تعالى وسلوك سبيله إما اشتغالا بالدنيا وإما بالمعاصي وإما جهلا وتكذيبا بما يحصل لأهل التأله والعبادة فصار وجود هؤلاء مما ينفرهم وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين: هؤلاء يقولون ليس هؤلاء على شيء. وهؤلاء يقولون ليس هؤلاء على شيء وقد يظنون أنهم يحصل لهم بطريقهم أعظم مما يحصل في الكتب. فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بلا تلقين.
ويحكون أن شخصا حصل له ذلك وهذا كذب. نعم قد يكون سمع آيات الله فلما صفى نفسه تذكرها فتلاها. فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها ويقول بعضهم أو يحكى أن بعضهم قال:
أخذوا علمهم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. وهذا يقع لكن منهم من يظن أنما يلقى إليه من خطاب أو خاطر هو من الله تعالى بلا واسطة وقد يكون من الشيطان وليس عندهم فرقان يفرق بين الرحماني والشيطاني فإن الفرق الذي لا يخطئ هو القرآن والسنة فما وافق الكتاب والسنة فهو حق وما خالف ذلك فهو خطأ.
وقد قال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين} {وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} {حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} وذكر الرحمن هو ما أنزله على رسوله قال تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} وقال تعالى:
{وما هو إلا ذكر للعالمين} وقال تعالى:{فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا} {وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما} وقال تعالى:
{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} {صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} وقال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} وقال تعالى: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}.
(فصل: دعاء الرب بإعطاء المطلوب أولى من البخل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وإذا دعا العبد ربه بإعطاء المطلوب ودفع المرهوب جعل له من الإيمان بالله ومحبته ومعرفته وتوحيده ورجائه وحياة قلبه واستنارته بنور الإيمان ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب إن كان عرضا من الدنيا وأما إذا طلب منه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته وما يتبع ذلك فهنا المطلوب قد يكون أنفع من الطلب وهو الدعاء، والمطلوب الذكر والشكر وقيام العبادة على أحسن الوجوه وغير ذلك. وهذا لبسطه موضع آخر.
و (المقصود): أن القلب قد يغمره فيستولي عليه ما يريده العبد ويحبه وما يخافه ويحذره كائنا من كان؛ ولهذا قال تعالى: {بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} فهي فيما يغمرها عما أنذرت به فيغمرها ذلك عن ذكر الله والدار الآخرة وما فيها من النعيم والعذاب الأليم.
قال الله تعالى: {فذرهم في غمرتهم حتى حين} أي فيما يغمر قلوبهم من حب المال والبنين المانع لهم من المسارعة في الخيرات والأعمال الصالحة. وقال تعالى: {قتل الخراصون} {الذين هم في غمرة ساهون} الآيات: أي ساهون عن أمر الآخرة فهم في غمرة عنها أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها ساهون عن أمر الآخرة وما خلقوا له.
وهذا يشبه قوله: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} فالغمرة تكون من اتباع الهوى، والسهو من جنس الغفلة؛ ولهذا قال من قال: " السهو " الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه وهذا جماع الشر " الغفلة " و " الشهوة " " فالغفلة " عن الله والدار الآخرة تسد باب الخير الذي هو الذكر واليقظة.
و " الشهوة " تفتح باب الشر والسهو والخوف فيبقى القلب مغمورا فيما يهواه ويخشاه غافلا عن الله رائدا غير الله ساهيا عن ذكره قد اشتغل بغير الله قد انفرط أمره قد ران حب الدنيا على قلبه كما روي في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش إن أعطي رضي وإن منع سخط} جعله عبد ما يرضيه وجوده، ويسخطه فقده حتى يكون عبد الدرهم، وعبد ما وصف في هذا الحديث و " القطيفة " هي التي يجلس عليها فهو خادمها كما قال بعض السلف:
البس من الثياب ما يخدمك ولا تلبس منها ما تكن أنت تخدمه وهي كالبساط الذي تجلس عليه و " الخميصة " هي التي يرتدي بها وهذا من أقل المال. وإنما نبه به النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو أعلى منه فهو عبد لذلك: فيه أرباب متفرقون وشركاء متشاكسون.
ولهذا قال: {إن أعطي رضي وإن منع سخط}.
فما كان يرضي الإنسان حصوله، ويسخطه فقده فهو عبده إذ العبد يرضى باتصاله بهما ويسخط لفقدهما. و " المعبود الحق " الذي لا إله إلا هو إذا عبده المؤمن وأحبه حصل للمؤمن بذلك في قلبه إيمان وتوحيد ومحبة وذكر وعبادة فيرضى بذلك وإذا منع من ذلك غضب. وكذلك من أحب شيئا فلا بد أن يتصوره في قلبه، ويريد اتصاله به بحسب الإمكان.
قال الجنيد: لا يكون العبد عبدا حتى يكون مما سوى الله تعالى حرا.
وهذا مطابق لهذا الحديث فإنه لا يكون عبدا لله خالصا مخلصا دينه لله كله حتى لا يكون عبدا لما سواه ولا فيه شعبة ولا أدنى جزء من عبودية ما سوى الله فإذا كان يرضيه ويسخطه غير الله فهو عبد لذلك الغير ففيه من الشرك بقدر محبته، وعبادته لذلك الغير زيادة. قال " الفضيل بن عياض " والله ما صدق الله في عبوديته من لأحد من المخلوقين عليه ربانية. وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا انقسمت الأمور
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (28)
من صــ 430 الى صــ 436
روى الإمام أحمد والترمذي والطبراني من حديث أسماء بنت عميس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال، بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى بئس العبد عبد سهى ولهى ونسي المقابر والبلى بئس العبد عبد بغى واعتدى ونسي المبدأ والمنتهى بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات، بئس العبد عبد رغب يذله ويزيله عن الحق، بئس العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله} قال الترمذي غريب. وفي الحديث الصحيح المتقدم ما يقويه. والله أعلم.
وكذلك أحاديث وآثار كثيرة رويت في معنى ذلك. كما قال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} وطالب الرئاسة - ولو بالباطل - ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلا، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقا.
والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه، وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لأن الله تعالى يحب الحق والصدق والعدل ويبغض الكذب والظلم. فإذا قيل: الحق والصدق والعدل الذي يحبه الله أحبه وإن كان فيه مخالفة هواه. لأن هواه قد صار تبعا لما جاء به الرسول. وإذا قيل: الظلم والكذب فالله يبغضه والمؤمن يبغضه ولو وافق هواه. وكذلك طالب " المال " - ولو بالباطل - كما قال تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} وهؤلاء هم الذين قال فيهم:
{تعس عبد الدينار} الحديث. فكيف إذا استولى على القلب ما هو أعظم استعبادا من الدرهم والدينار من الشهوات والأهواء والمحبوبات التي تجذب القلب عن كمال محبته لله وعبادته لما فيها من المزاحمة والشرك بالمخلوقات كيف تدفع القلب وتزيغه عن كمال محبته لربه وعبادته وخشيته لأن كل محبوب يجذب قلب محبه إليه ويزيغه عن محبة غير محبوبه، وكذلك المكروه يدفعه ويزيله ويشغله عن عبادة الله تعالى.
فصل:
إذا ظهر أن العبد وكل مخلوق فقير إلى الله محتاج إليه ليس فقيرا إلى سواه فليس هو مستغنيا بنفسه ولا بغير ربه؛ فإن ذلك الغير فقير أيضا محتاج إلى الله ومن المأثور عن أبي يزيد - رحمه الله - أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق.
وعن الشيخ أبي عبد الله القرشي أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وهذا تقريب وإلا فهو كاستغاثة العدم بالعدم؛ فإن المستغاث به إن لم يخلق الحق فيه قوة وحولا وإلا فليس له من نفسه شيء قال سبحانه: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وقال تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}.
واسم العبد يتناول معنيين. " أحدهما " بمعنى العابد كرها كما قال: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} وقال: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} وقال: {بديع السماوات والأرض} {كل له قانتون} وقال: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها}.
و " الثاني " بمعنى العابد طوعا وهو الذي يعبده ويستعينه وهذا هو المذكور في قوله: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} وقوله: {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} وقوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وقوله: {إلا عبادك منهم المخلصين} وقوله: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} وقوله: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب} وقوله:
{فأوحى إلى عبده ما أوحى} وقوله: {نعم العبد إنه أواب} وقوله: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} وقوله: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه}.
وهذه العبودية قد يخلو الإنسان منها تارة وأما الأولى فوصف لازم إذا أريد بها جريان القدر عليه وتصريف الخالق له قال تعالى: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون} وعامة السلف على أن المراد بالاستسلام استسلامهم له بالخضوع والذل لا مجرد تصريف الرب لهم كما في قوله: {
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها} وهذا الخضوع والذل هو أيضا لازم لكل عبد لا بد له من ذلك وإن كان قد يعرض له أحيانا الإعراض عن ربه والاستكبار فلا بد له عند التحقيق من الخضوع والذل له؛ لكن المؤمن يسلم له طوعا فيحبه ويطيع أمره والكافر إنما يخضع له عند رغبة ورهبة فإذا زال عنه ذلك أعرض عن ربه كما قال:
{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} وقال: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا}.
وفقر المخلوق وعبوديته أمر ذاتي له لا وجود له بدون ذلك والحاجة ضرورية لكل المصنوعات المخلوقات وبذلك هي أنها لخالقها وفاطرها إذ لا قيام لها بدونه وإنما يفترق الناس في شهود هذا الفقر والاضطرار وعزوبه عن قلوبهم.
و " أيضا " فالعبد يفتقر إلى الله من جهة أنه معبوده الذي يحبه حب إجلال وتعظيم فهو غاية مطلوبه ومراده ومنتهى همته ولا صلاح له إلا بهذا وأصل الحركات الحب والذي يستحق المحبة لذاته هو الله فكل من أحب مع الله شيئا فهو مشرك وحبه فساد؛ وإنما الحب الصالح النافع حب الله والحب لله والإنسان فقير إلى الله من جهة عبادته له ومن جهة استعانته به للاستسلام والانقياد لمن أنت إليه فقير وهو ربك وإلهك.
وهذا العلم والعمل أمر فطري ضروري؛ فإن النفوس تعلم فقرها إلى خالقها وتذل لمن افتقرت إليه وغناه من الصمدية التي انفرد بها فإنه {يسأله من في السماوات والأرض} وهو شهود الربوبية بالاستعانة والتوكل والدعاء والسؤال ثم هذا لا يكفيها حتى تعلم ما يصلحها من العلم والعمل وذلك هو عبادته والإنابة إليه؛ فإن العبد إنما خلق لعبادة ربه فصلاحه وكماله ولذته وفرحه وسروره في أن يعبد ربه وينيب إليه وذلك قدر زائد على مسألته والافتقار إليه؛ فإن جميع الكائنات حادثة بمشيئته قائمة بقدرته وكلمته محتاجة إليه فقيرة إليه مسلمة له طوعا وكرها فإذا شهد العبد ذلك وأسلم له وخضع فقد آمن بربوبيته ورأى حاجته وفقره إليه صار سائلا له متوكلا عليه مستعينا به إما بحاله أو بقاله بخلاف المستكبر عنه المعرض عن مسألته. ثم هذا المستعين به السائل له إما أن يسأل ما هو مأمور به أو ما هو منهي عنه أو ما هو مباح له؛ ف " الأول " حال المؤمنين السعداء الذين حالهم {إياك نعبد وإياك نستعين} و
" الثاني " حال الكفار والفساق والعصاة الذين فيهم إيمان به وإن كانوا كفارا كما قال: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فهم مؤمنون بربوبيته مشركون في عبادته كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين الخزاعي:يا حصين كم تعبد؟ قال: سبعة آلهة: ستة في الأرض وواحدا في السماء قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء قال: أسلم حتى أعلمك كلمة ينفعك الله تعالى بها فأسلم فقال: قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي} رواه أحمد وغيره. ولهذا قال سبحانه وتعالى:
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} أخبر سبحانه أنه قريب من عباده يجيب دعوة الداعي إذا دعاه فهذا إخبار عن ربوبيته لهم وإعطائه سؤلهم وإجابة دعائهم؛ فإنهم إذا دعوه فقد آمنوا بربوبيته لهم وإن كانوا مع ذلك كفارا من وجه آخر وفساقا أو عصاة قال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا} وقال تعالى:
{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} ونظائره في القرآن كثيرة ثم أمرهم بأمرين فقال: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} فـ " الأول " أن يطيعوه فيما أمرهم به من العبادة والاستعانة و " الثاني " الإيمان بربوبيته وألوهيته وأنه ربهم وإلههم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (29)
من صــ 437 الى صــ 443
ولهذا قيل: إجابة الدعاء تكون عن صحة الاعتقاد وعن كمال الطاعة؛لأنه عقب آية الدعاء بقوله: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي} والطاعة والعبادة هي مصلحة العبد التي فيها سعادته ونجاته وأما إجابة دعائه وإعطاء سؤاله فقد يكون منفعة وقد يكون مضرة قال تعالى: {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا} وقال تعالى:
{ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم} وقال تعالى عن المشركين: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} وقال: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم} وقال: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} وقال:
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه} الآية وقال: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} {وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على أهل جابر فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون}.
فصل:
فالعبد كما أنه فقير إلى الله دائما في إعانته وإجابة دعوته وإعطاء سؤاله وقضاء حوائجه فهو فقير إليه في أن يعلم ما يصلحه وما هو الذي يقصده ويريده وهذا هو الأمر والنهي والشريعة وإلا فإذا قضيت حاجته التي طلبها وأرادها ولم تكن مصلحة له كان ذلك ضررا عليه وإن كان في الحال له فيه لذة ومنفعة فالاعتبار بالمنفعة الخالصة أو الراجحة وهذا قد عرفه الله عباده برسله وكتبه: علموهم وزكوهم وأمروهم بما ينفعهم ونهوهم عما يضرهم وبينوا لهم أن مطلوبهم ومقصودهم ومعبودهم يجب أن يكون هو الله وحده لا شريك له؛ كما أنه هو ربهم وخالقهم وأنهم إن تركوا عبادته أو أشركوا به غيره خسروا خسرانا مبينا وضلوا ضلالا بعيدا وكان ما أوتوه من قوة ومعرفة وجاه ومال وغير ذلك - وإن كانوا فيه فقراء إلى الله مستعينين به عليه مقرين بربوبيته - فإنه ضرر عليهم ولهم بئس المصير وسوء الدار.
وهذا هو الذي تعلق به الأمر الديني الشرعي والإرادة الدينية الشرعية كما تعلق بالأول الأمر الكوني القدري والإرادة الكونية القدرية.
والله سبحانه قد أنعم على المؤمنين بالإعانة والهداية؛ فإنه بين لهم هداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وأعانهم على اتباع ذلك علما وعملا كما من عليهم وعلى سائر الخلق بأن خلقهم ورزقهم وعافاهم ومن على أكثر الخلق بأن عرفهم ربوبيته لهم وحاجتهم إليه وأعطاهم سؤلهم وأجاب دعاءهم قال تعالى: {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن} فكل أهل السموات والأرض يسألونه فصارت الدرجات أربعة.
" قوم " لم يعبدوه ولم يستعينوه وقد خلقهم ورزقهم وعافاهم. و " قوم " استعانوه فأعانهم ولم يعبدوه.
و " قوم " طلبوا عبادته وطاعته ولم يستعينوه ولم يتوكلوا عليه. و " الصنف الرابع " الذين عبدوه واستعانوه فأعانهم على عبادته وطاعته وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقد بين سبحانه ما خص به المؤمنين في قوله: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون}. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على أفضل المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل في أن العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له: كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه وخضوعا له: كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق: أعظمهم عبودية لله. وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق القائل:
بين التذلل والتدلل نقطة ... في رفعها تتحير الأفهام
ذاك التذلل شرك ... فافهم يا فتى بالخلف (1)
فأعظم ما يكون العبد قدرا وحرمة عند الخلق: إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم: كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم - ولو في شربة ماء - نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شيء. ولهذا قال حاتم الأصم، لما سئل فيم السلامة من الناس؟ قال:
أن يكون شيؤك لهم مبذولا وتكون من شيئهم آيسا، لكن إن كنت معوضا لهم عن ذلك وكانوا محتاجين، فإن تعادلت الحاجتان تساويتم كالمتبايعين ليس لأحدهما فضل على الآخر وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك. فالرب سبحانه: أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه. وأفقر ما تكون إليه. والخلق: أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم، لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم فإنهم لا يقدرون عليها، ولا يريدون من جهة أنفسهم، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة.
والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها، ويريدها رحمة منه وفضلا، وذلك صفته من جهة نفسه، لا شيء آخر جعله مريدا راحما، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء، والخلق كلهم محتاجون، لا يفعلون شيئا إلا لحاجتهم ومصلحتهم، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة، ولا ينبغي لهم إلا ذلك، لكن السعيد منهم الذي يعمل لمصلحته التي هي مصلحة، لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك. فهم ثلاثة أصناف: ظالم. وعادل. ومحسن.
فالظالم: الذي يأخذ منك مالا أو نفعا ولا يعطيك عوضه، أو ينفع نفسه بضررك.
والعادل: المكافئ. كالبايع لا لك ولا عليك كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه كالزوجين والمتبايعين والشريكين. والمحسن الذي يحسن لا لعوض يناله منك. فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه نفسه من الأجر، أو طلب مدح - الخلق وتعظيمهم، أو التقرب إليك، إلى غير ذلك.
وبكل حال: ما أحسن إليك إلا لما يرجو من الانتفاع. وسائر الخلق إنما يكرمونك ويعظمونك لحاجتهم إليك، وانتفاعهم بك، إما بطريق المعاوضة؛ لأن كل واحد من المتبايعين والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر، والسيد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون إليه، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم، وعلى هذا بني أمر العالم، وأما بطريق الإحسان منك إليهم.
فأقرباؤك وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك من الكرامة، فلو قد وليت ولوا عنك وتركوك فهم في الحقيقة إنما يحبون أنفسهم، وأغراضهم. فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم تجد أحدهم سيدا مطاعا وهو في الحقيقة عبد مطيع وإذا أوذي أحدهم بسبب سيده أو من يطيعه تغير الأمر بحسب الأحوال، ومتى كنت محتاجا إليهم نقص الحب والإكرام والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك.
والرب تعالى: يمتنع أن يكون المخلوق الآخرين له أو متفضلا عليه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفعت مائدته: {الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا} رواه البخاري من حديث أبي أمامة بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد وحده لا شريك له في ذلك؛ بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله؛ وسعادة العبد في كمال افتقاره إلى الله، واحتياجه إليه، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه، أي بموجب علمه ذلك. فإن الإنسان قد يفتقر ولا يعلم مثل أن يذهب ماله ولا يعلم، بل يظنه باقيا فإذا علم بذهابه صار له حال آخر، فكذلك الخلق كلهم فقراء إلى الله، لكن أهل الكفر والنفاق في جهل بهذا وغفلة عنه وإعراض عن تذكره والعمل به، والمؤمن يقر بذلك ويعمل بموجب إقراره، وهؤلاء هم عباد الله.
(فصل في أن العبادة والاستعانة لله وحده لا شريك له)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
فأما العبادة والاستعانة فلله وحده لا شريك له كما قال: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} {إياك نعبد وإياك نستعين}. {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} وقد جمع بينهما في مواضع كقوله: {فاعبده وتوكل عليه}.
وقوله: {وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده}. وقوله: {عليه توكلت وإليه أنيب}. وكذلك التوكل كما قال: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} وقال: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون} وقال: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
__________
Q (1) هكذا بالأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (30)
من صــ 444 الى صــ 450
والدعاء لله وحده سواء كان دعاء العبادة أو دعاء المسألة والاستعانة كما قال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} {قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا} وقال تعالى: {فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون} وقال: {فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين} وقال: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.
وذم الذين يدعون الملائكة والأنبياء وغيرهم فقال:
{قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} روي عن ابن مسعود: أن قوما كانوا يدعون الملائكة والمسيح وعزيرا فقال الله: هؤلاء الذين تدعونهم يخافون الله ويرجونه ويتقربون إليه كما تخافونه أنتم وترجونه وتتقربون إليه.
وقال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} وقال: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله}؟ وقال: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون}. وتوحيد الله وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته في القرآن: كثير جدا بل هو قلب الإيمان وأول الإسلام وآخره.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله} وقال: {إني لأعلم كلمة لا يقولها عند الموت أحد إلا وجد روحه لها روحا} وقال: {من كان آخر كلامه لا إله إلا الله: وجبت له الجنة} وهو قلب الدين والإيمان.
وسائر الأعمال كالجوارح له. وقول النبي صلى الله عليه وسلم {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله: فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها: فهجرته إلى ما هاجر إليه} فبين بهذا أن النية عمل القلب وهي أصل العمل.
وإخلاص الدين لله وعبادة الله وحده ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. ولهذا أنكرنا على الشيخ يحيى الصرصري: ما يقوله في قصائده في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستغاثة به مثل قوله: بك أستغيث وأستعين وأستنجد. ونحو ذلك.
وكذلك ما يفعله كثير من الناس من استنجاد الصالحين والمتشبهين بهم والاستعانة بهم أحياء وأمواتا فإني أنكرت ذلك في مجالس عامة وخاصة وبينت للناس التوحيد ونفع الله بذلك ما شاء الله من الخاصة والعامة. وهو دين الإسلام العام الذي بعث الله به جميع الرسل. كما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال:
{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} وقال: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} وقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. {وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت الله ورسوله أعلم.
قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم} وقال لابن عباس: {إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله}.
ويدخل في العبادة الخشية والإنابة والإسلام والتوبة كما قال تعالى: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله} وقال: {فلا تخشوا الناس واخشون} وقال: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله}وقال الخليل: {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}. وقال: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم} إلى قوله: {أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} {وإياي فاتقون} وقال: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه} وقال نوح: {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون}.
فجعل العبادة والتقوى لله وجعل له أن يطاع. كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}. وكذلك قالت الرسل مثل نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم: {فاتقوا الله وأطيعون} فجعلوا التقوى لله وجعلوا لهم أن يطاعوا. وكذلك في مواضع كثيرة جدا من القرآن: {اتقوا الله} {اتقوا الله}. {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}. وكذلك. . . (1) وقال: {عليه توكلت وإليه أنيب} وقال: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} وقال عن إبراهيم: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}.
وقالت بلقيس: {إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} وقال: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا} وقال: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} وقال: {وتوبوا إلى الله جميعا} {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} وقال: {فتوبوا إلى بارئكم} {توبوا إلى الله توبة نصوحا} والاستغفار: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا}{وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه}.
والاسترزاق والاستنصار كما في صلاة الاستسقاء والقنوت على الأعداء قال: {فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له} وقال: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} والاستغاثة كما قال: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} والاستجارة كما قال: {قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون} {سيقولون لله قل فأنى تسحرون} والاستعاذة كما قال: {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} وقال:
{وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} {وأعوذ بك رب أن يحضرون}. وقال: {فإذا قرأت القرآن} الآية. وتفويض الأمر كما قال مؤمن آل فرعون: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد}. وفي الحديث المتفق عليه في الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال عند المنام: " اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك ".
وقال: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} وقال: {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع} فالولي الذي يتولى أمرك كله والشفيع الذي يكون شافعا فيه أي عونا فليس للعبد دون الله من ولي يستقل ولا ظهير معين وقال: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} وقال: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده}وقال:
{أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون} {قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض} وقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}. {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}.
وقال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}.
فالعبادة والاستعانة وما يدخل في ذلك من الدعاء والاستغاثة والخشية والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستغفار كل هذا لله وحده لا شريك له فالعبادة متعلقة بألوهيته والاستعانة متعلقة بربوبيته والله رب العالمين لا إله إلا هو ولا رب لنا غيره لا ملك ولا نبي ولا غيره بل أكبر الكبائر الإشراك بالله وأن تجعل له ندا وهو خلقك والشرك أن تجعل لغيره شركا أي نصيبا في عبادتك وتوكلك واستعانتك كما قال من قال:
{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وكما قال تعالى: {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} وكما قال: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون} وكما قال: {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع}.
وأصناف العبادات: الصلاة بأجزائها مجتمعة وكذلك أجزاؤها التي هي عبادة بنفسها من السجود والركوع والتسبيح والدعاء والقراءة والقيام لا يصلح إلا لله وحده. ولا يجوز أن يتنفل على طريق العبادة إلا لله وحده لا لشمس ولا لقمر
__________
[تعليق معد الكتاب للشاملة]
(1) بياض في الأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (31)
من صــ 451 الى صــ 457
ولا لملك ولا لنبي ولا صالح ولا لقبر نبي ولا صالح هذا في جميع ملل الأنبياء وقد ذكر ذلك في شريعتنا حتى نهي أن يتنفل على وجه التحية والإكرام للمخلوقات ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا أن يسجد له.
وقال: {لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها}. ونهى عن الانحناء في التحية ونهاهم أن يقوموا خلفه في الصلاة وهو قاعد. وكذلك الزكاة العامة من الصدقات كلها والخاصة لا يتصدق إلا لله كما قال تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} وقال:
{إنما نطعمكم لوجه الله} وقال: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم} وقال: {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} فلا يجوز فعل ذلك على طريق الدين لا لملك ولا لشمس ولا لقمر ولا لنبي ولا لصالح كما يفعل بعض السؤال والمعظمين كرامة لفلان وفلان يقسمون بأشياء: إما من الأنبياء وإما من الصحابة وإما من الصالحين كما يقال: بكر وعلي ونور الدين أرسلان والشيخ عدي والشيخ جاليد.
وكذلك الحج لا يحج إلا إلى بيت الله فلا يطاف إلا به ولا يحلق الرأس إلا به ولا يوقف إلا بفنائه لا يفعل ذلك بنبي ولا صالح ولا بقبر نبي ولا صالح ولا بوثن وكذلك الصيام لا يصام عبادة إلا لله فلا يصام لأجل الكواكب والشمس والقمر ولا لقبور الأنبياء والصالحين ونحو ذلك.
وهذا كله تفصيل الشهادتين اللتين هما أصل الدين: شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا عبده ورسوله والإله من يستحق إن يؤلهه العباد ويدخل فيه حبه وخوفه فما كان من توابع الألوهية فهو حق محض لله وما كان من أمور الرسالة فهو حق الرسول.
ولما كان أصل الدين الشهادتين: كانت هذه الأمة الشهداء ولها وصف الشهادة. والقسيسون لهم العبادة بلا شهادة ولهذا قالوا: {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} ولهذا كان المحققون على أن الشهادتين أول واجبات الدين كما عليه خلص أهل السنة وذكره منصور السمعاني والشيخ عبد القادر وغيرهما وجعله أصل الشرك وغيروا بذلك ملة التوحيد التي هي أصل الدين كما فعله قدماء المتفلسفة الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
ومن أسباب ذلك: الخروج عن الشريعة الخاصة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم إلى القدر المشترك الذي فيه مشابهة الصابئين أو النصارى أو اليهود وهو القياس الفاسد المشابه لقياس الذين قالوا: {إنما البيع مثل الربا} فيريدون أن يجعلوا السماع جنسا واحدا والملة جنسا واحدا ولا يميزون بين مشروعه ومبتدعه ولا بين المأمور به والمنهي عنه. فالسماع الشرعي الديني سماع كتاب الله وتزيين الصوت به وتحبيره كما قال صلى الله عليه وسلم {زينوا القرآن بأصواتكم} وقال أبو موسى: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا. والصور والأزواج والسراري التي أباحها الله تعالى.
والعبادة: عبادة الله وحده لا شريك له {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال} {رجال}. وهذا المعنى يقرر قاعدة اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. وينهى أن يشبه الأمر الديني الشرعي بالطبيعي البدعي لما بينهما من القدر المشترك كالصوت الحسن ليس هو وحده مشروعا حتى ينضم إليه القدر المميز كحروف القرآن فيصير المجموع من المشترك والمميز هو الدين النافع.
وقال - رحمه الله -:
فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله
قال الله تعالى: {فإذا فرغت فانصب} {وإلى ربك فارغب} قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: {إذا سألت فاسأل الله. وإذا استعنت فاستعن بالله}. وفي الترمذي: {ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع فإنه إن لم ييسره لم يتيسر} وفي الصحيح أنه قال لعدي بن مالك والرهط الذين بايعهم معه: {لا تسألوا الناس شيئا} فإن سوط أحدهم يسقط من يده: فلا يقول لأحد ناولني إياه وفي الصحيح في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب:
{هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون} والاسترقاء طلب الرقية وهو نوع من السؤال. وأحاديث النهي عن مسألة الناس الأموال كثيرة كقوله: {لا تحل المسألة إلا لثلاثة} وقوله: {لأن يأخذ أحدكم حبله} الحديث وقوله {لا تزال المسألة بأحدهم}. وقوله: {من سأل الناس وله ما يغنيه}.
وأمثال ذلك. وقوله: {من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس: لم تسد فاقته} الحديث. فأما سؤال ما يسوغ مثله من العلم:
فليس من هذا الباب لأن المخبر لا ينقص الجواب من علمه بل يزداد بالجواب والسائل محتاج إلى ذلك قال صلى الله عليه وسلم {هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإن شفاء العي السؤال} ولكن من المسائل ما ينهى عنه. كما قال تعالى: {لا تسألوا عن أشياء} الآية. وكنهيه عن أغلوطات المسائل ونحو ذلك.
وأما سؤاله لغيره أن يدعو له: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: {لا تنسنا من دعائك} وقال: {إذا سمعتم المؤذن: فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة} وقد يقال في هذا: هو طلب من الأمة الدعاء له لأنهم إذا دعوا له حصل لهم من الأجر أكثر مما لو كان الدعاء لأنفسهم كما قال للذي قال:
أجعل صلاتي كلها عليك؟ فقال: {إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك} فطلبه منهم الدعاء له لمصلحتهم كسائر أمره إياهم بما أمر به وذلك لما في ذلك من المصلحة لهم فإنه قد صح عنه أنه قال: {ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة: إلا وكل الله به ملكا كلما دعا دعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك مثله}.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع فإن الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له. والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا نعبده بالأهواء والبدع قال الله تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} {إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا} الآية. وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}.
فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من واجب ومستحب لا يعبده بالأمور المبتدعة كما ثبت في السنن من حديث العرباض بن سارية " قال " الترمذي ": حديث حسن صحيح. وفي مسلم " أنه كان يقول في خطبته: {خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة}.
وليس لأحد أن يعبد إلا الله وحده فلا يصلي إلا لله ولا يصوم إلا لله ولا يحج إلا بيت الله ولا يتوكل إلا على الله ولا يخاف إلا الله ولا ينذر إلا لله ولا يحلف إلا بالله. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت}. وفي السنن:
{من حلف بغير الله فقد أشرك} وعن ابن مسعود " لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا " لأن الحلف بغير الله شرك والحلف بالله توحيد. وتوحيد معه كذب خير من شرك معه صدق ولهذا كان غاية الكذب أن يعدل بالشرك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {عدلت شهادة الزور الإشراك بالله مرتين أو ثلاثا} وقرأ قوله تعالى {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} وإذا كان الحالف بغير الله قد أشرك فكيف الناذر لغير الله؟. والنذر أعظم من الحلف ولهذا لو نذر لغير الله فلا يجب الوفاء به باتفاق المسلمين. مثل أن ينذر لغير الله صلاة أو صوما أو حجا أو عمرة أو صدقة.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (32)
من صــ 458 الى صــ 464
ولو حلف ليفعلن شيئا لم يجب عليه أن يفعله قيل يجوز له أن يكفر عن اليمين ولا يفعل المحلوف عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال:
{إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل} فإذا كان النذر لا يأتي بخير فكيف بالنذر للمخلوق ولكن النذر لله يجب الوفاء به إذا كان في طاعة وإذا كان معصية لم يجز الوفاء باتفاق العلماء وإنما تنازعوا هل فيه بدل أو كفارة يمين أم لا؟ لما رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه}.
فمن ظن أن النذر للمخلوقين يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة فهو من الضالين كالذين يظنون أن عبادة المخلوقين تجلب لهم منفعة أو تدفع عنهم مضرة. وهؤلاء المشركون قد تتمثل لهم الشياطين وقد تخاطبهم بكلام وقد تحمل أحدهم في الهواء وقد تخبره ببعض الأمور الغائبة وقد تأتيه بنفقة أو طعام أو كسوة أو غير ذلك كما جرى مثل ذلك لعباد الأصنام من العرب وغير العرب وهذا كثير موجود في هذا الزمان وغير هذا الزمان للضالين المبتدعين المخالفين للكتاب والسنة إما بعبادة غير الله وإما بعبادة لم يشرعها الله.
وهؤلاء إذا أظهر أحدهم شيئا خارقا للعادة لم يخرج عن أن يكون حالا شيطانيا أو حالا بهتانيا فخواصهم تقترن بهم الشياطين كما يقع لبعض العقلاء منهم وقد يحصل ذلك لغير هؤلاء لكن لا تقترن بهم الشياطين إلا مع نوع من البدعة إما كفر وإما فسق وإما جهل بالشرع.
فإن الشيطان قصده إغواء بحسب قدرته فإن قدر على أن يجعلهم كفارا جعلهم كفارا وإن لم يقدر إلا على جعلهم فساقا أو عصاة وإن لم يقدر إلا على نقص عملهم ودينهم ببدعة يرتكبونها يخالفون بها الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فينتفع منهم بذلك.
ولهذا قال الأئمة: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي ولهذا يوجد كثير من الناس يطير في الهواء وتكون الشياطين هي التي تحمله لا يكون من كرامات أولياء الله المتقين. ومن هؤلاء:
من يحمله الشيطان إلى عرفات فيقف مع الناس ثم يحمله فيرده إلى مدينته تلك الليلة ويظن هذا الجاهل أن هذا من أولياء الله ولا يعرف أنه يجب عليه أن يتوب من هذا وإن اعتقد أن هذا طاعة وقربة إليه فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل لأن الحج الذي أمر الله به ورسوله لا بد فيه من الإحرام والوقوف بعرفة ولا بد فيه من أن يطوف بعد ذلك طواف الإفاضة فإنه ركن لا يتم الحج إلا به بل عليه أن يقف بمزدلفة ويرمي الجمار ويطوف للوداع وعليه اجتناب المحظورات والإحرام من الميقات. إلى غير ذلك من واجبات الحج.
وهؤلاء الضالون الذين يضلهم الشيطان يحملهم في الهواء يحمل أحدهم بثيابه فيقف بعرفة ويرجع من تلك الليلة. حتى يرى في اليوم الواحد ببلده ويرى بعرفة. ومنهم من يتصور الشيطان بصورته ويقف بعرفة فيراه من يعرفه واقفا فيظن أنه ذلك الرجل وقف بعرفة. فإذا قال له ذلك الشيخ أنا لم أذهب العام إلى عرفة ظن أنه ملك خلق على صورة ذلك الشيخ وإنما هو شيطان تمثل على صورته ومثل هذا وأمثاله يقع كثيرا وهي أحوال شيطانية قال تعالى:
{ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين}. وذكر الرحمن هو الذكر الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى} - إلى قوله - {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} ونسيانها هو ترك الإيمان والعمل بها وإن حفظ حروفها قال ابن عباس: " تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة " وقرأ هذه الآية. فمن اتبع ما بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة هداه الله وأسعده ومن أعرض عن ذلك ضل وشقي وأضله الشيطان وأشقاه. فالأحوال الرحمانية وكرامات أوليائه المتقين يكون سببه الإيمان فإن هذه حال أوليائه.
قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {الذين آمنوا وكانوا يتقون} وتكون نعمة لله على عبده المؤمن في دينه ودنياه فتكون الحجة في الدين والحاجة في الدنيا للمؤمنين مثلما كانت معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانت الحجة في الدين والحاجة للمسلمين مثل البركة التي تحصل في الطعام والشراب كنبع الماء من بين أصابعه ومثل نزول المطر بالاستسقاء ومثل قهر الكفار وشفاء المريض بالدعاء ومثل الأخبار الصادقة والنافعة بما غاب عن الحاضرين وأخبار الأنبياء لا تكذب قط.
وأما أصحاب الأحوال الشيطانية فهم من جنس الكهان يكذبون تارة ويصدقون أخرى ولا بد في أعمالهم من مخالفة للأمر. قال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} الآيتين. ولهذا يوجد الواحد من هؤلاء ملابسا الخبائث من النجاسات والأقذار
التي تحبها الشياطين ومرتكبا للفواحش أو ظالما للناس في أنفسهم وأموالهم وغير ذلك. والله تعالى قد حرم: {الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله} الآية. وأولياء الله هم الذين يتبعون رضاه بفعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور وهذه جملة لها بسط طويل لا يتسع له هذا المكان. والله أعلم.
(اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)
وقال الشيخ - رحمه الله -:
فصل: في الصراط المستقيم: في " الزهد " و " العبادة " و " الورع " في ترك المحرمات والشهوات و " الاقتصاد " في العبادة. وأن لزوم السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة فإن أصحابها لا بد أن يقعوا في الآصار والأغلال وإن كانوا متأولين فلا بد لهم من اتباع الهوى؛ ولهذا سمي أصحاب البدع أصحاب الأهواء؛ فإن طريق السنة علم وعدل وهدى؛ وفي البدعة جهل وظلم وفيها اتباع الظن وما تهوى الأنفس. و " الرسول " ما ضل وما غوى و " الضلال " مقرون بالغي؛ فكل غاو ضال؛ والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلال وهو مجانبة طريق الفجار، وأهل البدع كما كان السلف ينهون عنهما.
قال تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}.
و " الغي " في الأصل: مصدر غوى يغوي غيا؛ كما يقال: لوى يلوي ليا. وهو ضد الرشد كما قال تعالى: {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا}.
و " الرشد " العمل الذي ينفع صاحبه والغي العمل الذي يضر صاحبه فعمل الخير رشد وعمل الشر غي؛ ولهذا قالت الجن: {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} فقابلوا بين الشر وبين الرشد وقال في آخر السورة: {قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا} ومنه " الرشيد " الذي يسلم إليه ماله. وهو الذي يصرف ماله فيما ينفع لا فيما يضر. وقال الشيطان: {لأغوينهم أجمعين} {إلا عبادك منهم المخلصين} وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم فيطيعونه كما قال تعالى: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} وقال:
{وبرزت الجحيم للغاوين} إلى أن قال: {فكبكبوا فيها هم والغاوون} {وجنود إبليس أجمعون} وقال: {قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا} وقال: {ما ضل صاحبكم وما غوى}.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (33)
من صــ 465 الى صــ 471
ثم إن " الغي " إذا كان اسما لعمل الشر الذي يضر صاحبه فإن عاقبة العمل أيضا تسمى غيا كما أن عاقبة الخير تسمى رشدا كما يسمى عاقبة الشر شرا وعاقبة الخير خيرا؛ وعاقبة الحسنات حسنات؛ وعاقبة السيئات سيئات.
" فالحسنات والسيئات " في كتاب الله يراد بها أعمال الخير، وأعمال الشر كما يراد بها النعم والمصائب والجزاء من جنس العمل فمن عمل خيرا وحسنات لقي خيرا وحسنات ومن عمل شرا وسيئات لقي شرا وسيئات.
كذلك من عمل غيا لقي غيا وترك الصلاة، واتباع الشهوات غي يلقى صاحبه غيا. فلهذا قال الزمخشري: كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد. كما قيل: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما وقال الزجاج: جزاؤه غي؛ لقوله: {يلق أثاما} أي مجازاة آثام. وفي الحديث المأثور: {إن غيا واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها} وهذا تعبير عن ملاقاة الشر.
وقال سبحانه: {أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} فإن الصلاة فيها إرادة وجه الله. كما قال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} أي يصلون صلاة الفجر والعصر. والداعي يقصد ربه ويريده فتكون القلوب في هذه الأشياء مريدة لربها محبة له.
واتباع الشهوات هو اتباع ما تشتهيه النفس؛ فإن " الشهوات " جمع شهوة والشهوة هي في الأصل: مصدر ويسمى المشتهى شهوة. تسمية للمفعول باسم المصدر.
قال تعالى {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما} فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات فإنه يريد أن يتوب علينا: أي فالله يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به {ويريد الذين يتبعون الشهوات} وهم الغاوون {أن تميلوا ميلا عظيما} يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات عدولا عظيما فإن أصل " الميل " العدول فلا بد منه للذين يتبعون الشهوات كما قال صلى الله عليه وسلم {استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن} رواه أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان. فأخبر أنا لا نطيق الاستقامة أو ثوابها إذا استقمنا.
وقال {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} فقوله: {كل الميل} أي يريد نهاية الميل يريد الزيغ عن الطريق والعدول عن سواء الصراط إلى نهاية الشر؛ بل إذا بليت بذلك فتوسط وعد إلى الطريق بالتوبة. كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم {ميل المؤمن كميل الفرس في آخيته يحول ثم يرجع إلى آخيته. كذلك المؤمن يحول ثم يرجع إلى ربه} قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين} إلى قوله: {ونعم أجر العاملين} فلم يقل لا يظلمون ولا يذنبون.
بل قال: {إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} أي بذنب آخر غير الفاحشة؛ فعطف العام على الخاص. كما قال موسى: {رب إني ظلمت نفسي} وقالت بلقيس: {رب إني ظلمت نفسي} وقال تعالى عموما عن أهل القرى المهلكة: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا عنه؛ وبعصيانهم لأنبيائهم؛ وبتركهم التوبة إلى ربهم. وقوله تعالى {ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} ولهذا قال: {والله يريد أن يتوب عليكم} ثم قال: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}. قال مجاهد وغيره: يتبعون الشهوات الزنا وقال ابن زيد: هم أهل الباطل.
وقال السدي: هم اليهود والنصارى والجميع حق؛ فإنهم قد يتبعون الشهوات مع الكفر وقد يكون مع الاعتراف بأنها معصية. ثم ذكر أنه {وخلق الإنسان ضعيفا} وسياق الكلام يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات فلا بد له من شهوة مباحة يستغني بها عن المحرمة؛ ولهذا قال طاووس ومقاتل: ضعيف في قلة الصبر عن النساء. وقال الزجاج وابن كيسان: ضعيف العزم عن قهر الهوى. وقيل: ضعيف في أصل الخلقة؛ لأنه خلق من ماء مهين، يروى ذلك عن الحسن لكن لا بد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر ليناسب ما ذكر في الآية فإنه قال: {يريد الله أن يخفف عنكم} وهو تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ولا تصبروا عنه. كما أباح نكاح الفتيات؛ وقد قال قبل ذلك {لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم}.
فهو سبحانه مع إباحته نكاح الإماء عند عدم الطول وخشية العنت قال: {وأن تصبروا خير لكم} فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة فإن ذلك لا يمكن الصبر عنه. وكذلك من أباح " الاستمناء " عند الضرورة فالصبر عن الاستمناء أفضل.
فقد روي عن ابن عباس: أن نكاح الإماء خير منه وهو خير من الزنا فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل. لا سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقا وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد. واختاره ابن عقيل في المفردات، والمشهور عنه - يعني عن أحمد - أنه محرم إلا إذا خشي العنت. والثالث أنه مكروه إلا إذا خشي العنت. فإذا كان الله قد قال في نكاح الإماء: {وأن تصبروا خير لكم} ففيه أولى.
وذلك يدل على أن الصبر عن كليهما ممكن. فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه فذلك لتسهيل التكليف كما قال تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}.
قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى -:
فصل:
وإنما فرض عليه من الدعاء الراتب الذي يتكرر بتكرر الصلوات بل الركعات فرضها ونفلها هو الدعاء الذي تتضمنه أم القرآن وهو قوله تعالى {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} لأن كل عبد فهو مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية ولا وصول إلى السعادة إلا به فمن فاته هذا الهدى: فهو إما من المغضوب عليهم أو من الضالين.
وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله: {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} وهذه الآية مما يبين به فساد مذهب القدرية الذين يزعمون أن العبد لا يفتقر في حصول هذا الاهتداء.
بل كل عبد عندهم فمعه ما يحصل به الطاعة والمعصية لا فرق عندهم بين المؤمن والكافر ولم يخص الله المؤمن عندهم بهدى حصل به الاهتداء والكلام عليهم مبسوط في موضع آخر. والمقصود هنا أن كل عبد فهو مفتقر دائما إلى حصول هذه الهداية وأما سؤال من يقول: فقد هداهم إلى الإيمان فلا حاجة إلى الهدى.
وجواب من يجيب بأن المطلوب دوام الهدى. فكلام من لم يعرف حال الإنسان وما أمر به؛ فإن الصراط المستقيم حقيقته: أن تفعل كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل ولا تفعل ما نهيت عنه وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحذور.
وهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن يحصل للعبد في وقت واحد بل كل وقت يحتاج أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهدى به في ذلك الوقت.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (34)
من صــ 472 الى صــ 478
نعم حصل له هدى مجمل بأن القرآن حق ودين الإسلام حق والرسول حق ونحو ذلك ولكن هذا الهدى المجمل لا يغنيه إن لم يحصل هدى مفصل في كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التي يحار في كثير منها أكثر عقول الخلق ويغلب الهوى والشهوات أكثر الخلق لغلبة الشبهات والشهوات على النفوس.
والإنسان خلق ظلوما جهولا. فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر فيحتاج دائما إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل في محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى عدل ينافي ظلمه فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم.
وقد قال الله تعالى لنبيه بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما} {وينصرك الله نصرا عزيزا} فأخبر أنه فعل هذا؛ ليهديه صراطا مستقيما فإذا كان هذا حاله فكيف بحال غيره.
والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن والإسلام وطريق العبودية فكل هذا حق فهو موصوف بهذا وبغيره فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا انقطع رزقه مات والموت لا بد منه فإن كان من أهل الهداية كان سعيدا بعد الموت وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية فيكون رحمة في حقه.
وكذلك النصر إذا قدر أنه قهر وغلب حتى قتل فإذا كان من أهل الهداية والاستقامة مات شهيدا وكان القتل من تمام نعمة الله عليه فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر بل لا نسبة بينهما؛ فلهذا كان هذا الدعاء هو المفروض عليهم.
وأيضا فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر. لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} {ويرزقه من حيث لا يحتسب} وكان من المتوكلين {ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره} وكان ممن ينصر الله ورسوله ومن ينصر الله ينصره الله وكان من جند الله وجند الله هم الغالبون. فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر.
فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب يحصل به كل منفعة ويندفع به كل مضرة فلهذا فرض على العبد. وهذا مما يبين أن غير الفاتحة لا يقوم مقامها أصلا وأن فضلها على غيرها من الكلام أعظم من فضل الركوع والسجود على سائر أفعال الخضوع فإذا تعينت الأفعال فهذا أولى. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل:
والعبد مضطر دائما إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء؛ فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية فمن فاته فهو إما من المغضوب عليهم وإما من الضالين وهذا الهدى لا يحصل إلا بهدى الله وهذه الآية مما يبين فساد مذهب القدرية.
وأما سؤال من يقول فقد هداهم فلا حاجة بهم إلى السؤال وجواب من أجابه بأن المطلوب دوامها كلام من لم يعرف حقيقة الأسباب وما أمر الله به؛ فإن الصراط المستقيم أن يفعل العبد في كل وقت ما أمر به في ذلك الوقت من علم وعمل ولا يفعل ما نهي عنه وهذا يحتاج في كل وقت إلى أن يعلم ويعمل ما أمر به في ذلك الوقت وما نهي عنه وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحظور فهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهتدي به في ذلك الصراط المستقيم.
نعم حصل له هدى مجمل بأن القرآن حق والرسول حق ودين الإسلام حق وذلك حق؛ ولكن هذا المجمل لا يغنيه إن لم يحصل له هدى مفصل في كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التي يحار فيها أكثر عقول الخلق ويغلب الهوى والشهوات أكثر عقولهم لغلبة الشهوات والشبهات عليهم.
والإنسان خلق ظلوما جهولا فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر فيحتاج دائما إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل في محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وأكله وشربه ونومه ويقظته فكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله وعدل ينافي ظلمه فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} إلى قوله تعالى:
{ويهديك صراطا مستقيما} فإذا كان هذه حاله في آخر حياته أو قريبا منها فكيف حال غيره.
والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن وبالإسلام وطريق العبودية وكل هذا حق.
فهو موصوف بهذا وبغيره فـ " القرآن " مشتمل على مهمات وأمور دقيقة ونواه وأخبار وقصص وغير ذلك إن لم يهد الله العبد إليها فهو جاهل بها ضال عنها وكذلك " الإسلام " وما اشتمل عليه من المكارم والطاعات والخصال المحمودة وكذلك " العبادة وما اشتملت عليه ".
فحاجة العبد إلى سؤال هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته وفلاحه؛ بخلاف حاجته إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا انقطع رزقه مات والموت لا بد منه فإذا كان من أهل الهدى به كان سعيدا قبل الموت وبعده وكان الموت موصلا إلى السعادة الأبدية وكذلك النصر إذا قدر أنه غلب حتى قتل فإنه يموت شهيدا وكان القتل من تمام النعمة فتبين أن الحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى النصر والرزق؛
بل لا نسبة بينهما؛ لأنه إذا هدي كان من المتقين {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} {ويرزقه من حيث لا يحتسب} وكان ممن ينصر الله ورسوله ومن نصر الله نصره الله وكان من جند الله وهم الغالبون؛ ولهذا كان هذا الدعاء هو المفروض.
و" أيضا " فإنه يتضمن الرزق والنصر؛ لأنه إذا هدي ثم أمر وهدى غيره بقوله وفعله ورؤيته فالهدى التام أعظم ما يحصل به الرزق والنصر فتبين أن هذا الدعاء جامع لكل مطلوب وهذا مما يبين لك أن غير الفاتحة لا يقوم مقامها وأن فضلها على غيرها من الكلام أعظم من فضل الركوع والسجود على سائر أفعال الخضوع فإذا تعينت الأفعال فهذا القول أولى والله أعلم. وصلى الله على نبيه محمد وسلم تسليما كثيرا.
(فصل: المؤمن قد هدي إلى الصراط المستقيم فأي فائدة في طلب الهدى)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه وعن علي - أو حذيفة - رضي الله عنهما ما - قال: القلوب " أربعة ". قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أغلف فذاك قلب الكافر وقلب منكوس.
فذاك قلب المنافق وقلب فيه مادتان: مادة تمده الإيمان ومادة تمده النفاق فأولئك قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر الله في الإيمان من مدح شعب الإيمان وذم شعب الكفر وهذا كما يقول بعضهم في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم}.
فيقولون المؤمن قد هدي إلى الصراط المستقيم فأي فائدة في طلب الهدى ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للنائم: نم حتى آتيك أو يقول بعضهم ألزم قلوبنا الهدى فحذف الملزوم ويقول بعضهم زدني هدى وإنما يوردون هذا السؤال لعدم تصورهم الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه؛ فإن المراد به العمل بما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه في جميع الأمور.
والإنسان وإن كان أقر بأن محمدا رسول الله وأن القرآن حق على سبيل الإجمال فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما ينفعه ويضره وما أمر به وما نهى عنه في تفاصيل الأمور وجزئياتها لم يعرفه وما عرفه فكثير منه لم يعمل بعلمه ولو قدر أنه بلغه كل أمر ونهي في القرآن والسنة فالقرآن والسنة إنما تذكر فيهما الأمور العامة الكلية لا يمكن غير ذلك لا تذكر ما يخص به كل عبد ولهذا أمر الإنسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (35)
من صــ 479 الى صــ 485
والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفصلا ويتناول التعريف بما يدخل في أوامره الكليات ويتناول إلهام العمل بعلمه فإن مجرد العلم بالحق لا يحصل به الاهتداء إن لم يعمل بعلمه ولهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبية:
{إنا فتحنا لك فتحا مبينا} {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما} وقال في حق موسى وهارون: {وآتيناهما الكتاب المستبين} {وهديناهما الصراط المستقيم} والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء الله من الأمور الخبرية والعلمية الاعتقادية والعملية مع أنهم كلهم متفقون على أن محمدا حق والقرآن حق فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا ثم الذين علموا ما أمر الله به أكثرهم يعصونه ولا يحتذون حذوه فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال لفعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهوا عنه والذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائما في أن يهديهم الصراط المستقيم.
فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله المتقين. قال سهل بن عبد الله التستري ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار وما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل وهذا حقيقة قول من يقول: ثبتنا واهدنا لزوم الصراط.
وقول من قال: زدنا هدى يتناول ما تقدم؛ لكن هذا كله هدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم؛ فإن العمل في المستقبل بالعلم لم يحصل بعد ولا يكون مهتديا حتى يعمل في المستقبل بالعلم وقد لا يحصل العلم في المستقبل بل يزول عن القلب وإن حصل فقد لا يحصل العمل فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه الله عليهم في كل صلاة فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة والله أعلم.
(فصل قد يكون النزاع اللفظي مع اتحاد المعنى لا تنوعه)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وقد يكون النزاع اللفظي مع اتحاد المعنى لا تنوعه وكثير من تنازع الأمة في دينهم هو من هذا الباب في الأصول والفروع والقرآن والحديث وغير ذلك.
مثال التنوع الذي ليس فيه نزاع لفظي أن يقول أحدهما: الصراط المستقيم هو الإسلام. ويقول الآخر: هو السنة والجماعة. ويقول الآخر: هو القرآن.
ويقول الآخر: هو طريق العبودية. فإن هذا تنوع في الأسماء والصفات التي يبين بها الصراط المستقيم بمنزلة أسماء الله وأسماء رسوله وكتابه وليس بينها تضاد لا في اللفظ ولا في المعنى.
وكذلك إذا قال بعضهم في السابق والمقتصد والظالم أقوالا يذكر فيها كل قوم نوعا من المسلمين ويكون الاسم متناولا للجميع من غير منافاة. ومثال التنوع الذي فيه نزاع لفظي لأجل اشتراك اللفظ - كما قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء -
تنازع قوم في أن محمدا رأى ربه في الدنيا أو في الآخرة؟ فقال قوم: رآه في الدنيا لأنه رآه قبل الموت وقال آخرون: بل في الآخرة لأنه رآه وهو فوق السموات ولم يره وهو في الأرض.
والتحقيق أن لفظ الآخرة يراد به الحياة الدنيا والحياة الآخرة ويراد به الدار الدنيا والدار الآخرة؛ ومحمد رأى ربه في الحياة الدنيا في الدار الآخرة.
وكذلك كثير ممن يتنازعون في أن الله في السماء أو ليس في السماء فالمثبتة تطلق القول بأن الله في السماء كما جاءت به النصوص ودلت عليه بمعنى أنه فوق السموات على عرشه بائن من خلقه وآخرون ينفون القول بأن الله في السماء ومقصودهم أن السماء لا تحويه ولا تحصره ولا تحمله ولا تقله ولا ريب أن هذا المعنى صحيح أيضا فإن الله لا تحصره مخلوقاته بل وسع كرسيه السموات والأرض؛ والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة وكذلك ليس هو مفتقرا إلى غيره محتاجا إليه بل هو الغني عن خلقه الحي القيوم الصمد فليس بين المعنيين تضاد ولكن هؤلاء أخطئوا في نفي اللفظ الذي جاء به الكتاب والسنة وفي توهم أن إطلاقه دال على معنى فاسد. وقد يعذر بعضهم إذا رأى من أطلق هذا اللفظ وأراد به أن السماء تقله أو تظله وإذا أخطأ من عنى هذا المعنى فقد أصاب وأما الأول فقد أصاب في اللفظ لإطلاقه ما جاء به النص وفي المعنى الذي تقدم لأنه المعنى الحق الذي دل عليه النص لكن قد يخطئ بعضهم في تكفير من يطلق اللفظ الثاني إذا كان مقصوده المعنى الصحيح فإن من عنى المعنى الصحيح لم يكفر بإطلاق لفظ وإن كان مسيئا أو فاعلا أمرا محرما وأما من فسر قوله:
إنه ليس في السماء بمعنى أنه ليس فوق العرش وإنما فوق السموات عدم محض فهؤلاء هم الجهمية الضلال المخالفون لإجماع الأنبياء ولفطرة العقلاء.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
قال الله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون}.
وكتاب الله يدل على ذلك في مواضع مثل قوله تعالى {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه} وقوله: {فباءوا بغضب على غضب} وقوله: {فباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة}.
وقال في النصارى: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل}.
وقال: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} وقال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}.
وقال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا}.
ولما أمرنا الله سبحانه: أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين كان ذلك ما يبين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين وقد وقع ذلك كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن}؟ وهو حديث صحيح.
وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم: ففيه شبه من اليهود ومن انحرف من العباد: ففيه شبه من النصارى كما يرى في أحوال منحرفة أهل العلم: من تحريف الكلم عن مواضعه وقسوة القلوب والبخل بالعلم والكبر وأمر الناس بالبر ونسيان أنفسهم وغير ذلك.
وكما يرى في منحرفة أهل العبادة والأحوال من الغلو في الأنبياء الصالحين والابتداع في العبادات والرهبانية والصور والأصوات.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله} ولهذا حقق الله له نعت العبودية في أرفع مقاماته حيث قال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا}. وقال تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى}. وقال تعالى: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا}.
ولهذا يشرع في التشهد وفي سائر الخطب المشروعة كخطب الجمع والأعياد وخطب الحاجات عند النكاح وغيره أن نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحقق عبوديته لئلا تقع الأمة فيما وقعت فيه النصارى في المسيح من دعوى الألوهية حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: " أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده ".
وقال أيضا لأصحابه: {لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد بل قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد} وقال: {لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني}. وقال: {اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وقال: {إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك}.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (36)
من صــ 486 الى صــ 492
والغلو في الأمة وقع في طائفتين: طائفة من ضلال الشيعة الذين يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية وطائفة من جهال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين فمن توهم في نبينا أو غيره من الأنبياء شيئا من الألوهية والربوبية فهو من جنس النصارى وإنما حقوق الأنبياء ما جاء به الكتاب والسنة عنهم.
قال تعالى في خطابه لبني إسرائيل: {وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} والتعزير: النصر والتوقير والتأييد.
وقال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه} فهذا في حق الرسول ثم قال في حق الله تعالى: {وتسبحوه بكرة وأصيلا} وقال تعالى {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}.
وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}. {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين}.
وقال تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}. وقال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا}.
وذكر طاعة الرسول في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن وقال: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} وقال تعالى:
{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده. كما قال: {فإياي فارهبون}. وقال: {وإياي فاتقون} وقال: {فلا تخشوا الناس واخشون}.
وقال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} وقال تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} وقال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}. وقال صلى الله عليه وسلم {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. وقال له عمر: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل أحد إلا من نفسي فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال: فأنت أحب إلي من نفسي قال:
الآن يا عمر}. فقد بين الله في كتابه حقوق الرسول من الطاعة له ومحبته وتعزيره وتوقيره ونصره وتحكيمه والرضى بحكمه والتسليم له واتباعه والصلاة والتسليم عليه وتقديمه على النفس والأهل والمال ورد ما يتنازع فيه إليه وغير ذلك من الحقوق.
وأخبر أن طاعته طاعته فقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} ومبايعته مبايعته فقال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} وقرن بين اسمه واسمه في المحبة فقال: {أحب إليكم من الله ورسوله}.
وفي الأذى فقال: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} وفي الطاعة والمعصية فقال: {ومن يطع الله ورسوله}. {ومن يعص الله ورسوله} وفي الرضا فقال: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.
(فصل: المستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
(فصل:
قد ذكرت فيما تقدم من القواعد: أن " الإسلام " الذي هو دين الله الذي أنزل به كتبه؛ وأرسل به رسله؛ وهو أن يسلم العبد لله رب العالمين؛ فيستسلم لله وحده لا شريك له ويكون سالما له بحيث يكون متألها له غير متأله لما سواه كما بينته أفضل الكلام ورأس الإسلام: وهو شهادة أن لا إله إلا الله.
وله ضدان: الكبر والشرك ولهذا روي {أن نوحا عليه السلام أمر بنيه بلا إله إلا الله وسبحان الله ونهاهم عن الكبر والشرك} في حديث قد ذكرته في غير هذا الموضع فإن المستكبر عن عبادة الله لا يعبده فلا يكون مستسلما له والذي يعبده ويعبد غيره يكون مشركا به فلا يكون سالما له بل يكون له فيه شرك.
ولفظ " الإسلام " يتضمن الاستسلام والسلامة التي هي الإخلاص وقد علم أن الرسل جميعهم بعثوا بالإسلام العام المتضمن لذلك كما قال تعالى: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا} وقال موسى:
{إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} وقال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} وقال الخليل لما قال له ربه: {أسلم قال أسلمت لرب العالمين} {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} - أيضا وصى بها بنيه - {يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}وقال يوسف: {توفني مسلما} ونظائره كثيرة.
وعلم أن إبراهيم الخليل هو إمام الحنفاء المسلمين بعده كما جعله أمة وإماما وجاءت الرسل من ذريته بذلك فابتدعت اليهود والنصارى ما ابتدعوه مما خرج بهم عن دين الله الذي أمروا به وهو الإسلام العام ولهذا أمرنا أن نقول: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
{اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون} وكل من هاتين الأمتين خرجت عن الإسلام وغلب عليها أحد ضديه فاليهود يغلب عليهم الكبر ويقل فيهم الشرك والنصارى يغلب عليهم الشرك ويقل فيهم الكبر. وقد بين الله ذلك في كتابه فقال في اليهود: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله}.
وهذا هو أصل الإسلام. إلى قوله: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون}.
وهذا اللفظ الذي هو لفظ الاستفهام؛ هو إنكار لذلك عليهم. وذم لهم عليه وإنما يذمون على ما فعلوه فعلم أنهم كانوا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا فيقتلون فريقا من الأنبياء ويكذبون فريقا؛ وهذا حال المستكبر الذي لا يقبل ما لا يهواه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر الكبر في الحديث الصحيح بأنه بطر الحق وغمط الناس ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود.
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل: يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك؟ فقال: لا إن الله جميل يحب الجمال ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس} وبطر الحق جحده ودفعه وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم. وكذلك ذكر الله " الكبر " في قوله بعد أن قال: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء} إلى أن قال: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا}.
وهذا حال الذي لا يعمل بعلمه بل يتبع هواه وهو الغاوي كما قال: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه} الآية وهذا مثل علماء السوء وقد قال لما رجع موسى إليهم:
{ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} فالذين يرهبون ربهم؛ خلاف الذين يتبعون أهواءهم كما قال تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} {فإن الجنة هي المأوى}.
فأولئك المستكبرون المتبعون أهواءهم مصروفون عن آيات الله لا يعلمون ولا يفهمون لما تركوا العمل بما علموه استكبارا واتباعا لأهوائهم عوقبوا بأن منعوا الفهم والعلم؛ فإن العلم حرب للمتعالي كما أن السيل حرب للمكان العالي والذين يرهبون ربهم عملوا بما علموه فأتاهم الله علما ورحمة إذ من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم ولهذا لما وصف الله النصارى: {بأن منهم قسيسين ورهبانا}.
والرهبان: من الرهبنة {وأنهم لا يستكبرون} كانوا بذلك أقرب مودة إلى الذين آمنوا. كما قال: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون}.
فلما كان فيهم رهبة وعدم كبر كانوا أقرب إلى الهدى فقال في حق المسلمين منهم: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (37)
من صــ 493 الى صــ 499
قال ابن عباس: مع محمد وأمته وهم الأمة الشهداء فإن النصارى لهم قصد وعبادة وليس لهم علم وشهادة؛ ولهذا فإن كان اليهود شرا منهم؛ بأنهم أكثر كبرا وأقل رهبة وأعظم قسوة فإن النصارى شر منهم فإنهم أعظم ضلالا وأكثر شركا وأبعد عن تحريم ما حرم الله ورسوله.
وقد وصفهم الله بالشرك الذي ابتدعوه كما وصف اليهود بالكبر الذي هووه فقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} وقال تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} إلى قوله: {أن اعبدوا الله ربي وربكم} الآية وقد ذكر الله قولهم إن الله هو المسيح ابن مريم وإن الله ثالث ثلاثة وقولهم: اتخذ الله ولدا؛ في مواضع من كتابه وبين عظيم فريتهم وشتمهم لله وقولهم " الإد " الذي:
{تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا} ولهذا يدعوهم في غير موضع إلى ألا يعبدوا إلا إلها واحدا كقوله: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق}إلى قوله:
{ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد} إلى قوله {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} وهذا لأن المشركين بمخلوق من البشر أو غيرهم يصيرون هم مشركون.
ويصير الذي أشركوا به من الإنس والجن مستكبرا كما قال: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا} فأخبر الله أن عباده لا يستكبرون عن عبادته وإن أشرك بهم المشركون. وكذلك قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد} إلى قوله: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} الآية وقال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة} فأخبر أنه أمرهم بالتوحيد ونهاهم عن أن يشركوا به أو بغيره كما فعلوه.
ولما كان أصل دين اليهود الكبر عاقبهم بالذلة: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا}. ولما كان أصل دين النصارى الإشراك لتعديد الطرق إلى الله أضلهم عنه؛ فعوقب كل من الأمتين على ما اجترمه بنقيض قصده {وما ربك بظلام للعبيد}. كما جاء في الحديث: {يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر يطؤهم الناس بأرجلهم}.
وكما في الحديث عن عمر بن الخطاب موقوفا ومرفوعا: {ما من أحد إلا في رأسه حكمة فإن تواضع قيل له: انتعش نعشك الله وإن رفع رأسه قيل له: انتكس نكسك الله}. وقال سبحانه وتعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وقال تعالى:
{بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين} {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم}.
ولهذا استوجبوا الغضب والمقت. والنصارى لما دخلوا في البدع: أضلهم عن سبيل الله فضلوا عن سبيل الله وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وهم إنما ابتدعوها ليتقربوا بها إليه ويعبدوه فأبعدتهم عنه وأضلتهم عنه وصاروا يعبدون غيره.
فتدبر هذا والله تعالى يهدينا صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم والضالين. وقد وصف بعض اليهود بالشرك في قوله: {وقالت اليهود عزير ابن الله} وفي قوله: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} ففي اليهود من عبد الأصنام وعبد البشر؛ وذلك أن المستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل فيكون المستكبر مشركا كما ذكر الله عن فرعون وقومه: أنهم كانوا مع استكبارهم وجحودهم مشركين فقال عن مؤمن آل فرعون:
{ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار} {تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} {لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة}. وقال: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات} الآية.
وقال يوسف الصديق لهم: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} وقد قال تعالى:{وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون}.
فإن قيل: كيف يكون قوم فرعون مشركين؟ وقد أخبر الله عن فرعون أنه جحد الخالق فقال: {وما رب العالمين} وقال: {ما علمت لكم من إله غيري} وقال: {أنا ربكم الأعلى} وقال عن قومه: {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين} {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} والإشراك لا يكون إلا من مقر بالله وإلا فالجاحد له لم يشرك به.
قيل: لم يذكر الله جحود الصانع إلا عن فرعون موسى وأما الذين كانوا في زمن يوسف فالقرآن يدل على أنهم كانوا مقرين بالله وهم مشركون به ولهذا كان خطاب يوسف للملك وللعزيز ولهم:
يتضمن الإقرار بوجود الصانع كقوله: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة} إلى قوله {إن ربي بكيدهن عليم} {وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} إلى قوله: {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} وقد قال مؤمن آل - حم - {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا} فهذا يقتضي: أن أولئك الذين بعث إليهم يوسف كانوا يقرون بالله.
ولهذا كان إخوة يوسف يخاطبونه قبل أن يعرفوا أنه يوسف ويظنونه من آل فرعون بخطاب يقتضي الإقرار بالصانع كقولهم: {تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين} وقال لهم: {أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون} وقال: {معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} وقالوا له:
{يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين} وذلك أن فرعون الذي كان في زمن يوسف أكرم أبويه وأهل بيته لما قدموا إكراما عظيما مع علمه بدينهم واستقراء أحوال الناس يدل على ذلك.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (38)
من صــ 1 الى صــ 7
فإن جحود الصانع لم يكن دينا غالبا على أمة من الأمم قط وإنما كان دين الكفار الخارجين عن الرسالة هو الإشراك وإنما كان يجحد الصانع بعض الناس وأولئك كان علماؤهم من الفلاسفة الصابئة المشركين الذين يعظمون الهياكل والكواكب والأصنام والأخبار المروية من نقل أخبارهم وسيرهم كلها تدل على ذلك؛ ولكن فرعون موسى:
{فاستخف قومه فأطاعوه} وهو الذي قال لهم - دون الفراعنة المتقدمين -؛ {ما علمت لكم من إله غيري} ثم قال لهم بعد ذلك: {أنا ربكم الأعلى} {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} نكال الكلمة الأولى.
ونكال الكلمة الأخيرة وكان فرعون في الباطن عارفا بوجود الصانع وإنما استكبر كإبليس وأنكر وجوده ولهذا قال له موسى: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر} فلما أنكر الصانع وكانت له آلهة يعبدها بقي على عبادتها ولم يصفه الله تعالى بالشرك وإنما وصفه بجحود الصانع وعبادة آلهة أخرى.
والمنكر للصانع منهم مستكبر كثيرا ما يعبد آلهة؛ ولا يعبد الله قط؛ فإنه يقول: هذا العالم واجب الوجود بنفسه. وبعض أجزائه مؤثر في بعض ويقول إنما انتفع بعبادة الكواكب والأصنام ونحو ذلك ولهذا كان باطن قول هؤلاء الاتحادية المنتسبة إلى الإسلام هو قول فرعون.
وكنت أبين أنه مذهبهم وأبين أنه حقيقة مذهب فرعون حتى حدثني الثقة: عن بعض طواغيتهم أنه قال: نحن على قول فرعون؛ ولهذا يعظمون فرعون في كتبهم تعظيما كثيرا. فإنهم لم يجعلوا ثم صانعا للعالم خلق العالم ولا أثبتوا ربا مدبرا للمخلوقات وإنما جعلوا نفس الطبيعة هي الصانع ولهذا جوزوا عبادة كل شيء وقالوا من عبده فقد عبد الله ولا يتصور عندهم أن يعبد غير الله فما من شيء يعبد إلا وهو الله وهذه الكائنات عندهم أجزاؤه أو صفاته كأجزاء الإنسان أو صفاته فهؤلاء إذا عبدوا الكائنات فلم يعبدوها لتقربهم إلى الله زلفى؛ لكن لأنها عندهم هي الله أو مجلى من مجاليه أو بعض من أبعاضه أو صفة من صفاته أو تعين من تعيناته وهؤلاء يعبدون ما يعبده فرعون وغيره من المشركين لكن فرعون لا يقول:
هي الله ولا تقربنا إلى الله والمشركون يقولون: هي شفعاؤنا وتقربنا إلى الله وهؤلاء يقولون هي الله كما تقدم وأولئك أكفر من حيث اعترفوا بأنهم عبدوا غير الله أو جحدوه؛ وهؤلاء أوسع ضلالا من حيث جوزوا عبادة كل شيء وزعموا أنه هو الله وأن العابد هو المعبود وإن كانوا إنما قصدوا عبادة الله.
وإذا كان أولئك كانوا مشركين كما وصفوا بذلك. وفرعون موسى هو الذي جحد الصانع وكان يعبد الآلهة ولم يصفه الله بالشرك. فمعلوم أن المشركين قد يحبون آلهتهم كما يحبون الله أو تزيد محبتهم لهم على محبتهم لله؛ ولهذا: يشتمون الله إذا شتمت آلهتهم. كما قال تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}.
فقوم فرعون قد يكونون أعرضوا عن الله بالكلية بعد أن كانوا مشركين به واستجابوا لفرعون في قوله: {أنا ربكم الأعلى} و {ما علمت لكم من إله غيري}. ولهذا لما خاطبهم المؤمن ذكر الأمرين فقال:
{تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم} فذكر الكفر به الذي قد يتناول جحوده وذكر الإشراك به أيضا؛ فكان كلامه متناولا للمقالتين والحالين جميعا. فقد تبين: أن المستكبر يصير مشركا إما بعبادة آلهة أخرى مع استكباره عن عبادة الله لكن تسمية هذا شركا نظير من امتنع مع استكباره عن إخلاص الدين لله كما قال تعالى:
{إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} {ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون} فهؤلاء مستكبرون مشركون؛ وإنما استكبارهم عن إخلاص الدين لله فالمستكبر الذي لا يقر بالله في الظاهر كفرعون أعظم كفرا منهم وإبليس الذي يأمر بهذا كله ويحبه ويستكبر عن عبادة ربه وطاعته أعظم كفرا من هؤلاء وإن كان عالما بوجود الله وعظمته كما أن فرعون كان أيضا عالما بوجود الله. وإذا كانت البدع والمعاصي شعبة من الكفر وكانت مشتقة من شعبه.
كما أن الطاعات كلها شعبة من شعب الإيمان ومشتقة منه وقد علم أن الذي يعرف الحق ولا يتبعه غاو يشبه اليهود؛ وأن الذي يعبد الله من غير علم وشرع: هو ضال يشبه النصارى؛ كما كان يقول من يقول من السلف: من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود؛ ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى.
فعلى المسلم أن يحذر من هذين الشبهين الفاسدين؛ من حال قوم فيهم استكبار وقسوة عن العبادة والتأله؛ وقد أوتوا نصيبا من الكتاب وحظا من العلم؛ وقوم فيهم عبادة وتأله بإشراك بالله وضلال عن سبيل الله ووحيه وشرعه وقد جعل في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها وهذا كثير منتشر في الناس؛ والشبه تقل تارة وتكثر أخرى؛ فأما المستكبرون المتألهون لغير الله الذين لا يعبدون الله. وإنما يعبدون غيره للانتفاع به؛ فهؤلاء يشبهون فرعون.
[فصل: رد دعوى النصارى أنهم هم الذين أنعم الله عليهم]
ثم قالوا: مع الأمر له في فاتحة الكتاب أن يسأل الهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فإنه عنى بقوله: المنعم عليهم والمغضوب عليهم والضالين الثلاث أمم الذين كانوا في عصره، وهم: النصارى، واليهود وعباد الأصنام، ولم يكن في زمانه غير هؤلاء الثلاث أمم.
فالمنعم عليهم نحن النصارى والمغضوب عليهم فلا - يشك أنهم - اليهود، الذين غضب الله عليهم في كتب التوراة والأنبياء وهذا الكتاب، والضالين فهم عباد الأصنام الذين ضلوا عن الله، فهذا أمر واضح بين ظاهر عند كل أحد، ولا سيما عند ذوي العقول والمعرفة والصراط: هو المذهب، أي الطريق، وهذه اللفظة رومية، لأن الطريق بالرومية اسطراطا.
والجواب:
أما قولهم: المنعم عليهم نحن النصارى، فمن العجائب التي تدل على فرط جهل صاحبها، وأعجب من ذلك قولهم إن هذا شيء بين واضح عند كل أحد، لا سيما عند ذوي العقل والمعرفة، فيا سبحان الله!
ألم يعرف العام والخاص علما ضروريا لا تمكن المنازعة فيه من دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ودين أمته الذي تلقوه عنه من تكفير النصارى وتجهيلهم وتضليلهم واستحلال جهادهم وسبي حريمهم وأخذ أموالهم، ما يناقض كل المناقضة أن يكون محمد وأمته في كل صلاة يقولون: اللهم اهدنا صراط النصارى.
وهل ينسب محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأمته إلى أنهم في كل صلاة يطلبون من الله أن يهديهم صراط النصارى إلا من هو من أكذب الكذابين وأعظم الخلق افتراء ووقاحة وجهلا وضلالا؟
ولو كانوا يسألون الله هداية طريق النصارى، لدخلوا في دين النصارى، ولم يكفروهم ويقاتلوهم، ويضعوا عليهم الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون، ولم يشهدوا عليهم بأنهم من أهل النار، وأمته أخذوا ذلك جميعه عنه منقولا عنه بالنقل المتواتر بإجماعهم، لم يبتدعوا ذلك، كما ابتدعت النصارى من العقائد والشرائع ما لم يأذن به الله، فلا يلام المسلمون في اتباعهم لرسول الله الذي جاء بالبينات والهدى.
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - إن كان رسولا صادقا، فقد كفر النصارى، وأمر بجهادهم، وتبرأ منهم ومن دينهم، وإن كان كاذبا لم يقبل شيء مما نقله عن الله عز وجل.
وقد تقدم غير مرة قوله - تعالى -:
{لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73].
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17].
{وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30] (30) {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].
فمن يقول عن النصارى مثل هذه الأقوال هل يأمر أمته في كل صلاة أن يقولوا: اهدنا طريقهم؟
ثم يقال: أي شيء في الآية مما يدل على أن قوله: صراط الذين أنعمت عليهم، هم النصارى.
وإنما المنعم عليهم هم الذين ذكرهم الله في قوله - تعالى -:
{ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء: 69].
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (39)
من صــ 8 الى صــ 14
فهؤلاء هم الذين أمر الله عباده أن يسألوا هداية صراطهم.
وأما النصارى الذين كانوا على دين المسيح قبل النسخ والتبديل فهم من المنعم عليهم، كما أن اليهود الذين كانوا على دين موسى قبل النسخ والتبديل كانوا من المنعم عليهم.
وأما النصارى بعد النسخ والتبديل فهم من الضالين، لا من المنعم عليهم عند الله ورسوله، كما قال - تعالى -:
{قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77].
وقال - تعالى -:
{أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} [مريم: 38].
وعباد الأصنام من الضالين المغضوب عليهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون رواه الإمام أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وسبب ذلك أن اليهود يعرفون الحق ولا يعملون به، والنصارى يعبدون بلا علم، وقد وصف الله اليهود بأعمال، والنصارى بأعمال، فوصف اليهود بالكبر والبخل والجبن والقسوة وكتمان العلم وسلوك سبيل الغي وهو سبيل الشهوات والعدوان.
وذكر عن النصارى الغلو والبدع في العبادات والشرك والضلال واستحلال محارم الله، فقال - تعالى -:
{ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171] (171) {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} [النساء: 172] (172)
{فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} [النساء: 173].
وقال - تعالى -:
{ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها} [الحديد: 27].
أي لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، لم نكتب عليهم الرهبانية، بل هم ابتدعوها ومع ابتداعهم إياها فما رعوها حق رعايتها، وكل بدعة ضلالة فهم مذمومون على ابتداع الرهبانية وعلى أنهم لم يرعوها حق رعايتها.
وأما ما كتب عليهم من ابتغاء رضوان الله فيحصل بفعل ما شرعه الله لهم من واجب ومستحب، فإن ذلك هو الذي يرضاه، ومن فعل ما يرضاه الله فقد فعل ما كتب عليه، ويحصل رضوان الله أيضا بمجرد فعل الواجبات، وهذا هو الذي كتب على العباد، فإذا لم يكتب عليهم إلا ابتغاء رضوان الله كان ابتغاء رضوانه واجبا، فما ليس بواجب لا يشترط في حصول ما كتب عليهم.
ولهذا ضعف أحمد بن حنبل وغيره الحديث المروي: أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله، فإن من صلى في آخر الوقت كما أمر فقد فعل الواجب، وبذلك يرضى الله عنه وإن كان فعل المستحبات والمسابقة إلى الطاعات أبلغ في إرضاء الله، ويحصل له بذلك من رضوان الله ومحبته ما لا يحصل بمجرد الواجبات.
كما قال موسى - عليه السلام -.
{وعجلت إليك رب لترضى} [طه: 84].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يقول الله - تعالى -: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي فلئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته»، ولا بد له منه فقوله حتى أحبه يريد المحبة المطلقة الكاملة.
وأما أصل المحبة: فهي حاصلة بفعل الواجبات، فإن الله يحب المتقين والمقسطين، ومن أدى الواجبات فهو من المتقين المقسطين.
وقال - تعالى - فيهم:
{وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30] (30) {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].
وقال - تعالى -:
{قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77].
وهو - سبحانه - خاطب النصارى بهذا لأن النصارى يعتمدون في دينهم على ما يقوله كبراؤهم الذين وضعوا لهم القوانين والنواميس ويسوغون لأكابرهم الذين صاروا عندهم عظماء في الدين أن يضعوا لهم شريعة وينسخوا بعض ما كانوا عليه قبل ذلك، لا يردون ما يتنازعون فيه من دينهم إلى الله ورسله، بحيث لا يمكنون أحدا من الخروج عن كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل وعن اتباع ما جاء به المسيح، ومن قبله من الأنبياء - عليهم السلام -.
ولهذا قال - تعالى -:
{قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم} [المائدة: 68].
بل ما وضعه لهم أكابرهم من القوانين الدينية والنواميس الشرعية بعضها ينقلونه عن الأنبياء، وبعضها عن الحواريين، وكثير من ذلك ليس منقولا، لا عن الأنبياء، ولا عن الحواريين، بل من وضع أكابرهم وابتداعهم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (40)
من صــ 15 الى صــ 21
المحرمات، وابتدعوا لهم الصوم وقت الربيع، وجعلوه خمسين يوما، وابتدعوا لهم أعيادهم، كعيد الصليب، وغيره من الأعياد.
وكذلك «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم لما سمعه يقرأ هذه الآية:
{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [التوبة: 31].
فقال: لم يعبدوهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم» ولهذا قال - تعالى -:
{ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77].
فإنهم يتبعون أهواء أكابرهم الذين مضوا من قبلهم، وأولئك ضلوا من قبل هؤلاء وأضلوا أتباعهم، وهم كثيرون، وضلوا عن سواء السبيل، وهو وسط السبيل، وهو الصراط المستقيم، فإن كانوا هم وأتباعهم ضالين عن الصراط المستقيم، فكيف يجوز أن يأمر الله عباده أن يسألوه أن يهديهم الصراط المستقيم، ويعني به صراط هؤلاء الضالين المضلين عن سواء السبيل، وهو الصراط المستقيم.
وقد قال - سبحانه -: ولا تتبعوا أهواء هؤلاء لأن أصل ابتداعهم هذه البدعة من أنفسهم مع ظن كاذب، فكانوا ممن قيل فيهم:
{إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23].
وممن قيل فيه.
{ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50].
وسبب ذلك أن المسيح - صلى الله عليه وسلم - لما رفع إلى السماء وعاداه اليهود، وعادوا أتباعه عداوة شديدة، وبالغوا في أذاهم وإذلالهم وطلب قتلهم ونفيهم، صار في قلوبهم من بغض اليهود، وطلب الانتقام منهم ما لا يوصف، فلما صار لهم دولة وملك مثل ما صار لهم في دولة قسطنطين، صاروا يريدون مقابلة اليهود.
كما جرت العادة في مثل ذلك بين الطوائف المتقابلة المتنازعين في الملك، والمتنازعين في البدع كالخوارج، والروافض،والجبر ية مع القدرية والمعطلة مع الممثلة، وكالدولتين المتنازعتين على الملك والأهواء بمنزلة قيس ويمن، وأمثال ذلك.
إذا ظهرت طائفة على الأخرى بعدما آذتها الأخرى وانتقمت منها تريد أن تأخذ بثأرها، ولا تقف عند حد العدل، بل تعتدي على تلك كما اعتدت تلك عليها.
فصار النصارى يريدون مناقضة اليهود فأحلوا ما يحرمه اليهود كالخنزير وغيره، وصاروا يمتحنون من دخل في دينهم بأكل الخنزير، فإن أكله وإلا لم يجعلوه نصرانيا.
وتركوا الختان، وقالوا: إن المعمودية عوض عنه، وصلوا إلى قبلة غير قبلة اليهود.
وكان اليهود قد أسرفوا في ذم المسيح - عليه السلام - وزعموا أنه ولد زنا، وأنه كذاب ساحر.
فغلوا هؤلاء في تعظيم المسيح، وقالوا: إنه الله وابن الله، وأمثال ذلك، وصار من يطلب أن يقول فيه القول العدل مثل كثير من علمائهم وعبادهم، يجمعون له مجمعا ويلعنونه فيه على وجه التعصب، واتباع الهوى، والغلو فيمن يعظمونه، كما يجري مثل ذلك لأهل الأهواء، كالفلاة في بعض المشايخ، وبعض أهل البيت، وبعض العلماء وبعض الملوك، وبعض القبائل وبعض المذاهب، وبعض الطرائق، فإنما كان مصدر ضلالهم أهواء نفوسهم، قال - تعالى - للنصارى الذين كانوا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم:
{قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77].
وأما قولهم إن الصراط هو المذهب أي الطريق، وهذه لفظة رومية لأن الطريق بالرومية اسطراطا.
فيقال لهم: الصراط في لغة العرب: هو الطريق يقال هو الطريق الواضح ويقال هو الطريق المحدود بجانبين الذي لا يخرج عنه، ومنه الصراط المنصوب على جهنم، وهو الجسر الذي يعبر عليه المؤمنون إلى الجنة، وإذا عبر عليه الكفار سقطوا في جهنم، ويقال فيه: معنى الاستواء والاعتدال الذي يوجب سرعة العبور عليه، وفيه ثلاث لغات، هي ثلاث قراءات: الصراط، والسراط، والزراط، وهي لغة عربية عرباء ليست من المعرب، ولا مأخوذة من لغة الروم كما زعموا.
ويقال أصله من قولهم: سرطت الشيء أسرطه سرطا، إذا ابتلعته واسترطته ابتلعته، فإن المبتلع يجري بسرعة في مجرى محدود.
ومن أمثال العرب: لا تكن حلوا فتسترط، ولا مرا فتعفى، من قولهم: أعفيت الشيء، إذا أزلته من فيك لمرارته، ويقال فلان يسترط ما يأخذ من الدين.
وحكى يعقوب بن السكيت: الأخذ سريط، والقضاء ضريط، والسرطاط: الفالوذج، لأنه يسترط استراطا، وسيف سراطي، أي قاطع فإنه ماض سريع المذهب في مضربه.
فالصراط: هو الطريق المحدود المعتدل الذي يصل سالكه إلى مطلبه بسرعة، وقد ذكر الله لفظ الصراط في كتابه في غير موضع، ولم يسم الله سبيل الشيطان سراطا، بل سماها سبلا، وخص طريقه باسم الصراط، كقوله - تعالى -:{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153].
وفي السنن عن عبد الله بن مسعود قال: «خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا، وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه من أجابه قذفه في النار ثم قرأ:
{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153]».
فسمى - سبحانه - طريقه صراطا، وسمى تلك سبلا، ولم يسمها صراطا كما سماها سبيلا، وطريقه يسميه سبيلا كما يسميه صراطا.
وقال - تعالى -: عن موسى وهارون:{وآتيناهم ا الكتاب المستبين} [الصافات: 117] (117) {وهديناهما الصراط المستقيم} [الصافات: 118].
وقال - تعالى -:
{إنا فتحنا لك فتحا مبينا} [الفتح: 1] (1) {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما} [الفتح: 2] (2) {وينصرك الله نصرا عزيزا} [الفتح: 3].
وهذه الهداية الخاصة التي أعطاه إياها بعد فتح الحديبية أخص مما تقدم فإن السالك إلى الله لا يزال يتقرب إليه بشيء بعد شيء، ويزيده الله هدى بعد هدى، وأقوم الطريق وأكملها الطريق التي بعث الله بها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم كما قال - تعالى -:
{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9].
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (41)
من صــ 22 الى صــ 28
فصل
ويستحب التأمين بعد الفاتحة, والسنة للمصلي إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} أن يقول: آمين, ويقولها الإمام والمأموم والمنفرد, يجهر بها الإمام والمأموم فيما يجهر بقراءته تبعاً للفاتحة, وكذلك المنفرد إن جهر؛ لما روى أبو هريرة: أّنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا, فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه الجماعة.
وقال ابن شهاب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «آمين» وفي رواية أحمد والنسائي: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا آمِينَ, فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَقُولُ: آمِينَ, وَإِنَّ الإِمَامَ يَقُولُ: آمِينَ, فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وقد تقدم عن بلالٍ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسْبِقْنِي بِآمِينَ» , وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ بالتَّكْبِيرِ, وَيَفْتَتِحُ قِرَاءَتَهُ بِالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: آمِينَ» رواه.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «إِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَلاَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. قَالَ: آمِينَ حَتَّى يَسْمَعَ مَنْ يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الأَوَّلِ» رواه أبو داود وابن ماجة وقال: «حَتَّى يَسْمَعَهَا أَهْلُ الصَّفِّ الأَوَّلِ, فَيَرْتَجُّ الْمَسْجِدُ» , وفي رواية قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} رفع صوته بآمين, ويأمرنا بذلك» رواه الأثرم, وفي رواية: «كَانَ إِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. قَالَ آمِينَ وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ» رواه الخمسة, وقال الترمذي: حديث حسن.
وفي روايةٍ: قال: «آمين» يمد بها صوته. وقال الدارقطني:حديث صحيح. وعن وائل بن حجر قال: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم, فَجَهَرَ بِآمِينَ».
فهذه كلها نصوص في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالتأمين, وقد أمر المأمومين أن يؤمنوا مع تأمين الإمام, وظاهره أنهم يؤمنون مثل تأمينه؛ لأن التأمين في حقهم أوكد؛ لكونهم أمروا به, فإذا كان هو يجهر به فالمأموم أولى, وقد تقدم التصريح بذلك, ولذلك فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر بالجهر به, وأجمعوا* على ذلك, فروى إسحاق بن راهويه عن عطاء قال: أدركت مائتين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} سمعت لهم ضجَّة بآمين, وعن عكرمة قال: أدركت الناس في هذا المسجد ولهم ضجة بآمين, قال إسحاق: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بآمين، حتى يسمعوا للمسجد رِجَّة.
ولأن المؤمّن داع, ولهذا قال الله سبحانه لموسى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} وإنما كان يدعو موسى ويُؤَمِّن هارون.
وقد شرع التأمين للقارئ ومستمعه, حتى الملائكة في السماء تقول: آمين.
وإذا ترك الإمام التأمين أو الجهر به أمَّن المأموم وجهر به, وسواء كان قريباً من الإمام يسمع قراءته ويسمع همهمته, أو كان لا يسمع له صوتاً, فإنه يؤمن, ثم إن كان في قراءةٍ تركها وأمَّن, ثم يبني على قراءته.
وإذا ترك التأمين في موضعه لم يأتِ به بعد ذلك, مثل أن يأخذ في قراءة السورة حتى يشرع في القراءة, فقد فات في محله فلا يعيده, وإن ذكر قبل أن يطول الفصل أتى به؛ لأن محله باقٍ, ولا يجب عليه سجود السهو, نص عليه؛ لأنه دعاء لا يتميز بفعل فلم يشرع له سجود السهو, كالتعوذ من أربع في التشهد.
وفيه لغتان: «أمين» على وزن فعلي, و «آمين» على وزن فاعيل, فالياء ممدودة فيهما, وفي إحدى اللغتين يأتي بألفٍ ممدودة بعد الهمزة, فيجتمع فيه كلمتان, وقال القاضي والآمدي: هذه اللغة أشبه بالسنة؛ لأنَّ في حديث «مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ» ولا حجة فيه؛ لأن مدّ الصوت قد يكون في الياء, وهو أظهر منه في الألف, فإن قال: «آمِّين» بتشديد الميم, وأتى بألف, أو لم يأت بها, قال الآمدي لا يجوز؛ لأن «آمِّين» قاصدين, من قوله تعالى: {وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}.
ومعناها: اللهم استجب, وهي عند أهل العربية من أسماء الأفعال, التي يطلب بها, مثل: هلم وهيئت, ولذلك بُنيت.
وتركها مكروه, قال أحمد: «آمين» أَمْرُ النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا» فهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم أوكد من الفعل. وقياس قول أبي بكر وجوبها, عن أبي مُصبِّح المقرائي قال: كنا نجلس إلى أبي زهير النميري, وكان من الصحابة, فيتحدث أحسن الحديثِ, فإذا دعا الرجل منا قال: اختمه بآمين, فإن «آمين» مثل الطابع على الصحيفة. قال أبو زهير: أخبركم عن ذلك, خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ, فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ, فَوَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَ مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
«أَوْجَبَ إِنْ خَتَمَ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ؟ قَالَ: «بِآمِينَ» فَمَا مَرَّ أَنْ خَتَمَ بِآمِينَ هَذَا أَوْجَبَ, فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم, فَأَتَى الرَّجُلَ فَقَالَ: «اخْتِمُ يَا فُلاَنُ بِآمِينَ وَأَبْشِرْ» رواه أبو داود.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى: آمِينَ فَأَكْثِرُوا مِنْ آمِينَ» رواه النجاد.
فإن قال: آمين رب العالمين, فقال القاضي والآمدي وغيرهما: قياس قول أحمد أنه غير مستحب, كما لم يستحب الزيادة على تكبيرة الافتتاح, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وهو صلى الله عليه وسلم إنما قال: آمين, من غير زيادة.
الى اللقاء مع سورة سُورَةُ الْبَقَرَةِ
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (42)
من صــ 29 الى صــ 35
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فَصْلٌ:
وَقَدْ ذَكَرْت فِي مَوَاضِعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ " سُورَةُ الْبَقَرَةِ " مِنْ تَقْرِيرِ أُصُولِ الْعِلْمِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ كِتَابِهِ الْهَادِي لِلْمُتَّقِينَ فَوَصَفَ حَالَ أَهْلِ الْهُدَى ثُمَّ الْكَافِرِينَ ثُمَّ الْمُنَافِقِينَ . فَهَذِهِ " جُمَلٌ خَبَرِيَّةٌ " ثُمَّ ذَكَرَ " الْجُمَلَ الطَّلَبِيَّةَ " فَدَعَا النَّاسُ إلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فَرْشِ الْأَرْضِ وَبِنَاءِ السَّمَاءِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِ الثِّمَارِ رِزْقًا لِلْعِبَادِ ثُمَّ قَرَّرَ " الرِّسَالَةَ " وَذَكَرَ " الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ " ثُمَّ ذَكَرَ مَبْدَأَ " النُّبُوَّةِ وَالْهُدَى " وَمَا بَثَّهُ فِي الْعَالَمِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعْلِيمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَإِسْجَادَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ لِمَا شَرَّفَهُ مِنْ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ هَذَا تَقْرِيرٌ لِجِنْسِ مَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فَقَصَّ جِنْسَ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى خِطَابِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَهُمْ وَضَمَّنَ ذَلِكَ تَقْرِيرَ نُبُوَّتِهِ إذْ هُوَ قَرِينُ مُحَمَّدٍ فَذَكَرَ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ،وَمُوسَ ى الَّذِي هُوَ نَظِيرُهُ وَهُمَا اللَّذَانِ احْتَجَّا وَمُوسَى قَتَلَ نَفْسًا فَغَفَرَ لَهُ وَآدَمُ أَكَلَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَكَانَ فِي قِصَّةِ مُوسَى رَدٌّ عَلَى الصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يُقِرُّ بِجِنْسِ النُّبُوَّاتِ وَلَا يُوجِبُ اتِّبَاعَ مَا جَاءُوا بِهِ وَقَدْ يَتَأَوَّلُونَ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرِ نُبُوَّتِهِ وَذَكَرَ حَالَ مَنْ عَدَلَ عَنْ النُّبُوَّةِ إلَى السِّحْرِ وَذَكَرَ النَّسْخَ الَّذِي يُنْكِرُهُ بَعْضُهُمْ وَذَكَرَ النَّصَارَى وَأَنَّ الْأُمَّتَيْنِ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُ حَتَّى يَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. كُلُّ هَذَا فِي تَقْرِيرِ أُصُولِ الدِّينِ مِنْ الْوَحْدَانِيَّ ةِ وَالرِّسَالَةِ. ثُمَّ أَخَذَ سُبْحَانَهُ فِي بَيَانِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الَّتِي عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَذَكَرَ إبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ إمَامٌ وَبِنَاءَ الْبَيْتِ الَّذِي بِتَعْظِيمِهِ يَتَمَيَّزُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَمَّا سِوَاهُمْ وَذَكَرَ اسْتِقْبَالَهُ وَقَرَّرَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ شِعَارُ الْمِلَّةِ بَيْنَ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: أَهْلُ الْقِبْلَةِ كَمَا يُقَالُ: {مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ}.
وَذَكَرَ مِنْ " الْمَنَاسِكِ " مَا يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ لَهُ مَكَانٌ وَزَمَانٌ و " الْعُمْرَةَ " لَهَا مَكَانٌ فَقَطْ وَالْعُكُوفُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ شُرِعَ فِيهِ؛ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ وَلَا بِمَكَانِ وَلَا بِزَمَانِ؛ لَكِنَّ الصَّلَاةَ تَتَقَيَّدُ بِاسْتِقْبَالِه ِ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ الْخَمْسَةَ:
مِنْ الْعُكُوفِ وَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَالطَّوَافُ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ فَقَطْ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ مِنْ الطَّوَافِ بِالْجَبَلَيْنِ وَأَنَّهُ لَا جُنَاحَ فِيهِ جَوَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ الطَّوَافِ بِهِمَا لِأَجْلِ إهْلَالِهِمْ لِمَنَاةَ وَجَوَابًا لِقَوْمِ تَوَقَّفُوا عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا. وَجَاءَ ذِكْرُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَة ِ بِالْبَيْتِ - بَلْ وَبِالْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ - بَعْدَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ اللَّذَيْنِ لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِمَا وَكَانَ ذَلِكَ مِفْتَاحَ الْجِهَادِ الْمُؤَسَّسِ عَلَى الصَّبْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ أَمْرِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ لَا يُخَالِفُونَ فِيهِ فَلَا يَقُومُ أَمْرُ الْبَيْتِ إلَّا بِالْجِهَادِ عَنْهُ وَذَكَرَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَشْرُوعِ وَالْمَقْدُورِ وَبَيَّنَّ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الْبُشْرَى لِلصَّابِرِينَ فَإِنَّهَا أُعْطِيَتْ مَا لَمْ تُعْطَ الْأُمَمُ قَبْلَهَا فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَشَعَائِرِهَا كَالْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَة ِ بِالْبَيْتِ؛ وَلِهَذَا يَقْرِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ لِدُخُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا الْجِهَادُ فَهُوَ أَعْظَمُ سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ فِي الْأَصَحِّ كَمَا قَالَ: {الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِذَمِّهِ لِكَاتِمِ الْعِلْمِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَ ذَلِكَ. فَفِي أَوَّلِهَا: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} وَفِي أَثْنَائِهَا. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} فـ " الْأَوَّلُ " نَهْيٌ عَامٌّ و " الثَّانِي " نَهْيٌ خَاصٌّ وَذَكَرَهَا بَعْدَ الْبَيْتِ لَيُنْتَهَى عَنْ قَصْدِ الْأَنْدَادِ الْمُضَاهِيَةِ لَهُ وَلِبَيْتِهِ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْمَقَابِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَوَحَّدَ نَفْسَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ {لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَوْحِيدِهِ مِنْ الْآيَاتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَأَطْلَقَ الْأَمْرَ فِي الْمَطَاعِمِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ بُعِثَ بِالْحَنِيفِيَّ ةِ وَشِعَارُهَا وَهُوَ الْبَيْتُ وَذَكَرَ سَمَاحَتَهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُبَاحَةِ وَفِي الدِّمَاءِ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الْقِصَاصِ وَمِنْ أَخْذِ الدِّيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَة َ بِالزَّمَانِ فَذَكَرَ الْوَصِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَة َ بِالْمَوْتِ ثُمَّ الصِّيَامَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَمَضَانَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الِاعْتِكَافِ ذَكَرَهُ فِي عِبَادَاتِ الْمَكَانِ وَعِبَادَاتِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَبِالزَّمَانِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وُجُوبًا بِوَقْتِ الصِّيَامِ وَوَسَّطَهُ أَوَّلًا بَيْنَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالصَّلَاةُ تُشْرَعُ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ وَالْعُكُوفُ بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ " نَوْعَانِ ": نَوْعٌ لِعَيْنِهِ كَالْمَيِّتَةِ وَنَوْعٌ لِكَسْبِهِ كَالرِّبَا وَالْمَغْصُوبِ فَأَتْبَعَ الْمَعْنَى الثَّابِتَ بِالْمُحَرَّمِ الثَّابِتِ تَحْرِيمُهُ لِعَيْنِهِ وَذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ عِبَادَاتِ الزَّمَانِ الْمُنْتَقِلِ الْحَرَامَ الْمُنْتَقِلَ؛ وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} الْآيَةَ وَهِيَ أَعْلَامُ الْعِبَادَاتِ الزَّمَنِيَّةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَهَا مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَلِلْحَجِّ لِأَنَّ الْبَيْتَ تَحُجُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ فَكَانَ هَذَا أَيْضًا فِي أَنَّ الْحَجَّ مُوَقَّتٌ بِالزَّمَانِ كَأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِالْبَيْتِ الْمَكَانِيِّ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ مَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ مَعَ أَنَّ الْمَكَانَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
وَذَكَرَ " الْمُحْصَرَ " وَذَكَرَ تَقْدِيمَ الْإِحْلَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَالِ وَهُوَ الْهَدْيُ عَنْ الْإِحْلَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِالنَّفْسِ وَهُوَ الْحَلْقُ وَأَنَّ الْمُتَحَلِّلَ يَخْرُجُ مِنْ إحْرَامِهِ فَيَحِلُّ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ؛ وَلِهَذَا كَانَ آخِرُ مَا يَحِلُّ عَيْنَ الْوَطْءِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْمَحْظُورَاتِ وَلَا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِمَحْظُورِ سِوَاهُ. وَذَكَرَ " التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ " لِتَعَلُّقِهِ بِالزَّمَانِ مَعَ الْمَكَانِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا حَتَّى يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَتَّى لَا يَكُونَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - وَهُوَ الْأُفُقِيُّ - فَإِنَّهُ الَّذِي يَظْهَرُ التَّمَتُّعُ فِي حَقِّهِ لِتَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ عَنْهُ أَمَّا الَّذِي هُوَ حَاضِرٌ فسيان عِنْدَهُ تَمَتَّعَ أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ ذَكَرَ وَقْتَ الْحَجِّ وَأَنَّهُ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَذَكَرَ الْإِحْرَامَ وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ؛ فَإِنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ وَمَكَانٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ:
{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} وَلَمْ يَقُلْ: وَالْعُمْرَةَ لِأَنَّهَا تُفْرَضُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَا رَيْبَ أَنَّ السُّنَّةَ فَرْضُ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ وَمَنْ فَرَضَ قَبْلَهُ خَالَفَ السُّنَّةَ فَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَهُ مَا الْتَزَمَهُ كَالنَّذْرِ - إذْ لَيْسَ فِيهِ نَقْضٌ لِلْمَشْرُوعِ وَلَيْسَ كَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ - وَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ الْإِحْرَامَ وَيَسْقُطُ الْحَجُّ وَيَكُونُ مُعْتَمِرًا وَهَذَانِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ.
ثُمَّ أَمَرَ عِنْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ بِذِكْرِهِ وَقَضَاؤُهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَضَاءُ التَّفَثِ وَالْإِحْلَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْعِبَادَاتِ الزَّمَانِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ . وَهُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَمَعَ الصَّلَوَاتِ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَكَانِيٌّ قَوْلُهُ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} الْآيَةَ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّعْجِيلُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا تُضَافُ هَذِهِ الْأَيَّامُ إلَى مَكَانِهَا فَيُقَالُ: أَيَّامُ مِنًى وَإِلَى عَمَلِهَا فَيُقَالُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كَمَا يُقَالُ: لَيْلَةَ جَمْعٍ وَلَيْلَةَ مُزْدَلِفَةَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَيَوْمَ الْعِيدِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتُضَافُ إلَى الْأَعْمَالِ وَأَمَاكِنِ الْأَعْمَالِ؛ إذْ الزَّمَانُ تَابِعٌ لِلْحَرَكَةِ وَالْحَرَكَةُ تَابِعَةٌ لِلْمَكَانِ. فَتَدَبَّرْ تَنَاسُبَ الْقُرْآنِ وَارْتِبَاطَ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَكَيْفَ ذَكَرَ أَحْكَامَ الْحَجِّ فِيهَا فِي مَوْضِعَيْنِ:
مَعَ ذَكَرِ بَيْتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَانِهِ وَمَوْضِعٍ ذَكَرَ فِيهِ الْأَهِلَّةَ فَذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانِهِ وَذَكَرَ أَيْضًا الْقِتَالَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمُقَاصَّةَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ سُبْحَانَهُ ذِكْرَ كَوْنِ الْأَهِلَّةِ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.
وَذَكَرَ أَنَّ " الْبِرَّ " لَيْسَ أَنْ يُشْقِيَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَيَفْعَلَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ يَبْرُزُ لِلسَّمَاءِ فَلَا يَسْتَظِلُّ بِسَقْفِ بَيْتِهِ حَتَّى إذَا أَرَادَ دُخُولَ بَيْتِهِ لَا يَأْتِيهِ إلَّا مِنْ ظَهْرِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْهِلَالَ الَّذِي جُعِلَ مِيقَاتًا لِلْحَجِّ شَرْعٌ مِثْلُ هَذَا وَإِنَّمَا تَضَمَّنَ شَرْعَ التَّقْوَى ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ وَالْوَالِدَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ وَالصَّدَقَاتِ وَالرِّبَا وَالدُّيُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ خَتَمَهَا بِالدُّعَاءِ الْعَظِيمِ الْمُتَضَمِّنِ وَضْعَ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَالْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ وَطَلَبَ النَّصْرِ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ مَا شَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (43)
من صــ 36 الى صــ 42
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
(فَصْلٌ: في المراد من الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -
فَصْلٌ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلن الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}
قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: " الْغَيْبُ " هُوَ اللَّهُ أَوْ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ. فَفِي مَوْضِعٍ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا وَفِي مَوْضِعٍ جَعَلَهُ نَفْسَهُ غَيْبًا.
وَلِهَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِي نَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ - كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزَّاغُونِي - يَقُولُونَ: بِقِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَيُرِيدُونَ بِالْغَائِبِ اللَّهَ وَيَقُولُونَ: قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ ثَابِتٌ بِالْحَدِّ وَالْعِلَّةِ وَالدَّلِيلِ وَالشَّرْطِ، كَمَا يَقُولُونَ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ فِي إثْبَاتِ الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ رَأْسِ الْعَيْنِ وَقَالَ: لَا يُسَمَّى اللَّهُ غَائِبًا وَاسْتَدَلَّ بِمَا ذُكِرَ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْن ِ أَنَّ اسْمَ " الْغَيْبِ وَالْغَائِبِ " مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ يُرَادُ بِهِ مَا غَابَ عَنَّا فَلَمْ نُدْرِكْهُ وَيُرَادُ بِهِ مَا غَابَ عَنَّا فَلَمْ يُدْرِكْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إذَا غَابَ عَنْ الْآخَرِ مَغِيبًا مُطْلَقًا لَمْ يُدْرِكْ هَذَا هَذَا وَلَا هَذَا هَذَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِيدٌ عَلَى الْعِبَادِ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ فَلَيْسَ هُوَ غَائِبًا وَإِنَّمَا لَمَّا لَمْ يَرَهُ الْعِبَادُ كَانَ غَيْبًا؛ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي الْغَيْبِ الَّذِي يُؤْمَنُ بِهِ وَلَيْسَ هُوَ بِغَائِبِ؛ فَإِنَّ " الْغَائِبَ "
اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِك غَابَ يَغِيبُ فَهُوَ غَائِبٌ وَاللَّهُ شَاهِدٌ غَيْرُ غَائِبٍ وَأَمَّا " الْغَيْبُ " فَهُوَ مَصْدَرُ غَابَ يَغِيبُ غَيْبًا وَكَثِيرًا مَا يُوضَعُ الْمَصْدَرُ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ كَالْعَدْلِ وَالصَّوْمِ وَالزُّورِ وَمَوْضِعَ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَدِرْهَمٍ ضَرْبِ الْأَمِيرِ. وَلِهَذَا يَقْرِنُ الْغَيْبَ بِالشَّهَادَةِ وَهِيَ أَيْضًا مَصْدَرٌ فَالشَّهَادَةُ هِيَ الْمَشْهُودُ أَوْ الشَّاهِدُ وَالْغَيْبُ هُوَ إمَّا الْمَغِيبُ عَنْهُ فَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ نَقِيضَ الشَّهَادَةِ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْغَائِبِ الَّذِي غَابَ عَنَّا فَلَمْ نَشْهَدْهُ فَتَسْمِيَتُهُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى النِّسْبَةِ إلَى الْغَيْرِ أَيْ لَيْسَ هُوَ بِنَفْسِهِ غَائِبًا وَإِنَّمَا غَابَ عَنْ الْغَيْرِ أَوْ غَابَ الْغَيْرُ عَنْهُ.
وَقَدْ يُقَالُ اسْمُ " الشَّهَادَةِ وَالْغَيْبِ " يَجْمَعُ النِّسْبَتَيْنِ فَالشَّهَادَةُ مَا شَهِدْنَا وَشَهِدْنَاهُ وَالْغَيْبُ مَا غَابَ عَنَّا وَغِبْنَا عَنْهُ فَلَمْ نَشْهَدْهُ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمَعْنَى فِي كَوْنِهِ غَيْبًا هُوَ انْتِفَاءُ شُهُودِنَا لَهُ وَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ صَحِيحَةٌ فَلَوْ قَالُوا: قِيَاسُ الْغَيْبِ عَلَى الشَّهَادَةِ لَكَانَتْ الْعِبَارَةُ مُوَافَقَةً وَأَمَّا قِيَاسُ الْغَائِبِ فَفِيهِ مُخَالَفَةٌ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلَكِنْ مُوَافَقَةٌ فِي الْمَعْنَى؛ فَلِهَذَا حَصَلَ فِي إطْلَاقِهِ التَّنَازُعُ.
(فَصْلٌ: أَصْلُ الْإِيمَانِ " تَوْحِيدُ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:
و" أَصْلُ الْإِيمَانِ " تَوْحِيدُ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ} {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: خِلَّتَانِ تُسْأَلُ الْعِبَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْهُمَا: عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَعَمَّا أَجَابُوا الرُّسُلَ. وَلِهَذَا يُقَرِّرُ اللَّهُ هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ بَلْ يُقَدِّمُهُمَا عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الْأُصُولِ: مِثْلَمَا ذَكَرَ فِي " سُورَةِ الْبَقَرَةِ " فَإِنَّهُ افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ أَصْنَافِ الْخَلْقِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ: مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَمُنَافِقٌ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ كَانَ لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ. فَإِنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ بِهَا نِفَاقٌ؛ بَلْ إمَّا مُؤْمِنٌ؛ وَإِمَّا كَافِرٌ.
و " الْبَقَرَةُ " مَدَنِيَّةٌ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي ذِكْرِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ . وَافْتَتَحَهَا بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاء ِ وَوَسَّطَهَا بِذَلِكَ وَخَتَمَهَا بِذَلِكَ. قَالَ فِي أَوَّلِهَا: {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وَالصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أَنَّهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ وَالْعَطْفُ لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وَقَوْلِهِ: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} وَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} - إلَى قَوْلِهِ - {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وَمَنْ قَالَ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أَرَادَ بِهِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ:
فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ فَلَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ لَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ.
وَقَالَ فِي وَسَطِ السُّورَةِ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ وَقَدْ قَالَ فِي أَثْنَائِهَا: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}.
ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ تَقْسِيمِ الْخَلْقِ قَرَّرَ أُصُولَ الدِّينِ. فَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ أَوَّلًا ثُمَّ النُّبُوَّةَ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثُمَّ قَرَّرَ النُّبُوَّةَ بِقَوْلِهِ:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}.
ثُمَّ ذَكَرَ الْجَنَّةَ. فَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ وَالنُّبُوَّةَ وَالْمَعَادَ. وَهَذِهِ أُصُولُ الْإِيمَانِ.
وَفِي آلِ عِمْرَانَ قَالَ: {اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}. فَذَكَرَ التَّوْحِيدَ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ثَانِيًا وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ كَمَا قَالَ: {وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}.
وَلَفْظُ " الْفُرْقَانَ " يَتَنَاوَلُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِثْلَ الْآيَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ: كَالْحَيَّةِ وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَانْفِلَاقِ الْبَحْرِ. وَالْقُرْآنُ فُرْقَانٌ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِلْمٌ عَظِيمٌ. وَهُوَ أَيْضًا فُرْقَانٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فَرَّقَ بِبَيَانِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} وَلِهَذَا فَسَّرَ جَمَاعَةٌ الْفُرْقَانَ هُنَا بِهِ.
وَلَفْظُ " الْفُرْقَانِ " أَيْضًا يَتَنَاوَلُ نَصْرَ اللَّهِ لِأَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهْلَاكَ أَعْدَائِهِمْ؛ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَعْلَامِ قَالَ تَعَالَى: {إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}.
وَالْآيَاتُ الَّتِي يَجْعَلُهَا اللَّهُ دِلَالَةً عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ مِمَّا يُنَزِّلُهُ كَمَا قَالَ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} وَقَالَ: {إنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: التَّنْبِيهُ. وَكَذَلِكَ فِي " سُورَةِ يُونُسَ " قَالَ تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ثُمَّ قَالَ: {إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} وَفِي سُورَةِ " الم السَّجْدَةُ " قَالَ تَعَالَى: {الم} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} وَقَالَ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى}.
وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَقَوْلُهُ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} ثُمَّ قَالَ:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} وَقَوْلُهُ:
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِسُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ تَارَةً وَتَارَةً قَوْله تَعَالَى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ} الْآيَاتُ. وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (44)
من صــ 43 الى صــ 49
وهذا باب واسع؛ لأن الناس مضطرون إلى هذين الأصلين فلا ينجون من العذاب ولا يسعدون إلا بهما. فعليهم أن يؤمنوا بالأنبياء وما جاءوا به وأصل ما جاءوا به أن لا يعبدوا إلا الله وحده كما قال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.
والأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ كلامه وأمره ونهيه ووعده ووعيده وأنبائه التي أنبأ بها عن أسمائه وصفاته وملائكته وعرشه وما كان وما يكون وليسوا وسائط في خلقه لعباده ولا في رزقهم وإحيائهم وإماتتهم ولا جزائهم بالأعمال وثوابهم وعقابهم ولا في إجابة دعواتهم وإعطاء سؤالهم؛ بل هو وحده خالق كل شيء وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه وهو الذي يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} وقال تعالى:
{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} {وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون} كما قال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}.
فبين أن كل ما يدعى من دون الله من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون مثقال ذرة ولا لأحد منهم شرك معه ولا له ظهير منهم فلم يبق إلا الشفاعة {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} فالأمر في الشفاعة إليه وحده كما قال تعالى: {قل لله الشفاعة جميعا} وقال: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة}.
وقوله {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} استثناء منقطع في أصح القولين.
فانقسم الناس فيهم " ثلاثة أقسام ": قوم أنكروا توسطهم بتبليغ الرسالة فكذبوا بالكتب والرسل: مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون وغيرهم ممن يخبر الله أنهم كذبوا المرسلين؛ فإنهم كذبوا جنس الرسل؛ يؤمنوا ببعضهم دون بعض.
ومن هؤلاء منكرو النبوات من البراهمة وفلاسفة الهند المشركين وغيرهم من المشركين وكل من كذب الرسل لا يكون إلا مشركا وكذلك من كذب ببعضهم دون بعض كما قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا}.
فكل من كذب محمدا أو المسيح أو داود أو سليمان أو غيرهم من الأنبياء الذين بعثوا بعد موسى: فهو كافر قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} وقال تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} وقال تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} والفلاسفة والملاحدة وغيرهم منهم من يجعل النبوات من جنس المنامات ويجعل مقصودها التخييل فقط. قال تعالى: {بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر} فهؤلاء مكذبون بالنبوات.
ومنهم من يجعلهم مخصوصين بعلم ينالونه بقوة قدسية بلا تعلم؛ ولا يثبت ملائكة تنزل بالوحي. ولا كلاما لله يتكلم به بل يقولون إنه لا يعلم الجزئيات فلا يعلم لا موسى ولا محمدا ولا غيرهما من الرسل ويقولون: خاصية النبي - هذه القوة العلمية القدسية - قوة يؤثر بها في العالم وعنها تكون الخوارق وقوة تخيلية وهو أن تمثل له الحقائق في صور خيالية في نفسه فيرى في نفسه أشكالا نورانية ويسمع في نفسه كلاما. فهذا هو النبي عندهم. وهذه الثلاث توجد لكثير من آحاد العامة الذين غيرهم من النبيين أفضل منهم.
وهؤلاء وإن كانوا أقرب من الذين قبلهم فهم من المكذبين للرسل. وكثير من أهل البدع يقر بما جاءوا به إلا في أشياء تخالف رأيه فيقدم رأيه على ما جاءوا به ويعرض عما جاءوا به فيقول: إنه لا يدري ما أرادوا به أو يحرف الكلم عن مواضعه. وهؤلاء موجودون في أهل الكتاب وفي أهل القبلة ولهذا ذكر الله في أول البقرة المؤمنين والكافرين؛ ثم ذكر المنافقين وبسط القول فيهم.
وقسم ثان غلوا في الأنبياء والصالحين وفي الملائكة أيضا: فجعلوهم وسائط في العبادة فعبدوهم ليقربوهم إلى الله زلفى وصوروا تماثيلهم وعكفوا على قبورهم.
وهذا كثير في النصارى ومن ضاهاهم من ضلال أهل القبلة؛ ولهذا ذكر الله هذا الصنف في القرآن في " آل عمران " وفي " براءة " في ضمن الكلام على النصارى وقال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} وقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} وقال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.
وهذا الذي أمره الله أن يقوله لهم هو الذي كتب إلى هرقل ملك الروم.
وهؤلاء قد يظنون أنهم إذا استشفعوا بهم شفعوا لهم وأن من قصد معظما من الملائكة والأنبياء فاستشفع به شفع له عند الله كما يشفع خواص الملوك عندهم. وقد أبطل الله هذه الشفاعة في غير موضع من القرآن وبين الفرق بينه وبين خلقه؛ فإن المخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه ويقبل الشفاعة لرغبة أو رهبة أو محبة أو نحو ذلك فيكون الشفيع شريكا للمشفوع إليه. وهذه الشفاعة منتفية في حق الله قال تعالى:
{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}. وهؤلاء يحجون إلى قبورهم ويدعونهم؛ وقد يسجدون لهم وينذرون لهم وغير ذلك من أنواع العبادات.
وهؤلاء أيضا مشركون. وأكثر المشركين يجمعون بين التكذيب ببعض ما جاءوا به وبين الشرك فيكون فيهم نوع من الشرك بالخالق وتكذيب رسله ومنهم من يجمع بين الشرك والتعطيل. فيعطل الخالق أو بعض ما يستحقه من أسمائه وصفاته.
فأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة ليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء بل يثبتون أنهم وسائط في التبليغ عن الله ويؤمنون بهم ويحبونهم ولا يحجون إلى قبورهم ولا يتخذون قبورهم مساجد. وذلك تحقيق " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ". فإظهار ذكرهم وما جاءوا به هو من الإيمان بهم وإخفاء قبورهم لئلا يفتتن بها الناس هو من تمام التوحيد وعبادة الله وحده. والصحابة وأمة محمد قاموا بهذا.
ولهذا تجد عند علماء المسلمين من أخبار أهل العلم والدين: من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. من مشايخ العلم والدين والعدل من ولاة الأمور: ما يوجب معرفة ذلك الشخص والثناء عليه والدعاء له وأن يكون له لسان صدق وما ينتفع به: إما كلام له ينتفع به وإما عمل صالح يقتدى به فيه. فإن العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - يقصد الانتفاع بما قالوه وأخبروا به وأمروا به والاقتداء بهم فيما فعلوه - صلوات الله عليهم أجمعين.
(فصل: أفضل العبادات البدنية الصلاة)
قال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -
وأفضل العبادات البدنية الصلاة وفيها القراءة والذكر والدعاء وكل واحد في موطنه مأمور به ففي القيام بعد الاستفتاح يقرأ القرآن وفي الركوع والسجود ينهى عن قراءة القرآن ويؤمر بالتسبيح والذكر وفي آخرها يؤمر بالدعاء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في آخر الصلاة ويأمر بذلك والدعاء في السجود حسن مأمور به ويجوز الدعاء في القيام أيضا وفي الركوع وإن كان جنس القراءة والذكر أفضل فالمقصود أن سؤال العبد لربه السؤال المشروع حسن مأمور به.
وقد سأل الخليل وغيره قال تعالى عنه: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء} {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء} {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء} {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} وقال تعالى:
{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (45)
من صــ 50 الى صــ 56
(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12)
فصل:
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
ومن هذا الباب لفظ " الصلاح " و " الفساد ": فإذا أطلق الصلاح تناول جميع الخير وكذلك الفساد يتناول جميع الشر كما تقدم في اسم الصالح وكذلك اسم المصلح والمفسد قال تعالى في قصة موسى: {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين} {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} وقال تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}. والضمير عائد على المنافقين في قوله:
{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} وهذا مطلق يتناول من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن سيكون بعدهم؛ ولهذا قال سلمان الفارسي: إنه عنى بهذه الآية قوما لم يكونوا خلقوا حين نزولها وكذا قال السدي عن أشياخه: الفساد الكفر والمعاصي. وعن مجاهد: ترك امتثال الأوامر واجتناب النواهي. والقولان معناهما واحد. وعن ابن عباس: الكفر. وهذا معنى قول من قال: النفاق الذي صافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرار المؤمنين. وعن أبي العالية ومقاتل: العمل بالمعاصي. وهذا أيضا عام كالأولين.
وقولهم: {إنما نحن مصلحون} فسر بإنكار ما أقروا به أي: إنا إنما نفعل ما أمرنا به الرسول.
وفسر: بأن الذي نفعله صلاح ونقصد به الصلاح وكلا القولين يروى عن ابن عباس وكلاهما حق فإنهم يقولون هذا وهذا، يقولون الأول لمن لم يطلع على بواطنهم ويقولون الثاني لأنفسهم ولمن اطلع على بواطنهم. لكن الثاني يتناول الأول؛ فإن من جملة أفعالهم إسرار خلاف ما يظهرون وهم يرون هذا صلاحا قال مجاهد: أرادوا أن مصافاة الكفار صلاح لا فساد. وعن السدي: إن فعلنا هذا هو الصلاح وتصديق محمد فساد، وقيل: أرادوا أن هذا صلاح في الدنيا فإن الدولة إن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أمنوا بمتابعته وإن كانت للكفار؛ فقد أمنوهم بمصافاتهم. ولأجل القولين قيل في قوله: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} أي لا يشعرون أن ما فعلوه فساد لا صلاح. وقيل: لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم.
والقول الأول يتناول الثاني؛ فهو المراد كما يدل عليه لفظ الآية. وقال تعالى {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} وقال {قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين} وقول يوسف {توفني مسلما وألحقني بالصالحين}. وقد يقرن أحدهما بما هو أخص منه كقوله: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} قيل: بالكفر وقيل: بالظلم؛ وكلاهما صحيح وقال تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا} وقد تقدم قوله تعالى {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}.
وقال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} وقتل النفس الأول من جملة الفساد لكن الحق في القتل لولي المقتول وفي الردة والمحاربة والزنا؛ الحق فيها لعموم الناس؛ ولهذا يقال: هو حق لله ولهذا لا يعفى عن هذا كما يعفى عن الأول لأن فساده عام قال تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} الآية.
قيل: سبب نزول هذه الآية العرنيون الذين ارتدوا وقتلوا وأخذوا المال.
وقيل: سببه ناس معاهدون نقضوا العهد وحاربوا. وقيل: المشركون؛ فقد قرن بالمرتدين المحاربين وناقضي العهد المحاربين وبالمشركين المحاربين.
وجمهور السلف والخلف على أنها تتناول قطاع الطريق من المسلمين والآية تتناول ذلك كله؛ ولهذا كان من تاب قبل القدرة عليه من جميع هؤلاء فإنه يسقط عنه حق الله تعالى.
وكذلك قرن " الصلاح والإصلاح بالإيمان " في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات}. {فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. ومعلوم أن الإيمان أفضل الإصلاح وأفضل العمل الصالح كما جاء في الحديث الصحيح أنه {قيل: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله}. وقال تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى}.
وقال: {إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة}. وقال: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات}. وقال في القذف: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}. وقال في السارق: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه}.
وقال: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما}. ولهذا شرط الفقهاء في أحد قوليهم في قبول شهادة القاذف أن يصلح وقدروا ذلك بسنة كما فعل عمر بصبيغ بن عسل لما أجله سنة، وبذلك أخذ أحمد في توبة الداعي إلى البدعة أنه يؤجل سنة كما أجل عمر صبيغ بن عسل.
(مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال غير واحد من السلف في صفة المنافقين الذين ضرب لهم المثل في سورة البقرة أنهم أبصروا ثم عموا وعرفوا ثم أنكروا وآمنوا ثم كفروا. وكذلك قال قتادة ومجاهد: ضرب المثل لإقبالهم على المؤمنين؛ وسماعهم ما جاء به الرسول وذهاب نورهم قال: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون} {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} إلى ما كانوا عليه.
وأما قول من قال: المراد بالنور ما حصل في الدنيا من حقن دمائهم وأموالهم فإذا ماتوا سلبوا ذلك الضوء كما سلب صاحب النار ضوءه؛ فلفظ الآية يدل على خلاف ذلك فإنه قال: {وتركهم في ظلمات لا يبصرون} {صم بكم عمي فهم لا يرجعون}.
ويوم القيامة يكونون في العذاب كما قال تعالى: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} {ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم} الآية وقد قال غير واحد من السلف: إن المنافق يعطى يوم القيامة نورا ثم يطفأ.
ولهذا قال تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا}. قال المفسرون: إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ سألوا الله أن يتم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة.
قال ابن عباس: ليس أحد من المسلمين إلا يعطى نورا يوم القيامة؛ فأما المنافق فيطفأ نوره وأما المؤمن فيشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق فهو يقول: {ربنا أتمم لنا نورنا} وهو كما قال: فقد ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة وأبي سعيد - وهو ثابت من وجوه أخر - عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه مسلم من حديث جابر وهو معروف من حديث ابن مسعود وهو أطولها - ومن حديث أبي موسى في الحديث الطويل الذي يذكر فيه أنه {ينادى يوم القيامة: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد؛ فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك وهذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم: فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه}.
وفي رواية: {فيكشف عن ساقه} وفي رواية فيقول: {هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون: نعم. فيكشف عن ساقه فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه. فتبقى ظهورهم مثل صياصي البقر فيرفعون رءوسهم فإذا نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ويطفأ نور المنافقين فيقولون ذرونا نقتبس من نوركم}.
فبين أن المنافقين يحشرون مع المؤمنين في الظاهر كما كانوا معهم في الدنيا ثم وقت الحقيقة هؤلاء يسجدون لربهم وأولئك لا يتمكنون من السجود فإنهم لم يسجدوا في الدنيا له بل قصدوا الرياء للناس والجزاء في الآخرة هو من جنس العمل في الدنيا فلهذا أعطوا نورا ثم طفئ لأنهم في الدنيا دخلوا في الإيمان ثم خرجوا منه.
ولهذا ضرب الله لهم المثل بذلك. وهذا المثل هو لمن كان فيهم آمن ثم كفر وهؤلاء الذين يعطون في الآخرة نورا ثم يطفأ. ولهذا قال: {فهم لا يرجعون} إلى الإسلام في الباطن وقال قتادة ومقاتل: لا يرجعون عن ضلالهم وقال السدي: لا يرجعون إلى الإسلام يعني في الباطن وإلا فهم يظهرونه وهذا المثل إنما يكون في الدنيا وهذا المثل مضروب لبعضهم وهم الذين آمنوا ثم كفروا.
وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:
فصل:
المثل في الأصل هو الشبيه وهو نوعان لأن القضية المعينة إما أن تكون شبها معينا أو عاما كليا فإن القضايا الكلية التي تعلم وتقال هي مطابقة مماثلة لكل ما يندرج فيها وهذا يسمى قياسا في لغة السلف واصطلاح المنطقيين وتمثيل الشيء المعين بشيء معين هو أيضا يسمى قياسا في لغة السلف واصطلاح الفقهاء وهو الذي يسمى قياس التمثيل.
ثم من متأخري العلماء من ادعى أن حقيقة القياس إنما يقال على هذا وما يسميه تأليف القضايا الكلية قياسا فمجاز من جهة أنه لم يشبه فيه شيء بشيء وإنما يلزم من عموم الحكم تساوي أفراده فيه ومنهم من عكس كأبي محمد بن حزم فإنه زعم أن لفظ القياس إنما ينبغي أن يكون في تلك الأمور العامة وهو القياس الصحيح.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (46)
من صــ 57 الى صــ 63
والصواب ما عليه السلف من اللغة الموافقة لما في القرآن كما سأذكره أن كليهما قياس وتمثيل واعتبار وهو في قياس التمثيل ظاهر وأما قياس التكليل والشمول فلأنه يقاس كل واحد من الأفراد بذلك المقياس العام الثابت في العلم والقول وهو الأصل كما يقاس الواحد بالأصل الذي يشبهه فالأصل فيهما هو المثل والقياس هو ضرب المثل وأصله - والله أعلم -
تقديره فضرب المثل للشيء تقديره له كما أن القياس أصله تقدير الشيء بالشيء ومنه ضرب الدرهم وهو تقديره وضرب الجزية والخراج وهو تقديرهما والضريبة المقدرة والضرب في الأرض لأنه يقدر أثر الماشي بقدره وكذلك الضرب بالعصا لأنه تقدير الألم بالآلة وهو جمعه وتأليفه وتقديره كما أن الضريبة هي المال المجموع والضريبة الخلق وضرب الدرهم جمع فضة مؤلفة مقدرة وضرب الجزية والخراج إذا فرضه وقدره على مر السنين والضرب في الأرض الحركات المقدرة المجموعة إلى غاية محدودة ومنه تضريب الثوب المحشو وهو تأليف خلله طرائق طرائق. ولهذا يسمون الصورة القياسية الضرب كما يقال للنوع الواحد ضرب لتألفه واتفاقه وضرب المثل لما كان جمعا بين علمين يطلب منهما علم ثالث كان بمنزلة ضراب الفحل الذي يتولد عنه الولد ولهذا يقسمون الضرب إلى ناتج وعقيم كما ينقسم ضرب الفحل للأنثى إلى ناتج وعقيم وكل واحد من نوعي ضرب المثل - وهو القياس - تارة يراد به التصوير وتفهيم المعنى وتارة يراد به الدلالة على ثبوته والتصديق به فقياس تصور وقياس تصديق فتدبر هذا. وكثيرا ما يقصد كلاهما فإن ضرب المثل يوضح صورة المقصود وحكمه.
وضرب الأمثال في المعاني نوعان هما نوعا القياس: " أحدهما " الأمثال المعينة التي يقاس فيها الفرع بأصل معين موجود أو مقدر وهي في القرآن بضع وأربعون مثلا كقوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} إلى آخره وقوله: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} وقوله:
{يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب} الآية {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين}. فإن التمثيل بين الموصوفين اللذين يذكرهم من المنافقين والمنفقين المخلصين منهم والمرائين وبين ما يذكره سبحانه من تلك الأمثال هو من جنس قياس التمثيل الذي يقال فيه: مثل الذي يقتل بكودين القصار كمثل الذي يقتل بالسيف ومثل الهرة تقع في الزيت كمثل الفأرة تقع في السمن ونحو ذلك؛ ومبناه على الجمع بينهما؛ والفرق في الصفات المعتبرة في الحكم المقصود إثباته أو نفيه وقوله: مثله كمثل كذا. تشبيه للمثل العلمي بالمثل العلمي لأنه هو الذي بتوسطه يحصل القياس فإن المعتبر ينظر في أحدهما فيتمثل في علمه وينظر في الآخر فيتمثل في علمه ثم يعتبر أحد المثلين بالآخر فيجدهما سواء فيعلم أنهما سواء في أنفسهما لاستوائهما في العلم ولا يمكن اعتبار أحدهما بالآخر في نفسه حتى يتمثل كل منهما في العلم فإن الحكم على الشيء فرع على تصوره؛ ولهذا والله أعلم يقال مثل هذا كمثل. . . (1)
وبعض المواضع يذكر سبحانه الأصل المعتبر به ليستفاد حكم الفرع منه من غير تصريح بذكر الفرع كقوله: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر} إلى قوله: {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} فإن هذا يحتاج إلى تفكر؛ ولهذا سأل عمر عنها من حضره من الصحابة فأجابه ابن عباس بالجواب الذي أرضاه.
ونظير ذلك ذكر القصص؛ فإنها كلها أمثال هي أصول قياس واعتبار ولا يمكن هناك تعديد ما يعتبر بها لأن كل إنسان له في حالة منها نصيب فيقال فيها: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} ويقال عقب حكايتها: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} ويقال: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا} إلى قوله: {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} والاعتبار هو القياس بعينه كما قال ابن عباس لما سئل عن دية الأصابع فقال هي سواء واعتبروا ذلك بالأسنان أي قيسوها بها فإن الأسنان مستوية الدية مع اختلاف المنافع فكذلك الأصابع ويقال:
اعتبرت الدراهم بالصنجة إذا قدرتها بها. " النوع الثاني " الأمثال الكلية وهذه التي أشكل تسميتها أمثالا كما أشكل تسميتها قياسا حتى اعترض بعضهم قوله: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له} فقال:
أين المثل المضروب؟ وكذلك إذا سمعوا قوله: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} يبقون حيارى لا يدرون ما هذه الأمثال وقد رأوا عدد ما فيه من تلك الأمثال المعينة بضعا وأربعين مثلا. وهذه " الأمثال " تارة تكون صفات وتارة تكون أقيسة فإذا كانت أقيسة فلا بد فيها من خبرين هما قضيتان وحكمان وأنه لا بد أن يكون أحدهما كليا؛ لأن الأخبار التي هي القضايا لما انقسمت إلى معينة ومطلقة وكلية وجزئية وكل من ذلك انقسم إلى خبر عن إثبات وخبر عن نفي فضرب المثل الذي هو القياس لا بد أن يشتمل على خبر عام وقضية كلية وذلك هو المثل الثابت في العقل الذي تقاس به الأعيان المقصود حكمها فلولا عمومه لما أمكن الاعتبار لجواز أن يكون المقصود حكمه خارجا عن العموم؛ ولهذا يقال:
لا قياس عن قضيتين جزئيتين بل لا بد أن تكون إحداهما كلية ولا قياس أيضا عن سالبتين؛ بل لا بد أن تكون إحداهما موجبة وإلا فالسلبان لا يدخل أحدهما في الآخر فلا بد فيه من خبر يعم.
وجملة ما يضرب من الأمثال ستة عشر؛ لأن الأولى إما جزئية وإما كلية مثبتة أو نافية فهذه أربعة إذا ضربتها في أربعة صارت ستة عشر تحذف منهما الجزئيتان سواء كانتا موجبتين أو سالبتين أو إحداهما سالبة والأخرى موجبة فهذه ست من ستة عشر والسالبتان سواء كانتا جزئيتين أو كليتين أو إحداهما دون الأخرى؛ لكن إذا كانتا جزئيتين سالبتين فقد دخلت في الأول يبقى ضربان محذوفين من ستة عشر.
ويحذف منهما السالبة الكلية الصغرى مع الكبرى الموجبة الجزئية؛ لأن الكبرى إذا كانت جزئية لم يجب أن يلاقيها السلب؛ بخلاف الإيجاب فإن الإيجابين الجزئيين يلتقيان وكذلك الإيجاب الجزئي مع السلب الكلي يلتقيان لاندراج ذلك الموجب تحت السلب العام.
يبقى من الستة عشر ستة أضرب فإذا كانت إحداهما موجبة كلية جاز في الأخرى الأقسام الأربعة وإذا كانت سالبة كلية جاز أن تقارنها الموجبتان لكن تقدم مقارنة الكلية لها ولا بد في الجزئية أن تكون صغرى وإذا كانت موجبة جزئية جاز أن تقارنها الكليتان وقد تقدمتا وإذا كانت سالبة جزئية لم يجز أن يقارنها إلا موجبة كلية وقد تقدمت فيقر الناتج ستة والملغى عشرة وبالاعتبارين تصير ثمانية. فهذه الضروب العشرة مدار ثمانية منها على الإيجاب العام ولا بد في جميع ضروبه من أحد أمرين إما إيجاب وعموم وإما سلب وخصوص فنقيضان لا يفيد اجتماعهما فائدة؛ بل إذا اجتمع النقيضان من نوعين كسالبة كلية وموجبة جزئية فتفيد بشرط كون الكبرى هي العامة فظهر أنه لا بد في كل قياس من ثبوت وعموم إما مجتمعين في مقدمة وإما مفترقين في المقدمتين.
وأيضا مما يجب أن يعلم أن غالب الأمثال المضروبة والأقيسة إنما يكون الخفي فيها إحدى القضيتين وأما الأخرى فجلية معلومة فضارب المثل وناصب القياس إنما يحتاج أن يبين تلك القضية الخفية فيعلم بذلك المقصود لما قاربها في الفعل من القضية السلبية والجلية هي الكبرى التي هي أعم.
فإن الشيء كلما كان أعم كان أعرف في العقل لكثرة مرور مفرداته في العقل وخير الكلام ما قل ودل؛ فلهذا كانت الأمثال المضروبة في القرآن تحذف منها القضية الجلية لأن في ذكرها تطويلا وعيا وكذلك ذكر النتيجة المقصودة بعد ذكر المقدمتين يعد تطويلا. واعتبر ذلك بقوله:
{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} ما أحسن هذا البرهان فلو قيل بعده: وما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله لكان هذا من الكلام الغث الذي لا يناسب بلاغة التنزيل وإنما ذلك من تأليف المعاني في العقل مثل تأليف الأسماء من الحروف في الهجاء والخط إذا علمنا الصبي الخط نقول: " با " " سين " " ميم " صارت (بسم) فإذا عقل لم يصلح له بعد ذلك أن يقرأه تهجيا فيذهب ببهجة الكلام؛ بل قد صار التأليف مستقرا وكذلك النحوي إذا عرف أن " محمد رسول الله " مبتدأ وخبر لم يلف كلما رفع مثل ذلك أن يقول: لأنه مبتدأ وخبر. فتأليف الأسماء من الحروف لفظا ومعنى وتأليف الكلم من الأسماء وتأليف الأمثال من الكلم جنس واحد.
ولهذا كان المؤلفون للأقيسة يتكلمون أولا في مفردات الألفاظ والمعاني التي هي الأسماء ثم يتكلمون في تأليف الكلمات من الأسماء الذي هو الخبر والقصة والحكم ثم يتكلمون في تأليف الأمثال المضروبة الذي هو " القياس " و " البرهان " و " الدليل " و " الآية "
__________
Q (1) بياض بالأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (47)
من صــ 64 الى صــ 70
و " الْعَلَامَةُ ". فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ كَمَالِ الْقُرْآنِ تَرْكَهُ فِي أَمْثَالِهِ الْمَضْرُوبَةِ وَأَقْيِسَتِهِ الْمَنْصُوبَةِ لِذِكْرِ الْمُقَدِّمَةِ الْجَلِيَّةِ الْوَاضِحَةِ الْمَعْلُومَةِ ثُمَّ اتِّبَاعُ ذَلِكَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ النَّتِيجَةِ الَّتِي قَدْ عُلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ أَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودُ؛ بَلْ إنَّمَا يَكُونُ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِذِكْرِ مَا يُسْتَفَادُ ذِكْرُهُ وَيُنْتَفَعُ بِمَعْرِفَتِهِ فَذَلِكَ هُوَ الْبَيَانُ وَهُوَ الْبُرْهَانُ وَأَمَّا مَا لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ فَذِكْرُهُ عَيٌّ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَك خَطَأُ قَوْمٍ مِنْ البيانيين الْجُهَّالِ والمنطقيين الضُّلَّالِ حَيْثُ قَالَ بَعْضُ أُولَئِكَ:
الطَّرِيقَةُ الْكَلَامِيَّةُ الْبُرْهَانِيَّ ةُ فِي أَسَالِيبِ الْبَيَانِ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا قَلِيلًا وَقَالَ الثَّانِي:
إنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بُرْهَانٌ تَامٌّ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا الطَّرِيقَةُ الْبُرْهَانِيَّ ةُ الْمُسْتَقِيمَة ُ لِمَنْ عَقَلَ وَتَدَبَّرَ. و " أَيْضًا " فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ مَدَارَ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَنَصْبَ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ خَبَرٍ إلَّا وَهُوَ إمَّا عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ: سَالِبٌ أَوْ مُوجَبٌ فَالْمُعَيَّنُ خَاصٌّ مَحْصُورٌ وَالْجُزْئِيُّ أَيْضًا خَاصٌّ غَيْرُ مَحْصُورٍ وَالْمُطْلَقُ إمَّا عَامٌّ وَإِمَّا فِي مَعْنَى الْخَاصِّ. فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَعْرِفَ " صِيَغَ النَّفْيِ وَالْعُمُومِ " فَإِنَّ ذَلِكَ يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَبْلَغِ نِظَامٍ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ " صِيغَةَ الِاسْتِفْهَامِ " يَحْسَبُ مَنْ أَخَذَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْقِيَاسِ الْمَضْرُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا الْقَضَايَا الْخَبَرِيَّةُ وَهَذِهِ طَلَبِيَّةٌ فَإِذَا تَأَمَّلَ وَعَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ اسْتِفْهَامَاتِ الْقُرْآنِ أَوْ كَثِيرًا مِنْهَا إنَّمَا هِيَ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ مَعْنَاهُ الذَّمُّ وَالنَّهْيُ إنْ كَانَ إنْكَارًا شَرْعِيًّا أَوْ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالسَّلْبُ إنْ كَانَ إنْكَارَ وُجُودٍ وَوُقُوعٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} الْآيَةَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} وَقَوْلُهُ فِي تَعْدِيدِ الْآيَاتِ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أَيْ أَفَعَلَ هَذِهِ إلَهٌ مَعَ اللَّهِ وَالْمَعْنَى مَا فَعَلَهَا إلَّا اللَّهُ وَقَوْلُهُ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وَمَا مَعَهَا.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَقَدْ يُعَبَّرُ فِي اللُّغَةِ بِضَرْبِ الْمَثَلِ أَوْ بِالْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ التَّعْبِيرُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ اللُّغَةِ؛ لَكِنْ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الدَّلِيلُ عَلَى الْحُكْمِ كَأَمْثَالِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ قَالَ كَلِمَةً مَنْظُومَةً أَوْ مَنْثُورَةً لِسَبَبِ اقْتَضَاهُ فَشَاعَتْ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى يُصَارَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ كُلِّ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لَهَا فَكَأَنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةَ المثلية نُقِلَتْ بِالْعُرْفِ مِنْ الْمَعْنَى الْخَاصِّ إلَى الْعَامِّ كَمَا تُنْقَلُ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ فَهَذَا نَقْلٌ فِي الْجُمْلَةِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: " يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ " هُوَ مُوَازٍ لِقَوْلِهِمْ: " أَنْتَ جَنَيْت هَذَا " لِأَنَّ هَذَا الْمَثَلَ قِيلَ ابْتِدَاءً لِمَنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ بِالْإِيكَاءِ وَالنَّفْخِ ثُمَّ صَارَ مَثَلًا عَامًّا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ:
" الصَّيْفَ ضَيَّعْت اللَّبَنَ " مِثْلُ قَوْلِك " فَرَّطْت وَتَرَكْت الْحَزْمَ وَتَرَكْت مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَقْتَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَتَّى فَاتَ " وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ قِيلَتْ لِلْمَعْنَى الْخَاصِّ. وَكَذَلِكَ " عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا " أَيْ أَتَخَافُ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الظَّاهِرِ الْحَسَنِ بَاطِنٌ رَدِيءٌ؟ فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْبَيَانِ يَدْخُلُ فِي اللُّغَةِ وَالْخِطَابِ فَالْمُتَكَلِّم ُ بِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُبَيِّنِ بِالْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا إذْ قَدْ يَتَمَثَّلُ بِهِ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهَذَا تَطَلُّبُهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ جِنْسِ تَطَلُّبِ الْأَلْفَاظِ الْعُرْفِيَّةِ فَهُوَ نَظَرٌ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى لَا نَظَرٌ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ يَجْلُو عَنْك شُبْهَةً لَفْظِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً . وَهَذِهِ الْأَمْثَالُ اللُّغَوِيَّةُ أَنْوَاعٌ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا أَجْنَاسُهَا وَهِيَ مُعْلِنَةٌ بِبَلَاغَةِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَبَرَاعَةِ بَيَانِهِ اللَّفْظِيِّ وَاَلَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ وَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ يَتَكَلَّمُونَ فِي مِثْلِ هَذَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ أَوَّلُ مَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ صَارَتْ مَثَلًا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَصِيرُ الْكَلِمَةُ مَثَلًا حَتَّى يَتَمَثَّلَ بِهَا الضَّارِبُ فَيَكُونُ هَذَا أَوَّلَ مَنْ تَمَثَّلَ بِهَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ} وَكَقَوْلِهِ: {مُسَعِّرُ حَرْبٍ} وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ النَّفْيَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ هُوَ نَفْيٌ مُضَمَّنٌ دَلِيلَ النَّفْيِ؛ فَلَا يُمْكِنُ مُقَابَلَتُهُ بِمَنْعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْفِي بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ إلَّا مَا ظَهَرَ بَيَانُهُ أَوْ اُدُّعِيَ ظُهُورُ بَيَانِهِ فَيَكُونُ ضَارِبُهُ إمَّا كَامِلًا فِي اسْتِدْلَالِهِ وَقِيَاسِهِ وَإِمَّا جَاهِلًا كَاَلَّذِي قَالَ: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}.
إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا مَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِتَسْمِيَتِهِ مَثَلًا وَمِنْهَا مَا لَا يُسَمَّى بِذَلِكَ. . . (1) {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} وَاَلَّذِي يَلِيهِ {إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} الْآيَةَ {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}.
وَاَلَّذِي بَعْدَهُ لَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ مِثْلُ {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} فِي الثَّلَاثَةِ {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَوْلُهُ: {أَرَأَيْتُمْ إنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ}.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ} الْآيَةَ وَيُسَمَّى جِدَالًا {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} - إلَى قَوْلِهِ - {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} {إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الْآيَةَ {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ} {إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ} وَقَوْلُ يُوسُفَ {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} الْآيَةَ {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلَى قَوْلِهِ:
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} إلَى آخِرِهِ {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} وَاَلَّذِي بَعْدَهُ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} فِي مَوْضِعَيْنِ
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا كُفُورًا} بَعْدَ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالتَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} الْقِصَّةَ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّهَا بَرَاهِينُ وَحُجَجٌ تُفِيدُ تَصَوُّرًا أَوْ تَصْدِيقًا {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}
{وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} {مَثَلُ نُورِهِ} - إلَى قَوْلِهِ - {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} الْمَثَلَيْنِ مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسَاجِدِ وَأُولَئِكَ فِي الظُّلُمَاتِ {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} - ف " التَّفْسِيرُ " يَعُمُّ التَّصْوِيرَ وَيَعُمُّ التَّحْقِيقَ بِالدَّلِيلِ كَمَا فِي تَفْسِيرِ الْكَلَامِ الْمَشْرُوحِ - {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} الْآيَةَ {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} الْآيَةَ {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} وَقَوْلُهُ: {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} إلَى قَوْلِهِ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا} {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} إلَى آخِرِهِ لَمَّا أَوْرَدُوهُ نَقْضًا عَلَى قَوْلِهِ: {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فَهُمْ الَّذِينَ ضَرَبُوهُ جَدَلًا {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا} إلَى قَوْلِهِ:
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا} {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} الْآيَةَ {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا} ولِلَّذِينَ آمَنُوا {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} {كَأَنَّهُمْ إلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} {كَالْفَرَاشِ} و {كَالْعِهْنِ}.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ؛ جُعِلُوا صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا أَوْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالنُّطْقِ صَارُوا كَالصُّمِّ الْعُمْيِ الْبُكْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ نَفْسُ قُلُوبِهِمْ عَمِيَتْ وَصَمَّتْ وَبَكِمَتْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
" وَالْقَلْبُ " هُوَ الْمَلِكُ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ وَإِذَا صَلَحَ صَلَحَ سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَ فَسَدَ سَائِرُ الْجَسَدِ فَيَبْقَى يَسْمَعُ بِالْأُذُنِ الصَّوْتَ كَمَا تَسْمَعُ الْبَهَائِمُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَفْقَهُهُ وَإِنْ فَقِهَ بَعْضَ الْفِقْهِ لَمْ يَفْقَهْ فِقْهًا تَامًّا فَإِنَّ الْفِقْهَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرُهُ فِي الْقَلْبِ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ وَبُغْضَ الْمَكْرُوهِ؛ فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لَمْ يَكُنْ التَّصَوُّرُ التَّامُّ حَاصِلًا فَجَازَ نَفْيُهُ لِأَنَّ مَا لَمْ يَتِمَّ يُنْفَى كَقَوْلِهِ لِلَّذِي أَسَاءَ فِي صَلَاتِهِ: {صَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ}. فَنَفَى الْإِيمَانَ حَيْثُ نَفَى مِنْ هَذَا الْبَابِ.
__________
Q (1) بياض بالأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (48)
من صــ 71 الى صــ 77
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
(فَصْلٌ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:
وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا مُنَافِقِينَ فَضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ الْآخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا هَلْ الْمَثَلَانِ مَضْرُوبَانِ لَهُمْ كُلِّهِمْ أَوْ هَذَا الْمَثَلُ لِبَعْضِهِمْ؟ عَلَى " قَوْلَيْنِ ". وَ " الثَّانِي " هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ قَالَ:
{أَوْ كَصَيِّبٍ} وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ مَثَلُهُمْ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْمَثَلَيْنِ بَلْ بَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَبَعْضُهُمْ يُشْبِهُ هَذَا وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُشْبِهُونَ الْمَثَلَيْنِ لَمْ يَذْكُرْ (أَوْ بَلْ يَذْكُرْ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: (أَوْ هَاهُنَا لِلتَّخْيِيرِ - كَقَوْلِهِمْ: جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِين - لَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ يَكُونُ فِي الْأَمْرِ وَالطَّلَبَ لَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَوْ لِتَشْكِيكِ الْمُخَاطَبِينَ أَوْ الْإِبْهَامِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِشَيْءِ فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ بِالْأَمْثَالِ الْبَيَانَ وَالتَّفْهِيمَ لَا يُرِيدُ التَّشْكِيكَ وَالْإِبْهَامَ. وَالْمَقْصُودُ تَفْهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ حَالَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي " الْمَثَلِ الْأَوَّلِ ": {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وَقَالَ فِي " الثَّانِي ":
{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَبَيَّنَ فِي " الْمَثَلِ الثَّانِي " أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } وَفِي " الْأَوَّلِ " كَانُوا يُبْصِرُونَ ثُمَّ صَارُوا {فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}.
وَفِي " الثَّانِي " {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} الْبَرْقُ {مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} فَلَهُمْ " حَالَانِ ": حَالُ ضِيَاءٍ وَحَالُ ظَلَامٍ وَالْأَوَّلُونَ بَقُوا فِي الظُّلْمَةِ. فَالْأَوَّلُ حَالُ مَنْ كَانَ فِي ضَوْءٍ فَصَارَ فِي ظُلْمَةٍ وَالثَّانِي حَالُ مَنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَا فِي ضَوْءٍ وَلَا فِي ظُلْمَةٍ بَلْ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي تُوجِبُ مَقَامَهُ وَاسْتِرَابَتَه ُ. يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ضَرَبَ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا مَثَلَيْنِ بِحَرْفِ (أَوْ) فَقَالَ:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} " فَالْأَوَّلُ "
مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي يَحْسِبُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَهُوَ عَلَى بَاطِلٍ {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ؛ فَلِهَذَا مَثَّلَ بِسَرَابِ بِقِيعَةِ وَ " الثَّانِي " مِثْلُ الْكُفْرِ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُ صَاحِبُهُ شَيْئًا بَلْ هُوَ فِي {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} مِنْ عِظَمِ جَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اعْتِقَادٌ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ جَاهِلًا ضَالًّا فِي ظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ.
وَ " أَيْضًا " فَقَدْ يَكُونُ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ تَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَارَةً مُتَّصِفًا بِهَذَا الْوَصْفِ فَيَكُونُ التَّقْسِيمُ فِي الْمَثَلَيْنِ لِتَنَوُّعِ الْأَشْخَاصِ وَلِتَنَوُّعِ أَحْوَالِهِمْ وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ مَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ هُوَ مُمَاثِلٌ لِمَا ضُرِبَ لَهُ هَذَا الْمَثَلُ لِاخْتِلَافِ الْمَثَلَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِهَذَا لَمْ يُضْرَبْ لِلْإِيمَانِ إلَّا مَثَلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ فَضُرِبَ مَثَلُهُ بِالنُّورِ وَأُولَئِكَ ضُرِبَ لَهُمْ الْمَثَلُ بِضَوْءِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
كَالسَّرَابِ بِالْقِيعَةِ أَوْ بِالظُّلُمَاتِ الْمُتَرَاكِمَة ِ وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِمَنْ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ أَوْ هُوَ مُضْطَرِبٌ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ آمَنَ ثُمَّ كَفَرَ بَاطِنًا وَهَذَا مِمَّا اسْتَفَاضَ بِهِ النَّقْلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ قَدْ آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا " الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ " فَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ {أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّعْدِ قَالَ: مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ مَعَهُ مخاريق مِنْ نَارٍ يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ}. وَفِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ للخرائطي: عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّعْدِ فَقَالَ: " مَلَكٌ وَسُئِلَ عَنْ الْبَرْقِ فَقَالَ:
مخاريق بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - مخاريق مِنْ حَدِيدٍ بِيَدِهِ ". وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَقْوَالٌ لَا تُخَالِفُ ذَلِكَ. كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ اصْطِكَاكُ أَجْرَامِ السَّحَابِ بِسَبَبِ انْضِغَاطِ الْهَوَاءِ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّعْدَ مَصْدَرُ رَعَدَ يَرْعَدُ رَعْدًا. وَكَذَلِكَ الرَّاعِدُ يُسَمَّى رَعْدًا.
كَمَا يُسَمَّى الْعَادِلُ عَدْلًا. وَالْحَرَكَةُ تُوجِبُ الصَّوْتَ وَالْمَلَائِكَة ُ هِيَ الَّتِي تُحَرِّكُ السَّحَابَ وَتَنْقُلُهُ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ وَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ فَهِيَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَصَوْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عَنْ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِهِ الَّذِي هُوَ شَفَتَاهُ وَلِسَانُهُ وَأَسْنَانُهُ وَلَهَاتُهُ وَحَلْقُهُ. وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ مُسَبِّحًا لِلرَّبِّ. وَآمِرًا بِمَعْرُوفِ وَنَاهِيًا عَنْ مُنْكَرٍ. فَالرَّعْدُ إذًا صَوْتٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ وَكَذَلِكَ الْبَرْقُ قَدْ قِيلَ: لَمَعَانُ الْمَاءِ أَوْ لَمَعَانُ النَّارِ وَكَوْنُهُ لَمَعَانَ النَّارِ أَوْ الْمَاءِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ اللَّامِعُ مِخْرَاقًا بِيَدِ الْمَلَكِ فَإِنَّ النَّارَ الَّتِي تَلْمَعُ بِيَدِ الْمَلَكِ كَالْمِخْرَاقِ مِثْلَ مُزْجِي الْمَطَرِ. وَالْمَلَكُ يُزْجِي السَّحَابَ كَمَا يُزْجِي السَّائِقُ لِلْمَطِيِّ.
وَالزَّلَازِلُ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ كَمَا يُخَوِّفُهُمْ بِالْكُسُوفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْحَوَادِثُ لَهَا أَسْبَابٌ وَحِكَمٌ فَكَوْنُهَا آيَةً يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ هِيَ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَسْبَابُهُ: فَمِنْ أَسْبَابِهِ انْضِغَاطُ الْبُخَارِ فِي جَوْفِ الْأَرْضِ كَمَا يَنْضَغِطُ الرِّيحُ وَالْمَاءُ فِي الْمَكَانِ الضَّيِّقِ فَإِذَا انْضَغَطَ طَلَبَ مَخْرَجًا فَيَشُقُّ وَيُزَلْزِلُ مَا قَرُبَ مِنْهُ مِنْ الْأَرْضِ.
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ: إنَّ الثَّوْرَ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ فَيُحَرِّكُ الْأَرْضَ فَهَذَا جَهْلٌ وَإِنْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَبُطْلَانَهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا تُزَلْزَلُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
فَصْلٌ فِي " قُدْرَةِ الرَّبِّ " عَزَّ وَجَلَّ
قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَالنَّاسُ فِي هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: " طَائِفَةٌ " تَقُولُ هَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ. وَ " طَائِفَةٌ " تَقُولُ: هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ يَخُصُّ مِنْهُ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ.
وَالصَّوَابُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ النُّظَّارِ وَهُوَ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ لَيْسَ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ وَإِنْ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ فِي الْمَعْدُومِ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ. وَلَا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ؛ وَلَكِنْ يُقَدَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الذِّهْنِ ثُمَّ يُحْكَمُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْخَارِجِ؛ إذْ كَانَ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَعْيَانِ وَتَصَوُّرُهُ فِي الْأَذْهَانِ؛ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ: بِأَنْ يُقَالَ: قَدْ تَجْتَمِعُ
الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ فِي الشَّيْءِ فَهَلْ يُمْكِنُ فِي الْخَارِجِ أَنْ يَجْتَمِعَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ. كَمَا تَجْتَمِعُ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ. فَيُقَالُ: هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُقَدَّرُ اجْتِمَاعُ نَظِيرِ الْمُمْكِنِ ثُمَّ يُحْكَمُ بِامْتِنَاعِهِ وَأَمَّا نَفْسُ اجْتِمَاعِ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَلَا يُمْكِنُ وَلَا يُعْقَلُ فَلَيْسَ بِشَيْءِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَلَا فِي الْأَذْهَانِ. فَلَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
(فَصْلٌ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهَا أَنْ تَكُونَ حَلَالًا مُطْلَقًا لِلْآدَمِيِّينَ وَأَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُلَابَسَتُهَا وَمُبَاشَرَتُهَ ا وَمُمَاسَّتُهَا وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ وَمَقَالَةٌ عَامَّةٌ وَقَضِيَّةٌ فَاضِلَةٌ عَظِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ وَاسِعَةُ الْبَرَكَةِ يَفْزَعُ إلَيْهَا حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأَعْمَالِ وَحَوَادِثِ النَّاسِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا أَدِلَّةٌ عَشَرَةٌ - مِمَّا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ مِنْ الشَّرِيعَةِ - وَهِيَ: كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْظُومَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَقَوْلِهِ: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}. ثُمَّ مَسَالِكُ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ وَمَنَاهِجُ الرَّأْيِ وَالِاسْتِبْصَا رِ.
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: الْكِتَابُ وَهُوَ عِدَّةُ آيَاتٍ. الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ لِلنَّاسِ مُضَافًا إلَيْهِمْ بِاللَّامِ وَاللَّامُ حَرْفُ الْإِضَافَةِ وَهِيَ تُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقَه ُ إيَّاهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ مَوَارِدَ اسْتِعْمَالِهَا . كَقَوْلِهِمْ: الْمَالُ لِزَيْدِ وَالسَّرْجُ لِلدَّابَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَجِبُ إذًا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مُمَلَّكِينَ مُمَكَّنِينَ لِجَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ وَهِيَ الْخَبَائِثُ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِفْسَادِ لَهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ أَوْ مَعَادِهِمْ فَيَبْقَى الْبَاقِي مُبَاحًا بِمُوجِبِ الْآيَةِ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} دَلَّتْ الْآيَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَبَّخَهُمْ وَعَنَّفَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَشْيَاءُ مُطْلَقَةً مُبَاحَةً لَمْ يَلْحَقْهُمْ ذَمٌّ وَلَا تَوْبِيخٌ إذْ لَوْ كَانَ حُكْمُهَا مَجْهُولًا أَوْ كَانَتْ مَحْظُورَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَالتَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ فَبَيَّنَ أَنَّهُ بَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَمَا لَمْ يُبَيِّنْ تَحْرِيمَهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ. وَمَا لَيْسَ بِمُحَرَّمِ فَهُوَ حَلَالٌ إذْ لَيْسَ إلَّا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} وَإِذَا كَانَ مَا فِي الْأَرْضِ مُسَخَّرًا لَنَا جَازَ اسْتِمْتَاعُنَا بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (49)
من صــ 78 الى صــ 84
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} الْآيَةَ فَمَا لَمْ يَجِدْ تَحْرِيمَهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ وَمَا لَمْ يُحَرَّمْ فَهُوَ حِلٌّ وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ {إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} الْآيَةَ؛ لِأَنَّ حَرْفَ: (إنَّمَا) يُوجِبُ حَصْرَ الْأَوَّلِ فِي الثَّانِي؛ فَيَجِبُ انْحِصَارُ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا ذُكِرَ وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُحِيطِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: السُّنَّةُ وَاَلَّذِي حَضَرَنِي مِنْهَا حَدِيثَانِ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ}.
دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِتَحْرِيمِ خَاصٍّ لِقَوْلِهِ لَمْ يُحَرَّمْ وَدَلَّ أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ الْمَسْأَلَةِ فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهَا بِدُونِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ. الثَّانِي: رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: {سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ}.
فَمِنْهُ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَفْتَى بِالْإِطْلَاقِ فِيهِ. الثَّانِي قَوْلُهُ: {وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ} نَصَّ فِي أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ وَتَسْمِيَتُهُ هَذَا عَفْوًا كَأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ هُوَ الْإِذْنُ فِي التَّنَاوُلِ بِخِطَابِ خَاصٍّ وَالتَّحْرِيمُ الْمَنْعُ مِنْ التَّنَاوُلِ كَذَلِكَ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ لَمْ يُؤْذِنْ بِخِطَابِ يَخُصُّهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ فَيُرْجَعُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ لَا عِقَابَ إلَّا بَعْدَ الْإِرْسَالِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عِقَابٌ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا.
وَفِي السُّنَّةِ دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَشَهَادَةُ شُهَدَاءِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ الَّذِينَ هُمْ عُدُولُ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ الْمَعْصُومِينَ مِنْ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى ضَلَالَةٍ الْمَفْرُوضِ اتِّبَاعُهُمْ. وَذَلِكَ أَنِّي لَسْت أَعْلَمُ خِلَافَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ السَّالِفَيْنِ: فِي أَنَّ مَا لَمْ يَجِئْ دَلِيلٌ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مَحْجُورٍ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ وَأَحْسَبُ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا كَالْيَقِينِ.
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
(فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَنَّ تَقَدُّمَ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ حَقٌّ، وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ قَوْلٌ مَهْجُورٌ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:
وَقَوْلُهُ:
أَوْ كَانَ فَاللَّازِمُ مِنْ كَوْنِهِ ... حُدُوثُهُ وَالْقَوْلُ مَهْجُورُ
كَأَنَّهُ يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَوْ كَانَ اللَّهُ مُقَدِّرًا لَهَا عَالِمًا بِهَا فَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَالِمًا بِهَا مُقَدِّرًا لَهَا بَعْدَ أَنْ تَكُونَ حُدُوثُ الْعِلْمِ بِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الرَّبُّ عَالِمًا بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَلَا مُقَدِّرًا لَهَا حَتَّى فُعِلَتْ وَهَذَا الْقَوْلُ مَهْجُورٌ بَاطِلٌ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَى بُطْلَانِهِ سَلَفُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ كَفَّرُوا مَنْ قَالَهُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ تُبَيِّنُ فَسَادَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ عَمَّا يَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بَلْ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَغَيْرِ مَلَائِكَتِهِ قَالَ تَعَالَى:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَالْمَلَائِكَة ُ حَكَمُوا بِأَنَّ الْآدَمِيِّينَ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْإِنْسَ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ؛ كَمَا قَالُوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ثُمَّ قَالَ: {إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَتَضَمَّنَ هَذَا مَا يَكُونُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ آدَمَ وَإِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِم َا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ.
وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ آدَمَ يَخْرُجُ مِنْ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ لَوْلَا خُرُوجُهُ مِنْ الْجَنَّةِ لَمْ يَصِرْ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَسْكُنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَأْكُلَ مِنْ الشَّجَرَةِ بِقَوْلِهِ:
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} {إنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} نَهَاهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ طَاعَةِ إبْلِيسَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْخُرُوجِ وَقَدْ عَلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِسَبَبِ طَاعَتِهِ إبْلِيسَ وَأَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}.
وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: إنَّهُ قَدَّرَ خُرُوجَهُ مِنْ الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِدُخُولِهَا بِقَوْلِهِ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وَقَالَ بَعْدَ هَذَا: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ}
وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ} {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} وَهَذَا خَبَرٌ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْ عَدَاوَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} وَقَالَ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقَالَ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَهَذَا قَسَمٌ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ فِي قَسَمِهِ وَصِدْقُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلْمِهِ بِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُمْ غَيْرَ مَقْدُورَةٍ لَهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ إنْ شَاءُوا عَصَوْهُ فَمَلَأَهَا؛ وَإِنْ شَاءُوا أَطَاعُوهُ فَلَمْ يَمْلَأْهَا. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَعْصُونَهُ فَأَقْسَمَ عَلَى جَزَائِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ عِلْمَهُ بِالْمُسْتَقْبَ لِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمٌ لِخَلْقِهِ لَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمَلَائِكَة ِ وَالْبَشَرِ وَلَكِنَّ عِلْمَهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ؛ فَلَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ خَارِجَةً عَنْ مَقْدُورِهِ وَمُرَادِهِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَعْلَمَهَا كَمَا يَعْلَمُ مَخْلُوقَاتُهُ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} وَهَذَا خَبَرٌ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْهُمْ مِنْ الذُّنُوبِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلُوهَا. وَقَالَ تَعَالَى:
{قُلْ لِلْمُخَلَّفِين َ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُم ْ أَوْ يُسْلِمُونَ} وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ دُعَاءِ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى جِهَادِ هَؤُلَاءِ؛ وَدُعَاؤُهُ لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. بَلْ الْعِلْمُ بِالْمُسْتَقْبَ لِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ يَحْصُلُ لِآحَادِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاء ِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ حَاصِلًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا سَيَكُونُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَ ةِ مِنْ أُمَّتِهِ وَغَيْرِ أُمَّتِهِ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ كَإِخْبَارِهِ بِأَنَّ ابْنَهُ الْحَسَنَ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أُولَى الطَّائِفَتَيْن ِ بِالْحَقِّ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ قَوْمًا يَرْتَدُّونَ بَعْدَهُ عَلَى أَعْقَابِهِمْ؛ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ تَكُونُ ثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا؛ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ الْجَبَلَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدٌ؛ وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ شُهَدَاءَ وَإِخْبَارُهُ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَتْلِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلُوا وَإِخْبَارُهُ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شرقي دِمَشْقَ وَقَتْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ عَلَى بَابِ لُدٍّ. وَإِخْبَارُهُ بِخُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ؛ وَإِخْبَارُهُ بِخُرُوجِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ:
{يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ آيَتُهُمْ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا مُخَدَّجَ الْيَدِ عَلَى يَدِهِ مِثْلُ الْبِضْعَةِ مِنْ اللَّحْمِ تدردر} وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ لَمَّا قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بالنهروان وَوُجِدَ هَذَا الشَّخْصُ كَمَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِخْبَارُهُ بِقِتَالِ التُّرْكِ وَصِفَتُهُمْ حَيْثُ قَالَ:
{لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الْأَعْيُنِ حُمْرَ الْخُدُودِ دُلُفَ الْأَنْفِ يَنْتَعِلُونَ الشَّعْرَ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمِطْرَقَةُ} وَقَدْ قَاتَلَ الْمُسْلِمُونَ هَؤُلَاءِ التُّرْكَ وَغَيْرَهُمْ لَمَّا ظَهَرُوا وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَخْبَارِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ وَهُوَ إنَّمَا يَعْلَمُ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا كَانَ هُوَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فَكَيْفَ الَّذِي خَلَقَهُ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُحِيطُ أَحَدٌ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ - لَا نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ - إلَّا مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى:
إنَّنِي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ وَلَمَّا نَقَرَ الْعُصْفُورُ فِي الْبَحْرِ قَالَ لَهُ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْقَائِلُ فِي حَقِّ مُوسَى:
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ نَفْيَ عِلْمِ اللَّهِ بِالْحَوَادِثِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلٌ وَغُلَاةُ الْقَدَرِيَّةِ يَنْفُونَ ذَلِكَ.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (50)
من صــ 85 الى صــ 91
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}. وَقَوْلُهُ: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَمُجَرَّدُ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَدْحٌ وَلَا ذَمٌّ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِ الْأَفْعَالِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا: لِنَرَى. وَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا: لِنَعْلَمَهُ مَوْجُودًا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ وَهَذَا الْمُتَجَدِّدُ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلنُّظَّارِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْمُتَجَدِّدُ هُوَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومِ فَقَطْ وَتِلْكَ نِسْبَةٌ عَدَمِيَّةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:
بَلْ الْمُتَجَدِّدُ عِلْمٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ وَهَذَا الْعِلْمُ غَيْرُ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ وَهَذَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ} فَقَدْ أَخْبَرَ بِتَجَدُّدِ الرُّؤْيَةِ فَقِيلَ نِسْبَةٌ عَدَمِيَّةٌ وَقِيلَ الْمُتَجَدِّدُ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ. وَالْكَلَامُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَمَنْ قَالَ هَذَا وَهَذَا وَحُجَجُ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ بُسِطَتْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَعَامَّةُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُتَجَدِّدَ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَهَذَا مِمَّا هَجَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ الْحَارِثَ الْمُحَاسِبِيَّ عَلَى نَفْيِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ فَرَّ مِنْ تَجَدُّدِ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ وَقَالَ بِلَوَازِمِ ذَلِكَ، فَخَالَفَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ مَا أَوْجَبَ ظُهُورَ بِدْعَةٍ اقْتَضَتْ أَنْ يَهْجُرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَيُحَذِّرَ مِنْهُ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْحَارِثَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. والمتأخرون مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلِ وَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ تَقَدُّمَ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابَتِهِ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ حَقٌّ وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ قَوْلٌ مَهْجُورٌ كَمَا قَالَهُ النَّاظِمُ إنْ كَانَ قَدْ أَرَادَ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُنَافِي أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ فَإِنَّ كَوْنَهُ خَالِقًا لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا يُنَافِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ. فَكَيْفَ الْعِلْمُ الْمُتَقَدِّمُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْعَبْدِ مَجْبُورًا لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا فِعْلَ كَمَا تَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةُ.
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:
عَنْ صَالِحِي بَنِي آدَمَ وَالْمَلَائِكَة ِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟
فَأَجَابَ:
بِأَنَّ صَالِحِي الْبَشَرِ أَفْضَلُ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ النِّهَايَةِ وَالْمَلَائِكَة َ أَفْضَلُ بِاعْتِبَارِ الْبِدَايَةِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ الْآنَ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى مُنَزَّهُونَ عَمَّا يُلَابِسُهُ بَنُو آدَمَ مُسْتَغْرِقُونَ فِي عِبَادَةِ الرَّبِّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الْآنَ أَكْمَلُ مِنْ أَحْوَالِ الْبَشَرِ. وَأَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَصِيرُ صَالِحُو الْبَشَرِ أَكْمَلَ مِنْ حَالِ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَتَبَيَّنُ سِرُّ التَّفْضِيلِ وَتَتَّفِقُ أَدِلَّةُ الْفَرِيقَيْنِ وَيُصَالَحُ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى حَقِّهِ (*).
وَسُئِلَ: عَنْ " الْمُطِيعِينَ " مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ؟
فَأَجَابَ:
قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ جَعَلْت بَنِي آدَمَ يَأْكُلُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَشْرَبُونَ وَيَتَمَتَّعُون َ فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ كَمَا جَعَلْت لَهُمْ الدُّنْيَا قَالَ: لَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَعَادُوا عَلَيْهِ قَالَ: لَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ: وَعِزَّتِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذَرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْت لَهُ: كُنْ فَكَانَ} ذَكَرَهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد فِي كِتَابِ " السُّنَنِ " (*) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ فَقِيلَ لَهُ: وَلَا جِبْرِيلُ وَلَا ميكائيل فَقَالَ لِلسَّائِلِ: " أَتَدْرِي مَا جِبْرِيلُ وَمَا ميكائيل؟ إنَّمَا جِبْرِيلُ وميكائيل خَلْقٌ مُسَخَّرٌ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَمَا عَلِمْت عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُنْتَسِبِين َ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاء َ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَلَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " مُصَنَّفٌ " مُفْرَدٌ ذَكَرْنَا فِيهِ الْأَدِلَّةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
(فَصْلٌ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {الرَّحْمَنِ} {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}. و {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}. وَقَالَ: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}. فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُلْهِمُ الْإِنْسَانَ الْمَنْطِقَ كَمَا يُلْهِمُ غَيْرَهُ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا كَانَ قَدْ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَعَرَضَ الْمُسَمَّيَاتِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْ آدَمَ جَمِيعَ اللُّغَاتِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ تِلْكَ اللُّغَاتِ اتَّصَلَتْ إلَى أَوْلَادِهِ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا بِهَا فَإِنَّ دَعْوَى هَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا يُنْقَلُ عَنْهُ بَنُوهُ وَقَدْ أَغْرَقَ اللَّهُ عَامَ الطُّوفَانِ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ إلَّا مَنْ فِي السَّفِينَةِ وَأَهْلُ السَّفِينَةِ انْقَطَعَتْ ذُرِّيَّتُهُمْ إلَّا أَوْلَادَ نُوحٍ وَلَمْ يَكُونُوا يَتَكَلَّمُونَ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ الْأُمَمُ بَعْدَهُمْ.
فَإِنَّ " اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ " كَالْفَارِسِيَّ ةِ وَالْعَرَبِيَّة ِ وَالرُّومِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّة ِ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْأَنْوَاعِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ، وَالْعَرَبُ أَنْفُسُهُمْ لِكُلِّ قَوْمٍ لُغَاتٌ لَا يَفْهَمُهَا غَيْرُهُمْ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُنْقَلَ هَذَا جَمِيعُهُ عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ وَأُولَئِكَ جَمِيعُهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَسْلٌ وَإِنَّمَا النَّسْلُ لِنُوحِ وَجَمِيعُ النَّاسِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ: سَامُ وحام ويافث كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ}.
فَلَمْ يَجْعَلْ بَاقِيًا إلَّا ذُرِّيَّتَهُ وَكَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ أَوْلَادَهُ ثَلَاثَةٌ ". رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْطِقُوا بِهَذَا كُلِّهِ وَيَمْتَنِعُ نَقْلُ ذَلِكَ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ هَذِهِ اللُّغَةَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ، وَإِذَا كَانَ النَّاقِلُ ثَلَاثَةً؛ فَهُمْ قَدْ عَلَّمُوا أَوْلَادَهُمْ، وَأَوْلَادُهُمْ عَلَّمُوا أَوْلَادَهُمْ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاتَّصَلَتْ. وَنَحْنُ نَجِدُ بَنِي الْأَبِ الْوَاحِدِ يَتَكَلَّمُ كُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ بِلُغَةِ لَا تَعْرِفُهَا الْأُخْرَى وَالْأَبُ وَاحِدٌ، لَا يُقَالُ:
إنَّهُ عَلَّمَ أَحَدَ ابْنَيْهِ لُغَةً وَابْنَهُ الْآخَرَ لُغَةً؛ فَإِنَّ الْأَبَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إلَّا ابْنَانِ وَاللُّغَاتُ فِي أَوْلَادِهِ أَضْعَافُ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ عَادَةَ بَنِي آدَمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ لُغَتَهُمْ الَّتِي يُخَاطِبُونَهُم ْ بِهَا أَوْ يُخَاطِبُهُمْ بِهَا غَيْرُهُمْ فَأَمَّا لُغَاتٌ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَا فَلَا يُعَلِّمُونَهَا أَوْلَادَهُمْ.
__________
Q (*) وهذا الكلام ذكره ابن القيم رحمه الله في (بدائع الفوائد) 3/ 163 عن شيخه رحمه الله، وعنه نقل، لوجود تعليقه على الفتوى.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (51)
من صــ 92 الى صــ 98
وأيضا فإنه يوجد بنو آدم يتكلمون بألفاظ ما سمعوها قط من غيرهم. والعلماء من المفسرين وغيرهم لهم في الأسماء التي علمها الله آدم قولان معروفان عن السلف. (أحدهما): أنه إنما علمه أسماء من يعقل واحتجوا بقوله: {ثم عرضهم على الملائكة}. قالوا: وهذا الضمير لا يكون إلا لمن يعقل، وما لا يعقل يقال فيها: عرضها. ولهذا قال أبو العالية: علمه أسماء الملائكة لأنه لم يكن حينئذ من يعقل إلا الملائكة؛ ولا كان إبليس قد انفصل عن الملائكة ولا كان له ذرية. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: علمه أسماء ذريته وهذا يناسب الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم " {إن آدم سأل ربه أن يريه صور الأنبياء من ذريته؛ فرآهم فرأى فيهم من يبص. فقال: يا رب من هذا؟ قال: ابنك داود} ".
فيكون قد أراه صور ذريته أو بعضهم وأسماءهم وهذه أسماء أعلام لا أجناس. (والثاني): أن الله علمه أسماء كل شيء وهذا هو قول الأكثرين كابن عباس وأصحابه؛ قال ابن عباس: علمه حتى الفسوة والفسية والقصعة والقصيعة، أراد أسماء الأعراض والأعيان مكبرها ومصغرها.
والدليل على ذلك ما ثبت في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الشفاعة: " {إن الناس يقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وعلمك أسماء كل شيء} ".
وأيضا قوله: " الأسماء كلها " لفظ عام مؤكد؛ فلا يجوز تخصيصه بالدعوى. وقوله: {ثم عرضهم على الملائكة} لأنه اجتمع من يعقل ومن لا يعقل فغلب من يعقل. كما قال: {فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع}. قال عكرمة: علمه أسماء الأجناس دون أنواعها كقولك: إنسان وجن وملك وطائر. وقال مقاتل وابن السائب وابن قتيبة: علمه أسماء ما خلق في الأرض من الدواب والهوام والطير.
ومما يدل على أن هذه اللغات ليست متلقاة عن آدم؛ أن أكثر اللغات ناقصة عن اللغة العربية ليس عندهم أسماء خاصة للأولاد والبيوت والأصوات وغير ذلك مما يضاف إلى الحيوان؛ بل إنما يستعملون في ذلك الإضافة. فلو كان آدم عليه السلام علمها الجميع لعلمها متناسبة، وأيضا فكل أمة ليس لها كتاب ليس في لغتها أيام الأسبوع، وإنما يوجد في لغتها اسم اليوم والشهر والسنة؛ لأن ذلك عرف بالحس والعقل؛ فوضعت له الأمم الأسماء؛ لأن التعبير يتبع التصور، وأما الأسبوع فلم يعرف إلا بالسمع، لم يعرف أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش إلا بأخبار الأنبياء الذين شرع لهم أن يجتمعوا في الأسبوع يوما يعبدون الله فيه ويحفظون به الأسبوع الأول الذي بدأ الله فيه خلق هذا العالم؛ ففي لغة العرب والعبرانيين، ومن تلقى عنهم، أيام الأسبوع؛ بخلاف الترك ونحوهم؛ فإنه ليس في لغتهم أيام الأسبوع لأنهم لم يعرفوا ذلك فلم يعبروا عنه. فعلم أن الله ألهم النوع الإنساني أن يعبر عما يريده ويتصوره بلفظه وأن أول من علم ذلك أبوهم آدم وهم علموا كما علم وإن اختلفت اللغات. وقد أوحى الله إلى موسى بالعبرانية وإلى محمد بالعربية؛ والجميع كلام الله، وقد بين الله بذلك ما أراد من خلقه وأمره، وإن كانت هذه اللغة ليست الأخرى، مع أن العبرانية من أقرب اللغات إلى العربية حتى إنها أقرب إليها من لغة بعض العجم إلى بعض. فبالجملة نحن ليس غرضنا إقامة الدليل على عدم ذلك؛ بل يكفينا أن يقال:
هذا غير معلوم وجوده بل الإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة؛ وإذا سمي هذا توقيفا؛ فليسم توقيفا وحينئذ فمن ادعى وضعا متقدما على استعمال جميع الأجناس؛ فقد قال ما لا علم له به. وإنما المعلوم بلا ريب هو الاستعمال.
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)
سئل الشيخ - رحمه الله -: عن " آدم " لما خلقه الله ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته: هل سجد ملائكة السماء والأرض؟ أم ملائكة الأرض خاصة؟ وهل كان جبرائيل وميكائيل مع من سجد؟ وهل كانت الجنة التي سكنها جنة الخلد الموجودة؟ أم جنة في الأرض خلقها الله له؟ ولما أهبط هل أهبط من السماء إلى الأرض؟ أم من أرض إلى أرض مثل بني إسرائيل.
فأجاب:
الحمد لله. بل أسجد له جميع الملائكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} فهذه ثلاث صيغ مقررة للعموم وللاستغراق؛ فإن قوله: {الملائكة} يقتضي جميع الملائكة؛ فإن اسم الجمع المعرف بالألف واللام يقتضي العموم: كقوله: " رب الملائكة والروح " فهو رب جميع الملائكة
الثاني: {كلهم} وهذا من أبلغ العموم.
الثالث قوله: {أجمعون} وهذا توكيد للعموم. فمن قال إنه لم يسجد له جميع الملائكة؛ بل ملائكة الأرض فقد رد القرآن بالكذب والبهتان وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى؛ وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة الذين يجعلون " الملائكة " قوى النفس الصالحة " والشياطين " قوى النفس الخبيثة ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل؛ ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب " رسائل إخوان الصفا " وأمثالهم من القرامطة الباطنية ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة. وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه. ومذهب المسلمين واليهود والنصارى: ما أخبر الله به في القرآن ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من الشياطين؛ لكن أبوهم إبليس هو كان مأمورا فامتنع وعصى وجعله بعض الناس من الملائكة لدخوله في الأمر بالسجود وبعضهم من الجن لأن له قبيلا وذرية ولكونه خلق من نار والملائكة خلقوا من نور. والتحقيق: أنه كان منهم باعتبار صورته وليس منهم باعتبار أصله ولا باعتبار مثاله ولم يخرج من السجود لآدم أحد من الملائكة:
لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا غيرهما. وما ذكره صاحب خواص القرآن وأمثاله من خلاف فأقوالهم باطلة قد بينا فسادها وبطلانها بكلام مبسوط ليس هذا موضعه. وهذا مما استدل به أهل السنة على أن آدم وغيره من الأنبياء والأولياء أفضل من جميع الملائكة؛ لأن الله أمر الملائكة بالسجود له إكراما له؛ ولهذا قال إبليس: {أرأيتك هذا الذي كرمت علي} فدل على أن آدم كرم على من سجد له. و " الجنة " التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة وأهل السنة والجماعة:
هي جنة الخلد ومن قال: إنها جنة في الأرض بأرض الهند أو بأرض جدة أو غير ذلك فهو من المتفلسفة والملحدين أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة. والكتاب والسنة يردان هذا القول وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول.
قال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} إلى قوله: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} فقد أخبر أنه سبحانه أمرهم بالهبوط وأن بعضهم عدو لبعض ثم قال: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}. وهذا يبين أنهم لم يكونوا في الأرض وإنما أهبطوا إلى الأرض؛ فإنهم لو كانوا في الأرض وانتقلوا إلى أرض أخرى كانتقال قوم موسى من أرض إلى أرض لكان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الأرض قبل الهبوط وبعده؛ وكذلك قال في الأعراف لما قال إبليس {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} {قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها}.
فقوله: {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها} يبين اختصاص السماء بالجنة بهذا الحكم؛ فإن الضمير في قوله: {منها} عائد إلى معلوم غير مذكور في اللفظ وهذا بخلاف قوله: {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} فإنه لم يذكر هناك ما أهبطوا فيه وقال هنا: {اهبطوا} لأن الهبوط يكون من علو إلى سفل وعند أرض السراة حيث كان بنو إسرائيل حيال السراة المشرفة على المصر الذي يهبطون إليه ومن هبط من جبل إلى واد قيل له: هبط. (وأيضا فإن بني إسرائيل كانوا يسيرون ويرحلون والذي يسير ويرحل إذا جاء بلدة يقال: نزل فيها؛ لأن في عادته أنه يركب في سيره فإذا وصل نزل عن دوابه. يقال: نزل العسكر بأرض كذا ونزل القفل بأرض كذا؛ لنزولهم عن الدواب. ولفظ النزول كلفظ الهبوط فلا يستعمل هبط إلا إذا كان من علو إلى سفل.
وقوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} {قال اهبطوا} الآيتين. فقوله هنا بعد قوله: {اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} يبين أنهم هبطوا إلى الأرض من غيرها وقال: {فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} دليل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك بمكان فيه يحيون وفيه يموتون ومنه يخرجون وإنما صاروا إليه لما أهبطوا من الجنة.
والنصوص في ذلك كثيرة وكذلك كلام السلف والأئمة. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته فلماذا أخرجتنا وذريتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه فهل تجد في التوراة: وعصى آدم ربه فغوى؟ قال نعم قال: فلماذا تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق؟ فقال: فحج آدم موسى} " وموسى إنما لام آدم لما حصل له وذريته بالخروج من الجنة من المشقة والنكد فلو كان ذلك بستانا في الأرض لكان غيره من بساتين الأرض يعوض عنه. (وآدم عليه السلام احتج بالقدر؛ لأن العبد مأمور على أن يصبر على ما قدره الله من المصائب ويتوب إليه ويستغفره من الذنوب والمعائب. والله أعلم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (52)
من صــ 99 الى صــ 105
فصل في المسألة المشهورة بين الناس في " التفضيل بين الملائكة والناس "
قال شيخ الإسلام:
الكلام إما أن يكون في التفضيل بين الجنس: الملك والبشر؛ أو بين صالحي الملك والبشر.
أما الأول وهو أن يقال: أيما أفضل: الملائكة أو البشر؟ فهذه كلمة تحتمل أربعة أنواع: (*)
النوع الأول أن يقال: هل كل واحد من آحاد الناس أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة؟ فهذا لا يقوله عاقل فإن في الناس: الكفار والفجار والجاهلين والمستكبرين والمؤمنين وفيهم من هو مثل البهائم والأنعام السائمة بل الأنعام أحسن حالا من هؤلاء كما نطق بذلك القرآن في مواضع مثل قوله تعالى. {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}
وقال وثالثها: أن هؤلاء لهم العقاب والنكال والخزي على ما يأتونه من الأعمال الخبيثة فهذا يقتل وهذا يعاقب وهذا يقطع وهذا يعذب ويحبس هذا في العقوبات المشروعة. وأما العقوبات المقدرة فقوم أغرقوا وقوم أهلكوا بأنواع العذاب وقوم ابتلوا بالملوك الجائرة: تحريقا وتغريقا وتمثيلا وخنقا وعمى. والبهائم في أمان من ذلك. ورابعها: أن لفسقة الجن والإنس في الآخرة من الأهوال والنار والعذاب والأغلال وغير ذلك مما أمنت منه البهائم ما بين فضل البهائم على هؤلاء إذا أضيف إلى حال هؤلاء. وخامسها: أن البهائم جميعها مؤمنة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم مسبحة بحمده قانتة له وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " {أنه ليس على وجه الأرض شيء إلا وهو يعلم أني رسول الله إلا فسقة الجن والإنس} ". النوع الثاني أنه يقال: مجموع الناس أفضل من مجموع الملائكة من غير توزيع الأفراد وهذا على القول بتفضيل صالحي البشر على الملائكة فيه نظر؛ لا علم لي بحقيقته فإنا نفضل مجموع القرن الثاني على القرن الثالث مع علمنا أن كثيرا من أهل القرن الثالث أفضل من كثير من أهل القرن الثاني.
النوع الثالث أنا إذا قابلنا الفاضل بالفاضل والذي يلي الفاضل بمن يليه من الجنس الآخر فأي القبيلين أفضل؟ فهذا مع القول بتفضيل صالحي البشر يقال: لا شك أن المفضولين من الملائكة أفضل من كثير من البشر وفاضل البشر أفضل من فاضليهم لكن التفاوت الذي بين " فاضل الطائفتين " أكثر والتفاوت بين " مفضولهم " هذا غير معلوم والله أعلم بخلقه. النوع الرابع أن يقال: حقيقة الملك والطبيعة الملكية أفضل أم حقيقة البشر والطبيعة البشرية؟ وهذا كما أنا نعلم أن حقيقة الحي إذ هو حي أفضل من الميت وحقيقة القوة والعلم من حيث هي كذلك أفضل من حقيقة الضعف والجهل وحقيقة الذكر أفضل من حقيقة الأنثى وحقيقة الفرس أفضل من حقيقة الحمار وكان في نوع المفضول ما هو خير من كثير من أعيان النوع الفاضل: كالحمار والفأرة والفرس الزمن والمرأة الصالحة مع الرجل الفاجر والقوي الفاجر مع الضعيف الزمن.
والوجه في انحصار القسمة في هذه الأنواع - فإن كثيرا من الكلمات المهمة تقع الفتيا فيها مختلفة والرأي مشتبها لفقد التمييز والتفضيل - أن كل شيء إما أن نقيده من جهة الخصوص أو العموم أو الإطلاق. فإذا قلت: بشر وملك. إما أن تريد هذا البشر الواحد فيكون خاصا أو جميع جنس البشر فيكون عاما أو تريد البشر مطلقا مجردا عن قيد العموم والخصوص وضبطه القليل والكثير والنوع الأول في التفضيل عموما وخصوصا والثاني عموما والثالث خصوصا والرابع في الحقيقة المطلقة المجردة. فنقول حينئذ: المسألة على هذا الوجه لست أعلم فيها مقالة سابقة مفسرة وربما ناظر بعض الناس على تفضيل الملك وبعضهم على تفضيل البشر وربما اشتبهت هذه المسألة بمسألة التفضيل بين الصالح وغيره. لكن الذي سنح لي - والله أعلم بالصواب - أن حقيقة الملك أكمل وأرفع وحقيقة الإنسان أسهل وأجمع.
وتفسير ذلك: أنا إذا اعتبرنا الحقيقتين وصفاتهما النفسية والتبعية: اللازمة الغالبة الحياة والعلم والقدرة: في اللذات والشهوات وجدنا أولا خلق الملك أعظم صورة ومحله أرفع وحياته أشد وعلمه أكثر وقواه أشد وطهارته ونزاهته أتم ونيل مطالبه أيسر وأتم وهو عن المنافي والمضاد أبعد لكن تجد هذه الصفات للإنسان - بحسب حقيقته - منها أوفر حظا ونصيبا من الحياة والخلق والعلم والقدرة والطهارة وغير ذلك. وله أشياء ليست للملك من إدراكه دقيق الأشياء: حسا وعقلا وتمتعه بما يدركه ببدنه وقلبه وهو يأكل ويشرب وينكح ويتمنى ويتغذى ويتفكر إلى غير ذلك من الأحوال التي لا يشاركه فيها الملك. لكن حظ الملك من القدر المشترك الذي بينهما أكثر وما اشتركا فيه من الأمور أفضل بكثير مما اختص به الإنسان. " مثاله ": مثل رجل معه مائة دينار وآخر معه خمسون درهما أو خمسون دينارا أو خمسون فلسا وإذا كان الأمر كذلك ففصل الجواب كما سبق. وإن أردت الإطلاق: فالحقيقة الملكية بلوازمها أفضل من الحقيقة الإنسانية بلوازمها هذا لا شك فيه فإنما يلزم حقيقة الإنسان من حياة وحس وعلم وعمل ونيل لذة وإدراك شهوة ليست بشيء.
وإنما تعددت أصنافه إلى ما يشبه حقيقة الملك؛ كحال من علم من كل شيء طرفا ليس بالكثير إلى حال من أتقن العلم بالله وبأسمائه وآياته ولا يشبه حال من معه درهم إلى حال من معه درة ولا يشبه حال من يسوس الناس كلهم إلى حال من يسوس إنسانا وفرسا. وقد دل على هذا دلالة بينة قوله تعالى {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} فدل على أنهم لم يفضلوا على الجميع وقوله: {ممن} للتبعيض. فإن قلت: هذا الاستدلال مفهوم للمخالف وأنت مخالف لهذا منازع فيه.
فيقال لك: تخصيص الكثير بالذكر لا يدل على مخالفة غيره بنفي ولا إثبات وأيضا فإن مفهومه: أنهم لم يفضلوا على ما سوى الكثير فإذا لم يفضلوا فقد يساوون بهم وقد يفضل أولئك عليهم فإن الأحوال ثلاثة: إما أن يفضلوا على من بقي أو يفضل أولئك عليهم أو يساوون بهم.
قال: واختلاف الحقائق والذوات لا بد أنها تؤثر في اختلاف الأحكام والصفات وإذا اختلفت حقيقة البشر والملك فلا بد أن يكون أحد الحقيقتين أفضل فإن كونهما متماثلتين متفاضلتين ممتنع. وإذا ثبت أن أحدهما أفضل بهذه القضية المعقولة؛ وثبت عدم فضل البشر بتلك الكلمة الإلهية؛ ثبت فضل الملك وهو المطلوب.
وقد ذكر جماعة من المنتسبين إلى السنة: أن الأنبياء وصالح البشر أفضل من الملائكة. وذهبت المعتزلة إلى تفضيل الملائكة على البشر وأتباع الأشعري على قولين: منهم من يفضل الأنبياء والأولياء ومنهم من يقف ولا يقطع فيهما بشيء. وحكي عن بعض متأخريهم أنه مال إلى قول المعتزلة وربما حكي ذلك عن بعض من يدعي السنة ويواليها. وذكر لي عن بعض من تكلم في أعمال القلوب أنه قال: أما الملائكة المدبرون للسموات والأرض وما بينهما والموكلون ببني آدم؛ فهؤلاء أفضل من هؤلاء الملائكة. وأما الكروبيون الذين يرتفعون عن ذلك فلا أحد أفضل منهم وربما خص بعضهم نبينا صلى الله عليه وسلم. واستثناؤه من عموم البشر إما تفضيلا على جميع أعيان الملائكة أو على المدبرين منهم أمر العالم.
هذا ما بلغني من كلمات الآخرين في هذه المسألة. وكنت أحسب أن القول فيها محدث حتى رأيتها أثرية سلفية صحابية فانبعثت الهمة إلى تحقيق القول فيها فقلنا حينئذ بما قاله السلف فروى أبو يعلى الموصلي في " كتاب التفسير " المشهور له عن عبد الله بن سلام - وكان عالما بالكتاب الأول والكتاب الثاني - إذ كان كتابيا وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الخاتمة ووصية معاذ عند موته وأنه أحد العلماء الأربعة الذين يبتغى العلم عندهم. قال: ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم الحديث عنه. قلت:
ولا جبرائيل ولا ميكائيل قال: يا ابن أخي أوتدري ما جبرائيل وميكائيل؟ إنما جبرائيل وميكائيل خلق مسخر مثل: الشمس والقمر؛ وما خلق الله تعالى خلقا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم. وروى عبد الله في " التفسير " (*) وغيره عن معمر عن زيد بن أسلم أنه قال: {قالت الملائكة: يا ربنا جعلت لبني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون فاجعل لنا الآخرة. فقال: وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان}.
__________
وأريد أن أنبه إلى أمرين:
الأمر الأول: أن هذه الرسالة أشك في نسبتها لشيخ الإسلام رحمه الله، فمن قرأ للشيخ وعرف نفسه في رسائله وفتاواه سيعرف هذا جيدا، فإما أن يكون أصلها للشيخ رحمه الله وخلط كلامه بكلام غيره ولم يميز بين الكلامين، أو أنها لأحد تلاميذه المتأثرين به، ونحو ذلك، أما أن تكون جميع هذه الرسالة للشيخ فهو مما أستبعده والله أعلم، فالطريقة التي كتبت بها هذه الرسالة مغايرة لطريقة الشيخ في الجملة، وسأذكر هنا بعض الأمثلة على ذلك:
1 - ص 359 (هذا هو العجب العجيب).
2 - ص 364 (فافهم هذا فإن تحته سر)
3 - ص 365، 366 (فافهم هذا فإنه مجلاة شبهة ومصفاة كدر).
4 - ص 366 (والله أكبر كبيرا)
5 - ص 374، 375 (فلا تلجن باب إنكار، ورد وإمساك وإغماض ردا لظاهره وتعجبا من باطنه حفظا لقواعدك التي كتبتها بقواك وضبطتها بأصولك التي عقلتك عن جناب مولاك، إياك مما يخالف المتقدمين من التنزيه وتوق التمثيل والتشبيه، ولعمري إن هذا هو الصراط المستقيم، الذي هو أحد من السيف، وأدق من الشعر، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور).
6 - ص 352 (لا علم لي بحقيقته) وص 353 (هذا غير معلوم والله أعلم بخلقه)، وص 354 (لكن الذي سنح لي والله أعلم بالصواب)، وص 361 (ولعل ذلك والله أعلم بحقائق الأمور)، ص 364 (ولا حاجة بنا إلى تفسير كلام ربنا بآرائنا والله أعلم بتفسيره).
7 - ص 374 (وهذا بحر يغرق فيه السابح، لا يخوضه إلا كل مؤيد بنور الهداية، وإلا وقع إما في تمثيل، أو في تعطيل. فليكن ذو اللب على بصيرة أن وراء علمه مرماة بعيدة، وفوق كل ذي علم عليم)
8 - ص 375 (ولو ثبت أن علم البشر في الدنيا لا يكون إلا على أيدى الملائكة وهو والله باطل).
9 - ص 379 (فهذا هداك الله وجه التفضيل بالأسباب المعلومة، ذكرنا منه أنموذجا) وص 381 (فاعلم - نو الله قلبك وشرح صدرك للإسلام -).
ثانيا: وصف المخالفين له بما لم يعهد عنه، نحو:
1 - ص 358 (وقد قال بعض الأغبياء: إن السجود إنما كان لله وجعل آدم قبلة لهم).
2 - ص 362 (فاعلم أن المقالة أولا ليس معها ما يوجب قبولها، لا مسموع، ولا معقول، إلا خواطر، وسوانح، ووساوس، مادتها من عرش إبليس).
3 - ص 363 (ومن اختلج في سره وجه الخصوص بعد هذا التحقيق والتوكيل فليعز نفسه في الاستدلال بالقرآن والفهم، فإنه لا يثق بشئ يؤخذ منه، ياليت شعري! لو كانت الملائكة كلهم سجدوا وأراد الله أن يخبرنا بذلك، فأي كلمة أتم وأعم، أم يأتي قول يقال: أليس هذا من أبين البيان؟)
4 - ص 376 (وليس كما زعم هذا الغبي).
5 - ص 391 (وهذا من أوضح الكلام لمن له فقه بالعربية ونعوذ بالله من التنطع).
ثالثا: قوله ص 379 في معرض تفضيله صالحي البشر على الملائكة (وأين هم عن الذين: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}؟ وأين هم ممن يدعون إلى الهدى ودين الحق؛ ومن سن سنة حسنة؟ وأين هم من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمتي من يشفع في أكثر من ربيعة ومضر)؟ وأين هم من الأقطاب، والأوتاد، والأغواث، والأبدال، والنجباء؟).
وقد علق الجامع على رحمه الله على الجملة الأخيرة بقوله (هكذا بالأصل)، وهذا يدل على أنه استنكر مثل هذه العبارة، والشيخ رحمه الله له كلام على إبطال هذه الأسماء وأنها لم ترد في الكتاب ولا في السنة، ومن ذلك:
قوله في الفتاوى 11/ 433 (أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة،
والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة: فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى؛ ولا هي أيضا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، ولا ضعيف. . . الخ الفتوى وهي طويلة مفصلة).
وقال في (المنهاج) 1/ 93 (وأيضا فجميع هذه الألفاظ لفظ الغوث والقطب والأوتاد والنجباء وغيرها لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد معروف أنه تكلم بشيء منها ولا أصحابه ولكن لفظ الأبدال تكلم به بعض السلف ويروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف).
وفي الجملة: فهذه الرسالة نفسها ليس نفس شيخ الإسلام رحمه الله في رسائله، والله أعلم.
الأمر الثاني: أنه حصل تصحيفات يسيرة في هذه الرسالة، ومن ذلك:
1 - ص 353 (وكان في نوع المفضول ما هو خير من كثير من أعيان النوع الفاضل؛ كالحمار والفأرة والفرس الزمن، والمرأة الصالحة مع الرجل الفاجر)
قلت: (كالحمار والفأرة) صوابه: (كالحمار الفاره)
2 - ص 357 (وروى عبد الله في (التفسير))، وذكر هذا الأثر سابقا ص 244 وقال فيه (عبد الله في (السنن)) وجاء في ص 369 (السنة) وهو الأظهر، والله أعلم.
3 - ص 360 (والبهائم لا تعبد الله)، ولعله: لا تعبد إلا الله.
4 - ص 364 (وإذا كانت القصة قد تكررت وليس فيها ما يدل على الخصوص فليس دعوى الخصوص فيها من البهتان).
قلت: ويظهر أن العبارة: (كان دعوى الخصوص فيها من البهتان) أو (فإن دعوى الخصوص)، ونحو ذلك.
5 - ص 368: ذكر الدليل الثامن، ثم في السطر الثاني عشر قال: (ثم ذكر ما رواه الخلال. . .)، وهذا يجل على أمرين:
الأول: حصول اختصار، لأن (الدليل التاسع) و (العاشر) لم تذكر مسبوقة بالرقم - وإن كانت قد ذكرت أحاديث -، وإنما ذكر ص 370 (الدليل الحادي عشر).
والثاني: أن هذه النسخة متصرف فيها.
6 - ص 369 (فلا يقول مثل هذا القول إلا عن. . . [وأشار الجامع رحمه الله إلى أن هنا بياضا في الأصل] بين والكذب على الله عز وجل أعظم من الكذب على رسوله).
قلت: ويظهر أن العبارة (إلا عن علم بين) أو نحوها.
7 - ص 373 (وأما الملائكة فإن حالهم اليوم شبيهة بحالهم بعد ذلك، فإن ثوابهم متصل وليست الجنة مخلوقة، وتصديق. . .).
قلت: ويظهر أن العبارة (وليست الجنة مخلوقة لهم).
8 - ص 347 (إن إجلاسه على العرش منكرا) والصواب: (منكر)
9 - ص 387: (ولا يقال إنه لما لم يقرن بالإنكار دل على أنه حق، فإن قولهن {ما هذا بشرا } خطأ. وقولهن: {إن هذا إلا ملك كريم} خطأ أيضا في غيبتهن عنه أنه بشر وإثباتهن أنه ملك، وإن لم يقرن بالإنكار، [دل على أنه حق، وأن قولهن: {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} خطأ في نفيهن عنه البشرية وإثباتهن له الملائكية، وإن لم يقرن بالإنكار] لغيبة عقولهن عند رؤيته، فلم يلمن في تلك الحال على ذلك).
قلت: والذي يظهر أن ما بين المعقوفتين مكرر، والله أعلم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (53)
من صــ 106 الى صــ 112
وَكَذَلِكَ قِصَّةُ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ لِآدَمَ وَلَعْنُ الْمُمْتَنِعِ عَنْ السُّجُودِ لَهُ وَهَذَا تَشْرِيفٌ وَتَكْرِيمٌ لَهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَغْبِيَاءِ: إنَّ السُّجُودَ إنَّمَا كَانَ لِلَّهِ وَجَعْلِ آدَمَ قِبْلَةً لَهُمْ يَسْجُدُونَ إلَيْهِ كَمَا يَسْجُدُ إلَى الْكَعْبَةِ؛ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَيْهِمْ؛ كَمَا أَنَّ السُّجُودَ إلَى الْكَعْبَةِ لَيْسَ فِيهِ تَفْضِيلٌ لِلْكَعْبَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ حُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ حُرْمَتِهَا وَقَالُوا: السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ بَلْ كُفْرٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ السُّجُودَ كَانَ لِآدَمَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَفَرْضِهِ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُسْمَعُ قَوْلُهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ: - أَحَدُهَا: قَوْلُهُ لِآدَمَ: وَلَمْ يَقُلْ: إلَى آدَمَ. وَكُلُّ حَرْفٍ لَهُ مَعْنَى وَمِنْ التَّمْيِيزِ فِي اللِّسَانِ أَنْ يُقَالَ: سَجَدْت لَهُ وَسَجَدْت إلَيْهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وَقَالَ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى: أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ وَأَمَّا الْكَعْبَةُ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ صَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ يُصَلِّي إلَى عَنَزَةٍ وَلَا يُقَالُ لِعَنَزَةِ وَإِلَى عَمُودِ شَجَرَةٍ وَلَا يُقَالُ لِعَمُودِ وَلَا لِشَجَرَةِ؛ وَالسَّاجِدُ لِلشَّيْءِ يَخْضَعُ لَهُ بِقَلْبِهِ وَيَخْشَعُ لَهُ بِفُؤَادِهِ؛ وَأَمَّا السَّاجِدُ إلَيْهِ فَإِنَّمَا يُوَلِّي وَجْهَهُ وَبَدَنَهُ إلَيْهِ ظَاهِرًا كَمَا يُوَلِّي وَجْهَهُ إلَى بَعْضِ النَّوَاحِي إذَا أَمَّهُ كَمَا قَالَ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. وَالثَّانِي: أَنَّ آدَمَ لَوْ كَانَ قِبْلَةً لَمْ يَمْتَنِعْ إبْلِيسُ مِنْ السُّجُودِ أَوْ يَزْعُمْ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ. فَإِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ تَكُونُ أَحْجَارًا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَفْضِيلٌ لَهَا عَلَى الْمُصَلِّينَ إلَيْهَا وَقَدْ يُصَلِّي الرَّجُلُ إلَى عَنَزَةَ وَبَعِيرٍ وَإِلَى رَجُلٍ وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُفَضَّلٌ بِذَلِكَ فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَرَّ الشَّيْطَانُ؟ هَذَا هُوَ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ وَالثَّالِثُ:
أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ آدَمَ قِبْلَةً فِي سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ لَكَانَتْ الْقِبْلَةُ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلَ مِنْهُ بِآلَافِ كَثِيرَةٍ إذْ جُعِلَتْ قِبْلَةً دَائِمَةً فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّلَوَاتِ؛ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ الطَّوِيلَةُ الَّتِي قَدْ جُعِلَتْ عَلَمًا لَهُ وَمِنْ أَفْضَلِ النِّعَمِ عَلَيْهِ وَجَاءَتْ إلَى الْعَالِمِ بِأَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ بِهَا وَامْتَنَّ عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَهُ كَالْكَعْبَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ مَا أُوتِيَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْبِ مِنْ الرَّحْمَنِ أَفْضَلُ بِكَثِيرِ مِنْ الْكَعْبَةِ؛ وَالْكَعْبَةُ إنَّمَا وُضِعَتْ لَهُ وَلِذُرِّيَّتِه ِ؛ أَفَيُجْعَلُ مِنْ جَسِيمِ النِّعَمِ عَلَيْهِ أَوْ يُشَبَّهُ بِهِ فِي شَيْءٍ نَزْرًا قَلِيلًا جِدًّا هَذَا مَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَا يَجُوزُ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إنْ قِيلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ فَهِيَ كَلِمَةٌ عَامَّةٌ تَنْفِي بِعُمُومِهَا جَوَازَ السُّجُودِ لِآدَمَ وَقَدْ دَلَّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى أَنَّهُمْ سَجَدُوا لَهُ وَالْعَامُّ لَا يُعَارِضُ مَا قَابَلَهُ مِنْ الْخَاصِّ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ السُّجُودَ لِغَيْرِ اللَّهِ حَرَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمَلَائِكَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا دَلِيلَ وَأَمَّا الثَّانِي فَمَا الْحُجَّةُ فِيهِ؟
وَثَالِثُهَا أَنَّهُ حَرَامٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ حَرَامٌ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَالثَّانِي حَقٌّ وَلَا شِفَاءَ فِيهِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُحَرَّمَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ؟ وَرَابِعُهَا: أَبُو يُوسُفَ وَإِخْوَتُهُ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَيُقَالُ: كَانَتْ تَحِيَّتَهُمْ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ السُّجُودَ حَرَامٌ مُطْلَقًا؟ وَقَدْ كَانَتْ الْبَهَائِمُ تَسْجُدُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَهَائِمُ لَا تَعْبُدُ اللَّهَ. فَكَيْفَ يُقَالُ يَلْزَمُ مِنْ السُّجُودِ لِشَيْءِ عِبَادَتُهُ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَلَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا} لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَعْبُدَ.
وَسَابِعُهَا (1): وَفِيهِ التَّفْسِيرُ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا الْخُضُوعُ وَالْقُنُوتُ بِالْقُلُوبِ وَالِاعْتِرَافُ بِالرُّبُوبِيَّ ةِ وَالْعُبُودِيَّ ةِ فَهَذَا لَا يَكُونُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ وَهُوَ فِي غَيْرِهِ مُمْتَنِعٌ بَاطِلٌ. وَأَمَّا السُّجُودُ فَشَرِيعَةٌ مِنْ الشَّرَائِعِ إذْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَسْجُدَ لَهُ وَلَوْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْجُدَ لِأَحَدِ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرِهِ لَسَجَدْنَا لِذَلِكَ الْغَيْرِ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إذْ أَحَبَّ أَنْ نُعَظِّمَ مَنْ سَجَدْنَا لَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا السُّجُودَ لَمْ يَجِبْ أَلْبَتَّةَ فِعْلُهُ فَسُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةٌ لَهُ وَقُرْبَةٌ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَيْهِ وَهُوَ لِآدَمَ تَشْرِيفٌ وَتَكْرِيمٌ وَتَعْظِيمٌ. وَسُجُودُ إخْوَةِ يُوسُفَ لَهُ تَحِيَّةٌ وَسَلَامٌ أَلَا تَرَى أَنَّ يُوسُفَ لَوْ سَجَدَ لِأَبَوَيْهِ تَحِيَّةً لَمْ يُكْرَهْ لَهُ.
وَلَمْ يَأْتِ أَنَّ آدَمَ سَجَدَ لِلْمَلَائِكَةِ بَلْ لَمْ يُؤْمَرْ آدَمَ وَبَنُوهُ بِالسُّجُودِ إلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَعَلَّ ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ - لِأَنَّهُمْ أَشْرَفُ الْأَنْوَاعِ وَهُمْ صَالِحُو بَنِي آدَمَ لَيْسَ فَوْقَهُمْ أَحَدٌ يُحْسِنُ السُّجُودُ لَهُ إلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُمْ أَكْفَاءٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ فَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ مَزِيَّةٌ بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ لَهُ السُّجُودُ وَمَنْ سِوَاهُمْ فَقَدْ سَجَدَ لَهُمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِلْأَبِ الْأَقْوَمُ وَمِنْ الْبَهَائِمِ لِلِابْنِ الْأَكْرَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَمْ يَسْبِقْ لِآدَمَ مَا يُوجِبُ الْإِكْرَامَ لَهُ بِالسُّجُودِ فَلَغْوٌ مِنْ الْقَوْلِ هذي بِهِ بَعْضُ مَنْ اعْتَزَلَ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ نَعَمْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَيَادِيهِ وَآلَائِهِ عَلَى عِبَادِهِ لَيْسَتْ بِسَبَبِ مِنْهُمْ وَلَوْ كَانَتْ بِسَبَبِ مِنْهُمْ فَهُوَ الْمُنْعِمُ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَهُوَ الْمُنْعِمُ بِهِ وَيَشْكُرُهُمْ عَلَى نِعَمِهِ؛ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ لَا حَاجَةَ لَنَا إلَى بَيَانِهِ هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} فَإِنَّهُ إنْ سُلِّمَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ فَالْقَصْدُ مِنْهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْفَضْلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَعْبُدُ غَيْرَهُ ثُمَّ هَذَا عَامٌّ وَتِلْكَ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فَيُسْتَثْنَى آدَمَ ثُمَّ يُقَالُ: السُّجُودُ عَلَى ضَرْبَيْنِ سُجُودُ عِبَادَةٍ مَحْضَةٍ وَسُجُودُ تَشْرِيفٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمَ قُلْت إنَّهُ كَذَلِكَ؟ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي فَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَوَّلِينَ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ سَجَدُوا لِآدَمَ مَلَائِكَةٌ فِي الْأَرْضِ فَقَطْ؛ لَا مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ دُونَ الكروبيين وَانْتَحَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِي نَ وَاسْتَنْكَرَ سُجُودَ الْأَعْلَيَيْنِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ مَعَ عَدَمِ الْتِفَاتِهِمْ إلَى مَا سِوَى اللَّهِ وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ: " إنَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ خَلْقٌ لَا يَدْرُونَ: أَخُلِقَ آدَمَ أَمْ لَا "؟ وَنَزَعَ بِقَوْلِهِ: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} وَالْعَالُونَ هُمْ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلَائِكَةُ السَّمَاءِ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَوَّلًا لَيْسَ مَعَهَا مَا يُوجِبُ قَبُولَهَا؛ لَا مَسْمُوعٌ وَلَا مَعْقُولٌ إلَّا خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ وَوَسَاوِسُ مَادَّتُهَا مِنْ عَرْشِ إبْلِيسَ يَسْتَفِزُّهُمْ بِصَوْتِهِ لِيَرُدَّ عَنْهُمْ النِّعْمَةَ الَّتِي حَرَصَ عَلَى رَدِّهَا عَنْ أَبِيهِمْ قَدِيمًا أَوْ مَقَالَةٌ قَدْ قَالَهَا مَنْ يَقُولُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ لَكِنَّ مَعَنَا مَا يُوجِبُ رَدَّهَا مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا:
أَنَّهُ خِلَافَ مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ التَّقْلِيدِ فَتَقْلِيدُهُمْ أَوْلَى. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَخِلَافُ نَصِّهِ فَإِنَّ الِاسْمَ الْمَجْمُوعَ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُوجِبُ اسْتِيعَابَ الْجِنْسِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} فَسُجُودُ الْمَلَائِكَةِ يَقْتَضِي جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا مُقْتَضَى اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ فَالْعُدُولُ عَنْ مُوجِبِ الْقَوْلِ الْعَامِّ إلَى الْخُصُوصِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ مَعْدُومٌ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَالِاسْتِغْرَا قَ لَكَانَ تَوْكِيدُهُ بِصِيغَةِ كُلٍّ مُوجِبَةً لِذَلِكَ وَمُقْتَضِيَةً لَهُ ثُمَّ لَوْ لَمْ يُفِدْ تِلْكَ الْإِفَادَةَ لَكَانَ قَوْلُهُ أَجْمَعُونَ تَوْكِيدًا وَتَحْقِيقًا بَعْدَ تَوْكِيدٍ وَتَحْقِيقٍ وَمَنْ نَازَعَ فِي مُوجِبِ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُنَازِعُ فِيهَا بَعْدَ تَوْكِيدِهَا بِمَا يُفِيدُ الْعُمُومَ بَلْ إنَّمَا يُجَاءُ بِصِيغَةِ التَّوْكِيدِ قَطْعًا لِاحْتِمَالِ الْخُصُوصِ وَأَشْبَاهِهِ. وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ السَّلَف أَنَّهُ قَالَ:
مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا فِي الْقُرْآنِ مَا يَرُدُّهَا وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ فَلَعَلَّ قَوْلَهُ: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} جِيءَ بِهِ لِزَعْمِ زَاعِمٍ يَقُولُ: إنَّمَا سَجَدَ لَهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ لَا كُلُّهُمْ وَكَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ رَدًّا لِمَقَالَةِ هَؤُلَاءِ. وَمَنْ اخْتَلَجَ فِي سِرِّهِ وَجْهَ الْخُصُوصِ بَعْدَ هَذَا التَّحْقِيقِ وَالتَّوْكِيدِ فَلْيَعُزْ نَفْسَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْقُرْآنِ وَالْفَهْمِ فَإِنَّهُ لَا يَثِقُ بِشَيْءِ يُؤْخَذُ مِنْهُ يَا لَيْتَ شِعْرِي لَوْ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ سَجَدُوا وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخْبِرَنَا بِذَلِكَ فَأَيُّ كَلِمَةٍ أَتَمُّ وَأَعَمُّ أَمْ يَأْتِي قَوْلٌ يُقَالُ: أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْبَيَانِ؟.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَكَرَّرَتْ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ {وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ} وَكَذَلِكَ فِي مُحَاجَّةِ مُوسَى وَآدَمَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْقَوْلَ الْعَامَّ إذَا قُرِنَ بِهِ الْخَاصُّ وَجَبَ أَنْ يُقْرَنَ بِهِ الْبَيَانُ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ لِئَلَّا يَقَعَ السَّامِعُ فِي اعْتِقَادِ الْجَهْلِ؛ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ دَلِيلُ تَخْصِيصٍ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِالْعُمُومِ. وَقَالَ آخَرُونَ - وَهُوَ الْأَصْوَبُ -: يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ لَكِنْ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ وَإِذَا كَانَتْ الْقِصَّةُ قَدْ تَكَرَّرَتْ وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَيْسَ دَعْوَى الْخُصُوصِ فِيهَا مِنْ الْبُهْتَانِ. وَأَمَّا إنْكَارُهُمْ لِسُجُودِ الكروبيين فَلَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنَّهُمْ سَجَدُوا طَاعَةً وَعِبَادَةً لِرَبِّهِمْ وَزَادَ قَائِلُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا وَالْحِكَايَاتُ الْمُرْسَلَةُ لَا تُقِيمُ حَقًّا وَلَا تَهْدِمُ بَاطِلًا؛ وَتَفْسِيرُهُمْ {الْعَالِينَ} بالكروبيين قَوْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِلَا عِلْمٍ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ إمَامٍ مُتَّبَعٍ. وَلَا فِي اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَقِيلَ: {أَسْتَكْبَرْتَ} أَطَلَبْت أَنْ تَكُونَ كَبِيرًا مِنْ هَذَا الْوَقْتِ؟ أَمْ كُنْت عَالِيًا قَبْلَ ذَلِكَ؟ وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى تَفْسِيرِ كَلَامِ اللَّهِ بِآرَائِنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَفْسِيرِهِ. وَهَاهُنَا (سُؤَالٌ ثَالِثٌ وَهُوَ: أَنَّ السُّجُودَ لَهُ قَدْ يَكُونُ السَّاجِدُونَ سَجَدُوا لَهُ مَعَ فَضْلِهِمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْفَاضِلَ قَدْ يَخْدُمُ الْمَفْضُولَ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى غَيْرُ مُسْتَنْكَرَةٍ؛ فَإِنَّ سَيِّدَ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ النَّاسِ وَأَنْفَعُ النَّاسِ لِلنَّاسِ لَكِنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي الْحَقِيقَةِ يَعُودُ إلَيْهِ ثَوَابُهَا وَتَمَامُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ يَحْصُلُ بِنَفْعِ خَلْقِهِ فَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يُورَدَ عَلَى مَنْ احْتَجَّ بِتَدْبِيرِهِمْ لَنَا فَفَضَّلَهُمْ عَلَيْنَا لِكَثْرَةِ مَنْفَعَتِهِمْ لَنَا وَأَمَّا نَفْسُ السُّجُودِ فَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلسُّجُودِ لَهُ إلَّا مُجَرَّدَ تَعْظِيمٍ وَتَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ وَلَا يَصْلُحُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَكُونَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ أَسْفَلَ مِمَّنْ دُونَهُ وَتَحْتَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْمُحَقَّقُ؛ لَا الْمُتَوَهَّمُ؛ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّ تَحْتَهُ سِرًّا.
__________
Q (1) هكذا بالأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (54)
من صــ 113 الى صــ 118
الدَّلِيلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ قَصَصًا عَنْ إبْلِيسَ: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}؟. فَإِنَّ هَذَا نَصٌّ فِي تَكْرِيمِ آدَمَ عَلَى إبْلِيسَ إذْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ لَهُ. الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَلَائِكَة ُ لَمْ يَخْلُقْهُمْ بِيَدِهِ بَلْ بِكَلِمَتِهِ وَهَذَا يَقُولُهُ جَمِيعُ مَنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ سُنِّيُّهُمْ وَمُبْتَدِعُهُم ْ - بَلْ وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَإِنَّ النَّاسَ فِي يَدَيْ اللَّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: -
أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: يَدَا اللَّهِ صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ حُكْمُهَا حُكْمُ جَمِيعِ صِفَاتِهِ:
مِنْ حَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكَلَامِهِ. فَيُثْبِتُونَ جَمِيعَ صِفَاتِهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهَا أَنْبِيَاؤُهُ وَإِنْ شَارَكَتْ أَسْمَاءُ صِفَاتِهِ أَسْمَاءَ صِفَاتِ غَيْرِهِ. كَمَا أَنَّ لَهُ أَسْمَاءً قَدْ يُسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ مِثْلُ: رَءُوفٌ رَحِيمٌ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ حَلِيمٌ صَبُورٌ شَكُورٌ قَدِيرٌ مُؤْمِنٌ عَلِيٌّ عَظِيمٌ كَبِيرٌ مَعَ نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمُمَاثَلَة ِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالتَّنْزِيهِ وَنِسْبَةُ صِفَاتِهِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ خَلْقِهِ إلَيْهِ وَالنِّسْبَةُ وَالْإِضَافَةُ تُشَابِهُ النِّسْبَةَ وَالْإِضَافَةَ. وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَاءَ الِاشْتِرَاكُ فِي أَسْمَائِهِ وَأَسْمَاءِ صِفَاتِهِ كَمَا شُبِّهَتْ الرُّؤْيَةُ بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تَشْبِيهًا لِلرُّؤْيَةِ لَا لِلْمَرْئِيِّ كَمَا ضَرَبَ مَثَلَهُ مَعَ عِبَادِهِ الْمَمْلُوكِينَ كَمَثَلِ بَعْضِ خَلْقِهِ مَعَ مَمْلُوكِيهِمْ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ مِجْلَاةُ شُبْهَةٍ وَمِصْفَاةُ كَدَرٍ فَجَمِيعُ مَا نَسْمَعُهُ وَيُنْسَبُ إلَيْهِ وَيُضَافُ: مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ:
هُوَ كَمَا يَلِيقُ بِاللَّهِ وَيَصْلُحُ لِذَاتِهِ. وَالْفَرِيقَانِ الْآخَرَانِ - أَهْلُ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ -: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَدٌ كَيَدِي - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ - وَأَهْلُ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ يَقُولُونَ: الْيَدَانِ هُمَا: النِّعْمَتَانِ وَالْقُدْرَتَان ِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا. وَبِكُلِّ حَالٍ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ لِآدَمَ فَضِيلَةً وَمَزِيَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ إذْ خَلَقَهُ بِيَدِهِ. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ فِي النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى آدَمَ حِينَ قَالَ لَهُ مُوسَى: " خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ ". وَكَذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فِي النِّعَمِ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا مِنْ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ دُونَ الَّذِي شُورِكَ فِيهَا فَهَذَا بَيَانٌ وَاضِحٌ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ كَمَا ذَكَرَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : " {لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْت لَهُ كُنْ فَكَانَ} ".
(الدَّلِيلُ الرَّابِعُ: مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى تَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} وَاسْمُ {الْعَالَمِينَ} يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَفِيهِ نَظَرٌ؟ لِأَنَّ أَصْنَافَ الْعَالَمِينَ قَدْ يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ أَصْنَافِ الْخَلْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْآدَمِيُّونَ فَقَطْ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} وَهُمْ كَانُوا لَا يَأْتُونَ الْبَهَائِمَ وَلَا الْجِنَّ. وَقَدْ يُرَادُ بِالْعَالَمِينَ أَهْلُ زَمَنٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. فَقَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} الْآيَةَ. تَحْتَمِلُ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بَنُو آدَمَ فَقَطْ.
وَلِلْمُحْتَجِّ بِهَا أَنْ يَقُولَ: اسْمُ الْعَالَمِينَ عَامٌّ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ اللَّهُ وَهِيَ آيَاتٌ لَهُ وَدَلَالَاتٌ عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا أُولُو الْعِلْمِ مِنْهُمْ مِثْلُ: الْمَلَائِكَةُ فَيَجِبُ إجْرَاءُ الِاسْمِ عَلَى عُمُومِهِ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْخُصُوصَ. وَقَدْ احْتَجَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الْآيَةَ. وَهُوَ دَلِيلٌ ضَعِيفٌ بَلْ هُوَ بِالضِّدِّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ. (الدَّلِيلُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى تَفْضِيلِ الْخَلِيفَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
" أَوَّلُهُمَا " أَنَّ الْخَلِيفَةَ يُفَضَّلُ عَلَى مَنْ هُوَ خَلِيفَةٌ عَلَيْهِ وَقَدْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ وَهَذَا غَايَتُهُ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ. " وَثَانِيهُمَا ": أَنَّ الْمَلَائِكَةَ طَلَبَتْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الِاسْتِخْلَافُ فِيهِمْ وَالْخَلِيفَةُ مِنْهُمْ حَيْثُ قَالُوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الْآيَةَ. فَلَوْلَا أَنَّ الْخِلَافَةَ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ أَعْلَى مِنْ دَرَجَاتِهِمْ لَمَّا طَلَبُوهَا وَغَبَطُوا صَاحِبَهَا.
الدَّلِيلُ السَّابِعُ (1): تَفْضِيلُ بَنِي آدَمَ عَلَيْهِمْ بِالْعِلْمِ حِينَ سَأَلَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ عِلْمِ الْأَسْمَاءِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ؛ وَاعْتَرَفُوا أَنَّهُمْ لَا يُحْسِنُونَهَا فَأَنْبَأَهُمْ آدَمَ بِذَلِكَ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
وَالدَّلِيلُ الثَّامِنُ (2): وَهُوَ أَوَّلُ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَزِّمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " {لَزَوَالُ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ وَالْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ عِنْدَهُ} ".
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ . ثُمَّ ذَكَرَ مَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ عَنْ {أَبِي هُرَيْرَةَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ كَلَامًا قَالَ فِي آخِرِهِ: اُدْنُوا وَوَسِّعُوا لِمَنْ خَلْفَكُمْ فَدَنَا النَّاسُ وَانْضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنُوَسِّعُ لِلْمَلَائِكَةِ أَوْ لِلنَّاسِ؟ قَالَ: لِلْمَلَائِكَةِ إنَّهُمْ إذَا كَانُوا مَعَكُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيكُمْ وَلَا مِنْ خَلْفِكُمْ وَلَكِنْ عَنْ أَيْمَانِكُمْ وَشَمَائِلِكُمْ . قَالُوا: وَلَمْ لَا يَكُونُونَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا؟ أَمِنْ فَضْلِنَا عَلَيْهِمْ أَوْ مَنْ فَضْلِهِمْ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ} ".
رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَفِيهِ الْقَطْعُ بِفَضْلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لَكِنْ لَا يُعْرَفُ حَالُ إسْنَادِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ إسْنَادِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رويم قَالَ: أَخْبَرَنِي الْأَنْصَارِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: رَبَّنَا خَلَقْتنَا وَخَلَقْت بَنِي آدَمَ فَجَعَلْتهمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ وَيَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ وَيَنَامُونَ وَيَسْتَرِيحُون َ وَلَمْ تَجْعَلْ لَنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَاجْعَلْ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةَ}. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا كَمَا تَقَدَّمَ مَوْقُوفًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ.
وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ زِيدَ فِي عِلْمِهِ وَفِقْهِهِ وَوَرَعِهِ حَتَّى إنْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ لَيَدَعُ مَجَالِسَ قَوْمِهِ وَيَأْتِيَ مَجْلِسَهُ فَلَامَهُ الزُّهْرِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّمَا يَجْلِسُ حَيْثُ يَنْتَفِعُ؛ أَوْ قَالَ يَجِدُ صَلَاحَ قَلْبِهِ. وَقَدْ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ نَحْوُ أَرْبَعُمِائَةِ طَالِبٍ لِلْعِلْمِ أَدْنَى خَصْلَةٍ فِيهِمْ الْبَاذِلُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا يَسْتَأْثِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَلَا يَقُولُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ إلَّا عَنْ. . . (3) بَيِّنٍ وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْظَمُ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِهِ. وَأَقَلُّ مَا فِي هَذِهِ الْآثَارِ أَنَّ السَّلَف الْأَوَّلِينَ كَانُوا يَتَنَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ: أَنَّ صَالِحِي الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ وَلَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ إنَّمَا ظَهَرَ الْخِلَافُ بَعْدَ تَشَتُّتِ الْأَهْوَاءِ بِأَهْلِهَا وَتَفَرُّقِ الْآرَاءِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ كَالْمُسْتَقِرّ ِ عِنْدَهُمْ.
الدَّلِيلُ الْحَادِي عَشَرَ (4): أَحَادِيثُ الْمُبَاهَاةِ مِثْلُ: {إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَيُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِالْحَاجِّ وَكَذَلِكَ يُبَاهِي بِهِمْ الْمُصَلِّينَ يَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي قَدْ قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى} وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَالْمُبَاهَاةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْأَفَاضِلِ. فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْأَخْبَارُ رَوَاهَا آحَادٌ غَيْرُ مَشْهُورِينَ وَلَا هِيَ بِتِلْكَ الشُّهْرَةِ فَلَا تُوجِبُ عِلْمًا وَالْمَسْأَلَةُ عِلْمِيَّةٌ. قُلْنَا: " أَوَّلًا " مَنْ قَالَ إنَّ الْمُطْلَقَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ نَقِيضُهُ؟ بَلْ يَكْفِي فِيهَا الظَّنُّ الْغَالِبُ وَهُوَ حَاصِلٌ. ثُمَّ مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
عِلْمِيَّةٌ؟ أَتُرِيدُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ؟ فَهَذَا مُسْلِمٌ. وَلَكِنْ كُلُّ عَقْلٍ رَاجِحٌ يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ فَإِنَّهُ عِلْمٌ وَإِنْ كَانَ فِرْقَةٌ مِنْ النَّاسِ لَا يُسَمَّوْنَ عِلْمًا إلَّا مَا كَانَ يَقِينًا لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَاضَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ َ مُؤْمِنَاتٍ} وَقَدْ اسْتَوْفَى الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنْ أُرِيدَ عِلْمِيَّةٌ: لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ الِاسْتِيقَانُ؛ فَهَذَا لَغْوٌ مِنْ الْقَوْلِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَوَجَبَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْكَلَامِ فِي كُلِّ أَمْرٍ غَيْرِ عِلْمِيٍّ إلَّا بِالْيَقِينِ وَهُوَ تَهَافُتٌ بَيِّنٌ.
__________
Q (1، 2) هكذا بالأصل
Q (1) بياض بالأصل
والظاهر أن العبارة: (إلا عن علم بين) أو نحوها.
Q (4) هكذا بالأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (55)
من صــ 119 الى صــ 125
ثم نقول: هي بمجموعها وانضمام بعضها إلى بعض ومجيئها من طرق متباينة قد توجب اليقين لأولي الخبرة بعلم الإسناد وذوي البصيرة بمعرفة الحديث ورجاله فإن هذا علم اختصوا به كما اختص كل قوم بعلم؛ وليس من لوازم حصول العلم لهم حصوله لغيرهم إلا أن يعلموا ما علموا مما به يميزون بين صحيح الحديث وضعيفه.
والعلوم على اختلاف أصنافها وتباين صفاتها لا توجب اشتراك العقلاء فيها لا سيما السمعيات الخبريات وإن زعم فرقة من أولي الجدل أن الضروريات يجب الاشتراك فيها فإن هذا حق في بعض الضروريات؛ لا في جميعها مع تجويزنا عدم الاشتراك في شيء من الضروريات لكن جرت سنة الاشتراك بوقوع الاشتراك في بعضها فغلط أقوام فجعلوا وجوب الاشتراك في جميعها فجحدوا كثيرا من العلم الذي اختص به غيرهم.
ثم نقول: لو فرضنا أنها لا تفيد العلم وإنما تفيد ظنا غالبا؛ أو أن المطلوب هو الاستيقان؛ فنقول: المطلوب حاصل بغير هذه الأحاديث وإنما هي مؤكدة مؤيدة لتجتمع أجناس الأدلة على هذه المقالة.
الدليل الثاني عشر (1): قد كان السلف يحدثون الأحاديث المتضمنة فضل صالحي البشر على الملائكة وتروى على رءوس الناس ولو كان هذا منكرا لأنكروه فدل على اعتقادهم ذلك. وهذا إن لم يفد اليقين القاطع فإن بعض الظن لم يقصر عن القوي الغالب وربما اختلف ذلك باختلاف الناس واختلاف أحوالهم.
الدليل الثالث عشر (2): وهو البحث الكاشف عن حقيقة المسألة - وهو أن نقول: التفضيل إذا وقع بين شيئين فلا بد من معرفة الفضيلة ما هي؟ ثم ينظر أيهما أولى بها؟.
وأيضا فإنا إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة ونالوا الزلفى وسكنوا الدرجات العلى وحياهم الرحمن وخصهم بمزيد قربه وتجلى لهم؛ يستمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم وقامت الملائكة في خدمتهم بإذن ربهم. فلينظر الباحث في هذا الأمر فإن أكثر الغالطين لما نظروا في الصنفين رأوا الملائكة بعين التمام والكمال ونظروا الآدمي وهو في هذه الحياة الخسيسة الكدرة التي لا تزن عند الله جناح بعوضة وليس هذا بالإنصاف. فأقول: فضل أحد الذاتين على الأخرى إنما هو بقربها من الله تعالى ومن مزيد اصطفائه وفضل اجتبائه لنا وإن كنا نحن لا ندرك حقيقة ذلك. هذا على سبيل الإجمال وعلى حسب الأمور التي هي في نفسها خبر محض وكمال صرف مثل الحياة والعلم والقدرة والزكاة والطهارة والطيب والبراءة من النقائص والعيوب فنتكلم على الفضلين: (أما الأول: فإن جنة عدن خلقها الله تعالى وغرسها بيده ولم يطلع على ما فيها ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وقال لها: تكلمي فقالت: قد أفلح المؤمنون.
جاء ذلك في أحاديث عديدة وأنه ينظر إليها في كل سحر وهي داره فهذه كرامة الله تعالى لعباده المؤمنين التي لم يطلع عليها أحد من الملائكة ومعلوم أن الأعلين مطلعون على الأسفلين من غير عكس ولا يقال: هذا في حق المرسلين فإنها إنما بنيت لهم لكن لم يبلغوا بعد إبان سكناها وإنما هي معدة لهم؛ فإنهم ذاهبون إلى كمال ومنتقلون إلى علو وارتفاع وهو جزاؤهم وثوابهم. وأما الملائكة فإن حالهم اليوم شبيهة بحالهم بعد ذلك فإن ثوابهم متصل وليست الجنة مخلوقة (3)
وتصديق هذا قوله تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}. فحقيقة ما أعده الله لأوليائه غيب عن الملائكة وقد غيب عنهم أولا حال آدم في النشأة الأولى وغيرها. وفضل عباد الله الصالحين يبين فضل الواحد من نوعهم؛ فالواحد من نوعهم إذا ثبت فضلهم على جميع الأعيان والأشخاص ثبت فضل نوعهم على جميع الأنواع إذ من الممتنع ارتفاع شخص من أشخاص النوع المفضول إلى أن يفوق جميع الأشخاص والأنواع الفاضلة فإن هذا تبديل الحقائق وقلب الأعيان عن صفاتها النفسية؛ لكن ربما فاق بعض أشخاص النوع الفاضل مع امتياز ذلك عليه بفضل نوعه وحقيقته كما أن في بعض الخيل ما هو خير من بعض الخيل ولا يكون خيرا من جميع الخيل. إذا تبين هذا فقد حدث العلماء المرضيون وأولياؤه المقبولون: أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه ربه على العرش معه. روى ذلك محمد بن فضيل عن ليث عن مجاهد؛ في تفسير:
{عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} وذكر ذلك من وجوه أخرى مرفوعة وغير مرفوعة قال ابن جرير: وهذا ليس مناقضا لما استفاضت به الأحاديث من أن المقام المحمود هو الشفاعة باتفاق الأئمة من جميع من ينتحل الإسلام ويدعيه لا يقول إن إجلاسه على العرش منكرا (4) - وإنما أنكره بعض الجهمية ولا ذكره في تفسير الآية منكر -. وإذا ثبت فضل فاضلنا على فاضلهم ثبت فضل النوع على النوع أعني صالحنا عليهم.
" وأما الذوات " فإن ذات آدم خلقها الله بيده وخلقها الله على صورته ونفخ فيه من روحه ولم يثبت هذا لشيء من الذوات وهذا بحر يغرق فيه السابح لا يخوضه إلا كل مؤيد بنور الهداية وإلا وقع إما في تمثيل أو في تعطيل. فليكن ذو اللب على بصيرة أن وراء علمه مرماة بعيدة وفوق كل ذي علم عليم. وليوقن كل الإيقان بأن ما جاءت به الآثار النبوية حق ظاهرا وباطنا وإن قصر عنه عقله ولم يبلغه علمه
{فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} فلا تلجن باب إنكار ورود إمساك وإغماض - ردا لظاهره وتعجبا من باطنه - حفظا لقواعدك التي كتبتها بقواك وضبطتها بأصولك التي عقلتك عن جناب مولاك. إياك مما يخالف المتقدمين من التنزيه وتوق التمثيل والتشبيه ولعمري إن هذا هو الصراط المستقيم؛ الذي هو أحد من السيف؛ وأدق من الشعر ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
وأما الصفات التي تتفاضل فمن ذلك الحياة السرمدية والبقاء الأبدي في الدار الآخرة وليس للملك أكثر من هذا؛ وإن كانت حياتنا هذه منغوصة بالموت فقد أسلفت أن التفضيل إنما يقع بعد كمال الحقيقتين حتى لا يبقى إلا البقاء وغير ذلك من العلم الذي امتازت به الملائكة.
فنقول: غير منكر اختصاص كل قبيل من العلم بما ليس للآخر فإن الوحي للرسل على أنحاء كما قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} فبين أن الكلام للبشر على ثلاثة أوجه: منها واحد يكون بتوسط الملك. ووجهان آخران ليس للملك فيهما وحي وأين الملك من ليلة المعراج ويوم الطور وتعليم الأسماء وأضعاف ذلك؟.
ولو ثبت أن علم البشر في الدنيا لا يكون إلا على أيدي الملائكة - وهو والله باطل - فكيف يصنعون بيوم القيامة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " {فيفتح الله علي من محامده والثناء عليه بأشياء يلهمنيها لم يفتحها على أحد قبلي} ". وإذا تبين هذا: أن العلم مقسوم من الله؛ وليس كما زعم هذا الغبي بأنه لا يكون إلا بأيدي الملائكة على الإطلاق وهو قول بلا علم بل الذي يدل عليه القرآن أن الله تعالى اختص آدم بعلم لم يكن عند الملائكة وهو علم الأسماء الذي هو أشرف العلوم وحكم بفضله عليهم لمزيد العلم فأين العدول عن هذا الموضع إلى بنيات الطريق؟ ومنها القدرة. وزعم بعضهم أن الملك أقوى وأقدر وذكر قصة جبرائيل بأنه شديد القوى وأنه حمل قرية قوم لوط على ريشة من جناحه فقد آتى الله بعض عباده أعظم من ذلك فأغرق جميع أهل الأرض بدعوة نوح وقال النبي صلى الله عليه وسلم " {إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} " {ورب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره} وهذا عام في كل الأشياء وجاء تفسير ذلك في آثار: إن من عباد الله من لو أقسم على الله أن يزيل جبلا أو الجبال عن أماكنها لأزالها وأن لا يقيم القيامة لما أقامها وهذا مبالغة. ولا يقال:
إن ذلك يفضل بقوة خلقت فيه وهذا بدعوة يدعوها لأنهما في الحقيقة يؤولان إلى واحد هو مقصود القدرة ومطلوب القوة وما من أجله يفضل القوي على الضعيف. ثم هب أن هذا في الدنيا فكيف تصنعون في الآخرة؟ وقد جاء في الأثر: " {يا عبدي أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني أجعلك تقول للشيء كن فيكون يا عبدي أنا الحي الذي لا يموت أطعني أجعلك حيا لا تموت} " وفي أثر: " {إن المؤمن تأتيه التحف من الله: من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت} " فهذه غاية ليس وراءها مرمى كيف لا وهو بالله يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي؟ فلا يقوم لقوته قوة. وأما الطهارة والنزاهة والتقديس والبراءة عن النقائص والمعائب والطاعة التامة الخاصة لله التي ليس معها معصية ولا سهو ولا غفلة وإنما أفعالهم وأقوالهم على وفق الأمر فقد قال قائل من أين للبشر هذه الصفات؟ وهذه الصفات على الحقيقة هي أسباب الفضل كما قيل: لا أعدل بالسلامة شيئا. فالجواب من وجوه:
أحدها: إنا إذا نظرنا إلى هذه الأحوال في الآخرة كانت في الآخرة للمؤمنين على أكمل حال وأتم وجه وقد قدمنا أن الكلام ليس في تفضيلهم في هذه الحياة فقط بل عند الكمال والتمام والاستقرار في دار الحيوان وفيه وجه قاطع لكل ما كان من جنس هذا الكلام فأين هم من أقوام تكون وجوههم مثل القمر ومثل الشمس لا يبولون ولا يتمخطون ولا يبصقون ما فيهم ذرة من العيب ولا من النقص
__________
Q (1) هكذا بالأصل
Q (2) هكذا بالأصل
Q (3) الظاهر أن العبارة: (وليست الجنة مخلوقة لهم).
Q (4) الصواب: منكر
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (56)
من صــ 126 الى صــ 132
الوجه الثاني: إن هذا بعينه هو الدليل على فضل الآدمي والملائكة مخلوقون على طريقة واحدة وصفة لازمة لا سبيل إلى انفكاكهم عنها والبشر بخلاف ذلك.
(الوجه الثالث: أن ما يقع من صالحي البشر من الزلات والهفوات ترفع لهم به الدرجات وتبدل لهم السيئات حسنات فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ومنهم من يعمل سيئة تكون سبب دخول الجنة ولو لم يكن - العفو أحب إليه لما ابتلي بالذنب أكرم الخلق عليه وكذلك فرحه بتوبة عبيده وضحكه من علم العبد أنه لا يغفر الذنوب إلا الله فافهم هذا فإنه من أسرار الربوبية وبه ينكشف سبب مواقعة المقربين الذنوب.
(الوجه الرابع: ما روي:" أن الملائكة لما استعظمت خطايا بني آدم ألقى الله تعالى على بعضهم الشهوة فواقعوا الخطيئة " وهو احتجاج من الله تعالى على الملائكة، وأما العبادة فقد قالوا إن الملائكة دائمو العبادة والتسبيح ومنهم قيام لا يقعدون وقعود لا يقومون وركوع لا يسجدون وسجود لا يركعون {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}.
والجواب: أن الفضل بنفس العمل وجودته لا بقدره وكثرته كما قال تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} وقال: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} ورب تسبيحة من إنسان أفضل من ملء الأرض من عمل غيره وكان إدريس يرفع له في اليوم مثل عمل جميع أهل الأرض؛ وإن الرجلين ليكونان في الصف وأجر ما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض.
وقد روي:" {أن أنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين} ". وقد قالوا: إن علماء الآدميين مع وجود المنافي والمضاد أحسن وأفضل. ثم هم في الحياة الدنيا وفي الآخرة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس؛ وأما النفع المتعدي والنفع للخلق وتدبير العالم فقد قالوا هم تجري أرزاق العباد على أيديهم وينزلون بالعلوم والوحي ويحفظون ويمسكون وغير ذلك من أفعال الملائكة. والجواب:
أن صالح البشر لهم مثل ذلك وأكثر منه ويكفيك من ذلك شفاعة الشافع المشفع في المذنبين وشفاعته في البشر كي يحاسبوا وشفاعته في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة. ثم بعد ذلك تقع شفاعة الملائكة وأين هم من قوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}؟ وأين هم عن الذين: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}؟ وأين هم ممن يدعون إلى الهدى ودين الحق؛ ومن سن سنة حسنة؟ وأين هم من قوله صلى الله عليه وسلم " {إن من أمتي من يشفع في أكثر من ربيعة ومضر} "؟ وأين هم من الأقطاب والأوتاد والأغواث؛ والأبدال والنجباء؟ (1).
فهذا - هداك الله - وجه التفضيل بالأسباب المعلومة؛ ذكرنا منه أنموذجا نهجنا به السبيل وفتحنا به الباب إلى درك فضائل الصالحين من تدبر ذلك وأوتي منه حظا رأى وراء ذلك ما لا يحصيه إلا الله وإنما عدل عن ذلك قوم لم يكن لهم من القول والعلم إلا ظاهره ولا من الحقائق إلا رسومها؛ فوقعوا في بدع وشبهات وتاهوا في مواقف ومجازات وها نحن نذكر ما احتجوا به.
(الحجة الأولى: قوله تعالى {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} والذي يريد إثبات ذل الأعاظم وانقياد الأكابر: إنما يبدأ بالأدنى فالأدنى مترقيا إلى الأعلى فالأعلى ليرقى المخاطب في فهم عظمة من انقيد له وأطيع درجة درجة؛ وإلا فلو فوجئ بانقياد الأعظم ابتداء: لما حصل تبين مراتب العظمة؛ ولو وقع ذكر الأدنى بعد ذلك ضائعا؛ بل يكون رجوعا ونقصا. ولهذا جرت فطرة الخلق أن يقال: فلان لا يأتيني وفلان يأتيني أي كيف يستنكف عن الإتيان إلي؟ وفلان أكرم منه وأعظم وهو يأتيني ولا يقال لا يأبى فلان أن يكرمك ولا من هو فوقه.
فالانتقال من المسيح إلى الملائكة دليل على فضلهم؛ كيف وقد نعتوا بالقرب الذي هو عين الفضائل و " الجواب ": زعم القاضي أن هذا ليس من عطف الأعلى على الأدنى؛ وإنما هو عطف ساذج. قال: وذلك أن قوما عبدوا المسيح وزعموا أنه ابن الله سبحانه وقوما عبدوا الملائكة وزعموا أنها بنات الله كما حكى الله تعالى عن الفريقين فبين الله تعالى في هذه: أن هؤلاء الذين عبدتموهم من دوني هم عبادي لن يستنكفوا عن عبادتي وأنهما لو استنكفا عن عبادتي لعذبتهما عذابا أليما والمسيح هو الظاهر وهو من نوع البشر وهذا الكلام فيه نظر. والله أعلم بحقيقته.
ثم نقول: إن كان هذا هو المراد فلا كلام وإن أريد أن الانتقال من الأدنى إلى الأعلى: فاعلم - نور الله قلبك وشرح صدرك للإسلام - أن للملائكة خصائص ليست للبشر؛ لا سيما في الدنيا. هذا ما لا يستريب فيه لبيب أنهم اليوم على مكان وأقرب إلى الله وأظهر جسوما وأعظم خلقا وأجمل صورا وأطول أعمارا وأيمن آثارا إلى غير ذلك من الخصال الحميدة مما نعلمه ومما لا نعلمه. وللبشر أيضا خصائص ومزايا؛ لكن الكلام في مجموع كل واحدة من المزيتين أيهما أفضل: هذا طريق ممهد لهذه الآية وما بعدها.
وهو وراء ذلك؛ فحيث جرى ما يوجب تفضيل الملك فلما تميزوا به واختصوا به من الأمور التي لا تنبغي لمن دونهم فيها أن يتفضل عليهم فيما هو من أسبابها. وذلك أن المسيح لو فرض استنكافه عن عبادة الله: فإنما هو لما أيده الله من الآيات كما أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى وغير ذلك؛ ولأنه خرج في خلقه عن بني آدم وفي عزوفه عن الدنيا وما فيها: أعطي الزهد؛ وما من صفة من هذه الصفات إلا والملائكة أظهر منه فيها فإنهم كلهم خلقوا من غير أبوين ومن غير أم؛ وقد كان فرس جبريل يحيى به التراب الذي يمر عليه؛ وعلم ما يدخر العباد في بيوتهم على الملائكة سهل.
وفي حديث {أبرص وأقرع وأعمى: أن الملك مسح عليهم فبرءوا} " فهذه الأمور التي من أجلها عبد المسيح وجعل ابن الله عز وجل للملائكة منها أوفر نصيب وأعلى منها وأعظم مما للمسيح وهم لا يستنكفون عن عبادته فهو أحق خلق أن لا يستنكف؛ وأما القرب من الله والزلفى لديه فأمور وراء هذه الآيات.
وأيضا فأقصى ما فيها تفضيلهم على المسيح؛ إذ هو في هذه الحياة الدنيا؛ وأما إذا استقر في الآخرة وكان ما كان مما لست أذكر: فمن أين يقال إنهم هناك أفضل منه؟.
(الحجة الثانية: قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك} ومثله في هود فالاحتجاج في هذا من وجوه: - أحدها: أنه قرن استقرار خزائنه وعلم الغيب بنفي القول بأنه ملك وسلبها عن نفسه في نسق واحد فإذا كان حال من يعلم الغيب ويقدر على الخزائن أفضل من حال من لا يكون كذلك: وجب أن يكون حال الملك أفضل من حال من ليس بملك وإن كان نبينا كما في الآية. وثانيها: أنه إنما نفى عن نفسه حالا أعظم من حاله الثابتة ولم ينف حالا دون حاله؛ لأن من اتصف بالأعلى فهو على ما دونه أقدر؛ فدل على أن حال الملك أفضل من حاله أن يكون ملكا وهو المطلوب.
وثالثها: ما ذكر القاضي أنه لولا ما استقر في نفوس المخاطبين من أن الملك أعظم؛ لما حسن مواجهتهم بسلب شيء هو دون مرتبته وهذا الاعتقاد الذي كان في نفوس المخاطبين: أمر قرروا عليه ولم ينكره عليهم فثبت أنه حق. والجواب من وجوه: (أحدها: أنه نفى أن يكون عالما بالغيب وعنده خزائن الله ونفى أن يكون ملكا لا يأكل ولا يشرب ولا يتمتع؛ وإذا نفى ذلك عن نفسه: لم يجب أن يكون الملك أفضل منه ألا ترى أنه لو قال: ولا أنا كاتب ولا أنا قارئ لم يدل على أن الكاتب والقارئ أفضل ممن ليس بكاتب ولا قارئ فلم يكن في الآية حجة.
وأيضا ما قال القاضي إنهم طلبوا صفات الألوهية وهي العلم والقدرة والغنى: وهي: أن يكون عالما بكل شيء قديرا على كل شيء غنيا عن كل شيء - فسلب عن نفسه صفات الألوهية ولهذا قالوا: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} وقال تعالى: محتجا عنه: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} فكأنهم أرادوا منه صفة الملائكة أن يكون متلبسا بها فإن الملائكة صمد لا يأكلون ولا يشربون والبشر لهم أجواف يأكلون ويشربون؛ فكان الأمر إلى هذه الصفة وهذا بين إن شاء الله.
(وثانيها: أن الآخر أكمل في أمر من الأمور فنفى عن نفسه حال الملك في ذلك ولم يلزم أن يكون له فضيلة يمتاز بها وقد تقدم مثل هذا فيما ذكر من حال الملك وعظمته وأنه ليس للبشر من نوعه مثله؛ ولكن لم لا قلت من غير نوعه للبشر ما هو أفضل منه؟. ولهذا إذا سئل الإنسان عما يعجز عنه: قد يقول لست بملك وإن كان المؤمن أفضل من حال الجن والملك من الملوك. (وثالثها أن أقصى ما فيه تفضيل الملك في تلك الحال ولو سلم ذلك لم ينف أن يكون فيما بعد أفضل من الملك؛ ولهذا تزيد قدرته وعلمه وغناه في الآخرة وهذا كما لو قال الصبي:
لا أقول إني شيخ ولا أقول إني عالم ومن الممكن ترقيه إلى ذلك وأكمل منه. (الحجة الثالثة: قول إبليس لآدم وحواء: {إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} تقديره كراهة أن تكونا أو لئلا تكونا؛ فلولا أن كونهما ملكين حالة هي أكمل من كونهما بشرين: لما أغراهما بها ولما ظنا أنها هي الحالة العليا؛ ولهذا قرنها بالخلود والخالد أفضل من الفاني والملك أطول حياة من الآدمي فيكون أعظم عبادة وأفضل من الآدمي.
__________
Q (1) هكذا بالأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (57)
من صــ 133 الى صــ 139
والجواب من وجوه:
أحدها: ما ذكره القاضي أن قوله: {إلا أن تكونا ملكين} ظن أن الملائكة خير منهما كما ظن أنه خير من آدم وكان مخطئا. وقوله: {أو تكونا من الخالدين} ظنا منه أنهما يؤثران الخلود؛ لما في ذلك من السلامة من الأمراض والأسقام والأوجاع والآفات والموت؛ لأن الخالد في الجنة هذه حاله ولم يخرج هذا مخرج التفضيل على الأنبياء ألا ترى أن الحور والولدان المخلوقين في الجنة خالدون فيها وليسوا بأفضل من الأنبياء؟ وثانيها أن الملك أفضل من بعض الوجوه وكذلك الخلود آثر عندهما فمالا إليه.
وثالثها: أن حالهما تلك كانت حال ابتداء لا حال انتهاء فإنهما في الانتهاء قد صارا إلى الخلود الذي لا حظر فيه ولا معه ولا يعقبه زوال وكذلك يصيران في الانتهاء إلى حال هي أفضل وأكمل من حال الملك الذي أراداها أولا وهذا بين.
الحجة الرابعة: قوله تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} فبدأ بهم والابتداء إنما يكون بالأفضل والأشرف فالأفضل والأشرف كما بدأ بذلك في قوله: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} فبدأ بالأكمل والأفضل.
والجواب: أن الابتداء قد يكون كثيرا بغير الأفضل بل يبتدأ بالشيء لأسباب متعددة كما في قوله تعالى {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم} ولم يدل ذلك على أن نوحا أفضل من إبراهيم والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل؛ وكذلك قوله: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} لا يدل على أن المسلم أفضل من المؤمن؛ فلعله - والله أعلم - إنما بدأ بهم لأن الملائكة أسبق خلقا ورسالة؛ فإنهم أرسلوا إلى الجن والإنس؛ فذكر الأول فالأول: في الخلق والرسالة: على ترتيبهم في الوجود. وقد قال تعالى: {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} والذكور أفضل من الإناث.
وقال: {والتين والزيتون} {والشمس وضحاها} الآيات. و {فيهما فاكهة ونخل ورمان} إلى غير ذلك ولم يدل التقديم في شيء من هذه المواضع على فضل المبدوء به فعلم أن التقديم ليس لازما للفضل.
(الحجة الخامسة: قوله تعالى {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} فدل على أن الملك أفضل من البشر وهن إنما أردن أن يتبين لهن حال هي أعظم من حال البشر. وقد أجابوا عنه بجوابين.
أحدهما أنهن لم يعتقدن أن الملائكة أحسن من جميع النبيين وإن لم يروهم لمخبر أخبرهم فسكن إلى خبره فلما هالهن حسنه قلن: {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} لأن هذا الحسن ليس بصفة بشر. وثانيهما: أنهن اعتقدن أن الملائكة خير من النبيين فكان هذا الاعتقاد خطأ منهن ولا يقال إنه لما لم يقرن بالإنكار دل على أنه حق فإن قولهن:
{ما هذا بشرا} خطأ. وقولهن: {إن هذا إلا ملك كريم} خطأ أيضا في غيبتهن (*) عنه أنه بشر وإثباتهن أنه ملك وإن لم يقرن بالإنكار: دل على أنه حق وأن قولهن: {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} خطأ في نفيهن عنه البشرية وإثباتهن له الملائكية؛ وإن لم يقرن بالإنكار لغيبة عقولهن عند رؤيته فلم يلمن في تلك الحال على ذلك. وأقول أيضا: إن النسوة لم يكن يقصدن أنه نبي؛ بل ولا أنه من الصالحين إذ ذاك ولم يشهدن له فضلا على غيره من البشر في الصلاح والدين وإنما شهدن بالفضل في الجمال والحسن وسباهن جماله فشبهنه بحال الملائكة وليس هذا من التفضيل في شيء من الذي نريد.
ثم نقول: إذا كان التفضيل بالجمال حقا: فقد ثبت أن أهل الجنة تدخل الزمرة الأولى ووجوههم كالشمس والذين يلونهم كالقمر الحديث؛ فهذه حال السعداء عند المنتهى وإن كان في الجمال والملك تفضيل: فإنما هو في هذه الحياة الدنيا؛ لعلم علمه النساء وأكثر الناس.
وأما ما فضل الله عباده الصالحين وما أعده الله من الكرامة: فأكثر الناس عنه بمعزل ليس لهم نظر إليه وكذلك ما آتاهم الله من العلم الذي غبطتهم الملائكة به من أول ما خلقهم وهو مما به يفضلون. فهذا الجواب وما قبله.
(الحجة السادسة: قوله تعالى {إنه لقول رسول كريم} {ذي قوة عند ذي العرش مكين} {مطاع ثم أمين} فهذه صفة جبرائيل. ثم قال: {وما صاحبكم بمجنون} فوصف جبرائيل بالكرم والرسالة والقوة والتمكين عنده وأنه مطاع وأنه أمين فوصفه بهذه الصفات الفاضلة ثم عطف عليه بقوله: {وما صاحبكم بمجنون} فأضاف الرسول البشري إلينا وسلب عنه الجنون وأثبت له رؤية جبرائيل ونفى عنه البخل والتهمة وفي هذا تفاوت عظيم بين البشر والملائكة وبين الصفات والنعم وهذا قاله بعض المعتزلة زل به عن سواء السبيل. والجواب: أولا: أين هو من قوله: {ألم نشرح لك صدرك} إلى آخرها وقوله: {والضحى} {والليل إذا سجى}؟ وقوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} الآيات: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}؟.
وأين هو عن قصة المعراج التي تأخر فيها جبرائيل عن مقامه؟ ثم أين هو عن الخلة؟ وهو التقريب؛ فهذا نزاع من لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم قدره.
ثم نقول ثانيا: لما كان جبرائيل هو الذي جاء بالرسالة وهو صاحب الوحي وهو غيب عن الناس؛ لم يروه بأبصارهم ولم يسمعوا كلامه بآذانهم وزعم زاعمون أن الذي يأتيه شيطان يعلمه ما يقول أو أنه إنما يعلمه إياه بعض الإنس. أخبر الله العباد أن الرسول الذي جاء به ونعته أحسن النعت.
وبين حاله أحسن البيان وذلك كله إنما هو تشريف لمحمد صلى الله عليه وسلم ونفى عنه ما زعموه وتقرير للرسالة؛ إذ كان هو صاحبه الذي يأتي بالوحي فقال: {إنه لقول رسول كريم} أي أن الرسول البشري لم ينطق به من عند نفسه وإنما هو مبلغ يقول ما قيل له؛ فكان في اسم الرسول إشارة إلى محض التوسط والسعاية.
ثم وصفه بالصفات التي تنفي كل عيب؛ من القوة والمكنة والأمانة والقرب من الله سبحانه فلما استقر حال الرسول الملكي بين أنه من جهته وأنه لا يجيء إلا بالخير. وكان الرسول البشري معلوم ظاهره عندهم وهو الذي يبلغهم الرسالة ولولا هؤلاء لما أطاقوا الأخذ عن الرسول الملكي؛ وإنما قال: {صاحبكم} إشارة إلى أنه قد صحبكم سنين قبل ذلك ولا سابقة له بما تقولون فيه وترمونه؛ من الجنون والسحر وغير ذلك؛ وأنه لولا سابقته وصحبته إياكم لما استطعتم الأخذ عنه؛ ألا تسمعه يقول:{ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا} - تمييزا - من المرسلين؛ ثم حقق رسالته بأنه رأى جبرائيل وأنه مؤتمن على ما يأخذه عنه فقام أمر الرسالة بهاتين الصفتين وجاء على الوجه الأبلغ والأكمل والأصلح. وقد احتجوا بآيات تقدم التنبيه على مقاصدها؛ من وصف الملائكة بالتسبيح والطاعة والعبادة وغير ذلك.
(الحجة السابعة: الحديث المشهور الصحيح عن الله عز وجل أنه قال: {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} ".
والملأ الذي يذكر الله الذاكر فيه هم: (الملائكة وقد نطق الحديث بأنهم أفضل من الملأ الذين يذكر العبد فيهم ربه وخير منهم وقد قال بعضهم: وكم من ملإ ذكر الله فيه والرسول حاضر فيهم؛ بل وقع ذلك في مجالس الرسول كلهم فأين العدول عن هذا الحديث الصحيح الجواب:
أن هذا الحديث صحيح وهو أجود وأقوى ما احتجوا به وقد أجابوا عنه بوجهين:
أحدهما أضعف من الآخر وهو أن الخير يجوز أن يرجع إلى الذكر لا إلى المذكور فيهم تقديره ذكرته ذكرا خيرا من ذكره لأن ذكر الله كلامه وهذا ليس بشيء فإن الخير مجرور صفة للملإ وقد وصل بقوله منهم ولم يقل منه ولولا ذلك المعنى لقيل ذكرته في ملإ خيرا منه بالنصب وصلة الضمير الذكر. وهذا من أوضح الكلام لمن له فقه بالعربية ونعوذ بالله من التنطع.
(وثانيهما أنه محمول على ملأ خير منه ليس فيهم نبي فإن الحديث عام عموما مقصودا شاملا كيف لا؛ والأنبياء والأولياء هم أهل الذكر ومجالسهم مجالس الرحمة؟ فكيف يجيء استثناؤهم؟ لكن هنا أوجه متوجهة: - (أحدها: " أن الملأ الأعلى " الذين يذكر الله من ذكره فيهم: هم صفوة الملائكة وأفضلهم والذاكر فيهم للعبد هو الله يقال ينبغي أن يفرض على موازنة أفضل بني آدم يجتمعون في مجلس نبيه صلى الله عليه وسلم وإن كان أفضل البشر لكن الذين حوله ليس أفضل من بقي من البشر الفضلاء فإن الرسل والأنبياء أفضل منهم.
(وثانيها: أن مجلس أهل الأرض إن كان فيه جماعة من الأنبياء يذكر العبد فيهم ربه: فالله تعالى يذكر العبد في جماعات من الملائكة أكثر من أولئك فيقع الخير للكثرة التي لا يقوم لها شيء فإن الجماعة كلما كثروا كانوا خيرا من القليل. (وثالثها: أنه لعله في الملإ الأعلى جماعة من الأنبياء يذكر الله العبد فيهم؛ فإن أرواحهم هناك.
__________
Q (*) كذا، وهو تصحيف صوابه: نفيهن.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (58)
من صــ 140 الى صــ 146
ورابعها: أن من الناس من فرق بين الخير والأفضل فيقال الخير للأنفع
وخامسها: أنه لا يدل على أن الملأ الأعلى أفضل من هؤلاء الذاكرين إلا في هذه الدنيا وفي هذه الحال لأنهم لم يكملوا بعد ولم يصلحوا أن يصيروا أفضل من الملأ الأعلى فالملأ الأعلى خير منهم في هذه الحالة كما يكون الشيخ العاقل خيرا من عامة الصبيان لأنه إذ ذاك فيه من الفضل ما ليس في الصبيان ولعل في الصبيان في عاقبته أفضل منه بكثير ونحن إنما نتكلم على عاقبة الأمر ومستقره. فليتدبر هذا فإنه جواب معتمد إن شاء الله؛ والله سبحانه أعلم بحقائق خلقه وأفاضلهم وأحكم في تدبيرهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا ما تيسر تعليقه وأنا عجلان في حين من الزمان والله المستعان وهو المسئول أن يهدي قلوبنا ويسدد ألسنتنا وأيدينا والحمد لله رب العالمين.
(وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35)
(فصل في الرد على ابن إسرائيل وشيخه)
قال ابن إسرائيل الأمر أمران: أمر بواسطة وأمر بغير واسطة فالأمر الذي بالوسائط رده من شاء الله وقبله من شاء الله والأمر الذي بغير واسطة لا يمكن رده وهو قوله تعالى {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}. فقال له فقير: إن الله قال لآدم بلا واسطة: لا تقرب الشجرة - فقرب وأكل.
فقال: صدقت وذلك أن آدم إنسان كامل؛ ولذلك قال شيخنا علي الحريري: آدم صفي الله تعالى كان توحيده ظاهرا وباطنا فكان قوله لآدم " لا تقرب الشجرة " ظاهرا وكان أمره " كل " باطنا فأكل فكذلك قوله تعالى. وإبليس كان توحيده ظاهرا فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرا فلم يسجد. فغير الله عليه وقال: {اخرج منها}.
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وأما ما ذكره عن شيخه من أن آدم كان توحيده ظاهرا وباطنا فكان قوله " لا تقرب " ظاهرا وكان أمره " بكل " باطنا. فيقال: إن أريد بكونه قال " كل " باطنا أنه أمره بذلك في الباطن أمر تشريع ودين: فهذا كذب وكفر وإن كان أراد أنه خلق ذلك وقدره وكونه: فهذا قدر مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
وإن قيل: إن آدم شهد الأمر الكوني القدري وكان مطيعا لله بامتثاله له. كما يقول هؤلاء: إن العارف الشاهد للقدر يسقط عنه الملام. فهذا مع أنه معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام فهو كفر باتفاق المسلمين.
فيقال: الأمر الكوني يكون موجودا قبل وجود المكون لا يسمعه العبد وليس امتثاله مقدورا له بل الرب هو الذي يخلق ما كونه بمشيئته وقدرته والله تعالى ليس له شريك في الخلق والتكوين. والعبد وإن كان فاعلا بمشيئته وقدرته والله خالق كل ذلك فتكوين الله للعبد ليس هو أمرا لعبد موجود في الخارج يمكنه الامتثال وكذلك ما خلقه من أحواله وأعماله: خلقه بمشيئته وقدرته و: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر.
وأكل آدم من الشجرة وغير ذلك من الحوادث: داخل تحت هذا كدخول آدم؛ فنفس أكل آدم هو الداخل تحت هذا الأمر كما دخل آدم. فقول القائل: إنه قال لآدم في الباطن: " كل " مثل قوله إنه قال للكافر اكفر وللفاسق افسق والله لا يأمر بالفحشاء ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يوجد منه خطاب باطن ولا ظاهر للكفار والفساق والعصاة: بفعل الكفر والفسوق والعصيان وإن كان ذلك واقعا بمشيئته وقدرته وخلقه وأمره الكوني فالأمر الكوني ليس هو أمرا للعبد أن يفعل ذلك الأمر بل هو أمر تكوين لذلك الفعل في العبد أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال.
فهو سبحانه الذي خلق الإنسان هلوعا {إذا مسه الشر جزوعا} {وإذا مسه الخير منوعا} وهو الذي جعل المسلمين مسلمين كما قال الخليل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} فهو سبحانه جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها وأمره لهم بذلك أمر تكوين بمعنى أنه قال لهم كونوا كذلك فيكونون كذلك كما قال للجماد: كن فيكون.
فأمر التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا إرادته ولا قدرته لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله كما يعلم ما جرى به القدر في أحوال غيره وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن؛ بخلاف ما أمره في الظاهر بل أمره بالطاعة باطنا وظاهرا ونهاه عن المعصية باطنا وظاهرا وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطنا وظاهرا وخلق العبد وجميع أعماله باطنا وظاهرا وكون ذلك بقوله " كن " باطنا وظاهرا.
[قاعدة: وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر بل القدر يؤمن به ولا يحتج به والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين متناقض]
فإن القدر إن كان حجة وعذرا: لزم أن لا يلام أحد؛ ولا يعاقب ولا يقتص منه وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه - إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته - أن لا ينتصر من الظالم ولا يغضب عليه ولا يذمه؛ وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن أحد أن يفعله فهو ممتنع طبعا محرم شرعا.
ولو كان القدر حجة وعذرا: لم يكن إبليس ملوما ولا معاقبا ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار ولا كان جهاد الكفار جائزا ولا إقامة الحدود جائزا ولا قطع السارق ولا جلد الزاني ولا رجمه ولا قتل القاتل ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه.
ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلا في فطر الخلق وعقولهم: لم تذهب إليه أمة من الأمم ولا هو مذهب أحد من العقلاء الذين يطردون قولهم فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد لا في دنياه ولا آخرته ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة؛ إن لم يكن أحدهما ملتزما مع الآخر نوعا من الشرع فالشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده.
لكن الشرائع تتنوع: فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل وتارة لا تكون كذلك ثم المنزلة: تارة تبدل وتغير - كما غير أهل الكتاب شرائعهم - وتارة لا تغير ولا تبدل وتارة يدخل النسخ في بعضها وتارة لا يدخل.
وأما القدر: فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه فإذا فعل فعلا محرما بمجرد هواه وذوقه ووجده؛ من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القدر كما قال المشركون: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} قال الله تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} فبين أنهم ليس عندهم علم بها كانوا عليه من الدين وإنما يتبعون الظن.
والقوم لم يكونوا ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر فإنه لو خرب أحد الكعبة؛ أو شتم إبراهيم الخليل أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه كيف وقد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من الدين وما فعله هو أيضا من المقدور.
فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة لكان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فإن كان كل ما يحدث في الوجود فهو مقدر فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر إن كان الاحتجاج به صحيحا ولكن كانوا يتعمدون على ما يعتقدونه من جنس دينهم وهم في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون. {وموسى لما قال لآدم: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم عليه السلام - فيما قال لموسى - لم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاما؟ فحج آدم موسى} لم يكن آدم عليه السلام محتجا على فعل ما نهي عنه بالقدر ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله بل آحاد المؤمنين لا يفعلون مثل هذا فكيف آدم وموسى؟.
وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه فكيف بنبي من الأنبياء؟ وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى التوبة ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها كيف وقد قال موسى {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي}
وقال: {أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} وهذا باب واسع. وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشجرة؛ ولهذا قال: {لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة}؟ واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (59)
من صــ 147 الى صــ 153
فإن الأب لو فعل فعلا افتقر به حتى تضرر بنوه فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر: لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب. والعبد مأمور أن يصبر على المقدور ويطيع المأمور وإذا أذنب استغفر. كما قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} وقال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه}. قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
فمن احتج بالقدر على ترك المأمور وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور فقد عكس الإيمان والدين وصار من حزب الملحدين المنافقين وهذا حال المحتجين بالقدر. فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عظم جزعه وقل صبره فلا ينظر إلى القدر ولا يسلم له وإذا أذنب ذنبا أخذ يحتج بالقدر فلا يفعل المأمور ولا يترك المحظور ولا يصبر على المقدور ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين وأئمة المحققين الموحدين وإنما هو من أعداء الله الملحدين وحزب الشيطان اللعين.
وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان تجد أحدهم أجبر الناس إذا قدر وأعظمهم ظلما وعدوانا وأذل الناس إذا قهر وأعظمهم جزعا ووهنا؛ كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب والمقاتلة من أصناف الناس.
والمؤمن إن قدر عدل وأحسن وإن قهر وغلب صبر واحتسب كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم - التي أولها بانت سعاد إلخ - في صفة المؤمنين: - ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم يوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا وسئل بعض العرب عن شيء من أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيته يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر. وقد قال تعالى: {قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} وقال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} وقال تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} وقال تعالى:
{وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور والتقوى يدخل فيها فعل المأمور وترك المحظور. فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير بخلاف من عكس فلا يتقي الله بل يترك طاعته متبعا لهواه ويحتج بالقدر ولا يصبر إذا ابتلي ولا ينظر حينئذ إلى القدر فإن هذا حال الأشقياء كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37)
[فصل البرهان العاشر " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه " والجواب عليه]
فصل. قال الرافضي: " البرهان العاشر: قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} [سورة البقرة: 37].
روى [الفقيه] ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن ابن عباس، قال: «سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه. قال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين أن يتوب عليه، فتاب عليه». وهذه فضيلة لم يلحقه أحد من الصحابة فيها، فيكون هو الإمام لمساواته النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوسل به إلى الله تعالى ". والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا النقل، فقد عرف أن مجرد رواية ابن المغازلي لا يسوغ الاحتجاج بها باتفاق أهل العلم.
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في " الموضوعات " عن طريق الدارقطني، فإن له كتبا في الأفراد والغرائب. قال الدارقطني: " تفرد به عمرو بن ثابت عن أبيه عن أبي المقدام، لم يروه عنه غير حسن الأشقر. قال يحيى بن معين: عمرو بن ثابت ليس ثقة ولا مأمونا. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات ". الثالث: أن الكلمات التي تلقاها آدم قد جاءت مفسرة في قوله تعالى: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [سورة الأعراف: 23]. وقد روي عن السلف هذا وما يشبهه، وليس في شيء من النقل الثابت عنهم ما ذكره من القسم. الرابع: أنه معلوم بالاضطرار أن من هو دون آدم من الكفار والفساق إذا تاب أحدهم إلى الله تاب الله عليه، وإن لم يقسم عليه بأحد. فكيف يحتاج آدم في توبته إلى ما لا يحتاج إليه أحد من المذنبين لا مؤمن ولا كافر. وطائفة قد رووا أنه توسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قبل توبته، وهذا كذب. وروي عن مالك في ذلك حكاية في خطابه للمنصور، وهو كذب على مالك، وإن كان ذكرها القاضي عياض في " الشفاء ".
الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أحدا بالتوبة بمثل هذا الدعاء، بل ولا أمر أحدا بمثل هذا الدعاء في توبة ولا غيرها، بل ولا شرع لأمته أن يقسموا على الله بمخلوق ولو كان هذا الدعاء مشروعا لشرعه لأمته.
السادس: أن الإقسام على الله بالملائكة والأنبياء أمر لم يرد به كتاب ولا سنة، بل قد نص غير واحد من أهل العلم - كأبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما - على أنه لا يجوز أن يقسم على الله بمخلوق. وقد بسطنا الكلام على ذلك.
السابع: أن هذا لو كان مشروعا فآدم نبي كريم، كيف يقسم على الله بمن هو أكرم عليه منه؟ ولا ريب أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أفضل من آدم، لكن آدم أفضل من علي وفاطمة وحسن وحسين. الثامن: أن يقال: هذه ليست من خصائص الأئمة، فإنها قد ثبتت لفاطمة.
وخصائص الأئمة لا تثبت للنساء. وما لم يكن من خصائصهم لم يستلزم الإمامة، فإن دليل الإمامة لا بد أن يكون ملزوما لها، يلزم من وجوده استحقاقها، فلو كان هذا دليلا على الإمامة لكان من يتصف به يستحقها، والمرأة لا تكون إماما بالنص والإجماع.
(ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (42)
نهي عنهما، والثاني لازم للأول مقصود بالنهي، فمن لبس الحق بالباطل كتم الحق وهو معاقب علي لبسه الحق بالباطل، وعلي كتمانه الحق، فلا يقال: النهي عن جمعهما فقط، لأنه لو كان هذا صحيحا لم يكن مجرد كتمان الحق موجبا للذم، ولا مجرد لبس الحق بالباطل موجبا للذم، وليس الأمر كذلك، فإن كتمان أهل الكتاب ما أنزل الله من البينات والهدي من بعد ما بينه للناس يستحقون به العقاب باتفاق المسلمين، وكذلك لبسهم الحق الذي أنزله الله بالباطل الذي ابتدعوه، وجمع بينهما بدون إعادة حرف النفي لأن اللبس مستلزم للكتمان، ولم يقتصر علي الملزوم لأن اللازم مقصود بالنهي.
فهذا يبين لك بعض ما في القرآن من الحكم والأسرار، وإنما كان اللبس مستلزما للكتمان لأن من لبس الحق بالباطل، كما فعله أهل الكتاب ـ حيث ابتدعوا دينا لم يشرعه الله، فأمروا بما لم يأمر به، ونهوا عما لم ينه عنه، وأخبروا بخلاف ما أخبر به ـ فلابد له أن يكتم من الحق المنزل ما يناقض بدعته، إذ الحق المنزل الذي فيه خبر بخلاف ما أخبر به إن لم يكتمه لم يتم مقصوده، وكذلك الذي فيه إباحة لما نهي عنه أو إسقاط لما أمر به.
والحق المنزل إما أمر ونهي وإباحة، وإما خبر، فالبدع الخبرية كالبدع المتعلقة بأسماء الله تعالي وصفاته والنبيين واليوم الآخر لا بد أن يخبروا فيها بخلاف ما أخبر الله به، والبدع الأمرية، كمعصية الرسول المبعوث إليهم ونحو ذلك، لا بد أن يأمروا فيها بخلاف ما أمر الله به، والكتب المتقدمة تخبر عن الرسول النبي الأمي وتأمر باتباعه.
والمقصود هنا الاعتبار، فإن بني إسرائيل قد ذهبوا أو كفروا، وإنما ذكرت قصصهم عبرة لنا، وكان بعض السلف يقول: إن بني إسرائيل ذهبوا، وإنما يعني أنتم، ومن الأمثال السائرة: إياك أعني واسمعي يا جارة فكان فيما خاطب الله بني إسرائيل عبرة لنا: أن لا نلبس الحق بالباطل، ونكتم الحق.
والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفيات، أو ذوقيات ووجديات وحقائق وغير ذلك، لا بد أن تشمل علي لبس حق بباطل وكتمان حق، وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله، فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه.
ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لا بد له أن يلبس فيه حقا بباطل، بسبب ما يقوله من الألفاظ المجملة المتشابهة.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وكل من سوى أهل السنة والحديث من الفرق فلا ينفرد عن أئمة الحديث بقول صحيح، بل لا بد أن يكون معه من دين الإسلام ما هو حق.
وبسبب ذلك وقعت الشبهة، وإلا فالباطل المحض لا يشتبه على أحد، ولهذا سمي أهل البدع أهل الشبهات، وقيل فيهم: إنهم يلبسون الحق بالباطل.
وهكذا أهل الكتاب معهم حق وباطل، ولهذا قال تعالى لهم: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} [سورة البقرة: 42]، وقال: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [سورة البقرة: 85]، وقال عنهم: {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} [سورة النساء: 150]، وقال عنهم:{وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم} [سورة البقرة: 91].
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (60)
من صــ 154 الى صــ 160
وذلك لأنهم ابتدعوا بدعا خلطوها بما جاءت به الرسل، وفرقوا دينهم وكانوا شيعا، فصار في كل فريق منهم حق وباطل، وهم يكذبون بالحق الذي مع الفريق الآخر، ويصدقون بالباطل الذي معهم.
وهذا حال أهل البدع كلهم ;
فإن معهم حقا وباطلا، فهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كل فريق يكذب بما مع الآخر من الحق ويصدق بما معه من الباطل، كالخوارج والشيعة ; فهؤلاء يكذبون بما ثبت من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويصدقون بما روي في فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويصدقون بما ابتدعوه من تكفيره وتكفير من يتولاه ويحبه. وهؤلاء يصدقون بما روي في فضائل علي بن أبي طالب، ويكذبون بما روي في فضائل أبي بكر وعمر، ويصدقون بما ابتدعوه من التكفير والطعن في أبي بكر وعمر وعثمان.
ودين الإسلام وسط بين الأطراف المتجاذبة. فالمسلمون وسط في التوحيد بين اليهود والنصارى، فاليهود تصف الرب بصفات النقص التي يختص بها المخلوق، ويشبهون الخالق بالمخلوق.
كما قالوا: إنه بخيل، وإنه فقير، وإنه لما خلق السماوات والأرض تعب. وهو سبحانه الجواد الذي لا يبخل والغني الذي لا يحتاج إلى غيره، والقادر الذي لا يمسه لغوب. والقدرة والإرادة والغنى عما سواه هي صفات الكمال التي تستلزم سائرها.
والنصارى يصفون المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها، ويشبهون المخلوق بالخالق، حيث قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، وقالوا: المسيح ابن الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}.
فالمسلمون وحدوا الله ووصفوه بصفات الكمال، ونزهوه عن جميع صفات النقص، ونزهوه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات، فهو موصوف بصفات الكمال لا بصفات النقص، وليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
وكذلك في النبوات ; فاليهود تقتل بعض الأنبياء، وتستكبر عن اتباعهم، وتكذبهم وتتهمهم بالكبائر. والنصارى يجعلون من ليس بنبي ولا رسول نبيا ورسولا، كما يقولون في الحواريين: إنهم رسل، بل يطيعون أحبارهم ورهبانهم كما تطاع الأنبياء. فالنصارى تصدق بالباطل، واليهود تكذب بالحق.
ولهذا كان في مبتدعة أهل الكلام شبه من اليهود، وفي مبتدعة أهل التعبد شبه من النصارى ; فآخر أولئك الشك والريب، وآخر هؤلاء الشطح والدعاوى الكاذبة، لأن أولئك كذبوا بالحق فصاروا إلى الشك، وهؤلاء صدقوا بالباطل فصاروا إلى الشطح، فأولئك كظلمات في بحر لجي، يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، وهؤلاء كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
فمبتدعة أهل العلم والكلام طلبوا العلم بما ابتدعوه، ولم يتبعوا العلم المشروع ويعملوا به، فانتهوا إلى الشك المنافي للعلم، بعد أن كان لهم علم بالمشروع، لكن زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، وكانوا مغضوبا عليهم.
ومبتدعة العباد طلبوا القرب من الله بما ابتدعوه في العبادة، فلم يحصل لهم إلا البعد منه ; فإنه ما ازداد مبتدع اجتهادا إلا ازداد من الله تعالى بعدا.
والبعد عن رحمته، هو اللعنة وهو غاية النصارى. وأما الشرائع فاليهود منعوا الخالق أن يبعث رسولا بغير شريعة الرسول الأول، وقالوا: لا يجوز أن ينسخ ما شرعه. والنصارى جوزوا لأحبارهم أن يغيروا من الشرائع ما أرسل الله بهم رسوله، فأولئك عجزوا الخالق، ومنعوه ما تقتضيه قدرته وحكمته في النبوات والشرائع. وهؤلاء جوزوا للمخلوق أن يغير ما شرعه الخالق، فضاهوا المخلوق بالخالق.
وكذلك في العبادات ; فالنصارى يعبدونه ببدع ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان. واليهود معرضون عن العبادات، حتى في يوم السبت الذي أمرهم الله أن يتفرغوا فيه لعبادته، إنما يشتغلون فيه بالشهوات. فالنصارى مشركون به واليهود مستكبرون عن عبادته.
والمسلمون عبدوا الله وحده بما شرع، ولم يعبدوه بالبدع. وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به جميع النبيين، وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره، وهو الحنيفية دين إبراهيم. فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر.
وقد قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [سورة النساء: 48].
وقال: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [سورة غافر: 60].
والمقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينفردون عن سائر طوائف الأمة إلا بقول فاسد، لا ينفردون قط بقول صحيح. وكل من كان عن السنة أبعد، كان انفراده بالأقوال والأفعال الباطلة أكثر. وليس في الطوائف المنتسبين إلى السنة أبعد عن آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرافضة.
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (43)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما قرنه بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جدا. فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية إذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة: يدخل في الصلاة ذكر الله تعالى ودعاؤه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه. وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع: من نصر المظلوم وإغاثة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج. ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل معروف صدقة} فيدخل فيه كل إحسان.
ولو ببسط الوجه والكلمة الطيبة. ففي الصحيحين: عن عدي بن حاتم رضي الله عنه " قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه فينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة}.
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقى}. وفي السنن {عن النبي صلى الله عليه وسلم إن أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن}. وروي {عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم سلمة: يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة}.
(فصل في الإسلام والإيمان والإحسان)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وجعل دينه ثلاث درجات: إسلام ثم إيمان ثم إحسان. وجعل الإسلام مبنيا على أركان خمسة: ومن آكدها الصلاة " وهي خمسة فروض وقرن معها الزكاة فمن آكد العبادات الصلاة وتليها الزكاة ففي الصلاة عبادته وفي الزكاة الإحسان إلى خلقه فكرر فرض الصلاة في القرآن في غير آية ولم يذكرها إلا قرن معها الزكاة.
من ذلك قوله تعالى {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وقال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} وقال: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}.
وفي الصحيحين: من حديث أبي هريرة ورواه مسلم من حديث عمر " {أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت} وعنه قال صلى الله عليه وسلم {أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله}.
{ولما بعث معاذا إلى اليمن قال له: إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب}.
فصل:
وجاء ذكر الصلاة والزكاة في القرآن مجملا فبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وإن بيانه أيضا من الوحي؛ لأنه سبحانه أنزل عليه الكتاب والحكمة.
ثم قال رحمه الله تعالى -::
فقد سمى الله الزكاة صدقة وزكاة. ولفظ الزكاة في اللغة يدل على النمو والزرع يقال فيه: زكا إذا نما ولا ينمو إلا إذا خلص من الدغل. فلهذا كانت هذه اللفظة في الشريعة تدل على الطهارة: {قد أفلح من زكاها} {قد أفلح من تزكى} نفس المتصدق تزكو وماله يزكو يطهر ويزيد في المعنى. وقد أفهم الشرع أنها شرعت للمواساة ولا تكون المواساة إلا فيما له مال من الأموال فحد له أنصبة ووضعها في الأموال النامية فمن ذلك ما ينمو بنفسه؛ كالماشية والحرث.
وما ينمو بتغير عينه والتصرف فيه كالعين وجعل المال المأخوذ على حساب التعب فما وجد من أموال الجاهلية هو أقله تعبا ففيه الخمس ثم ما فيه التعب من طرف واحد فيه نصف الخمس وهو العشر فيما سقته السماء وما فيه التعب من طرفين فيه ربع الخمس وهو نصف العشر فيما سقي بالنضح وما فيه التعب في طول السنة كالعين ففيه ثمن ذلك وهو ربع العشر.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (61)
من صــ 161 الى صــ 168
(فَصْلٌ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُقَارَنَةُ بِالْفِعْلِ وَهِيَ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: صَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ وَصُومُوا مَعَ الصَّائِمِينَ {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الرُّكُوعِ بِذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالصَّلَاةُ كُلُّهَا تُفْعَلُ مَعَ الْجَمَاعَةِ. قِيلَ: خَصَّ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ تُدْرَكُ بِهِ الصَّلَاةُ فَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ فَأَمَرَ بِمَا يُدْرَكُ بِهِ الرَّكْعَةُ كَمَا قَالَ لِمَرْيَمَ: {اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: اُقْنُتِي مَعَ الْقَانِتِينَ لَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ إدْرَاكِ الْقِيَامِ وَلَوْ قِيلَ: اُسْجُدِي لَمْ يَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ إدْرَاكِ الرُّكُوعِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ وَمَا بَعْدَهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا سُنَّةٌ وَقِيلَ: إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَقِيلَ: إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَا فِي حَالِ الْخَوْفِ فَفِي حَالِ الْأَمْنِ أَوْلَى وَآكَدُ.
وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى. {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} وَهَذَا أَمْرٌ بِهَا.
وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأَجِبْ وَفِي رِوَايَةٍ مَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً}وَابن أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {عَبَسَ وَتَوَلَّى} {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا رُخْصَةَ لِمُؤْمِنِ فِي تَرْكِهَا.
وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ: " {لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالِ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ}. وَفِي رِوَايَةٍ " {لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَحْرِيقِ الْمُتَخَلِّفِي نَ عَنْ الْجَمَاعَةِ مَنْ فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ فَإِنَّ تَعْذِيبَ أُولَئِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا جَمَاعَةَ عَلَيْهِمْ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ أَوْ كَانَ لِأَجْلِ نِفَاقِهِمْ. فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُهُمْ لِأَجْلِ النِّفَاقِ بَلْ لَا يُعَاقِبُهُمْ إلَّا بِذَنْبِ ظَاهِرٍ فَلَوْلَا أَنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ الْجَمَاعَةِ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعِقَابَ لَمَا عَاقَبَهُمْ. وَالْحَدِيثُ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجَمَاعَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ يُتْرَكُ لَهَا أَكْثَرُ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِهَا فَلَوْلَا وُجُوبُهَا لَمْ يُؤْمَرْ بِتَرْكِ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ لِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ.
[فصل البرهان السادس والثلاثون " وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ " والجواب عليه]
فَصْلٌ
قَالَ الرَّافِضِيُّ: " الْبُرْهَانُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 43] مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٍّ خَاصَّةً»، وَهُمَا أَوَّلُ مَنْ صَلَّى وَرَكَعَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَتِهِ فَيَدُلُّ عَلَى إِمَامَتِهِ ".
الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ هَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ فِي سِيَاقِ مُخَاطَبَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْخِطَابُ لَهُمْ، أَوْ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ، فَهُوَ خِطَابٌ أُنْزِلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَبَعْدَ أَنْ كَثُرَ الْمُصَلُّونَ وَالرَّاكِعُونَ ، وَلَمْ تَنْزِلْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِأَوَّلِ مَنْ صَلَّى وَرَكَعَ.
الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} صِيغَةُ جَمْعٍ، وَلَوْ أُرِيدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٌّ ; لَقِيلَ مَعَ الرَّاكِعَيْنِ، بِالتَّثْنِيَةِ . وَصِيغَةُ الْجَمْعِ لَا يُرَادُ بِهَا اثْنَانِ فَقَطْ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، بَلْ إِمَّا الثَّلَاثَةُ فَصَاعِدًا، وَإِمَّا الِاثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَأَمَّا إِرَادَةُ اثْنَيْنِ فَقَطْ فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ قَالَ لِمَرْيَمَ: {اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 43] وَمَرْيَمُ كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ رَاكِعُونَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَلَيْسَ فِيهِمْ عَلِيٌّ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ رَاكِعُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ فِيهِمْ عَلِيٌّ وَصِيغَةُ الِاثْنَيْنِ وَاحِدَةٌ؟.
السَّادِسُ: أَنَّ الْآيَةَ مُطْلَقَةٌ لَا تَخُصُّ شَخْصًا بِعَيْنِهِ، بَلْ أُمِرَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْمُصَلِّينَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ ; لِأَنَّ الرَّكْعَةَ لَا تُدْرَكَ إِلَّا بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الرُّكُوعَ مَعَهُمَا لَا نَقْطَعُ حُكْمَهَا بِمَوْتِهِمَا، فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مَأْمُورًا أَنْ يَرْكَعَ مَعَ الرَّاكِعِينَ.
الثَّامِنُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: [عَلِيٌّ] أَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَمْنُوعٌ. بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى قَبْلَهُ.
التَّاسِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا بِالرُّكُوعِ مَعَهُ، لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ رَكَعَ مَعَهُ يَكُونُ هُوَ الْإِمَامَ، فَإِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ إِمَامًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يَرْكَعُ مَعَهُ.
(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فَصْلٌ:
فِي الشَّفَاعَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}. وقَوْله تَعَالَى {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} وَقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} وَقَوْلِهِ: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} وَقَوْلِهِ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}. وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ بِكَثِيرِ مِنْهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَ ةُ عَلَى مَنْعِ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ إذْ مَنَعُوا أَنْ يَشْفَعَ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ أَوْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ النَّارِ مَنْ يَدْخُلُهَا وَلَمْ يَنْفُوا الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الثَّوَابِ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إثْبَاتُ الشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ.
وَأَيْضًا: فَالْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَة ُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفَاعَةِ: فِيهَا - اسْتِشْفَاعُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِيُقْضَى بَيْنَهُمْ وَفِيهِمْ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَهَذَا فِيهِ نَوْعُ شَفَاعَةٍ لِلْكُفَّارِ.
وَأَيْضًا: فَفِي الصَّحِيحِ {عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْت أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءِ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَك قَالَ: نَعَمْ هُوَ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْت {الْعَبَّاسَ يَقُولُ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنْ نَارٍ فَأَخْرَجْتُهُ إلَى ضِحْضَاحٍ}. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ}. فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ لِشَفَاعَتِهِ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ بَلْ فِي أَنْ يُجْعَلَ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا كَمَا فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ}. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلَيْهِ} وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ يُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ} وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا}.
وَهَذَا السُّؤَالُ الثَّانِي يُضْعِفُ جَوَابَ مَنْ تَأَوَّلَ نَفْيَ الشَّفَاعَةِ عَلَى الشَّفَاعَةِ لِلْكُفَّارِ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ هُمْ الْكَافِرُونَ. . . (1)
فَيُقَالُ: الشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّاسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهِيَ أَنْ يَشْفَعَ الشَّفِيعُ إلَى غَيْرِهِ ابْتِدَاءً فَيَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ فَأَمَّا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَشْفَعَ فَشَفَعَ؛ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِالشَّفَاعَةِ بَلْ يَكُونُ مُطِيعًا لَهُ أَيْ تَابِعًا لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَتَكُونُ شَفَاعَتُهُ مَقْبُولَةً وَيَكُونُ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلْآمِرِ الْمَسْئُولِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ آيَةٍ: أَنَّ أَحَدًا لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَقَالَ: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وَقَالَ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمَنْفِيَّةُ: أَنَّهُ قَالَ: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ. وَأَمَّا نَفْيُ الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إذْنِهِ: فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ إذَا كَانَتْ بِإِذْنِهِ لَمْ تَكُنْ مِنْ دُونِهِ كَمَا أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي بِإِذْنِهِ لَيْسَتْ مِنْ دُونِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.
وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ}. {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَذَمَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ وَأَخْبَرَ أَنَّ لِلَّهِ الشَّفَاعَةَ جَمِيعًا؛ فَعُلِمَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ غَيْرِهِ إذْ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَتِلْكَ فَهِيَ لَهُ. وَقَدْ قَالَ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّهُ نَفَى يَوْمَئِذٍ الْخُلَّةَ بِقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَفَى الْخُلَّةَ الْمَعْرُوفَةَ وَنَفْعَهَا الْمَعْرُوفَ كَمَا يَنْفَعُ الصَّدِيقُ الصَّدِيقَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وَقَالَ: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. لَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ خُلَّةٌ نَافِعَةٌ بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ} {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} الْآيَاتُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّي نَ فِيَّ} وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَيْنَ الْمُتَحَابُّون َ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي}. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ عَائِدٌ إلَى تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ أَحَدٌ وَلَا يَضُرُّ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْبَدَ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ وَلَا يُسْتَعَانَ بِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَظْهَرُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَيَتَبَرَّأُ كُلُّ مُدَّعٍ مِنْ دَعْوَاهُ الْبَاطِلَةِ فَلَا يَبْقَى مَنْ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ مَعَهُ شِرْكًا فِي رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ إلَهِيَّتِهِ وَلَا مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبٌّ وَلَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَقَدْ اتَّخَذَ غَيْرَهُ رَبًّا وَإِلَهًا وَادَّعَى ذَلِكَ مُدَّعُونَ.
__________
Q (1) بياض بالأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (62)
من صــ 169 الى صــ 176
وَفِي الدُّنْيَا يَشْفَعُ الشَّافِعُ عِنْدَ غَيْرِهِ وَيَنْتَفِعُ بِشَفَاعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ وَيَكُونُ خَلِيلَهُ فَيُعِينُهُ وَيَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْ الشَّرِّ فَقَدْ يَنْتَفِعُ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي الدُّنْيَا، النُّفُوسُ يُنْتَفَعُ بِهَا تَارَةً بِالِاسْتِقْلَا لِ وَتَارَةً بِالْإِعَانَةِ وَهِيَ الشَّفَاعَةُ، وَالْأَمْوَالُ بِالْفِدَاءِ فَنَفَى اللَّهُ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ. قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} وَقَالَ: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} كَمَا قَالَ: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}.
فَهَذَا هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَادَ مَا نَفَاهُ اللَّهُ مِنْ الشَّفَاعَةِ إلَى تَحْقِيقِ أَصْلَيْ الْإِيمَانِ وَهِيَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ كَمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} وَقَوْلِهِ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وَقَوْلِهِ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ " كُتُبٍ فِي التَّفْسِيرِ " إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ فِيهَا.
مِنْهَا قَوْلُهُ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الْآيَتَانِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَصَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَيُعْرَفُ بِهِ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ وَمُنَاسِبَةٍ لِمَا قَبْلهَا وَلِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ السَّلَفِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {قَالَ سَلْمَانُ: سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ دِينٍ كُنْت مَعَهُمْ فَذَكَرَ مِنْ عِبَادَتِهِمْ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ}. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا رُوِيَ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي مُسْلِمٍ {إلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُجِيبُ بِمَا لَا عِلْمَ عِنْدِهِ وَقَدْ
ثَبَتَ أَنَّهُ أَثْنَى عَلَى مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ خِلَافًا عَنْ السَّلَفِ؛ لَكِنْ ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} الْآيَةَ وَمُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْإِسْلَامَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَكَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ يُرِيدُ بِلَفْظِ النَّسْخِ رَفْعَ مَا يُظَنُّ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا وَاحِدًا فَهُوَ كَافِرٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُهُ: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلَخْ. وَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّ الْآيَةَ فِيمَنْ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فَغَلِطُوا ثُمَّ افْتَرَقُوا عَلَى أَقْوَالٍ مُتَنَاقِضَةٍ.
[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَى النَّصَارَى أَنَّ الْقُرْآنَ سَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ]
قَالُوا وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
فَسَاوَى بِهَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ: الْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِين َ وَغَيْرِهِمْ.
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ:
أَوَّلًا: لَا حُجَّةَ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَطْلُوبِكُمْ، فَإِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَالصَّابِئِينَ ، وَأَنْتُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ كُفَّارٌ مِنْ حِينِ بُعِثَ الْمَسِيحُ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوهُ.
وَكَذَلِكَ الصَّابِئُونَ مِنْ حِينِ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ فَكَذَّبُوهُ، فَهُمْ كُفَّارٌ. فَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ مَدْحٌ لِدِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ فَفِيهَا مَدْحُ دِينِ الْيَهُودِ أَيْضًا، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَدْحُ الْيَهُودِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ فَلَيْسَ فِيهَا مَدْحٌ لِدِينِ النَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ.
وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْيَهُودِيِّ، إِنِ احْتَجَّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ دِينِهِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ النَّصَارَى يُكَفِّرُونَ الْيَهُودَ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُمْ حَقًّا لَزِمَ كُفْرُ الْيَهُودِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَزِمَ بُطْلَانُ دِينِهِمْ فَلَابُدَّ مِنْ بُطْلَانِ أَحَدِ الدِّينَيْنِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَدَحَتْهُمَا، وَقَدْ سَوَّتْ بَيْنَهُمَا.
فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَمْدَحْ وَاحِدًا مِنْهُمَا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالَّذِينَ هَادُوا الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرْعِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَتِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ.
وَالصَّابِئِينَ وَهُمُ الصَّابِئُونَ الْحُنَفَاءُ، كَالَّذِينَ كَانُوا مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ قَبْلَ التَّبْدِيلِ وَالنَّسْخِ.
فَإِنَّ الْعَرَبَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَغَيْرِهِ الَّذِينَ كَانُوا جِيرَانَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ الَّذِي بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ كَانُوا حُنَفَاءَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنْ غَيَّرَ دِينَهُ بَعْضُ وُلَاةِ خُزَاعَةَ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ بِالشِّرْكِ، وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قَصَبَهُ - أَيْ أَمْعَاءَهُ - فِي النَّارِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَحَّرَ الْبَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَغَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ».
وَكَذَلِكَ بَنُو إِسْحَاقَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مَبْعَثِ مُوسَى مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا مِنَ السُّعَدَاءِ الْمَحْمُودِينَ ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِ مُوسَى وَالْمَسِيحِ وَإِبْرَاهِيمَ، وَنَحْوُهُمْ هُمُ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
فَأَهْلُ الْكِتَابِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَيْسُوا مِمَّنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَفَّرَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَدَّلُوا دِينَ مُوسَى وَالْمَسِيحِ، وَكَذَّبُوا بِالْمَسِيحِ أَوْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَتِلْكَ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ، وَنُصُوصٌ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى سَلَكُوا فِي الْقُرْآنِ مَا سَلَكُوهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَدَعُونَ النُّصُوصَ الْمُحْكَمَةَ الصَّرِيحَةَ الْبَيِّنَةَ الْوَاضِحَةَ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، وَيَتَمَسَّكُون َ بِالْمُتَشَابِه ِ الْمُحْتَمَلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِيهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
(أَفَتَطْمعون أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -:
فَصْلٌ:
قَسَّمَ اللَّهُ مَنْ ذَمَّهُ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ إلَى مُحَرِّفِينَ وَأُمِّيِّينَ حَيْثُ يَقُولُ: {أَفَتَطْمعون أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}.
وَفِي هَذَا عِبْرَةٌ لِمَنْ رَكِبَ سَنَنَهُمْ مِنْ أُمَّتِنَا؛ فَإِنَّ الْمُنْحَرِفِين َ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالصِّفَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِر: " قَوْمٌ " يُحَرِّفُونَهُ إمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى وَهُمْ النَّافُونَ لِمَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُحُودًا وَتَعْطِيلًا وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ الْقَاضِي عَلَى السَّمْعِ. و " قَوْمٌ " لَا يَزِيدُونَ عَلَى تِلَاوَةِ النُّصُوصِ لَا يَفْقَهُونَ مَعْنَاهَا وَيَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا مُوجَبُ السَّمْعِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ عِبَادِهِ فَهْمَ هَذِهِ النُّصُوصِ فَهُمْ {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ} أَيْ تِلَاوَةً {وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ}.
ثُمَّ يُصَنِّفُ أَقْوَامٌ عُلُومًا يَقُولُونَ: إنَّهَا دِينِيَّةٌ وَأَنَّ النُّصُوصَ دَلَّتْ عَلَيْهَا وَالْعَقْلَ وَهِيَ دِينُ اللَّهِ؛ مَعَ مُخَالَفَتِهَا لِكِتَابِ اللَّهِ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ. فَتَدَبَّرْ كَيْفَ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ أُولَئِكَ:
{أَتُحَدِّثونهم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} حَالُ مَنْ يَكْتُمُ النُّصُوصَ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا مُنَازِعُهُ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أَمْكَنَهُمْ كِتْمَانُ الْقُرْآنِ لَكَتَمُوهُ لَكِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ مِنْهُ وُجُوهَ دَلَالَتِهِ مِنْ الْعُلُومِ الْمُسْتَنْبَطَ ةِ مِنْهُ وَيُعَوِّضُونَ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيُضِيفُونَهُ إلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (63)
من صــ 177 الى صــ 184
[فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى قَوْلِ النَّصَارَى كَيْفَ يُمْكِنُ تَغْيِيرُ كُتُبِنَا الَّتِي هِيَ مَكْتُوبَةٌ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لِسَانًا]
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ كَيْفَ يُمْكِنُ تَغْيِيرُ كُتُبِنَا الَّتِي هِيَ مَكْتُوبَةٌ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لِسَانًا وَفِي كُلِّ لِسَانٍ مِنْهَا كَذَا وَكَذَا أَلْفِ مُصْحَفٍ وَمَضَى عَلَيْهَا إِلَى مَجِيءِ مُحَمَّدٍ أَكْثَرُ مِنْ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ؟
فَيُقَالُ: أَمَّا بَعْدَ انْتِشَارِهَا هَذَا الِانْتِشَارَ فَلَمْ يَقُلِ الْمُسْلِمُونَ، بَلْ وَلَا طَائِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْهُمْ إِنَّ أَلْفَاظَ جَمِيعِ كُلِّ نُسْخَةٍ فِي الْعَالَمِ غُيِّرَتْ لَكِنَّ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ فِي أَلْفَاظِهَا مَا غُيِّرَ إِنَّمَا يَدَّعُونَ تَغْيِيرَ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا قَبْلَ الْمَبْعَثِ، أَوْ تَغْيِيرَ بَعْضِ النُّسَخِ بَعْدَ الْمَبْعَثِ لَا تَغْيِيرَ جَمِيعِ النُّسَخِ فَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ التَّغْيِيرَ وَقَعَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ إِنَّ مِنْهَا مَا غُيِّرَ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهُ غُيِّرَ كُلُّ نُسْخَةٍ فِي الْعَالَمِ، بَلْ يَقُولُونَ غُيِّرَ بَعْضُ النُّسَخِ دُونَ الْبَعْضِ وَظَهَرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ النُّسَخُ الْمُبَدَّلَةُ دُونَ الَّتِي لَمْ تُبَدَّلْ.
وَالنُّسَخُ الَّتِي لَمْ تُبَدَّلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ نُسْخَةٍ فِي الْعَالَمِ بِكُلِّ لِسَانٍ مُطَابِقٌ لَفْظُهَا سَائِرَ النُّسَخِ بِسَائِرِ الْأَلْسِنَةِ إِلَّا مَنْ أَحَاطَ عِلْمًا بِذَلِكَ وَهُمْ قَدْ سَلَّمُوا أَنَّ أَحَدًا لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ ذَكَرَ أَنَّ التَّغْيِيرَ وَقَعَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا أُخِذَتِ الْأَنَاجِيلُ عَنْ أَرْبَعَةٍ، اثْنَانِ مِنْهُمْ لَمْ يَرَيَا الْمَسِيحَ، بَلْ إِنَّمَا رَآهُ اثْنَانِ مِنْ نَقَلَةِ الْإِنْجِيلِ مَتَّى وَيُوحَنَّا.
وَمَعْلُومٌ إِمْكَانُ التَّغَيُّرِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهَا مَكْتُوبَةٌ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لِسَانًا فَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِالْعِبْرِيَّة ِ كَسَائِرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّهُ كَانَ مَخْتُونًا خُتِنَ بَعْدَ السَّابِعِ كَمَا يَخْتِنُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى قِبْلَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي إِلَى الشَّرْقِ وَلَا أَمَرَ بِالصَّلَاةِ إِلَى الشَّرْقِ.
وَمَنْ قَالَ إِنَّ لِسَانَهُ كَانَ سُرْيَانِيًّا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ فَهُوَ غَالِطٌ فَالْكَلَامُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ فِي الْأَنَاجِيلِ إِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ عِبْرِيًّا ثُمَّ تُرْجِمَ مِنْ تِلْكَ اللُّغَةِ إِلَى غَيْرِهَا.
وَالتَّرْجَمَةُ يَقَعُ فِيهَا الْغَلَطُ كَثِيرًا كَمَا وَجَدْنَا فِي زَمَانِنَا مَنْ يُتَرْجِمُ التَّوْرَاةَ مِنَ الْعِبْرِيَّةِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ وَيَظْهَرُ فِي التَّرْجَمَةِ مِنَ الْغَلَطِ مَا يَشْهَدُ بِهِ الْحُذَّاقُ الصَّادِقُونَ مِمَّنْ يَعْرِفُ اللُّغَتَيْنِ.
وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ إِنَّمَا كُتِبَتْ بِأَرْبَعِ لُغَاتٍ: (بِالْعِبرية وَالرُّومِيَّةِ وَالْيُونَانِيّ َةِ وَالسُّرْيَانِي َّةِ).
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهَا كُتِبَتْ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لُغَةً، فَهَذَا إِنْ كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّمَا كُتِبَتْ بَعْدَ أَنْ كُتِبَتْ تِلْكَ الْأَرْبَعَةُ فَإِذَا كَانَ الْغَلَطُ وَقَعَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ، لَمْ يَرْفَعْهُ بَعْدَ ذَلِكَ كِتَابَتُهَا بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لُغَةً، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقُولُونَ: إِنَّهَا كُتِبَتْ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لُغَةً غُيِّرَ لَفْظُهَا فِي جَمِيعِ الْأَلْسُنِ (لِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لُغَةً فِي كُلِّ نُسْخَةٍ مِنْ ذَلِكَ).
وَإِنَّمَا يُقَالُ التَّغْيِيرُ وَقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ فِي سَائِرِ مَا وَرَدَ عَنِ الْمَسِيحِ وَمُوسَى (وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ - مِنَ الْحَدِيثِ مِثْلَ سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَحَادِيثِ السُّنَنِ، وَالْمَسَانِدِ الْمَأْثُورَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ فِي الْعَالَمِ بِكُلِّ كِتَابٍ مِنْهَا نُسَخٌ كَثِيرَةٌ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُغَيَّرَ مِنْهَا فَصْلٌ طَوِيلٌ، وَلَكِنْ فِي نَفْسِ السِّيرَةِ وَقَعَ غَلَطٌ فِي مَوَاضِعَ وَأَحَادِيثَ وَقَعَتْ فِي السُّنَنِ هِيَ غَلَطٌ فِي الْأَصْلِ (فَاشْتِهَارُ النُّسَخِ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْغَلَطِ فِي الْأَصْلِ) وَهَذِهِ كُتُبُ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالدَّقَائِقِ، مَا مِنْ كِتَابٍ إِلَّا وَبِهِ نُسَخٌ كَثِيرَةٌ فِي الْعَالَمِ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ فَصْلٍ طَوِيلٍ مِنْهَا وَفِيهَا أَحَادِيثُ غَلَطٌ فِي الْأَصْلِ.
وَالْأَنَاجِيلُ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى تُشْبِهُ هَذَا، وَلِهَذَا أُمِرُوا أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا فِيهَا فَإِنَّ فِيهَا أَحْكَامَ اللَّهِ وَعَامَّةُ مَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ لَمْ يُبَدَّلْ لَفْظُهُ وَإِنَّمَا بُدِّلَتْ بَعْضُ أَلْفَاظِ الْخَبَرِيَّاتِ وَبَعْضُ مَعَانِي الْأَمْرِيَّاتِ كَمَا نُؤْمَرُ نَحْنُ أَنْ نَعْمَلَ بِأَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ الْمَعْرُوفَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اعْتَنَوْا بِضَبْطِهَا أَكْثَرَ مِنَ اعْتِنَائِهِمْ بِضَبْطِ الْخَبَرِيَّاتِ كَأَحَادِيثِ الزُّهْدِ وَالْقِصَصِ وَالْفَضَائِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِذْ حَاجَةُ الْأُمَمِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّفَاصِيلِ بِالْخَبَرِيَّا تِ الَّتِي يُكْتَفَى بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ بِهَا.
وَأَمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَلَابُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، إِذِ الْعَمَلُ بِالْمَأْمُورِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُفَصَّلًا، وَالْمَحْظُورُ الَّذِي يَجِبُ اجْتِنَابُهُ لَابُدَّ أَنْ يُمَيَّزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115].
وَالنَّصَارَى لَا يَحْتَاجُونَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ إِلَى هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِشَرْعٍ مَنْقُولٍ عَنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعِنْدَهُمْ لِأَكَابِرِهِمْ أَنْ يَشْرَعُوا دِينًا لَمْ يَشْرَعْهُ الْمَسِيحُ، وَيَقُولُونَ: مَا شَرَعَهُ هَؤُلَاءِ فَقَدْ شَرَعَهُ الْمَسِيحُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِنَايَةٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ بِشَرْعِ الْمَسِيحِ، كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ عِنَايَةٌ وَمَعْرِفَةٌ بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ:
هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أُشْكِلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ " كُتُبِ التَّفْسِيرِ " إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ.
مِنْهَا قَوْلُهُ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} الْآيَةَ، ذَكَرَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ السَّيِّئَةَ الشِّرْكُ وَقِيلَ الْكَبِيرَةُ يَمُوتُ عَلَيْهَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الذُّنُوبُ تُحِيطُ بِالْقَلْبِ. قُلْت: الصَّوَابُ ذِكْرُ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَعِيفٌ فَالْحُجَّةُ تُبَيِّنُ ضَعْفَهُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ ذِكْرِ أَقْوَالِهِمْ لِمُوَافَقَتِهَ ا قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ وَهُمْ يَنْقُلُونَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَخْطَأَ فِيهَا الْكَاتِبُ كَمَا قِيلَ فِي غَيْرِهَا وَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَوَاتُرِهِ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَأَمَّا قَبْلُ تَوَاتُرِهِ عِنْدَهُ فَلَا يُسْتَتَابُ؛ لَكِنْ يُبَيَّنُ لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَقْوَالُ الَّتِي جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِخِلَافِهَا: فِقْهًا وَتَصَوُّفًا وَاعْتِقَادًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ صَحِيحٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: {إذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ} إلَخْ وَاَلَّذِي يَغْشَى الْقَلْبَ يُسَمَّى " رَيْنًا " و " طَبْعًا " و " خَتْمًا " و " قَفْلًا " وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ. و " إحَاطَةُ الْخَطِيئَةِ " إحْدَاقُهَا بِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ وَهَذَا هُوَ الْبَسْلُ بِمَا كَسَبَتْ نَفْسُهُ أَيْ: تُحْبَسُ عَمَّا فِيهِ نَجَاتُهَا فِي الدَّارَيْنِ؛ فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ قَيْدٌ وَحَبْسٌ لِصَاحِبِهَا عَنْ الْجَوَلَانِ فِي فَضَاءِ التَّوْحِيدِ وَعَنْ جَنْيِ ثِمَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَمِنْ الْمُنْتَسِبِين َ إلَى السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُعَذَّبُ مُطْلَقًا وَالْأَكْثَرُون َ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَزِنُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ مَعْنَى الْوَزْنِ؛ لَكِنَّ تَفْسِيرَ السَّيِّئَةِ بِالشِّرْكِ هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ غَايَرَ بَيْنَ الْمَكْسُوبِ وَالْمُحِيطِ فَلَوْ كَانَ وَاحِدًا لَمْ يُغَايِرْ وَالْمُشْرِكُ لَهُ خَطَايَا غَيْرُ الشِّرْكِ أَحَاطَتْ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا.
و " أَيْضًا " قَوْلُهُ (سَيِّئَةً نَكِرَةٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ جِنْسَ السَّيِّئَاتِ بِالِاتِّفَاقِ. و " أَيْضًا " لَفْظُ (السَّيِّئَةِ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مُرَادًا بِهِ الشِّرْكَ وَقَوْلُهُ: (سَيِّئَةً أَيْ حَالٌ سَيِّئَةٌ أَوْ مَكَانٌ سَيِّئَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أَيْ حَالًا حَسَنَةً تَعَمٍّ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَكُونُ صِفَةً وَقَدْ يُنْقَلُ مِنْ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ وَيُسْتَعْمَلُ لَازِمًا أَوْ مُتَعَدِّيًا يُقَالُ: سَاءَ هَذَا الْأَمْرُ أَيْ قَبُحَ وَيُقَالُ: سَاءَنِي هَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} عَمِلُوا الشِّرْكَ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِهَذَا فَقَطْ وَلَوْ آمَنُوا لَكَانَ لَهُمْ حَسَنَاتٌ وَكَذَا لَمَّا قَالَ: (كَسَبَ سَيِّئَةً) لَمْ يَذْكُرْ حَسَنَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} أَيْ فَعَلُوا الْحُسْنَى وَهُوَ مَا أُمِرُوا بِهِ كَذَلِكَ (السَّيِّئَةُ) تَتَنَاوَلُ الْمَحْظُورَ فَيَدْخُلُ فِيهَا الشِّرْكُ.
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
[فَصْلٌ: بَيَانُ مَعْنَى الرُّوحِ الْقُدُسِ وَدَفْعُ اعْتِقَادِ النَّصَارَى أُلُوهِيَّتَهُ]
وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87] فَهُوَ حَقٌّ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى تَأْيِيدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ بِرُوحِ الْقُدُسِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ فَقَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87] وَقَالَ - تَعَالَى -: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] وَقَالَ - تَعَالَى -: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة: 110]وَقَالَ - تَعَالَى -: فِي الْقُرْآنِ {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] وَقَالَ - تَعَالَى -: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 194] وَقَالَ - تَعَالَى -: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا} [البقرة: 97] فَرُوحُ الْقُدُسِ الَّذِي نَزَلَ بِالْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ هُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ وَهُوَ جِبْرِيلُ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: " أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: " إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: " اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ».
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (64)
من صــ 185 الى صــ 192
فَهَذَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَاحِدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا نَافَحَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَجَا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَهُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُ اللَّاهُوتَ مُتَّحِدًا بِنَاسُوتِ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ فَعُلِمَ أَنَّ إِخْبَارَهُ بِأَنَّ اللَّهَ أَيَّدَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ لَا يَقْتَضِي اتِّحَادَ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّأْيِيدَ بِرُوحِ الْقُدُسِ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَسِيحِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُقِرُّونَ بِذَلِكَ وَأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ مُؤَيَّدًا بِرُوحِ الْقُدُسِ كَدَاوُدَ وَغَيْرِهِ بَلْ يَقُولُونَ إِنَّ الْحَوَارِيِّين َ كَانَتْ فِيهِمْ رُوحُ الْقُدُسِ وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ يَكُونُ فِي غَيْرِ الْمَسِيحِ بَلْ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيَانُ كَذِبِهِمْ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا التَّأْيِيدُ نَظِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] فَهَذَا التَّأْيِيدُ بِرُوحٍ مِنْهُ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يُحِبَّ أَعْدَاءَ الرُّسُلِ وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَهُ بَلْ يُحِبُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِالرُّسُلِ وَإِنْ كَانُوا أَجَانِبَ وَيُبْغِضُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالرُّسُلِ وَإِنْ كَانُوا أَقَارِبَ وَهَذِهِ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ - تَعَالَى -: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] (26) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 27] (27) {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28] وَقَالَ:
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] وَهَذَا التَّأْيِيدُ بِرُوحِ الْقُدُسِ لِمَنْ يَنْصُرُ الرُّسُلَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ نَصَرَهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ الَّذِي أُيِّدَ بِهِ الْمَسِيحُ هُوَ صِفَةُ اللَّهِ الْقَائِمَةُ بِهِ وَهِيَ حَيَاتُهُ وَلَا أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ رَبٌّ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ فَلَيْسَ رُوحُ الْقُدُسِ هِيَ اللَّهُ وَلَا صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ بَلْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ صِفَةَ اللَّهِ الْقَائِمَةَ بِهِ تُسَمَّى ابْنًا وَلَا رُوحَ الْقُدُسِ.
فَإِذَا تَأَوَّلَ النَّصَارَى قَوْلَ الْمَسِيحِ عَمِّدُوا النَّاسَ بِاسْمِ الْآبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ عَلَى أَنَّ الِابْنَ صِفَتُهُ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَرُوحُ الْقُدُسِ صِفَتُهُ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ كَانَ هَذَا كَذِبًا بَيِّنًا عَلَى الْمَسِيحِ فَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامِهِ وَلَا كَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَسْمِيَةُ اللَّهِ وَلَا شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ ابْنًا وَلَا حَيَاتُهُ رُوحَ الْقُدُسِ.
وَأَيْضًا فَهُمْ يَذْكُرُونَ فِي الْأَمَانَةِ أَنَّ الْمَسِيحَ تَجَسَّدَ مِنْ مَرْيَمَ وَمِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَهَذَا يُوَافِقُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ أَرْسَلَ رُوحَهُ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ وَهُوَ رُوحُ الْقُدُسِ فَنَفَخَ فِي مَرْيَمَ فَحَمَلَتْ بِالْمَسِيحِ فَكَانَ الْمَسِيحُ مُتَجَسِّدًا مَخْلُوقًا مِنْ أُمِّهِ وَمِنْ ذَلِكَ الرُّوحِ وَهَذَا الرُّوحُ لَيْسَ صِفَةً لِلَّهِ لَا حَيَاتَهُ وَلَا غَيْرَهَا بَلْ رُوحُ الْقُدُسِ قَدْ جَاءَ ذِكْرُهَا كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَيُرَادُ بِهَا إِمَّا الْمَلَكُ وَإِمَّا مَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنَ الْهُدَى وَالتَّأْيِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2] وَقَالَ - تَعَالَى -: {ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15] فَسَمَّى الْمَلَكَ رُوحًا وَسَمَّى مَا يَنْزِلُ بِهِ الْمَلَكُ رُوحًا وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ وَالْمَسِيحُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُؤَيَّدٌ بِهَذَا وَهَذَا.
وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهُ جِبْرِيلُ وَقَالَ: بَعْضُهُمْ إِنَّهُ الْوَحْيُ وَهَذَا كَلَفْظِ النَّامُوسِ يُرَادُ بِهِ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ كَمَا يُرَادُ بِالْجَاسُوسِ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ فَيَكُونُ النَّامُوسُ جِبْرِيلُ وَيُرَادُ بِهِ الْكِتَابُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالشَّرْعِ وَلَمَّا قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لِلنَّبِيِّ: " هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى " فَسَّرَ النَّامُوسَ بِهَذَا وَهَذَا وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ ".
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
ومما يدل من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار قوله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] قال قتادة وغيره " كانت اليهود تقوله استهزاء، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم "؛ وقال أيضا: " كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك، يستهزءون بذلك وكانت في اليهود قبيحة ".
وروى أحمد عن عطية قال " كان يأتي ناس من اليهود فيقولون: راعنا سمعك، حتى قالها ناس من المسلمين، فكره الله لهم ما قالت اليهود ".
وقال عطاء " كانت لغة في الأنصار في الجاهلية ".
وقال أبو العالية " إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه: أرعني سمعك؛ فنهوا عن ذلك " وكذلك قال الضحاك.
فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نُهي المسلمون عن قولها؛ لأن اليهود كانوا يقولونها - وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة - لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار، وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم.
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
وَسُئِلَ:
عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ.
فَأَجَابَ:
أَمَّا قَوْلُهُ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} فَفِيهَا قِرَاءَتَانِ أَشْهَرُهُمَا: (أَوْ نُنْسِهَا) أَيْ نُنْسِيكُمْ إيَّاهَا: أَيْ نَسَخْنَا مَا أَنْزَلْنَاهُ أَوْ اخْتَرْنَا تَنْزِيلَ مَا نُرِيدُ أَنْ نُنَزِّلُهُ نَأْتِكُمْ بِخَيْرِ مِنْهُ أَوْ مَثَلِهِ وَالثَّانِيَةُ: (أَوْ نَنْسَأْهَا) بِالْهَمْزِ أَيْ نُؤَخِّرُهَا وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ نَنْسَاهَا فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَى نَنْسَأَهَا بِمَعْنَى نَنْسَاهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالْعَرَبِيَّة ِ وَالتَّفْسِيرِ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} و " النِّسْيَانُ " مُضَافٌ إلَى الْعَبْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} {إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وَلِهَذَا قَرَأَهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ: (أَوْ تَنْسَاهَا) أَيْ تَنْسَاهَا يَا مُحَمَّدُ وَهَذَا وَاضِحٌ لَا يَخْفَى إلَّا عَلَى جَاهِلٍ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ نَنْسَأَهَا بِالْهَمْزِ وَبَيْنَ نَنْسَاهَا بِلَا هَمْزٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ: نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
وَأَمَّا " نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ " فَهَذَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيُّ؛ وَلَا أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ؛ وَيُجَوِّزُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين َ نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ} وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا نَسَخَهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْفَرَائِضَ الْمُقَدَّرَةَ حُدُودُهُ وَنَهَى عَنْ تَعَدِّيهَا: كَانَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ أَحَدٌ عَلَى مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ} وَإِلَّا فَهَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ إنَّمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَنَحْوُهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ مُجَرَّدَ خَبَرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ الصِّحَّةِ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ نُسِخَ بِسُنَّةِ بِلَا قُرْآنٍ وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكوهن فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {خُذُوا عَنِّي؛ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ}.
وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ النَّسْخِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَدَّ الْحُكْمَ إلَى غَايَةٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ تِلْكَ الْغَايَةَ لَكِنَّ الْغَايَةَ هُنَا مَجْهُولَةٌ فَصَارَ هَذَا يُقَالُ: إنَّهُ نَسْخٌ بِخِلَافِ الْغَايَةِ الْبَيِّنَةِ فِي نَفْسِ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى نَسْخًا بِلَا رَيْبٍ.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (65)
من صــ 193 الى صــ 200
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَلْدَ الزَّانِي ثَابِتٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الرَّجْمُ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ فِيهِ قُرْآنٌ يُتْلَى ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَة ِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا يُدَّعَى مِنْ نَسْخِ قَوْلِهِ: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الْآيَةَ؛ فَإِنَّ هَذَا إنْ قَدَرَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَقَدْ نَسَخَهُ قُرْآنٌ جَاءَ بَعْدَهُ؛ ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد وَسَائِرَ الْأَئِمَّةِ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَة ِ الْمُحْكَمَةِ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ نَسْخًا لِبَعْضِ آيِ الْقُرْآنِ لَكِنْ يَقُولُونَ: إنَّمَا نُسِخَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ لَا بِمُجَرَّدِ السُّنَّةِ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَيَرَوْنَ مِنْ تَمَامِ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَخْهُ إلَّا بِقُرْآنِ.
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
(فَصْلٌ: مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ " الْحَسَدُ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
فَصْلٌ:
وَمِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ " الْحَسَدُ " كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي حَدِّهِ: إنَّهُ أَذًى يَلْحَقُ بِسَبَبِ الْعِلْمِ بِحُسْنِ حَالِ الْأَغْنِيَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاضِلُ حَسُودًا؛ لِأَنَّ الْفَاضِلَ يَجْرِي عَلَى مَا هُوَ الْجَمِيلُ وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ: إنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ الْمَحْسُودِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ لِلْحَاسِدِ مِثْلُهَا بِخِلَافِ الْغِبْطَةِ فَإِنَّهُ تَمَنِّي مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ حُبِّ زَوَالِهَا عَنْ الْمَغْبُوطِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْحَسَدَ هُوَ الْبُغْضُ وَالْكَرَاهَةُ لِمَا يَرَاهُ مِنْ حُسْنِ حَالِ الْمَحْسُودِ وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: كَرَاهَةٌ لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا فَهَذَا هُوَ الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ وَإِذَا أَبْغَضَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَأَلَّمُ وَيَتَأَذَّى بِوُجُودِ مَا يُبْغِضُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَرَضًا فِي قَلْبِهِ وَيَلْتَذُّ بِزَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ نَفْعٌ بِزَوَالِهَا؛ لَكِنَّ نَفْعَهُ زَوَالُ الْأَلَمِ الَّذِي كَانَ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْأَلَمَ لَمْ يَزُلْ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ مِنْهُ وَهُوَ رَاحَةٌ وَأَشَدُّهُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي عُولِجَ بِمَا يُسَكِّنُ وَجَعَهُ وَالْمَرَضُ بَاقٍ؛ فَإِنَّ بُغْضَهُ لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ مَرَضٌ فَإِنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ قَدْ تَعُودُ عَلَى الْمَحْسُودِ وَأَعْظَمُ مِنْهَا وَقَدْ يَحْصُلُ نَظِيرُ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِنَظِيرِ ذَلِكَ الْمَحْسُودِ.
وَالْحَاسِدُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ؛ لَكِنَّ نَفْسَهُ تَكْرَهُ مَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَى النَّوْعِ. وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ فَإِنَّ مَنْ كَرِهَ النِّعْمَةَ عَلَى غَيْرِهِ تَمَنَّى زَوَالَهَا بِقَلْبِهِ. وَ (النَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكْرَهَ فَضْلَ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَلَيْهِ فَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ فَهَذَا حَسَدٌ وَهُوَ الَّذِي سَمَّوْهُ الْغِبْطَةَ وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدًا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: {لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ} هَذَا لَفْظُ ابْنِ مَسْعُودِ.
وَلَفْظُ ابْنِ عُمَرَ {رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ فِي الْحَقِّ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: {لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَسَمِعَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي أُوتِيت مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ هَذَا وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا لَيْتَنِي أُوتِيت مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ هَذَا} فَهَذَا الْحَسَدُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ أُولَئِكَ الْغِبْطَةَ وَهُوَ أَنْ يُحِبَّ مِثْلَ حَالِ الْغَيْرِ وَيَكْرَهَ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذًا لِمَ سُمِّيَ حَسَدًا وَإِنَّمَا أَحَبَّ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيْهِ؟. قِيلَ مَبْدَأُ هَذَا الْحُبِّ هُوَ نَظَرُهُ إلَى إنْعَامِهِ عَلَى الْغَيْرِ وَكَرَاهَتُهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ وَلَوْلَا وُجُودُ ذَلِكَ الْغَيْرِ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ مَبْدَأُ ذَلِكَ كَرَاهَتَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ الْغَيْرُ كَانَ حَسَدًا؛ لِأَنَّهُ كَرَاهَةٌ تَتْبَعُهَا مَحَبَّةٌ وَأَمَّا مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الْتِفَاتِهِ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فَهَذَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ الْحَسَدِ شَيْءٌ. وَلِهَذَا يُبْتَلَى غَالِبُ النَّاسِ بِهَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي وَقَدْ تُسَمَّى الْمُنَافَسَةَ فَيَتَنَافَسُ الِاثْنَانِ فِي الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ كِلَاهُمَا يَطْلُبُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَذَلِكَ لِكَرَاهِيَةِ أَحَدِهِمَا أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ الْآخَرُ كَمَا يَكْرَهُ الْمُسْتَبِقَان ِ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَسْبِقَهُ الْآخَرُ وَالتَّنَافُسُ لَيْسَ مَذْمُومًا مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ فِي الْخَيْرِ.
قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُو نَ} فَأَمَرَ الْمُنَافِسَ أَنْ يُنَافِسَ فِي هَذَا النَّعِيمِ لَا يُنَافِسُ فِي نَعِيمِ الدُّنْيَا الزَّائِلِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الْحَسَدِ إلَّا فِيمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ وَيُعَلِّمُهُ وَمَنْ أُوتِيَ الْمَالَ فَهُوَ يُنْفِقُهُ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ عِلْمًا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلَمْ يُعَلِّمْهُ أَوْ أُوتِيَ مَالًا وَلَمْ يُنْفِقْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَهَذَا لَا يَحْسُدُ وَلَا يَتَمَنَّى مِثْلَ حَالِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي خَيْرٍ يَرْغَبُ فِيهِ بَلْ هُوَ مُعَرَّضٌ لِلْعَذَابِ وَمَنْ وُلِّيَ وِلَايَةً فَيَأْتِيهَا بِعِلْمِ وَعَدْلٍ أَدَّى الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهَذَا دَرَجَتُهُ عَظِيمَةٌ؛ لَكِنَّ هَذَا فِي جِهَادٍ عَظِيمٍ كَذَلِكَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالنُّفُوسُ لَا تَحْسُدُ مَنْ هُوَ فِي تَعَبٍ عَظِيمٍ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ وَإِنْ كَانَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلَ مِنْ الَّذِي يُنْفِقُ الْمَالَ؛ بِخِلَافِ الْمُنْفِقِ وَالْمُعَلِّمِ فَإِنَّ هَذَيْنِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْعَادَةِ عَدُوٌّ مِنْ خَارِجٍ فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُمَا لَهُمَا عَدُوٌّ يُجَاهِدَانِهِ. فَذَلِكَ أَفْضَلُ لِدَرَجَتِهِمَا وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَلِّيَ وَالصَّائِمَ وَالْحَاجَّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا يَحْصُلُ مِنْهَا فِي الْعَادَةِ مِنْ نَفْعِ النَّاسِ الَّذِي يُعَظِّمُونَ بِهِ الشَّخْصَ وَيُسَوِّدُونَه ُ مَا يَحْصُلُ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِنْفَاقِ.
وَالْحَسَدُ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا يَقَعُ لِمَا يَحْصُلُ لِلْغَيْرِ مِنْ السُّؤْدُدِ وَالرِّيَاسَةِ وَإِلَّا فَالْعَامِلُ لَا يُحْسَدُ فِي الْعَادَةِ وَلَوْ كَانَ تَنَعُّمُهُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ بِخِلَافِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُحْسَدَانِ كَثِيرًا وَلِهَذَا يُوجَدُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ مِنْ الْحَسَدِ مَا لَا يُوجَدُ فِيمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ فِيمَنْ لَهُ أَتْبَاعٌ بِسَبَبِ إنْفَاقِ مَالِهِ فَهَذَا يَنْفَعُ النَّاسَ بِقُوتِ الْقُلُوبِ وَهَذَا يَنْفَعُهُمْ بِقُوتِ الْأَبْدَانِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى مَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ هَذَا وَهَذَا. وَلِهَذَا ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ " مَثَلَيْنِ ":
مَثَلًا بِهَذَا وَمَثَلًا بِهَذَا فَقَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وَ (الْمَثَلَانِ ضَرَبَهُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَلِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ؛ فَإِنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَقْدِرُ لَا عَلَى عَمَلٍ يَنْفَعُ وَلَا عَلَى كَلَامٍ يَنْفَعُ فَإِذَا قُدِّرَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَآخَرُ قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الْمَمْلُوكُ الْعَاجِزُ عَنْ الْإِحْسَانِ وَهَذَا الْقَادِرُ عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُحْسِنُ إلَى النَّاسِ سِرًّا وَجَهْرًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ إلَيْهِمْ دَائِمًا فَكَيْفَ يُشَبَّهُ بِهِ الْعَاجِزُ الْمَمْلُوكُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى يُشْرَكَ بِهِ مَعَهُ وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَالْمَثَلُ الثَّانِي إذَا قُدِّرَ شَخْصَانِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ مَعَ هَذَا كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ نَفْعٍ قَطُّ بَلْ هُوَ كَلٌّ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ وَآخَرُ عَالِمٌ عَادِلٌ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَيَعْمَلُ بِالْعَدْلِ فَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَهَذَا نَظِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَعْمَلُ بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ. وَقَدْ ضَرَبَ ذَلِكَ مَثَلًا لِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ عَادِلٌ قَادِرٌ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَقَالَ هُودٌ: {إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ يُعَظِّمُونَ دَارَ الْعَبَّاسِ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُعَلِّمُ النَّاسَ وَأَخُوهُ يُطْعِمُ النَّاسَ فَكَانُوا يُعَظِّمُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَرَأَى مُعَاوِيَةُ النَّاسَ يَسْأَلُونَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ الْمَنَاسِكِ وَهُوَ يُفْتِيهِمْ فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ الشَّرَفُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
هَذَا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَافَسَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِنْفَاقَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: {أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْت الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إنْ سَبَقْته يَوْمًا. قَالَ: فَجِئْت بِنِصْفِ مَالِي قَالَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَيْت لِأَهْلِك قُلْت مِثْلَهُ وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَيْت لِأَهْلِك قَالَ أَبْقَيْت لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقُلْت لَا أُسَابِقُك إلَى شَيْءٍ أَبَدًا}.
فَكَانَ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ مِنْ الْمُنَافَسَةِ وَالْغِبْطَةِ الْمُبَاحَةِ؛ لَكِنَّ حَالَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ خَالٍ مِنْ الْمُنَافَسَةِ مُطْلَقًا لَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ {مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ حَصَلَ لَهُ مُنَافَسَةٌ وَغِبْطَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَكَى لَمَّا تَجَاوَزَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيك؟ فَقَالَ: أَبْكِي؛ لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمَرْوِيَّةِ غَيْرُ الصَّحِيحِ {مَرَرْنَا عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَقُولُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ: أَكْرَمْته وَفَضَّلْته قَالَ: فَرَفَعْنَاهُ إلَيْهِ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ فَقَالَ:
مَنْ هَذَا مَعَك يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَحْمَد قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ قَالَ: ثُمَّ انْدَفَعْنَا فَقُلْت مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ قُلْت: وَمَنْ يُعَاتِبُ؟ قَالَ: يُعَاتِبُ رَبَّهُ فِيك قُلْت: وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى رَبِّهِ قَالَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَرَفَ صِدْقَهُ}.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (66)
من صــ 201 الى صــ 208
وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُشَبَّهًا بِمُوسَى وَنَبِيُّنَا حَالُهُ أَفْضَلُ مِنْ حَالِ مُوسَى فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَنَحْوُهُ كَانُوا سَالِمِينَ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَانُوا أَرْفَعَ دَرَجَةً مِمَّنْ عِنْدَهُ مُنَافَسَةٌ وَغِبْطَةٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ أَبُو عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ أَمِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْمُؤْتَمَنَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ مُزَاحَمَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ كَانَ أَحَقَّ بِالْأَمَانَةِ مِمَّنْ يَخَافُ مُزَاحَمَتَهُ؛ وَلِهَذَا يُؤْتَمَنُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْخِصْيَانُ وَيُؤْتَمَنُ عَلَى الْوِلَايَةِ الصُّغْرَى مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَا يُزَاحِمُ عَلَى الْكُبْرَى وَيُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ مَنْ فِي نَفْسِهِ خِيَانَةٌ شُبِّهَ بِالذِّئْبِ الْمُؤْتَمَنِ عَلَى الْغَنَمِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ فِي ذَلِكَ لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الطَّلَبِ لِمَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ عَنْ {أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ:
فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوءٍ قَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّبَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إنِّي لاحيت أَبِي فَأَقْسَمْت أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُؤْوِيَنِي إلَيْك حَتَّى تَمْضِيَ الثَّلَاثُ فَعَلْت قَالَ: نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا؛ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَّ انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إلَّا خَيْرًا فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ الثَّلَاثِ وَكِدْت أَنْ أُحَقِّرَ عَمَلَهُ قُلْت:
يَا عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلَا هِجْرَةٌ وَلَكِنْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْت أَنْتَ الثَّلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرَدْت أَنْ آوِيَ إلَيْك لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُك فَأَقْتَدِيَ بِذَلِكَ فَلَمْ أَرَك تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِك مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْت غَيْرَ أَنَّنِي لَا أَجِدُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِي غِشًّا وَلَا حَسَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِك وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ}.
فَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو لَهُ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِك وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ يُشِيرُ إلَى خُلُوِّهِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَسَدِ. وَبِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْصَارِ فَقَالَ: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أَيْ مِمَّا أُوتِيَ إخْوَانُهُمْ الْمُهَاجِرُونَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً أَيْ حَسَدًا وَغَيْظًا مِمَّا أُوتِيَ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَقِيلَ مِنْ الْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ فَهُمْ لَا يَجِدُونَ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا مِنْ الْمَالِ وَلَا مِنْ الْجَاهِ وَالْحَسَدُ يَقَعُ عَلَى هَذَا. وَكَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مُنَافَسَةٌ عَلَى الدِّينِ فَكَانَ هَؤُلَاءِ إذَا فَعَلُوا مَا يُفَضَّلُونَ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَبَّ الْآخَرُونَ أَنْ يَفْعَلُوا نَظِيرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُنَافَسَةٌ فِيمَا يُقَرِّبُهُمْ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُو نَ}.
وَأَمَّا الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ كُلُّهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْيَهُودِ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} يَوَدُّونَ أَيْ يَتَمَنَّوْنَ ارْتِدَادَكُمْ حَسَدًا فَجَعَلَ الْحَسَدَ هُوَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ الْوُدِّ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّكُمْ قَدْ حَصَلَ لَكُمْ مِنْ النِّعْمَةِ مَا حَصَلَ؛ بَلْ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مِثْلُهُ حَسَدُوكُمْ وَكَذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ} {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ}.
وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا (نَزَلَتْ بِسَبَبِ حَسَدِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَحَرُوهُ: سَحَرَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ فَالْحَاسِدُ الْمُبْغِضُ لِلنِّعْمَةِ عَلَى مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا ظَالِمٌ مُعْتَدٍ وَالْكَارِهُ لِتَفْضِيلِهِ الْمُحِبُّ لِمُمَاثَلَتِهِ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ فَإِذَا أَحَبَّ أَنْ يُعْطَى مِثْلَ مَا أُعْطِيَ مِمَّا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَإِعْرَاضُ قَلْبِهِ عَنْ هَذَا بِحَيْثُ لَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْغَيْرِ أَفْضَلُ.
ثُمَّ هَذَا الْحَسَدُ إنْ عَمِلَ بِمُوجِبِهِ صَاحِبُهُ كَانَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا مُسْتَحِقًّا لِلْعُقُوبَةِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ وَكَانَ الْمَحْسُودُ مَظْلُومًا مَأْمُورًا بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَى الْحَاسِدِ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وَقَدْ اُبْتُلِيَ يُوسُفُ بِحَسَدِ إخْوَتِهِ لَهُ حَيْثُ قَالُوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فَحَسَدُوهُمَا عَلَى تَفْضِيلِ الْأَبِ لَهُمَا وَلِهَذَا قَالَ يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
ثُمَّ إنَّهُمْ ظَلَمُوهُ بِتَكَلُّمِهِمْ فِي قَتْلِهِ وَإِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ وَبَيْعِهِ رَقِيقًا لِمَنْ ذَهَبَ بِهِ إلَى بِلَادِ الْكُفْرِ فَصَارَ مَمْلُوكًا لِقَوْمِ كُفَّارٍ ثُمَّ إنَّ يُوسُفَ اُبْتُلِيَ بَعْدَ أَنْ ظُلِمَ بِمَنْ يَدْعُوهُ إلَى الْفَاحِشَةِ وَيُرَاوِدُ عَلَيْهَا وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِمَنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ فَاسْتَعْصَمَ وَاخْتَارَ السَّجْنَ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَآثَرَ عَذَابَ الدُّنْيَا عَلَى سَخَطِ اللَّهِ فَكَانَ مَظْلُومًا مِنْ جِهَةِ مَنْ أَحَبَّهُ لِهَوَاهُ وَغَرَضِهِ الْفَاسِدِ.
فَهَذِهِ الْمُحِبَّةُ أَحَبَّتْهُ لِهَوَى مَحْبُوبِهَا شِفَاؤُهَا وَشِفَاؤُهُ إنْ وَافَقَهَا وَأُولَئِكَ الْمُبْغِضُونَ أَبْغَضُوهُ بِغْضَةً أَوْجَبَتْ أَنْ يَصِيرَ مُلْقًى فِي الْجُبِّ ثُمَّ أَسِيرًا مَمْلُوكًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَأُولَئِكَ أَخْرَجُوهُ مِنْ إطْلَاقِ الْحُرِّيَّةِ إلَى رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ الْبَاطِلَةِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَهَذِهِ أَلْجَأَتْهُ إلَى أَنْ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا مَسْجُونًا بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ أَعْظَمَ فِي مِحْنَتِهِ وَكَانَ صَبْرُهُ هُنَا صَبْرًا اخْتِيَارِيًّا اقْتَرَنَ بِهِ التَّقْوَى بِخِلَافِ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَصَائِبِ الَّتِي مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهَا صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سُلُوَّ الْبَهَائِمِ. وَالصَّبْرُ الثَّانِي أَفْضَلُ الصَّبْرَيْنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
وَهَكَذَا إذَا أُوذِيَ الْمُؤْمِنُ عَلَى إيمَانِهِ وَطُلِبَ مِنْهُ الْكُفْرُ أَوْ الْفُسُوقُ أَوْ الْعِصْيَانُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أُوذِيَ وَعُوقِبَ فَاخْتَارَ الْأَذَى وَالْعُقُوبَةَ عَلَى فِرَاقِ دِينِهِ: إمَّا الْحَبْسُ وَإِمَّا الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِهِ كَمَا جَرَى لِلْمُهَاجِرِين َ حَيْثُ اخْتَارُوا فِرَاقَ الْأَوْطَانِ عَلَى فِرَاقِ الدِّينِ وَكَانُوا يُعَذَّبُونَ وَيُؤْذَوْنَ.
وَقَدْ أُوذِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْأَذَى فَكَانَ يَصْبِرُ عَلَيْهَا صَبْرًا اخْتِيَارِيًّا فَإِنَّهُ إنَّمَا يُؤْذَى لِئَلَّا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ مِنْ صَبْرِ يُوسُفَ: لِأَنَّ يُوسُفَ إنَّمَا طُلِبَ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ وَإِنَّمَا عُوقِبَ إذَا لَمْ يَفْعَلْ بِالْحَبْسِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ طُلِبَ مِنْهُمْ الْكُفْرُ وَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا طُلِبَتْ عُقُوبَتُهُمْ بِالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ وَأَهْوَنُ مَا عُوقِبَ بِهِ الْحَبْسُ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ حَبَسُوهُ وَبَنِيَّ هَاشِمٍ بِالشِّعْبِ مُدَّةً ثُمَّ لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ اشْتَدُّوا عَلَيْهِ فَلَمَّا بَايَعَتْ الْأَنْصَارُ وَعَرَفُوا بِذَلِكَ صَارُوا يَقْصِدُونَ مَنْعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ وَيَحْبِسُونَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ إلَّا سِرًّا إلَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَنَحْوُهُ فَكَانُوا قَدْ أَلْجَئُوهُمْ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ وَمَعَ هَذَا مَنَعُوا مَنْ مَنَعُوهُ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَحَبَسُوهُ.
فَكَانَ مَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَذَى وَالْمَصَائِبِ هُوَ بِاخْتِيَارِهِم ْ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي تَجْرِي بِدُونِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ مِنْ جِنْسِ حَبْسِ يُوسُفَ لَا مِنْ جِنْسِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَهَذَا أَشْرَفُ النَّوْعَيْنِ وَأَهْلُهَا أَعْظَمُ دَرَجَةً - وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ يُثَابُ عَلَى صَبْرِهِ وَرِضَاهُ وَتُكَفَّرُ عَنْهُ الذُّنُوبُ بِمَصَائِبِهِ - فَإِنَّ هَذَا أُصِيبَ وَأُوذِيَ بِاخْتِيَارِهِ طَاعَةً لِلَّهِ يُثَابُ عَلَى نَفْسِ الْمَصَائِبِ وَيُكْتَبُ لَهُ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ. قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
بِخِلَافِ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَجْرِي بِلَا اخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَالْمَرَضِ وَمَوْتِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ وَأَخْذِ اللُّصُوصِ مَالَهُ فَإِنَّ تِلْكَ إنَّمَا يُثَابُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا لَا عَلَى نَفْسِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمُصِيبَةِ؛ لَكِنَّ الْمُصِيبَةَ يُكَفَّرُ بِهَا خَطَايَاهُ فَإِنَّ الثَّوَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيّ َةِ وَمَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا.
وَاَلَّذِينَ يُؤْذَوْنَ عَلَى الْإِيمَانِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَحْدُثُ لَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَرَجٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ حَبْسٌ أَوْ فِرَاقُ وَطَنٍ وَذَهَابُ مَالٍ وَأَهْلٍ أَوْ ضَرْبٌ أَوْ شَتْمٌ أَوْ نَقْصُ رِيَاسَةٍ وَمَالٍ هُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَالْمُهَاجِرِي نَ الْأَوَّلِينَ فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ عَلَى مَا يُؤْذَوْنَ بِهِ وَيُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ كَمَا يُثَابُ الْمُجَاهِدُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالتَّعَبِ وَعَلَى غَيْظِهِ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ لَيْسَتْ عَمَلًا فَعَلَهُ يَقُومُ بِهِ لَكِنَّهَا مُتَسَبِّبَةٌ عَنْ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيّ ِ وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا مُتَوَلِّدَةٌ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يُقَالُ إنَّهَا فِعْلٌ لِفَاعِلِ السَّبَبِ أَوْ لِلَّهِ أَوْ لَا فَاعِلَ لَهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ فَاعِلِ السَّبَبِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ وَلِهَذَا كُتِبَ لَهُ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ " الْحَسَدَ " مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ النَّفْسِ وَهُوَ مَرَضٌ غَالِبٌ فَلَا يَخْلُصُ مِنْهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ وَلِهَذَا يُقَالُ: مَا خَلَا جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ لَكِنَّ اللَّئِيمَ يُبْدِيهِ وَالْكَرِيمَ يُخْفِيهِ. وَقَدْ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَيَحْسُدُ الْمُؤْمِنُ؟ فَقَالَ مَا أَنْسَاك إخْوَةَ يُوسُفَ لَا أَبَا لَك وَلَكِنْ عَمَهٌ فِي صَدْرِك فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّك مَا لَمْ تَعْدُ بِهِ يَدًا وَلِسَانًا.
فَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَسَدًا لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَعَهُ التَّقْوَى وَالصَّبْرَ. فَيَكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ دِينٌ لَا يَعْتَدُونَ عَلَى الْمَحْسُودِ فَلَا يُعِينُونَ مَنْ ظَلَمَهُ وَلَكِنَّهُمْ أَيْضًا لَا يَقُومُونَ بِمَا يَجِبُ مِنْ حَقِّهِ بَلْ إذَا ذَمَّهُ أَحَدٌ لَمْ يُوَافِقُوهُ عَلَى ذَمِّهِ وَلَا يَذْكُرُونَ مَحَامِدَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ مَدَحَهُ أَحَدٌ لَسَكَتُوا وَهَؤُلَاءِ مَدِينُونَ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورِ فِي حَقِّهِ مُفَرِّطُونَ فِي ذَلِكَ؛ لَا مُعْتَدُونَ عَلَيْهِ وَجَزَاؤُهُمْ أَنَّهُمْ يَبْخَسُونَ حُقُوقَهُمْ فَلَا يُنْصَفُونَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ وَلَا يُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ كَمَا لَمْ يَنْصُرُوا هَذَا الْمَحْسُودَ وَأَمَّا مَنْ اعْتَدَى بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ فَذَلِكَ يُعَاقَبُ.
وَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الظَّالِمِينَ نَفَعَهُ اللَّهُ بِتَقْوَاهُ: كَمَا جَرَى لِزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّهَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي تُسَامِي عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَسَدُ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ لِبَعْضِ كَثِيرٌ غَالِبٌ لَا سِيَّمَا الْمُتَزَوِّجَا تُ بِزَوْجِ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَغَارُ عَلَى زَوْجِهَا لِحَظِّهَا مِنْهُ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ الْمُشَارَكَةِ يَفُوتُ بَعْضُ حَظِّهَا.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (67)
من صــ 209 الى صــ 216
وهكذا الحسد يقع كثيرا بين المتشاركين في رئاسة أو مال إذا أخذ بعضهم قسطا من ذلك وفات الآخر؛ ويكون بين النظراء لكراهة أحدهما أن يفضل الآخر عليه كحسد إخوة يوسف كحسد ابني آدم أحدهما لأخيه فإنه حسده لكون أن الله تقبل قربانه ولم يتقبل قربان هذا؛ فحسده على ما فضله الله من الإيمان والتقوى - كحسد اليهود للمسلمين - وقتله على ذلك؛ ولهذا قيل أول ذنب عصي الله به ثلاثة: الحرص والكبر والحسد.
فالحرص من آدم والكبر من إبليس والحسد من قابيل حيث قتل هابيل. وفي الحديث {ثلاث لا ينجو منهن أحد: الحسد والظن والطيرة. وسأحدثكم بما يخرج من ذلك إذا حسدت فلا تبغض وإذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض} رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة.
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم {دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء وهي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين} فسماه داء كما سمى البخل داء في قوله: {وأي داء أدوأ من البخل} فعلم أن هذا مرض وقد جاء في حديث آخر {أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء} فعطف الأدواء على الأخلاق والأهواء.
فإن " الخلق " ما صار عادة للنفس وسجية. قال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} قال ابن عباس وابن عيينة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم عنهم: على دين عظيم وفي لفظ عن ابن عباس: على دين الإسلام. وكذلك قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان خلقه القرآن. وكذلك قال الحسن البصري: أدب القرآن هو الخلق العظيم.
وأما " الهوى " فقد يكون عارضا والداء هو المرض وهو تألم القلب والفساد فيه وقرن في الحديث الأول الحسد بالبغضاء؛ لأن الحاسد يكره أولا فضل الله على ذلك الغير؛ ثم ينتقل إلى بغضه؛ فإن بغض اللازم يقتضي بغض الملزوم فإن نعمة الله إذا كانت لازمة وهو يحب زوالها وهي لا تزول إلا بزواله أبغضه وأحب عدمه والحسد يوجب البغي كما أخبر الله تعالى عمن قبلنا: أنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فلم يكن اختلافهم لعدم العلم بل علموا الحق ولكن بغى بعضهم على بعض كما يبغي الحاسد على المحسود. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تحاسدوا ولا تباغضوا؛ ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال: يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من رواية أنس أيضا {والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.
وقد قال تعالى: {وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا} {ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما}. فهؤلاء المبطئون لم يحبوا لإخوانهم المؤمنين ما يحبون لأنفسهم بل إن أصابتهم مصيبة فرحوا باختصاصهم وإن أصابتهم نعمة لم يفرحوا لهم بها بل أحبوا أن يكون لهم منها حظ فهم لا يفرحون إلا بدنيا تحصل لهم أو شر دنيوي ينصرف عنهم إذا كانوا لا يحبون الله ورسوله والدار الآخرة ولو كانوا كذلك لأحبوا إخوانهم وأحبوا ما وصل إليهم من فضله وتألموا بما يصيبهم من المصيبة ومن لم يسره ما يسر المؤمنين ويسوءه ما يسوء المؤمنين فليس منهم.
ففي الصحيحين عن عامر قال سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول: {سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد. إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر} وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه}.
والشح مرض والبخل مرض والحسد شر من البخل كما في الحديث الذي رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار} وذلك أن البخيل يمنع نفسه والحسود يكره نعمة الله على عباده وقد يكون في الرجل إعطاء لمن يعينه على أغراضه وحسد لنظرائه وقد يكون فيه بخل بلا حسد لغيره والشح أصل ذلك.
وقال تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا} وكان عبد الرحمن بن عوف يكثر من الدعاء في طوافه يقول: اللهم قني شح نفسي فقال له رجل: ما أكثر ما تدعو بهذا فقال: إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة. والحسد يوجب الظلم
فصل:
فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها بل وحبها لما يضرها ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب وأما مرض الشهوة والعشق فهو حب النفس لما يضرها وقد يقترن به بغضها لما ينفعها والعشق مرض نفساني وإذا قوي أثر في البدن فصار مرضا في الجسم إما من أمراض الدماغ كالماليخوليا؛ ولهذا قيل فيه هو مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا وإما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك. والمقصود هنا " مرض القلب " فإنه أصل محبة النفس لما يضرها كالمريض البدن الذي يشتهي ما يضره وإذا لم يطعم ذلك تألم وإن أطعم ذلك قوي به المرض وزاد.
كذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاهدة وملامسة وسماعا بل ويضره التفكر فيه والتخيل له وهو يشتهي ذلك فإن منع من مشتهاه تألم وتعذب وإن أعطي مشتهاه قوي مرضه وكان سببا لزيادة الألم. وفي الحديث: {أن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب} وفي مناجاة موسى المأثورة عن وهب التي رواها الإمام أحمد في (كتاب الزهد " {يقول الله تعالى: إني لأذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة.
وإني لأجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة وما ذلك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطفئه الهوى}. وإنما شفاء المريض بزوال مرضه بل بزوال ذلك الحب المذموم من قلبه.
(وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111)
[فصل: نقض دعواهم الاستغناء باليهودية والنصرانية]
فصل
ثم قالوا: " إنا نعجب من هؤلاء القوم، الذين مع أدبهم وما يأخذون به أنفسهم من الفضل، كيف لم يعلموا أن الشرائع شريعتان: شريعة عدل وشريعة فضل؛ لأنه لما كان الباري عدلا وجوادا وجب أن يظهر عدله على خلقه فأرسل موسى إلى بني إسرائيل فوضع شريعة العدل وأمرهم بفعلها إلى أن استقرت في نفوسهم، ولما كان الكمال الذي هو الفضل لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال، وجب أن يكون هو - تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه - الذي يضعه؛ لأنه ليس شيء أكمل منه، ولأنه جواد؛ وجب أن يجود بأجل الموجودات وليس في الموجودات أكمل من كلمته؛ لذلك وجب أن يجود بكلمته، فلهذا وجب أن يجود بكلمته، فلهذا وجب أن يتحد بذات محسوسة يظهر منها قدرته وجوده. ولما لم يكن في المخلوقات أجل من الإنسان، اتحد بالطبيعة البشرية من السيدة الطاهرة، من مريم البتول المصطفاة على نساء العالمين، وبعد هذا الكمال ما تبقى شيء يوضع؛ لأن جميع ما يتقدمه وما يأتي مقتضيه، وما يأتي بعد الكمال غير محتاج إليه؛ لأن ليس شيء يأتي بعد الكمال فيكون فاضلا، بل دون، أو أخذ منه.
فهو فاضل لا يحتاج إليه، وفي هذا القول نفع. والسلام على من اتبع الهدى، وهذا مما عرفته من أن القوم الذين رأيتهم وخاطبتهم في محمد - عليه السلام - وما يحتجون به عن أنفسهم، فإن يكن ما ذكروه صحيحا؛ فلله الحمد. وإن كان خلاف ذلك فمولانا يكتب ذلك، فقد جعلوني سفيرا، والحمد لله رب العالمين ".
والجواب على هذا من وجوه، أحدها: أن يقال: بل الشرائع ثلاثة: شريعة عدل فقط، وشريعة فضل فقط، وشريعة تجمع العدل والفضل، فتوجب العدل، وتندب إلى الفضل، وهذه أكمل الشرائع الثلاث وهي شريعة القرآن الذي
جمع فيه بين العدل والفضل. مع أنا لا ننكر أن يكون موسى - عليه السلام - أوجب العدل وندب إلى الفضل، وكذلك المسيح - أيضا - أوجب العدل وندب إلى الفضل.
وأما من يقول: إن المسيح أوجب الفضل وحرم على كل مظلوم أن يقتص من ظالمه، أو أن موسى لم يندب إلى الإحسان، فهذا فيه غضاضة بشريعة المرسلين. لكن قد يقال: إن ذكر العدل في التوراة أكثر، وذكر الفضل في الإنجيل أكثر، والقرآن جمع بينهما على غاية الكمال.
والقرآن بين أن السعداء أهل الجنة، وهم أولياء الله نوعان: أبرار مقتصدون، ومقربون سابقون؛ فالدرجة الأولى تحصل بالعدل: وهي أداء الواجبات وترك المحرمات، والثانية لا تحصل إلا بالفضل: وهو أداء الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات.
فالشريعة الكاملة تجمع العدل والفضل؛ كقوله - تعالى - {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280].
فهذا عدل واجب، من خرج عنه استحق العقوبة في الدنيا والآخرة.
ثم قال: {وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة: 280].
فهذا فضل مستحب مندوب إليه، من فعله أثابه الله ورفع درجته، ومن تركه لم يعاقبه.
وقال - تعالى -:.
{ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} [النساء: 92].
فهذا عدل.
ثم قال - تعالى -: {إلا أن يصدقوا} [النساء: 92].
فهذا فضل.
وقال - تعالى -:.
{والجروح قصاص} [المائدة: 45].
فهذا عدل.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/23.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام