-
الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
الموافقات
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/73.jpg
الشاطبي - أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الأجزاء: خمسة أجزاء
سنة الطباعة: 1424هـ / 2003م
الناشر: دار ابن القيم- دار بن عفان
في بيان مقاصد الكتاب والسنة، والحكم، والمصالح الكلية، والتعريف بأسرار التكاليف في الشريعة، وأحكام الاجتهاد والتقليد، وما يتعلق بذلك، ألفه الحافظ إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة 790 هـ.
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَنَا بِنُورِ الْعِلْمِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ ، وَهَدَانَا بِالِاسْتِبْصَا رِ بِهِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي عَمَايَةِ الضَّلَالَةِ ، وَنَصَبَ لَنَا مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ أَعْلَى عِلْمٍ وَأَوْضَحَ دَلَالَةٍ ، وَكَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مَا مَنَّ بِهِ مِنَ النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ ، وَالْمِنَحِ الْجَلِيلَةِ ، وَأَنَالَهُ ، فَلَقَدْ كُنَّا قَبْلَ شُرُوقِ هَذَا النُّورِ نَخْبِطُ خَبْطَ الْعَشْوَاءِ ، وَتَجْرِي عُقُولُنَا فِي اقْتِنَاصِ مَصَالِحِنَا عَلَى غَيْرِ السَّوَاءِ ; لِضَعْفِهَا عَنْ حَمْلِ هَذِهِ الْأَعْبَاءِ ، وَمُشَارَكَةِ عَاجِلَاتِ الْأَهْوَاءِ ، عَلَى مَيْدَانِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْمُنْقَلَبَيْ نِ مَدَارُ الْأَسْوَاءِ ، فَنَضَعُ السُّمُومَ عَلَى الْأَدْوَاءِ مَوَاضِعَ الدَّوَاءِ ، طَالِبِينَ لِلشِّفَاءِ ، كَالْقَابِضِ عَلَى الْمَاءِ ، وَلَا زِلْنَا نَسْبَحُ بَيْنَهُمَا فِي بَحْرِ الْوَهْمِ فَنَهِيمُ ، وَنَسْرَحُ مِنْ جَهْلِنَا بِالدَّلِيلِ فِي لَيْلٍ بَهِيمٍ ، وَنَسْتَنْتِجُ الْقِيَاسَ الْعَقِيمَ ، وَنَطْلُبُ آثَارَ الصِّحَّةِ مِنَ الْجِسْمِ السَّقِيمِ ، وَنَمْشِي إِكْبَابًا عَلَى الْوُجُوهِ ، وَنَظُنُّ أَنَّا نَمْشِي عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ; حَتَّى ظَهَرَ [ ص: 4 ] مَحْضُ الْإِجْبَارِ فِي عَيْنِ الْأَقْدَارِ ، وَارْتَفَعَتْ حَقِيقَةُ أَيْدِيِ الِاضْطِرَارِ إِلَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ أَطْمَاعُ أَهْلِ الِافْتِقَارِ ، لَمَّا صَحَّ مِنْ أَلْسِنَةِ الْأَحْوَالِ صِدْقُ الْإِقْرَارِ ، وَثَبَتَ فِي مُكْتَسَبَاتِ الْأَفْعَالِ حُكْمُ الِاضْطِرَارِ ، فَتَدَارَكَنَا الرَّبُّ الْكَرِيمُ بِلُطْفِهِ الْعَظِيمِ ، وَمَنَّ عَلَيْنَا الْبَرُّ الرَّحِيمُ بِعَطْفِهِ الْعَمِيمِ ; إِذْ لَمْ نَسْتَطِعْ مِنْ دُونِهِ حِيَلًا ، وَلَمْ نَهْتَدِ بِأَنْفُسِنَا سُبُلًا ، بِأَنْ جَعَلَ الْعُذْرَ مَقْبُولًا ، وَالْعَفْوَ عَنِ الزَّلَّاتِ قَبْلَ بَعْثِ الرِّسَالَاتِ مَأْمُولًا ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْأُمَمِ ، كَلٌّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ مِنْ عَرَبٍ أَوْ عَجَمٍ ; لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ مِنْ أَمَمٍ ، وَيَأْخُذُوا بِحُجَزِهِمْ عَنْ مَوَارِدِ جَهَنَّمَ ، وَخَصَّنَا مَعْشَرَ الْآخَرِينَ السَّابِقِينَ ، بِلَبِنَةِ تَمَامِهِمْ ، وَمِسْكِ خِتَامِهِمْ ; مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، الَّذِي [ ص: 5 ] هُوَ النِّعْمَةُ الْمُسْدَاةُ ، وَالرَّحْمَةُ الْمُهْدَاةُ ، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الْأُمِّيَّةُ ، وَالنُّخْبَةُ الطَّاهِرَةُ الْهَاشِمِيَّةُ ، أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْعَرَبِيَّ الْمُبِينَ ، الْفَارِقَ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، وَوَضَعَ بَيَانَهُ الشَّافِيَ وَإِيضَاحَهُ الْكَافِيَ فِي كَفِّهِ ، وَطَيَّبَهُ بِطِيبِ ثَنَائِهِ وَعَرَّفَهُ بِعَرْفِهِ ; إِذْ جَعَلَ أَخْلَاقَهُ وَشَمَائِلَهُ جُمْلَةَ نَعْتِهِ ، وَكُلِّيَّ وَصْفِهِ ، فَصَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَيِّنًا بِقَوْلِهِ وَإِقْرَارِهِ وَفِعْلِهِ وَكَفِّهِ ; فَوَضَحَ النَّهَارُ لِذِي عَيْنَيْنِ ، وَتَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ، شَمْسًا مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ وَلَا غَيْنٍ .
فَنَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَالْحَمْدُ نِعْمَةٌ مِنْهُ مُسْتَفَادَةٌ ، وَنَشْكُرُ لَهُ وَالشُّكْرُ أَوَّلُ الزِّيَادَةِ ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ ، خَالِقُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، وَبَاسِطُ الرِّزْقِ لِلْمُطِيعِينَ وَالْعَاصِينَ ، بَسْطًا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ ، وَالْفَضْلُ وَالِامْتِنَانُ ، جَارِيًا عَلَى حُكْمِ الضَّمَانِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [ الذَّارِيَاتِ : 56 - 58 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [ طه : 132 ] .
كُلُّ ذَلِكَ لِيَتَفَرَّغُوا لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ عَرْضًا ، فَلَمَّا تَحَمَّلُوهَا عَلَى حُكْمِ الْجَزَاءِ ; حَمَلُوهَا فَرْضًا ، وَيَا لَيْتَهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى الْإِشْفَاقِ وَالْإِبَايَةِ ، وَتَأَمَّلُوا فِي الْبِدَايَةِ خَطَرَ النِّهَايَةِ ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَخْطِرْ لَهُمْ خَطَرُهَا عَلَى بَالٍ ، كَمَا خَطَرَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ; فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْإِنْسَانُ ظَلُومًا جَهُولًا ، وَكَانَ [ ص: 6 ] أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ، دَلَّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَبَانَة ِ شَاهَدُ قَوْلِهِ : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ .
فَسُبْحَانَ مَنْ أَجْرَى الْأُمُورَ بِحِكْمَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ ; عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَمَقَادِيرِهِ ; لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْعِبَادِ فِيمَا يَعْمَلُونَ ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَحَبِيبُهُ وَخَلِيلُهُ ، الصَّادِقُ الْأَمِينُ ، الْمَبْعُوثُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ ، بِمِلَّةٍ حَنِيفِيَّةٍ ، وَشِرْعَةِ الْحَاكِمِينَ بِهَا حَفِيَّةً ، يَنْطِقُ بِلِسَانِ التَّيْسِيرِ بَيَانُهَا ، وَيُعْرَفُ أَنَّ الرِّفْقَ خَاصِّيَّتُهَا وَالسَّمَاحَ شَأْنُهَا ، فَهِيَ تَحْمِلُ الْجَمَّاءَ الْغَفِيرَ ضَعِيفًا وَقَوِيًّا ، وَتَهْدِي الْكَافَّةَ فَهِيمًا وَغَبِيًّا ، وَتَدْعُوهُمْ بِنِدَاءٍ مُشْتَرِكٍ دَانِيًا وَقَصِيًّا ، وَتَرْفُقِ بِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مُطِيعًا وَعَصِيًّا ، وَتَقُودُهُمْ بِخَزَائِمِهِمْ مُنْقَادًا وَأَبِيًّا ، وَتُسَوِّي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْعَدْلِ شَرِيفًا وَدَنِيًّا ، وَتُبَوِّئُ حَامِلَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَكَانًا عَلِيًّا ، وَتُدْرِجُ النُّبُوءَةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا ، وَتُلْبِسُ الْمُتَّصِفِ بِهَا مَلْبَسًا سَنِيًّا ، حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ وَلِيًّا ، فَمَا أَغْنَى مَنْ وَالَاهَا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا ، وَمَا أَفْقَرَ مَنْ عَادَهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا .
فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُو بِهَا وَإِلَيْهَا ، وَيَبُثُّ لِلثَّقَلَيْنِ مَا لَدَيْهَا ، وُيُنَاضِلُ [ ص: 7 ] بِبَرَاهِينِهَا عَلَيْهَا ، وَيَحْمِي بِقَوَاطِعِهَا جَانِبَيْهَا ، بَالِغَ الْغَايَةِ فِي الْبَيَانِ ، بِقَوْلِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ وَمَقَالِهِ : أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ عَرَفُوا مَقَاصِدَ الشَّرِيعَةِ فَحَصَّلُوهَا ، وَأَسَّسُوا قَوَاعِدَهَا وَأَصَّلُوهَا ، وَجَالَتْ أَفْكَارُهُمْ فِي آيَاتِهَا ، وَأَعْمَلُوا الْجِدَّ فِي تَحْقِيقِ مَبَادِيهَا وَغَايَاتِهَا ، وَعُنُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِاطِّرَاحِ الْآمَالِ ، وَشَفَّعُوا الْعِلْمَ بِإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ ، وَسَابَقُوا إِلَى الْخَيِّرَاتِ فَسَبَقُوا ، وَسَارَعُوا إِلَى الصَّالِحَاتِ فَمَا لُحِقُوا ، إِلَى أَنْ طَلَعَ فِي آفَاقِ بَصَائِرِهِمْ شَمْسُ الْفُرْقَانِ ، وَأَشْرَقَ فِي قُلُوبِهِمْ نُورُ الْإِيقَانِ ، فَظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكَمِ مِنْهَا عَلَى اللِّسَانِ ، فَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ قَرَعَ ذَلِكَ الْبَابَ ، فَصَارُوا خَاصَّةَ الْخَاصَّةِ ، وَلُبَابَ اللُّبَابِ ، وَنُجُومًا يَهْتَدِي بِأَنْوَارِهِمْ أُولُو الْأَلْبَابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَنِ الَّذِينَ خَلَفُوهُمْ قُدْوَةً لِلْمُقْتَدِينَ ، وَأُسْوَةً لِلْمُهْتَدِينَ ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أَمَّا بَعْدُ ; أَيُّهَا الْبَاحِثُ عَنْ حَقَائِقِ أَعْلَى الْعُلُومِ ، الطَّالِبُ لِأَسْنَى نَتَائِجِ الْحُلُومِ ، الْمُتَعَطِّشُ إِلَى أَحْلَى مَوَارِدِ الْفُهُومِ ، الْحَائِمُ حَوْلَ حِمًى ظَاهِرِ الْمَرْسُومِ ; [ ص: 8 ] طَمَعًا فِي إِدْرَاكِ بَاطِنِهِ الْمَرْقُومِ ، مَعَانِيَ مَرْتُوقَةٍ ، فِي فَتْقِ تِلْكَ الرُّسُومِ ; فَإِنَّهُ قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تُصْغِيَ إِلَى مَنْ وَافَقَ هَوَاكَ هَوَاهُ ، وَأَنْ تُطَارِحَ الشَّجَى مَنْ مَلَكَهُ - مِثْلَكَ - شَجَاهُ ، وَتَعُودَ ; إِذْ شَارَكْتَهُ فِي جَوَاهُ مَحَلَّ نَجْوَاهُ ; حَتَّى يَبُثَّ إِلَيْكَ شَكْوَاهُ ، لِتَجْرِيَ مَعَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ حَيْثُ جَرَى ، وَتَسْرِيَ فِي غَبَشِهِ الْمُمْتَزِجِ ضَوْءُهُ بِالظُّلْمَةِ كَمَا سَرَى ، وَعِنْدَ الصَّبَاحِ تَحْمَدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَاقِبَةَ السُّرَى .
فَلَقَدْ قَطَعَ فِي طَلَبِ هَذَا الْمَقْصُودِ مَهَامِهَ فِيحًا ، وَكَابَدَ مِنْ طَوَارِقِ طَرِيقِهِ حَسَنًا وَقَبِيحًا ، وَلَاقَى مِنْ وُجُوهِهِ الْمُعْتَرِضَةِ جَهْمًا وَصَبِيحًا ، وَعَانَى مِنْ رَاكِبَتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ مَانِعًا وَمُبِيحًا ; فَإِنْ شِئْتَ أَلْفَيْتَهُ لِتَعَبِ السَّيْرِ طَلِيحًا ، أَوْ لِمَا حَالَفَ مِنَ الْعَنَاءِ طَرِيحًا ، أَوْ لِمُحَارَبَةِ الْعَوَارِضِ الصَّادَّةِ جَرِيحًا ، فَلَا عَيْشَ هَنِيئًا ، وَلَا مَوْتَ مُرِيحًا .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِي التَّحْقِيقِ : أَنَّ أَدْهَى مَا يَلْقَاهُ السَّالِكُ لِلطَّرِيقِ فَقْدُ الدَّلِيلِ ، مَعَ ذِهْنٍ لِعَدَمِ نُورِ الْفَرْقَانِ كَلِيلٍ ، وَقَلْبٍ بِصَدَمَاتِ الْأَضْغَاثِ عَلِيلٍ ; فَيَمْشِي عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ ، وَيَنْتَمِي إِلَى غَيْرِ قَبِيلٍ ، إِلَى أَنْ مَنَّ الرَّبُّ الْكَرِيمُ ، الْبَرُّ الرَّحِيمُ ، الْهَادِي - مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، فَبُعِثَتْ لَهُ أَرْوَاحُ تِلْكَ الْجُسُومِ ، وَظَهَرَتْ حَقَائِقُ تِلْكَ الرُّسُومِ ، وَبَدَتْ مُسَمَّيَاتُ تِلْكَ الْوُسُومِ ; فَلَاحَ فِي أَكْنَافِهَا الْحَقُّ وَاسْتَبَانَ ، وَتَجَلَّى مِنْ تَحْتِ سَحَابِهَا شَمْسُ الْفُرْقَانِ وَبَانَ ، وَقَوِيَتِ النَّفْسُ الضَّعِيفَةُ [ ص: 9 ] وَشَجُعَ الْقَلْبُ الْجَبَانُ ، وَجَاءَ الْحَقُّ فَوَصَلَ أَسْبَابَهُ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ فَبَانَ ، فَأَوْرَدَ مِنْ أَحَادِيثِهِ الصِّحَاحِ الْحِسَانِ ، وَفَوَائِدِهِ الْغَرِيبَةِ الْبُرْهَانِ ، وَبَدَائِعِهِ الْبَاهِرَةِ لِلْأَذْهَانِ - مَا يَعْجِزُ عَنْ تَفْصِيلِ بَعْضِ أَسْرَارِهِ الْعَقْلُ ، وَيَقْصُرُ عَنْ بَثِّ مِعْشَارِهِ اللِّسَانُ ، إِيرَادًا يُمَيِّزُ الْمَشْهُورَ مِنَ الشَّاذِّ ، وَيُحَقِّقُ مَرَاتِبَ الْعَوَامِّ وَالْخَوَاصِّ وَالْجَمَاهِيرِ وَالْأَفْذَاذِ ، وَيُوَفِّي حُقَّ الْمُقَلِّدِ وَالْمُجْتَهِدِ وَالسَّالِكِ وَالْمُرَبِّي وَالتِّلْمِيذِ وَالْأُسْتَاذِ ، عَلَى مَقَادِيرِهِمْ فِي الْغَبَاوَةِ وَالذَّكَاءِ وَالتَّوَانِي وَالِاجْتِهَادِ وَالْقُصُورِ وَالنَّفَاذِ ، وَيُنْزِلُ كُلًّا مِنْهُمْ مَنْزِلَتَهُ حَيْثُ حَلَّ ، وَيُبَصِّرُهُ فِي مَقَامِهِ الْخَاصِّ بِهِ بِمَا دَقَّ وَجَلَّ ، وَيَحْمِلُهُ فِيهِ عَلَى الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ مَجَالُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ ، وَيَأْخُذُ بِالْمُخْتَلِفِ ينَ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ بَيْنَ الِاسْتِصْعَادِ وَالِاسْتِنْزَا لِ ، لِيَخْرُجُوا مِنِ انْحِرَافَيِ التَّشَدُّدِ وَالِانْحِلَالِ ، وَطَرَفَيِ التَّنَاقُضِ وَالْمُحَالِ ; فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا يَجِبُ لِجَلَالِهِ ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى جَمِيلِ إِنْعَامِهِ وَجَزِيلِ إِفْضَالِهِ .
وَلَمَّا بَدَا مِنْ مَكْنُونِ السِّرِّ مَا بَدَا وَوَفَّقَ اللَّهُ الْكَرِيمُ لِمَا شَاءَ مِنْهُ وَهَدَى - لَمْ أَزَلْ أُقَيِّدُ مِنْ أَوَابِدِهِ ، وَأَضُمُّ مِنْ شَوَارِدِهِ تَفَاصِيلَ وَجُمَلًا ، وَأَسُوقُ مِنْ شَوَاهِدِهِ فِي مَصَادِرِ الْحُكْمِ وَمَوَارِدِهِ ، مُبَيِّنًا لَا مُجْمِلًا ، مُعْتَمِدًا عَلَى الِاسْتِقْرَاءَ اتِ الْكُلِّيَّةِ ، غَيْرَ مُقْتَصِرٍ عَلَى الْأَفْرَادِ الْجُزْئِيَّةِ ، وَمُبَيِّنًا أُصُولَهَا النَّقْلِيَّةَ بِأَطْرَافٍ مِنَ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ ، حَسْبَمَا أَعْطَتْهُ الِاسْتِطَاعَةُ وَالْمِنَّةُ ، فِي بَيَانِ مَقَاصِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، ثُمَّ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي نَظْمِ تِلْكَ الْفَرَائِدِ ، وَجَمْعِ تِلْكَ الْفَوَائِدِ ، إِلَى تَرَاجِمَ تَرُدُّهَا إِلَى أُصُولِهَا ، وَتَكُونُ عَوْنًا عَلَى تَعَقُّلِهَا وَتَحْصِيلِهَا ; فَانْضَمَّتْ إِلَى تَرَاجِمِ الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ ، وَانْتَظَمَتْ فِي أَسْلَاكِهَا السَّنِيَّةِ الْبَهِيَّةِ ، فَصَارَ كِتَابًا مُنْحَصِرًا فِي خَمْسَةِ أَقْسَامٍ :
[ ص: 10 ] الْأَوَّلُ : فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي تَمْهِيدِ الْمَقْصُودِ .
وَالثَّانِي : فِي الْأَحْكَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرُهَا وَالْحُكْمُ بِهَا أَوْ عَلَيْهَا ، كَانَتْ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ أَوْ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ .
وَالثَّالِثُ : فِي الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ .
وَالرَّابِعُ : فِي حَصْرِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَانِ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَعَلَى التَّفْصِيلِ ، وَذِكْرِ مَآخِذِهَا ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُحْكَمُ بِهَا عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ .
وَالْخَامِسُ : فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ ، وَالْمُتَّصِفِي نَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ .
وَفِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَسَائِلُ وَتَمْهِيدَاتٌ ، وَأَطْرَافٌ وَتَفْصِيلَاتٌ ; يَتَقَرَّرُ بِهَا الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ ، وَيَقْرُبُ بِسَبَبِهَا تَحْصِيلُهُ لِلْقُلُوبِ .
وَلِأَجَلِّ مَا أُودِعَ فِيهِ مِنَ الْأَسْرَارِ التَّكْلِيفِيَّ ةِ الْمُتَعَلِّقَة ِ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ ، سَمَّيْتُهُ بِ [ عُنْوَانُ التَّعْرِيفِ بِأَسْرَارِ التَّكْلِيفِ ] ، ثُمَّ انْتَقَلْتُ عَنْ هَذِهِ السِّيمَاءِ لِسَنَدٍ غَرِيبٍ يَقْضِي الْعَجَبَ مِنْهُ الْفَطِنُ الْأَرِيبُ ، وَحَاصِلُهُ أَنِّي لَقِيتُ يَوْمًا بَعْضَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَحْلَلْتُهُمْ مِنِّي مَحَلَّ الْإِفَادَةِ ، وَجَعَلْتُ مَجَالِسَهُمُ الْعِلْمِيَّةَ مَحَطًّا لِلرَّحْلِ وَمُنَاخًا لِلْوِفَادَةِ ، وَقَدْ شَرَعْتُ فِي تَرْتِيبِ الْكِتَابِ وَتَصْنِيفِهِ ، وَنَابَذْتُ الشَّوَاغِلَ دُونَ تَهْذِيبِهِ وَتَأْلِيفِهِ ; فَقَالَ لِي : رَأَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فِي النَّوْمِ ، وَفِي يَدِكَ كِتَابٌ [ ص: 11 ] أَلَّفْتَهُ فَسَأَلْتُكَ عَنْهُ ، فَأَخْبَرْتَنِي أَنَّهُ كِتَابُ [ الْمُوَافَقَاتِ ] ، قَالَ : فَكُنْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ الظَّرِيفَةِ ، فَتُخْبِرُنِي أَنَّكَ وَفَّقْتَ بِهِ بَيْنَ مَذْهَبَيِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَبِي حَنِيفَةَ . فَقُلْتُ لَهُ لَقَدْ أَصَبْتُمُ الْغَرَضَ بِسَهْمٍ مِنَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ مُصِيبٍ ، وَأَخَذْتُمْ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ النَّبَوِيَّةِ بِجُزْءٍ صَالِحٍ وَنَصِيبٍ ; فَإِنِّي شَرَعْتُ فِي تَأْلِيفِ هَذِهِ الْمَعَانِي ، عَازِمًا عَلَى تَأْسِيسِ تِلْكَ الْمَبَانِي ; فَإِنَّهَا الْأُصُولُ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، وَالْقَوَاعِدُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهَا عِنْدَ الْقُدَمَاءِ ، فَعَجِبَ الشَّيْخُ مِنْ غَرَابَةِ هَذَا الِاتِّفَاقِ ، كَمَا عَجِبْتُ أَنَا مِنْ رُكُوبِ هَذِهِ الْمَفَازَةِ وَصُحْبَةِ هَذِهِ الرِّفَاقِ ، لِيَكُونَ - أَيُّهَا الْخِلُّ الصَّفِّيُّ ، وَالصَّدِيقُ الْوَفِيُّ - هَذَا الْكِتَابُ عَوْنًا لَكَ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ ، وَشَارِحًا لِمَعَانِي الْوِفَاقِ وَالتَّوْفِيقِ ، لَا لِيَكُونَ عُمْدَتَكَ فِي كُلِّ تَحَقُّقٍ وَتَحْقِيقٍ ، وَمَرْجِعَكَ فِي جَمِيعِ مَا يَعِنُّ لَكَ مِنْ تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ ; إِذْ قَدْ صَارَ عِلْمًا مِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ ، وَرَسْمًا كَسَائِرِ الرُّسُومِ ، وَمَوْرِدًا لِاخْتِلَافِ الْعُقُولِ وَتَعَارُضِ الْفُهُومِ ، لَا جَرَمَ أَنَّهُ قَرَّبَ عَلَيْكَ فِي الْمَسِيرِ ، وَأَعْلَمَكَ كَيْفَ تَرْقَى فِي عُلُومِ الشَّرِيعَةِ وَإِلَى أَيْنَ تَسِيرُ ، وَوَقَفَ بِكَ مِنَ الطَّرِيقِ السَّابِلَةِ عَلَى الظَّهْرِ ، وَخَطَبَ لَكَ عَرَائِسَ الْحِكْمَةِ ، ثُمَّ وَهَبَ لَكَ الْمَهْرَ .
فَقَدِّمْ قَدَمَ عَزْمِكَ ; فَإِذَا أَنْتَ بِحَوْلِ اللَّهِ قَدْ وَصَلْتَ ، وَأَقْبِلْ عَلَى مَا قِبَلَكَ مِنْهُ ; فَهَا أَنْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَدْ فُزْتَ بِمَا حَصَّلْتَ ، وَإِيَّاكَ وَإِقْدَامَ الْجَبَانِ ، وَالْوُقُوفَ مَعَ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ ، وَالْإِخْلَادَ إِلَى مُجَرَّدِ التَّصْمِيمِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ، وَفَارِقْ وَهَدَ [ ص: 12 ] التَّقْلِيدِ رَاقِيًا إِلَى يَفَاعِ الِاسْتِبْصَارِ ، وَتَمَسَّكْ مِنْ هَدْيِكَ بِهِمَّةٍ تَتَمَكَّنُ بِهَا مِنَ الْمُدَافَعَةِ وَالِاسْتِنْصَا رِ ، إِذَا تَطَلَّعَتِ الْأَسْئِلَةُ الضَّعِيفَةُ وَالشُّبَهُ الْقِصَارُ ، وَالْبَسِ التَّقْوَى شِعَارًا ، وَالِاتِّصَافَ بِالْإِنْصَافِ دِثَارًا ، وَاجْعَلْ طَلَبَ الْحَقِّ لَكَ نِحْلَةً ، وَالِاعْتِرَافَ بِهِ لِأَهْلِهِ مِلَّةً ، لَا تَمْلِكْ قَلْبَكَ عَوَارِضُ الْأَغْرَاضِ ، وَلَا تُغَيِّرْ جَوْهَرَةَ قَصْدِكَ طَوَارِقُ الْإِعْرَاضِ ، وَقِفْ وَقْفَةَ الْمُتَخَيِّرِي نَ ، لَا وَقْفَةَ الْمُتَحَيِّرِي نَ ، إِلَّا إِذَا اشْتَبَهَتِ الْمَطَالِبُ ، وَلَمْ يَلُحْ وَجْهُ الْمَطْلُوبِ لِلطَّالِبِ ، فَلَا عَلَيْكَ مِنَ الْإِحْجَامِ وَإِنْ لَجَّ الْخُصُومُ ، فَالْوَاقِعُ فِي حِمَى الْمُشْتَبِهَات ِ هُوَ الْمَخْصُومُ ، وَالْوَاقِفُ دُونَهَا هُوَ الرَّاسِخُ الْمَعْصُومُ ، وَإِنَّمَا الْعَارُ وَالشَّنَارُ عَلَى مَنِ اقْتَحَمَ الْمَنَاهِيَ فَأَوْرَدَتْهُ النَّارَ ، لَا تَرِدْ مَشْرَعَ الْعَصَبِيَّةِ ، وَلَا تَأْنَفْ مِنَ الْإِذْعَانِ إِذَا لَاحَ وَجْهُ الْقَضِيَّةِ أَنَفَةَ ذَوِي النُّفُوسِ الْعَصِيَّةِ ، فَذَلِكَ مَرْعًى لِسَوَامِهَا وَبِيلٌ ، وَصُدُودٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ .
; فَإِنْ عَارَضَكَ دُونَ هَذَا الْكِتَابِ عَارِضُ الْإِنْكَارِ ، وَعَمِيَ عَنْكَ وَجْهُ الِاخْتِرَاعِ فِيهِ وَالِابْتِكَارِ ، وَغَرَّ الظَّانَّ أَنَّهُ شَيْءٌ مَا سُمِعَ بِمِثْلِهِ ، وَلَا أُلِّفَ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوِ الْفَرْعِيَّةِ مَا نُسِجَ عَلَى مِنْوَالِهِ أَوْ شُكِّلَ بِشَكْلِهِ ، وَحَسْبُكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ ، وَمِنْ كُلِّ بِدْعٍ فِي الشَّرِيعَةِ ابْتِدَاعُهُ ؛ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْإِشْكَالِ دُونَ [ ص: 13 ] اخْتِبَارٍ ، وَلَا تَرْمِ بِمَظِنَّةِ الْفَائِدَةِ عَلَى غَيْرِ اعْتِبَارٍ ; فَإِنَّهُ بِحَمْدِ اللَّهِ أَمْرٌ قَرَّرَتْهُ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ ، وَشَدَّ مَعَاقِدَهُ السَّلَفُ الْأَخْيَارُ ، وَرَسَمَ مَعَالِمَهُ الْعُلَمَاءُ الْأَحْبَارُ ، وَشَيَّدَ أَرْكَانَهُ أَنْظَارُ النُّظَّارِ ، وَإِذَا وَضُحَ السَّبِيلُ لَمْ يَجِبِ الْإِنْكَارُ ، وَوَجَبَ قَبُولُ مَا حَوَاهُ وَالِاعْتِبَارُ بِصِحَّةِ مَا أَبْدَاهُ وَالْإِقْرَارُ ، حَاشَا مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ ، وَيَطْرُقُ صِحَّةَ أَفْكَارِهِمْ مِنَ الْعِلَلِ ، فَالسَّعِيدُ مَنْ عُدَّتْ سَقَطَاتُهُ ، وَالْعَالِمُ مَنْ قَلَّتْ غَلَطَاتُهُ .
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى النَّاظِرِ الْمُتَأَمِّلِ ، إِذَا وَجَدَ فِيهِ نَقْصًا أَنْ يُكْمِلَ ، وَلْيُحْسِنِ الظَّنَّ بِمَنْ حَالَفَ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ ، وَاسْتَبْدَلَ التَّعَبَ بِالرَّاحَةِ وَالسَّهَرَ بِالْمَنَامِ ، حَتَّى أَهْدَى إِلَيْهِ نَتِيجَةَ عُمْرِهِ ، وَوَهَبَ لَهُ يَتِيمَةَ دَهْرِهِ ، فَقَدْ أَلْقَى إِلَيْهِ مَقَالِيدَ مَا لَدَيْهِ ، وَطَوَّقَهُ طَوْقَ الْأَمَانَةِ الَّتِي فِي يَدَيْهِ ، وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْبَيَانِ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ .
جَعَلَنَا اللَّهُ مِنَ الْعَامِلِينَ بِمَا عَلِمْنَا ، وَأَعَانَنَا عَلَى تَفْهِيمِ مَا فَهِمْنَا ، وَوَهَبَ لَنَا عِلْمًا نَافِعًا يُبَلِّغُنَا رِضَاهُ ، وَعَمَلًا زَاكِيًا يَكُونُ عُدَّةً لَنَا يَوْمَ نَلْقَاهُ ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَبِالْإِجَابَة ِ جَدِيرٌ .
وَهَا أَنَا أَشْرَعُ فِي بَيَانِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ ، وَآخُذُ فِي إِنْجَازِ ذَلِكَ الْمَوْعُودِ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .
[ ص: 14 ] [ ص: 15 ]
تَمْهِيدُ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا قَبْلَ النَّظَرِ فِي مَسَائِلِ الْكِتَابِ وَهِيَ بِضْعَ عَشَرَ مُقَدِّمَةً .
[ ص: 16 ] [ ص: 17 ] الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى
إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا [ ص: 18 ] رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ ؛ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ قَطْعِيٌّ .
بَيَانُ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ بِالِاسْتِقْرَا ءِ الْمُفِيدِ لِلْقَطْعِ .
وَبَيَانُ الثَّانِي : مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَرْجِعُ إِمَّا إِلَى أُصُولٍ عَقْلِيَّةٍ ، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ ، وَإِمَّا إِلَى [ ص: 19 ] الِاسْتِقْرَاءِ الْكُلِّيِّ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ ، وَذَلِكَ قَطْعِيٌّ أَيْضًا ، وَلَا ثَالِثَ لِهَذَيْنِ إِلَّا الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا ، وَالْمُؤَلَّفُ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ قَطْعِيٌّ ، وَذَلِكَ أُصُولُ الْفِقْهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً ; لَمْ تَكُنْ رَاجِعَةً إِلَى أَمْرٍ عَقْلِيٍّ ; إِذِ الظَّنُّ لَا يُقْبَلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ ، وَلَا إِلَى كُلِّيٍّ شَرْعِيٍّ لِأَنَّ الظَّنَّ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُزْئِيَّا تِ ; إِذْ لَوْ جَازَ تَعَلُّقُ الظَّنِّ بِكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ ; لَجَازَ تَعَلُّقُهُ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ الْكُلِّيُّ الْأَوَّلُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَادَةً - وَأَعْنِي بِالْكُلِّيَّات ِ هُنَا : الضَّرُورِيَّات ِ ، [ ص: 20 ] وَالْحَاجِيَّات ِ ، وَالتَّحْسِينِي َّاتِ - وَأَيْضًا لَوْ جَازَ تَعَلُّقُ الظَّنِّ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ ; لَجَازَ تَعَلُّقُ الشَّكِّ بِهَا ، وَهِيَ لَا شَكَّ فِيهَا ، وَلَجَازَ تَغْيِيرُهَا وَتَبْدِيلُهَا ، وَذَلِكَ خِلَافَ مَا ضَمِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حِفْظِهَا .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ جَازَ جَعْلُ الظَّنِّيِّ أَصْلًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ; لَجَازَ جَعْلُهُ أَصْلًا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ ، فَكَذَلِكَ هُنَا ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ كَنِسْبَةِ أُصُولِ الدِّينِ ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْمَرْتَبَةِ ; فَقَدِ اسْتَوَتْ فِي أَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حِفْظِ الدِّينِ مِنَ الضَّرُورِيَّات ِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالظَّنِّ ، لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ ، وَلَمْ نُتَعَبَّدْ بِالظَّنِّ إِلَّا فِي الْفُرُوعِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ [ ص: 21 ] مِنَ الْأُصُولِ تَفَاصِيلَ الْعِلَلِ ، كَالْقَوْلِ فِي عَكْسِ الْعِلَّةِ ، وَمُعَارَضَتِهَ ا ، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا ، وَتَفَاصِيلَ أَحْكَامِ الْأَخْبَارِ ، كَأَعْدَادِ الرُّوَاةِ ، وَالْإِرْسَالِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ .
وَاعْتَذَرَ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ عَنْ إِدْخَالِهِ فِي الْأُصُولِ بِأَنَّ التَّفَاصِيلَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْأُصُولِ الْمَقْطُوعِ بِهَا دَاخِلَةٌ بِالْمَعْنَى فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ .
قَالَ الْمَازِرِيُّ : وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّحَاشِي عَنْ عَدِّ هَذَا الْفَنِّ مِنَ الْأُصُولِ وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا ، عَلَى طَرِيقَةِ الْقَاضِي فِي أَنَّ الْأُصُولَ هِيَ أُصُولُ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الظَّنِّيَّاتِ قَوَانِينُ كُلِّيَّاتٍ وُضِعَتْ لَا لِأَنْفُسِهَا ، لَكِنْ لِيُعْرَضَ عَلَيْهَا أَمْرٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ . قَالَ : فَهِيَ فِي هَذَا كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ قَالَ : وَيَحْسُنُ [ ص: 22 ] مِنْ أَبِي الْمَعَالِي أَنْ لَا يَعُدَّهَا مِنَ الْأُصُولِ ; لِأَنَّ الْأُصُولَ عِنْدَهُ [ هِيَ الْأَدِلَّةُ ، وَالْأَدِلَّةُ عِنْدَهُ ] مَا يُفْضِي إِلَى الْقَطْعِ ، وَأَمَّا الْقَاضِي ; فَلَا يَحْسُنُ بِهِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْأُصُولِ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ . هَذَا مَا قَالَ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَظْنُونًا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالُ الْإِخْلَافِ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْعَلُ أَصْلًا فِي الدِّينِ عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَا ءِ ، وَالْقَوَانِينُ الْكُلِّيَّةُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّ الْحِفْظَ الْمَضْمُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ حِفْظُ أُصُولِهِ الْكُلِّيَّةِ الْمَنْصُوصَةِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] أَيْضًا ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمَسَائِلُ الْجُزْئِيَّةُ ; إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنِ الْحِفْظِ جُزْئِيٌّ مِنْ [ ص: 23 ] جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْجَوَازِ ، وَيُؤَيِّدُهُ الْوُقُوعُ ; لِتَفَاوُتِ الظُّنُونِ ، وَتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَات ِ فِي النُّصُوصِ الْجُزْئِيَّةِ ، وَوُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهَا قَطْعًا ، فَقَدْ وُجِدَ الْخَطَأُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ وَفِي مَعَانِي الْآيَاتِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الْمَحْفُوظِ مَا كَانَ مِنْهُ كُلِّيًّا ، وَإِذْ ذَاكَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَصْلٍ قَطْعِيًّا .
هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْمَعَالِي ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي ; فَإِنَّ إِعْمَالَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أَوِ الظَّنِّيَّةِ إِذَا كَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَى تِلْكَ الْقَوَانِينِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الْفِقْهِ ; فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ عَرْضِهَا عَلَيْهَا ، وَاخْتِبَارِهَا بِهَا ، وَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا ، بَلْ أَقْوَى مِنْهَا ، لِأَنَّكَ أَقَمْتَهَا مَقَامَ الْحَاكِمِ عَلَى الْأَدِلَّةِ ، بِحَيْثُ تُطْرَحُ الْأَدِلَّةُ إِذَا لَمْ تَجْرِ عَلَى مُقْتَضَى تِلْكَ الْقَوَانِينِ ; فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَجْعَلَ الظَّنِّيَّاتِ قَوَانِينَ لِغَيْرِهَا ؟
وَلَا حُجَّةَ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ مُرَادَةٍ لِأَنْفُسِهَا حَتَّى يُسْتَهَانَ بِطَلَبِ الْقَطْعِ فِيهَا ; فَإِنَّهَا حَاكِمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا ; فَلَا بُدَّ مِنَ الثِّقَةِ بِهَا فِي رُتْبَتِهَا ، وَحِينَئِذٍ يَصْلُحُ أَنْ تُجْعَلَ قَوَانِينَ ، وَأَيْضًا ، لَوْ صَحَّ كَوْنُهَا ظَنِّيَّةً ; لَزِمَ مِنْهُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ ; فَالِاصْطِلَاحُ اطَّرَدَ عَلَى أَنَّ الْمَظْنُونَاتِ لَا تُجْعَلُ أُصُولًا ، وَهَذَا كَافٍ فِي اطِّرَاحِ الظَّنِّيَّاتِ مِنَ الْأُصُولِ بِإِطْلَاقٍ ، فَمَا [ ص: 24 ] جَرَى فِيهَا مِمَّا لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْقَطْعِيِّ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ بِالتَّبَعِ ، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (3)
استعمال الأدلة العقلية في الأصول مرتبط مع الأدلة النقلية
إِنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُسْتَعْمَلَ ةَ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَالْأَدِلَّةَ الْمُعْتَمَدَةَ فِيهِ لَا تَكُونُ إِلَّا قَطْعِيَّةً ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَنِّيَّةٌ لَمْ تُفِدِ الْقَطْعَ فِي الْمَطَالِبِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ ، وَهَذَا بَيَّنٌ ، وَهِيَ : إِمَّا عَقْلِيَّةٌ ; كَالرَّاجِعَةِ إِلَى أَحْكَامِ الْعَقْلِ الثَّلَاثَةِ : الْوُجُوبِ ، وَالْجَوَازِ ، وَالِاسْتِحَالَ ةِ .
وَإِمَّا عَادِيَّةٌ ، وَهِيَ تَتَصَرَّفُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ أَيْضًا ; إِذْ مِنَ الْعَادِيِّ مَا هُوَ وَاجِبٌ فِي الْعَادَةِ أَوْ جَائِزٌ أَوْ مُسْتَحِيلٌ .
وَإِمَّا سَمْعِيَّةٌ ، وَأَجَلُّهَا الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَة ِ فِي اللَّفْظِ ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ أَوْ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَة ِ فِي الْمَعْنَى - أَوِ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ .
فَإِذَا الْأَحْكَامُ الْمُتَصَرِّفَة ُ فِي هَذَا الْعِلْمِ لَا تَعْدُو الثَّلَاثَةَ : الْوُجُوبَ ، [ ص: 26 ] وَالْجَوَازَ ، وَالِاسْتِحَالَ ةَ ، وَيَلْحَقُ بِهَا الْوُقُوعُ أَوْ عَدَمُ الْوُقُوعِ ، فَأَمَّا كَوْنُ الشَّيْءِ حُجَّةً أَوْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ; فَرَاجِعٌ إِلَى وُقُوعِهِ كَذَلِكَ ; أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ كَذَلِكَ ; وَكَوْنُهُ صَحِيحًا أَوْ غَيْرَ صَحِيحٍ ؛ رَاجِعٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَّلِ ، وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْضًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا ; فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مِنْ حَيْثُ هِيَ أُصُولٌ ، فَمَنْ أَدْخَلَهَا فِيهَا فَمِنْ بَابِ خَلْطِ بَعْضِ الْعُلُومِ بِبَعْضٍ .
[ ص: 27 ]
الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي هَذَا الْعِلْمِ ; فَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ مُرَكَّبَةً عَلَى الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ ، أَوْ مُعِينَةً فِي طَرِيقِهَا ، أَوْ مُحَقِّقَةً لِمَنَاطِهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، لَا مُسْتَقِلَّةً بِالدَّلَالَةِ ; لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا نَظَرٌ فِي أَمْرٍ شَرْعِيٍّ ، وَالْعَقْلُ لَيْسَ بِشَارِعٍ ، وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; فَالْمُعْتَمَدُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَوُجُودُ الْقَطْعِ فِيهَا - عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْمَشْهُورِ - مَعْدُومٌ أَوْ فِي غَايَةِ النُّدُورِ [ ص: 28 ] [ أَعْنِي : فِي آحَادِ الْأَدِلَّةِ ] ; فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ ; فَعَدَمُ إِفَادَتِهَا الْقَطْعَ ظَاهِرٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً ; فَإِفَادَتُهَا الْقَطْعَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ جَمِيعُهَا أَوْ غَالِبُهَا ظَنِّيٌّ ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الظَّنِّيِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا ; فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ وَآرَاءِ النَّحْوِ ، وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ ، وَعَدَمِ الْمَجَازِ ، وَالنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ أَوِ الْعَادِيِّ ، وَالْإِضْمَارِ ، وَالتَّخْصِيصِ لِلْعُمُومِ ، وَالتَّقْيِيدِ لِلْمُطْلَقِ ، وَعَدَمِ النَّاسِخِ ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَالْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ ، وَإِفَادَةُ الْقَطْعِ مَعَ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْأُمُورِ مُتَعَذِّرٌ ، وَقَدِ اعْتَصَمَ مَنْ قَالَ بِوُجُودِهَا بِأَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ فِي أَنْفُسِهَا ، لَكِنْ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا قَرَائِنُ مُشَاهَدَةٌ أَوْ مَنْقُولَةٌ ; فَقَدْ تُفِيدُ الْيَقِينُ ، وَهَذَا كُلُّهُ نَادِرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ .
وَإِنَّمَا الْأَدِلَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ هُنَا الْمُسْتَقْرَأَ ةُ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةٍ ظَنِّيَّةٍ تَضَافَرَتْ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ حَتَّى أَفَادَتْ فِيهِ الْقَطْعَ ; فَإِنَّ لِلِاجْتِمَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلِافْتِرَاقِ ، وَلِأَجْلِهِ أَفَادَ التَّوَاتُرُ الْقَطْعَ ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْهُ ، فَإِذَا حَصَلَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ مَجْمُوعٌ يُفِيدُ الْعِلْمَ ؛ فَهُوَ الدَّلِيلُ الْمَطْلُوبُ ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ ، بَلْ هُوَ كَالْعِلْمِ [ ص: 29 ] بِشَجَاعَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجُودِ حَاتِمٍ الْمُسْتَفَادِ مِنْ كَثْرَةِ الْوَقَائِعِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمَا .
وَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ ، كَالصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَغَيْرِهِمَا ، قَطْعًا ، وَإِلَّا فَلَوِ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَكَانَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمَجْرَدِهِ نَظَرٌ مِنْ أَوْجُهٍ ، لَكِنْ حَفَّ بِذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَة ِ مَا صَارَ بِهِ فَرْضُ الصَّلَاةِ ضَرُورِيًّا فِي الدِّينِ ، لَا يَشُكُّ فِيهِ إِلَّا شَاكٌّ فِي أَصْلِ الدِّينِ .
وَمِنْ هَاهُنَا اعْتَمَدَ النَّاسُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ مِثْلِ هَذَا عَلَى دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّهُ قَطْعِيٌّ وَقَاطِعٌ لِهَذِهِ الشَّوَاغِبِ .
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ أَدِلَّةَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً أَوْ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوِ الْقِيَاسِ حُجَّةً ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْمَسَاقِ ; لِأَنَّ أَدِلَّتَهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَوَاضِعَ تَكَادُ تَفُوتُ الْحَصْرَ ، [ ص: 30 ] وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُخْتَلِفَةُ الْمَسَاقِ ، لَا تَرْجِعُ إِلَى بَابٍ وَاحِدٍ ; إِلَّا أَنَّهَا تَنْتَظِمُ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِدْلَا لِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا تَكَاثَرَتْ عَلَى النَّاظِرِ الْأَدِلَّةُ عَضَّدَ بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَصَارَتْ بِمَجْمُوعِهَا مُفِيدَةً لِلْقَطْعِ ; فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي مَآخِذِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَهِيَ مَآخِذُ الْأُصُولِ ; إِلَّا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِي نَ مِنَ الْأُصُولِيِّين َ رُبَّمَا تَرَكُوا ذِكْرَ هَذَا الْمَعْنَى وَالتَّنْبِيهَ عَلَيْهِ ، فَحَصَلَ إِغْفَالُهُ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِي نَ ; فَاسْتَشْكَلَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَاتِ عَلَى حِدَتِهَا ، وَبِالْأَحَادِي ثِ عَلَى انْفِرَادِهَا ; إِذْ لَمْ يَأْخُذْهَا مَأْخَذَ الِاجْتِمَاعِ ، فَكَّرَ عَلَيْهَا بِالِاعْتِرَاضِ نَصًّا نَصًّا ، وَاسْتَضْعَفَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا عَلَى قَوَاعِدِ الْأُصُولِ الْمُرَادِ مِنْهَا الْقَطْعُ ، وَهِيَ إِذَا أُخِذَتْ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ غَيْرُ مُشْكِلَةٍ ، وَلَوْ أُخِذَتْ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّا تِ مَأْخَذَ هَذَا الْمُعْتَرِضِ ; لَمْ يَحْصُلْ لَنَا قَطْعٌ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَلْبَتَّةَ ; إِلَّا أَنْ نُشْرِكَ الْعَقْلَ ، وَالْعَقْلُ إِنَّمَا يَنْظُرُ مِنْ وَرَاءِ الشَّرْعِ ; فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِانْتِظَامِ [ ص: 31 ] فِي تَحْقِيقِ الْأَدِلَّةِ الْأُصُولِيَّةِ .
فَقَدَ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ ، بَلْ سَائِرُ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الضَّرُورِيَّات ِ الْخَمْسِ - وَهِيَ : الدِّينُ ، وَالنَّفْسُ ، وَالنَّسْلُ ، وَالْمَالُ ، وَالْعَقْلُ ، وَعِلْمُهَا عِنْدَ الْأُمَّةِ كَالضَّرُورِيِّ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَنَا ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ ، وَلَا شَهِدَ لَنَا أَصْلٌ مُعَيَّنٌ يَمْتَازُ بِرُجُوعِهَا إِلَيْهِ ، بَلْ عُلِمَتْ مُلَاءَمَتُهَا لِلشَّرِيعَةِ بِمَجْمُوعِ أَدِلَّةٍ لَا تَنْحَصِرُ فِي بَابٍ وَاحِدٍ ، وَلَوِ اسْتَنَدَتْ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَوَجَبَ عَادَةً تَعْيِينُهُ ، وَأَنْ يَرْجِعَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ إِلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ ظَنِّيٌّ ، وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يَتَعَيَّنُ فِي التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ خَبَرَ وَاحِدٍ دُونَ سَائِرِ الْأَخْبَارِ ، كَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ هُنَا ؛ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ عَلَى فَرْضِ الِانْفِرَادِ ، وَإِنْ كَانَ الظَّنُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاقِلِينَ ، وَأَحْوَالِ دَلَالَاتِ الْمَنْقُولَاتِ ، وَأَحْوَالِ النَّاظِرِينَ فِي قُوَّةِ الْإِدْرَاكِ وَضَعْفِهِ ، وَكَثْرَةِ الْبَحْثِ وَقِلَّتِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
فَنَحْنُ إِذَا نَظَرْنَا فِي الصَّلَاةِ ; فَجَاءَ فِيهَا : أَقِيمُوا الصَّلَاةَ عَلَى وُجُوهٍ ، وَجَاءَ مَدْحُ الْمُتَّصِفِينَ بِإِقَامَتِهَا ، وَذَمُّ التَّارِكِينَ لَهَا ، وَإِجْبَارُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى فِعْلِهَا وَإِقَامَتِهَا قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ، وَقِتَالُ مَنْ تَرَكَهَا أَوْ عَانَدَ فِي تَرْكِهَا ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ النَّفْسُ : نُهِيَ عَنْ قَتْلِهَا ، وَجُعِلَ قَتْلُهَا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ مُتَوَعَّدًا عَلَيْهِ ، وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ الْمَقْرُونَةِ بِالشِّرْكِ [ ص: 32 ] كَمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ مَقْرُونَةً بِالْإِيمَانِ ، وَوَجَبَ سَدُّ رَمَقِ الْمُضْطَرِّ ، وَوَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَالْمُوَاسَاةُ وَالْقِيَامُ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِصْلَاحِ نَفْسِهِ ، وَأُقِيمَتِ الْحُكَّامُ وَالْقُضَاةُ وَالْمُلُوكُ لِذَلِكَ ، وَرُتِّبَتِ الْأَجْنَادُ لِقِتَالِ مَنْ رَامَ قَتْلَ النَّفْسِ ، وَوَجَبَ عَلَى الْخَائِفِ مِنَ الْمَوْتِ سَدُّ رَمَقِهِ بِكُلِّ حَلَالٍ وَحَرَامٍ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، إِلَى سَائِرِ مَا يَنْضَافُ لِهَذَا [ الْمَعْنَى ] - عَلِمْنَا يَقِينًا وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَتَحْرِيمَ الْقَتْلِ ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَدِلَّةِ فِي قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ .
وَبِهَذَا امْتَازَتِ الْأُصُولُ مِنَ الْفُرُوعِ ; إِذْ كَانَتِ الْفُرُوعُ مُسْتَنِدَةً إِلَى آحَادِ الْأَدِلَّةِ وَإِلَى مَآخِذَ مُعَيَّنَةٍ ، فَبَقِيَتْ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الِاسْتِنَادِ إِلَى الظَّنِّ ، بِخِلَافِ الْأُصُولِ ; فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنِ اسْتِقْرَاءِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَدِلَّةِ بِإِطْلَاقٍ ، لَا مِنْ آحَادِهَا عَلَى الْخُصُوصِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (4)
صـ33 إلى صـ45
فصل
وينبني على هذه المقدمة معنى آخر ، وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين ، وكان ملائما لتصرفات الشرع ، ومأخوذا معناه من أدلته ، فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به ; لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم ; لأن ذلك كالمتعذر .
ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك [ ص: 33 ] والشافعي ; فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين ; فقد شهد له أصل كلي ; والأصل الكلي إذا كان قطعيا قد يساوي الأصل المعين ، وقد يربو عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه ، كما أنه قد يكون مرجوحا في بعض المسائل ، حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح ، وكذلك أصل الاستحسان على رأي مالك ، ينبني على هذا الأصل ; لأن معناه يرجع إلى [ تقديم ] الاستدلال المرسل على القياس ، كما هو مذكور في موضعه .
[ ص: 34 ] فإن قيل : الاستدلال بالأصل الأعم على الفرع الأخص غير صحيح ; لأن الأصل الأعم كلي ، وهذه القضية المفروضة جزئية خاصة ، والأعم لا إشعار له بالأخص ; فالشرع وإن اعتبر كلي المصلحة ، من أين يعلم اعتباره لهذه المصلحة الجزئية المتنازع فيها ؟
فالجواب أن الأصل الكلي إذا انتظم في الاستقراء [ يكون ] كليا جاريا مجرى العموم في الأفراد ، [ أما كونه كليا ; فلما يأتي في موضعه - إن شاء الله - ، وأما كونه يجرى مجرى العموم في الأفراد ] فلأنه في قوة اقتضاء وقوعه في جميع الأفراد ، ومن هنالك استنبط ؛ لأنه إنما استنبط من أدلة الأمر والنهي الواقعين على جميع المكلفين ; فهو كلي في تعلقه ، فيكون عاما في الأمر به والنهي للجميع .
[ ص: 35 ] لا يقال : يلزم على هذا اعتبار كل مصلحة موافقة لمقصد الشارع أو مخالفة ، وهو باطل ; لأنا نقول : لا بد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع ; لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع كذلك ; - حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب [ بحول الله ] .
فَصْلٌ
وَقَدْ أَدَّى عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ وَمَا قَبْلَهُ إِلَى أَنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّين َ إِلَى أَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً ظَنِّيٌّ لَا قَطْعِيٌّ ; إِذْ لَمْ يَجِدْ فِي آحَادِ الْأَدِلَّةِ بِانْفِرَدِهَا مَا يُفِيدُهُ الْقَطْعُ ، فَأَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى مُخَالَفَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُ ، وَمَالَ أَيْضًا بِقَوْمٍ آخَرِينَ إِلَى تَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْأَخْذِ بِأُمُورٍ عَادِيَّةٍ أَوِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الْإِجْمَاعِ ، وَكَذَلِكَ مَسَائِلُ أُخَرُ غَيْرُ الْإِجْمَاعِ عَرَضَ فِيهَا [ هَذَا الْإِشْكَالَ فَادَّعَى فِيهَا ] أَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ ، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ بِحَسَبِ هَذَا التَّرْتِيبِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ ، وَهُوَ وَاضِحٌ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - .
[ ص: 36 ] [ ص: 37 ] كُلُّ مَسْأَلَةٍ مَرْسُومَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا فُرُوعٌ فِقْهِيَّةٌ أَوْ آدَابٌ شَرْعِيَّةٌ أَوْ لَا تَكُونُ عَوْنًا فِي ذَلِكَ ; فَوَضْعُهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَارِيَةٌ .
وَالَّذِي يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَمْ يَخْتَصَّ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الْفِقْهِ إِلَّا لِكَوْنِهِ مُفِيدًا لَهُ ، وَمُحَقِّقًا لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِأَصْلٍ لَهُ ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا انْبَنَى عَلَيْهِ فَرْعٌ فِقْهِيٌّ مِنْ جُمْلَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَإِلَّا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَكُونَ سَائِرُ الْعُلُومِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ; كَعِلْمِ النَّحْوِ ، وَاللُّغَةِ ، وَالِاشْتِقَاقِ ، وَالتَّصْرِيفِ ، وَالْمَعَانِي ، وَالْبَيَانِ ، وَالْعَدَدِ ، وَالْمِسَاحَةِ ، وَالْحَدِيثِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا تَحْقِيقُ الْفِقْهِ ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا مِنْ مَسَائِلِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; فَلَيْسَ [ كُلُّ مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْفِقْهُ يُعَدُّ مِنْ أُصُولِهِ ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ أَنَّ كُلَّ أَصْلٍ يُضَافُ إِلَى الْفِقْهِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِقْهٌ - فَلَيْسَ ] بِأَصْلٍ لَهُ .
[ ص: 38 ] وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ عَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَكَلَّمَ عَلَيْهَا الْمُتَأَخِّرُو نَ وَأَدْخَلُوهَا فِيهَا ; كَمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءِ الْوَضْعِ ، وَمَسْأَلَةِ الْإِبَاحَةِ ; هَلْ هِيَ تَكْلِيفٌ أَمْ لَا ، وَمَسْأَلَةِ أَمْرِ الْمَعْدُومِ ، وَمَسْأَلَةِ هَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَبَّدًا بِشَرْعٍ أَمْ لَا ، وَمَسْأَلَةِ لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِفِعْلٍ ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا ، ثُمَّ الْبَحْثُ فِيهِ فِي عَمَلِهِ وَإِنِ انْبَنَى عَلَيْهِ الْفِقْهُ ، كَفُصُولٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النَّحْوِ ، نَحْوَ مَعَانِي الْحُرُوفِ ، وَتَقَاسِيمِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ ، وَالْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَعَلَى الْمُشْتَرَكِ وَالْمُتَرَادِف ِ ، وَالْمُشْتَقِّ ، وَشِبْهِ ذَلِكَ .
غَيْرَ أَنَّهُ يُتَكَلَّمُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى مَسْأَلَةٍ هِيَ عَرِيقَةٌ [ ص: 39 ] فِي الْأُصُولِ ، وَهِيَ أَنَّ الْقُرْآنَ [ الْكَرِيمَ لَيْسَ فِيهِ مِنْ طَرَائِقِ الْعَجَمِ شَيْءٌ ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ ] عَرَبِيٌّ ، وَالسُّنَّةُ عَرَبِيَّةٌ ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَاظٍ أَعْجَمِيَّةٍ فِي الْأَصْلِ أَوْ لَا يَشْتَمِلُ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَرَبِيٌّ ، بِحَيْثُ إِذَا حُقِّقَ هَذَا التَّحْقِيقَ سُلِكَ بِهِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ وَالِاسْتِدْلَا لِ بِهِ مَسْلَكَ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي تَقْرِيرِ مَعَانِيهَا وَمَنَازِعِهَا فِي أَنْوَاعِ مُخَاطِبَاتِهَا خَاصَّةً ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَأْخُذُونَ أَدِلَّةَ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ مَا يُعْطِيهِ الْعَقْلُ فِيهَا ، لَا بِحَسَبِ مَا يُفْهَمُ مِنْ طَرِيقِ الْوَضْعِ ، وَفِي ذَلِكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ وَخُرُوجٌ عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُبَيَّنَةٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
فَصْلٌ
وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ يَنْبَنِي عَلَيْهَا فِقْهٌ ; إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنَ الْخِلَافِ فِيهَا اخْتِلَافٌ فِي فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ ; فَوَضْعُ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ أَوْ إِبْطَالِهِ عَارِيَةٌ أَيْضًا ، كَالْخِلَافِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ ، [ ص: 40 ] وَالْمُحَرَّمِ الْمُخَيَّرِ ; فَإِنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ مُوَافِقَةٌ لِلْأُخْرَى فِي نَفْسِ الْعَمَلِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الِاعْتِقَادِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُحَرَّرٍ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ، وَفِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَهُ تَقْرِيرٌ [ ص: 41 ] أَيْضًا ، وَهُوَ : هَلِ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ أَوْ غَيْرُهُمَا رَاجِعَةٌ إِلَى صِفَاتِ الْأَعْيَانِ أَوْ إِلَى خِطَابِ الشَّارِعِ ؟ وَكَمَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عِنْدَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ; فَإِنَّهُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي فَرَضُوهَا مِمَّا لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْفِقْهِ .
لَا يُقَالُ : إِنَّ مَا يَرْجِعُ الْخِلَافُ فِيهِ إِلَى الِاعْتِقَادِ [ يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ تَحْرِيمٍ ، وَأَيْضًا ] يَنْبَنِي عَلَيْهِ عِصْمَةُ الدَّمِ وَالْمَالِ ، وَالْحُكْمُ بِالْعَدَالَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْكُفْرِ إِلَى مَا دُونَهُ ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ ، هُوَ مِنْ عِلْمِ الْفُرُوعِ ; لِأَنَّا نَقُولُ : هَذَا جَارٍ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ ; فَلْيَكُنْ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَا تَقَدَّمَ .
[ ص: 42 ] [ ص: 43 ] كُلُّ مَسْأَلَةٍ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ ; فَالْخَوْضُ فِيهَا خَوْضٌ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ، وَأَعْنِي بِالْعَمَلِ : عَمَلَ الْقَلْبِ وَعَمَلَ الْجَوَارِحِ ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ ; فَإِنَّا رَأَيْنَا الشَّارِعَ يُعْرِضُ عَمَّا لَا يُفِيدُ عَمَلًا مُكَلَّفًا بِهِ ; فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ : 189 ] .
[ ص: 44 ] فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعَمَلُ ; إِعْرَاضًا عَمَّا قَصَدَهُ السَّائِلُ مِنَ السُّؤَالِ عَنِ الْهِلَالِ : لِمَ يَبْدُو فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ دَقِيقًا كَالْخَيْطِ ، ثُمَّ يَمْتَلِئُ حَتَّى يَصِيرَ بَدْرًا ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى ؟ .
ثُمَّ قَالَ : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [ الْبَقَرَةِ : 189 ] ، بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ أَنَّ الْآيَةَ كُلَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى ; فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ فِي التَّمْثِيلِ إِتْيَانٌ لِلْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا ، وَالْبِرُّ إِنَّمَا هُوَ التَّقْوَى ، [ ص: 45 ] لَا الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُفِيدُ نَفْعًا فِي التَّكْلِيفِ ، وَلَا تَجُرُّ إِلَيْهِ .
وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ سُؤَالِهِمْ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مَرْسَاهَا : فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا أَيْ : إِنَّ السُّؤَالَ عَنْ هَذَا سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْنِي ; إِذْ يَكْفِي مِنْ عِلْمِهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ السَّاعَةِ ; قَالَ لِلسَّائِلِ مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ ; إِعْرَاضًا عَنْ صَرِيحِ سُؤَالِهِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِمَّا فِيهِ فَائِدَةٌ ، وَلَمْ يُجِبْهُ عَمَّا سَأَلَ .
وَقَالَ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 101 ] .
نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ سَأَلَ : مَنْ أَبِي ؟ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ يَوْمًا يُعْرَفُ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ; فَقَالَ : لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي ؟ قَالَ : أَبُوكَ حُذَافَةُ . فَنَزَلَتْ .
وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ .
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (5)
صـ46 إلى صـ66
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سُؤَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ صِفَاتِ الْبَقَرَةِ : " لَوْ ذَبَحُوا بَقَرَةً مَا لَأَجْزَأَتْهُم ْ وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ " ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ سُؤَالَهُمْ لَمْ [ ص: 46 ] يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ .
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجْرِي الْكَلَامُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا عِنْدَ مَنْ رَوَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ سَأَلَ : أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لِلْأَبَدِ ، [ ص: 47 ] وَلَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ؛ لَوَجَبَتْ ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ : فَذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ; فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ الْحَدِيثَ ، وَإِنَّمَا سُؤَالُهُمْ هُنَا زِيَادَةٌ لَا فَائِدَةَ عَمَلٍ فِيهَا ; لِأَنَّهُمْ لَوْ سَكَتُوا لَمْ يَقِفُوا عَنْ عَمَلٍ ، فَصَارَ السُّؤَالُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ .
وَمِنْ هُنَا نَهَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يُفِيدُ ، وَقَدْ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنِ السَّاعَةِ ; فَقَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا [ ص: 48 ] بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ; فَأَخْبَرَهُ أَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ ، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ ، وَلَمَّا كَانَ يَنْبَنِي عَلَى ظُهُورِ أَمَارَاتِهَا الْحَذَرُ مِنْهَا وَمِنَ الْوُقُوعِ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَمَارَاتِهَا ، وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ عِنْدَهَا ; أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ، ثُمَّ خَتَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ بِتَعْرِيفِهِ عُمَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُمْ لِيُعَلِّمَهُمْ دِينَهُمْ ; فَصَحَّ إِذًا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ دِينِهِمْ فِي فَصْلِ السُّؤَالِ عَنِ السَّاعَةِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَجِبُ الْعِلْمُ بِهِ [ أَعْنِي عِلْمَ زَمَانِ إِتْيَانِهَا ] ; فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ وَفَائِدَةِ سُؤَالِهِ لَهُ عَنْهَا .
وَقَالَ : إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ ، وَهُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ; فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُحَرَّمْ ; فَمَا فَائِدَةُ السُّؤَالِ عَنْهُ [ ص: 49 ] بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ ؟ وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عَبَسَ : 31 ] وَقَالَ : هَذِهِ الْفَاكِهَةُ ; فَمَا الْأَبُّ ؟ ، ثُمَّ قَالَ : نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ . وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [ الْإِسْرَاءِ : 85 ] .
وَهَذَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يُجَابُوا ، وَأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ [ ص: 50 ] فِي التَّكْلِيفِ .
وَرُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَلُّوا مَلَّةً ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ! حَدِّثْنَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا الْآيَةَ [ الزُّمَرِ : 23 ] .
وَهُوَ كَالنَّصِّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِيمَا سَأَلُوا ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي السُّؤَالُ إِلَّا فِيمَا يُفِيدُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ ، ثُمَّ مَلُّوا مَلَّةً فَقَالُوا : حَدِّثْنَا حَدِيثًا فَوْقَ الْحَدِيثِ وَدُونَ الْقُرْآنِ ; فَنَزَلَتْ سُورَةُ يُوسُفَ .
[ ص: 51 ] انْظُرِ الْحَدِيثَ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لِأَبِي عُبَيْدٍ .
وَتَأَمَّلْ خَبَرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ صَبِيغٍ فِي سُؤَالِهِ النَّاسَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ ، وَتَأْدِيبَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ .
[ ص: 52 ] وَقَدْ سَأَلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا [ الذَّارِيَاتِ : 1 - 2 ] إِلَخْ ; فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : " وَيْلَكَ سَلْ تَفَقُّهًا وَلَا تَسْأَلْ تَعَنُّتًا " ، ثُمَّ أَجَابَهُ ; فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ : أَفَرَأَيْتَ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ ؟ فَقَالَ : " أَعْمَى سَأَلَ عَنْ عَمْيَاءَ " . ، ثُمَّ أَجَابَهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ ، وَفِي الْحَدِيثِ طُولٌ .
[ ص: 53 ] وَقَدْ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَكْرَهُ الْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ ، وَيَحْكِي كَرَاهِيَّتَهُ عَمَّنْ تَقَدَّمَ .
وَبَيَانُ عَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ فِيهِ مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، مِنْهَا : أَنَّهُ شُغْلٌ عَمَّا يَعْنِي مِنْ أَمْرِ التَّكْلِيفِ الَّذِي طُوِّقَهُ الْمُكَلَّفُ بِمَا لَا يَعْنِي ; إِذْ لَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ فَائِدَةٌ ; لَا فِي الدُّنْيَا ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ ، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ ; فَإِنَّهُ يُسْأَلُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا ; فَإِنَّ عِلْمَهُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَزِيدُهُ فِي تَدْبِيرِ رِزْقِهِ وَلَا يَنْقُصُهُ ، وَأَمَّا اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ عَنْهُ فِي الْحَالِ ; فَلَا تَفِي مَشَقَّةَ اكْتِسَابِهَا وَتَعَبَ طَلَبِهَا ، بِلَذَّةِ حُصُولِهَا ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ فِيهِ فَائِدَةً فِي الدُّنْيَا ، فَمِنْ شَرْطِ كَوْنِهَا فَائِدَةً شَهَادَةُ الشَّرْعِ لَهَا بِذَلِكَ ، وَكَمْ مِنْ لَذَّةٍ وَفَائِدَةٍ يَعُدُّهَا الْإِنْسَانُ كَذَلِكَ ; وَلَيْسَتْ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ إِلَّا عَلَى الضِّدِّ ، كَالزِّنَى ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ عَاجِلٌ ، فَإِذًا قَطَعَ الزَّمَانَ فِيمَا لَا يَجْنِي ثَمَرَةً فِي الدَّارَيْنِ ، مَعَ تَعْطِيلِ مَا يَجْنِي الثَّمَرَةَ مِنْ فِعْلِ مَالَا يَنْبَغِي .
وَمِنْهَا : أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَاءَ بِبَيَانِ مَا تَصْلُحُ بِهِ أَحْوَالُ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا ، فَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ فِي التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ ; فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُشْتَغِلِين َ بِالْعُلُومِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا ثَمَرَةٌ تَكْلِيفِيَّةٌ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْفِتْنَةُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، وَيَثُورُ بَيْنَهُمُ الْخِلَافُ وَالنِّزَاعُ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ وَالتَّعَصُّبِ ، حَتَّى تَفَرَّقُوا شِيَعًا ، وَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَرَجُوا عَنِ السُّنَّةِ ، وَلَمْ يَكُنْ أَصْلُ التَّفَرُّقِ إِلَّا بِهَذَا [ ص: 54 ] السَّبَبِ ؛ حَيْثُ تَرَكُوا الِاقْتِصَارَ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى مَا يَعْنِي ، وَخَرَجُوا إِلَى مَا لَا يَعْنِي ، فَذَلِكَ فِتْنَةٌ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ وَالْعَالِمِ ، وَإِعْرَاضُ الشَّارِعِ - مَعَ حُصُولِ السُّؤَالِ - عَنِ الْجَوَابِ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ مِثْلِهِ مِنَ الْعِلْمِ - فِتْنَةٌ أَوْ تَعْطِيلٌ لِلزَّمَانِ فِي غَيْرِ تَحْصِيلٍ .
- وَمِنْهَا : أَنَّ تَتَبُّعَ النَّظَرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَتَطَلُّبَ عِلْمِهِ - مِنْ شَأْنِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَتَبَرَّأُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ إِلَّا بِتَعَلُّقِهِمْ بِمَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ ، فَاتِّبَاعُهُمْ فِي نِحْلَةٍ هَذَا شَأْنُهَا خَطَأٌ عَظِيمٌ ، وَانْحِرَافٌ عَنِ الْجَادَّةِ .
وَوُجُوهُ عَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ كَثِيرَةٌ .
; فَإِنْ قِيلَ : الْعِلْمُ مَحْبُوبٌ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَمَطْلُوبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَقَدْ جَاءَ الطَّلَبُ فِيهِ عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فَتَنْتَظِمُ صِيغُهُ كُلَّ عِلْمٍ ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ ، وَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَمَلٌ ; فَتَخْصِيصُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ بِالِاسْتِحْسَا نِ دُونَ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ ، وَأَيْضًا ; فَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ : إِنَّ تَعَلُّمَ كُلِّ عِلْمٍ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالسِّحْرِ ، وَالطَّلْسَمَات ِ ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُلُومِ الْبَعِيدَةِ الْغَرَضِ عَنِ الْعَمَلِ ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا قَرُبَ مِنْهُ ، كَالْحِسَابِ ، وَالْهَنْدَسَةِ ، وَشِبْهِ ذَلِكَ ، وَأَيْضًا ; [ ص: 55 ] فَعِلْمُ التَّفْسِيرِ مِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ الْمَطْلُوبَةِ ، وَقَدْ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ ، وَتَأَمَّلْ حِكَايَةَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ : أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ مَرَّ بِيَهُودِيٍّ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُسْلِمٌ يَقْرَأُ عَلَيْهِ عِلْمَ هَيْئَةِ الْعَالَمِ ، فَسَأَلَ الْيَهُودِيَّ عَمَّا يَقْرَأُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : أَنَا أُفَسِّرُ لَهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ . فَسَأَلَهُ مَا هِيَ ؟ وَهُوَ مُتَعَجِّبٌ ، فَقَالَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ قَالَ الْيَهُودِيُّ : فَأَنَا أُبَيِّنُ لَهُ كَيْفِيَّةَ بِنَائِهَا ، وَتَزْيِينِهَا . فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ الْعَالِمُ مِنْهُ . هَذَا مَعْنَى الْحِكَايَةِ لَا لَفْظُهَا .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [ الْأَعْرَافِ : 185 ] يَشْمَلُ كُلَّ عِلْمٍ ظَهَرَ فِي الْوُجُودِ ، مِنْ مَعْقُولٍ أَوْ مَنْقُولٍ مُكْتَسَبٍ أَوْ مَوْهُوبٍ ، وَأَشْبَاهَهَا مِنَ الْآيَاتِ ، وَيَزْعُمُ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْفَلْسَفَةِ إِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ فِي الْمَوْجُودَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ حَيْثُ تَدُلُّ عَلَى صَانِعِهَا ، وَمَعْلُومٌ طَلَبُ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْمَخْلُوقَا تِ ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الِاسْتِحْسَانِ فِي كُلِّ عِلْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ .
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ : إِنَّ عُمُومَ الطَّلَبِ مَخْصُوصٌ ، وَإِطْلَاقَهُ مُقَيَّدٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ ، وَالَّذِي يُوَضِّحُهُ أَمْرَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْن ِ لَمْ يَخُوضُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَ تَحْتَهَا عَمَلٌ ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْمَطْلُوبِ ، بَلْ قَدْ عَدَّ عُمَرُ ذَلِكَ فِي نَحْوِ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عَبَسَ : 31 ] مِنَ التَّكَلُّفِ الَّذِي نُهِيَ [ ص: 56 ] عَنْهُ ، وَتَأْدِيبُهُ صَبِيغًا ظَاهِرٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ - لَمْ يَخُضْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ ، لَكِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ; فَدَلَّ عَلَى عَدَمِهِ .
وَالثَّانِي : مَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ " الْمَقَاصِدِ " أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ لِأُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ ، وَلَا نَكْتُبُ الشَّهْرَ هَكَذَا ، وَهَكَذَا ، وَهَكَذَا إِلَى نَظَائِرِ ذَلِكَ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ هُنَالِكَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَعَنِ الثَّانِي : إِنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَإِنَّمَا فَرْضُ الْكِفَايَةِ رَدُّ كُلِّ فَاسِدٍ وَإِبْطَالُهُ ، عُلِمَ ذَلِكَ الْفَاسِدُ أَوْ جُهِلَ ; إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ أَنَّهُ فَاسِدٌ ، وَالشَّرْعُ مُتَكَفِّلٌ بِذَلِكَ ، وَالْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَعْلَمْ عِلْمَ [ ص: 57 ] السِّحْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ السَّحَرَةُ ، مَعَ أَنَّهُ بَطَلَ عَلَى يَدَيْهِ بِأَمْرٍ هُوَ أَقْوَى مِنَ السِّحْرِ ، وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ، وَاسْتَرْهَبُوه ُمْ ، وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ; خَافَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَمْ يَخَفْ كَمَا لَمْ يَخَفِ الْعَالِمُونَ بِهِ ، وَهُمُ السَّحَرَةُ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ : لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [ طه : 68 ] .
وَهَذَا تَعْرِيفٌ بَعْدَ التَّنْكِيرِ ، وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ ، وَالَّذِي كَانَ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِي دَعْوَاهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِذَا حَصَلَ الْإِبْطَالُ ، وَالرَّدُّ بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ ، وَلَوْ بِخَارِقَةٍ عَلَى يَدِ وَلِيٍّ لِلَّهِ أَوْ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ نَاشِئٍ عَنْ فُرْقَانِ التَّقْوَى ; فَهُوَ الْمُرَادُ ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ إِذًا طَلَبُ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْعُلُومِ مِنَ الشَّرْعِ .
وَعَنِ الثَّالِثِ : إِنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ مَطْلُوبٌ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمُرَادِ مِنَ الْخِطَابِ ، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَعْلُومًا فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكَلُّفٌ ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ عُمَرَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ عَبَسَ : 31 ] تَوَقَّفَ فِي مَعْنَى الْأَبِّ ، وَهُوَ مَعْنًى إِفْرَادِيٌّ لَا يَقْدَحُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِهِ فِي عِلْمِ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيِّ فِي الْآيَةِ ; إِذْ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ حَيْثُ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ طَعَامِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ أَصْنَافًا كَثِيرَةً مِمَّا هُوَ مِنْ طَعَامِ الْإِنْسَانِ مُبَاشَرَةً ; كَالْحَبِّ ، وَالْعِنَبِ ، وَالزَّيْتُونِ ، وَالنَّخْلِ ، وَمِمَّا هُوَ مِنْ طَعَامِهِ بِوَاسِطَةٍ ، مِمَّا هُوَ مَرْعًى لِلْأَنْعَامِ عَلَى الْجُمْلَةِ ; فَبَقِيَ التَّفْصِيلُ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْرَادِ فَضْلًا ; [ ص: 58 ] فَلَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَعْرِفَهُ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عُدَّ الْبَحْثُ عَنْ مَعْنَى الْأَبِّ مِنَ التَّكَلُّفِ ، وَإِلَّا ; فَلَوْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ فَهْمُ الْمَعْنَى التَّرْكِيبِيِّ مِنْ جِهَتِهِ لَمَا كَانَ مِنَ التَّكَلُّفِ ، بَلْ مِنَ الْمَطْلُوبِ عِلْمُهُ لِقَوْلِهِ : لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ ص : 29 ] ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ النَّاسُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنْ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ [ النَّحْلِ : 47 ] ; فَأَجَابَهُ الرَّجُلُ الْهُذَلِيُّ بِأَنَّ التَّخَوُّفَ فِي لُغَتِهِمُ التَّنَقُّصُ ، وَأَنْشَدَهُ شَاهِدًا عَلَيْهِ :
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فَقَالَ عُمَرُ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَمَسَّكُوا بِدِيوَانِ شِعْرِكُمْ فِي جَاهِلِيَّتِكُم ْ ; فَإِنَّ فِيهِ تَفْسِيرَ كِتَابِكُمْ " .
[ ص: 59 ] وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ فِي مَحَافِلِ النَّاسِ عَنْ مَعْنَى : وَالْمُرْسَلَات ِ عُرْفًا [ الْمُرْسَلَاتِ : 1 ] ، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا [ النَّازِعَاتِ : 3 ] مِمَّا يُشَوِّشُ عَلَى الْعَامَّةِ مِنْ غَيْرِ بِنَاءِ عَمَلٍ عَلَيْهِ ; أَدَّبَ عُمَرُ صَبِيغًا بِمَا هُوَ مَشْهُورٌ .
فَإِذًا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا الْآيَةَ [ ق : 6 ] بِعِلْمِ الْهَيْئَةِ الَّذِي لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ - غَيْرُ سَائِغٍ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مَالَا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ ، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهَا ، وَعَلَى مَعْهُودِهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَشْرُوحٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بِحَوْلِ اللَّهِ .
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي كُلِّ عِلْمٍ يُعْزَى إِلَى الشَّرِيعَةِ لَا يُؤَدِّي فَائِدَةَ عَمَلٍ ، وَلَا هُوَ مِمَّا تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ ، فَقَدْ تَكَلَّفَ أَهْلُ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَغَيْرِهَا - الِاحْتِجَاجَ عَلَى صِحَّةِ الْأَخْذِ فِي عُلُومِهِمْ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا اسْتَدَلَّ [ ص: 60 ] أَهْلُ الْعَدَدِ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [ الْمُؤْمِنُونَ : 113 ] .
وَأَهْلُ [ النِّسَبِ الْعَدَدِيَّةِ أَوِ الْهَنْدَسِيَّة ِ ] بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ . . . . مِائَتَيْنِ ) [ الْأَنْفَالِ : 65 ] إِلَى آخَرِ الْآيَتَيْنِ .
وَأَهْلُ الْكِيمِيَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [ الرَّعْدِ : 17 ] .
وَأَهْلُ التَّعْدِيلِ النُّجُومِيِّ بِقَوْلِهِ : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [ الرَّحْمَنِ : 5 ] .
وَأَهْلُ الْمَنْطِقِ فِي أَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيَّةِ السَّالِبَةِ جُزْئِيَّةٌ مُوجَبَةٌ بِقَوْلِهِ : إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الْآيَةَ [ الْأَنْعَامِ : 91 ] .
وَعَلَى بَعْضِ الضُّرُوبِ الْحَمْلِيَّةِ ، وَالشُّرْطِيَّة ِ بِأَشْيَاءَ أُخَرَ .
وَأَهْلُ خَطِّ الرَّمْلِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [ الْأَحْقَافِ : 4 ] ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : كَانَ نَبِيٌّ يَخُطُّ فِي الرَّمْلِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَسْطُورٌ [ ص: 61 ] [ ص: 62 ] [ ص: 63 ] [ ص: 64 ] [ ص: 65 ] فِي الْكُتُبِ ، وَجَمِيعُهُ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَبِهِ تَعْلَمُ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ : أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [ الْأَعْرَافِ : 185 ] لَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ عُلُومُ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي لَا عَهْدَ لِلْعَرَبِ بِهَا ، وَلَا يَلِيقُ بِالْأُمِّيِّين َ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمِّيُّ بِمِلَّةٍ سَهْلَةٍ سَمْحَةٍ ، وَالْفَلْسَفَةُ عَلَى فَرْضِ أَنَّهَا جَائِزَةُ الطَّلَبِ - صَعْبَةُ الْمَأْخَذِ ، وَعِرَةُ الْمَسْلَكِ ، بَعِيدَةُ الْمُلْتَمَسِ ، لَا يَلِيقُ الْخِطَابُ بِتَعَلُّمِهَا كَيْ تَتَعَرَّفَ آيَاتِ اللَّهِ ، وَدَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ لِلْعَرَبِ النَّاشِئِينَ فِي مَحْضِ الْأُمِّيَّةِ ، فَكَيْفَ وَهِيَ مَذْمُومَةٌ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ ، مُنَبَّهٌ عَلَى ذَمِّهَا بِمَا تَقَدَّمَ [ ص: 66 ] فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ; فَالصَّوَابُ أَنَّ مَا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ ; غَيْرُ مَطْلُوبٍ فِي الشَّرْعِ .
; فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ ، كَأَلْفَاظِ اللُّغَةِ ، وَعِلْمِ النَّحْوِ ، وَالتَّفْسِيرِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ; فَلَا إِشْكَالَ أَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَطْلُوبُ مَطْلُوبٌ ، إِمَّا شَرْعًا ، وَإِمَّا عَقْلًا ، حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ ، لَكِنْ هُنَا مَعْنًى آخَرُ لَا بُدَّ مِنَ الِالْتِفَافِ إِلَيْهِ ، وَهُوَ :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (6)
صـ67 إلى صـ79
[ ص: 67 ] وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْمَطْلُوبِ قَدْ يَكُونُ لَهُ طَرِيقٌ تَقْرِيبِيٌّ يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ طَرِيقٌ لَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ ، وَإِنْ فُرِضَ تَحْقِيقًا .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ ; فَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ ، كَمَا إِذَا طُلِبَ مَعْنَى الْمَلِكِ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرِهِ ، أَوْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ ; فَقِيلَ : إِنَّهُ هَذَا الَّذِي أَنْتَ مِنْ جِنْسِهِ ، أَوْ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فَقِيلَ : هُوَ التَّنَقُّصُ ، أَوْ مَعْنَى الْكَوْكَبِ فَقِيلَ : هَذَا الَّذِي نُشَاهِدُهُ بِاللَّيْلِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ; فَيَحْصُلُ فَهْمُ الْخِطَابِ مَعَ هَذَا الْفَهْمِ التَّقْرِيبِيِّ حَتَّى يُمْكِنَ الِامْتِثَالُ .
وَعَلَى هَذَا وَقَعَ الْبَيَانُ فِي الشَّرِيعَةِ ; كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ ، وَغَمْطُ النَّاسِ ; فَفَسَّرَهُ بِلَازِمِهِ الظَّاهِرِ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَكَمَا تُفَسَّرُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِمُرَادِفَاتِه َا لُغَةً ، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَظْهَرَ فِي الْفَهْمِ مِنْهَا ، وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ [ ص: 68 ] السَّلَامُ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمُورِ ، وَهُوَ عَادَةُ الْعَرَبِ ، وَالشَّرِيعَةُ عَرَبِيَّةٌ ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أُمِّيَّةٌ ; فَلَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْبَيَانِ إِلَّا الْأُمِّيُّ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ هَذَا فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مَشْرُوحًا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
فَإِذًا التَّصَوُّرَاتُ الْمُسْتَعْمَلَ ةُ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هِيَ تَقْرِيبَاتٌ بِالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَة ِ وَمَا قَامَ مَقَامَهَا مِنَ الْبَيَانَاتِ الْقَرِيبَةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي : - وَهُوَ مَا لَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ - ; فَعَدَمُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْجُمْهُورِ أَخْرَجَهُ عَنِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ ; لِأَنَّ مَسَالِكَهُ صَعْبَةُ الْمَرَامِ ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ الْحَجِّ : 78 ] كَمَا إِذَا طُلِبَ مَعْنَى الْمَلِكِ ، فَأُحِيلَ بِهِ عَلَى مَعْنًى أَغْمَضَ مِنْهُ ، وَهُوَ مَاهِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْمَادَّةِ أَصْلًا ، أَوْ يُقَالُ : جَوْهَرٌ بَسِيطٌ ذُو نِهَايَةٍ وَنُطْقٍ عَقْلِيٍّ ، أَوْ طُلِبَ مَعْنَى الْإِنْسَانِ فَقِيلَ : هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ الْمَائِتُ ، أَوْ يُقَالُ : مَا الْكَوْكَبُ ؟ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ جِسْمٌ بَسِيطٌ كُرِيٌّ ، مَكَانُهُ الطَّبِيعِيُّ نَفْسُ الْفَلَكِ ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنِيرَ ، مُتَحَرِّكٌ عَلَى الْوَسَطِ ، غَيْرُ مُشْتَمِلٍ عَلَيْهِ ، أَوْ سُئِلَ عَنِ الْمَكَانِ ; فَيُقَالُ : هُوَ السَّطْحُ الْبَاطِنُ مِنَ الْجِرْمِ الْحَاوِي ، الْمُمَاسُّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ مِنَ الْجِسْمِ الْمَحْوِيِّ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ ، وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ أَزْمِنَةٍ فِي طَلَبِ تِلْكَ الْمَعَانِي ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى هَذَا ، وَلَا كَلَّفَ بِهِ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ هَذَا تَسَوُّرٌ عَلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ ، وَقَدِ اعْتَرَفَ أَصْحَابُهُ [ ص: 69 ] بِصُعُوبَتِهِ ، بَلْ قَدْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُتَعَذِّرٌ ، وَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا أَنْ لَا يُعَرَّفَ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ ; إِذِ الْجَوَاهِرُ لَهَا فُصُولٌ مَجْهُولَةٌ ، وَالْجَوَاهِرُ عُرِّفَتْ بِأُمُورٍ سَلْبِيَّةٍ ; فَإِنَّ الذَّاتِيَّ الْخَاصَّ إِنْ عُلِمَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ لَمْ يَكُنْ خَاصًّا ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ، فَكَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ لِلْحِسِّ فَهُوَ مَجْهُولٌ ; فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ الْخَاصُّ بِغَيْرِ مَا يَخُصُّهُ فَلَيْسَ بِتَعْرِيفٍ ، وَالْخَاصُّ بِهِ كَالْخَاصِّ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا ; فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى أُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ، وَذَلِكَ لَا يَفِي بِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّاتِ ، هَذَا فِي الْجَوْهَرِ ، وَأَمَّا الْعَرَضُ ; فَإِنَّمَا يُعَرَّفُ بِاللَّوَازِمِ ; إِذْ لَمْ يَقْدِرُ أَصْحَابُ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ .
وَأَيْضًا ; مَا ذُكِرَ فِي الْجَوَاهِرِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الذَّاتِيَّاتِ لَا يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَى أَنْ لَيْسَ ذَاتِيٌّ سِوَاهَا ، وَلِلْمُنَازِعِ أَنْ يُطَالِبَ بِذَلِكَ ، وَلَيْسَ لِلْحَادِّ أَنْ يَقُولَ : لَوْ كَانَ ثَمَّ وَصْفٌ آخَرُ لَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ ; إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الصِّفَاتِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا : لَوْ كَانَ ثَمَّ ذَاتِيٌّ آخَرُ مَا عُرِفَتِ الْمَاهِيَّةُ [ دُونَهُ ] ; لِأَنَّا نَقُولُ : إِنَّمَا تُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ إِذَا عُرِفَ جَمِيعُ ذَاتِيَّاتِهَا ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ ذَاتِيٌّ لَمْ يُعْرَفْ ، حَصَلَ الشَّكُّ فِي مَعْرِفَةِ الْمَاهِيَّةِ .
فَظَهَرَ أَنَّ الْحُدُودَ عَلَى مَا شَرَطَهُ أَرْبَابُ الْحُدُودِ يَتَعَذَّرُ الْإِتْيَانُ بِهَا ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْعَلُ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا فِيهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى تَقَرَّرَ ، وَهُوَ أَنَّ مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ لَا يَعْرِفُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا بَارِيهَا ; فَتَسَوُّرُ الْإِنْسَانِ عَلَى [ ص: 70 ] مَعْرِفَتِهَا رَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ ، هَذَا كُلُّهُ فِي التَّصَوُّرِ .
وَأَمَّا [ فِي ] التَّصْدِيقِ ; فَالَّذِي يَلِيقُ مِنْهُ بِالْجُمْهُورِ مَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُ الدَّلِيلِ فِيهِ ضَرُورِيَّةً أَوْ قَرِيبَةً مِنَ الضَّرُورِيَّةِ ، حَسْبَمَا يَتَبَيَّنُ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ بِحَوْلِ اللَّهِ ، وَقُوَّتِهِ .
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; فَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ طَلَبُهُ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ الْقُرْآنُ عَلَى أَمْثَالِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [ النَّحْلِ : 17 ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [ يس : 79 ] إِلَى آخِرِهَا .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [ الرُّومِ : 40 ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ الْأَنْبِيَاءِ : 22 ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [ الْوَاقِعَةِ : 58 - 59 ] .
وَهَذَا إِذَا احْتِيجَ إِلَى الدَّلِيلِ فِي التَّصْدِيقِ ، وَإِلَّا فَتَقْرِيرُ الْحُكْمِ كَافٍ ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مَرَّ السَّلَفُ الصَّالِحُ فِي بَثِّ الشَّرِيعَةِ لِلْمُؤَالِفِ وَالْمُخَالِفِ ، وَمَنْ نَظَرَ فِي اسْتِدْلَالِهِم ْ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّ ةِ عَلِمَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَيْسَرَ الطُّرُقِ ، وَأَقْرَبَهَا إِلَى عُقُولِ الطَّالِبِينَ ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ مُتَكَلَّفٍ ، وَلَا نَظْمٍ مُؤَلَّفٍ ، بَلْ كَانُوا يَرْمُونَ بِالْكَلَامِ عَلَى عَوَاهِنِهِ ، وَلَا يُبَالُونَ كَيْفَ وَقَعَ فِي [ ص: 71 ] تَرْتِيبِهِ ، إِذَا كَانَ قَرِيبَ الْمَأْخَذِ ، سَهْلَ الْمُلْتَمَسِ ، هَذَا وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى نَظْمِ الْأَقْدَمِينَ فِي التَّحْصِيلِ ; فَمِنْ حَيْثُ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ إِيصَالَ الْمَقْصُودِ ، لَا مِنْ حَيْثُ احْتِذَاءُ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ .
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُرَتَّبًا عَلَى قِيَاسَاتٍ مُرَكَّبَةٍ أَوْ غَيْرِ مُرَكَّبَةٍ ، إِلَّا أَنَّ فِي إِيصَالِهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ بَعْضَ التَّوَقُّفِ لِلْعَقْلِ ; فَلَيْسَ هَذَا الطَّرِيقُ بِشَرْعِيٍّ ، وَلَا تَجِدُهُ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَا فِي السُّنَّةِ ، وَلَا فِي كَلَامِ السَّلَفِ الصَّالِحِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ مَتْلَفَةٌ لِلْعَقْلِ وَمَحَارَةٌ لَهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ بِخِلَافِ وَضْعِ التَّعْلِيمِ ، وَلِأَنَّ الْمَطَالِبَ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ وَقْتِيَّةٌ ، فَاللَّائِقُ بِهَا مَا كَانَ فِي الْفَهْمِ وَقْتِيًّا ، فَلَوْ وُضِعَ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ غَيْرَ وَقْتِيٍّ ; لَكَانَ مُنَاقِضًا لِهَذِهِ الْمَطَالِبِ ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ الْإِدْرَاكَاتِ لَيْسَتْ عَلَى فَنٍّ وَاحِدٍ ، وَلَا هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى [ ص: 72 ] التَّسَاوِي فِي كُلِّ مَطْلَبٍ إِلَّا فِي الضَّرُورِيَّات ِ وَمَا قَارَبَهَا ; فَإِنَّهَا لَا تَفَاوُتَ فِيهَا يُعْتَدُّ بِهِ فَلَوْ وُضِعَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَتَعَذَّرَ هَذَا الْمَطْلَبُ ، وَلَكَانَ التَّكْلِيفُ خَاصًّا لَا عَامًّا ، أَوْ أَدَّى إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنِ الشَّرِيعَةِ ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى .
[ ص: 73 ] كُلُّ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ فَطَلَبُ الشَّارِعِ لَهُ إِنَّمَا يَكُونُ [ مِنْ ] حَيْثُ هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّعَبُّدِ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى ، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ; فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ اعْتِبَارُ جِهَةٍ أُخْرَى فَبِالتَّبَعِ وَالْقَصْدِ الثَّانِي ، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ أَحَدُهَا : مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلُ أَنَّ كَلَّ عِلْمٍ لَا يُفِيدُ عَمَلًا ; فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ غَايَةٌ أُخْرَى شَرْعِيَّةٌ ; لَكَانَ مُسْتَحْسَنًا شَرَعَا ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحْسَنًا شَرْعًا ; لَبَحَثَ عَنْهُ الْأَوَّلُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، [ ص: 74 ] وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، فَمَا يَلْزَمُ عَنْهُ كَذَلِكَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا جَاءَ بِالتَّعَبُّدِ ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ بِعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [ النِّسَاءِ : 1 ] .
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [ هُودِ : 1 - 2 ] .
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [ إِبْرَاهِيمِ : 1 ] .
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [ الْبَقَرَةِ : 2 ] .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [ الْأَنْعَامِ : 1 ] ; أَيْ يُسَوُّونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ ، فَذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَالَ : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ الْمَائِدَةِ : 92 ] .
لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [ الْكَهْفِ : 2 ] .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الْأَنْبِيَاءِ : 25 ] .
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ الْآيَةَ [ الزُّمَرِ : 2 - 3 ] .
[ ص: 75 ] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُحْصَى ، كُلُّهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ ، وَإِنَّمَا أُوتُوا بِأَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ لِيَتَوَجَّهُوا إِلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [ مُحَمَّدٍ : 19 ] .
وَقَالَ : فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ هُودٍ : 14 ] .
وَقَالَ : هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [ غَافِرٍ : 65 ] .
وَمَثَلُهُ سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي نُصَّ فِيهَا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ، لَا بُدَّ أَنْ أُعْقِبَتْ بِطَلَبِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، أَوْ جُعِلَ مُقَدِّمَةً لَهَا ، بَلْ أَدِلَّةُ التَّوْحِيدِ هَكَذَا جَرَى مَسَاقُ الْقُرْآنِ فِيهَا أَلَّا تُذْكَرَ إِلَّا كَذَلِكَ ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ التَّعَبُّدَ لِلَّهِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِلْمِ ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تُحْصَى .
وَالثَّالِثُ : مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْعِلْمِ هُوَ الْعَمَلُ ، وَإِلَّا فَالْعِلْمُ عَارِيَةٌ ، وَغَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ فَاطِرٍ : 28 ] .
وَقَالَ : وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [ يُوسُفَ : 68 ] .
قَالَ قَتَادَةُ : يَعْنِي لَذُو عَمَلٍ بِمَا عَلَّمْنَاهُ .
[ ص: 76 ] وَقَالَ تَعَالَى : مَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ . . . إِلَى أَنْ قَالَ : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْآيَةَ [ الزُّمَرِ : 9 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [ الْبَقَرَةِ : 44 ] .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ [ الشُّعَرَاءِ : 94 ] ; قَالَ : قَوْمٌ وَصَفَوُا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ بِأَلْسِنَتِهِم ْ ، وَخَالَفُوهُ إِلَى غَيْرِهِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : إِنَّ فِي جَهَنَّمَ أَرْحَاءَ تَدُورُ بِعُلَمَاءِ السُّوءِ ، فَيُشْرِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُمْ فِي الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ : مَا صَيَّرَكُمْ فِي هَذَا ، وَإِنَّمَا كُنَّا نَتَعَلَّمُ مِنْكُمْ ، قَالُوا : إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُكُمْ بِالْأَمْرِ وَنُخَالِفُكُمْ إِلَى غَيْرِهِ .
[ ص: 77 ] وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إِنَّمَا يُتَعَلَّمُ الْعِلْمُ لِيُتَّقَى بِهِ اللَّهُ ، وَإِنَّمَا فُضِّلَ الْعِلْمُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُتَّقَى اللَّهُ بِهِ .
وَعَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسِ خِصَالٍ ، وَذَكَرَ فِيهَا : وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ .
[ ص: 78 ] وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : " إِنَّمَا أَخَافَ أَنْ يُقَالَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَعَلِمْتَ أَمْ جَهِلْتَ ، فَأَقُولُ : عَلِمْتُ ، فَلَا تَبْقَى آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آمِرَةٌ أَوْ زَاجِرَةٌ إِلَّا جَاءَتْنِي تَسْأَلُنِي فَرِيضَتَهَا ، فَتَسْأَلُنِي الْآمِرَةُ : هَلِ ائْتَمَرْتَ ؟ وَالزَّاجِرَةُ : هَلِ ازْدُجِرْتَ ؟ فَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ ، [ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ ] ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ " .
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ [ ص: 79 ] الْقِيَامَةِ ، قَالَ فِيهِ : وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، فَقَالَ : مَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ ، قَالَ : كَذَّبْتَ ، وَلَكِنْ لِيُقَالَ : فُلَانٌ قَارِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ .
وَقَالَ : إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمًا لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (7)
صـ80 إلى صـ94
[ ص: 80 ] وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ .
وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ : مَنْ حَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ الْعِلْمَ ; عَذَّبَهُ عَلَى الْجَهْلِ ، وَأَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْعَلَمُ فَأَدْبَرَ عَنْهُ ، وَمَنْ أَهْدَى اللَّهُ إِلَيْهِ عِلْمًا فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ ، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : " اعْلَمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا ؛ فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ حَتَّى تَعْمَلُوا " .
[ ص: 81 ] وَرُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ : إِنَّ الْعُلَمَاءَ هِمَّتُهُمُ الرِّعَايَةُ ، وَإِنَّ السُّفَهَاءَ هِمَّتُهُمُ الرِّوَايَةُ .
وَرُوِيَ مَوْقُوفًا أَيْضًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ : حَدَّثَنِي عَشَرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا : كُنَّا نَتَدَارَسُ الْعِلْمَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ ; إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : تَعَلَّمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللَّهُ حَتَّى تَعْمَلُوا .
[ ص: 82 ] وَكَانَ رَجُلٌ يَسْأَلُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ لَهُ : كُلُّ مَا تَسْأَلُ عَنْهُ تَعْمَلُ بِهِ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَمَا تَصْنَعُ بِازْدِيَادِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْكَ ؟ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : " اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَدَعُوا أَقْوَالَهُمْ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَعْ قَوْلًا إِلَّا جَعَلَ عَلَيْهِ دَلِيلًا مِنْ عَمَلٍ يُصَدِّقُهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ ، فَإِذَا سَمِعْتَ قَوْلًا حَسَنًا فَرُوَيْدًا بِصَاحِبِهِ ; فَإِنْ وَافَقَ قَوْلَهُ عَمَلُهُ ، فَنِعْمَ وَنِعْمَةَ عَيْنٍ " .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : " إِنَّ النَّاسَ أَحْسَنُوا الْقَوْلَ كُلَّهُمْ ، فَمَنْ وَافَقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ فَذَلِكَ الَّذِي أَصَابَ حَظَّهُ ، وَمَنْ خَالَفَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ ; فَإِنَّمَا يُوَبِّخُ نَفْسَهُ " .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : " إِنَّمَا يُطْلَبُ الْحَدِيثُ لِيُتَّقَى بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلِذَلِكَ فُضِّلَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ كَانَ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ " .
وَذَكَرَ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ; قَالَ : " أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَمَا [ ص: 83 ] يُعْجِبُهُمُ الْقَوْلُ ، إِنَّمَا يُعْجِبُهُمُ الْعَمَلُ " ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُحَقِّقُ أَنَّ الْعِلْمَ وَسِيلَةٌ مِنَ الْوَسَائِلِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ ; فَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَلِ بِهِ .
فَلَا يُقَالُ : إِنَّ الْعِلْمَ قَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ فَضْلُهُ ، وَإِنَّ مَنَازِلَ الْعُلَمَاءِ فَوْقَ مَنَازِلِ الشُّهَدَاءِ ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ مَرْتَبَةَ الْعُلَمَاءِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; ، وَكَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى فَضْلِهِ مُطْلَقًا لَا مُقَيَّدًا ; فَكَيْفَ يُنْكَرُ أَنَّهُ فَضِيلَةٌ مَقْصُودَةٌ لَا وَسِيلَةٌ ، هَذَا وَإِنْ كَانَ وَسِيلَةً مِنْ وَجْهٍ ، فَهُوَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ أَيْضًا كَالْإِيمَانِ ; فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ ، وَوَسِيلَةٌ إِلَى قَبُولِهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَمْ يَثْبُتْ فَضْلُهُ مُطْلَقًا ، بَلْ مِنْ حَيْثُ التَّوَسُّلُ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ آنِفًا ، وَإِلَّا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ ، وَتَنَاقَضَتِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ ، [ ص: 84 ] وَأَقْوَالُ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ ; فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهَا ، وَمَا ذُكِرَ آنِفًا شَارِحٌ لِمَا ذُكِرَ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ ; فَإِنَّهُ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ ، وَهُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْعِلْمِ ، وَالْأَعْمَالُ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا وَسِيلَةً إِلَى الْبَعْضِ ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً فِي أَنْفُسِهَا ، أَمَّا الْعِلْمُ ; فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ ، وَأَعْلَى ذَلِكَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ ، وَلَا تَصِحُّ بِهِ فَضِيلَةٌ لِصَاحِبِهِ حَتَّى يُصَدِّقَ بِمُقْتَضَاهُ ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُتَنَاقِضٌ ; فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِاللَّهِ مَعَ التَّكْذِيبِ بِهِ .
قِيلَ : بَلْ قَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ مَعَ التَّكْذِيبِ ; فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي قَوْمٍ : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ [ النَّمْلِ : 14 ] .
وَقَالَ : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ : 146 ] .
وَقَالَ : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [ الْأَنْعَامِ : 20 ] .
فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْمَعْرِفَةَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْعِلْمِ ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ مُغَايِرٌ لِلْكُفْرِ .
نَعَمْ ، قَدْ يَكُونُ الْعِلْمُ فَضِيلَةً ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، كَالْعِلْمِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ، وَالْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ فِي التَّكْلِيفِ ، إِذَا فُرِضَ أَنَّهَا لَمْ تَقَعْ فِي [ ص: 85 ] الْخَارِجِ ; فَإِنَّ الْعِلْمَ بِهَا حَسَنٌ ، وَصَاحِبُ الْعِلْمِ مُثَابٌ عَلَيْهِ ، وَبَالِغٌ مُبَالِغَ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَظِنَّةُ الِانْتِفَاعِ عِنْدَ وُجُودِ مَحَلِّهِ ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ وَسِيلَةً ، كَمَا أَنَّ فِي تَحْصِيلِ الطِّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَضِيلَةً ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَعْدُ ، أَوْ جَاءَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَدَاؤُهَا لِعُذْرٍ ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ تَطَهَّرَ عَلَى عَزِيمَةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ ; لَمْ يَصِحَّ لَهُ ثَوَابُ الطَّهَارَةِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَ عَلَى أَنْ لَا يَعْمَلَ ؛ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ ، وَقَدْ وَجَدْنَا وَسَمِعْنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ يَعْرِفُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ ، وَيَعْلَمُونَ كَثِيرًا مِنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَافِعًا لَهُمْ مِنَ الْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْهِ ، وَهُوَ الْعَمَلُ .
فَصْلٌ
وَلَا يُنْكِرُ فَضْلَ الْعِلْمِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا جَاهِلٌ ، وَلَكِنْ لَهُ قَصْدٌ أَصْلِيٌّ ، وَقَصْدٌ تَابِعٌ .
فَالْقَصْدُ الْأَصْلِيُّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَأَمَّا التَّابِعُ ; فَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْجُمْهُورُ مِنْ كَوْنِ صَاحِبِهِ شَرِيفًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِهِ كَذَلِكَ ، وَأَنَّ الْجَاهِلَ دَنِيءٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِهِ شَرِيفًا ، وَأَنَّ قَوْلَهُ نَافِذٌ فِي الْأَشْعَارِ وَالْأَبْشَارِ ، وَحُكْمُهُ مَاضٍ عَلَى الْخَلْقِ ، وَأَنَّ تَعْظِيمَهُ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ ; إِذْ قَامَ لَهُمْ مَقَامَ النَّبِيِّ ; لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَأَنَّ [ ص: 86 ] الْعِلْمَ جَمَالٌ وَمَالٌ ، وَرُتْبَةٌ لَا تُوَازِيهَا رُتْبَةٌ ، وَأَهْلُهُ أَحْيَاءٌ أَبَدَ الدَّهْرِ ، . . . إِلَى سَائِرِ مَا لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَنَاقِبِ الْحَمِيدَةِ ، وَالْمَآثِرِ الْحَسَنَةِ ، وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ ، فَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الْعِلْمِ شَرْعًا ، كَمَا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ يَنَالُهُ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ فِي الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ لَذَّةً لَا تُوَازِيهَا لَذَّةٌ ; إِذْ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَعْلُومِ ، وَالْحَوْزِ لَهُ ، وَمَحَبَّةُ الِاسْتِيلَاءِ قَدْ جُبِلَتْ عَلَيْهَا النُّفُوسُ ، وَمُيِّلَتْ إِلَيْهَا الْقُلُوبُ ، وَهُوَ مَطْلَبٌ خَاصٌّ ، بُرْهَانُهُ التَّجْرِبَةُ التَّامَّةُ ، وَالِاسْتِقْرَا ءُ الْعَامُّ ، فَقَدْ يُطْلَبُ الْعِلْمُ لِلتَّفَكُّهِ بِهِ ، وَالتَّلَذُّذِ بِمُحَادَثَتِهِ ، وَلَا سِيَّمَا الْعُلُومُ الَّتِي لِلْعُقُولِ فِيهَا مَجَالٌ ، وَلِلنَّظَرِ فِي أَطْرَافِهَا مُتَّسَعٌ ، وَلِاسْتِنْبَاط ِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْمَعْلُومِ فِيهَا طَرِيقٌ مُتَّبَعٌ .
وَلَكِنْ كُلُّ تَابِعٍ مِنْ هَذِهِ التَّوَابِعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِلْقَصْدِ الْأَصْلِيِّ أَوْ لَا .
فَإِنْ كَانَ خَادِمًا لَهُ ; فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً صَحِيحٌ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ : وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَ ا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [ الْفُرْقَانِ : 74 ] .
وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ الصَّالِحِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ ، وَقَالَ عُمَرُ لِابْنِهِ حِينَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي هِيَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ النَّخْلَةُ : " لَأَنْ [ ص: 87 ] تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا " .
وَفِي الْقُرْآنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [ الشُّعَرَاءِ : 84 ] .
فَكَذَلِكَ إِذَا طَلَبَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ خَادِمٍ لَهُ ; فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ كَتَعَلُّمِهِ رِيَاءً ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ ، أَوْ يُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ ، أَوْ يَسْتَمِيلَ بِهِ قُلُوبَ الْعِبَادِ ، أَوْ لِيَنَالَ مِنْ دُنْيَاهُمْ ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا إِذَا لَاحَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا طَلَبَ - زَهِدَ فِي التَّعَلُّمِ ، وَرَغِبَ فِي التَّقَدُّمِ ، وَصَعُبَ عَلَيْهِ إِحْكَامُ مَا ابْتَدَأَ فِيهِ ، وَأَنِفَ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالتَّقْصِيرِ ، فَرَضِيَ بِحَاكِمِ عَقْلِهِ ، وَقَاسَ بِجَهْلِهِ ، فَصَارَ مِمَّنْ سُئِلَ فَأَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ ; فَضَّلَ وَأَضَلَّ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ : لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ ، وَلَا لِتَحْتَازُوا بِهِ الْمَجَالِسَ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ; فَالنَّارُ النَّارُ .
[ ص: 88 ] وَقَالَ : مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ غَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا ، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ : سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ ، فَقَالَ : هُوَ الرَّجُلُ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ يُرِيدُ أَنْ يُجْلَسَ إِلَيْهِ الْحَدِيثَ .
وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 174 ] .
وَالْأَدِلَّةُ فِي الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ .
[ ص: 89 ] الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا - أَعْنِي الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَهْلَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ الْعِلْمُ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ ، الَّذِي لَا يُخَلِّي صَاحِبَهُ جَارِيًا مَعَ هَوَاهُ كَيْفَمَا كَانَ ، بَلْ هُوَ الْمُقَيِّدُ لِصَاحِبِهِ بِمُقْتَضَاهُ ، الْحَامِلُ لَهُ عَلَى قَوَانِينِهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ : الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : الطَّالِبُونَ لَهُ وَلَمَّا يَحْصُلُوا عَلَى كَمَالِهِ بَعْدُ ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي طَلَبِهِ فِي رُتْبَةِ التَّقْلِيدِ ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا دَخَلُوا فِي الْعَمَلِ بِهِ ; فَبِمُقْتَضَى الْحَمْلِ التَّكْلِيفِيِّ ، وَالْحَثِّ التَّرْغِيبِيِّ ، وَالتَّرْهِيبِي ِّ ، وَعَلَى مِقْدَارِ شِدَّةِ التَّصْدِيقِ يَخِفُّ ثِقَلُ التَّكْلِيفِ ، فَلَا يَكْتَفِي الْعِلْمُ هَاهُنَا بِالْحَمْلِ دُونَ أَمْرٍ آخَرَ خَارِجَ مَقُولِهِ ; مِنْ زَجْرٍ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى ، وَلَا احْتِيَاجَ هَاهُنَا إِلَى إِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَلَى ذَلِكَ ; إِذِ التَّجْرِبَةُ الْجَارِيَةُ فِي الْخَلْقِ قَدْ أَعْطَتْ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بُرْهَانًا لَا يَحْتَمِلُ مُتَعَلِّقُهُ النَّقِيضَ بِوَجْهٍ .
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : الْوَاقِفُونَ مِنْهُ عَلَى بَرَاهِينِهِ ، ارْتِفَاعًا عَنْ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ [ ص: 90 ] الْمُجَرَّدِ ، وَاسْتِبْصَارًا فِيهِ حَسْبَمَا أَعْطَاهُ شَاهِدُ النَّقْلِ الَّذِي يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ تَصْدِيقًا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ ، وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ ; إِلَّا أَنَّهُ بَعْدُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَقْلِ لَا إِلَى النَّفْسِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ كَالْوَصْفِ الثَّابِتِ لِلْإِنْسَانِ ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالْأَشْيَاءِ الْمُكْتَسَبَةِ ، وَالْعُلُومِ الْمَحْفُوظَةِ الَّتِي يَتَحَكَّمُ عَلَيْهَا الْعَقْلُ ، وَعَلَيْهِ يُعْتَمَدُ فِي اسْتِجْلَابِهَا ، حَتَّى تَصِيرَ مِنْ جُمْلَةِ مُودَعَاتِهِ ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا دَخَلُوا فِي الْعَمَلِ ، خَفَّ عَلَيْهِمْ خِفَّةً أُخْرَى زَائِدَةً عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا ; إِذْ هَؤُلَاءِ يَأْبَى لَهُمُ الْبُرْهَانُ الْمُصَدَّقُ أَنْ يَكْذِبُوا ، وَمِنْ جُمْلَةِ التَّكْذِيبِ الْخَفِيِّ الْعَمَلُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ لَهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَصِرْ لَهُمْ كَالْوَصْفِ رُبَّمَا كَانَتْ أَوْصَافُهُمُ الثَّابِتَةُ مِنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ الْبَاعِثَةِ الْغَالِبَةِ - أَقْوَى الْبَاعِثِينَ ; فَلَا بُدَّ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى أَمْرٍ زَائِدٍ مِنْ خَارِجٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ يَتَّسِعُ فِي حَقِّهِمْ ، فَلَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَا تِ ، بَلْ ثَمَّ أُمُورٌ أُخَرُ كَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ ، وَمُطَالَبَةِ الْمَرَاتِبِ الَّتِي بَلَغُوهَا بِمَا يَلِيقُ بِهَا ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ .
وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَيْضًا يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَيْهَا مِنَ التَّجْرِبَةِ ، إِلَّا أَنَّهَا أَخْفَى مِمَّا قَبْلَهَا ، فَيَحْتَاجُ إِلَى فَضْلِ نَظَرٍ مَوْكُولٍ إِلَى ذَوِي النَّبَاهَةِ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالْأَخْذِ فِي الِاتِّصَافَاتِ السُّلُوكِيَّةِ .
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : الَّذِينَ صَارَ لَهُمُ الْعِلْمُ وَصْفًا مِنَ الْأَوْصَافِ الثَّابِتَةِ بِمَثَابَةِ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ فِي الْمَعْقُولَاتِ الْأُوَلِ ، أَوْ تُقَارِبُهَا ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى طَرِيقِ حُصُولِهَا ; [ ص: 91 ] فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُخَلِّيهِمُ الْعِلْمُ وَأَهْوَاءَهُمْ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ، بَلْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ رُجُوعَهُمْ إِلَى دَوَاعِيهِمُ الْبَشَرِيَّةِ ، وَأَوْصَافِهِمُ الْخُلُقِيَّةِ ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْمُتَرْجَمُ لَهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ كَثِيرٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [ الزُّمَرِ : 9 ] .
ثُمَّ قَالَ : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْآيَةَ [ الزُّمَرِ : 9 ] .
فَنَسَبَ هَذِهِ الْمَحَاسِنَ إِلَى أُولِي الْعِلْمِ مِنْ أَجْلِ الْعِلْمِ ، لَا مِنْ أَجْلِ غَيْرِهِ .
وَقَالَ تَعَالَى : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [ الزُّمَرِ : 23 ] .
وَالَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ هُمُ الْعُلَمَاءُ لِقَوْلِهِ : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ فَاطِرٍ : 28 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ الْآيَةَ [ الْمَائِدَةِ : 83 ] .
وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ قَدْ بَلَغُوا فِي عِلْمِ السِّحْرِ مَبْلَغَ الرُّسُوخِ فِيهِ ، وَهُوَ مَعْنَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ، بَادَرُوا إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْإِيمَانِ حِينَ عَرَفُوا مِنْ عِلْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَقٌّ لَيْسَ بِالسِّحْرِ ، وَلَا الشَّعْوَذَةِ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ التَّخْوِيفُ وَلَا التَّعْذِيبُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِرْعَوْنُ .
[ ص: 92 ] وَقَالَ تَعَالَى : وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [ الْعَنْكَبُوتِ : 43 ] .
فَحَصَرَ تَعَقُّلَهَا فِي الْعَالِمِينَ ، وَهُوَ قَصْدُ الشَّارِعِ مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ .
وَقَالَ : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [ الرَّعْدِ : 19 ] .
ثُمَّ وَصَفَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ : الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ [ الرَّعْدِ : 20 ] إِلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ الْعَامِلُونَ .
وَقَالَ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ - وَالْإِيمَانُ مِنْ فَوَائِدِ الْعِلْمِ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ إِلَى أَنْ قَالَ : أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [ الْأَنْفَالِ : 2 - 4 ] .
وَمِنْ هُنَا قَرَنَ الْعُلَمَاءَ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ بِالْمَلَائِكَة ِ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فَقَالَ تَعَالَى : مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [ آلِ عِمْرَانَ : 18 ] .
فَشَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَفْقَ عِلْمِهِ ظَاهِرَةُ التَّوَافُقِ ; إِذِ التَّخَالُفُ مُحَالٌ ، وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمُوا صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ مَحْفُوظُونَ مِنَ الْمَعَاصِي ، وَأُولُو الْعِلْمِ أَيْضًا كَذَلِكَ ; مِنْ حَيْثُ حُفِظُوا بِالْعِلْمِ ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَةٌ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَحْزَنَهُمْ ذَلِكَ وَأَقْلَقَهُمْ ، حَتَّى يَسْأَلُوا [ ص: 93 ] النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَنُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَةِ : وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 284 ] .
وَقَوْلِهِ : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ الْآيَةَ [ الْأَنْعَامِ : 82 ] .
وَإِنَّمَا الْقَلَقُ وَالْخَوْفُ مِنْ آثَارِ الْعِلْمِ بِالْمُنَزَّلِ .
[ ص: 94 ] وَالْأَدِلَّةُ أَكْثَرُ مِنْ إِحْصَائِهَا هُنَا ، وَجَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمُلْجِئُ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مَحْفُوظًا بِهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ أَوَّلًا .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ; فَقَدِ اسْتَوَى أَهْلُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَعَ مَنْ قَبْلَهُمْ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ غَيْرُ كَافٍ فِي الْعَمَلِ بِهِ ، وَلَا مُلْجِئُ إِلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا بِهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ ; لَزِمَ أَنْ لَا يَعْصِيَ الْعَالِمُ إِذَا كَانَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِيهِ ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ تَقَعُ مِنْهُمُ الْمَعَاصِي ، مَا عَدَا الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا فِي أَعْلَى الْأُمُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [ النَّمْلِ : 14 ] .
وَقَالَ : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ : 146 ] .
وَقَالَ : وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [ الْمَائِدَةِ : 43 ] .
وَقَالَ : وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ : 102 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (8)
صـ95 إلى صـ110
[ ص: 95 ] وَسَائِرُ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى ; فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ وَالْمُخَالَفَا تِ مَعَ الْعِلْمِ ، فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ صَادًّا عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ .
وَالثَّانِي : مَا جَاءَ مِنْ ذَمِّ الْعُلَمَاءِ السُّوءِ ، وَهُوَ كَثِيرٌ ، وَمِنْ أَشَدِّ مَا فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ .
وَفِي الْقُرْآنِ : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [ الْبَقَرَةِ : 44 ] .
وَقَالَ : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 159 ] .
وَقَالَ : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 174 ] .
وَحَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَالْأَدِلَّةُ فِيهِ كَثِيرَةٌ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ غَيْرُ مَعْصُومِينَ بِعِلْمِهِمْ ، وَلَا هُوَ مِمَّا يَمْنَعُهُمْ عَنْ إِتْيَانِ الذُّنُوبِ ; فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّ الْعَلَمَ مَانِعٌ مِنَ الْعِصْيَانِ ؟ .
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ : أَنَّ الرُّسُوخَ فِي الْعِلْمِ يَأْبَى لِلْعَالِمِ أَنْ يُخَالِفَهُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَة ِ ، وَبِدَلِيلِ التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ ، لِأَنَّ مَا صَارَ كَالْوَصْفِ الثَّابِتِ لَا يَتَصَرَّفُ صَاحِبُهُ إِلَّا عَلَى وَفْقِهِ اعْتِيَادًا ; فَإِنْ تَخَلَّفَ فَعَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ [ ص: 96 ] أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : مُجَرَّدُ الْعِنَادِ ، فَقَدْ يُخَالَفُ فِيهِ مُقْتَضَى الطَّبْعِ الْجِبِلِّي ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَجَحَدُوا بِهَا الْآيَةَ [ النَّمْلِ : 14 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [ الْبَقَرَةِ : 109 ] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ .
وَالْغَالِبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ لَا يَقَعَ إِلَّا لِغَلَبَةِ هَوًى ، مِنْ حُبِّ دُنْيَا أَوْ جَاهٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، بِحَيْثُ يَكُونُ وَصْفُ الْهَوَى قَدْ غَمَرَ الْقَلْبَ حَتَّى لَا يَعْرِفَ مَعْرُوفًا ، وَلَا يُنْكِرَ مُنْكَرًا .
وَالثَّانِي : الْفَلَتَاتُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْغَفَلَاتِ الَّتِي لَا يَنْجُو مِنْهَا الْبَشَرُ ; فَقَدْ يَصِيرُ الْعَالِمُ بِدُخُولِ الْغَفْلَةِ غَيْرَ عَالِمٍ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ الْآيَةَ [ النِّسَاءِ : 17 ] .
[ ص: 97 ] وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [ الْأَعْرَافِ : 102 ] .
وَمِثْلُ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَعْتَرِضُ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَعْتَرِضُ نَحْوُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَوْصَافِ الْجِبِلِّيَّةِ ; فَقَدْ لَا تُبْصِرُ الْعَيْنُ ، وَلَا تَسْمَعُ الْأُذُنُ ; لِغَلَبَةِ فِكْرٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ; فَتَرْتَفِعُ فِي الْحَالِ مَنْفَعَةُ الْعَيْنِ وَالْأُذُنُ حَتَّى يُصَابَ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقَالُ : إِنَّهُ غَيْرُ مَجْبُولٍ عَلَى السَّمْعِ وَالْإِبْصَارِ ، فَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ .
وَالثَّالِثُ : كَوْنُهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ; فَلَمْ يَصِرِ الْعِلْمُ لَهُ وَصْفًا أَوْ كَالْوَصْفِ مَعَ عَدِّهِ مِنْ أَهْلِهَا ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى غَلَطٍ فِي اعْتِقَادِ الْعَالِمِ فِي نَفْسِهِ أَوِ اعْتِقَادِ غَيْرِهِ فِيهِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [ الْقَصَصِ : 50 ] .
وَفِي الْحَدِيثِ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ - إِلَى أَنْ قَالَ - اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءً جُهَّالًا ، [ فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ] ; فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا .
[ ص: 98 ] وَقَوْلُهُ : سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، أَشَدُّهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتَيِ الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ الْحَدِيثَ ، فَهَؤُلَاءِ وَقَعُوا فِي الْمُخَالَفَةِ بِسَبَبِ ظَنِّ [ ص: 99 ] الْجَهْلِ عِلْمًا ; فَلَيْسُوا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ ، وَلَا مِمَّنْ صَارَ لَهُمْ كَالْوَصْفِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا حِفْظَ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ ; فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِمْ .
[ ص: 100 ] فَأَمَّا مَنْ خَلَا عَنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ ; فَهُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ حِفْظِ الْعِلْمِ حَسْبَمَا نَصَّتْهُ الْأَدِلَّةُ ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ كَثِيرٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا ، وَإِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا ، وَإِنَّ مِنْ إِقْبَالِ هَذَا الدِّينِ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ حَتَّى إِنَّ الْقَبِيلَةَ لَتَتَفَقَّهُ مِنْ عِنْدِ أَسْرِهَا ، [ أَوْ قَالَ : آخِرِهَا ] حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا إِلَّا الْفَاسِقُ أَوِ الْفَاسِقَانِ ; فَهُمَا مَقْمُوعَانِ ذَلِيلَانِ ، إِنْ تَكَلَّمَا أَوْ نَطَقَا قُمِعَا وَقُهِرَا وَاضْطُهِدَا الْحَدِيثَ .
وَفِي الْحَدِيثِ : سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ يَكْثُرُ الْقُرَّاءُ ، وَيَقِلُّ الْفُقَهَاءُ ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ - إِلَى أَنْ قَالَ - ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ زَمَانٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ زَمَانٌ يُجَادِلُ الْمُنَافِقُ الْمُشْرِكَ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ .
[ ص: 101 ] وَعَنْ عَلِيٍّ : " يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ اعْمَلُوا بِهِ ; فَإِنَّ الْعَالِمَ مَنْ عَلِمَ ثُمَّ عَمِلَ ، وَوَافَقَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ ، تُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلَانِيَتُهُمْ ، وَيُخَالِفُ عِلْمَهُمْ عَمَلُهُمْ ، يَقْعُدُونَ حِلَقًا يُبَاهِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ عَلَى جَلِيسِهِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ ، أُولَئِكَ لَا تَصْعَدُ أَعْمَالُهُمْ تِلْكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : " كُونُوا لِلْعِلْمِ رُعَاةً ، وَلَا تَكُونُوا لَهُ رُوَاةً ; فَإِنَّهُ قَدْ يَرْعَوِي وَلَا يَرْوِي ، وَقَدْ يَرْوِي وَلَا يَرْعَوِي " .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : " لَا تَكُونُ تَقِيًّا حَتَّى تَكُونَ عَالِمًا ، وَلَا تَكُونُ بِالْعِلْمِ جَمِيلًا حَتَّى تَكُونَ بِهِ عَامِلًا " .
وَعَنِ الْحَسَنِ : " الْعَالِمُ الَّذِي وَافَقَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ ، وَمَنْ خَالَفَ عِلْمَهُ عَمَلُهُ فَذَلِكَ رَاوِيَةُ حَدِيثٍ سَمِعَ شَيْئًا فَقَالَهُ " .
[ ص: 102 ] وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : " الْعُلَمَاءُ إِذَا عَلِمُوا عَمِلُوا ، فَإِذَا عَمِلُوا شُغِلُوا ، فَإِذَا شُغِلُوا فُقِدُوا ، فَإِذَا فُقِدُوا طُلِبُوا ، فَإِذَا طُلِبُوا هَرَبُوا " .
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ : " الَّذِي يَفُوقُ النَّاسَ فِي الْعِلْمِ جَدِيرٌ أَنْ يَفُوقَهُمْ فِي الْعَمَلِ " .
وَعَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قَالَ : " عَلِمْتُمْ فَعَلِمْتُمْ وَلَمْ تَعْمَلُوا ، فَوَاللَّهِ مَا ذَلِكُمْ بِعِلْمٍ " .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : " الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ " . وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنَى كَوْنِ الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي يُلْجِئُ إِلَى الْعَمَلِ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : " كُنَّا نَسْتَعِينُ عَلَى حِفْظِ الْحَدِيثِ بِالْعَمَلِ بِهِ " ، وَمِثْلُهُ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : " لَيْسَ الْعِلْمُ عَنْ كَثْرَةِ الْحَدِيثِ ، إِنَّمَا الْعِلْمُ خَشْيَةُ [ ص: 103 ] اللَّهِ .
وَالْآثَارُ فِي هَذَا النَّحْوِ كَثِيرَةٌ .
وَبِمَا ذُكِرَ يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي ; فَإِنَّ عُلَمَاءَ السُّوءِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ ، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ ; فَلَيْسُوا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا هُمْ رُوَاةٌ - وَالْفِقْهُ فِيمَا رَوَوْا أَمْرٌ آخَرُ - أَوْ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ هَوًى غَطَّى عَلَى الْقُلُوبِ ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ .
عَلَى أَنَّ الْمُثَابَرَةَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ ، وَعَدَمِ الِاجْتِزَاءِ بِالْيَسِيرِ مِنْهُ - يَجُرُّ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ ، وَيُلْجِئُ إِلَيْهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ : " كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا ; فَجَرَّنَا إِلَى الْآخِرَةِ " .
وَعَنْ مَعْمَرٍ ; أَنَّهُ قَالَ : " كَانَ يُقَالُ : مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ يَأْبَى عَلَيْهِ الْعِلْمُ حَتَّى يُصَيِّرَهُ إِلَى اللَّهِ " .
وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ : " طَلَبْنَا هَذَا الْأَمْرَ وَلَيْسَ لَنَا فِيهِ نِيَّةٌ ، ثُمَّ جَاءَتِ [ ص: 104 ] النِّيَّةُ بَعْدُ .
وَعَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ : " كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَجَرَّنَا إِلَى الْآخِرَةِ " ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي كَلَامٍ آخَرَ : " كُنْتُ أَغْبِطُ الرَّجُلَ يُجْتَمَعُ حَوْلَهُ ، وَيُكْتَبُ عَنْهُ ، فَلَمَّا ابْتُلِيتُ بِهِ ، وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهُ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي " .
وَعَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ ; قَالَ : " سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً يَقُولُ : " طَلَبْنَا هَذَا الْحَدِيثَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَعْقَبَنَا اللَّهُ مَا تَرَوْنَ " .
وَقَالَ الْحَسَنُ : " لَقَدْ طَلَبَ أَقْوَامٌ الْعِلْمَ مَا أَرَادُوا بِهِ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ ، فَمَا زَالَ بِهِمْ حَتَّى أَرَادُوا بِهِ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ " فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ .
فَصْلٌ
وَيَتَصَدَّى النَّظَرُ هُنَا فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ، وَمَا هِيَ ؟ .
وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عَلَى الِاخْتِصَارِ أَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ ، وَهُوَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ بِالْخَشْيَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْآيَةِ ، وَعَنْهُ عَبَّرَ فِي الْحَدِيثِ فِي : أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ الْخُشُوعُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : " لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ [ ص: 105 ] الرِّوَايَةِ ، وَلَكِنَّهُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ " ، وَقَالَ أَيْضًا : " الْحِكْمَةُ وَالْعِلْمُ نُورٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ ، وَلَيْسَ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ وَهُوَ : التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ ، وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ " ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ .
وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهِ ; فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ ، وَفِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ طَرَفٌ فَرَاجِعْهُ إِنْ شِئْتَ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
[ ص: 106 ] [ ص: 107 ] مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُلَحُ الْعِلْمِ لَا مِنْ صُلْبِهِ ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ وَلَا مُلَحِهِ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : .
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : هُوَ الْأَصْلُ وَالْمُعْتَمَدُ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الطَّلَبِ ، وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي مَقَاصِدُ الرَّاسِخِينَ ، وَذَلِكَ مَا كَانَ قَطْعِيًّا أَوْ رَاجِعًا إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ ، وَالشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمُحَمَّدِيَّ ةُ مَنَزَّلَةٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فِي أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ الْحِجْرِ : 9 ] ; لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ صَلَاحُ الدَّارَيْنِ ، [ ص: 108 ] وَهِيَ الضَّرُورِيَّات ُ ، وَالْحَاجِيَّات ُ ، وَالتَّحْسِينَا تُ ، وَمَا هُوَ مُكَمِّلٌ لَهَا ، وَمُتَمَّمٌ لِأَطْرَافِهَا ، وَهِيَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ عَلَى اعْتِبَارِهَا ، وَسَائِرُ الْفُرُوعِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَيْهَا ; فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهَا عِلْمٌ أَصِيلٌ رَاسِخُ الْأَسَاسِ ثَابِتُ الْأَرْكَانِ .
هَذَا وَإِنْ كَانَتْ وَضْعِيَّةً لَا عَقْلِيَّةً ، فَالْوَضْعِيَّا تُ قَدْ تُجَارِي الْعَقْلِيَّاتِ فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ ، وَعِلْمُ الشَّرِيعَةِ مِنْ جُمْلَتِهَا ; إِذِ الْعِلْمُ بِهَا مُسْتَفَادٌ مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ الْعَامِّ النَّاظِمِ لِأَشْتَاتِ أَفْرَادِهَا ، حَتَّى تَصِيرَ فِي الْعَقْلِ مَجْمُوعَةً فِي كُلِّيَّاتٍ مُطَّرِدَةٍ عَامَّةٍ ، ثَابِتَةٍ غَيْرِ زَائِلَةٍ ، وَلَا مُتَبَدِّلَةٍ ، وَحَاكِمَةٍ غَيْرِ مَحْكُومٍ عَلَيْهَا ، وَهَذِهِ خَوَاصُّ الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّاتِ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْوُجُودِ ، وَهُوَ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ ; فَاسْتَوَتْ مَعَ الْكُلِّيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَارْتَفَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا .
فَإِذًا لِهَذَا الْقِسْمِ خَوَاصٌّ ثَلَاثٌ : بِهِنَّ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ : إِحْدَاهَا : الْعُمُومُ وَالِاطِّرَادُ ، فَلِذَلِكَ جَرَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فِي أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا الْخَاصَّةُ لَا تَتَنَاهَى ؛ فَلَا عَمَلَ يُفْرَضُ ، وَلَا حَرَكَةَ ، وَلَا سُكُونَ يُدَّعَى - إِلَّا وَالشَّرِيعَةُ عَلَيْهِ حَاكِمَةٌ إِفْرَادًا ، وَتَرْكِيبًا ، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا عَامَّةٌ ، وَإِنْ فُرِضَ فِي نُصُوصِهَا أَوْ مَعْقُولِهَا خُصُوصٌ مَا ; فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى عُمُومٍ ; كَالْعَرَايَا ، وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَالْقِرَاضِ ، [ ص: 109 ] وَالْمُسَاقَاةِ ، وَالصَّاعِ فِي الْمُصَرَّاةِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أُصُولٍ حَاجِيَّةٍ أَوْ تَحْسِينِيَّةٍ أَوْ مَا يُكَمِّلُهَا ، وَهِيَ أُمُورٌ عَامَّةٌ ; فَلَا خَاصَّ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا وَهُوَ عَامٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَالِاعْتِبَارُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ .
وَالثَّانِيَةُ : الثُّبُوتُ مِنْ غَيْرِ زَوَالٍ ; فَلِذَلِكَ لَا تَجِدُ فِيهَا بَعْدَ كَمَالِهَا نَسْخًا ، وَلَا تَخْصِيصًا لِعُمُومِهَا ، وَلَا تَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِهَا ، وَلَا رَفْعًا لِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا لَا بِحَسَبِ عُمُومِ الْمُكَلَّفِينَ ، وَلَا بِحَسَبِ خُصُوصِ بَعْضِهِمْ ، وَلَا بِحَسَبِ زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ، وَلَا حَالٍ دُونَ حَالٍ ، بَلْ مَا أُثْبِتَ سَبَبًا ; فَهُوَ سَبَبٌ أَبَدًا لَا يَرْتَفِعُ ، وَمَا [ ص: 110 ] كَانَ شَرْطًا ; فَهُوَ أَبَدًا شَرْطٌ ، وَمَا كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ وَاجِبٌ أَبَدًا ، أَوْ مَنْدُوبًا فَمَنْدُوبٌ ، وَهَكَذَا جَمِيعُ الْأَحْكَامِ فَلَا زَوَالَ لَهَا ، وَلَا تَبَدُّلَ ، وَلَوْ فُرِضَ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ لَكَانَتْ أَحْكَامُهَا كَذَلِكَ .
وَالثَّالِثَةُ : كَوْنُ الْعِلْمِ حَاكِمًا لَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُفِيدًا لِعَمَلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ ; فَلِذَلِكَ انْحَصَرَتْ عُلُومُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا يُفِيدُ الْعَمَلَ أَوْ يُصَوِّبُ نَحْوَهُ ، لَا زَائِدَ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا تَجِدُ فِي الْعَمَلِ أَبَدًا مَا هُوَ حَاكِمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ ، وَإِلَّا انْقَلَبَ كَوْنُهَا حَاكِمَةً إِلَى كَوْنِهَا مَحْكُومًا عَلَيْهَا ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يُعَدُّ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ .
فَإِذًا ; كُلُّ عِلْمٍ حَصَلَ لَهُ هَذِهِ الْخَوَاصُّ الثَّلَاثُ ; فَهُوَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهَا ، وَالْبُرْهَانُ عَلَيْهَا فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي - وَهُوَ الْمَعْدُودُ فِي مُلَحِ الْعِلْمِ لَا فِي صُلْبِهِ - : مَا لَمْ يَكُنْ قَطْعِيًّا ، وَلَا رَاجِعًا إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ ، بَلْ إِلَى ظَنِّيٍّ ، أَوْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى قَطْعِيٍّ إِلَّا أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْهُ خَاصَّةٌ مِنْ تِلْكَ الْخَوَاصِّ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ خَاصَّةٍ وَاحِدَةٍ ; فَهُوَ مُخَيَّلٌ ، وَمِمَّا يَسْتَفِزُّ الْعَقْلَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ الْأَوَّلِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِخْلَالٌ بِأَصْلِهِ ، وَلَا بِمَعْنَى غَيْرِهِ ، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا صَحَّ أَنْ يُعَدَّ فِي هَذَا الْقِسْمِ .
فَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الْأُولَى - وَهُوَ الِاطِّرَادُ وَالْعُمُومُ - فَقَادِحٌ فِي جَعْلِهِ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ لِأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ يُقَوِّي جَانِبَ الِاطِّرَاحِ ، وَيُضْعِفُ جَانِبَ الِاعْتِبَارِ ; إِذِ النَّقْضُ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْوُثُوقِ بِالْقَصْدِ الْمَوْضُوعِ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعِلْمُ ، وَيُقَرِّبُهُ مِنَ الْأُمُورِ الِاتِّفَاقِيَّ ةِ الْوَاقِعَةِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا يُوثَقُ بِهِ ، وَلَا يُبْنَى عَلَيْهِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (9)
صـ111 إلى صـ125
وَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الثَّانِيَةِ - وَهُوَ الثُّبُوتُ - فَيَأْبَاهُ صُلْبُ الْعِلْمِ وَقَوَاعِدُهُ ; [ ص: 111 ] فَإِنَّهُ إِذَا حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ ، ثُمَّ خَالَفَ حَكَمُهُ الْوَاقِعَ فِي الْقَضِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَوْ بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَانَ حُكْمُهُ خَطَأً وَبَاطِلًا ، مِنْ حَيْثُ أَطْلَقَ الْحُكْمَ فِيمَا لَيْسَ بِمُطْلَقٍ أَوْ عَمَّ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ ; فَعَدِمَ النَّاظِرُ الْوُثُوقَ بِحُكْمِهِ ، وَذَلِكَ مَعْنَى خُرُوجِهِ عَنْ صُلْبِ الْعِلْمِ .
وَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الثَّالِثَةِ - وَهُوَ كَوْنُهُ حَاكِمًا وَمَبْنِيًّا عَلَيْهِ - فَقَادِحٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ إِنْ صَحَّ فِي الْعُقُولِ لَمْ يُسْتَفَدْ بِهِ فَائِدَةٌ حَاضِرَةٌ ، غَيْرَ مُجَرَّدِ رَاحَاتِ النُّفُوسِ ، فَاسْتُوِيَ مَعَ سَائِرِ مَا يُتَفَرَّجُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَأَحْرَى فِي الِاطِّرَاحِ ، كَمَبَاحِثِ السُّوفِسْطَائِ يِّينَ ، وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ .
وَلِتَخَلُّفِ بَعْضِ هَذِهِ الْخَوَاصِّ أَمْثِلَةٌ يُلْحَقُ بِهَا مَا سِوَاهَا : أَحَدُهَا : الْحِكَمُ الْمُسْتَخْرَجَ ةُ لِمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي التَّعْبُدَاتِ كَاخْتِصَاصِ الْوُضُوءِ بِالْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ ، وَالصَّلَاةِ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ ، وَالْقِيَامِ ، وَالرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ ، وَكَوْنِهَا عَلَى بَعْضِ الْهَيْئَاتِ دُونَ بَعْضٍ ، وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ ، وَتَعْيِينِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فِي تِلْكَ الْأَحْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ مَا سِوَاهَا مِنْ أَحْيَانِ اللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ ، وَاخْتِصَاصِ الْحَجِّ بِالْأَعْمَالِ الْمَعْلُومَةِ ، وَفِي الْأَمَاكِنِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَإِلَى مَسْجِدٍ مَخْصُوصٍ ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ وَلَا تَطُورُ نَحْوَهُ ، فَيَأْتِي بَعْضُ النَّاسِ فَيُطَرِّقُ إِلَيْهِ حِكَمًا يَزْعُمُ أَنَّهَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْضَاعِ ، وَجَمِيعُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى ظَنٍّ [ ص: 112 ] وَتَخْمِينٍ غَيْرِ مُطَّرِدٍ فِي بَابِهِ ، وَلَا مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ عَمَلٌ ، بَلْ كَالتَّعْلِيلِ بَعْدَ السَّمَاعِ لِلْأُمُورِ الشَّوَاذِّ ، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا يُعَدُّ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ لِجِنَايَتِهِ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي دَعْوَى مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ ، وَلَا دَلِيلَ لَنَا عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : تَحَمُّلُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ عَلَى الْتِزَامِ كَيْفِيَّاتٍ لَا يَلْزَمُ مِثْلُهَا ، وَلَا يُطْلَبُ الْتِزَامُهَا ، كَالْأَحَادِيثِ الْمُسَلْسَلَةِ الَّتِي أُتِيَ بِهَا عَلَى وُجُوهٍ مُلْتَزَمَةٍ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ ، فَالْتَزَمَهَا الْمُتَأَخِّرُو نَ بِالْقَصْدِ ، فَصَارَ تَحَمُّلُهَا عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ تَحَرِّيًا لَهَا ؛ بِحَيْثُ يَتَعَنَّى فِي اسْتِخْرَاجِهَا ، وَيَبْحَثُ عَنْهَا بِخُصُوصِهَا ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَصْدَ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ ، وَإِنْ صَحِبَهَا الْعَمَلُ ; لِأَنَّ تَخَلُّفَهُ فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ الْأَسَانِيدِ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ ، كَمَا فِي حَدِيثِ : الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ; فَإِنَّهُمُ الْتَزَمُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ حَدِيثٍ يَسْمَعُهُ [ ص: 113 ] التِّلْمِيذُ مِنْ شَيْخِهِ ; فَإِنْ سَمِعَهُ مِنْهُ بَعْدَ مَا أَخَذَ عَنْهُ غَيْرَهُ ؛ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الِاسْتِفَادَةَ بِمُقْتَضَاهُ ، [ كَذَا سَائِرُهَا ;غَيْرَ أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّكِ وَتَحْسِينِ الظَّنِّ خَاصَّةً ] ، وَلَيْسَ بِمُطَّرِدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهَا حَتَّى يُقَالَ : إِنَّهُ مَقْصُودٌ ; فَطَلَبُ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ مُلَحِ الْعِلْمِ لَا مَنْ صُلْبِهِ .
وَالثَّالِثُ : التَّأَنُّقُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ ، لَا عَلَى قَصْدِ طَلَبِ تَوَاتُرِهِ ، بَلْ عَلَى أَنْ يُعَدَّ آخِذًا لَهُ عَنْ شُيُوخٍ كَثِيرَةٍ ، وَمِنْ جِهَاتٍ شَتَّى ، وَإِنْ [ ص: 114 ] كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْآحَادِ فِي الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمْ ، فَالِاشْتِغَالُ بِهَذَا مِنَ الْمُلَحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ .
خَرَّجَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيِّ ; قَالَ : خَرَّجْتُ حَدِيثًا وَاحِدًا عَنِ النَّبِيِّ مِنْ مِائَتَيْ طَرِيقٍ أَوْ مِنْ نَحْوِ مِائَتَيْ طَرِيقٍ - شَكَّ الرَّاوِي - قَالَ : فَدَاخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْفَرَحِ غَيْرُ قَلِيلٍ ، وَأُعْجِبْتُ بِذَلِكَ ; فَرَأَيْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ فِي الْمَنَامِ ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا أَبَا زَكَرِيَّا قَدْ خَرَّجْتُ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مِائَتَيْ طَرِيقٍ . قَالَ : فَسَكَتَ عَنِّي سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : أَخْشَى أَنْ يَدْخُلَ هَذَا تَحْتَ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ؛ هَذَا مَا قَالَ . وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّ تَخْرِيجَهُ مِنْ طُرُقٍ يَسِيرَةٍ كَافٍ فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُ ، فَصَارَ الزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ فَضْلًا .
وَالرَّابِعُ : الْعُلُومُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الرُّؤْيَا مِمَّا لَا يَرْجِعُ إِلَى بِشَارَةٍ ، وَلَا نِذَارَةٍ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ بِالْمَنَامَاتِ ، وَمَا يُتَلَقَّى مِنْهَا تَصْرِيحًا ; فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً ; فَأَصْلُهَا الَّذِي هُوَ الرُّؤْيَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ [ ص: 115 ] فِي الشَّرِيعَةِ فِي مِثْلِهَا ، كَمَا فِي رُؤْيَا الْكِنَانِيِّ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا ; فَإِنَّ مَا قَالَ فِيهَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ نَحْتَجَّ بِهِ حَتَّى عَرَضْنَاهُ عَلَى الْعِلْمِ فِي الْيَقَظَةِ ; فَصَارَ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ مَأْخُوذًا مِنَ الْيَقَظَةِ لَا مِنَ الْمَنَامِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ الرُّؤْيَا تَأْنِيسًا ، وَ عَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِالرُّؤْيَا .
وَالْخَامِسُ : الْمَسَائِلُ الَّتِي يُخْتَلَفُ فِيهَا فَلَا يَنْبَنِي عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهَا فَرْعٌ عَمَلِيٌّ ، إِنَّمَا تُعَدُّ مِنَ الْمُلَحِ ، كَالْمَسَائِلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا قَبْلُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَيَقَعُ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْعُلُومِ ، وَفِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا كَثِيرٌ ، كَمَسْأَلَةِ اشْتِقَاقِ الْفِعْلِ مِنَ الْمَصْدَرِ ، وَمَسْأَلَةِ اللَّهُمَّ ، وَمَسْأَلَةِ أَشْيَاءَ ، وَمَسْأَلَةِ الْأَصْلِ فِي [ ص: 116 ] لَفْظِ الِاسْمِ ، وَإِنِ انْبَنَى الْبَحْثُ فِيهَا عَلَى أُصُولٍ مُطَّرِدَةٍ ، وَلَكِنَّهَا لَا فَائِدَةَ تُجْنَى ثَمَرَةً لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا ، فَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ صُلْبِ الْعِلْمِ .
وَالسَّادِسُ : الِاسْتِنَادُ إِلَى الْأَشْعَارِ فِي تَحْقِيقِ الْمَعَانِي الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّة ِ ، وَكَثِيرًا مَا يَجْرِي مِثْلُ هَذَا لِأَهْلِ التَّصَوُّفِ فِي كُتُبِهِمْ ، وَفِي بَيَانِ مَقَامَاتِهِمْ فَيَنْتَزِعُونَ مَعَانِيَ الْأَشْعَارِ ، وَيَضَعُونَهَا لِلتَّخَلُّقِ بِمُقْتَضَاهَا ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُلَحِ ؛ لِمَا فِي الْأَشْعَارِ الرَّقِيقَةِ مِنْ إِمَالَةِ الطِّبَاعِ ، وَتَحْرِيكِ النُّفُوسِ إِلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ ، وَلِذَلِكَ اتَّخَذَهُ الْوُعَّاظُ دَيْدَنًا ، وَأَدْخَلُوهُ فِي أَثْنَاءِ وَعْظِهِمْ ، وَأَمَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ ; فَالِاسْتِشْهَا دُ بِالْمَعْنَى ; فَإِنْ كَانَ شَرْعِيًّا ; فَمَقْبُولٌ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَالسَّابِعُ : الِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَثْبِيتِ الْمَعَانِي بِأَعْمَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِالصَّلَاحِ ، بِنَاءً عَلَى مُجَرَّدِ تَحْسِينِ الظَّنِّ ، لَا زَائِدَ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَكُونُ أَعْمَالُهُمْ حُجَّةً ، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ ، فَإِذَا أُخِذَ ذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ فِيمَنْ يُحْسَنُ [ ص: 117 ] الظَّنُّ بِهِ ; فَهُوَ - عِنْدَمَا يَسْلَمُ مِنَ الْقَوَادِحِ - مِنْ هَذَا الْقِسْمِ ; لِأَجْلِ مَيْلِ النَّاسِ إِلَى مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ صَلَاحٌ وَفَضْلٌ ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ لِعَدَمِ اطِّرَادِ الصَّوَابِ فِي عَمَلِهِ ، وَلِجَوَازِ تَغَيُّرِهِ ; فَإِنَّمَا يُؤْخَذُ - إِنْ سَلِمَ - هَذَا الْمَأْخَذَ .
وَالثَّامِنُ : كَلَامُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ ; فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ مِنْ قَبِيلِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ أَوْغَلُوا فِي خِدْمَةِ مَوْلَاهُمْ ، حَتَّى أَعْرَضُوا عَنْ غَيْرِهِ جُمْلَةً ، فَمَالَ بِهِمْ هَذَا الطَّرَفُ إِلَى أَنْ تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ الِاطِّرَاحِ لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ ، وَأَعْرَبُوا عَنْ مُقْتَضَاهُ ، وَشَأْنُ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ لَا يُطِيقُهُ الْجُمْهُورُ ، وَهُمْ إِنَّمَا يُكَلِّمُونَ بِهِ الْجُمْهُورَ ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ حَقًّا ; فَفِي رُتْبَتِهِ لَا مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ - فِي حَقِّ الْأَكْثَرِ - مِنَ الْحَرَجِ أَوْ تَكْلِيفِ مَالَا يُطَاقُ ، بَلْ رُبَّمَا ذَمُّوا بِإِطْلَاقٍ مَا لَيْسَ بِمَذْمُومٍ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَفِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، فَصَارَ أَخْذُهُ بِإِطْلَاقٍ مُوقِعًا فِي مَفْسَدَةٍ ، بِخِلَافِ أَخْذِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ ; فَلَيْسَ عَلَى هَذَا مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مُلَحِهِ ، وَمُسْتَحْسَنَا تِهِ .
وَالتَّاسِعُ : حَمْلُ بَعْضِ الْعُلُومِ عَلَى بَعْضٍ فِي بَعْضِ قَوَاعِدِهِ ; حَتَّى تَحْصُلَ الْفُتْيَا فِي أَحَدِهَا بِقَاعِدَةِ الْآخَرِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَجْتَمِعَ الْقَاعِدَتَانِ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ حَقِيقِيٍّ ، كَمَا يُحْكَى عَنِ الْفَرَّاءِ النَّحْوِيِّ ; أَنَّهُ قَالَ : مَنْ بَرَعَ فِي عِلْمٍ وَاحِدٍ سَهُلَ [ ص: 118 ] عَلَيْهِ كُلُّ عِلْمٍ . فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي - وَكَانَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ، وَكَانَ ابْنَ خَالَةِ الْفَرَّاءِ - : فَأَنْتَ قَدْ بَرَعْتَ فِي عِلْمِكَ ، فَخُذْ مَسْأَلَةً أَسْأَلُكَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِكَ : مَا تَقُولُ فِيمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ ، ثُمَّ سَجَدَ لِسَهْوِهِ فَسَهَا فِي سُجُودِهِ أَيْضًا ؟
قَالَ الْفَرَّاءُ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
قَالَ : وَكَيْفَ ؟
قَالَ : لِأَنَّ التَّصْغِيرَ عِنْدَنَا لَا يُصَغَّرُ ، فَكَذَلِكَ السَّهْوُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ لَا يُسْجَدُ لَهُ ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَصْغِيرِ التَّصْغِيرِ ، فَالسُّجُودُ لِلسَّهْوِ هُوَ جَبْرٌ لِلصَّلَاةِ ، وَالْجَبْرُ لَا يُجْبَرُ ، كَمَا أَنَّ التَّصْغِيرَ لَا يُصَغَّرُ .
فَقَالَ الْقَاضِي : مَا حَسِبْتُ أَنَّ النِّسَاءَ يَلِدْنَ مِثْلَكَ .
فَأَنْتَ تَرَى مَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ التَّصْغِيرِ وَالسَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الضَّعْفِ ; إِذْ لَا يَجْمَعُهُمَا فِي الْمَعْنَى أَصْلٌ حَقِيقِيٌّ ، فَيُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ .
فَلَوْ جَمَعَهُمَا أَصْلٌ وَاحِدٌ ; لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، كَمَسْأَلَةِ الْكِسَائِيِّ مَعَ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ .
رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ دَخَلَ عَلَى الرَّشِيدِ ، وَالْكِسَائِيُّ يُدَاعِبُهُ وَيُمَازِحُهُ ; فَقَالَ [ ص: 119 ] لَهُ أَبُو يُوسُفَ : هَذَا الْكُوفِيُّ قَدِ اسْتَفْرَغَكَ ، وَغَلَبَ عَلَيْكَ .
فَقَالَ : يَا أَبَا يُوسُفَ إِنَّهُ لَيَأْتِيَنِي بِأَشْيَاءَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا قَلْبِي .
فَأَقْبَلَ الْكِسَائِيُّ عَلَى أَبِي يُوسُفَ فَقَالَ : يَا أَبَا يُوسُفَ هَلْ لَكَ فِي مَسْأَلَةٍ ؟
فَقَالَ : نَحْوٌ أَمْ فِقْهٌ .
قَالَ : بَلْ فِقْهٌ .
فَضَحِكَ الرَّشِيدُ حَتَّى فَحَصَ بِرِجْلِهِ ، ثُمَّ قَالَ : تُلْقِي عَلَى أَبِي يُوسُفَ فِقْهًا ؟
قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : يَا أَبَا يُوسُفَ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ ، وَفَتَحَ أَنْ ؟
قَالَ : إِذَا دَخَلَتْ طَلَقَتْ .
قَالَ : أَخْطَأْتَ يَا أَبَا يُوسُفَ .
فَضَحِكَ الرَّشِيدُ ، ثُمَّ قَالَ : كَيْفَ الصَّوَابُ ؟
قَالَ : إِذَا قَالَ أَنْ فَقَدْ وَجَبَ الْفِعْلُ ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ قَالَ إِنْ فَلَمْ يَجِبْ ، وَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ .
قَالَ : فَكَانَ أَبُو يُوسُفَ بَعْدَهَا لَا يَدْعُ أَنْ يَأْتِيَ الْكِسَائِيَّ .
[ ص: 120 ] فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ جَارِيَةٌ عَلَى أَصْلٍ لُغَوِيٍّ لَا بُدَّ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمَيْنِ .
فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ تُرْشِدُ النَّاظِرَ إِلَى مَا وَرَاءَهَا حَتَّى يَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ فِيمَا يَأْتِي مِنَ الْعُلُومِ وَيَذَرُ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهَا يَسْتَفِزُّ النَّاظِرَ اسْتِحْسَانُهَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ ; فَيَقْطَعُ فِيهَا عُمْرَهُ ، وَلَيْسَ وَرَاءَهَا مَا يُتَّخَذُ مُعْتَمَدًا فِي عَمَلٍ وَلَا اعْتِقَادٍ ، فَيَخِيبُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ سَعْيُهُ ، وَاللَّهُ الْوَاقِي .
وَمِنْ طَرِيفِ الْأَمْثِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَدَّثَنَاهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ : أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ الْبَنَّاءِ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ : لِمَ لَمْ تَعْمَلْ إِنَّ فِي هَذَانِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ الْآيَةَ [ طه : 63 ] ؟
فَقَالَ فِي الْجَوَابِ : لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرِ الْقَوْلُ فِي الْمَقُولِ لَمْ يُؤَثِّرِ الْعَامِلُ فِي الْمَعْمُولِ .
فَقَالَ السَّائِلَ : يَا سَيِّدِي ، وَمَا وَجْهُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ عَمَلِ إِنَّ وَقَوْلِ الْكُفَّارِ فِي النَّبِيِّينَ ؟
فَقَالَ لَهُ الْمُجِيبُ : يَا هَذَا إِنَّمَا جِئْتُكَ بِنُوَّارَةٍ يَحْسُنُ رَوْنَقُهَا ; فَأَنْتَ تُرِيدُ أَنَّ تَحُكَّهَا بَيْنَ يَدَيْكَ ، ثُمَّ تَطْلُبَ مِنْهَا ذَلِكَ الرَّوْنَقَ - أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ -
فَهَذَا الْجَوَابُ فِيهِ مَا تَرَى ، وَبِعَرْضِهِ عَلَى الْعَقْلِ يَتَبَيَّنُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا لَيْسَ مِنَ الصُّلْبِ ، وَلَا مِنَ الْمُلَحِ - : مَا لَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ وَلَا ظَنِّيٍّ ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ بِالْإِبْطَالِ [ ص: 121 ] مِمَّا صَحَّ كَوْنُهُ مِنَ الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ ، وَالْقَوَاعِدِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهَا فِي الْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادَ اتِ ، أَوْ كَانَ مُنْهَضًا إِلَى إِبْطَالِ الْحَقِّ وَإِحْقَاقِ الْبَاطِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، فَهَذَا لَيْسَ بِعِلْمٍ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى أَصْلِهِ بِالْإِبْطَالِ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ ، وَلَا حَاكِمٍ ، وَلَا مُطَّرِدٍ أَيْضًا ، وَلَا هُوَ مِنْ مُلَحِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُلَحَ هِيَ الَّتِي تَسْتَحْسِنُهَا الْعُقُولُ ، وَتَسْتَمْلِحُه َا النُّفُوسُ ; إِذْ لَيْسَ يَصْحَبُهَا مُنَفِّرٌ ، وَلَا هِيَ مِمَّا تُعَادِي الْعُلُومَ ; لِأَنَّهَا ذَاتُ أَصْلٍ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ هَذَا الْقِسْمِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
هَذَا وَإِنْ مَالَ بِقَوْمٍ فَاسْتَحْسَنُوه ُ وَطَلَبُوهُ ; فَلِشِبْهِ عَارِضَةٍ وَاشْتِبَاهٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ ، فَرُبَّمَا عَدَّهُ الْأَغْبِيَاءُ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ ، فَمَالُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ ، وَحَقِيقَةُ أَصْلِهِ وَهْمٌ وَتَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، مَعَ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْأَهْوَاءِ ، كَالْإِغْرَابِ بِاسْتِجْلَابِ غَيْرِ الْمَعْهُودِ ، وَالْجَعْجَعَةِ بِإِدْرَاكِ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ الرَّاسِخُونَ ، وَالتَّبَجُّحِ بِأَنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْمَشْهُورَاتِ مُطَالَبَ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ . . . ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْخَوَاصِّ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَطْلُوبٌ ، وَلَا يَحُورُ مِنْهُ صَاحِبُهُ إِلَّا بِالِافْتِضَاحِ عِنْدَ الِامْتِحَانِ حَسْبَمَا بَيَّنَهُ الْغَزَّالِيُّ ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَمَنْ تَعَرَّضَ لِبَيَانِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا .
وَمِثَالُ هَذَا الْقِسْمِ مَا انْتَحَلَهُ الْبَاطِنِيَّةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ إِخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ وَرَاءَ هَذَا الظَّاهِرِ ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَيْلِهِ بِعَقْلٍ ، وَلَا نَظَرٍ ، وَإِنَّمَا يُنَالُ مِنَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ تَقْلِيدًا لِذَلِكَ الْإِمَامِ ، وَاسْتِنَادُهُم ْ فِي جُمْلَةٍ مِنْ دَعَاوِيهِمْ إِلَى [ ص: 122 ] عِلْمِ الْحُرُوفِ ، وَعِلْمِ النُّجُومِ ، وَلَقَدِ اتَّسَعَ الْخَرْقُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَة ِ عَلَى الرَّاقِعِ ; فَكَثُرَتِ الدَّعَاوَى عَلَى الشَّرِيعَةِ بِأَمْثَالِ مَا ادَّعَاهُ الْبَاطِنِيَّةُ ، حَتَّى آلَ ذَلِكَ إِلَى مَالَا يُعْقَلُ عَلَى حَالٍ ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَيَشْمَلُ هَذَا الْقِسْمُ مَا يَنْتَحِلُهُ أَهْلُ السَّفْسَطَةِ وَالْمُتَحَكِّم ُونَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ ، [ ص: 123 ] وَلَا ثَمَرَةَ تُجْنَى مِنْهُ ، فَلَا تَعَلُّقَ بِهِ بِوَجْهٍ .
فَصْلٌ
وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يُعَدَّ مِنَ الثَّانِي ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي خَلْطِ بَعْضِ الْعُلُومِ بِبَعْضٍ ، كَالْفَقِيهِ يَبْنِي فِقْهَهُ عَلَى مَسْأَلَةٍ نَحْوِيَّةٍ مَثَلًا ، فَيَرْجِعُ إِلَى تَقْرِيرِهَا مَسْأَلَةً - كَمَا يُقَرِّرُهَا النَّحْوِيُّ - لَا مُقَدِّمَةً مُسَلَّمَةً ، ثُمَّ يَرُدُّ مَسْأَلَتَهُ الْفِقْهِيَّةَ إِلَيْهَا ، وَالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى أَنَّهَا مَفْرُوغٌ مِنْهَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ ، فَيَبْنِي عَلَيْهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ، وَأَخَذَ يَتَكَلَّمُ فِيهَا ، وَفِي تَصْحِيحِهَا وَضَبْطِهَا ، وَالِاسْتِدْلَا لِ عَلَيْهَا ، كَمَا يَفْعَلُهُ النَّحْوِيُّ - صَارَ الْإِتْيَانُ بِذَلِكَ فَضْلًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ ; إِذَا افْتَقَرَ إِلَى مَسْأَلَةٍ عَدَدِيَّةٍ ، فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مَسْلَمَةً لِيُفَرِّعَ عَلَيْهَا فِي عِلْمِهِ ; فَإِنْ أَخَذَ يَبْسُطُ الْقَوْلَ فِيهَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْعَدَدِيُّ فِي عِلْمِ الْعَدَدِ ، كَانَ فَضْلًا مَعْدُودًا مِنَ الْمُلَحِ إِنْ عُدَّ مِنْهَا ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْعُلُومِ الَّتِي يَخْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا .
وَيَعْرِضُ أَيْضًا لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الثَّالِثِ ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِيمَنْ يَتَبَجَّحُ بِذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، أَوْ ذِكْرِ كِبَارِ الْمَسَائِلِ لِمَنْ لَا يَحْتَمِلُ عَقْلُهُ إِلَّا صِغَارَهَا ، عَلَى ضِدِّ التَّرْبِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ ، فَمِثْلُ هَذَا يُوقِعُ فِي مَصَائِبَ ، وَمِنْ أَجْلِهَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ ، [ ص: 124 ] أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " ، وَقَدْ يَصِيرُ ذَلِكَ فِتْنَةً عَلَى بَعْضِ السَّامِعِينَ حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ هَذَا الْكِتَابِ .
وَإِذَا عَرَضَ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يُعَدَّ مِنَ الثَّالِثِ ، فَأَوْلَى أَنْ يَعْرِضَ لِلثَّانِي أَنْ يُعَدَّ مِنَ الثَّالِثِ ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَّلِ .
فَلَا يَصِحُّ لِلْعَالِمِ فِي التَّرْبِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ إِلَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُرَبِّيًا ، وَاحْتَاجَ هُوَ إِلَى عَالِمٍ يُرَبِّيهِ .
وَمِنْ هُنَا لَا يُسْمَحُ لِلنَّاظِرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ نَظَرَ مُفِيدٍ أَوْ مُسْتَفِيدٍ ; حَتَّى يَكُونَ رَيَّانَ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ ، أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا ، مَنْقُولِهَا وَمَعْقُولِهَا ، غَيْرَ مُخْلِدٍ إِلَى التَّقْلِيدِ ، وَالتَّعَصُّبِ لِلْمَذْهَبِ ; فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ هَكَذَا خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْقَلِبَ عَلَيْهِ مَا أَوْدَعَ فِيهِ فِتْنَةً بِالْعَرَضِ ، وَإِنْ كَانَ حِكْمَةً بِالذَّاتِ ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
[ ص: 125 ] إِذَا تَعَاضَدَ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ عَلَى الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ فَعَلَى شَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّقْلُ فَيَكُونَ مَتْبُوعًا ، وَيَتَأَخَّرَ الْعَقْلُ فَيَكُونَ تَابِعًا ، فَلَا يَسْرَحُ الْعَقْلُ فِي مَجَالِ النَّظَرِ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُسَرِّحُهُ النَّقْلُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْعَقْلِ تَخَطِّي مَأْخَذَ النَّقْلِ ; لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ النَّقْلُ فَائِدَةٌ ، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ حَدَّ لَهُ حَدًّا ، فَإِذَا جَازَ تَعَدِّيهِ صَارَ الْحَدُّ غَيْرَ مُفِيدٍ ، وَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ بَاطِلٌ ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ .
وَالثَّانِي : مَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ ، وَلَا يُقَبِّحُ ، وَلَوْ فَرَضْنَاهُ مُتَعَدِّيًا لِمَا حَدَّهُ الشَّرْعُ ; لَكَانَ مُحَسِّنًا وَمُقَبِّحًا ، هَذَا خَلْفٌ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (10)
صـ126 إلى صـ145
فإن قيل : هذا مشكل من أوجه : الأول : أن هذا الرأي هو رأي الظاهرية ; لأنهم واقفون مع ظواهر النصوص من غير زيادة ولا نقصان ، وحاصله عدم اعتبار المعقول جملة ، ويتضمن نفي القياس الذي اتفق الأولون عليه .
والثاني : أنه قد ثبت للعقل التخصيص حسبما ذكره الأصوليون في نحو : والله على كل شيء قدير [ البقرة : 284 ] ، و " والله على كل شيء وكيل [ الأنعام : 102 ] ، و خالق كل شيء [ الرعد : 16 ] ، وهو نقص من مقتضى العموم ; فلتجز الزيادة لأنها بمعناه ، ولأن الوقوف دون حد النقل كالمجاوز [ ص: 132 ] له ، فكلاهما إبطال للحد على زعمك ، فإذا جاز إبطاله مع النقص ، جاز مع الزيادة ، ولما لم يعد هذا إبطالا للحد ; فلا يعد الآخر .
والثالث : أن للأصوليين قاعدة قضت بخلاف هذا القضاء ، وهي أن المعنى المناسب إذا كان جليا سابقا للفهم عند ذكر النص ، صح تحكيم ذلك المعنى في النص بالتخصيص له ، والزيادة عليه ، ومثلوا ذلك بقوله عليه السلام : لا يقضي القاضي وهو غضبان فمنعوا - لأجل معنى التشويش - القضاء مع جميع المشوشات ، وأجازوا مع ما لا يشوش من الغضب ; فأنت تراهم تصرفوا بمقتضى العقل في النقل من غير توقف ، وذلك خلاف ما أصلت ، وبالجملة ; فإنكار تصرفات العقول بأمثال هذا إنكار للمعلوم في أصول الفقه .
فالجواب : أن ما ذكرت لا إشكال فيه على ما تقرر .
[ ص: 133 ] أما الأول فليس القياس من تصرفات العقول محضا ، وإنما تصرفت فيه من تحت نظر الأدلة ، وعلى حسب ما أعطته من إطلاق أو تقييد ، وهذا مبين في موضعه من كتاب القياس ; فإنا إذا دلنا الشرع على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه معتبر ، وأنه من الأمور التي قصدها الشارع وأمر بها ، ونبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على العمل بها - فأين استقلال العقل بذلك ؟ بل هو مهتد فيه بالأدلة الشرعية ، يجري بمقدار ما أجرته ، ويقف حيث وقفته .
وأما الثاني ; فسيأتي في باب العموم والخصوص إن شاء الله أن الأدلة المنفصلة لا تخصص ، وإن سلم أنها تخصص ; فليس معنى تخصيصها أنها تتصرف في اللفظ المقصود به ظاهره ، بل هي مبينة أن الظاهر غير مقصود في الخطاب بأدلة شرعية دلت على ذلك ، فالعقل مثلها فقوله : والله على كل شيء قدير [ البقرة : 284 ] خصصه العقل بمعنى أنه لم يرد في العموم دخول ذات البارئ وصفاته ، لأن ذلك محال ، بل المراد جميع ما عدا ذلك ; فلم [ ص: 134 ] يخرج العقل عن مقتضى النقل بوجه ، وإذا كان كذلك ; لم يصح قياس المجاورة عليه .
وأما الثالث : فإن إلحاق كل مشوش بالغضب من باب القياس ، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بالقياس سائغ ، وإذا نظرنا إلى التخصيص بالغضب اليسير ، فليس من تحكيم العقل ، بل من فهم معنى التشويش ، ومعلوم أن الغضب اليسير غير مشوش ؛ فجاز القضاء مع وجوده بناء على أنه غير مقصود في الخطاب .
هكذا يقول الأصوليون في تقرير هذا المعنى . وأن مطلق الغضب يتناوله اللفظ ، لكن خصصه المعنى .
والأمر أسهل من غير احتياج إلى تخصيص ; فإن لفظ غضبان ، وزنه فعلان ، وفعلان في أسماء الفاعلين يقتضي الامتلاء مما اشتق منه ، فغضبان إنما يستعمل في الممتلئ غضبا ، كريان في الممتلئ ريا ، وعطشان في الممتلئ عطشا ، وأشباه ذلك ; لا أنه يستعمل في مطلق ما اشتق منه ، فكأن الشارع إنما نهى عن قضاء الممتلئ غضبا ; حتى كأنه قال : لا يقضي القاضي وهو شديد الغضب ، أو ممتلئ من الغضب ، وهذا هو المشوش ، فخرج المعنى عن كونه مخصصا ، وصار خروج يسير الغضب عن النهي بمقتضى اللفظ لا بحكم [ ص: 135 ] المعنى ، وقيس على مشوش الغضب كل مشوش ؛ فلا تجاوز للعقل إذا .
وعلى كل تقدير ; فالعقل لا يحكم على النقل في أمثال هذه الأشياء ، وبذلك ظهرت صحة ما تقدم .
[ ص: 136 ] [ ص: 137 ] لما ثبت أن العلم المعتبر شرعا هو ما ينبني عليه عمل ; صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية ، فما اقتضته فهو العلم الذي طلب من المكلف أن يعلمه في الجملة ، وهذا ظاهر ; غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية ، فإذا انحصرت ; انحصرت مدارك العلم الشرعي ، وهذا مذكور في كتاب الأدلة الشرعية حسبما يأتي إن شاء الله .
[ ص: 138 ] [ ص: 139 ] من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام .
وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا ، ثم علمه ، وبصره ، وهداه طرق مصلحته في الحياة الدنيا ; غير أن ما علمه من ذلك على ضربين :
ضرب منها ضروري ، داخل عليه من غير علم من أين ولا كيف ، بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة ، كالتقامه الثدي ، ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا - هذا من المحسوسات - وكعلمه بوجوده ، وأن النقيضين لا يجتمعان من جملة المعقولات .
وضرب منها بوساطة التعليم ، شعر بذلك أو لا ، كوجوه التصرفات الضرورية ، نحو محاكاة الأصوات ، والنطق بالكلمات ، ومعرفة أسماء الأشياء - في المحسوسات ، وكالعلوم النظرية التي للعقل في تحصيلها مجال ونظر - في المعقولات .
[ ص: 140 ] وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلى نظر وتبصر ; فلا بد من معلم فيها ، وإن كان الناس قد اختلفوا هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا ، فالإمكان مسلم ، ولكن الواقع في مجاري العادات أن لابد من المعلم ، وهو متفق عليه في الجملة ، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل كاختلاف جمهور الأمة والإمامية - وهم الذين يشترطون المعصوم - والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليهم السلام ، ومع ذلك فهم مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم ، علما كان المعلم أو عملا ، واتفاق الناس على ذلك في الوقوع وجريان العادة به - كاف في أنه لا بد منه ، وقد قالوا إن العلم كان في صدور الرجال ، ثم انتقل إلى الكتب ، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال ، وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال ; إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم ، وأصل هذا في الصحيح : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبضه بقبض العلماء الحديث ، فإذا كان كذلك ; فالرجال هم مفاتحه بلا شك .
فإذا تقرر هذا ; فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به ، وهذا أيضا واضح في نفسه ، وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء ; إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق ؛ أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم ، قادرا على التعبير عن مقصوده فيه ، عارفا بما يلزم عنه ، قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه ، فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه ، وعرضنا أئمة السلف الصالح في العلوم الشرعية ; وجدناهم قد اتصفوا بها على الكمال .
غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ ألبتة ، لأن فروع كل علم إذا انتشرت ، [ ص: 141 ] وانبنى بعضها على بعض - اشتبهت ، وربما تصور تفريعها على أصول مختلفة في العلم الواحد ، فأشكلت أو خفي فيها الرجوع إلى بعض الأصول ، فأهملها العالم من حيث خفيت عليه ، وهي في نفس الأمر على غير ذلك ، أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر ، فيذهب على العالم الأرجح من وجوه الترجيح ، وأشباه ذلك ; فلا يقدح في كونه عالما ، ولا يضر في كونه إماما مقتدى به ; فإن قصر عن استيفاء الشروط نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان ; فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص .
فصل
وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم ، وإن خالفتها في النظر ، وهي ثلاث : إحداها : العمل بما علم حتى يكون قوله مطابقا لفعله ; فإن كان مخالفا له ; فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ، ولا أن يقتدى به في علم ، وهذا المعنى مبين على الكمال في كتاب الاجتهاد ، والحمد لله .
[ ص: 142 ] والثانية : أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم ، وملازمته لهم ، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك ، وهكذا كان شأن السلف الصالح .
فأول ذلك ملازمة الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذهم بأقواله وأفعاله ، واعتمادهم على ما يرد منه كائنا ما كان ، وعلى أي وجه صدر ، فهم فهموا مغزى ما أراد به أولا حتى علموا ، وتيقنوا أنه الحق الذي لا يعارض ، والحكمة التي لا ينكسر قانونها ، ولا يحوم النقص حول حمى كمالها ، وإنما ذلك بكثرة الملازمة ، وشدة المثابرة .
وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية ; حيث قال : يا رسول الله ألسنا على حق ، وهم على باطل ؟ قال : بلى .
قال : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟
قال : بلى .
قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟
قال : يا ابن الخطاب ، إني رسول الله ، ولن يضيعني الله أبدا .
[ ص: 143 ] فانطلق عمر ولم يصبر ، متغيظا ، فأتى أبا بكر ; فقال له مثل ذلك .
فقال أبو بكر : إنه رسول الله ، ولن يضيعه الله أبدا .
قال : فنزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه ; فقال : يا رسول الله أوفتح هو ؟ قال نعم . فطابت نفسه ، ورجع .
فهذا من فوائد الملازمة ، والانقياد للعلماء ، والصبر عليهم في مواطن الإشكال حتى لاح البرهان للعيان .
وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين : " أيها الناس اتهموا رأيكم ، والله لقد رأيتني يوم أبي جندل ، ولو أنى أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته " ، وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال ، وإنما نزلت سورة [ ص: 144 ] الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة ، لشدة الإشكال عليهم ، والتباس الأمر ، ولكنهم سلموا ، وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن ، فزال الإشكال والالتباس .
وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم ; فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فقهوا ، ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية ، وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة واشتهر في قرنه بمثل ذلك ، وقلما وجدت فرقة زائغة ، ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف ، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري ، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ، ولا تأدب بآدابهم ، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون ، كالأئمة الأربعة وأشباههم .
والثالثة : الاقتداء بمن أخذ عنه ، والتأدب بأدبه ، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واقتداء التابعين بالصحابة ، وهكذا في كل قرن ، وبهذا [ ص: 145 ] الوصف امتاز مالك عن أضرابه ، أعني بشدة الاتصاف به ، وإلا فالجميع ممن يهتدى به في الدين ، كذلك كانوا ، ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى ، فلما ترك هذا الوصف ; رفعت البدع رءوسها ، لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك ، أصله اتباع الهوى ، ولهذا المعنى تقرير في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (11)
صـ146 إلى صـ166
فصل
وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله ، فلذلك طريقان : أحدهما : المشافهة ، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما ؛ لوجهين :
الأول : خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم يشهدها كل من زاول العلم والعلماء ، فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب ، ويحفظها ، ويرددها على قلبه فلا يفهمها ; فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة ، وحصل له العلم بها بالحضرة ، وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال ، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال ، وقد يحصل بأمر غير معتاد ، ولكن بأمر يهبه الله لمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم ، ظاهر الفقر ، بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه .
وهذا ليس ينكر ; فقد نبه عليه الحديث الذي جاء : إن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحديث حنظلة الأسيدي حين شكا إلى [ ص: 146 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حالة يرضونها ، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم ; فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تكونون كما تكونون عندي ; لأظلتكم الملائكة بأجنحتها .
وقد قال عمر بن الخطاب : " وافقت ربي في ثلاث " ، وهي من فوائد [ ص: 147 ] مجالسة العلماء ; إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم ، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم ، وتأدبهم معه ، واقتدائهم به ، فهذا الطريق نافع على كل تقدير .
وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل ، وكانوا يكرهون ذلك ، وقد كرهه مالك ; فقيل له : فما نصنع ؟ قال : تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ، ثم لا تحتاجون إلى الكتابة ، وحكي عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة ، وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان ، وخيف على الشريعة الاندراس .
الطريق الثاني : مطالعة كتب المصنفين ، ومدوني الدواوين ، وهو أيضا نافع في بابه ; بشرطين : الأول : أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ، ومعرفة اصطلاحات أهله ما يتم له به النظر في الكتب ، وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه ، وهو معنى قول من قال : " كان العلم [ ص: 148 ] في صدور الرجال ، ثم انتقل إلى الكتب ، ومفاتحه بأيدي الرجال " ، والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء ، وهو مشاهد معتاد .
والشرط الآخر : أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد ; فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين ، وأصل ذلك التجربة ، والخبر .
أما التجربة ; فهو أمر مشاهد في أي علم كان ; فالمتأخر لا يبلغ من [ ص: 149 ] الرسوخ في علم ما يبلغه المتقدم ، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري ، فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين ، وعلومهم في التحقيق أقعد ، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين ، والتابعون ليسوا كتابعيهم ، وهكذا إلى الآن ، ومن طالع سيرهم ، وأقوالهم ، وحكاياتهم أبصر العجب في هذا المعنى .
وأما الخبر ففي الحديث خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك ; وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أول دينكم نبوة ورحمة ، ثم ملك ورحمة ، ثم ملك وجبرية ، ثم ملك عضوض . ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير ، وتكاثر الشر شيئا بعد [ ص: 150 ] شيء ، ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق .
وعن ابن مسعود ; أنه قال : " ليس عام إلا الذي بعده شر منه ، لا أقول عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهاب خياركم ، وعلمائكم ، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم ، فيهدم الإسلام ، ويثلم " .
[ ص: 151 ] ومعناه موجود في [ الصحيح ] في قوله : ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم ; فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم ، فيضلون ويضلون .
وقال عليه السلام إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء . قيل : من الغرباء ؟ قال : النزاع من القبائل .
وفي رواية : قيل : ومن الغرباء يا رسول الله . قال : الذين يصلحون عند فساد الناس [ ص: 152 ] وعن أبي إدريس الخولاني : " إن للإسلام عرى يتعلق الناس بها ، وإنها تمتلخ عروة عروة " .
وعن بعضهم : " تذهب السنة سنة سنة ، كما يذهب الحبل قوة قوة " .
وتلا أبو هريرة قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح الآية [ النصر : 1 ] .
ثم قال : " والذي نفسي بيده ليخرجن من دين الله أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا " .
[ ص: 153 ] وعن عبد الله ; قال : " أتدرون كيف ينقص الإسلام ؟ قالوا : نعم ، كما ينقص صبغ الثوب ، وكما ينقص سمن الدابة . فقال عبد الله : ذلك منه " .
ولما نزل قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] بكى عمر فقال عليه السلام [ له ] : ما يبكيك ؟ قال : يا رسول الله ! إنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل ; فلم يكمل شيء قط إلا نقص . فقال عليه السلام : صدقت .
والأخبار هنا كثيرة ، وهي تدل على نقص الدين والدنيا ، وأعظم ذلك العلم ; فهو إذا في نقص بلا شك .
فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم - أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم ، على أي نوع كان ، وخصوصا علم الشريعة الذي هو [ ص: 154 ] العروة الوثقى ، والوزر الأحمى ، وبالله تعالى التوفيق .
[ ص: 155 ] كل أصل علمي يتخذ إماما في العمل فلا يخلو إما أن يجري به العمل على مجاري العادات في مثله ، بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط ، أو لا ، فإن جرى فذلك الأصل صحيح ، وإلا ; فلا .
وبيانه أن العلم المطلوب إنما يراد - بالفرض - لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف ، كانت الأعمال قلبية أو لسانية أو من أعمال الجوارح ، فإذا جرت في المعتاد على وفقه من غير تخلف فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه ، وإلا لم يكن بالنسبة إليه علما لتخلفه ، وذلك فاسد لأنه من باب انقلاب العلم جهلا .
ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تأصيل أصوله : أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف في خبر الله تعالى ، وخبر رسوله ، وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق ، وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد ، فإذا كل أصل شرعي تخلف عن جريانه على هذه المجاري فلم يطرد ، ولا استقام بحسبها في العادة ; فليس بأصل يعتمد عليه ، [ ص: 156 ] ولا قاعدة يستند إليها .
ويقع ذلك في فهم الأقوال ، ومجاري الأساليب ، والدخول في الأعمال .
فأما فهم الأقوال ; فمثل قوله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [ النساء : 141 ] إن حمل على أنه إخبار ; لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله ، فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه ، وهو تقرير الحكم الشرعي ، فعليه يجب أن يحمل .
[ ص: 157 ] ومثله قوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ البقرة : 233 ] ، إن حمل على أنه تقرير حكم شرعي ، استمر وحصلت الفائدة ، وإن حمل على أنه إخبار بشأن الوالدات لم تتحكم فيه فائدة زائدة على ما علم قبل الآية .
وأما مجاري الأساليب فمثل قوله : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا إلخ [ المائدة : 93 ] .
فهذه صيغة عموم تقتضي بظاهرها دخول كل مطعوم ، وأنه لا جناح في استعماله بذلك الشرط ، ومن جملته الخمر ، لكن هذا الظاهر يفسد جريان [ ص: 158 ] الفهم في الأسلوب ، مع إهمال السبب الذي لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر ، لأن الله تعالى لما حرم الخمر ; قال : ليس على الذين آمنوا فكان هذا نقضا للتحريم فاجتمع الإذن والنهي معا ، فلا يمكن للمكلف امتثال .
ومن هنا خطأ عمر بن الخطاب من تأول في الآية أنها عائدة إلى ما تقدم من التحريم في الخمر ، وقال له " إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله " .
إذ لا يصح أن يقال للمكلف : اجتنب كذا ، ويؤكد النهي بما يقتضي التشديد فيه جدا ، ثم يقال : فإن فعلت فلا جناح عليك .
[ ص: 159 ] وأيضا ; فإن الله أخبر أنها تصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، وتوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين في الله ، وهو بعد استقرار التحريم كالمنافي لقوله : إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات [ المائدة : 93 ] ; فلا يمكن إيقاع كمال التقوى بعد تحريمها إذا شربت ; لأنه من الحرج أو تكليف ما لا يطاق .
وأما الدخول في الأعمال ; فهو العمدة في المسألة ، وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة ; لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا ، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد ، فلا يستمر الإطلاق ، وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة ، لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة حتى تقيد بالقيود المقتضية للاطراد والاستمرار فتصح ، وفي ضمنه تدخل أحكام الرخص ; إذ هو الحاكم فيها ، والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا .
ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية ; لم يأمن الغلط ، بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات ، والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم ، كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الاجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين .
وسأمثل لك بمسألتين وقعت المذاكرة بهما مع بعض شيوخ العصر : [ ص: 160 ] إحداهما : أنه كتب إلي بعض شيوخ المغرب في فصل يتضمن ما يجب على طالب الآخرة النظر فيه ، والشغل به ، فقال فيه : " وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته ; فرغ سره منه بالخروج عنه ، ولو كان يساوي خمسين ألفا كما فعله المتقون " .
فاستشكلت هذا الكلام ، وكتبت إليه بأن قلت : أما أنه مطلوب بتفريغ السر منه فصحيح ، وأما أن تفريغ السر بالخروج عنه واجب ، فلا أدري ما هذا الوجوب ؟ ولو كان واجبا بإطلاق لوجب على جميع الناس الخروج عن ضياعهم ، وديارهم ، وقراهم ، وأزواجهم ، وذرياتهم ، وغير ذلك مما يقع لهم [ ص: 161 ] به الشغل في الصلاة ، وإلى هذا ; فقد يكون الخروج عن المال سببا للشغل في الصلاة أكثر من شغله بالمال .
وأيضا ; فإذا كان الفقر هو الشاغل فماذا يفعل ; فإنا نجد كثيرا ممن يحصل له الشغل بسبب الإقلال ، ولا سيما إن كان له عيال لا يجد إلى إغاثتهم سبيلا ، ولا يخلو أكثر الناس عن الشغل بآحاد هذه الأشياء ، أفيجب على هؤلاء الخروج عما سبب لهم الشغل في الصلاة ، هذا ما لا يفهم ، وإنما الجاري على الفقه والاجتهاد في العبادة طلب مجاهدة الخواطر الشاغلة خاصة ، وقد يندب إلى الخروج عما شأنه أن يشغله من مال أو غيره ، إن أمكنه الخروج عنه شرعا ، وكان مما لا يؤثر فيه فقده تأثيرا يؤدي إلى مثل ما فر منه أو أعظم ، ثم ينظر بعد في حكم الصلاة الواقع فيها الشغل كيف حال صاحبها من وجوب الإعادة أو استحبابها أو سقوطها ؟ وله موضع غير هذا . اه حاصل المسألة .
فلما وصل إليه ذلك ; كتب إلي بما يقتضي التسليم فيه ، وهو صحيح ; لأن القول بإطلاق الخروج عن ذلك كله غير جار في الواقع على استقامة ; لاختلاف أحوال الناس فلا يصح اعتماده أصلا فقهيا ألبتة .
والثانية : مسألة الورع بالخروج عن الخلاف ; فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا ، وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها .
[ ص: 162 ] ولا زلت منذ زمان استشكله حتى كتبت فيها إلى المغرب ، وإلى إفريقية ; فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر ، بل كان من جملة الإشكالات الواردة ; أن جمهور مسائل الفقه مختلف فيها اختلافا يعتد به ، فيصير إذا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات ، وهو خلاف وضع الشريعة .
وأيضا ; فقد صار الورع من أشد الحرج ; إذ لا تخلو لأحد في الغالب عبادة ، ولا معاملة ، ولا أمر من أمور التكليف ، من خلاف يطلب الخروج عنه ، وفي هذا ما فيه .
فأجاب بعضهم : بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه ؛ المختلف [ ص: 163 ] فيه اختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربة ، وليس أكثر مسائل الفقه هكذا ، بل الموصوف بذلك أقلها لمن تأمل من محصلي موارد التأمل ، وحينئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل ، وأما الورع من حيث ذاته ، ولو في هذا النوع فقط - فشديد مشق ، لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي [ ص: 164 ] عنه ، وقد قال عليه السلام حفت الجنة بالمكاره ، هذا ما أجاب به .
فكتبت إليه : بأن ما قررتم من الجواب غير بين ؛ لأنه إنما يجري في المجتهد وحده ، والمجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة لا عند تعارض الأقوال ، فليس مما نحن فيه ، وأما المقلد ; فقد نص صاحب هذا الورع الخاص على طلب خروجه من الخلاف إلى الإجماع ، وإن كان من أفتاه أفضل العلماء المختلفين ، والعامي في عامة أحواله لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين ، والذي دليله أضعف ، ولا يعلم هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا ; لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلا للنظر ، وليس العامي كذلك ; وإنما بني الإشكال على اتقاء الخلاف المعتد به ، والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة ، والخلاف الذي لا يعتد به قليل كالخلاف في المتعة ، وربا النساء ، ومحاش النساء ، وما أشبه ذلك .
[ ص: 165 ] وأيضا ; فتساوي الأدلة أو تقاربها أمر إضافي بالنسبة إلى أنظار المجتهدين ، فرب دليلين يكونان عند بعض متساويين أو متقاربين ، ولا يكونان كذلك عند بعض ; فلا يتحصل للعامي ضابط يرجع إليه فيما يجتنبه من الخلاف مما لا يجتنبه ، ولا يمكنه الرجوع في ذلك إلى المجتهد ; لأن ما يأمره به من الاجتناب أو عدمه راجع إلى نظره واجتهاده ، واتباع نظره وحده في ذلك تقليد له ، من غير أن يخرج عن الخلاف ، لا سيما إن كان هذا المجتهد يدعي أن قول خصمه ضعيف لا يعتبر مثله ، وهكذا الأمر فيما إذا راجع المجتهد الآخر ، فلا يزال العامي في حيرة إن اتبع هذه الأمور ، وهو شديد جدا ، ومن يشاد هذا الدين يغلبه ، وهذا هو الذي أشكل على السائل ، ولم يتبين جوابه بعد .
ولا كلام في أن الورع شديد في نفسه ، كما أنه لا إشكال في أن التزام التقوى شديد ; إلا أن شدته ليست من جهة إيقاع ذلك بالفعل ; لأن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج ، بل من جهة قطع مألوفات النفس وصدها عن هواها خاصة .
وإذا تأملنا مناط المسألة وجدنا الفرق بين هذا الورع الخاص وغيره من أنواع الورع - بينا ; فإن سائر أنواع الورع سهل في الوقوع ، وإن كان شديدا في مخالفة النفس ، وورع الخروج من الخلاف صعب في الوقوع قبل النظر في [ ص: 166 ] مخالفة النفس ; فقد تبين مقصود السائل بالشدة والحرج ، وأنه ليس ما أشرتم إليه . اه . ما كتبت به ، وهنا وقف الكلام بيني وبينه .
ومن تأمل هذا التقرير ; عرف أن ما أجاب به هذا الرجل لا يطرد ، ولا يجري في الواقع مجرى الاستقامة للزوم الحرج في وقوعه ; فلا يصح أن يستند إليه ، ولا يجعل أصلا يبنى عليه .
والأمثلة كثيرة ; فاحتفظ بهذا الأصل ; فهو مفيد جدا ، وعليه ينبني كثير من مسائل الورع ، وتمييز المتشابهات ، وما يعتبر من وجه الاشتباه وما لا يعتبر ، وفي أثناء الكتاب مسائل تحققه إن شاء الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (12)
صـ167 إلى صـ195
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتاب الأحكام
والأحكام الشرعية قسمان : أحدهما يرجع إلى خطاب التكليف ، والآخر يرجع إلى خطاب الوضع ; فالأول ينحصر في الخمسة ; فلنتكلم على ما يتعلق بها من المسائل ، وهي جملة : [ ص: 170 ] [ ص: 171 ] القسم الأول
خطاب التكليف
المسألة الأولى
[ في المباح ]
المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل ، ولا مطلوب الاجتناب ، أما كونه ليس بمطلوب الاجتناب ; فلأمور :
[ ص: 172 ] أحدها : أن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك ، من غير مدح ولا ذم ، لا على الفعل ، ولا على الترك ، فإذا تحقق الاستواء شرعا والتخيير ، لم يتصور أن يكون التارك به مطيعا ، لعدم تعلق الطلب بالترك ; فإن الطاعة لا تكون إلا مع الطلب ، ولا طلب فلا طاعة .
والثاني : أن المباح مساو للواجب والمندوب في أن كل واحد منهما غير مطلوب الترك ، فكما يستحيل أن يكون تارك الواجب والمندوب مطيعا بتركه شرعا ; لكون الشارع لم يطلب الترك فيهما ، كذلك يستحيل أن يكون تارك المباح مطيعا شرعا .
لا يقال : إن الواجب والمندوب يفارقان المباح بأنهما مطلوبا الفعل ; فقد قام المعارض لطلب الترك ، وليس المباح كذلك ; فإنه لا معارض لطلب الترك فيه .
لأنا نقول : كذلك المباح فيه معارض لطلب الترك ، وهو التخيير في الترك ; فيستحيل الجمع بين طلب الترك عينا ، وبين التخيير فيه . والثالث : أنه إذا تقرر استواء الفعل والترك في المباح شرعا ، فلو جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بتركه ; جاز أن يكون فاعله مطيعا بفعله ، من حيث كانا مستويين بالنسبة إليه ، وهذا غير صحيح باتفاق ، ولا معقول في نفسه .
[ ص: 173 ] والرابع : إجماع المسلمين على أن ناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره ، بأن يترك ذلك المباح ، وأنه كنذر فعله .
وفي الحديث : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، فلو كان ترك المباح طاعة للزم بالنذر ، لكنه غير لازم ; فدل على أنه ليس بطاعة .
وفي الحديث : أن رجلا نذر أن يصوم قائما ، ولا يستظل ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس ، وأن يستظل ، ويتم صومه ، قال مالك : أمره عليه السلام أن يتم ما كان لله طاعة ، ويترك ما كان لله معصية ; فجعل نذر ترك المباح معصية كما ترى .
[ ص: 174 ] والخامس : أنه لو كان تارك المباح مطيعا بتركه - وقد فرضنا أن تركه وفعله عند الشارع سواء - لكان أرفع درجة في الآخرة ممن فعله ، وهذا باطل قطعا ; فإن القاعدة المتفق عليها أن الدرجات في الآخرة منزلة على أمور الدنيا ، فإذا تحقق الاستواء في الدرجات ، وفعل المباح وتركه في نظر الشارع متساويان ، فيلزم تساوي درجتي الفاعل والتارك إذا فرضنا تساويهما في الطاعات ، والفرض أن التارك مطيع دون الفاعل ، فيلزم أن يكون أرفع درجة منه ، هذا خلف ومخالف لما جاءت به الشريعة ، اللهم إلا أن يظلم الإنسان فيؤجر على ذلك وإن لم يطع ; فلا [ ص: 175 ] كلام في هذا .
والسادس : أنه لو كان ترك المباح طاعة ; للزم رفع المباح من أحكام الشرع ، من حيث النظر إليه في نفسه ، وهو باطل بالإجماع ، ولا يخالف في هذا الكعبي ; لأنه إنما نفاه بالنظر إلى ما يستلزم ، لا بالنظر إلى ذات الفعل ، وكلامنا إنما هو بالنظر إلى ذات الفعل لا بالنظر إلى ما يستلزم .
وأيضا ; فإنما قال الكعبي ما قال بالنظر إلى فعل المباح ; لأنه مستلزم ترك حرام ، بخلافه بالنظر إلى تركه ; إذ لا يستلزم تركه فعل واجب فيكون واجبا ، ولا فعل مندوب فيكون مندوبا ، فثبت أن القول بذلك يؤدي إلى رفع المباح بإطلاق ، وذلك باطل باتفاق .
والسابع : أن الترك عند المحققين فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار ; فترك المباح إذا فعل مباح .
وأيضا ; القاعدة أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد ، [ ص: 176 ] حسبما يأتي إن شاء الله ، وذلك يستلزم رجوع الترك إلى الاختيار كالفعل ; فإن جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بنفس الترك ، جاز أن يكون فاعله مطيعا ، وذلك تناقض محال .
فإن قيل : هذا كله معارض بأمور :
أحدها : أن فعل المباح سبب في مضار كثيرة : منها أن فيه اشتغالا عما هو الأهم في الدنيا من العمل بنوافل الخيرات ، وصدا عن كثير من الطاعات .
ومنها أنه سبب في الاشتغال عن الواجبات ، ووسيلة إلى الممنوعات ، لأن التمتع بالدنيا له ضراوة كضراوة الخمر ، وبعضها يجر إلى بعض إلى أن تهوي بصاحبها في المهلكة ، والعياذ بالله .
ومنها أن الشرع قد جاء بذم الدنيا والتمتع بلذاتها ; كقوله تعالى : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا [ الأحقاف : 20 ] .
[ وقوله ] : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها [ هود : 15 ] .
وفي الحديث : إن أخوف ما أخاف عليكم أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم الحديث . وفيه : إن مما ينبت الربيع ما يقتل [ ص: 177 ] حبطا أو يلم .
وذلك كثير شهير في الكتاب والسنة ، وهو كاف في طلب ترك المباح ; لأنه أمر دنيوي لا يتعلق بالآخرة من حيث هو مباح .
- ومنها : ما فيه من التعرض لطول الحساب في الآخرة ، وقد جاء : إن حلالها حساب ، وحرامها عذاب ، وعن بعضهم : " اعزلوا عني حسابها " ، [ ص: 178 ] حين أتي بشيء يتناوله ، والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب ، وأن سرعة الانصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد ، والمباح صاد عن ذلك ; فإذا تركه أفضل شرعا ، فهو طاعة ، فترك المباح طاعة .
فالجواب : أن كونه سببا في مضار - لا دليل فيه من أوجه : أحدها : أن الكلام في أصل المسألة إنما هو في المباح من حيث هو مباح متساوي الطرفين ، ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر آخر ; فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع ; صار ممنوعا من باب سد الذرائع ، لا من جهة كونه مباحا ، [ ص: 179 ] وعلى هذا يتنزل قول من قال : " كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس " . وروي مرفوعا .
وكذلك كل ما جاء من هذا الباب ; فذم الدنيا إنما هو لأجل أنها تصير ذريعة إلى تعطيل التكاليف .
وأيضا ; فقد يتعلق بالمباح في سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح ، كالمال إذا لم تؤد زكاته ، والخيل إذا ربطها تعففا ، ولكن نسي حق الله في رقابها ، وما أشبه ذلك .
والثاني : أنا إذا نظرنا إلى كونه وسيلة ; فليس تركه أفضل بإطلاق ، بل هو ثلاثة أقسام :
قسم يكون ذريعة إلى منهي عنه ، فيكون من تلك الجهة مطلوب الترك .
وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به ; كالمستعان به على أمر أخروي ; ففي الحديث : نعم المال الصالح للرجل الصالح ، وفيه : ذهب أهل الدثور [ ص: 180 ] بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم . . . إلى أن قال : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، بل قد جاء أن في مجامعة الأهل أجرا ، وإن كان قاضيا لشهوته ; لأنه يكف به عن الحرام ، وذلك في الشريعة كثير ; لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به ، كان لها حكم ما توسل بها إليه .
وقسم لا يكون ذريعة إلى شيء ; فهو المباح المطلق ، وعلى الجملة فإذا فرض ذريعة إلى غيره ; فحكمه حكم ذلك الغير ، وليس الكلام فيه .
والثالث : أنه إذا قيل : إن ترك المباح طاعة على الإطلاق ; لكونه وسيلة إلى ما ينهى عنه ، فهو معارض بمثله ; فيقال : بل فعله طاعة بإطلاق ; لأن كل مباح ترك حرام ، ألا ترى أنه ترك المحرمات كلها عند فعل المباح ، فقد شغل النفس به عن جميعها ، وهذا الثاني أولى ; لأن الكلية هنا تصح ، ولا يصح أن يقال : كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهي عنه بإطلاق ، فظهر أن ما اعترض به لا ينهض دليلا على أن ترك المباح طاعة .
وأما قوله : " إنه سبب في طول الحساب " فجوابه من أوجه : أحدها : أن فاعل المباح إن كان يحاسب عليه ; لزم أن يكون التارك [ ص: 181 ] محاسبا على تركه ، من حيث كان الترك فعلا ، ولاستواء نسبة الفعل والترك شرعا ، وإذ ذاك يتناقض الأمر على فرض المباح ، وذلك محال فما أدى إليه مثله .
وأيضا ; فإنه إذا تمسك بأن حلالها حساب ، ثم قضى بأن التارك لا يحاسب ، مع أنه آت بحلال وهو الترك ، فقد صار الحلال سببا لطول الحساب وغير سبب له ، لأن طول الحساب إنما نيط به من جهة كونه حلالا بالفرض ، وهذا تناقض من القول .
والثاني : أن الحساب إن كان ينهض سببا لطلب الترك ، لزم أن يطلب ترك الطاعات من حيث كانت مسئولا عنها كلها ، فقد قال تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ الأعراف : 6 ] فقد انحتم على الرسل عليهم الصلاة والسلام ، أن يسألوا عن الرسالة وتبليغ الشريعة ، ولم يكن هذا مانعا من الإتيان بذلك ، وكذلك سائر المكلفين .
لا يقال : إن الطاعات يعارض طلب تركها طلبها .
لأنا نقول : كذلك المباح ؛ يعارض طلب تركه التخيير فيه ، وإن فعله وتركه في قصد الشارع بمثابة واحدة .
والثالث : أن ما ذكر من الحساب على تناول الحلال قد يقال : إنه راجع إلى أمر خارج عن نفس المباح ; فإن المباح هو أكل كذا مثلا ، وله مقدمات وشروط ولواحق لا بد من مراعاتها ، فإذا روعيت صار الأكل مباحا ، وإن لم تراع كان التسبب والتناول غير مباح .
وعلى الجملة فالمباح كغيره من الأفعال له أركان ، وشروط ، وموانع ، ولواحق تراعى ، والترك في هذا كله كالفعل ، فكما أنه إذا تسبب للفعل ، كان تسببه مسئولا عنه ، كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسئولا عنه .
[ ص: 182 ] ولا يقال : إن الفعل كثير الشروط والموانع ، ومفتقر إلى أركان بخلاف الترك ; فإن ذلك فيه قليل ، وقد يكفي مجرد القصد إلى الترك .
لأنا نقول : حقيقة المباح إنما تنشأ بمقدمات ، كان فعلا أو تركا ، ولو بمجرد القصد .
وأيضا ; فإن الحقوق تتعلق بالترك كما تتعلق بالفعل ، من حقوق الله أو حقوق الآدميين أو منهما جميعا ، يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن لنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه .
وتأمل حديث سلمان وأبي الدرداء - رضي الله عنهما - يبين لك هو ، وما في معناه - أن الفعل والترك في المباح على الخصوص ، لا فرق بينهما من هذا الوجه ، فالحساب يتعلق بطريق الترك كما يتعلق بطريق الفعل ، وإذا كان الأمر كذلك ; ثبت أن الحساب إن كان راجعا إلى طريق المباح ؛ فالفعل والترك سواء ، وإن كان راجعا إلى نفس المباح أو إليهما معا ; فالفعل والترك أيضا سواء .
وأيضا ; إن كان في المباح ما يقتضي الترك ; ففيه ما يقتضي عدم الترك ; لأنه من جملة ما امتن الله به على عباده ، ألا ترى إلى قوله تعالى : والأرض وضعها للأنام إلى قوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن : 10 - 22 ] .
[ ص: 183 ] وقوله : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه إلى قوله : ولعلكم تشكرون [ النحل : 14 ] .
وقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ الجاثية : 13 ] .
إلى غير ذلك من الآيات التي نص فيها على الامتنان بالنعم ، وذلك يشعر بالقصد إلى التناول والانتفاع ، ثم الشكر عليها ، وإذا كان هكذا فالترك له قصدا يسأل عنه ، لم تركته ؟ ولأي وجه أعرضت عنه ؟ وما منعك من تناول ما أحل لك ، فالسؤال حاصل في الطرفين ، وسيأتي لذلك تقرير في المباح الخادم لغيره إن شاء الله .
وهذه الأجوبة أكثرها جدلي ، والصواب في الجواب أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق ، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه ، إما في جهة تناوله ، واكتسابه ، وإما في جهة الاستعانة به على التكليفات ، فمن حاسب نفسه في ذلك ، وعمل على ما أمر به فقد شكر نعم الله ، وفي ذلك قال تعالى : قل من حرم زينة الله إلى قوله : خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] .
أي : لا تبعة فيها ، وقال تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 7 - 8 ] .
وفسره النبي عليه السلام بأنه العرض ، لا الحساب الذي فيه مناقشة [ ص: 184 ] وعذاب ، وإلا لم تكن النعم المباحة خالصة للمؤمنين يوم القيامة ، وإليه يرجع قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ الأعراف : 6 ] .
أعني سؤال المرسلين ، ويحققه أحوال السلف في تناول المباحات كما سيذكر على إثر هذا .
والثاني : من الأمور المعارضة ، أن ما تقدم مخالف لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة ، والتابعين ، والعلماء المتقين ; فإنهم تورعوا عن المباحات كثيرا ، وذلك منقول عنهم تواترا ، كترك الترفه في المطعم ، والمشرب ، والمركب ، والمسكن ، وأعرقهم في ذلك عمر بن الخطاب ، وأبو ذر ، وسلمان ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعلي بن أبي طالب ، وعمار ، وغيرهم - رضي الله عنهم - وانظر إلى ما حكاه ابن حبيب في كتاب الجهاد ، وكذلك الداودي في كتاب " الأموال " ففيه الشفاء ، ومحصوله أنهم تركوا المباح من حيث هو مباح ، ولو كان ترك المباح غير طاعة لما فعلوه .
والجواب عن ذلك من أوجه : أحدها : أن هذه أولا حكايات أحوال ; فالاحتجاج بمجردها من غير نظر [ ص: 185 ] فيها لا يجدي ; إذ لا يلزم أن يكون تركهم لما تركوه من ذلك من جهة كونه مباحا ؛ لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد ، وسيأتي إن شاء الله أن حكايات الأحوال بمجردها غير مفيدة في الاحتجاج .
والثاني : أنها معارضة بمثلها في النقيض .
فقد كان عليه السلام يحب الحلواء والعسل .
ويأكل اللحم ، ويختص بالذراع ، وكانت تعجبه .
وكان يستعذب له الماء .
[ ص: 186 ] وينقع له الزبيب والتمر .
ويتطيب بالمسك .
[ ص: 187 ] ويحب النساء .
وأيضا ; فقد جاء كثير من ذلك عن الصحابة والتابعين ، والعلماء المتقين ، بحيث يقتضي أن الترك عندهم كان غير مطلوب ، والقطع أنه لو كان مطلوب الترك عندهم شرعا ، لبادروا إليه مبادرتهم لكل نافلة وبر ، ونيل منزلة ودرجة ; إذ لم يبادر أحد من الخلق إلى نوافل الخيرات مبادرتهم ، ولا شارك أحد أخاه المؤمن ممن قرب عهده أو بعد في رفده وماله مشاركتهم ، يعلم ذلك من طالع سيرهم ، ومع ذلك فلم يكونوا تاركين للمباحات أصلا ، ولو كان مطلوبا لعلموه قطعا ، ولعملوا بمقتضاه مطلقا من غير استثناء ، لكنهم لم يفعلوا ; فدل ذلك على أنه عندهم غير مطلوب ، بل قد أراد بعضهم أن يترك شيئا من المباحات فنهوا عن ذلك ، وأدلة هذه الجملة كثيرة ، وانظر في باب المفاضلة بين الفقر والغنى في " مقدمات ابن رشد " .
[ ص: 188 ] والثالث : إذا ثبت أنهم تركوا منه شيئا ، طلبا للثواب على تركه ، فذلك لا من جهة أنه مباح فقط للأدلة المتقدمة ، بل لأمور خارجة ، وذلك غير قادح في كونه غير مطلوب الترك - منها : أنهم تركوه من حيث هو مانع من عبادات ، وحائل دون خيرات ، فيترك ليمكن الإتيان بما يثاب عليه ، من باب التوصل إلى ما هو مطلوب ، كما كانت عائشة - رضي الله عنها - يأتيها المال العظيم الذي يمكنها به التوسع في المباح فتتصدق به ، وتفطر على أقل ما يقوم به العيش ، ولم يكن تركها التوسع من حيث كان الترك مطلوبا ، وهذا هو محل النزاع .
- ومنها : أن بعض المباحات قد يكون مورثا لبعض الناس أمرا لا يختاره لنفسه ، بالنسبة إلى ما هو عليه من الخصال الحميدة ، فيترك المباح لما يؤديه إليه ، كما جاء أن عمر بن الخطاب لما عذلوه في ركوبه الحمار في مسيره إلى الشام ، أتي بفرس ، فلما ركبه فهملج تحته ، أخبر أنه أحس من نفسه ، فنزل [ ص: 189 ] عنه ، ورجع إلى حماره ، وكما جاء في حديث الخميصة ذات العلم ، حين لبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرهم أنه نظر إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنه ، وهو المعصوم ، ولكنه علم أمته كيف يفعلون بالمباح إذا أداهم إلى ما يكره ، وكذلك قد يكون المباح وسيلة إلى ممنوع ، فيترك من حيث هو وسيلة كما قيل : " إني لأدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال ، ولا أحرمها " وفي الحديث : لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس .
[ ص: 190 ] وهذا بمثابة من يعلم أنه إذا مر لحاجته على الطريق الفلانية نظر إلى محرم أو تكلم فيما لا يعنيه أو نحوه .
- ومنها : أنه قد يترك بعض الناس ما يظهر " لغيره " أنه مباح ، إذا تخيل فيه إشكالا وشبهة ، ولم يتخلص له حله ، وهذا موضع مطلوب الترك على الجملة بلا خلاف ; كقوله : " كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس " ولم يتركوا كل ما لا بأس به ، وإنما تركوا ما خشوا أن يفضي بهم إلى مكروه أو ممنوع .
- ومنها : أنه قد يترك المباح لأنه لم تحضره نية في تناوله ; إما للعون به على طاعة الله ، وإما لأنه يحب أن يكون عمله كله خالصا لله ، لا يلوي فيه على حظ نفسه من حيث هي طالبة له ; فإن من خاصة عباد الله من لا يحب أن يتناول مباحا لكونه مباحا ، بل يتركه حتى يجد لتناوله قصد عبادة أو عونا على [ ص: 191 ] عبادة ، أو يكون أخذه له من جهة الإذن لا من جهة الحظ ; لأن الأول نوع من الشكر بخلاف الثاني ، ومن ذلك أن يتركه حتى يصير مطلوبا كالأكل والشرب ونحوهما ; فإنه - إذا كان لغير حاجة - مباح ، كأكل بعض الفواكه ، فيدع التناول إلى زمان الحاجة إلى الغذاء ، ثم يأكل قصدا لإقامة البنية ، والعون على الطاعة ، وهذه كلها أغراض صحيحة منقولة عن السلف ، وغير قادحة في مسألتنا .
- ومنها : أن يكون التارك مأخوذ الكلية في عبادة من علم أو تفكر أو عمل ، مما يتعلق بالآخرة ، فلا تجده يستلذ بمباح ، ولا ينحاش قلبه إليه ، ولا يلقي إليه بالا ، وهذا وإن كان قليلا ، فالترك على هذا الوجه يشبه الغفلة عن المتروك ، والغفلة عن تناول المباح ليس بطاعة ، بل هو في طاعة بما اشتغل به ، وقد نقل مثل هذا عن عائشة حين أتيت بمال عظيم فقسمته ، ولم تبق لنفسها شيئا ، فعوتبت على تركها نفسها دون شيء ، فقالت : " لا تعنيني ، لو كنت ذكرتني لفعلت " ، ويتفق مثل هذا للصوفية ، وكذلك إذا ترك المباح لعدم قيام النفس له ، هو في حكم المغفول عنه .
- ومنها : أنه قد يرى بعض ما يتناوله من المباح إسرافا ، والإسراف مذموم ، وليس في الإسراف حد يوقف دونه كما في الإقتار ، فيكون التوسط [ ص: 192 ] راجعا إلى الاجتهاد بين الطرفين ; فيرى الإنسان بعض المباحات بالنسبة إلى حاله داخلا تحت الإسراف فيتركه لذلك ، ويظن من يراه ممن ليس ذلك - إسرافا في حقه ؛ أنه تارك للمباح ، ولا يكون كما ظن ; فكل أحد فيه فقيه نفسه .
والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك - مطلوب ، وهو شرط من شروط تناول المباح ، ولا يصير بذلك المباح مطلوب الترك ، ولا مطلوب الفعل ، كدخول المسجد لأمر مباح هو مباح ، ومن شرطه أن لا يكون جنبا ، والنوافل من شرطها الطهارة وذلك واجب ، ولا يصير دخول المسجد ولا النافلة بسبب ذلك - واجبين ، فكذلك هنا تناول المباح مشروط بترك الإسراف ، ولا يصير ذم الإسراف في المباح ذما للمباح مطلقا .
وإذا تأملت الحكايات في ترك بعض المباحات عمن تقدم ، فلا تعدو هذه الوجوه ، وعند ذلك لا تكون فيها معارضة لما تقدم ، والله أعلم .
والثالث من الأمور المعارضة : ما ثبت من فضيلة الزهد في الدنيا ، وترك لذاتها ، وشهواتها ، وهو مما اتفق على مدح صاحبه شرعا ، وذم تاركه على الجملة ، حتى قال الفضيل بن عياض : " جعل الشر كله في بيت ، وجعل مفتاحه حب الدنيا ، وجعل الخير كله في بيت ، وجعل مفتاحه الزهد " .
وقال الكتاني الصوفي : " الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي ، ولا مدني ، [ ص: 193 ] ولا عراقي ، ولا شامي - الزهد في الدنيا ، وسخاوة النفس ، والنصيحة للخلق " .
قال القشيري : يعني أن هذه الأشياء لا يقول أحد : إنها غير محمودة ، والأدلة من الكتاب والسنة على هذا لا تكاد تنحصر ، والزهد حقيقة إنما هو في الحلال ، أما الحرام ; فالزهد فيه لازم من أمر الإسلام ، عام في أهل الإيمان ، ليس مما يتجارى فيه خواص المؤمنين مقتصرين عليه فقط ، وإنما تجاروا فيما صاروا به من الخواص ، وهو الزهد في المباح ، فأما المكروه فذو طرفين ، وإذا ثبت هذا فمحال عادة أن يتجاروا فيه هذه المجاراة ، وهو لا فائدة فيه ، ومحال أن يمدح شرعا مع استواء فعله وتركه .
والجواب من أوجه : أحدها : أن الزهد - في الشرع - مخصوص بما طلب تركه حسبما يظهر من الشريعة ، فالمباح في نفسه خارج عن ذلك لما تقدم من الأدلة ، فإذا أطلق بعض المعبرين لفظ الزهد على ترك الحلال ، فعلى جهة المجاز بالنظر إلى ما يفوت من الخيرات أو لغير ذلك مما تقدم .
والثاني : أن أزهد البشر لم يترك الطيبات جملة إذا وجدها ، وكذلك من بعده من الصحابة والتابعين مع تحققهم في مقام الزهد .
والثالث : أن ترك المباحات إما أن يكون بقصد أو بغير قصد ; فإن كان بغير قصد فلا اعتبار به ، بل هو غفلة ، لا يقال فيه : " مباح " فضلا عن أن يقال فيه : " زهد " ، وإن كان تركه بقصد ; فإما أن يكون [ ص: 194 ] القصد مقصورا على كونه مباحا ، فهو محل النزاع ، أو لأمر خارج ، فذلك الأمر إن كان دنيويا كالمتروك ؛ فهو انتقال من مباح إلى مثله لا زهد ، وإن كان أخرويا ; فالترك إذا وسيلة إلى ذلك المطلوب ; فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب ، لا من جهة مجرد الترك ، ولا نزاع في هذا .
وعلى هذا المعنى فسره الغزالي ; إذ قال : " الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه " فلم يجعله مجرد الانصراف عن الشيء خاصة ، بل بقيد الانصراف إلى ما هو خير منه ، وقال في تفسيره : " ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة ، لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه ، وإلا فترك المحبوب لغير الأحب محال " . ثم ذكر أقسام الزهد ، فدل على أن الزهد لا يتعلق بالمباح من حيث هو مباح على حال ، ومن تأمل كلام المعتبرين فهو دائر على هذا المدار .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (13)
صـ195 إلى صـ 217
فصل
وأما كون المباح غير مطلوب الفعل ; فيدل عليه كثير مما تقدم ; لأن كلا الطرفين من جهته في نفسه على سواء .
[ ص: 195 ] وقد استدل من قال : إنه مطلوب ، بأن كل مباح ترك حرام ، وترك الحرام واجب ، فكل مباح واجب . . . ، إلى آخر ما قرر الأصوليون عنه ، لكن هذا القائل يظهر منه أنه يسلم أن المباح - مع قطع النظر عما يستلزم - مستوي الطرفين ، وعند ذلك يكون ما قاله الناس هو الصحيح ; لوجوه : أحدها : لزوم أن لا توجد الإباحة في فعل من الأفعال عينا ألبتة ; فلا [ ص: 196 ] يوصف فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بإباحة أصلا ، وهذا باطل باتفاق ; فإن الأمة قبل هذا المذهب لم تزل تحكم على الأفعال بالإباحة ، كما تحكم عليها بسائر الأحكام ، وإن استلزمت ترك الحرام ; فدل على عدم اعتبارها لما يستلزم ؛ لأنه أمر خارج عن ماهية المباح .
والثاني : أنه لو كان كما قال ؛ لارتفعت الإباحة رأسا عن الشريعة ، وذلك باطل على مذهبه ، ومذهب غيره .
بيانه أنه إذا كانت الإباحة غير موجودة في الخارج على التعيين ، كان وضعها في الأحكام الشرعية عبثا ; لأن موضوع الحكم هو فعل المكلف ، وقد فرضناه واجبا ، فليس بمباح ، فيبطل قسم المباح أصلا وفرعا ; إذ لا فائدة شرعا في إثبات حكم لا يقضي على فعل من أفعال المكلف .
والثالث : أنه لو كان كما قال ; لوجب مثل ذلك في جميع الأحكام الباقية ; لاستلزامها ترك الحرام ، فتخرج عن كونها أحكاما مختلفة ، وتصير واجبة .
فإن التزم ذلك باعتبار الجهتين حسبما نقل عنه ; فهو باطل ; لأنه يعتبر جهة الاستلزام ، [ فلذلك نفى المباح ، فليعتبر جهة الاستلزام ] في الأربعة الباقية فينفها ، وهو خلاف الإجماع والمعقول ; فإن اعتبر في الحرام والمكروه [ ص: 197 ] جهة النهي ، وفي المندوب جهة الأمر - كالواجب - لزمه اعتبار جهة التخيير في المباح ; إذ لا فرق بينهما من جهة معقولهما .
فإن قال : يخرج المباح عن كونه [ مباحا ] بما يؤدي إليه أو بما يتوسل به إليه ، فذلك غير مسلم ، وإن سلم فذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، والخلاف فيه معلوم ، فلا نسلم أنه واجب ، وإن سلم فكذلك الأحكام الأخر ، فيصير الحرام والمكروه والمندوب واجبات ، والواجب من جهة واحدة واجبا من جهتين ، وهذا كله لا يتحصل له مقصود معتبر في الشرع .
فالحاصل أن الشارع لا قصد له في فعل المباح دون تركه ، ولا في تركه دون فعله ، بل قصده جعله لخيرة المكلف ، فما كان من المكلف من فعل أو ترك ، فذلك قصد الشارع بالنسبة إليه ; فصار الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كخصال الكفارة ، أيهما فعل فهو قصد الشارع ، لا أن للشارع قصدا في الفعل بخصوصه ، ولا في الترك بخصوصه .
لكن يرد على مجموع الطرفين إشكال زائد على ما تقدم في الطرف الواحد ، وهو أنه قد جاء في بعض المباحات ما يقتضي قصد الشارع إلى فعله على الخصوص ، وإلى تركه على الخصوص .
فأما الأول فأشياء ، منها : الأمر بالتمتع بالطيبات ; كقوله [ ص: 198 ] تعالى : يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا [ البقرة : 168 ] .
وقوله : يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله [ البقرة : 172 ] .
وقوله : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا [ المؤمنون : 51 ] .
إلى أشباه ذلك مما دل الأمر به على قصد الاستعمال .
وأيضا ; فإن النعم المبسوطة في الأرض لتمتعات العباد التي ذكرت المنة بها ، وقررت عليهم - فهم منها القصد إلى التنعم بها ، لكن بقيد الشكر عليها .
ومنها : أنه تعالى أنكر على من حرم شيئا مما بث في الأرض من الطيبات ، وجعل ذلك من أنواع ضلالهم ، فقال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا [ الأعراف : 32 ] أي : خلقت لأجلهم خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] لا تباعة فيها ولا إثم ; فهذا ظاهر في القصد إلى استعمالها دون تركها .
- ومنها : أن هذه النعم هدايا من الله للعبد ، وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد ، هذا غير لائق في محاسن العادات ، ولا في مجاري الشرع ، بل قصد المهدي أن تقبل هديته ، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه ; فليقبل ، ثم ليشكر له عليها .
[ ص: 199 ] وحديث ابن عمر ، وأبيه عمر في مسألة قصر الصلاة - ظاهر في هذا المعنى ، حيث قال عليه السلام : إنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ، زاد في حديث ابن عمر الموقوف عليه : أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك ؛ ألم تغضب ؟ ، وفي الحديث : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه .
[ ص: 200 ] وغالب الرخص في نمط الإباحة نزولا عن الوجوب ; كالفطر في السفر أو التحريم ، كما قاله طائفة في قوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [ النساء : 25 ] إلى آخرها ، وإذا تعلقت المحبة بالمباح ; كان راجح الفعل .
فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه .
وأما ما يقتضي القصد إلى الترك على الخصوص - فجميع ما تقدم من ذم التنعمات والميل إلى الشهوات على الجملة ، وعلى الخصوص قد جاء ما يقتضي تعلق الكراهة في بعض ما ثبتت له الإباحة ، كالطلاق السني ; فإنه جاء في الحديث ، وإن لم يصح أبغض الحلال إلى الله الطلاق ، ولذلك لم [ ص: 201 ] يأت به صيغة أمر في القرآن ، ولا في السنة كما جاء في التمتع بالنعم ، وإنما جاء مثل قوله : الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] .
فإن طلقها فلا تحل له من بعد [ البقرة : 230 ] .
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق : 1 ] .
فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف [ الطلاق : 1 ] .
[ ص: 202 ] ولا شك أن جهة البغض في المباح مرجوحة ، وجاء : كل لهو باطل إلا ثلاثة .
وكثير من أنواع اللهو مباح ، واللعب أيضا مباح ، وقد ذم .
فهذا كله يدل على أن المباح لا ينافي قصد الشارع لأحد طرفيه على الخصوص دون الآخر ، وذلك مما يدل على أن المباح يتعلق به الطلب فعلا [ ص: 203 ] وتركا على غير الجهات المتقدمة .
والجواب من وجهين :
أحدهما : إجمالي ، والآخر : تفصيلي .
فالإجمالي أن يقال : إذا ثبت أن المباح عند الشارع هو المتساوي الطرفين ، فكل ما ترجح أحد طرفيه فهو خارج عن كونه مباحا ; إما لأنه ليس بمباح حقيقة ، وإن أطلق عليه لفظ المباح ، وإما لأنه مباح في أصله ، ثم صار غير مباح لأمر خارج ، وقد يسلم أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة .
وأما التفصيلي ; فإن المباح ضربان :
أحدهما : أن يكون خادما لأصل ضروري ، [ أو حاجي ] أو تكميلي .
والثاني : أن لا يكون كذلك .
فالأول قد يراعى من جهة ما هو خادم له ; فيكون مطلوبا ، ومحبوبا فعله ، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها - مباح في نفسه ، وإباحته بالجزء ، وهو خادم لأصل ضروري ، وهو إقامة الحياة ; فهو [ ص: 204 ] مأمور به من هذه الجهة ، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب ; فالأمر به راجع إلى حقيقته الكلية لا إلى اعتباره الجزئي ، ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد ، لا من حيث هو جزئي معين .
والثاني : إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة ، أو لا يكون خادما لشيء ، كالطلاق ; فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في الوجود ، وهو ضروري ، ولإقامة مطلق الألفة ، والمعاشرة ، واشتباك العشائر بين الخلق ، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما ، فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرما لذلك المطلوب ، ونقضا عليه - كان مبغضا ، ولم يكن فعله أولى من تركه إلا لمعارض أقوى ; كالشقاق ، وعدم إقامة حدود الله ، وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص ، وفي هذا الزمان - مباح وحلال ، وهكذا القول فيما جاء من ذم الدنيا ، وقد تقدم ، ولكن لما كان الحلال فيها قد يتناول فيخرم ما هو ضروري - كالدين على الكافر ، والتقوى على العاصي - كان من تلك الجهة مذموما ، وكذلك اللهو ، واللعب ، والفراغ من كل شغل إذا لم يكن في محظور ، ولا يلزم عنه محظور - فهو مباح ، ولكنه مذموم [ ص: 205 ] ولم يرضه العلماء ، بل كانوا يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش ، ولا في إصلاح معاد ; لأنه قطع زمان فيما لا يترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية .
وفي القرآن : ولا تمش في الأرض مرحا ; إذ يشير إلى هذا المعنى .
وفي الحديث : كل لهو باطل إلا ثلاثة ، ويعني بكونه باطلا أنه عبث أو كالعبث ، ليس له فيه فائدة ، ولا ثمرة تجنى ، بخلاف اللعب مع الزوجة ; فإنه مباح يخدم أمرا ضروريا ، وهو النسل ، وبخلاف تأديب الفرس ، وكذلك اللعب بالسهام ; فإنهما يخدمان أصلا تكميليا ، وهو الجهاد ، فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل ، وجميع هذا يبين أن المباح من حيث هو مباح غير مطلوب الفعل ولا الترك بخصوصه .
[ ص: 206 ] وهذا الجواب مبني على أصل آخر ثابت في الأحكام التكليفية فلنضعه [ ها ] هنا ، وهي :
المسألة الثانية
فيقال : إن الإباحة بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقي ، فالمباح يكون مباحا بالجزء ، مطلوبا بالكل على جهة الندب أو الوجوب ، ومباحا بالجزء منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع .
فهذه أربعة أقسام :
فالأول : كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب ، والمركب والملبس ، مما سوى الواجب من ذلك ، والمندوب المطلوب في محاسن العبادات أو المكروه في محاسن العادات ، كالإسراف ; فهو مباح بالجزء ، فلو ترك بعض الأوقات مع القدرة عليه ; لكان جائزا كما لو فعل ، فلو ترك جملة ; [ ص: 207 ] لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه ، ففي الحديث : إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم ، وإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ، وقوله في الآخر حين حسن من هيئته أليس هذا أحسن ؟ ، وقوله : إن الله [ ص: 208 ] جميل يحب الجمال بعد قول الرجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ، ونعله حسنة ، وكثير من ذلك ، وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروها .
والثاني : كالأكل ، والشرب ، ووطء الزوجات ، والبيع والشراء ، ووجوه الاكتسابات الجائزة ; كقوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] .
أحل لكم صيد البحر وطعامه [ المائدة : 96 ] .
أحلت لكم بهيمة الأنعام [ المائدة : 1 ] .
وكثير من ذلك ، كل هذه الأشياء مباحة بالجزء ; أي : إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها ; فذلك جائز ، أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان ، [ ص: 209 ] أو تركها بعض الناس - لم يقدح ذلك ، فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها ، فكان الدخول فيها واجبا بالكل .
والثالث : كالتنزه في البساتين ، وسماع تغريد الحمام ، والغناء المباح ، واللعب المباح بالحمام ، أو غيرها ؛ فمثل هذا مباح بالجزء ، فإذا فعل يوما ما أو في حالة ما - فلا حرج فيه ; فإن فعل دائما كان مكروها ، ونسب فاعله إلى قلة العقل ، وإلى خلاف محاسن العادات ، وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح .
والرابع : كالمباحات التي تقدح في العدالة المداومة عليها ، وإن كانت مباحة ; فإنها لا تقدح إلا بعد أن يعد صاحبها خارجا عن هيئات أهل العدالة ، وأجري صاحبها مجرى الفساق ، وإن لم يكن كذلك ; ، وما ذلك إلا لذنب اقترفه شرعا ، وقد قال الغزالي : " إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة ، كما أن المداومة على الصغيرة تصيرها كبيرة " ، ومن هنا قيل : " لا صغيرة مع [ ص: 210 ] الإصرار .
[ ص: 211 ]
فصل
إذا كان الفعل مندوبا بالجزء ، كان واجبا بالكل ، كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها ، وصلاة الجماعة ، وصلاة العيدين ، وصدقة التطوع ، والنكاح ، والوتر ، والفجر ، والعمرة ، وسائر النوافل الرواتب ; فإنها مندوب إليها بالجزء ، ولو فرض تركها جملة ; لجرح التارك لها ، ألا ترى أن في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام ، ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه ، وكذلك صلاة الجماعة من داوم على تركها يجرح ، فلا تقبل شهادته ، لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين ، وقد توعد الرسول عليه السلام من داوم على ترك الجماعة ، فهم أن يحرق عليهم بيوتهم ، كما كان عليه السلام لا يغير على قوم حتى يصبح ; فإن سمع أذانا أمسك ، وإلا أغار ، والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو [ ص: 212 ] مقصود للشارع ; من تكثير النسل ، وإبقاء النوع الإنساني ، وما أشبه ذلك ، فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائما ، أما إذا كان في بعض الأوقات ; فلا تأثير له ، فلا محظور في الترك .
فصل
إذا كان الفعل مكروها بالجزء كان ممنوعا بالكل ; كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة ، وسماع الغناء المكروه ; فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة لم تقدح في العدالة ; فإن داوم عليها قدحت في عدالته ، وذلك دليل على المنع بناء على أصل الغزالي ، قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج : " إن كان يكثر منه حتى يشغله عن الجماعة [ ص: 213 ] لم تقبل شهادته ، وكذلك اللعب الذي يخرج به عن هيئة أهل المروءة ، والحلول بمواطن التهم لغير عذر ، وما أشبه ذلك .
فصل
أما الواجب إن قلنا إنه مرادف للفرض ; فإنه لا بد أن يكون واجبا بالكل والجزء ; فإن العلماء إنما أطلقوا الواجب من حيث النظر الجزئي ، وإذا كان واجبا بالجزء فهو كذلك بالكل من باب أولى ، ولكن هل يختلف حكمه بحسب الكلية والجزئية أم لا .
أما بحسب الجواز فذلك ظاهر ; فإنه إذا كانت هذه الظهر المعينة فرضا على المكلف ؛ يأثم بتركها ، ويعد مرتكب كبيرة ، فينفذ عليه الوعيد بسببها إلا أن يعفو الله ; فالتارك لكل ظهر أو لكل صلاة أحرى بذلك ، وكذلك القاتل عمدا إذا فعل ذلك مرة مع من كثر ذلك منه وداوم عليه ، وما أشبه ذلك ; فإن المفسدة بالمداومة أعظم منها في غيرها .
وأما بحسب الوقوع ; فقد جاء ما يقتضي ذلك كقوله عليه السلام في تارك الجمعة : [ من ترك الجمعة ] ثلاث مرات طبع الله على قلبه ; فقيد [ ص: 214 ] بالثلاث كما ترى ، وقال في الحديث الآخر : من تركها استخفافا بحقها أو تهاونا ، مع أنه لو تركها مختارا غير متهاون ، ولا مستخف ؛ لكان تاركا للفرض ; فإنما قال ذلك لأن [ تركها ] مرات أولى في التحريم ، وكذلك لو تركها قصدا للاستخفاف والتهاون ، وانبنى على ذلك في الفقه أن من تركها ثلاث مرات من غير عذر لم تجز شهادته . قاله سحنون ، وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون : إذا تركها مرارا لغير عذر لم تجز شهادته . وكذلك [ ص: 215 ] يقول الفقهاء فيمن ارتكب إثما ولم يكثر منه ذلك : إنه لا يقدح في شهادته إذا لم يكن كبيرة ; فإن تمادى وأكثر منه كان قادحا في شهادته ، وصار في عداد من فعل كبيرة ; بناء على أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة .
وأما إن قلنا : إن الواجب ليس بمرادف للفرض فقد يطرد فيه ما تقدم فيقال : إن الواجب إذا كان واجبا بالجزء كان فرضا بالكل ، لا مانع يمنع من ذلك ; فانظر فيه وفي أمثلته منزلا على مذهب الحنفية ، وعلى هذه الطريقة يستتب التعميم ; فيقال في الفرض : إنه يختلف بحسب الكل والجزء كما تقدم بيانه أول الفصل .
وهكذا القول في الممنوعات : إنها تختلف مراتبها بحسب الكل والجزء ، وإن عدت في الحكم في مرتبة واحدة وقتا ما أو في حالة ما ؛ فلا تكون كذلك في أحوال أخر ، بل يختلف الحكم فيها كالكذب من غير عذر ، وسائر الصغائر مع المداومة عليها ; فإن المداومة لها تأثير في كبرها ، وقد ينضاف الذنب إلى [ ص: 216 ] الذنب فيعظم بسبب الإضافة ; فليست سرقة نصف النصاب كسرقة ربعه ، ولا سرقة النصاب كسرقة نصفه ، ولذلك عدوا سرقة لقمة ، والتطفيف بحبة - من باب الصغائر ، مع أن السرقة معدودة من الكبائر ، وقد قال الغزالي : " قلما يتصور الهجوم على الكبيرة بغتة ، من غير سوابق ولواحق من جهة الصغائر - قال : - ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ، ولم يتفق عوده إليها ، ربما كان العفو إليها أرجى من صغيرة واظب عليها عمره " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (14)
صـ218 إلى صـ 238
فصل
هذا وجه من النظر مبني على أن الأفعال كلها تختلف أحكامها بالكلية والجزئية من غير اتفاق .
ولمدع أن يدعي اتفاق أحكامها ، وإن اختلفت بالكلية والجزئية .
أما في المباح ; فمثل قتل كل مؤذ ، والعمل بالقراض ، والمساقاة ، وشراء العرية ، والاستراحة بعد التعب ، حيث لا يكون ذلك متوجه الطلب والتداوي ، إن قيل : إنه مباح ; فإن هذه الأشياء إذا فعلت دائما أو تركت دائما لا يلزم من [ ص: 217 ] فعلها ولا من تركها إثم ، ولا كراهة ، ولا ندب ، ولا وجوب ، وكذلك لو ترك الناس كلهم ذلك اختيارا فهو كما لو فعلوه كلهم .
وأما في المندوب فكالتداوي إن قيل بالندب فيه ; لقوله عليه السلام : تداووا ، وكالإحسان في قتل الدواب المؤذية ; لقوله : إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ; فإن هذه الأمور لو تركها الإنسان دائما لم يكن مكروها ، ولا ممنوعا ، وكذلك لو فعلها دائما .
[ ص: 218 ] وأما في المكروه ; فمثل قتل النمل إذا لم تؤذ ، والاستجمار بالحممة والعظم ، وغيرهما مما ينقي ; إلا أن فيه تلويثا أو حقا للجن ، فليس النهي عن ذلك نهي تحريم ، ولا ثبت أن فاعل ذلك دائما يحرج به ، ولا يؤثم ، وكذلك البول في الجحر ، واختناث الأسقية في الشرب ، وأمثال ذلك كثيرة .
[ ص: 219 ] وأما في الواجب والمحرم ، فظاهر أيضا التساوي ; فإن الحدود وضعت على التساوي ، فالشارب للخمر مائة مرة كشاربها مرة واحدة ، وقاذف الواحد كقاذف الجماعة ، وقاتل نفس واحدة كقاتل مائة نفس ، في إقامة الحدود عليهم ، وكذلك تارك صلاة واحدة مع المديم الترك ، وما أشبه ذلك .
وأيضا ; فقد نص الغزالي على أن الغيبة أو سماعها ، والتجسس ، وسوء الظن ، وترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وأكل الشبهات ، وسب الولد والغلام ، وضربهما بحكم الغضب زائدا على حد المصلحة ، وإكرام السلاطين الظلمة ، والتكاسل عن تعليم الأهل والولد ما يحتاجون إليه من أمر الدين - جار دوامها مجرى الفلتات في غيرها ; لأنها غالبة في الناس على الخصوص ، كما كانت الفلتات في غيرها غالبة ; فلا يقدح في العدالة دوامها كما لا تقدح فيها الفلتات ، فإذا ثبت هذا ; استقامت الدعوى في أن الأحكام قد تستوي وإن اختلفت الأفعال بحسب الكلية والجزئية .
ولصاحب النظر الأول أن يجيب بأن ما استشهد به على الاستواء محتمل .
[ ص: 220 ] أما الأول ; فإن الكلي والجزئي يختلف بحسب الأشخاص والأحوال ، والمكلفين ، ودليل ذلك أنا إذا نظرنا إلى جواز الترك في قتل كل مؤذ بالنسبة إلى آحاد الناس ، خف الخطب ، فلو فرضنا تمالؤ الناس كلهم على الترك ، داخلهم الحرج من وجوه عدة ، والشرع طالب لدفع الحرج قطعا ، فصار الترك منهيا عنه نهي كراهة إن لم يكن أشد ، فيكون الفعل إذا مندوبا بالكل إن لم نقل واجبا ، وهكذا العمل بالقراض ، وما ذكر معه ؛ فلا استواء إذا بين الكلي والجزئي فيه ، وبحسبك في المسألة أن الناس لو تمالئوا على الترك ; لكان ذريعة إلى هدم معلم شرعي ، وناهيك به ، نعم قد يسبق ذلك النظر إذا تقارب ما بين الكلي والجزئي ، وأما إذا تباعد ما بينهما فالواقع ما تقدم ، ومثل هذا النظر جار في المندوب والمكروه .
وأما ما ذكره في الواجب والمحرم فغير وارد ; فإن اختلاف الأحكام في الحدود ظاهر ، وإن اتفقت في بعض ، وما ذكره الغزالي فلا يسلم بناء على هذه القاعدة ، وإن سلم ففي العدالة وحدها لمعارض راجح ، وهو أنه لو قدح دوام ذلك فيها لندرت العدالة ; فتعذرت الشهادة .
[ ص: 221 ] فصل
إذا تقرر تصوير الكلية والجزئية في الأحكام الخمسة فقد يطلب الدليل على صحتها ، والأمر فيها واضح مع تأمل ما تقدم في أثناء التقرير ، بل هي في اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها ، ولكن إن طلب مزيدا في طمأنينة القلب ، وانشراح الصدر ، فيدل على ذلك جمل ، منها : ما تقدمت الإشارة إليه في التجريح بما داوم عليه الإنسان مما لا يجرح به لو لم يداوم عليه ، وهو أصل متفق عليه بين العلماء في الجملة ، ولولا أن للمداومة تأثيرا ، لم يصح لهم التفرقة بين المداوم عليه ، وما لم يداوم عليه من الأفعال ، لكنهم اعتبروا ذلك فدل على التفرقة ، وأن المداوم عليه أشد ، وأحرى منه إذا لم يداوم عليه ، وهو معنى ما تقدم تقريره في الكلية والجزئية ، وهذا المسلك لمن اعتبره كاف .
- ومنها : أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق ، وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات ; إذ مجاري العادات كذلك جرت الأحكام فيها ، ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا في الاعتبار لما صح ذلك ، بل لولا ذلك لم تجر الكليات على حكم الاطراد كالحكم بالشهادة ، وقبول خبر الواحد مع وقوع الغلط والنسيان في الآحاد ، لكن الغالب الصدق ، فأجريت الأحكام الكلية على ما هو الغالب حفظا على الكليات ، ولو اعتبرت الجزئيات لم يكن بينهما فرق ، ولامتنع الحكم إلا بما هو معلوم ، ولاطرح الظن بإطلاق ، وليس كذلك ; ، بل حكم بمقتضى ظن الصدق ؛ وإن برز [ ص: 222 ] بعد في بعض الوقائع الغلط في ذلك الظن ، وما ذاك إلا اطراح لحكم الجزئية في حكم الكلية ، وهو دليل على صحة اختلاف الفعل الواحد بحسب الكلية والجزئية ، وأن شأن الجزئية أخف .
- ومنها : ما جاء في الحذر من زلة العالم ، [ فإن زلة العالم ] في علمه أو عمله ، - إذا لم تتعد لغيره - في حكم زلة غير العالم ، فلم يزد فيها على غيره ; فإن تعدت إلى غيره اختلف حكمها ، وما ذلك إلا لكونها جزئية إذا اختصت به ، ولم تتعد إلى غيره ; فإن تعدت صارت كلية بسبب الاقتداء والاتباع على ذلك الفعل أو على مقتضى القول ; فصارت عند الاتباع عظيمة جدا ، ولم تكن كذلك على فرض اختصاصها به ، ويجري مجراه كل من علم عملا فاقتدى به فيه ; إن صالحا فصالح ، وإن طالحا فطالح ، وفيه جاء : من سن سنة حسنة أو سيئة ، و إن نفسا لا تقتل ظلما ; إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ; لأنه [ ص: 223 ] أول من سن القتل ، وقد عدت سيئة العالم كبيرة لهذا السبب ، وإن كانت في نفسها صغيرة ، والأدلة على هذا الأصل تبلغ القطع على كثرتها ، وهي توضح ما دللنا عليه من كون الأفعال تعتبر بحسب الجزئية والكلية ، وهو المطلوب .
المسألة الثالثة
المباح يطلق بإطلاقين : أحدهما : من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك .
والآخر من حيث يقال : لا حرج فيه ، وعلى الجملة فهو على أربعة أقسام :
[ ص: 224 ] أحدها : أن يكون خادما لأمر مطلوب الفعل .
والثاني : أن يكون خادما لأمر مطلوب الترك .
والثالث : أن يكون خادما لمخير فيه .
والرابع : أن لا يكون فيه شيء من ذلك .
فأما الأول ; فهو المباح بالجزء ، المطلوب الفعل بالكل ، وأما الثاني : فهو المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل ، بمعنى أن المداومة عليه منهي عنها ، وأما الثالث والرابع فراجعان إلى هذا القسم الثاني .
ومعنى هذه الجملة ; أن المباح - كما مر - يعتبر بما يكون خادما له إن كان خادما ، والخدمة هنا قد تكون في طرف الترك ; كترك [ ص: 225 ] الدوام على التنزه في البساتين ، وسماع تغريد الحمام ، والغناء المباح ; فإن ذلك هو المطلوب ، وقد يكون في طرف الفعل ; كالاستمتاع بالحلال من الطيبات ; فإن الدوام فيه بحسب الإمكان من غير سرف - مطلوب ، من حيث هو خادم لمطلوب ، وهو أصل الضروريات بخلاف المطلوب الترك ; فإنه خادم لما يضادها ، وهو الفراغ من الاشتغال بها ، والخادم للمخير فيه [ ص: 226 ] على حكمه .
وأما الرابع : فلما كان غير خادم لشيء يعتد به كان عبثا أو كالعبث عند العقلاء ، فصار مطلوب الترك [ أيضا ] ; لأنه صار خادما لقطع الزمان في غير مصلحة دين ولا دنيا ، فهو إذا خادم [ لمطلوب الترك فصار مطلوب ] الترك بالكل ، والقسم الثالث مثله أيضا لأنه خادم له ; فصار مطلوب الترك أيضا .
وتلخص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق ، وإنما هو مباح بالجزء خاصة ، وأما بالكل ; فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب الترك .
فإن قيل : أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوي الطرفين ؟
[ ص: 227 ] فالجواب أن لا ; لأن ذلك الذي تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه ، من غير اعتبار أمر خارج ، وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه ، فإذا نظرت إليه في نفسه ; فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء ، وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة ; فهو المسمى بالمطلوب بالكل ، فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباح اللبس ، قد استوى في نظر الشرع فعله وتركه ; فلا قصد له في أحد الأمرين ، وهذا معقول واقع بهذا الاعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك ; ، وهو - من جهة ما هو وقاية للحر والبرد ، وموار للسوأة ، وجمال في النظر - مطلوب الفعل ، وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين ، ، ولا بهذا الوقت المعين ، فهو نظر بالكل لا بالجزء .
المسألة الرابعة
إذا قيل في المباح : إنه لا حرج فيه - وذلك في أحد الإطلاقين المذكورين - ; فليس بداخل تحت التخيير بين الفعل والترك ; لوجوه : أحدها : أنا إنما فرقنا بينهما بعد فهمنا من الشريعة القصد إلى التفرقة ؛ فالقسم المطلوب الفعل بالكل هو الذي جاء فيه التخيير بين الفعل والترك ; كقوله تعالى : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم [ البقرة : 223 ] .
وقوله : وكلا منها رغدا حيث شئتما [ البقرة : 35 ] .
[ ص: 228 ] وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا [ البقرة : 58 ] .
والآية الأخرى في معناها ; فهذا تخيير حقيقة .
وأيضا ; فالأمر في المطلقات - إذا كان الأمر للإباحة - يقتضي التخيير حقيقة كقوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] .
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .
كلوا من طيبات ما رزقناكم [ الأعراف : 160 ] .
وما أشبه ذلك ; فإن إطلاقه - مع أنه يكون على وجوه - واضح في التخيير في تلك الوجوه إلا ما قام الدليل على خروجه عن ذلك .
وأما القسم المطلوب الترك بالكل فلا نعلم في الشريعة ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصا ، بل هو مسكوت عنه أو مشار إلى بعضه بعبارة تخرجه عن حكم التخيير الصريح ; كتسمية الدنيا لعبا ولهوا في معرض الذم لمن ركن إليها ; فإنها مشعرة بأن اللهو غير مخير فيه ، وجاء : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها [ الجمعة : 11 ] ، وهو الطبل أو ما في معناه ، وقال تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] .
وما تقدم من قول بعض الصحابة : حدثنا يا رسول الله - حين ملوا ملة - ; فأنزل الله عز وجل : الله نزل أحسن الحديث [ الزمر : 23 ] .
وفي الحديث : كل لهو باطل .
[ ص: 229 ] وما أشبه ذلك من العبارات التي لا تجتمع مع التخيير في الغالب فإذا ورد في الشرع بعض هذه الأمور مقدرة ، أو كان فيها بعض الفسحة في بعض الأوقات أو بعض الأحوال ، فمعنى نفي الحرج على معنى الحديث الآخر ، وما سكت عنه فهو عفو أي مما عفي عنه ، وهذا إنما يعبر به في العادة ، [ ص: 230 ] إشعارا بأن فيه ما يعفى عنه ، أو ما هو مظنة عنه ، أو هو مظنة لذلك فيما تجري به العادات .
وحاصل الفرق أن الواحد صريح في رفع الإثم والجناح ، وإن كان قد يلزمه الإذن في الفعل والترك إن قيل به ، إلا أن قصد اللفظ فيه نفي الإثم خاصة ، وأما الإذن فمن باب " ما لا يتم الواجب إلا به " أو من باب " الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا " ، " والنهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده أم لا " ، والآخر صريح في نفس التخيير ، وإن كان قد يلزمه نفي الحرج عن الفعل ; فقصد اللفظ فيه التخيير خاصة ، وأما رفع الحرج ; فمن تلك الأبواب .
والدليل عليه أن رفع الجناح قد يكون مع الواجب ; كقوله تعالى : [ ص: 231 ] فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] .
وقد يكون مع مخالفة المندوب كقوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] .
فلو كان رفع للجناح يستلزم التخيير في الفعل والترك ؛ لم يصح مع الواجب ، ولا مع مخالفة المندوب ، وليس كذلك التخيير المصرح به ; فإنه لا يصح مع كون الفعل واجبا دون الترك ، ولا مندوبا ، [ وبالعكس ] .
والثاني : أن لفظ التخيير مفهوم منه قصد الشارع إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك ، وأنهما على سواء في قصده ، ورفع الحرج مسكوت عنه ، وأما لفظ رفع الجناح ; فمفهومه قصد الشارع إلى رفع الحرج في الفعل إن وقع من المكلف ، وبقي الإذن في ذلك الفعل مسكوتا عنه ، فيمكن أن يكون مقصودا له ، لكن بالقصد الثاني كما في الرخص ; فإنها راجعة إلى رفع الحرج كما سيأتي بيانه إن شاء الله ، فالمصرح به في أحدهما مسكوت عنه في الآخر ، وبالعكس ، فلذلك إذا قال الشارع في أمر واقع لا حرج فيه ، فلا يؤخذ منه حكم الإباحة ; إذ قد يكون كذلك ; وقد يكون مكروها ; فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه ; فليتفقد هذا في الأدلة .
والوجه الثالث : مما يدل على أن ما لا حرج فيه غير مخير فيه على [ ص: 232 ] الإطلاق ، أن المخير فيه لما كان هو الخادم للمطلوب الفعل ، صار خارجا عن محض اتباع الهوى ، بل اتباع الهوى فيه مقيد ، وتابع بالقصد الثاني ، فصار الداخل فيه داخلا تحت الطلب بالكل ، فلم يقع التخيير فيه إلا من حيث الجزء ، ولما كان مطلوبا بالكل وقع تحت الخارج عن اتباع الهوى من هذا الوجه ، وقد عرفنا اعتناء الشارع بالكليات ، والقصد إليها في التكاليف ; فالجزئي الذي لا يخرمه ليس بقادح في مقتضاه ، ولا هو مضاد له ، بل هو مؤكد له ; فاتباع الهوى في المخير فيه تأكيد لاتباع مقصود الشارع من جهة الكلي ، فلا ضرر في اتباع الهوى هنا ؛ لأنه اتباع لقصد الشارع ابتداء ، وإنما اتباع الهوى فيه خادم له .
وأما قسم ما لا حرج فيه ; فيكاد يكون شبيها باتباع الهوى المذموم ، ألا ترى أنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة ، لكنه لقلته وعدم دوامه ، ومشاركته للخادم المطلوب الفعل بالعرض حسبما هو مذكور في موضعه ; لم يحفل به ، فدخل تحت المرفوع الحرج ; إذ الجزئي منه لا يخرم أصلا مطلوبا ، وإن كان فتحا لبابه في الجملة ، فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي ، حتى يجتمع مع غيره من جنسه ، والاجتماع مقو ، ومن هنالك يلتئم الكلي المنهي عنه ، وهو المضاد للمطلوب فعله ، وإذا ثبت أنه كاتباع الهوى من غير دخول تحت كلي أمر ، اقتضت الضوابط الشرعية أن لا يكون [ ص: 233 ] مخيرا فيه ; فتصريح بما تقدم في قاعدة اتباع الهوى ، وأنه مضاد للشريعة ، [ والله أعلم وبه التوفيق ] .
المسألة الخامسة
إن المباح إنما يوصف بكونه مباحا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط ; فإن خرج عن ذلك القصد كان له حكم آخر ، والدليل على ذلك أن المباح كما تقدم هو : ما خير فيه بين الفعل والترك ، بحيث لا يقصد فيه من جهة الشرع إقدام ولا إحجام ، فهو إذا من هذا الوجه لا يترتب عليه أمر ضروري في الفعل أو في الترك ، ولا حاجي ، ولا تكميلي من حيث هو جزئي ، فهو راجع إلى نيل حظ عاجل خاصة ، وكذلك المباح الذي يقال : " لا حرج فيه " أولى أن يكون راجعا إلى الحظ ، وأيضا ; فالأمر والنهي راجعان إلى حفظ ما هو ضروري أو حاجي أو تكميلي ، وكل واحد منها قد فهم من الشارع قصده إليه ، فما خرج عن ذلك فهو مجرد نيل حظ ، وقضاء وطر .
فإن قيل : فما الدليل على انحصار الأمر في المباح في حظ المكلف لا في غير ذلك ، وأن الأمر والنهي راجعان إلى حق الله لا إلى حظ المكلف ؟ ، ولعل [ ص: 234 ] بعض المباحات يصح فيه أن لا يؤخذ من جهة الحظ ، كما صح في بعض المأمورات والمنهيات أن تؤخذ من جهة الحظ .
فالجواب أن القاعدة المقررة أن الشرائع إنما جيء بها لمصالح العباد ؛ فالأمر والنهي والتخيير جميعا راجعة إلى حظ المكلف ومصالحه ، لأن الله غني عن الحظوظ منزه عن الأغراض ; غير أن الحظ على ضربين :
أحدهما : داخل تحت الطلب ، فللعبد أخذه من جهة الطلب ، فلا يكون ساعيا في حظه ، وهو مع ذلك لا يفوته حظه ، لكنه آخذ له من جهة الطلب لا من حيث باعث نفسه ، وهذا معنى كونه بريئا من الحظ ، وقد يأخذه من حيث الحظ ; إلا أنه لما كان داخلا تحت الطلب ، فطلبه من ذلك الوجه - صار حظه تابعا للطلب ، فلحق بما قبله في التجرد عن الحظ ، وسمي باسمه ، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب ، وبالله التوفيق .
والثاني : غير داخل تحت الطلب ; فلا يكون آخذا له إلا من جهة إرادته واختياره ; لأن الطلب مرفوع عنه بالفرض ، فهو قد أخذه إذا من جهة حظه ، فلهذا يقال في المباح : إنه العمل المأذون فيه ، المقصود به مجرد الحظ الدنيوي خاصة .
المسألة السادسة
الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال ، والتروك بالمقاصد ، فإذا عريت عن المقاصد ; لم تتعلق بها ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : ما ثبت من أن الأعمال بالنيات ، وهو أصل متفق عليه في [ ص: 235 ] الجملة ، والأدلة عليه لا تقصر عن مبلغ القطع ، ومعناه أن مجرد الأعمال من حيث هي محسوسة فقط غير معتبرة شرعا على حال ; إلا ما قام الدليل على اعتباره في باب خطاب الوضع خاصة ، أما في غير ذلك ; فالقاعدة مستمرة ، وإذا لم تكن معتبرة حتى تقترن بها المقاصد ; كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات ، والجمادات ، والأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ، ولا سمعا ، فكذلك ما كان مثلها .
والثاني : ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال الصادرة من المجنون ، والنائم ، والصبي ، والمغمى عليه ، وأنها لا حكم لها في الشرع بأن يقال فيها : جائز أو ممنوع أو واجب أو غير ذلك ; كما لا اعتبار بها من البهائم .
وفي القرآن وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [ الأحزاب : 5 ] .
وقال : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] .
قال : قد فعلت .
[ ص: 236 ] وفي معناه روي الحديث : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وإن لم يصح سندا ; فمعناه متفق على صحته .
[ ص: 237 ] وفي الحديث أيضا : رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم ، والمغمى عليه حتى يفيق ; فجميع هؤلاء لا قصد لهم ، وهي العلة في رفع أحكام التكليف عنهم .
والثالث : الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة ، وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق .
فإن قيل : هذا في الطلب ، وأما المباح فلا تكليف فيه ، قيل : متى صح تعلق التخيير ، صح تعلق الطلب ، وذلك يستلزم قصد المخير ، وقد فرضناه غير قاصد ، هذا خلف .
ولا يعترض هذا بتعلق الغرامات والزكاة بالأطفال ، والمجانين ، وغير ذلك ; لأن هذا من قبيل خطاب الوضع ، وكلامنا في خطاب التكليف ، ولا [ ص: 238 ] بالسكران ; لقوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] ; فإنه قد أجيب عنه في أصول الفقه ، ولأنه في عقوده وبيوعه محجور عليه لحق نفسه كما حجر على الصبي والمجنون ، وفي سواهما ، لما أدخل السكر على نفسه ; كان كالقاصد لرفع الأحكام التكليفية ; فعومل بنقيض المقصود ، أو لأن الشرب سبب لمفاسد كثيرة ، فصار استعماله له تسببا في تلك المفاسد ، فيؤاخذه الشرع بها ، وإن لم يقصدها كما وقعت مؤاخذة أحد ابني آدم بكل نفس تقتل ظلما ، وكما يؤاخذ الزاني بمقتضى المفسدة في اختلاط الأنساب ، وإن لم يقع منه غير الإيلاج المحرم ، ونظائر ذلك كثيرة ، فالأصل صحيح ، والاعتراض عليه غير وارد .
[ ص: 239 ] المسألة السابعة
المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعم من الاعتبار المتقدم ، وجدته خادما للواجب ; لأنه إما مقدمة له ، أو تكميل له ، أو تذكار به ، كان من جنس الواجب أولا .
فالذي من جنسه كنوافل الصلوات مع فرائضها ، ونوافل الصيام ، والصدقة ، والحج ، وغير ذلك مع فرائضها ، والذي من غير جنسه كطهارة الخبث في الجسد ، والثوب ، والمصلى ، والسواك ، وأخذ الزينة ، وغير ذلك مع الصلاة ، وكتعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، وكف اللسان عما لا يعني مع الصيام ، وما أشبه ذلك .
فإذا كان كذلك ; فهو لاحق بقسم الواجب بالكل ، وقلما يشذ عنه مندوب يكون مندوبا بالكل والجزء ، ويحتمل هذا المعنى تقريرا ، ولكن ما تقدم مغن عنه بحول الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (15)
صـ239 إلى صـ 259
فصل
المكروه إذا اعتبرته كذلك مع الممنوع ، كان كالمندوب مع الواجب ، وبعض الواجبات منه ما يكون مقصودا ، وهو أعظمها ، ومنه ما يكون وسيلة وخادما للمقصود ، كطهارة الحدث ، وستر العورة ، واستقبال القبلة ، والأذان للتعريف بالأوقات ، وإظهار شعائر الإسلام مع الصلاة ، فمن حيث كان وسيلة حكمه مع المقصود حكم المندوب مع الواجب ، يكون وجوبه بالجزء دون وجوبه بالكل ، وكذلك بعض الممنوعات ؛ منه ما يكون مقصودا ، ومنه ما يكون وسيلة له ، كالواجب حرفا بحرف ، فتأمل ذلك .
المسألة الثامنة
ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات أو المندوبات فإيقاعه في وقته لا تقصير فيه شرعا ، ولا عتب ، ولا ذم ، وإنما العتب والذم في إخراجه عن وقته ، سواء علينا أكان وقته مضيقا أو موسعا لأمرين :
أحدهما : أن حد الوقت إما أن يكون لمعنى قصده الشارع أو لغير معنى ، وباطل أن يكون لغير معنى ، فلم يبق إلا أن يكون لمعنى ، وذلك المعنى [ ص: 241 ] هو أن يوقع الفعل فيه ، فإذا وقع فيه فذلك مقصود الشارع من ذلك التوقيت ، وهو يقتضي قطعا موافقة الأمر في ذلك الفعل الواقع فيه ، فلو كان فيه عتب أو ذم ، للزم أن يكون لمخالفة قصد الشارع في إيقاعه في ذلك الوقت الذي وقع فيه العتب بسببه ، وقد فرضناه موافقا ، هذا خلف .
والثاني : أنه لو كان كذلك ; للزم أن يكون الجزء من الوقت الذي وقع فيه العتب ليس من الوقت المعين ، لأنا قد فرضنا الوقت المعين مخيرا في أجزائه إن كان موسعا ، والعتب مع التخيير متنافيان ، فلا بد أن يكون خارجا عنه ، وقد فرضناه جزءا من أجزائه ، هذا خلف محال ، وظهور هذا المعنى غير محتاج إلى دليل .
فإن قيل : قد ثبت أصل طلب المسارعة إلى الخيرات ، والمسابقة إليها ، وهو أصل قطعي ، وذلك لا يختص ببعض الأوقات دون بعض ، ولا ببعض الأحوال دون بعض ، وإذا كان السبق إلى الخيرات مطلوبا بلا بد ; فالمقصر عنه معدود في المقصرين ، والمفرطين ، ولا شك أن من كان هكذا ; فالتعب لاحق به في تفريطه وتقصيره ، فكيف يقال : لا عتب عليه ؟
ويدل على تحقيق هذا ما روي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه لما سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله قال : [ ص: 242 ] رضوان الله أحب إلينا من عفوه ; فإن رضوانه للمحسنين ، وعفوه عن المقصرين .
وفي مذهب مالك ما يدل على هذا أيضا ; فقد قال في المسافرين يقدمون [ ص: 243 ] الرجل لسنه يصلي بهم فيسفر بصلاة الصبح ، قال : " يصلي الرجل وحده في أول الوقت أحب إلي من أن يصلي بعد الإسفار في جماعة " فقدم كما ترى حكم المسابقة ، ولم يعتبر الجماعة التي هي سنة يعد من تركها مقصرا ; فأولى أن يعد من ترك المسابقة مقصرا .
وجاء عنه أيضا فيمن أفطر في رمضان لسفر أو مرض ، ثم قدم أو صح في غير شعبان من شهور القضاء ، فلم يصمه حتى مات ; فعليه الإطعام ، وجعله مفرطا ، كمن صح أو قدم في شعبان ; فلم يصمه حتى دخل رمضان الثاني ، مع أن القضاء ليس على الفور عنده .
قال اللخمي : جعله مترقبا ليس على الفور ، ولا على التراخي ، فإن قضى في شعبان مع القدرة عليه قبل شعبان فلا إطعام لأنه غير مفرط ، وإن مات قبل شعبان فمفرط ، وعليه الإطعام ، نحو قول الشافعية في الحج : إنه على التراخي ; فإن مات قبل الأداء كان آثما فهذا أيضا - رأي الشافعية - مضاد لمقتضى الأصل المذكور .
فأنت ترى أوقاتا معينة شرعا ; إما بالنص ، وإما بالاجتهاد ، ثم صار من قصر عن المسابقة فيها ملوما معاتبا ، بل آثما في بعضها ، وذلك مضاد لما [ ص: 244 ] تقدم .
فالجواب : أن أصل المسابقة إلى الخيرات لا ينكر ; غير أن ما عين له وقت معين من الزمان هل يقال : إن إيقاعه في وقته المعين له مسابقة ; فكيف يكون الأصل المذكور شاملا له ، أم يقال : ليس شاملا له ؟
والأول هو الجاري على مقتضى الدليل فيكون قوله عليه السلام حين سئل عن أفضل الأعمال فقال : الصلاة لأول وقتها يريد به وقت الاختيار مطلقا ، ويشير إليه أنه عليه السلام حين علم الأعرابي الأوقات صلى في أوائل الأوقات وأواخرها ، وحد ذلك حدا لا يتجاوز ، ولم ينبه فيه على تقصير ، وإنما نبه على التقصير والتفريط بالنسبة إلى ما بعد ذلك من أوقات الضرورات إذا صلى فيها من لا ضرورة له ; إذ قال : تلك صلاة المنافقين الحديث ; [ ص: 245 ] فبين أن وقت التفريط هو الوقت الذي تكون الشمس فيه بين قرني الشيطان .
فإنما ينبغي أن يخرج عن وصف المسابقة والمسارعة ، من خرج عن الإيقاع في ذلك الوقت المحدد ، وعند ذلك يسمى مفرطا ومقصرا وآثما أيضا عند بعض الناس ، وكذلك الواجبات الفورية .
وأما المقيدة بوقت العمر ; فإنها لما قيد آخرها بأمر مجهول ، كان ذلك علامة على طلب المبادرة والمسابقة في أول أزمنة الإمكان ; فإن العاقبة مغيبة ، فإذا عاش المكلف ما في مثله يؤدى ذلك المطلوب ، فلم يفعل مع سقوط الأعذار - عد ولا بد مفرطا ، وأثمه الشافعي ; لأن المبادرة هي المطلوب ، لا أنه على التحقيق مخير بين أول الوقت وآخره ; فإن آخره غير معلوم ، وإنما المعلوم منه ما في اليد الآن ، فليست هذه المسألة من أصلنا المذكور ; فلا تعود عليه بنقض .
وأيضا ; فلا ينكر استحباب المسابقة بالنسبة إلى الوقت المعين ، لكن بحيث لا يعد المؤخر عن أول الوقت الموسع مقصرا ، وإلا لم يكن الوقت على حكم التوسعة ، وهذا كما في الواجب المخير في خصال الكفارة ; فإن للمكلف الاختيار في الأشياء المخير فيها ، وإن كان الأجر فيها يتفاوت فيكون بعضها أكثر أجرا من بعض ، كما يقول بذلك مالك في الإطعام في كفارة رمضان مع وجود التخيير في الحديث ، وقول مالك به ، وكذلك العتق في كفارة الظهار أو القتل أو غيرهما ; هو مخير في أي الرقاب شاء ، مع أن الأفضل أعلاها ثمنا ، [ ص: 246 ] وأنفسها عند أهلها ، ولا يخرج بذلك التخيير عن بابه ، ولا يعد مختار غير الأعلى مقصرا ، ولا مفرطا ، وكذلك مختار الكسوة أو الإطعام في كفارة اليمين ، وما أشبه ذلك من المطلقات التي ليس للشارع قصد في تعيين بعض أفرادها مع حصول الفضل في الأعلى منها ، وكما أن الحج ماشيا أفضل ، ولا يعد الحاج راكبا مفرطا ، ولا مقصرا ، وكثرة الخطا إلى المساجد أفضل من قلتها ، ولا يعد من كان جار المسجد بقلة خطاه له مقصرا ، بل المقصر هو الذي قصر عما حد له ، وخرج عن مقتضى الأمر المتوجه إليه ، وليس في مسألتنا ذلك .
وأما حديث أبي بكر - رضي الله عنه - فلم يصح ، وإن فرضنا صحته فهو معارض بالأصل القطعي ، وإن سلم فمحمول على التأخير عن جميع الوقت المختار ، وإن سلم ; فأطلق لفظ التقصير على ترك الأولى من المسارعة إلى تضعيف الأجور ، لا أن المؤخر مخالف لمقتضى الأمر .
وأما مسائل مالك ; فلعل استحبابه لتقديم الصلاة ، وترك الجماعة - مراعاة للقول بأن للصبح وقت ضرورة ، وكان الإمام قد أخر إليه ، وما ذكر في إطعام التفريط في قضاء رمضان ، بناء على القول بالفور في القضاء - فلا يتعين فيها ما ذكر في السؤال ; فلا اعتراض بذلك ، وبالله التوفيق .
المسألة التاسعة
الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين - كانت من حقوق الله ; كالصلاة ، والصيام ، والحج ، أو من حقوق الآدميين كالديون ، والنفقات ، والنصيحة ، وإصلاح ذات البين ، وما أشبه ذلك - : أحدهما : حقوق محدودة شرعا .
[ ص: 247 ] والآخر حقوق غير محدودة .
فأما المحدودة المقدرة ; فلازمة لذمة المكلف مترتبة عليه دينا ، حتى يخرج عنها ، كأثمان المشتريات ، وقيم المتلفات ، ومقادير الزكوات ، وفرائض الصلوات ، وما أشبه ذلك ; فلا إشكال في أن مثل هذا مترتب في ذمته دينا عليه .
والدليل على ذلك التحديد والتقدير ; فإنه مشعر بالقصد إلى أداء ذلك المعين ، فإذا لم يؤده فالخطاب باق عليه ، ولا يسقط عنه إلا بدليل .
وأما غير المحدودة فلازمة له ، وهو مطلوب بها ، غير أنها لا تترتب في ذمته ؛ لأمور :
أحدها : أنها لو ترتبت في ذمته لكانت محدودة معلومة ; إذ المجهول لا يترتب في الذمة ، ولا يعقل نسبته إليها ، فلا يصح أن يترتب دينا ، وبهذا استدللنا على عدم الترتب ; لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار ، والتكليف بأداء ما لا يعرف له مقدار - تكليف بمتعذر الوقوع ، وهو ممتنع سمعا .
ومثاله : الصدقات المطلقة ، وسد الخلات ، ودفع حاجات المحتاجين ، وإغاثة الملهوفين ، وإنقاذ الغرقى ، والجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ويدخل تحته سائر فروض الكفايات .
[ ص: 248 ] فإذا قال الشارع : وأطعموا القانع والمعتر [ الحج : 36 ] أو قال : " اكسوا العاري " أو وأنفقوا في سبيل الله [ البقرة : 195 ] ; فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كل واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار ، فإذا تعينت حاجة تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها بالنظر لا بالنص ، فإذا تعين جائع فهو مأمور بإطعامه ، وسد خلته ، بمقتضى ذلك الإطلاق ; فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التي من أجلها أمر ابتداء ، والذي هو كاف يختلف باختلاف الساعات والحالات في ذلك المعين ; فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع ، فيحتاج إلى مقدار من الطعام ، فإذا تركه حتى أفرط عليه ; احتاج إلى أكثر منه ، وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا ، [ وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه ، فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به ] .
فإذا كان المكلف به يختلف باختلاف الأحوال والأزمان ، لم يستقر للترتيب في الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة ، وهذا معنى كونه مجهولا ، فلا يكون معلوما إلا في الوقت الحاضر بحسب النظر لا بمقتضى النص ، فإذا زال الوقت الحاضر صار في الثاني مكلفا بشيء آخر لا بالأول ، أو سقط عنه التكليف إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة .
والثاني : أنه لو ترتب في ذمته أمر ; لخرج إلى ما لا يعقل لأنه في كل وقت [ ص: 249 ] من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها ، فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا ، ثم لم يفعل فترتب في ذمته ، ثم جاء زمان ثان وهو على حاله أو أشد ، فإما أن يقال : إنه مكلف أيضا بسدها أولا ، والثاني باطل ; إذ ليس هذا الثاني بأولى بالسقوط من الأول ; لأنه إنما كلف لأجل سد الخلة فيرتفع التكليف ، والخلة باقية ، هذا محال ; فلا بد أن يترتب في الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت ، وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد - قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية ، وهذا غير معقول في الشرع .
والثالث : أن هذا يكون عينا أو كفاية ، وعلى كل تقدير يلزم إذا لم يقم به أحد أن يترتب إما في ذمة واحد غير معين ، وهو باطل لا يعقل ، وإما في ذمم جميع الخلق مقسطا ، فكذلك للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد ، أو غير مقسط ، فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب في ذمم مائة ألف رجل مائة ألف درهم ، وهو باطل كما تقدم .
والرابع : لو ترتب في ذمته لكان عبثا ، ولا عبث في التشريع ; فإنه إذا كان المقصود دفع الحاجة ; فعمران الذمة ينافي هذا المقصد ; إذ المقصود إزالة هذا العارض ، لا غرم قيمة العارض ، فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب ; كان عبثا غير صحيح .
لا يقال : إنه لازم في الزكاة المفروضة وأشباهها ; إذ المقصود بها سد [ ص: 250 ] الخلات ، وهي تترتب في الذمة .
لأنا نقول : نسلم أن المقصود ما ذكرت ، ولكن الحاجة التي تسد بالزكاة غير متعينة على الجملة ; ألا ترى أنها تؤدى اتفاقا وإن لم تظهر عين الحاجة ؟ فصارت كالحقوق الثابتة بمعاوضة أو هبة ، فللشرع قصد في تضمين المثل أو القيمة فيها ، بخلاف ما نحن فيه ; فإن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها ، ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره ، بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب ، فالمال غير مطلوب لنفسه فيها ، فلو ارتفع العارض بغير شيء لسقط الوجوب ، والزكاة ونحوها لا بد من بذلها ، وإن كان محلها غير مضطر إليها في الوقت ، ولذلك عينت ، وعلى هذا الترتيب في بذل المال للحاجة يجري حكم سائر أنواع هذا القسم .
فإن قيل : لو كان الجهل مانعا من الترتب في الذمة ، لكان مانعا من أصل التكليف أيضا ; لأن العلم بالمكلف به شرط في التكليف ; إذ التكليف بالمجهول تكليف بما لا يطاق فلو قيل لأحد : أنفق مقدارا لا تعرفه أو صل صلوات لا تدري كم هي أو انصح من لا تدريه ولا تميزه ، وما أشبه ذلك ، لكان تكليفا بما لا يطاق ; إذ لا يمكن العلم بالمكلف به أبدا إلا بوحي ، وإذا علم بالوحي ; صار معلوما لا مجهولا ، والتكليف بالمعلوم صحيح ، هذا خلف .
فالجواب : أن الجهل المانع من أصل التكليف هو المتعلق بمعين عند الشارع ; كما لو قال : أعتق رقبة ، وهو يريد الرقبة الفلانية من غير بيان ، فهذا [ ص: 251 ] هو الممتنع ، أما ما لم يتعين عند الشارع بحسب التكليف ؛ فالتكليف به صحيح ، كما صح في التخيير بين الخصال في الكفارة ; إذ ليس للشارع قصد في إحدى الخصال دون ما بقي ، فكذلك هنا إنما مقصود الشارع سد الخلات على الجملة ، فما لم يتعين فيه خلة فلا طلب ، فإذا تعينت وقع الطلب ، هذا هو المراد هنا ، وهو ممكن للمكلف مع نفي التعيين في مقدار ولا في غيره .
وهنا ضرب ثالث آخذ بشبه من الطرفين الأولين ; فلم يتمحض لأحدهما ، هو محل اجتهاد كالنفقة على الأقارب ، والزوجات ، ولأجل ما فيه من الشبه بالضربين ، اختلف الناس فيه : هل له ترتب في الذمة أم لا ؟ فإذا ترتب فلا يسقط بالإعسار ، فالضرب الأول لاحق بضروريات الدين ، ولذلك محض بالتقدير ، والتعيين ، والثاني لاحق بقاعدة التحسين ، والتزيين ، ولذلك وكل إلى اجتهاد المكلفين ، والثالث آخذ من الطرفين بسبب متين ; فلا بد فيه من النظر في كل واقعة على التعيين ، والله أعلم .
[ ص: 252 ] فصل
وربما انضبط الضربان الأولان بطلب العين والكفاية ; فإن حاصل الأول أنه طلب مقدر على كل عين من أعيان المكلفين ، وحاصل الثاني إقامة الأود العارض في الدين وأهله ; وإلا أن هذا الثاني قد يدخل فيه ما يظن أنه طلب عين ، ولكنه لا يصير طلبا متحتما في الغالب إلا عند كونه كفاية ; كالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وأما إذا لم يتحتم فهو مندوب ، وفروض الكفايات مندوبات على الأعيان فتأمل هذا الموضع ، وأما الضرب الثالث ; فآخذ شبها من الطرفين أيضا ; فلذلك اختلفوا في تفاصيله حسبما ذكره الفقهاء ، والله أعلم .
[ ص: 253 ] المسألة العاشرة
يصح أن يقع بين الحلال والحرام مرتبة العفو ، فلا يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة المذكورة هكذا على الجملة ، ومن الدليل على ذلك أوجه : أحدها : ما تقدم من أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين مع القصد إلى الفعل ، وأما دون ذلك فلا ، وإذا لم يتعلق بها حكم منها مع وجدانه ، ممن شأنه أن تتعلق به ، فهو معنى العفو المتكلم فيه ، أي : لا مؤاخذة به .
والثاني : ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص ، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها .
[ ص: 254 ] وقال ابن عباس : " ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض - صلى الله عليه وسلم - كلها في القرآن : ويسألونك عن المحيض [ البقرة : 222 ] .
ويسألونك عن اليتامى [ البقرة : 220 ] .
يسألونك عن الشهر الحرام [ البقرة : 217 ] .
ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم " .
يعني : أن هذا كان الغالب عليهم .
[ ص: 255 ] وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : " ما لم يذكر في القرآن ; فهو مما عفا الله عنه " ، وكان يسأل عن الشيء لم يحرم ; فيقول : عفو ، وقيل له : ما تقول في أموال أهل الذمة ، فقال : العفو ، [ يعني لا تؤخذ منهم زكاة ] .
وقال عبيد بن عمير : " أحل الله حلالا ، وحرم حراما ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو " .
والثالث : ما يدل على هذا المعنى في الجملة ; [ ص: 256 ] كقوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم الآية [ التوبة : 43 ] ; فإنه موضع اجتهاد في الإذن عند عدم النص .
وقد ثبت في الشريعة العفو عن الخطأ في الاجتهاد ، حسبما بسطه الأصوليون ، ومنه قوله تعالى : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ الأنفال : 68 ] .
وقد كان النبي عليه السلام يكره كثرة السؤال فيما لم ينزل فيه حكم ، بناء على حكم البراءة الأصلية ; إذ هي راجعة إلى هذا المعنى ، ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها ، وقد قال : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته .
وقال : ذروني ما تركتكم ; فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، ما نهيتكم عنه فانتهوا ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم .
[ ص: 257 ] وقرأ عليه السلام قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت الآية [ آل عمران : 97 ] ; فقال رجل : يا رسول الله أكل عام ، فأعرض ، ثم قال يا رسول الله أكل عام ، فأعرض ، ثم قال : يا رسول الله أكل عام ، فقال رسول الله : والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت ما قمتم بها ، ولو لم تقوموا بها لكفرتم ، فذروني ما تركتكم ، ثم ذكر معنى ما تقدم .
وفي مثل هذا نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية [ المائدة : 101 ] .
ثم قال : عفا الله عنها [ المائدة : 101 ] .
أي : عن تلك الأشياء ; فهي إذا عفو .
وقد كره عليه السلام المسائل ، وعابها ، ونهى عن كثرة السؤال ، وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب ، فذكر الساعة ، وذكر قبلها أمورا عظاما ، ثم قال : من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا ، قال أنس : فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك ، وأكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : سلوني ، فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : من أبي ؟ قال : أبوك حذافة ، فلما أكثر أن يقول سلوني ، برك عمر بن الخطاب على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال عمر ذلك [ ص: 258 ] فنزلت الآية ، وقال أولا : والذي نفسي بيده ; لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي ، فلم أر كاليوم في الخير والشر ، وظاهر من هذا المساق أن قوله : سلوني في معرض الغضب تنكيل بهم في السؤال حتى يروا عاقبة السؤال ، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى : إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] ، وقد ظهر من هذه الجملة ما يعفى عنه ، وهو ما نهي عن السؤال عنه .
فكون الحج لله هو مقتضى الآية كما أن كونه للعام الحاضر تقتضيه أيضا ; فلما سكت عن التكرار كان الذي ينبغي الحمل على أخف محتملاته ، وإن فرض أن الاحتمال الآخر مراد ، فهو مما يعفى عنه ، ومثل هذا قصة أصحاب البقرة لما شددوا بالسؤال ، - وكانوا متمكنين من ذبح أي بقرة شاءوا - ; شدد عليهم حتى ذبحوها ، وما كادوا يفعلون [ البقرة : 71 ] .
[ ص: 259 ] فهذا كله واضح في أن من أفعال المكلفين ما لا يحسن السؤال عنه ، وعن حكمه ، ويلزم من ذلك أن يكون معفوا عنه ، فقد ثبت أن مرتبة العفو ثابتة ، وأنها ليست من الأحكام الخمسة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (16)
صـ260 إلى صـ 277
فصل
ويظهر هذا المعنى في مواضع من الشريعة ، منها ما يكون متفقا عليه - ومنها ما يختلف فيه .
- فمنها : الخطأ والنسيان ; فإنه متفق على عدم المؤاخذة به ، فكل فعل صدر عن غافل أو ناس أو مخطئ فهو مما عفي عنه ، وسواء علينا أفرضنا تلك الأفعال مأمورا بها أو منهيا عنها أم لا ; لأنها إن لم تكن منهيا عنها ، ولا مأمورا بها ، ولا مخيرا فيها - فقد رجعت إلى قسم ما لا حكم له في الشرع ، وهو معنى العفو ، وإن تعلق بها الأمر والنهي ؛ فمن شرط المؤاخذة به ذكر الأمر والنهي ، والقدرة على الامتثال ، وذلك في المخطئ والناسي والغافل محال ، ومثل ذلك النائم ، والمجنون ، والحائض ، وأشباه ذلك .
- ومنها : الخطأ في الاجتهاد ، وهو راجع إلى الأول ، وقد جاء [ ص: 260 ] في القرآن عفا الله عنك لم أذنت لهم [ التوبة : 43 ] .
وقال لولا كتاب من الله سبق الآية [ الأنفال : 68 ] .
- ومنها : الإكراه ، كان مما يتفق عليه أو مما يختلف فيه ، إذا قلنا بجوازه فهو راجع إلى العفو ، كان الأمر والنهي باقيين عليه أو لا ; فإن حاصل ذلك أن تركه لما ترك ، وفعله لما فعل - لا حرج عليه فيه .
- ومنها : الرخص كلها على اختلافها ; فإن النصوص دلت على ذلك ؛ حيث نص على رفع الجناح ، ورفع الحرج ، وحصول المغفرة ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الرخصة مباحة أو مطلوبة ; لأنها إن كانت مباحة فلا إشكال ، وإن كانت مطلوبة فيلزمها العفو عن نقيض المطلوب ، فأكل الميتة إذا قلنا بإيجابه فلابد أن يكون نقيضه ، وهو الترك ، معفوا عنه ، وإلا لزم اجتماع النقيضين في التكليف بهما ، وهو محال ، ومرفوع عن الأمة .
- ومنها : الترجيح بين الدليلين عند تعارضهما ، ولم يمكن الجمع ، فإذا ترجح أحد الدليلين كان مقتضى المرجوح في حكم العفو ; لأنه إن لم يكن كذلك لم يمكن الترجيح ، فيؤدي إلى رفع أصله ، وهو ثابت بالإجماع ، ولأنه يؤدي إلى الخطاب بالنقيضين ، وهو باطل ، وسواء علينا أقلنا ببقاء الاقتضاء في الدليل المرجوح ، وإنه في حكم الثابت ، أم قلنا : إنه في حكم العدم ؛ لا فرق بينهما في لزوم العفو .
- ومنها : العمل على مخالفة دليل لم يبلغه أو على موافقة دليل بلغه ، وهو في نفس الأمر منسوخ أو غير صحيح ; لأن الحجة لم تقم عليه بعد ; إذ لا [ ص: 261 ] بد من بلوغ الدليل إليه ، وعلمه به ، وحينئذ تحصل المؤاخذة به ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق .
- ومنها : الترجيح بين الخطابين عند تزاحمهما ، ولم يمكن الجمع بينهما ، لا بد من حصول العفو بالنسبة إلى المؤخر حتى يحصل المقدم ; لأنه الممكن في التكليف بهما ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ، وهو مرفوع شرعا .
- ومنها : ما سكت عنه فهو عفو ; لأنه إذا كان مسكوتا عنه مع وجود مظنته ، فهو دليل على العفو فيه ، وما تقدم من الأمثلة في الأدلة السابقة فهو مما يصح التمثيل به ، والله أعلم .
فصل
ولمانع مرتبة العفو أن يستدرك عليه بأوجه : أحدها : أن أفعال المكلفين من حيث هم مكلفون ; إما أن تكون بجملتها داخلة تحت خطاب التكليف ، وهو الاقتضاء أو التخيير ، أو لا تكون بجملتها داخلة ; فإن كانت بجملتها داخلة ، فلا زائد على الأحكام الخمسة ، وهو المطلوب ، وإن لم تكن داخلة بجملتها لزم أن يكون بعض المكلفين خارجا عن حكم خطاب التكليف ، ولو في وقت أو حالة ما ، لكن ذلك باطل ؛ لأنا فرضناه مكلفا ; فلا يصح خروجه ، فلا زائد على الأحكام الخمسة .
والثاني : أن هذا الزائد إما أن يكون حكما شرعيا أو لا ; فإن لم يكن حكما شرعيا فلا اعتبار به .
[ ص: 262 ] والذي يدل على أنه ليس حكما شرعيا أنه مسمى بالعفو ، والعفو إنما يتوجه حيث يتوقع للمكلف حكم المخالفة لأمر أو نهي ، وذلك يستلزم كون المكلف به قد سبق حكمه ، فلا يصح أن يتوارد عليه حكم آخر لتضاد الأحكام .
وأيضا ; فإن العفو إنما هو حكم أخروي لا دنيوي ، وكلامنا في الأحكام المتوجهة في الدنيا .
وأما إن كان العفو حكما شرعيا ; فإما من خطاب التكليف ، أو من خطاب الوضع ، وأنواع خطاب التكليف محصورة في الخمسة ، وأنواع خطاب الوضع محصورة أيضا في الخمسة التي ذكرها الأصوليون ، وهذا ليس منها ، فكان لغوا .
والثالث : أن هذا الزائد إن كان راجعا إلى المسألة الأصولية ، وهي أن يقال : هل يصح أن يخلو بعض الوقائع عن حكم الله أم لا ، فالمسألة مختلف فيها ، فليس إثباتها أولى من نفيها إلا بدليل ، والأدلة فيها متعارضة ، فلا يصح إثباتها إلا بالدليل السالم عن المعارض ودعواه .
وأيضا ; إن كانت اجتهادية فالظاهر نفيها بالأدلة المذكورة في كتب الأصول ، وإن لم تكن راجعة إلى تلك المسألة فليست بمفهومة ، وما تقدم من الأدلة على إثبات مرتبة العفو لا دليل فيه ، فالأدلة النقلية غير مقتضية للخروج عن الأحكام الخمسة ; لإمكان الجمع بينهما ، ولأن العفو أخروي .
وأيضا ; فإن سلم للعفو ثبوت ، ففي زمانه عليه السلام لا في غيره ، ولإمكان تأويل تلك الظواهر ، وما ذكر من أنواعه فداخلة أيضا تحت الخمسة ; [ ص: 263 ] فإن العفو فيها راجع إلى رفع حكم الخطأ ، والنسيان ، والإكراه ، والحرج ، وذلك يقتضي إما الجواز بمعنى الإباحة ، وإما رفع ما يترتب على المخالفة من الذم وتسبيب العقاب ، وذلك يقتضي إثبات الأمر والنهي مع رفع آثارهما لمعارض ، فارتفع الحكم بمرتبة العفو ، وأن يكون أمرا زائدا على الخمسة ، وفي هذا المجال أبحاث أخر .
فصل
وللنظر في ضوابط ما يدخل تحت العفو - إن قيل - به نظر ; فإن الاقتصار به على محال النصوص نزغة ظاهرية ، والانحلال في اعتبار ذلك على الإطلاق خرق لا يرقع ، والاقتصار فيه على بعض المحال دون بعض تحكم يأباه المعقول والمنقول ، فلا بد من وجه يقصد نحوه في المسألة حتى تتبين بحول الله ، والقول في ذلك ينحصر في ثلاثة أنواع : أحدها : الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض قصد نحوه وإن قوي معارضه .
والثاني : الخروج عن مقتضاه عن غير قصد أو عن قصد ، لكن بالتأويل .
والثالث : العمل بما هو مسكوت عن حكمه رأسا .
فأما الأول : فيدخل تحته العمل بالعزيمة ، وإن توجه حكم الرخصة ظاهرا ; فإن العزيمة لما توخيت على ظاهر العموم أو الإطلاق ؛ كان الواقف معها واقفا على دليل مثله معتمد على الجملة ، وكذلك العمل بالرخصة ، وإن [ ص: 264 ] توجه حكم العزيمة ; فإن الرخصة مستمدة من قاعدة رفع الحرج ، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف ، وكلاهما أصل كلي ، فالرجوع إلى حكم الرخصة وقوف مع ما مثله معتمد .
لكن لما كان أصل رفع الحرج واردا على أصل التكليف ورود المكمل ، ترجح جانب أصل العزيمة بوجه ما ، غير أنه لا يخرم أصل الرجوع ; لأن بذلك المكمل قيام أصل التكليف .
وقد اعتبر في مذهب مالك هذا ، ففيه : إن سافر في رمضان أقل من أربعة برد ، فظن أن الفطر مباح به فأفطر ، فلا كفارة عليه ، وكذلك من أفطر فيه بتأويل ، وإن كان أصله غير علمي ، بل هذا جار في كل متأول ; كشارب المسكر ظانا أنه غير مسكر ، وقاتل المسلم ظانا أنه كافر ، وآكل المال الحرام عليه ظانا أنه حلال له ، والمتطهر بماء نجس ظانا أنه طاهر ، وأشباه ذلك ، ومثله المجتهد المخطئ في اجتهاده .
وقد خرج أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه جاء يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فسمعه يقول : اجلسوا ، فجلس بباب المسجد ، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : تعال يا عبد الله بن مسعود . فظاهر من هذا أنه رأى الوقوف [ ص: 265 ] مع مجرد الأمر ، وإن قصد غيره ، مسارعة إلى امتثال أوامره .
وسمع عبد الله بن رواحة وهو بالطريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يقول : اجلسوا ، فجلس في الطريق ، فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما شأنك . فقال : سمعتك تقول : اجلسوا ، فجلست . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - زادك الله طاعة ، [ ص: 266 ] وظاهر هذه القصة أنه لم يقصد بالأمر بالجلوس ، ولكنه لما سمع ذلك سارع إلى امتثاله ، ولذلك سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رآه جالسا في غير موضع جلوس .
وقد قال عليه السلام : لا يصل أحد العصر إلا في بني قريظة ، فأدركهم وقت العصر في الطريق فقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم : بل نصلي ، ولم يرد منا ذلك . فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحدة من الطائفتين .
ويدخل هاهنا كل قضاء قضى به القاضي من مسائل الاجتهاد ، ثم يتبين له خطؤه ما لم يكن قد أخطأ نصا أو إجماعا أو بعض القواطع ، وكذلك الترجيح بين الدليلين ; فإنه وقوف مع أحدهما وإهمال للآخر ، فإذا فرض مهملا للراجح فذلك لأجل وقوفه مع المرجوح ، وهو في الظاهر دليل يعتمد مثله ، وكذلك العمل بدليل منسوخ أو غير صحيح ; فإنه وقوف مع ظاهر دليل يعتمد [ ص: 267 ] مثله في الجملة ، فهذه وأمثالها مما يدخل تحت معنى العفو المذكور .
وإنما قلنا : " الوقوف مع مقتضى الدليل المعارض " ، فشرط فيه المعارضة لأنه إن كان غير معارض لم يدخل تحت العفو ، لأنه أمر أو نهي أو تخيير عمل على وفقه ، فلا عتب يتوهم فيه ، ولا مؤاخذة تلزمه بحكم الظاهر ، فلا موقع للعفو فيه .
وإنما قيل : " وإن قوي معارضه " لأنه إن لم يقو معارضه لم يكن من هذا النوع ، بل من النوع الذي يليه على إثر هذا ; فإنه ترك لدليل ، وهنا وإن كان إعمالا لدليل أيضا ; فأعماله من حيث هو أقوى عند الناظر أو في نفس الأمر ، كإعمال الدليل غير المعارض ; فلا عفو فيه .
وأما النوع الثاني ، وهو الخروج عن مقتضى الدليل عن غير قصد أو عن قصد ، لكن بالتأويل ، فمنه الرجل يعمل عملا على اعتقاد إباحته ; لأنه لم يبلغه دليل تحريمه أو كراهيته ، أو يتركه معتقدا إباحته إذا لم يبلغه دليل وجوبه أو ندبه ، كقريب العهد بالإسلام لا يعلم أن الخمر محرمة فيشربها ، أو لا يعلم [ ص: 268 ] أن غسل الجنابة واجب ، فيتركه ، وكما اتفق في الزمان الأول حين لم تعلم الأنصار طلب الغسل من التقاء الختانين ، ومثل هذا كثير يتبين للمجتهدين ، وقد روي عن مالك أنه كان لا يرى تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ، ويراه من التعمق ، حتى بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل ; فرجع إلى القول به ، وكما اتفق لأبي يوسف مع مالك في المد والصاع ، حتى رجع إلى القول بذلك .
ومن ذلك العمل على المخالفة خطأ أو نسيانا ، ومما يروى من الحديث : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ; فإن صح [ ص: 269 ] فذلك ، وإلا فالمعنى متفق عليه .
ومما يجري مجرى الخطأ والنسيان في أنه من غير قصد ، وإن وجد القصد - الإكراه المضمن في الحديث ، وأبين من هذا العفو عن عثرات ذوي الهيئات ; فإنه ثبت في الشرع إقالتهم في الزلات ، وأن لا يعاملوا بسببها معاملة غيرهم ، جاء في الحديث : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ، وفي حديث آخر : تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة والصلاح ، وروي العمل بذلك عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ; فإنه قضى به في رجل من آل عمر بن الخطاب شج رجلا ، وضربه فأرسله ; وقال : أنت من ذوي الهيئات .
وفي خبر آخر : عن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال : استأدى علي مولى لي جرحته يقال : له سلام البربري إلى ابن حزم فأتاني فقال : جرحته ؟ قلت : نعم . قال : سمعت خالتي عمرة تقول : [ ص: 270 ] قالت عائشة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم فخلى [ ص: 271 ] سبيله ، ولم يعاقبه .
وهذا أيضا من شئون رب العزة سبحانه ; فإنه قال : " ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " الآية [ النجم : 31 - 32 ] ، لكنها أحكام أخروية ، وكلامنا في الأحكام الدنيوية .
ويقرب من هذا المعنى درء الحدود بالشبهات ; فإن الدليل يقوم هنالك مفيدا للظن في إقامة الحد ، ومع ذلك فإذا عارضه شبهة وإن ضعفت ، غلب [ ص: 272 ] حكمها ، ودخل صاحبها في حكم العفو ، وقد يعد هذا المجال مما خولف فيه الدليل بالتأويل ، وهو من هذا النوع أيضا ، ومثال مخالفته بالتأويل مع المعرفة بالدليل ، ما وقع في الحديث في تفسير قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية [ المائدة : 93 ] عن قدامة بن مظعون حين قال لعمر بن الخطاب : إن كنت شربتها فليس لك أن تجلدني ، قال عمر : ولم ؟ قال : لأن الله يقول : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية [ المائدة : 93 ] . فقال عمر : إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله .
قال القاضي إسماعيل : وكأنه أراد أن هذه الحالة تكفر ما كان من شربه ; لأنه كان ممن اتقى وآمن وعمل الصالحات ، وأخطأ في التأويل ، بخلاف من استحلها ; كما في حديث علي - رضي الله عنه - ، ولم يأت في حديث قدامة أنه حد .
[ ص: 273 ] ومما وقع في المذهب في المستحاضة تترك الصلاة زمانا جاهلة بالعمل - أنه لا قضاء عليها فيما تركت ، قال في مختصر ما ليس في المختصر : لو طال بالمستحاضة والنفساء الدم فلم تصل النفساء ثلاثة أشهر ، ولا المستحاضة شهرا ، لم يقضيا ما مضى إذا تأولنا في ترك الصلاة دوام ما بهما من الدم ، وقيل في المستحاضة : إذا تركت بعد أيام أقرائها يسيرا أعادته ، وإن كان كثيرا فليس عليها قضاؤه بالواجب ، وفي سماع أبي زيد عن مالك : أنها إذا تركت الصلاة بعد الاستظهار جاهلة ، لا تقضي صلاة تلك الأيام ، واستحب ابن القاسم لها القضاء ; فهذا كله مخالفة للدليل مع الجهل والتأويل ; فجعلوه من قبيل العفو ، ومن ذلك أيضا المسافر يقدم قبل الفجر ، فيظن أن من لم يدخل قبل غروب الشمس فلا صوم له ، أو تطهر الحائض قبل طلوع الفجر ; فتظن أنه لا يصح صومها حتى تطهر قبل الغروب ، فلا كفارة هنا ، وإن خالف الدليل لأنه متأول ، وإسقاط الكفارة هو معنى العفو .
وأما النوع الثالث ، وهو العمل بما هو مسكوت عن حكمه ففيه نظر ، فإن خلو بعض الوقائع عن حكم لله - مما اختلف فيه ، فأما على القول بصحة [ ص: 274 ] الخلو ، فيتوجه النظر ، وهو مقتضى الحديث وما سكت عنه فهو عفو ، وأشباهه مما تقدم .
وأما على القول الآخر فيشكل الحديث ; إذ ليس ثم مسكوت عنه بحال ، بل هو إما منصوص ، وإما مقيس على منصوص ، والقياس من جملة الأدلة الشرعية ، فلا نازلة إلا ولها في الشريعة محل حكم ; فانتفى المسكوت عنه إذا ، ويمكن أن يصرف السكوت على هذا القول إلى ترك الاستفصال مع وجود مظنته ، وإلى السكوت عن مجاري العادات مع استصحابها في الوقائع ، وإلى السكوت عن أعمال أخذت قبل من شريعة إبراهيم عليه السلام .
فالأول : كما في قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [ المائدة : 5 ] ، فإن هذا العموم يتناول بظاهره ما ذبحوا لأعيادهم ، وكنائسهم ، وإذا نظر إلى المعنى [ أشكل ] ، لأن في ذبائح الأعياد زيادة تنافي أحكام الإسلام فكان للنظر هنا مجال ، ولكن مكحولا سئل عن المسألة فقال : كله ، قد علم الله ما يقولون ، وأحل ذبائحهم ، يريد - والله أعلم - أن الآية لم يخص عمومها ، وإن وجد هذا الخاص المنافي . وعلم الله مقتضاه ، ودخوله تحت عموم [ ص: 275 ] اللفظ ، ومع ذلك فأحل ما ليس فيه عارض وما هو فيه ، لكن بحكم العفو عن وجه المنافاة .
وإلى نحو هذا يشير قوله عليه السلام : وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان ، فلا تبحثوا عنها ، وحديث الحج أيضا مثل هذا ، حين قال : أحجنا هذا لعامنا أو للأبد ؟ لأن اعتبار اللفظ يعطي أنه للأبد ، فكره عليه السلام سؤاله ، وبين له علة ترك السؤال عن مثله ، وكذلك حديث : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما . . . إلخ ، يشير إلى هذا المعنى ; فإن السؤال عما لم يحرم ، ثم يحرم لأجل المسألة إنما يأتي في الغالب من جهة إبداء وجه فيه يقتضي التحريم ، مع أن له أصلا يرجع إليه في الحلية ، وإن اختلفت فروعه في أنفسها ، أو دخلها معنى يخيل الخروج عن حكم ذلك الأصل ، ونحو حديث : ذروني ما تركتكم ، وأشباه ذلك .
والثاني : كما في الأشياء التي كانت في أول الإسلام على حكم الإقرار ، ثم حرمت بعد ذلك بتدريج كالخمر ; فإنها كانت معتادة الاستعمال في الجاهلية ، ثم جاء الإسلام فتركت على حالها قبل الهجرة ، وزمانا بعد ذلك ، [ ص: 276 ] ولم يتعرض في الشرع للنص على حكمها حتى نزل : يسألونك عن الخمر والميسر [ البقرة : 219 ] ; فبين ما فيها من المنافع ، والمضار ، وأن الأضرار فيها أكبر من المنافع ، وترك الحكم الذي اقتضته المصلحة ـ وهو التحريم ـ لأن القاعدة الشرعية أن المفسدة إذا أربت على المصلحة فالحكم للمفسدة ، والمفاسد ممنوعة ، فبان وجه المنع فيهما ، غير أنه لما لم ينص على المنع ـ وإن ظهر وجهه ـ تمسكوا بالبقاء مع الأصل الثابت لهم بمجاري العادات ، ودخل لهم تحت العفو إلى أن نزل ما في سورة المائدة من قوله تعالى : فاجتنبوه ; فحينئذ استقر حكم التحريم ، وارتفع العفو ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية [ المائدة : 93 ] ; فإنه لما حرمت قالوا : كيف بمن مات ، وهو يشربها فنزلت الآية ، فرفع الجناح هو معنى العفو .
ومثال ذلك الربا المعمول به في الجاهلية وفي أول الإسلام ، وكذلك بيوع الغرر الجارية بينهم ، كبيع المضامين ، والملاقيح ، والثمر قبل بدو صلاحه ، وأشباه ذلك كلها كانت مسكوتا عنها ، وما سكت عنه ، فهو في معنى [ ص: 277 ] العفو ، والنسخ بعد ذلك لا يرفع هذا المعنى لوجود جملة منه باقية إلى الآن على حكم إقرار الإسلام كالقراض ، والحكم في الخنثى بالنسبة إلى الميراث ، وغيره ، وما أشبه ذلك مما نبه عليه العلماء .
والثالث : كما في النكاح والطلاق والحج والعمرة وسائر أفعالهما إلا ما غيروا ، فقد كانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام فيفرقون بين النكاح والسفاح ويطلقون ، ويطوفون بالبيت أسبوعا ، ويمسحون الحجر الأسود ، ويسعون بين الصفا والمروة ويلبون ، ويقفون بعرفات ، ويأتون مزدلفة ويرمون الجمار ، ويعظمون الأشهر الحرم ، ويحرمونها ، ويغتسلون من الجنابة ، ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ، ويصلون عليهم ، ويقطعون السارق ويصلبون قاطع الطريق إلى غير ذلك مما كان فيهم من بقايا ملة أبيهم إبراهيم ; فكانوا على ذلك إلى أن جاء الإسلام فبقوا على حكمه حتى أحكم الإسلام منه ما أحكم وانتسخ ما خالفه فدخل ما كان قبل ذلك في حكم العفو مما لم يتجدد فيه خطاب زيادة على التلقي من الأعمال المتقدمة ، وقد نسخ منها ما نسخ ، وأبقي منها ما أبقي على المعهود الأول .
فقد ظهر بهذا البسط مواقع العفو في الشريعة ، وانضبطت . ـ والحمد لله ـ على أقرب ما يكون ، إعمالا لأدلته الدالة على ثبوته ، إلا أنه بقي النظر في العفو هل هو حكم أم لا ؟ ، وإذا قيل : حكم ; فهل يرجع إلى خطاب التكليف أم إلى خطاب الوضع ؟ هذا محتمل كله ، ولكن لما لم يكن مما ينبني عليه حكم عملي ، لم يتأكد البيان فيه ، فكان الأولى تركه . والله الموفق للصواب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (17)
صـ278 إلى صـ 287
المسألة الحادية عشرة
طلب الكفاية يقول العلماء بالأصول أنه متوجه على الجميع ، لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين ، وما قالوه صحيح من جهة كلي الطلب ، وأما من جهة جزئيه ففيه تفصيل ، وينقسم أقساما ، وربما تشعب تشعبا طويلا ، ولكن الضابط للجملة من ذلك أن الطلب وارد على البعض ، ولا على البعض كيف كان ، ولكن على من فيه أهلية القيام بذلك الفعل المطلوب لا على الجميع عموما .
والدليل على ذلك أمور :
أحدها : النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة الآية [ التوبة : 122 ] ; فورد التحضيض على طائفة لا على الجميع .
وقوله : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف الآية [ آل عمران : 104 ] .
[ ص: 279 ] وقوله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم [ النساء : 102 ] الآية إلى آخرها .
وفي القرآن من هذا النحو أشياء كثيرة ، ورد الطلب فيها نصا على البعض لا على الجميع .
والثاني : ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذا المعنى كالإمامة الكبرى أو الصغرى ; فإنهما إنما تتعين على من فيه أوصافها المرعية لا على كل الناس ، وسائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها ، والغناء فيها ، وكذلك الجهاد ـ حيث يكون فرض كفاية ـ إنما [ ص: 280 ] يتعين القيام به على من فيه نجدة وشجاعة ، وما أشبه ذلك من الخطط الشرعية ; إذ لا يصح أن يطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد ; فإنه من باب تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف ، ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة ، وكلاهما باطل شرعا .
والثالث : ما وقع من فتاوى العلماء ، وما وقع أيضا في الشريعة من هذا المعنى ، فمن ذلك ما روي عن محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد قال لأبي ذر يا أبا ذر : إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم ، وكلا الأمرين من فروض الكفاية ، ومع ذلك ; فقد نهاه عنها ، فلو فرض إهمال الناس لهما ; لم يصح أن يقال بدخول أبي ذر في حرج [ ص: 281 ] الإهمال ، ولا من كان مثله .
وفي الحديث : لا تسأل الإمارة ، وهذا النهي يقتضي أنها غير عامة الوجوب ، ونهى أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بعض الناس عن الإمارة ، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ ، وليها أبو بكر فجاءه الرجل فقال : نهيتني عن الإمارة ، ثم وليت فقال له : " وأنا الآن أنهاك عنها " ، واعتذر له عن ولايته هو بأنه لم يجد من ذلك بدا .
وروي أن تميما الداري استأذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما ـ في أن يقص ; فمنعه من ذلك ، وهو من مطلوبات الكفاية ـ أعني : هذا النوع من [ ص: 282 ] القصص الذي طلبه تميم ـ رضي الله عنه ـ ، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ .
وعلى هذا المهيع جرى العلماء في تقرير كثير من فروض الكفايات ; فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم : أفرض هو ؟ فقال : " أما على كل الناس فلا " يعني به الزائد على الفرض العيني ، وقال أيضا : " أما من كان فيه موضع للإمامة ; فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب ، والأخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه " فقسم كما ترى ، فجعل من فيه قبولية للإمامة مما يتعين عليه ، ومن لا جعله مندوبا إليه ، وفي ذلك بيان أنه ليس على كل [ ص: 283 ] الناس ، وقال سحنون : " من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم ; ففرض عليه أن يطلبها ؛ لقوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [ آل عمران : 104 ] ، ومن لا يعرف المعروف كيف يأمر به ؟ أو لا يعرف المنكر كيف ينهى عنه ؟ " .
وبالجملة فالأمر في هذا المعنى واضح ، وباقي البحث في المسألة موكول إلى علم الأصول .
لكن قد يصح أن يقال : إنه واجب على الجميع على وجه من التجوز ; لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة ، فهم مطلوبون بسدها على الجملة ، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة ، وذلك من كان أهلا لها ، والباقون [ ص: 284 ] وإن لم يقدروا عليها ـ قادرون على إقامة القادرين ، فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب بإقامتها ، ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر ، وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها ، فالقادر إذا مطلوب بإقامة الفرض ، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر ; إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة ، من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، وبهذا الوجه يرتفع مناط الخلاف فلا يبقى للمخالفة وجه ظاهر .
فصل
ولا بد من بيان بعض تفاصيل هذه الجملة ليظهر وجهها ، وتتبين صحتها بحول الله .
وذلك أن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ألا ترى إلى قول الله تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا [ النحل : 78 ] ، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية ، تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدي ومصه ، وتارة بالتعليم ; فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع ما يستجلب به المصالح ، وكافة ما تدرأ به المفاسد إنهاضا لما جبل فيهم من تلك الغرائز الفطرية ، والمطالب الإلهامية ; لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح ـ كان ذلك من قبيل الأفعال أو الأقوال أو العلوم ، والاعتقادات أو الآداب الشرعية أو العادية ـ وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه ، وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال ، فيظهر فيه وعليه ، ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ [ ص: 285 ] تلك التهيئة ، فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم على ظاهره ما فطر عليه في أوليته ، فترى واحدا قد تهيأ لطلب العلم ، وآخر لطلب الرياسة ، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها ، وآخر للصراع ، والنطاح إلى سائر الأمور .
هذا وإن كان كل واحد قد غرز فيه التصرف الكلي ، فلا بد في غالب العادة من غلبة البعض عليه ، فيرد التكليف عليه معلما مؤدبا في حالته التي هو عليها ، فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه ، ويتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات فيراعونهم بحسبها ، ويراعونها [ إلى ] أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم ، ويعينونهم على القيام بها ، ويحرضونهم على الدوام فيها حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط ، ثم يخلى بينهم وبين أهلها ، فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها ، إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية والمدركات الضرورية ، فعند ذلك يحصل الانتفاع وتظهر نتيجة تلك التربية .
فإذا فرض ـ مثلا ـ واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك وجودة فهم ووفور حفظ لما يسمع ـ وإن كان مشاركا في غير ذلك من الأوصاف ـ ميل به نحو ذلك القصد ، وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة ; مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم ، فطلب بالتعلم وأدب بالآداب المشتركة بجميع العلوم ، ولا بد أن يمال منها إلى بعض فيؤخذ به ويعان عليه ، ولكن على الترتيب الذي نص عليه ربانيو العلماء ، فإذا دخل في ذلك البعض فمال [ ص: 286 ] به طبعه إليه على الخصوص ، وأحبه أكثر من غيره ، ترك وما أحب ، وخص بأهله ، فوجب عليهم إنهاضه فيه حتى يأخذ منه ما قدر له ، من غير إهمال له ولا ترك لمراعاته ، ثم إن وقف هنالك فحسن ، وإن طلب الأخذ في غيره أو طلب به ; فعل معه فيه ما فعل فيما قبله ، وهكذا إلى أن ينتهي .
كما لو بدأ بعلم العربية مثلا ـ فإنه الأحق بالتقديم ـ فإنه يصرف إلى معلميها فصار من رعيتهم ، وصاروا هم رعاة له ، فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما يليق به وبهم ; فإن انتهض عزمه بعد إلى أن صار يحذق القرآن صار من رعيتهم ، وصاروا هم رعاة له كذلك ، ومثله إن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر ما يتعلق بالشريعة من العلوم ، وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الإقدام والشجاعة وتدبير الأمور فيمال به نحو ذلك ، ويعلم آدابه المشتركة ، ثم يصار به إلى ما هو الأولى فالأولى من صنائع التدبير كالعرافة أو النقابة أو الجندية أو الهداية أو الإمامة أو غير ذلك مما يليق به ، وما ظهر له فيه نجابة ونهوض ، وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم ; لأنه سير أولا في طريق مشترك ، فحيث وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة ، وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية ، وفي التي يندر من يصل إليها كالاجتهاد في الشريعة والإمارة ; فبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة .
فأنت ترى أن الترقي في طلب الكفاية ليس على ترتيب واحد ولا هو على الكافة بإطلاق ، ولا على البعض بإطلاق ، ولا هو مطلوب من حيث المقاصد دون الوسائل ، ولا بالعكس ، بل لا يصح أن ينظر فيه نظر واحد حتى يفصل بنحو من هذا التفصيل ، ويوزع في أهل الإسلام بمثل هذا التوزيع [ ص: 287 ] وإلا لم ينضبط القول فيه بوجه من الوجوه . والله أعلم وأحكم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (18)
صـ288 إلى صـ 287
المسألة الثانية عشرة
ما أصله الإباحة للحاجة أو الضرورة إلا أنه يتجاذبه العوارض المضادة لأصل الإباحة وقوعا أو توقعا ، هل يكر على أصل الإباحة بالنقض أولا ; هذا محل نظر وإشكال ، والقول فيه أنه لا يخلو إما أن يضطر إلى ذلك المباح أم لا ، وإذا لم يضطر إليه فإما أن يلحقه بتركه حرج أم لا .
فهذه أقسام ثلاثة : أحدها : أن يضطر إلى فعل ذلك المباح ; فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل ، وعدم اعتبار ذلك العارض لأوجه : ـ
منها : أن ذلك المباح قد صار واجب الفعل ، ولم يبق على أصله من الإباحة ، وإذا صار واجبا لم يعارضه إلا ما هو مثله في الطرف الآخر أو أقوى منه ، وليس فرض المسألة هكذا ; فلم يبق إلا أن يكون طرف الواجب أقوى ; فلا بد من الرجوع إليه ، وذلك يستلزم عدم معارضة الطوارئ .
[ ص: 288 ] والثاني : أن محال الاضطرار مغتفرة في الشرع ، أعني أن إقامة الضرورة معتبرة ، وما يطرأ عليه من عارضات المفاسد مغتفر في جنب المصلحة المجتلبة ، كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك ، في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة ، وكذلك النطق بكلمة الكفر أو الكذب حفظا للنفس أو المال حالة الإكراه ، فما نحن فيه من ذلك النوع فلا بد فيه من عدم اعتبار العارض للمصلحة الضرورية .
والثالث : أنا لو اعتبرنا العوارض ، ولم نغتفرها لأدى ذلك إلى رفع الإباحة رأسا ، وذلك غير صحيح ـ كما سيأتي في كتاب المقاصد : من أن المكمل إذا عاد على الأصل بالنقض سقط اعتباره ـ واعتبار العوارض هنا إنما هي من ذلك الباب ; فإن البيع والشراء حلال في الأصل ، فإذا اضطر إليه وقد عارضه موانع في طريقه ، ففقد الموانع من المكملات كاستجماع الشرائط ، وإذا اعتبرت أدى إلى ارتفاع ما اضطر إليه ، وكل مكمل عاد على أصله بالنقض فباطل ; فما نحن فيه مثله .
القسم الثاني : أن لا يضطر إليه ولكن يلحقه بالترك حرج ، فالنظر يقتضي الرجوع إلى أصل الإباحة وترك اعتبار الطوارئ ; إذ الممنوعات قد أبيحت رفعا للحرج ـ كما سيأتي لابن العربي في دخول الحمام ـ وكما إذا كثرت المناكر في الطرق والأسواق ، فلا يمنع ذلك التصرف في الحاجات إذا كان الامتناع من التصرف حرجا بينا ، وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .
[ ص: 289 ] وقد أبيح الممنوع رفعا للحرج كالقرض الذي فيه بيع للفضة بالفضة ليس يدا بيد ، وإباحة العرايا ، وجميع ما ذكره الناس في عوارض النكاح ، وعوارض مخالطة الناس ، وما أشبه ذلك وهو كثير .
هذا وإن ظهر ببادئ الرأي الخلاف هاهنا ; فإن قوما شددوا فيه على أنفسهم ، وهم أهل علم يقتدى بهم ، ومنهم من صرح في الفتيا بمقتضى الانكفاف واعتبار العوارض ، فهؤلاء إنما بتوا في المسألة على أحد وجهين :
إما أنهم شهدوا بعدم الحرج لضعفه عندهم ، وأنه مما هو معتاد في التكاليف ، والحرج المعتاد مثله في التكاليف غير مرفوع ، وإلا لزم ارتفاع جميع التكاليف أو أكثرها ، وقد تبين ذلك في القسم الثاني من قسمي الأحكام .
وإما أنهم عملوا وأفتوا باعتبار الاصطلاح الواقع في الرخص ، فرأوا أن كون المباح رخصة يقضي برجحان الترك مع الإمكان ، وإن لم يطرق في طريقه عارض ، فما ظنك به إذا طرق العارض ، والكلام في هذا المجال أيضا مذكور في قسم الرخص .
[ ص: 290 ] وربما اعترضت في طريق المباح عوارض يقضي مجموعها برجحان اعتبارها ، ولأن ما يلحق فيها من المفاسد أعظم مما يلحق في ترك ذلك المباح ، وإن الحرج فيها أعظم منه في تركه ، وهذا أيضا مجال اجتهاد إلا أنه يقال : هل يوازي الحرج اللاحق بترك الأصل الحرج اللاحق بملابسة العوارض أم لا ؟ ، وهي مسألة نرسمها الآن بحول الله تعالى ، وهي :
المسألة الثالثة عشرة
فنقول : لا يخلو أن يكون فقد العوارض بالنسبة إلى هذا الأصل من باب المكمل له في بابه أو من باب آخر هو أصل في نفسه ; فإن كان هذا الثاني : فإما أن يكون واقعا أو متوقعا ; فإن كان متوقعا فلا أثر له مع وجود الحرج ، لأن الحرج بالترك واقع ، وهو مفسدة ، ومفسدة العارض متوقعة متوهمة فلا تعارض الواقع ألبتة ، وأما إن كان واقعا فهو محل الاجتهاد في الحقيقة ، وقد تكون مفسدة العوارض فيه أتم من مفسدة ترك المباح ، وقد يكون الأمر بالعكس ، والنظر في هذا بابه باب التعارض والترجيح ، وإن كان الأول فلا [ ص: 291 ] يصح التعارض ، ولا تساوي المفسدتين ، بل مفسدة فقد الأصل أعظم ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : أن المكمل مع مكمله كالصفة مع الموصوف ، وقد مر بيان ذلك في موضعه ، وإذا كان فقد الصفة لا يعود بفقد الموصوف على الإطلاق بخلاف العكس ، كان جانب الموصوف أقوى في الوجود والعدم ، وفي المصلحة والمفسدة ، فكذا ما كان مثل ذلك .
والثاني : أن الأصل مع مكملاته كالكلي مع الجزئي ، وقد علم أن الكلي إذا عارضه الجزئي فلا أثر للجزئي ، فكذلك هنا لا أثر لمفسدة فقد المكمل في مقابلة وجود مصلحة المكمل .
والثالث : أن المكمل من حيث هو مكمل إنما هو مقو لأصل المصلحة ومؤكد لها ; ففوته إنما هو فوت بعض المكملات ، مع أن أصل المصلحة باق ، وإذا كان باقيا لم يعارضه ما ليس في مقابلته ، كما أن فوت أصل المصلحة لا يعارضه بقاء مصلحة المكمل ، وهو ظاهر .
والقسم الثالث : من القسم الأول ـ وهو أن لا يضطر إلى أصل المباح ولا يلحق بتركه حرج ـ ; فهو محل اجتهاد ، وفيه تدخل قاعدة الذرائع بناء على أصل التعاون على الطاعة أو المعصية ; فإن هذا الأصل متفق عليه في الاعتبار ، [ ص: 292 ] ومنه ما فيه خلاف كالذرائع في البيوع ، وأشباهها ، وإن كان أصل الذرائع أيضا متفقا عليه ، ويدخل فيه أيضا قاعدة تعارض الأصل والغالب ، والخلاف فيه شهير .
ومجال النظر في هذا القسم دائر بين طرفي نفي وإثبات متفق عليهما ; فإن أصل التعاون على البر والتقوى أو الإثم والعدوان مكمل لما هو عون عليه ، وكذلك أصل الذرائع ، ويقابله في الطرف الآخر أصل الإذن الذي هو مكمل لا مكمل .
ولمن يقول باعتبار الأصل من الإباحة أن يحتج بأن أصل الإذن راجع إلى معنى ضروري ; إذ قد تقرر أن حقيقة الإباحة ـ التي هي تخيير ـ حقيقة تلحق بالضروريات ، وهي أصول المصالح فهي في حكم الخادم لها ، إن لم تكن في الحقيقة إياها ، فاعتبار المعارض في المباح اعتبار لمعارض الضروري في الجملة ، وإن لم يظهر في التفصيل كونه ضروريا ، وإذا كان كذلك ; صار جانب المباح أرجح من جانب معارضه الذي لا يكون مثله ، وهو خلاف الدليل .
وأيضا ; إن فرض عدم اعتبار الأصل لمعارضه المكمل ، وأطلق هذا النظر أوشك أن يصار فيه إلى الحرج الذي رفعه الشارع لأنه مظنته ; إذ عوارض [ ص: 293 ] المباح كثيرة ، فإذا اعتبرت فربما ضاق المسلك ، وتعذر المخرج ، فيصار إلى القسم الذي قبله ، وقد مر ما فيه .
ولما كان إهمال الأصل من الإباحة هو المؤدي إلى ذلك لم يسغ الميل إليه ، ولا التعريج عليه .
وأيضا ; فإذا كان هذا الأصل دائرا بين طرفين متفق عليهما ، وتعارضا عليه لم يكن الميل إلى أحدهما بأولى من الميل إلى الآخر ، ولا دليل في أحدهما إلا ويعارضه مثل ذلك الدليل ، فيجب الوقوف إذا ; إلا أن لنا فوق ذلك أصلا أعم ، وهو أن أصل الأشياء إما الإباحة ، وإما العفو ، وكلاهما يقتضي الرجوع إلى مقتضى الإذن فكان هو الراجح .
ولمرجح جانب العارض أن يحتج بأن مصلحة المباح من حيث هو مباح مخير في تحصيلها وعدم تحصيلها ، وهو دليل على أنها لا تبلغ مبلغ الضروريات ، وهي كذلك أبدا لأنها متى بلغت ذلك المبلغ لم تبق مخيرا فيها ، وقد فرضت كذلك ; هذا خلف . وإذا تخير المكلف فيها ; فذلك قاض بعدم المفسدة في تحصيلها ، وجانب العارض يقضي بوقوع المفسدة أو توقعها ، وكلاهما صاد عن سبيل التخيير فلا يصح ، ـ والحالة هذه ـ أن تكون مخيرا فيها ، وذلك معنى اعتبار العارض المعارض دون أصل الإباحة .
وأيضا ; فإن أصل المتشابهات داخل تحت هذا الأصل ; لأن التحقيق فيها أنها راجعة إلى أصل الإباحة ; غير أن توقع مجاوزتها إلى غير الإباحة هو الذي اعتبره الشارع ، فنهى عن ملابستها ، وهو أصل قطعي مرجوع إليه في أمثال [ ص: 294 ] هذه المطالب ، وينافي الرجوع إلى أصل الإباحة .
وأيضا ; فالاحتياط للدين ثابت من الشريعة ، مخصص لعموم أصل الإباحة إذا ثبت ; فإن المسألة مختلف فيها ، فمن قال : إن الأشياء قبل ورود الشرائع على الحظر ، فلا نظر في اعتبار العوارض لأنها ترد الأشياء إلى أصولها ، فجانبها أرجح .
ومن قال : الأصل الإباحة أو العفو ; فليس ذلك على عمومه باتفاق ، بل له مخصصات ، ومن جملتها أن لا يعارضه طارئ ولا أصل ، وليست مسألتنا بمفقودة المعارض ، ولا يقال : إنهما يتعارضان لإمكان تخصيص أحدهما بالآخر ، كما لا يصح أن يقال : إن قوله عليه السلام : لا يرث المسلم الكافر معارض لقوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ النساء : 11 ] .
[ ص: 295 ] وأوجه الاحتجاج من الجانبين كثيرة ، والقصد التنبيه على أنها اجتهادية كما تقدم . والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (19)
صـ298 إلى صـ 307
القسم الثاني من قسمي الأحكام
وهو يرجع إلى خطاب الوضع ، وهو ينحصر في الأسباب والشروط والموانع ، والصحة والبطلان ، والعزائم والرخص ; فهذه خمسة أنواع ، فالأول ينظر فيه في مسائل : [ ص: 298 ] النوع الأول في الأسباب
المسألة الأولى
الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان :
أحدهما : خارج عن مقدور المكلف .
والآخر : ما يصح دخوله تحت مقدوره .
فالأول قد يكون سببا ، ويكون شرطا ، ويكون مانعا .
فالسبب : مثل كون الاضطرار سببا في إباحة الميتة ، وخوف العنت سببا في إباحة نكاح الإماء ، والسلس سببا في إسقاط وجوب الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج ، وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سببا في إيجاب تلك الصلوات ، وما أشبه ذلك .
والشرط : ككون الحول شرطا في إيجاب الزكاة ، والبلوغ شرطا في التكليف مطلقا ، والقدرة على التسليم شرطا في صحة البيع ، والرشد شرطا في دفع مال اليتيم إليه ، وإرسال الرسل شرطا في الثواب والعقاب ، وما كان نحو [ ص: 299 ] ذلك .
والمانع : ككون الحيض مانعا من الوطء والطلاق والطواف بالبيت ووجوب الصلوات وأداء الصيام ، والجنون مانعا من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات ، وما أشبه ذلك .
وأما الضرب الثاني : فله نظران :
نظر من حيث هو مما يدخل تحت خطاب التكليف ـ مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه ـ من جهة اقتضائه للمصالح أو المفاسد جلبا أو دفعا ; كالبيع والشراء للانتفاع ، والنكاح للنسل ، والانقياد للطاعة لحصول الفوز ، وما أشبه ذلك ، وهو بين .
[ ص: 300 ] ونظر من جهة ما يدخل تحت خطاب الوضع إما سببا أو شرطا أو مانعا .
أما السبب : فمثل كون النكاح سببا في حصول التوارث بين الزوجين وتحريم المصاهرة وحلية الاستمتاع ، والذكاة سببا لحلية الانتفاع بالأكل ، والسفر سببا في إباحة القصر والفطر ، والقتل والجرح سببا للقصاص ، والزنى وشرب الخمر والسرقة والقذف أسبابا لحصول تلك العقوبات ، وما أشبه ذلك ; فإن هذه الأمور وضعت أسبابا لشرعية تلك المسببات .
وأما الشرط : فمثل كون النكاح شرطا في وقوع الطلاق أو في حل مراجعة المطلقة ثلاثا ، والإحصان شرطا في رجم الزاني ، والطهارة شرطا في صحة الصلاة ، والنية شرطا في صحة العبادات ; فإن هذه الأمور ، وما أشبهها ; ليست بأسباب ، ولكنها شروط معتبرة في صحة تلك المقتضيات .
وأما المانع فككون نكاح الأخت مانعا من نكاح الأخرى ، ونكاح المرأة مانعا من نكاح عمتها وخالتها ، والإيمان مانعا من القصاص للكافر ، والكفر [ ص: 301 ] مانعا من قبول الطاعات ، وما أشبه ذلك ، وقد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون سببا وشرطا ومانعا كالإيمان هو سبب في الثواب ، وشرط في وجوب الطاعات أو في صحتها ، ومانع من القصاص منه للكافر ، ومثله كثير .
غير أن هذه الأمور الثلاثة لا تجتمع للشيء الواحد ، فإذا وقع سببا لحكم شرعي فلا يكون شرطا فيه نفسه ولا مانعا له ؛ لما في ذلك من التدافع ، وإنما يكون سببا لحكم ، وشرطا لآخر ، ومانعا لآخر ، ولا يصح اجتماعها على الحكم الواحد ، ولا اجتماع اثنين منها من جهة واحدة ، كما لا يصح ذلك في أحكام خطاب التكليف .
المسألة الثانية
مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات ، وإن صح التلازم بينهما عادة ، ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من إباحة أو ندب أو منع أو غيرها من أحكام التكليف فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبباتها فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب ، وإذا نهي عنه لم يستلزم [ ص: 302 ] النهي عن المسبب ، وإذا خير فيه لم يلزم أن يخير في مسببه .
مثال ذلك : الأمر بالبيع مثلا ، لا يستلزم الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع ، والأمر بالنكاح لا يستلزم الأمر بحلية البضع ، والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح ، والنهي عن القتل العدوان لا يستلزم النهي عن الإزهاق ، والنهي عن التردي في البئر لا يستلزم النهي عن تهتك المردى فيها ، والنهي عن جعل الثوب في النار لا يستلزم النهي عن نفس الإحراق ، ومن ذلك كثير .
والدليل على ذلك : ما ثبت في الكلام من أن الذي للمكلف تعاطي الأسباب ، وإنما المسببات من فعل الله ، وحكمه لا كسب فيه للمكلف ، وهذا يتبين في علم آخر ، والقرآن والسنة دالان عليه ، فمما يدل على ذلك ما يقتضي ضمان الرزق كقوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] .
وقوله : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ هود : 6 ] .
وقوله : وفي السماء رزقكم وما توعدون [ الذاريات : 22 ] إلى آخر الآية .
وقوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا الآية [ الطلاق : 2 ] .
إلى غير ذلك مما يدل على ضمان الرزق ، وليس المراد نفس التسبب [ ص: 303 ] إلى الرزق ، بل الرزق المتسبب إليه .
ولو كان المراد نفس التسبب لما كان المكلف مطلوبا بتكسب فيه على حال ، ولو بجعل اللقمة في الفم ومضغها أو ازدراع الحب أو التقاط النبات أو الثمرة المأكولة ، لكن ذلك باطل باتفاق ، فثبت أن المراد إنما هو عين المسبب إليه ، وفي الحديث : لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير الحديث .
[ ص: 304 ] وفيه : اعقلها ، وتوكل ففي هذا ونحوه بيان لما تقدم .
[ ص: 305 ] ومما يبينه قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ الواقعة : 58 - 59 ] .
أفرأيتم ما تحرثون [ الواقعة : 63 ] .
أفرأيتم الماء الذي تشربون [ الواقعة : 68 ] .
أفرأيتم النار التي تورون [ الواقعة : 71 ] .
[ ص: 306 ] وأتى على ذلك كله والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] .
الله خالق كل شيء [ الزمر : 62 ] .
وإنما جعل إليهم العمل ليجازوا عليه ، ثم الحكم فيه لله وحده .
واستقراء هذا المعنى من الشريعة مقطوع به ، وإذا كان كذلك ; دخلت الأسباب المكلف بها في مقتضى هذا العموم الذي دل عليه العقل والسمع ، فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات ، فإذا لا يتعلق التكليف وخطابه إلا بمكتسب ، فخرجت المسببات عن خطاب التكليف ; لأنها ليست من مقدورهم ، ولو تعلق بها لكان تكليفا بما لا يطاق ، وهو غير واقع كما تبين في الأصول .
ولا يقال : إن الاستلزام موجود ، ألا ترى أن إباحة عقود البيوع والإجارات وغيرها تستلزم إباحة الانتفاع الخاص بكل واحد منها ، وإذا تعلق بها التحريم كبيع الربا والغرر والجهالة استلزم تحريم الانتفاع المسبب عنها ، وكما في التعدي والغصب والسرقة ونحوها ، والذكاة في الحيوان إذا كانت على وفق المشروع مباحة ، وتستلزم إباحة الانتفاع ، فإذا وقعت على غير المشروع كانت ممنوعة ، واستلزمت منع الانتفاع . . . إلى أشياء من هذا النحو كثيرة ; فكيف يقال : إن الأمر بالأسباب والنهي عنها ، لا يستلزم الأمر بالمسببات ، ولا النهي عنها ، [ ص: 307 ] وكذلك في الإباحة ؟
لأنا نقول : هذا كله لا يدل على الاستلزام من وجهين :
أحدهما : أن ما تقدم من الأمثلة أول المسألة قد دل على عدم الاستلزام ، وقام الدليل على ذلك ، فما جاء بخلافه فعلى حكم الاتفاق لا على حكم الالتزام .
الثاني : أن ما ذكر ليس فيه استلزام بدليل ظهوره في بعض تلك الأمثلة ، فقد يكون السبب مباحا والمسبب مأمور به ، فكما نقول في الانتفاع بالمبيع : إنه مباح ، نقول في النفقة عليه : إنها واجبة إذا كان حيوانا ، والنفقة من مسببات العقد المباح ، وكذلك حفظ الأموال المتملكة مسبب عن سبب مباح ، وهو مطلوب ، ومثل ذلك الذكاة ; فإنها لا توصف بالتحريم إذا وقعت في غير المأكول كالخنزير والسباع العادية والكلب ونحوها ، مع أن الانتفاع محرم في جميعها أو في بعضها ، ومكروه في البعض .
هذا في الأسباب المشروعة ، وأما الأسباب الممنوعة فأمرها أسهل ; لأن معنى تحريمها أنها في الشرع ليست بأسباب ، وإذا لم تكن أسبابا لم تكن لها مسببات ; فبقي المسبب عنها على أصلها من المنع ، لا أن المنع تسبب عن وقوع أسباب ممنوعة ، وهذا كله ظاهر ; فالأصل مطرد ، والقاعدة مستتبة . وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (20)
صـ308 إلى صـ 317
وينبني على هذا الأصل :
المسألة الثالثة
وهي أنه لا يلزم في تعاطي الأسباب من جهة المكلف الالتفات إلى المسببات ، ولا القصد إليها ، بل المقصود منه الجريان تحت الأحكام الموضوعة لا غير ، أسبابا كانت أو غير أسباب ، معللة كانت أو غير معللة .
والدليل على ذلك ما تقدم من أن المسببات راجعة إلى الحاكم المسبب ، وأنها ليست من مقدور المكلف ، فإذا لم تكن راجعة إليه ، فمراعاته ما هو راجع لكسبه هو اللازم ، وهو السبب ، وما سواه غير لازم ، وهو المطلوب .
وأيضا ; فإن من المطلوبات الشرعية ما يكون للنفس فيه حظ ، وإلى جهته ميل ، فيمنع من الدخول تحت مقتضى الطلب ، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يولي على العمل من طلبه ، والولاية الشرعية كلها مطلوبة ; إما [ ص: 309 ] طلب الوجوب أو الندب ، ولكن راعى عليه السلام في ذلك ما لعله يتسبب عن اعتبار الحظ ، وشأن طلب الحظ في مثل هذا أن ينشأ عنه أمور تكره ، كما سيأتي بحول الله تعالى ، بل قد راعى عليه السلام مثل هذا في المباح ، فقال : ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف فخذه الحديث ; فشرط في قبوله عدم إشراف النفس ، فدل على أن أخذه بإشراف على خلاف ذلك ، وتفسيره في الحديث الآخر : من يأخذ مالا بحقه يبارك له فيه ، ومن يأخذ مالا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع ، وأخذه بحقه هو أن لا ينسى [ ص: 310 ] حق الله فيه ، وهو من آثار عدم إشراف النفس ، وأخذه بغير حقه خلاف ذلك ، وبين هذا المعنى الرواية الأخرى : نعم صاحب المسلم هو من أعطى منه المسكين واليتيم ، وابن السبيل أو كما قال : وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ، ويكون عليه شهيدا يوم القيامة .
ووجه ثالث ، وهو أن العباد من هذه الأمة ـ ممن يعتبر مثله هاهنا ـ أخذوا أنفسهم بتخليص الأعمال عن شوائب الحظوظ حتى عدوا ميل النفوس إلى بعض الأعمال الصالحة من جملة مكائدها ، وأسسوها قاعدة بنوا عليها ـ في تعارض الأعمال وتقديم بعضها على بعض ـ أن يقدموا ما لا حظ للنفس فيه أو ما ثقل عليها ، حتى لا يكون لهم عمل إلا على مخالفة ميل النفس ، وهم الحجة فيما انتحلوا ; لأن إجماعهم إجماع ، وذلك دليل على صحة الإعراض عن المسببات في الأسباب ، وقال عليه السلام إذ سأله جبريل عن الإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ; فإنه يراك ، وكل تصرف للعبد [ ص: 311 ] تحت قانون الشرع فهو عبادة ، والذي يعبد الله على المراقبة يعزب عنه ـ إذا تلبس بالعبادة ـ حظ نفسه فيها ، هذا مقتضى العادة الجارية بأن يعزب عنه كل ما سواها ، وهو معنى بينه أهله كالغزالي وغيره .
فإذا ليس من شرط الدخول في الأسباب المشروعة الالتفات إلى المسببات ، وهذا أيضا جار في الأسباب الممنوعة كما يجري في الأسباب المشروعة ، ولا يقدح عدم الالتفات إلى المسبب في جريان الثواب والعقاب ; فإن ذلك راجع إلى من إليه إبراز المسبب عن سببه ، والسبب هو المتضمن له ، فلا يفوته شيء إلا بفوت شرط أو جزء أصلي أو تكميلي في السبب خاصة .
المسألة الرابعة
وضع الأسباب يستلزم قصد الواضع إلى المسببات أعني الشارع ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : أن العقلاء قاطعون بأن الأسباب لم تكن أسبابا لأنفسها من حيث هي موجودات فقط ، بل من حيث ينشأ عنها أمور أخر ، وإذا كان كذلك ; لزم من القصد إلى وضعها أسبابا القصد إلى ما ينشأ عنها من المسببات .
والثاني : أن الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد ، وهي مسبباتها قطعا ، فإذا كنا نعلم أن الأسباب إنما شرعت لأجل [ ص: 312 ] المسببات لزم من القصد إلى الأسباب القصد إلى المسببات .
والثالث : أن المسببات لو لم تقصد بالأسباب لم يكن وضعها على أنها أسباب لكنها فرضت كذلك ; فهي ولا بد موضوعة على أنها أسباب ، ولا تكون أسبابا إلا لمسببات ، فواضع الأسباب قاصد لوقوع المسببات من جهتها ، وإذا ثبت هذا ، وكانت الأسباب مقصودة الوضع للشارع لزم أن تكون المسببات كذلك .
فإن قيل : فكيف هذا مع ما تقدم من أن المسببات غير مقصودة للشارع من جهة الأمر بالأسباب ؟
فالجواب : من وجهين :
أحدهما : أن القصدين متباينان ، فما تقدم هو بمعنى أن الشارع لم يقصد في التكليف بالأسباب التكليف بالمسببات ; فإن المسببات غير مقدورة للعباد كما تقدم ، وهنا إنما معنى القصد إليها أن الشرع يقصد وقوع المسببات عن أسبابها ، ولذلك وضعها أسبابا ، وليس في هذا ما يقتضي أنها داخلة تحت خطاب التكليف ، وإنما فيه ما يقتضي القصد إلى مجرد الوقوع خاصة فلا تناقض بين الأصلين .
[ ص: 313 ] والثاني : أنه لو فرض توارد القصدين على شيء واحد لم يكن محالا إذا كانا باعتبارين مختلفين ، كما توارد قصد الأمر والنهي معا على الصلاة في الدار المغصوبة باعتبارين .
والحاصل أن الأصلين غير متدافعين على الإطلاق .
المسألة الخامسة
إذا ثبت أنه لا يلزم القصد إلى المسبب ، فللمكلف ترك القصد إليه بإطلاق ، وله القصد إليه .
أما الأول : فما تقدم يدل عليه .
فإذا قيل لك : لم تكتسب لمعاشك بالزراعة أو بالتجارة أو بغيرها ؟
قلت : لأن الشارع ندبني إلى تلك الأعمال ; فأنا أعمل على مقتضى ما أمرت به ، كما أنه أمرني أن أصلي ، وأصوم ، وأزكي ، وأحج إلى غير ذلك من الأعمال التي كلفني بها .
فإن قيل لك : إن الشارع أمر ونهى لأجل المصالح .
قلت : نعم ، وذلك إلى الله لا إلي ; فإن الذي إلي التسبب ، وحصول [ ص: 314 ] المسببات ليس إلي ، فأصرف قصدي إلى ما جعل إلي ، وأكل ما ليس لي إلى من هو له .
ومما يدل على هذا أيضا أن السبب غير فاعل بنفسه ، بل إنما وقع المسبب عنده لا به ، فإذا تسبب المكلف فالله خالق السبب ، والعبد مكتسب له والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] .
الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل [ الزمر : 62 ] .
وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ التكوير : 29 ] .
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ الشمس : 7 - 8 ] .
وفي حديث العدوى قوله عليه الصلاة والسلام : فمن أعدى الأول ؟ ، وقول عمر في حديث الطاعون : " نفر من قدر الله إلى قدر الله " حين قال له عمرو بن العاص : " أفرارا من قدر الله " ، وفي الحديث : جف القلم بما هو [ ص: 315 ] كائن ، فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك ، لم يقدروا عليه وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه .
والأدلة على هذا تنتهي إلى القطع ، وإذا كان كذلك ; فالالتفات إلى المسبب في فعل السبب لا يزيد على ترك الالتفات إليه ; فإن المسبب قد يكون وقد لا يكون ، هذا وإن كانت مجاري العادات تقتضي أنه يكون ، فكونه داخلا تحت قدرة الله يقتضي أنه قد يكون ، وقد لا يكون ، ونقض مجاري العادات دليل على ذلك ، وأيضا ; فليس في الشرع دليل ناص على طلب القصد [ ص: 316 ] المسبب .
فإن قيل : قصد الشارع إلى المسببات ، والتفاته إليها ، دليل على أنها مطلوبة القصد من المكلف ، وإلا فليس المراد بالتكليف إلا مطابقة قصد المكلف لقصد الشارع ; إذ لو خالفه لم يصح التكليف كما تبين في موضعه من هذا الكتاب ، فإذا طابقه صح ، فإذا فرضنا هذا المكلف غير قاصد للمسببات ، وقد فرضناها مقصودة للشارع ; كان بذلك مخالفا له ، وكل تكليف قد خالف القصد فيه قصد الشارع فباطل ، كما تبين فهذا كذلك .
فالجواب : أن هذا إنما يلزم إذا فرضنا أن الشارع قصد وقوع المسببات بالتكليف بها كما قصد ذلك بالأسباب ، وليس كذلك ; لما مر أن المسببات غير مكلف بها ، وإنما قصده وقوع المسببات بحسب ارتباط العادة الجارية في الخلق ، وهو أن يكون خلق المسببات على أثر إيقاع المكلف للأسباب ليسعد من سعد ، ويشقى من شقي ، فإذا قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط له [ ص: 317 ] بالقصد التكليفي ; فلا يلزم قصد المكلف إليه إلا أن يدل على ذلك دليل ، ولا دليل عليه ، بل لا يصح ذلك لأن القصد إلى ذلك قصد إلى ما هو فعل الغير ، ولا يلزم أحدا أن يقصد وقوع ما هو فعل الغير لأنه غير مكلف بفعل الغير ، وإنما يكلف بما هو من فعله ، وهو السبب خاصة ; فهو الذي يلزم القصد إليه أو يطلب القصد إليه ، ويعتبر فيه موافقة قصد الشارع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (21)
صـ318 إلى صـ 327
فصل
وأما أن للمكلف القصد إلى المسبب فكما إذا قيل لك : لم تكتسب ؟ قلت : لأقيم صلبي ، وأقوم في حياة نفسي وأهلي أو لغير ذلك من المصالح التي توجد عن السبب ، فهذا القصد إذا قارن التسبب صحيح ; لأنه التفات إلى العادات الجارية ، وقد قال تعالى : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله [ الجاثية : 12 ] .
وقال : ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله [ الروم : 23 ] .
وقال : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .
[ ص: 318 ] فمن حيث عبر بالقصد إلى الفضل عن القصد إلى السبب الذي هو الاكتساب ، وسيق مساق الامتنان من غير إنكار ، أشعر بصحة ذلك القصد ، وهذا جار في أمور الآخرة كما هو جار في أمور الدنيا ; كقوله تعالى : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات [ الطلاق : 11 ] ، وأشباه ذلك مما يؤذن بصحة القصد إلى المسبب بالسبب .
وأيضا ; فإنما محصول هذا أن يبتغى ما يهيئ الله له بهذا السبب ، فهو راجع إلى الاعتماد على الله واللجأ إليه في أن يرزقه مسببا يقوم به أمره ، ويصلح به حاله ، وهذا لا نكير فيه شرعا ، وذلك أن المعلوم من الشريعة أنه شرعت لمصالح العباد ، فالتكليف كله إما لدرء مفسدة ، وإما لجلب مصلحة أو لهما معا ، فالداخل تحته مقتض لما وضعت له ، فلا مخالفة في ذلك لقصد الشارع ، والمحظور إنما هو أن يقصد خلاف ما قصده ، مع أن هذا القصد لا ينبني عليه عمل غير مقصود للشارع ، ولا يلزم منه عقد مخالف ، فالفعل موافق ، والقصد [ ص: 319 ] موافق ، فالمجموع موافق .
فإن قيل : هل يستتب هذان الوجهان في جميع الأحكام العادية ، والعبادية أم لا ؟ فإن الذي يظهر لبادئ الرأي أن قصد المسببات لازم في العاديات ، لظهور وجوه المصالح فيها بخلاف العبادات ; فإنها مبنية على عدم معقولية المعنى ; فهنالك يستتب عدم الالتفات إلى المسببات لأن المعاني المعلل بها راجعة إلى جنس المصالح فيها أو المفاسد ، وهي ظاهرة في العاديات ، وغير ظاهرة في العباديات ، وإذا كان كذلك ; فالالتفات إلى المسببات ، والقصد إليها معتبر في العاديات ، ولا سيما في المجتهد ; فإن المجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها ، ولولا ذلك لم يستقم له إجراء الأحكام على وفق المصالح إلا بنص أو إجماع فيبطل القياس ، وذلك غير صحيح ; فلا بد من الالتفات إلى المعاني التي شرعت لها الأحكام ، والمعاني هي مسببات الأحكام ، أما العباديات فلما كان الغالب عليها فقد ظهور المعاني الخاصة بها ، والرجوع إلى مقتضى النصوص فيها ، [ ص: 320 ] كان ترك الالتفات أجرى على مقصود الشارع فيها ، والأمران بالنسبة إلى المقلد سواء ، في أن حقه أن لا يلتفت إلى المسببات إلا فيما كان من مدركاته ومعلوماته العادية في التصرفات الشرعية .
فالجواب أن الأمرين في الالتفات وعدمه سواء ، وذلك أن المجتهد إذا نظر في علة الحكم عدى الحكم بها إلى محل هي فيه ; لتقع المصلحة المشروع لها الحكم ، هذا نظره خاصة ، ويبقى قصده إلى حصولها بالعمل أو عدم القصد مسكوتا عنه بالنسبة إليه ، فتارة يقصد إذا كان هو العامل وتارة لا يقصد ، وفي الوجهين لا يفوته في اجتهاده أمر كالمقلد سواء ، فإذا سمع قوله عليه الصلاة والسلام : لا يقضي القاضي وهو غضبان متفق عليه نظر إلى علة منع القضاء ، فرآه الغضب ، وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج بين الخصوم ، فألحق بالغضب الجوع والشبع المفرطين ، والوجع وغير ذلك مما فيه تشويش الذهن ، فإذا وجد في نفسه شيئا من ذلك ، وكان قاضيا امتنع من القضاء بمقتضى النهي ; فإن قصد بالانتهاء مجرد النهي فقط من غير التفات إلى الحكمة التي لأجلها نهي عن القضاء ; حصل مقصود الشارع ، وإن لم يقصده القاضي ، وإن قصد به ما ظهر قصد الشارع إليه من مفسدة عدم استيفاء الحجاج ; حصل مقصود الشارع أيضا فاستوى قصد القاضي إلى المسبب وعدم قصده ، وهكذا المقلد فيما فهم حكمته من الأعمال ، وما لم يفهم ; فهو [ ص: 321 ] كالعبادات بالنسبة إلى الجميع ، وقد علم أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة على الجملة ، وإن لم يعلم ذلك على التفصيل ، ويصح القصد إلى مسبباتها الدنيوية والأخروية على الجملة ; فالقصد إليها أو عدم القصد كما تقدم .
المسألة السادسة
إذا تقرر ما تقدم ; فللدخول في الأسباب مراتب تتفرع على القسمين ; فالالتفات إلى المسببات بالأسباب له ثلاث مراتب : أحدها : أن يدخل فيها على أنه فاعل للمسبب أو مولد له ; فهذا شرك أو مضاه له ـ والعياذ بالله ـ والسبب غير فاعل بنفسه ، والله خالق كل شيء ، والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] .
وفي الحديث : أصبح من عبادي مؤمن بي ، وكافر الحديث ; فإن [ ص: 322 ] المؤمن بالكوكب الكافر بالله هو الذي جعل الكوكب [ فاعلا بنفسه ، وهذه المسألة قد تولى النظر فيها أرباب الكلام ] .
والثانية : أن يدخل في السبب على أن المسبب يكون عنده عادة ، وهذا هو المتكلم على حكمه قبل ; ومحصوله طلب المسبب عن السبب لا باعتقاد الاستقلال ، بل من جهة كونه موضوعا على أنه سبب لمسبب ، فالسبب لا بد أن يكون سببا لمسبب لأنه معقوله ، وإلا لم يكن سببا ; فالالتفات إلى المسبب من هذا الوجه ليس بخارج عن مقتضى عادة الله في خلقه ، ولا هو مناف لكون السبب واقعا بقدرة الله تعالى ; فإن قدرة الله تظهر عند وجود السبب ، وعند عدمه فلا ينفي وجود السبب كونه خالقا للمسبب ، لكن هنا قد يغلب الالتفات إليه حتى يكون فقد المسبب مؤثرا ومنكرا ، وذلك لأن العادة غلبت على النظر في السبب بحكم كونه سببا ، ولم ينظر إلى كونه موضوعا بالجعل لا مقتضيا بنفسه ، وهذا هو غالب أحوال الخلق في الدخول في الأسباب .
والثالثة : أن يدخل في السبب على أن المسبب من الله تعالى ; لأنه المسبب فيكون الغالب على صاحب هذه المرتبة اعتقاد أنه مسبب عن قدرة الله وإرادته من غير تحكيم لكونه سببا ; فإنه لو صح كونه سببا محققا لم يتخلف كالأسباب العقلية ، فلما لم يكن كذلك ; تمحض جانب التسبيب [ ص: 323 ] الرباني بدليل السبب الأول ، وهنا يقال لمن حكمه : فالسبب الأول عن ماذا تسبب ؟ ، وفي مثله قال عليه الصلاة والسلام : فمن أعدى الأول ؟ .
فإذا كانت الأسباب مع المسببات داخلة تحت قدرة الله ; فالله هو المسبب لا هي ; إذ ليس له شريك في ملكه ، وهذا كله مبين في علم الكلام ، وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار السبب في المسبب من جهة نفسه ، واعتباره فيه من جهة أن الله مسببه ، وذلك صحيح .
فصل
وترك الالتفات إلى المسبب له ثلاث مراتب :
إحداها : أن يدخل في السبب من حيث هو ابتلاء للعباد ، [ وامتحان لهم ، لينظر كيف يعملون من غير التفات إلى غير ذلك ، وهذا مبني على أن الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاء للعباد ] ، وامتحانا لهم ; فإنها طريق إلى السعادة أو الشقاوة ، وهي على ضربين :
[ ص: 324 ] أحدهما : ما وضع لابتلاء العقول ، وذلك العالم كله من حيث هو منظور فيه ، وصنعة يستدل بها على ما وراءها .
والثاني : ما وضع لابتلاء النفوس ، وهو العالم كله أيضا من حيث هو موصل إلى العباد المنافع والمضار ، ومن حيث هو مسخر لهم ، ومنقاد لما يريدون فيه ، لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر ، ولتجري أعمالهم تحت حكم الشرع ; ليسعد بها من سعد ويشقى من شقي ، وليظهر مقتضى العلم السابق ، والقضاء المحتم الذي لا مرد له ; فإن الله غني عن العالمين ، ومنزه عن الافتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط ، لكن وضعها للعباد ليبتليهم فيها .
والأدلة على هذا المعنى كثيرة ، كقوله سبحانه : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ هود : 7 ] .
الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] .
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ الكهف : 7 ] .
ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون [ يونس : 14 ] .
ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا [ الكهف : 12 ] .
[ ص: 325 ] وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا إلى قوله : ويعلم الصابرين [ آل عمران : 142 ] .
وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم [ آل عمران : 154 ] .
ثم صرفكم عنهم ليبتليكم [ آل عمران : 152 ] .
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن وضع الأسباب ، إنما هي للابتلاء فإذا كانت كذلك ; فالآخذ لها من هذه الجهة آخذ لها من حيث وضعت مع التحقق بذلك فيها ، وهذا صحيح ، وصاحب هذا القصد متعبد لله بما تسبب به منها ; لأنه إذا تسبب بالإذن فيما أذن فيه لتظهر عبوديته لله فيه ، لا ملتفتا إلى مسبباتها ، وإن انجرت معها فهو كالمتسبب بسائر العبادات المحضة .
والثانية : أن يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن الالتفات إلى الأسباب من حيث هي أمور محدثة ، فضلا عن الالتفات إلى المسببات ، بناء على أن تفريد المعبود بالعبادة أن لا يشرك معه في قصده سواه ، واعتمادا على أن التشريك خروج عن خالص التوحيد بالعبادة ; لأن بقاء الالتفات إلى ذلك كله بقاء مع المحدثات ، وركون إلى الأغيار ، وهو تدقيق في نفي الشركة ، وهذا أيضا في موضعه صحيح ، ويشهد له من الشريعة ما دل على نفي الشركة كقوله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ الكهف : 110 ] .
وقوله : فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص [ الزمر : 2 - 3 ] .
وسائر ما كان من هذا الباب ، وكذلك دلائل طلب الصدق في التوجه لله [ ص: 326 ] رب العالمين كل ذلك يشعر بهذا المعنى المستنبط في خلوص التوجه ، وصدق العبودية ، فصاحب هذه المرتبة متعبد لله تعالى بالأسباب الموضوعة على اطراح النظر فيها من جهته ، فضلا عن أن ينظر في مسبباتها ; فإنما يرجع إليها من حيث هي وسائل إلى مسببها وواضعها ، وسلم إلى الترقي لمقام القرب منه ; فهو إنما يلحظ فيها المسبب خاصة .
والثالثة : أن يدخل في السبب بحكم الإذن الشرعي مجردا عن النظر في غير ذلك ، وإنما توجهه في القصد إلى السبب ; تلبية للأمر لتحققه بمقام العبودية لأنه لما أذن له في السبب أو أمر به لباه من حيث قصد الآمر في ذلك السبب ، وقد تبين له أنه مسببه ، وأنه أجرى العادة به ، ولو شاء لم يجرها ، كما أنه قد يخرقها إذا شاء ، وعلى أنه ابتلاء وتمحيص ، وعلى أنه يقتضي صدق التوجه به إليه ، فدخل على ذلك كله ، فصار هذا القصد شاملا لجميع ما تقدم ، لأنه توخى قصد الشارع من غير نظر في غيره ، وقد علم قصده في تلك الأمور ، فحصل له كل ما في ضمن ذلك التسبب مما علم ومما لم يعلم ، فهو طالب للمسبب من طريق السبب ، وعالم بأن الله هو المسبب ، وهو المبتلي به ، ومتحقق [ ص: 327 ] في صدق التوجه به إليه ، فقصده مطلق وإن دخل فيه قصد المسبب ، لكن ذلك كله منزه عن الأغيار ، مصفى من الأكدار .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (22)
صـ328 إلى صـ 338
المسألة السابعة
الدخول في الأسباب لا يخلو أن يكون منهيا عنه أو لا .
فإن كان منهيا عنه فلا إشكال في طلب رفع [ ذلك ] التسبب ; سواء علينا أكان المتسبب قاصدا لوقوع المسبب أم لا ; فإنه يتأتى منه الأمران فقد يقصد بالقتل العدوان إزهاق الروح فيقع ، وقد يقصد بالغصب انتفاعه بالمغصوب فيقع على مقتضى العادة لا على مقتضى الشرع ، وقد لا يقع ألبتة ، وقد يعزب عن نظره القصد إلى المسبب ، والالتفات إليه ; لعارض يطرأ غير العارض المتقدم الذكر ، ولا اعتبار به .
وإن كان غير منهي عنه فلا يطلب رفع التسبب في المراتب المذكورة كلها .
أما الأولى ; فإذا فرضنا نفس التسبب مباحا أو مطلوبا على الجملة ; [ ص: 328 ] فاعتقاد المعتقد ـ لكون السبب هو الفاعل ـ معصية قارنت ما هو مباح أو مطلوب فلا يبطله ، إلا إن قيل : إن مثل هذه المقارنة مفسدة ، وإن المقارن للمعصية تصيره منهيا عنه ; كالصلاة في الدار المغصوبة ، والذبح بالمدية المغصوبة ، وذلك مبين في الأصول .
وأما الثانية : فظاهر أن التسبب صحيح ؛ لأن العامل فيها إذا اعتمد على جريان العادات ، وكان الغالب فيها وقوع المسببات عن أسبابها ، وغلب على الظن ذلك ، كان ترك التسبب كإلقاء باليد إلى التهلكة أو هو هو ، وكذلك إذا بلغ مبلغ القطع العادي فواجب عليه أن يتسبب ، ولأجل هذا قالوا في المضطر : إنه إذا خاف الهلكة ، وجب عليه السؤال أو الاستقراض أو أكل الميتة ونحوها ، ولا يجوز أن يترك نفسه حتى يموت ، ولذلك قال مسروق : " ومن اضطر إلى شيء مما حرم الله عليه فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار " .
وأما الثالثة : فالتسبب أيضا ظاهر ، إلا أنه يبقى فيها بحث : هل يكون صاحبها بمنزلة صاحب المرتبة الثانية أم لا ؟ هذا مما ينظر فيه ، وإطلاق كلام الفقهاء يقتضي عدم التفرقة ، وأحوال المتوكلين ممن دخل تحت ترجمة التصوف لا تقتضي ذلك ، هذا وإن كان ظاهر كلام الغزالي تساوي المرتبتين في هذا الحكم ، كطريقة الفقهاء على تفصيل له في ذلك ، فالذي يظهر في المسألة نظر آخر ، وذلك أن هذه المرتبة تكون علمية ، وتكون حالية ، والفرق بين العلم [ ص: 329 ] والحال معروف عند أهله ، فإذا كانت علمية ، فهي المرتبة الثانية ; إذ كان واجبا على كل مؤمن أن يعتقد أن الأسباب غير فاعلة بأنفسها ، وإنما الفاعل فيها مسببها سبحانه ، لكن عادته في خلقه جارية بمقتضى العوائد المطردة ، وقد يخرقها إذا شاء لمن شاء ، فمن حيث كانت عادة اقتضت الدخول في الأسباب ، ومن حيث كانت الأسباب فيها بيد خالق المسببات ، اقتضت أن للفاعل أن يفعل بها وبدونها ، فقد يغلب على المكلف أحد الطرفين ; فإن غلب الطرف الأول ، وهو العادي فهو ما تقدم ، وإن غلب الثاني فصاحبه مع السبب أو بدونه على حالة واحدة ; فإنه إذا جاع مثلا فأصابته مخمصة فسواء عليه أتسبب أم لا ; إذ هو على بينة أن السبب كالمسبب بيد الله تعالى فلم يغلب على ظنه ـ والحال هذه ـ أن تركه للسبب إلقاء باليد إلى التهلكة ، بل عقده في كلتا الحالتين واحد ، فلا يدخل تحت قوله : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ; فلا يجب عليه التسبب في رفع ذلك ; لأن علمه [ ص: 330 ] بأن السبب في يد المسبب أغناه عن تطلب المسبب من جهته على التعين ، بل السبب وعدمه في ذلك سواء ، فكما أن أخذه للسبب لا يعد إلقاء باليد إذا كان اعتماده على المسبب ، كذلك في الترك ، ولو فرض أن آخذ السبب أخذه بإسقاط الاعتماد على المسبب لكان إلقاء باليد إلى التهلكة ; لأنه اعتمد على نفس السبب ، وليس في السبب نفسه ما يعتمد عليه ، وإنما يعتمد عليه من جهة كونه موضوعا سببا ; فكذلك إذا ترك السبب لا لشيء ، فالسبب وعدمه في الحالين سواء في عقد الإيمان ، وحقائق الإيقان .
وكل أحد فقيه نفسه ، وقد مر الدليل على ذلك ، وقد قال في الحديث : جف القلم بما هو كائن ، فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه ، وحكى عياض عن الحسن بن نصر السوسي ـ من فقهاء المالكية ـ أن ابنه قال له في سنة غلا فيها السعر : يا أبت اشتر طعاما ; فإني أرى السعر قد غلا ، فأمر ببيع ما كان في داره من الطعام ، ثم قال لابنه : لست من المتوكلين على الله ، وأنت قليل اليقين ، كأن القمح إذا كان عند أبيك ينجيك من قضاء الله عليك ، من توكل على الله ; كفاه الله .
ونظير مسألتنا في الفقه ; الغازي إذا حمل وحده على جيش الكفار ، [ ص: 331 ] فالفقهاء يفرقون بين أن يغلب على ظنه السلامة أو الهلكة أو يقطع بإحداهما ; فالذي اعتقد السلامة جائز له ما فعل ، والذي اعتقد الهلكة من غير نفع يمنع من ذلك ، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ البقرة : 195 ] .
وكذلك ; داخل المفازة بزاد أو بغير زاد ، إذا غلب على ظنه السلامة فيها جاز له الإقدام ، وإن غلب على ظنه الهلكة لم يجز ، وكذلك إذا غلب على ظنه الوصول إلى الماء في الوقت أمر بالتأخير ولا يتيمم ، فإن غلب على ظنه أن لا ماء يتيمم وكذلك راكب البحر ، وعلى هذا يباح له التيمم مع وجود الماء في رحله أو يمنع ، وإن غلب على ظنه الوصول إلى الماء في الوقت ، وإذا غلب على ظن المريض زيادة المرض أو تأخر البرء أو إصابة المشقة بالصوم أفطر ، إلى غير ذلك من المسائل المبنية على غلبات الظنون ، وإن كانت موجبات الظنون تختلف ; فذلك غير قادح في هذا الأصل ، فمسألتنا داخلة تحت هذه القاعدة .
فمن تحقق بأن الخروج عن السبب كالدخول فيه بالنسبة إلى ضمان الله تعالى الرزق صح أن يقال : إنه لا يجب عليه التسبب فيه ، ولذلك نجد أصحاب الأحوال يركبون الأهوال ويقتحمون الأخطار ، ويلقون بأيديهم إلى ما هو عند غيرهم تهلكة ; فلا يكون كذلك ، بناء على أن ما هم فيه من مواطن الغرر ، وأسباب الهلكة ، يستوي مع ما هو عندنا من مواطن الأمن ، وأسباب النجاة .
[ ص: 332 ] وقد حكى عياض عن أبي العباس الإبياني أنه دخل عليه عطية الجزري العابد فقال له : أتيتك زائرا ، ومودعا إلى مكة ، فقال له أبو العباس : " لا تخلنا من بركة دعائك وبكى ، وليس مع عطية ركوة ولا مزود ، فخرج مع أصحابه ، ثم أتاه بأثر ذلك رجل ; فقال له : ـ أصلحك الله ـ عندي خمسون مثقالا ، ولي بغل فهل ترى لي الخروج إلى مكة ؟ فقال له : لا تعجل حتى توفر هذه الدنانير . قال الراوي : فعجبنا من اختلاف جوابه للرجلين مع اختلاف أحوالهما ; فقال أبو العباس : عطية جاءنى مودعا غير مستشير وقد وثق بالله ، وجاءني هذا يستشيرني ، ويذكر ما عنده ، فعلمت ضعف نيته ، فأمرته بما رأيتم " .
فهذا إمام من أهل العلم أفتى لضعيف النية بالحزم في استعداد الأسباب ، والنظر في مراعاتها ، وسلم لقوي اليقين في طرح الأسباب بناء ـ والله أعلم ـ على القاعدة المتقدمة في الاعتقادات ، وغلبات الظنون في السلامة ، والهلكة ، وهو مظان النظر الفقهي ، ولذلك يختلف الحكم باختلاف الناس في النازلة الواحدة كما تقدم .
فإن قيل : فصاحب هذه المرتبة أي الأمرين أفضل له ؟ الدخول في السبب ، أم تركه ؟
[ ص: 333 ] فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن الأسباب في حقه لا بد منها كما أنها كذلك في حق غيره ; فإن خوارق العادات ، وإن قامت له مقام الأسباب في حقه ، فهي في أنفسها أسباب ، لكنها أسباب غريبة ، والتسبب غير منحصر في الأسباب المشهورة ، فالخارج مثلا للحج بغير زاد يرزقه الله من حيث لا يحتسب ، إما من نبات الأرض ، وإما من جهة من يلقى من الناس في البادية ، وفي الصحراء ، وإما من حيوان الصحراء أو من غير ذلك ، ولو أن ينزل عليه من السماء ، أو يخرجه من الأرض بخوارق العادات أسباب جارية ، يعرفها أربابها المخصوصون بها ، فليس هذا الرجل خارجا عن العمل بالأسباب ، ومنها الصلاة ; لقوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها الآية [ طه : 132 ] .
وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر أهله بالصلاة إذا لم يجدوا قوتا ، وإذا كان كذلك ; فالسؤال غير وارد .
[ ص: 334 ] والثاني ـ على تسليم وروده ـ : أن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم قطعا أنهم حازوا هذه المرتبة ، واستيقنوها حالا وعلما ، ولكنه عليه السلام ندبهم إلى الدخول في الأسباب المقتضية لمصالح الدنيا ، كما أمرهم بالأسباب المقتضية لمصالح الآخرة ، ولم يتركهم مع هذه الحالة فدل ذلك على أن الأفضل ما دلهم عليه ، ولأن هذه الحالة لا يعتد بها مقاما يقوم فيه ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : قيدها وتوكل ؟
وأيضا ; فأصحاب هذه الحالة هم أهل خوارق العادات ، ولم يتركوا معها التسبب تأدبا بآداب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ ، وكانوا أهل علم ، ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره .
وأما المرتبة الرابعة ، وهي مرتبة الابتلاء فالتسبب فيها أيضا ظاهر ; فإن الأسباب قد صارت عند صاحبها تكليفا يبتلى به على الإطلاق ، لا يختص ذلك بالأسباب العبادية دون العادية ، فكما أن الأسباب العبادية لا يصح فيها الترك اعتمادا على الذي سببها من حيث كانت مصروفة إليه ، كذلك الأسباب العادية ، ومن هنا لما قال عليه السلام : ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار ، قالوا : يا رسول الله فلم نعمل ؟ أفلا نتكل ؟ قال : لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، ثم قرأ فأما من أعطى واتقى [ الليل : 5 ] إلى آخرها فكذلك العاديات ; لأنها عبادات ، فهي عنده جارية على الأحكام [ ص: 335 ] الموضوعة ، ونظر صاحب هذه المرتبة في الأسباب مثل نظره في العبادات ، يعتبر فيها مجرد الأسباب ، ويدع المسببات لمسببها .
وأما المرتبة الخامسة : فالتسبب فيها صحيح أيضا ; لأن صاحبها ، وإن لم يلتفت إلى السبب من حيث هو سبب ، ولا إلى المسبب من باب أحرى ; فلا بد منه من جهة ما هو راق به ، وملاحظ للمسبب من جهته ، بدليل الأسباب العبادية ، ولأنها إنما صارت قرة عينه لكونها سلما إلى المتعبد إليه بها ، فلا فارق بين العاديات والعباديات ; إلا أن صاحب هذه المرتبة مأخوذ في تجريد الأغيار على الجملة ; فربما رمى من الأسباب بما ليس بضروري ، واقتصر على ما هو ضروري ، وضيق على نفسه المجال فيها ; فرارا من تكاثرها على قلبه حتى يصح له اتحاد الوجهة ، وإذا كانت الأسباب موصلة إلى المطلوب ، فلا شك في أخذها في هذه الرتبة ; إذ من جهتها يصح المطلوب .
وأما السادسة ; فلما كانت جامعة لأشتات ما ذكر قبلها ، كان ما يشهد لما قبلها شاهدا لها ; غير أن ذلك فيها معتبر من جهة صفة العبودية وامتثال الأمر ، لا من جهة أمر آخر ، فسواء عليه أكان التكليف ظاهر المصلحة أم غير ظاهرها ; كل ذلك تحت قصد العبد امتثال أمر الله ، فإن كان المكلف به مما يرتبط به بعض الوجود أو جميعه ، كان قصده في امتثال الأمر شاملا له ، والله أعلم .
المسألة الثامنة
إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب قصد ذلك المسبب أو لا ; لأنه لما جعل مسببا عنه في مجرى العادات ، عد كأنه فاعل له مباشرة ، ويشهد لهذا [ ص: 336 ] قاعدة مجاري العادات ; إذ أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها ; كنسبة الشبع إلى الطعام ، والإرواء إلى الماء ، والإحراق إلى النار ، والإسهال إلى السقمونيا ، وسائر المسببات إلى أسبابها ، فكذلك الأفعال التي تتسبب عن كسبنا منسوبة إلينا ، وإن لم تكن من كسبنا ، وإذ كان هذا معهودا معلوما جرى عرف الشرع في الأسباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزان .
وأدلته في الشرع كثيرة بالنسبة إلى الأسباب المشروعة أو الممنوعة ، كقول الله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس إلى قوله : ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [ المائدة : 32 ] .
وفي الحديث : ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل .
وفيه : من سن سنة حسنة كان له أجرها ، وأجر من عمل بها .
وكذلك : من سن سنة سيئة .
[ ص: 337 ] وفيه : " إن الولد لوالديه ستر من النار " " وأن من غرس غرسا كان ما أكل منه له صدقة ، وما سرق منه له صدقة ، وما أكل السبع فهو له صدقة ، وما أكلت الطير فهو له صدقة ، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة " ، وكذلك الزرع ، والعالم يبث العلم ، فيكون له أجر كل من انتفع به .
ومن ذلك ما لا يحصى ، مع أن المسببات التي حصل بها النفع أو الضر ، ليست من فعل المتسبب .
[ ص: 338 ] فإذا كان كذلك ; فالداخل في السبب إنما يدخل فيه مقتضيا لمسببه ، لكن تارة يكون مقتضيا له على الجملة والتفصيل ، وإن كان غير محيط بجميع التفاصيل ، وتارة يدخل فيه مقتضيا له على الجملة لا على التفصيل ، وذلك أن ما أمر الله به ; فإنما أمر به لمصلحة يقتضيها فعله ، وما نهى عنه ; فإنما نهى عنه لمفسدة يقتضيها فعله ، فإذا فعل فقد دخل على شرط أنه يتسبب فيما تحت السبب من المصالح أو المفاسد ، ولا يخرجه عن ذلك عدم علمه بالمصلحة أو المفسدة أو بمقاديرهما ; فإن الأمر قد تضمن أن في إيقاع [ المأمور به مصلحة علمها الله ، ولأجلها أمر به ، والنهي قد تضمن أن في إيقاع ] المنهي عنه مفسدة علمها الله ، ولأجلها نهى عنه ، فالفاعل ملتزم لجميع ما ينتجه ذلك السبب من المصالح أو المفاسد ، وإن جهل تفاصيل ذلك .
فإن قيل : أيثاب أو يعاقب على ما لم يفعل ؟ .
فالجواب : أن الثواب والعقاب إنما ترتب على ما فعله وتعاطاه لا على ما لم يفعل ، لكن الفعل يعتبر شرعا بما يكون عنه من المصالح أو المفاسد ، وقد بين الشرع ذلك ، وميز بين ما يعظم من الأفعال مصلحته ، فجعله ركنا أو مفسدته فجعله كبيرة ، وبين ما ليس كذلك ; فسماه في المصالح إحسانا ، وفي المفاسد صغيرة ، وبهذه الطريقة يتميز ما هو من أركان الدين ، وأصوله ، وما هو من فروعه ، وفصوله ، ويعرف ما هو من الذنوب كبائر ، وما هو منها صغائر ، فما عظمه الشرع في المأمورات فهو من أصول الدين ، وما جعله دون ذلك فمن فروعه ، وتكميلاته ، وما عظم أمره في المنهيات فهو من الكبائر ، وما كان دون ذلك فهو من الصغائر ، وذلك على مقدار المصلحة أو المفسدة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (23)
صـ339 إلى صـ 348
المسألة التاسعة
ما ذكر في هذه المسائل من أن المسببات غير مقدورة للمكلف ، وأن السبب هو المكلف به إذا اعتبر ، ينبني عليه أمور :
أحدها : أن متعاطي السبب إذا أتى به بكمال شروطه ، وانتفاء موانعه ، ثم قصد أن لا يقع مسببه فقد قصد محالا ، وتكلف رفع ما ليس له رفعه ، ومنع ما لم يجعل له منعه ، فمن عقد نكاحا على ما وضع له في الشرع أو بيعا أو شيئا من العقود ، ثم قصد أن لا يستبيح بذلك العقد ما عقد عليه ، فقد وقع قصده عبثا ، ووقع المسبب الذي أوقع سببه ، وكذلك إذا أوقع طلاقا أو عتقا قاصدا به مقتضاه في الشرع ، ثم قصد أن لا يكون مقتضى ذلك فهو قصد باطل ، ومثله في العبادات إذا صلى أو صام أو حج كما أمر ، ثم قصد في نفسه أن ما أوقع من العبادة لا يصح له أو لا ينعقد قربة ، وما أشبه ذلك فهو لغو ، وهكذا الأمر في الأسباب الممنوعة ، وفيه جاء : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا الآية [ المائدة : 87 ] .
[ ص: 340 ] ومن هنا كان تحريم ما أحل الله عبثا من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، والنكاح ، وهو غير ناكح في الحال ، ولا قاصد للتعليق في خاص بخلاف العام ، وما أشبه ذلك ; فجميع ذلك لغو ; لأن ما تولى الله حليته بغير سبب من المكلف ظاهر مثل ما تعاطى المكلف السبب فيه ، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام : إنما الولاء لمن أعتق ، وقوله : من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط الحديث .
وأيضا ; فإن الشارع قاصد لوقوع المسببات عن أسبابها كما تقدم ، فقصد هذا القاصد مناقض لقصد الشارع ، وكل قصد ناقض قصد الشارع فباطل ; [ ص: 341 ] فهذا القصد باطل ، والمسألة واضحة .
فإن قيل : هذا مشكل من وجهين :
أحدهما : أن اختيار المكلف وقصده شرط في وضع الأسباب ، فإذا كان اختياره منافيا لاقتضاء الأسباب لمسبباتها ، كان معنى ذلك أن الأسباب لم يتعاطها المكلف على كمالها ، بل مفقودة الشرط ، وهو الاختيار فلم تصح من جهة فقد الشرط ; فيلزم أن تكون المسببات الناشئة عن الأسباب غير واقعة لفقد الاختيار .
والثاني : أن القصد المناقض لقصد الشارع مبطل للعمل حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب ، وتعاطي الأسباب المبيحة مثلا بقصد أن لا تكون مبيحة مناقضة لقصد الشارع ظاهرة ، من حيث كان قصد الشارع التحصيل بوساطة هذه الأسباب ، فيكون إذا تعاطي هذه الأسباب باطلا وممنوعا ، كالمصلي قاصدا بصلاته ما لا تجزئه لأجله ، والمتطهر يقصد أن لا يكون مستبيحا للصلاة ، وما أشبه ذلك ، فالجمع بين هذا الأصل والأصل المذكور جمع بين متنافيين ، وهو باطل .
فالجواب عن الأول : أن الفرض إنما هو في موقع الأسباب بالاختيار لأن تكون أسبابا ، لكن مع عدم اختياره للمسبب ، وليس الكلام في موقعها بغير اختيار ، والجمع بينهما ممكن عقلا ، لأن أحدهما سابق على الآخر فلا يتنافيان ، كما إذا قصد الوطء واختاره وكره خلق الولد أو اختار وضع البذر في الأرض وكره نباته أو رمى بسهم صوبه على رجل ثم كره أن يصيبه ، وما أشبه [ ص: 342 ] ذلك فكما يمكن اجتماعهما في العاديات فكذلك ; في الشرعيات .
والجواب عن الثاني : أن فاعل السبب في مسألتنا قاصد أن يكون ما وضعه الشارع منتجا غير منتج ، وما وضعه سببا فعله هنا على أن يكون سببا لا يكون له مسبب ، وهذا ليس له فقصده فيه عبث ، بخلاف ما هو مذكور في قاعدة مقاصد الشارع ; فإن فاعل السبب فيه قاصد لجعله سببا لمسبب لم يجعله الشارع مسببا له ، كنكاح المحلل عند القائل بمنعه ; فإنه قاصد بنكاحه التحليل لغيره ، ولم يضع الشارع النكاح لهذا المسبب ، فقارن هذا القصد العقد فلم يكن سببا شرعيا ; فلم يكن محللا لا للناكح ، ولا للمحلل له لأنه باطل .
وحاصل الأمر أن أحدهما أخذ السبب على أنه ليس بسبب ، والآخر أخذه على أنه سبب لا ينتج ; فالأول لا ينتج له شيئا ، والآخر ينتج له ; لأنه ليس الإنتاج باختياره ، ولا عدمه فهذا لم يخالف قصد الشارع في السبب من حيث هو سبب ، ولكن زعم أنه لا يقع مسببه ، وهذا كذب أو طمع في غير مطمع ، والأول تعاطاه على أنه ليس بالسبب الموضوع للشارع فاعرف الفرق بينهما فهو دقيق .
ويوضحه أن القصد في أحدهما مقارن للعمل فيؤثر فيه ، والآخر تابع له بعد استقراره فلا يؤثر فيه .
[ ص: 343 ] فإن قيل : لم لا يكون هذا في الحكم كالرفض في العبادات ; فإنه في الحقيقة رفض لكونه سببا شرعيا ، فالطهارة مثلا سبب في رفع الحدث ، فإذا قصد أنها لا ترفع الحدث فهو معنى رفض النية فيه ، وقد قالوا : إن رفض النية ينتهض سببا في إبطال العبادة فرجع البحث إلى أن ذلك كله إبطال لأنفس الأسباب لا إبطال المسببات .
فالجواب : أن الأمر ليس كذلك ; ، وإنما يصح الرفض في أثناء العبادة إذا كان قاصدا بها امتثال الأمر ، ثم أتمها على غير ذلك ، بل بنية أخرى ليست بعبادته التي شرع فيها ، كالمتطهر ينوي رفع الحدث ، ثم ينسخ تلك النية بنية التبرد أو التنظف من الأوساخ البدنية ، وأما بعد ما تمت العبادة ، وكملت على شروطها ; فقصده أن لا تكون عبادة ، ولا يترتب عليها حكم آخر من إجزاء أو استباحة أو غير ذلك غير مؤثر فيها ، بل هي على حكمها لو لم يكن ذلك القصد ; فالفرق بينهما ظاهر .
ولا يعارض ذلك كلام من تكلم في الرفض ، وقال : إنه يؤثر ، ولم يفصل [ ص: 344 ] القول في ذلك ; فإن كلام الفقهاء في رفض الوضوء ، وخلافهم فيه غير خارج عن هذا الأصل ، من جهة أن الطهارة هنا لها وجهان في النظر ، فمن نظر إلى فعلها على ما ينبغي قال : إن استباحة الصلاة بها لازم ، ومسبب عن ذلك الفعل ، فلا يصح رفعه إلا بناقض طارئ ، ومن نظر إلى حكمها ، ـ أعني حكم استباحة الصلاة مستصحبا إلى أن يصلي ، وذلك أمر مستقبل ـ فيشترط فيه استصحاب النية الأولى المقارنة للطهارة ، وهي بالنية المنافية منسوخة ، فلا يصح استباحة الصلاة الآتية بها ; لأن ذلك كالرفض المقارن للفعل ، ولو قارن الفعل لأثر ، فكذلك هنا فلو رفض نية الطهارة بعدما أدى بها الصلاة ، وتم حكمها ، لم يصح أن يقال : إنه يجب عليه استئناف الطهارة والصلاة ; فكذلك من صلى ، ثم رفض تلك الصلاة بعد السلام منها ، وقد كان أتى بها على ما أمر به ; فإن قال به في مثل هذا فالقاعدة ظاهرة في خلاف ما قال . والله أعلم وبه التوفيق .
هذا حكم الأسباب إذا فعلت باستكمال شرائطها ، وانتفاء موانعها ، وأما إذا [ ص: 345 ] لم تفعل الأسباب على ما ينبغي ، ولا استكملت شرائطها ، ولم تنتف موانعها ، فلا تقع مسبباتها ، شاء المكلف أو أبى ; لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره .
وأيضا ; فإن الشارع لم يجعلها أسبابا مقتضية إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها ، فإذا لم تتوفر لم يستكمل السبب أن يكون سببا شرعيا ، سواء علينا أقلنا إن الشروط وانتفاء الموانع أجزاء أسباب أم لا فالثمرة واحدة .
وأيضا ; لو اقتضت الأسباب مسبباتها ، وهي غير كاملة بمشيئة المكلف أو ارتفعت اقتضاءاتها وهي تامة ، لم يكن لما وضع الشارع منها فائدة ، ولكان وضعه له عبثا ; لأن معنى كونها أسبابا شرعية هو أن تقع مسبباتها شرعا ، ومعنى كونها غير أسباب شرعا أن لا تقع مسبباتها شرعا ; فإذا كان اختيار المكلف يقلب حقائقها شرعا لم يكن لها وضع معلوم في الشرع ، وقد فرضناها موضوعة في الشرع على وضع معلوم ، هذا خلف محال ; فما يؤدي إليه مثله ، وبه يصح أن اختيارات المكلف لا تأثير لها في الأسباب الشرعية .
فإن قيل : كيف هذا مع القول بأن النهي لا يدل على الفساد أو بأنه يدل على الصحة أو بأنه يفرق بين ما يدل على النهي لذاته أو لوصفه ; فإن هذه المذاهب تدل على أن التسبب المنهي عنه ـ وهو الذي لم يستكمل الشروط ، ولا [ ص: 346 ] انتفت موانعه ـ يفيد حصول المسبب ، وفي مذهب مالك ما يدل على ذلك ; فإن البيوع الفاسدة عنده تفيد من أولها شبهة ملك عند قبض المبيع ، وأيضا ; فتفيد الملك بحوالة الأسواق ، وغير ذلك من الأمور التي لا تفيت العين ، وكذلك الغصب ونحوه يفيد عنده الملك ، وإن لم تفت عين المغصوب في مسائل ، والغصب أو نحوه ليس بسبب من أصله ، فيظهر أن السبب المنهي عنه يحصل به المسبب إلا على القول بأن النهي يدل على الفساد مطلقا .
فالجواب : أن القاعدة عامة ، وإفادة الملك في هذه الأشياء إنما هو لأمور أخر خارجة عن نفس العقد الأول ، وبيان ذلك لا يسع هاهنا ، وإنما يذكر فيما بعد هذا إن شاء الله .
فصل
ومن الأمور التي تنبني على ما تقدم أن الفاعل للسبب عالما بأن المسبب ليس إليه إذا وكله إلى فاعله ، وصرف نظره عنه ، كان أقرب إلى الإخلاص والتفويض ، والتوكل على الله تعالى ، والصبر على الدخول في الأسباب المأمور بها ، والخروج عن الأسباب المحظورة ، والشكر وغير ذلك من المقامات السنية ، والأحوال المرضية ، ويتبين ذلك بذكر البعض على أنه ظاهر .
أما الإخلاص ; فلأن المكلف إذا لبى الأمر والنهي في السبب من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي خارج عن حظوظه ، قائم بحقوق ربه ، واقف [ ص: 347 ] موقف العبودية بخلاف ما إذا التفت إلى المسبب وراعاه ; فإنه عند الالتفات إليه متوجه شطره ، فصار توجهه إلى ربه بالسبب بواسطة التوجه إلى المسبب ، ولا شك في تفاوت ما بين الرتبتين في الإخلاص .
وأما التفويض ; فلأنه إذا علم أن المسبب ليس بداخل تحت ما كلف به ، ولا هو من نمط مقدوراته كان راجعا بقلبه إلى من إليه ذلك وهو الله سبحانه فصار متوكلا ومفوضا ، هذا في عموم التكاليف العادية ، والعبادية ، ويزيد بالنسبة إلى العبادية أنه لا يزال بعد التسبب خائفا وراجيا ; فإن كان ممن يلتفت إلى المسبب بالدخول في السبب ، صار مترقبا له ناظرا إلى ما يؤول إليه تسببه ، وربما كان ذلك سببا إلى إعراضه عن تكميل السبب ; استعجالا لما ينتجه فيصير توجهه إلى ما ليس له ، وقد ترك التوجه إلى ما طلب بالتوجه إليه ، وهنا تقع حكاية من سمع أن من أخلص لله أربعين صباحا ، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ، فأخذ بزعمه في الإخلاص لينال الحكمة فتم الأمد ولم تأته الحكمة فسأل عن ذلك فقيل له : إنما أخلصت للحكمة ، ولم تخلص لله .
وهذا واقع كثيرا في ملاحظات المسببات في الأسباب ربما غطت ملاحظاتها [ ص: 348 ] فحالت بين المتسبب ، وبين مراعاة الأسباب ، وبذلك يصير العابد مستكثرا لعبادته ، والعالم مغترا بعلمه إلى غير ذلك .
وأما الصبر والشكر ; فلأنه إذا كان ملفتا إلى أمر الآمر وحده متيقنا أن بيده ملاك المسببات وأسبابها ، وأنه عبد مأمور ، وقف مع أمر الآمر ، ولم يكن له من ذلك محيد ولا زوال ، وألزم نفسه الصبر على ذلك لأنه تحت حد المراقبة ، وممن عبد الله كأنه يراه ، فإذا وقع المسبب كان من أشكر الشاكرين ; إذ لم ير لتسببه في ذلك المسبب ، وردا ، ولا صدرا ، ولا اقتضى منه في نفسه نفعا ، ولا ضرا ، وإن كان علامة وسببا عاديا فهو سبب بالتسبب ، ومعتبر في عادي الترتيب ، ولو كان ملتفتا إلى المسبب فالسبب قد ينتج وقد يعقم ، فإذا أنتج فرح ، وإذا لم ينتج لم يرض بقسم الله ولا بقضائه ، وعد السبب كلا شيء ، وربما مله فتركه ، وربما سئم منه فثقل عليه ، وهذا يشبه من يعبد الله على حرف ، وهو خلاف عادة من دخل تحت رق العبودية ، ومن تأمل سائر المقامات السنية ، وجدها في ترك الالتفات إلى المسببات ، وربما كان هذا أعظم نفعا في أصحاب الكرامات ، والخوارق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (24)
صـ349 إلى صـ 359
فصل
- ومنها : أن تارك النظر في المسبب بناء على أن أمره لله ، إنما همه السبب [ ص: 349 ] الذي دخل فيه فهو على بال منه في الحفظ له ، والمحافظة عليه ، والنصيحة فيه ، لأن غيره ليس إليه ، ولو كان قصده المسبب من السبب ، لكان مظنة لأخذ السبب على غير أصالته ، وعلى غير قصد التعبد فيه ، فربما أدى إلى الإخلال به ، وهو لا يشعر ، وربما شعر به ، ولم يفكر فيما عليه فيه ، ومن هنا تنجر مفاسد كثيرة ، وهو أصل الغش في الأعمال العادية نعم والعبادية ، بل هو أصل في الخصال المهلكة .
أما في العاديات فظاهر ; فإنه لا يغش إلا استعجالا للربح الذي يأمله في تجارته أو للنفاق الذي ينتظره في صناعته أو ما أشبه ذلك .
وأما في العبادات ; فإن من شأن من أحبه الله تعالى أن يوضع له القبول في الأرض ، بعد ما يحبه أهل السماء ، فالتقرب بالنوافل سبب للمحبة من الله تعالى ، ثم من الملائكة ، ثم يوضع القبول في الأرض ، فربما التفت العابد لهذا المسبب بالسبب الذي هو النوافل ، ثم يستعجل ، ويداخله طلب ما ليس له فيظهر ذلك السبب ، وهو الرياء ، وهكذا في سائر المهلكات ، وكفى بذلك فسادا .
فصل
- ومنها : أن صاحب هذه الحالة مستريح النفس ساكن البال مجتمع الشمل ، فارغ القلب من تعب الدنيا ، متوحد الوجهة ، فهو بذلك طيب المحيا ، مجازى في الآخرة ، قال تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ النحل : 97 ] .
[ ص: 350 ] وروي عن جعفر الصادق أنه قال في الحياة الطيبة : " هي المعرفة بالله ، وصدق المقام مع الله ، وصدق الوقوف على أمر الله " .
وقال ابن عطاء : " العيش مع الله ، والإعراض عما سوى الله " .
وأيضا ; ففيه كفاية جميع الهموم بجعل همه هما واحدا ، بخلاف من كان ناظرا إلى المسبب بالسبب ; فإنه ناظر إلى كل مسبب في كل سبب يتناوله ، وذلك مكثر ، ومشتت .
وأيضا ; ففي النظر إلى كون السبب منتجا أو غير منتج تفرق بال ، وإذا أنتج فليس على وجه واحد ، فصاحبه متبدد الحال ، مشغول القلب في أن لو كان المسبب أصلح مما كان ، فتراه يعود تارة باللوم على السبب ، وتارة بعدم الرضى بالمسبب ، وتارة على غير هذه الوجوه ، وإلى هذا النحو يشير معنى قوله عليه الصلاة والسلام : لا تسبوا الدهر ; فإن الله هو الدهر ، وأمثاله .
[ ص: 351 ] وأما المشتغل بالسبب معرضا عن النظر في غيره ، فمشتغل بأمر واحد ، وهو التعبد بالسبب أي سبب كان ، ولا شك أن هما واحدا خفيف على النفس جدا بالنسبة إلى هموم متعددة ، بل هم واحد ثابت خفيف بالنسبة إلى هم واحد متغير متشتت في نفسه ، وقد جاء أن : " من جعل همه هما واحدا كفاه الله سائر الهموم ، ومن جعل همه أخراه كفاه الله أمر دنياه " .
[ ص: 352 ] ويقرب من هذا المعنى قول من قال : " من طلب العلم لله ; فالقليل من العلم يكفيه ، ومن طلبه للناس فحوائج الناس كثيرة " .
وقد لهج الزهاد في هذا الميدان ، وفرحوا بالاستباق فيه حتى قال بعضهم : " لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف " .
وروي في الحديث : الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن . والزهد [ ص: 353 ] ليس عدم ذات اليد ، بل هو حال للقلب يعبر عنها ـ إن شئت ـ بما تقرر من الوقوف مع التعبد بالأسباب من غير مراعاة للمسببات التفاتا إليها في [ الأسباب ] ، فهذا أنموذج ينبهك على جملة هذه القاعدة .
فصل
- ومنها : أن النظر في المسبب قد يكون على التوسط ، كما سيأتي ذكره [ ص: 354 ] إن شاء الله تعالى ، وذلك إذا أخذه من حيث مجاري العادات ، وهو أسلم لمن التفت إلى المسبب ، وقد يكون على وجه من المبالغة فوق ما يحتمل البشر فيحصل بذلك للمتسبب ; إما شدة التعب ، وإما الخروج عما هو له إلى ما ليس له .
أما شدة التعب ; فكثيرا ما يتفق لأرباب الأحوال في السلوك ، وقد يتفق أن يكون صاحب التسبب كثير الإشفاق أو كثير الخوف ، وأصل هذا تنبيه الله نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الكتاب العزيز ـ حالة دعائه الخلق بشدة الحرص ـ على أن الأولى به الرجوع إلى التوسط بقوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون إلى قوله : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى الآية [ الأنعام : 33 - 35 ] .
وقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ الشعراء : 3 ] .
وقوله : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآية [ المائدة : 41 ] .
وقوله : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك الآية إلى قوله : إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل [ هود : 12 ] .
وقوله : ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون [ النحل : 127 ] .
إلى غير ذلك مما هو في هذا المعنى مما يشير إلى الحض على الإقصار مما كان يكابد ، والرجوع إلى الوقوف مع ما أمر به مما هو تسبب ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بقوله : إنما أنت منذر [ الرعد : 7 ] [ ص: 355 ] إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل [ هود : 12 ] وأشباه ذلك .
وجميعه يشير إلى أن المطلوب منك التسبب ، والله هو المسبب ، وخالق المسبب ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم الآية [ آل عمران : 128 ] ، وهو ينبهك على شدة مقاساته عليه الصلاة والسلام في الحرص على إيمانهم ، ومبالغته في التبليغ طمعا في أن تقع نتيجة الدعوة ، وهي إيمانهم الذي به نجاتهم من العذاب ، حتى جاء في القرآن : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [ التوبة : 128 ] .
ومع هذا فقد ندب عليه الصلاة والسلام إلى أمر هو أوفق ، وأحرى بالتوسط في مقام النبوة ، وأدنى من خفة ما يلقاه في ذلك من التعب والمشقة ، وأجرى في سائر الرتب التي دون النبوة ، هذا وإن كان مقام النبوة على ما يليق به من شرف المنزلة التي لا يدانيه فيها أحد ، فلا يقدح ذلك في صحة الاستدلال بأحكامه فيما دونها من المراتب اللائقة بالأمة ، كما تقرر عند أهل الشريعة من صحة الاستدلال بأحواله ، وأحكامه في أحكام أمته ، ما لم يدل دليل على اختصاصه دون أمته .
وأما الخروج عما هو له إلى ما ليس له ; فلأنه إذا قصد عين المسبب أن يكون أو لا يكون كان مخالفا لمقصود الشارع ; إذ قد تبين أن المسبب ليس [ ص: 356 ] للمكلف ، ولم يكلف به ، بل هو لله وحده ، فمن قصده فالغالب عليه بحسب إفراطه أن يكون قاصدا لوقوعه بحسب غرضه المعين ، وهو إنما يجري على مقتضى إرادة الله تعالى ، لا على وفق غرض العبد المعين من كل وجه ، فقد صار غرض العبد وقصده مخالفا بالوضع لما أريد به ، وذلك خارج عن مقتضى الأدب ، ومعارضة للقدر أو ما هو ينحو ذلك النحو .
وقد جاء في " الصحيح " التنبيه على هذا المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ، ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ; فإن لو تفتح عمل الشيطان . فقد نبهك على أن لو تفتح عمل الشيطان ؛ لأنه التفات إلى المسبب في السبب كأنه متولد عنه أو لازم عقلا ، بل ذلك قدر الله ، وما شاء فعل ; إذ لا يعينه وجود السبب ، ولا يعجزه فقدانه .
فالحاصل أن نفوذ القدر المحتوم هو محصول الأمر ، ويبقى السبب : إن كان مكلفا به عمل فيه بمقتضى التكليف ، وإن كان غير مكلف به لكونه غير داخل في مقدوره استسلم استسلام من يعلم أن الأمر كله بيد الله ، فلا ينفتح [ عليه ] باب الشيطان ، وكثيرا ما يبالغ الإنسان في هذا المعنى حتى يصير منه [ ص: 357 ] إلى ما هو مكروه شرعا من تشويش الشيطان ، ومعارضة القدر ، وغير ذلك .
فصل
- ومنها : أن تارك النظر في المسبب أعلى مرتبة ، وأزكى عملا إذا كان عاملا في العبادات ، وأوفر أجرا في العادات ; لأنه عامل على إسقاط حظه ، بخلاف من كان ملتفتا إلى المسببات ; فإنه عامل على الالتفات إلى الحظوظ ; لأن نتائج الأعمال راجعة إلى العباد مع أنها خلق الله ; فإنها مصالح أو مفاسد تعود عليهم كما في حديث أبي ذر : " إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها " ، وأصله في القرآن : من عمل صالحا فلنفسه [ فصلت : 46 ] ; فالملتفت إليها عامل بحظه ، ومن رجع إلى مجرد الأمر والنهي ، [ عامل على إسقاط الحظوظ ، وهو مذهب أرباب الأحوال ] ، ولهذا بسط في موضع آخر .
فإن قيل : على أي معنى يفهم إسقاط النظر في المسببات ؟ ، وكيف ينضبط ما يعد كذلك ؟ مما لا يعد كذلك ؟
[ ص: 358 ] فالجواب أن ترك الحظوظ قد يكون ظاهرا ، بمعنى عدم التفات القلب إليها جملة ، وهذا قليل ، وأكثر ما يختص بهذا أرباب الأحوال من الصوفية ، فهو يقوم بالسبب مطلقا من غير أن ينظر هل له مسبب أم لا ، وقد يكون غير ظاهر [ ص: 359 ] بمعنى أن الحظ لا يسقط جملة من القلب ; إلا أنه التفت إليه من وراء الأمر أو النهي ، ويكون هذا مع الجريان على مجاري العادات ، مع علمه بأن الله مجريها كيف شاء ، ويكون أيضا مع طلب المسبب بالسبب ، أي : يطلب من المسبب مقتضى السبب ; فكأنه يسأل المسبب باسطا يد السبب ، كما يسأله الشيء باسطا يد الضراعة أو يكون مفوضا في المسبب إلى من هو إليه ، فهؤلاء قد أسقطوا النظر في المسبب بالسبب ، وإنما الالتفات للمسبب بمعنى الجريان مع السبب ; كالطالب للمسبب من نفس السبب أو كالمعتقد أن السبب هو المولد للمسبب ، فهذا هو المخوف الذي هو حر بتلك المفاسد المذكورة ، وبين هذين الطرفين ، وسائط هي مجال نظر المجتهدين ; فإلى أيهما كان أقرب كان الحكم له ، ومثل هذا مقرر أيضا في مسألة الحظوظ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (25)
صـ360 إلى صـ 368
المسألة العاشرة
ما ذكر من أن المسببات مرتبة على فعل الأسباب شرعا ، وأن الشارع يعتبر المسببات في الخطاب بالأسباب ، يترتب عليه بالنسبة إلى المكلف إذا اعتبره أمور :
- منها : أن المسبب إذا كان منسوبا إلى المتسبب شرعا ، [ أو ] اقتضى أن يكون المكلف في تعاطي السبب ملتفتا إلى جهة المسبب أن يقع منه ما ليس في حسابه ; فإنه كما يكون التسبب مأمورا به كذلك يكون منهيا عنه ، وكما يكون التسبب في الطاعة منتجا ما ليس في ظنه من الخير ; لقوله تعالى : [ ص: 360 ] ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [ المائدة : 32 ] .
وقوله عليه السلام : من سن سنة حسنة كان له أجرها ، وأجر من عمل بها ، وقوله : إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أنها تبلغ ما بلغت الحديث .
كذلك يكون التسبب في المعصية منتجا ما لم يحتسب من الشر ; لقوله تعالى : فكأنما قتل الناس جميعا [ المائدة : 32 ] .
وقوله عليه الصلاة والسلام : ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، وقوله : ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ، وقوله : إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله الحديث . إلى أشباه ذلك .
[ ص: 361 ] وقد قرر الغزالي من هذا المعنى في كتاب الإحياء ، وفي غيره ما فيه كفاية وقد قال في كتاب الكسب : " ترويج الدرهم الزائف من الدراهم في أثناء النقد ظلم ; إذ به يستضر المعامل إن لم يعرف ، وإن عرف فيروجه على غيره ، وكذلك الثاني والثالث ، ولا يزال يتردد في الأيدي ، ويعم الضرر ويتسع الفساد ، ويكون وزر الكل ووباله راجعا إليه ; فإنه الذي فتح ذلك الباب " ، ثم استدل بحديث : من سن سنة حسنة إلخ .
ثم حكي عن بعضهم أن إنفاق درهم زائف أشد من سرقة مائة درهم قال : " لأن السرقة معصية واحدة ، وقد تمت وانقطعت ، وإظهار الزائف بدعة أظهرها في الدين وسن سنة سيئة يعمل عليها من بعده ، فيكون عليه وزرها بعد موته إلى مائة سنة ، ومائتي سنة إلى أن يفنى ذلك الدرهم ، ويكون عليه ما فسد ونقص من أموال الناس بسببه ، وطوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه ، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مائة سنة ، ومائتي سنة يعذب بها في قبره ، ويسأل عنها إلى انقراضها ، وقال تعالى : ونكتب ما قدموا وآثارهم [ يس : 12 ] أي : نكتب أيضا ما أخروه من آثار أعمالهم ، كما نكتب ما قدموه ، ومثله قوله تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ القيامة : 13 ] ، وإنما أخر أثر أعماله ، من سن سنة سيئة عمل بها غيره " .
[ ص: 362 ] هذا ما قاله هناك ، وقاعدة إيقاع السبب أنه بمنزلة إيقاع المسبب قد بينت هذا .
وله في كتاب الشكر ما هو أشد من هذا ، حيث قدر النعم أجناسا ، وأنواعا ، وفصل فيها تفاصيل جمة ، ثم قال : " بل أقول : من عصى الله ولو في نظرة واحدة ، بأن فتح بصره حيث يجب غض البصر ، فقد كفر نعمة الله في السماوات والأرضين وما بينهما ; فإن كل ما خلق الله حتى الملائكة والسماوات والحيوانات والنبات بجملته نعمة على كل واحد من العباد قد تم بها انتفاعه " .
ثم قرر شيئا من النعم العائدة إلى البصر من الأجفان ، ثم قال : " قد كفر نعمة الله في الأجفان ، ولا تقوم الأجفان إلا بعين ، ولا العين إلا بالرأس ، ولا الرأس إلا بجميع البدن ، ولا البدن إلا بالغذاء ، ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر ، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالسماوات ، ولا السماوات إلا بالملائكة ; فإن الكل كالشيء الواحد يرتبط البعض منه بالبعض ، ارتباط أعضاء البدن بعضها ببعض " .
قال : " وكذلك ورد في الأخبار أن البقعة التي يجتمع فيها الناس ; إما أن تلعنهم إذا تفرقوا أو تستغفر لهم " .
[ ص: 363 ] ولذلك ورد : إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر ، وذلك إشارة إلى أن العاصي بتطريفة واحدة ، جنى على جميع ما في الملك والملكوت ، وقد أهلك نفسه إلى أن يتبع السيئة بحسنة تمحوها ، فيتبدل اللعن بالاستغفار فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه ، ثم حكى غير ذلك ، ومضى في كلامه .
فإذا نظر المتسبب إلى مآلات الأسباب ; فربما كان باعثا له على التحرز من أمثال هذه الأشياء ; إذ يبدو له يوم الدين من ذلك ما لم يكن يحتسب ، والعياذ بالله .
فصل
- ومنها : أنه إذا التفت إلى المسببات مع أسبابها ، ربما ارتفعت عنه إشكالات ترد في الشريعة بسبب تعارض أحكام أسباب تقدمت مع أسباب أخر حاضرة ، وذلك أن متعاطي السبب قد يبقى عليه حكمه ، وإن رجع عن ذلك السبب أو تاب منه ، فيظن أن المسبب يرتفع حكمه برجوعه عن السبب ، ولا يكون كذلك .
مثاله : من توسط أرضا مغصوبة ، ثم تاب وأراد الخروج منها ، فالظاهر الآن أنه لما أمر بالخروج فأخذ في الامتثال غير عاص ولا مؤاخذ ; لأنه لم يمكنه أن يكون ممتثلا عاصيا في حالة واحدة ، ولا مأمورا منهيا من جهة واحدة ; لأن ذلك تكليف ما لا يطاق ، فلا بد أن يكون في توسطه مكلفا بالخروج على وجه يمكنه ، ولا يمكن مع بقاء حكم النهي في نفس الخروج ; فلا بد أن يرتفع عنه حكم النهي في الخروج .
وقال أبو هاشم : هو على حكم المعصية ، ولا يخرج عن ذلك إلا بانفصاله عن الأرض المغصوبة ، ورد الناس عليه قديما وحديثا ، والإمام أشار في البرهان إلى تصور هذا وصحته ، باعتبار أصل السبب الذي هو عصيان ; فانسحب عليه حكم التسبب ، وإن ارتفع بالتوبة ، ونظر ذلك بمسائل ، وهو [ ص: 365 ] صحيح باعتبار الأصل المتقدم ; فإن أصل التسبب أنتج مسببات خارجة عن نظره ، فلو نظر الجمهور إليها لم يستبعدوا اجتماع الامتثال مع استصحاب حكم المعصية إلى الانفصال عن الأرض المغصوبة ، وهذا أيضا ينبني على الالتفات إلى أن المسبب خارج عن نظره ; فإنه إذا رأى ذلك ، وجد نفس الخروج ذا وجهين :
أحدهما : وجه كون الخروج سببا في الخلوص عن التعدي بالدخول في الأرض ، وهو من كسبه .
والثاني : كونه نتيجة دخوله ابتداء ، وليس من كسبه بهذا الاعتبار ; إذ ليس [ ص: 366 ] له قدرة عن الكف عنه .
ومن هذا : مسألة من تاب عن القتل بعد رمي السهم عن القوس ، وقبل وصوله إلى الرمية ، ومن تاب من بدعة بعد ما بثها في الناس ، وقبل أخذهم بها أو بعد ذلك ، وقبل رجوعهم عنها ، ومن رجع عن شهادته بعد الحكم بها وقبل الاستيفاء ، وبالجملة بعد تعاطي السبب على كماله وقبل تأثيره ، ووجود مفسدته أو بعد وجودها ، وقبل ارتفاعها إن أمكن ارتفاعها ، فقد اجتمع على المكلف هنا الامتثال مع بقاء العصيان ; فإن اجتمعا في الفعل الواحد كما في المثال الأول ، كان عاصيا ممتثلا ، إلا أن الأمر والنهي لا يتواردان عليه في هذا التصوير ; لأنه من جهة العصيان غير مكلف به ; لأنه مسبب غير داخل تحت قدرته فلا نهي إذ ذاك ، ومن جهة الامتثال مكلف ; لأنه قادر عليه فهو مأمور بالخروج وممتثل به ، وهذا معنى ما أراده الإمام . وما اعترض به عليه ، وعلى أبي هاشم لا يرد مع هذه الطريقة إذا تأملتها ، والله أعلم .
فصل
- ومنها : أن الله عز وجل جعل المسببات في العادة تجري على وزان الأسباب في الاستقامة أو الاعوجاج ، فإذا كان السبب تاما ، والتسبب على ما ينبغي ، كان المسبب كذلك ، وبالضد .
[ ص: 367 ] ومن هاهنا إذا وقع خلل في المسبب ، نظر الفقهاء إلى التسبب هل كان على تمامه أم لا ؟ فإن كان على تمامه لم يقع على المتسبب لوم ، وإن لم يكن على تمامه رجع اللوم والمؤاخذة عليه ، ألا ترى أنهم يضمنون الطبيب والحجام والطباخ وغيرهم من الصناع إذا ثبت التفريط من أحدهم ، إما بكونه غر من نفسه وليس بصانع ، وإما بتفريط ، بخلاف ما إذا لم يفرط ; فإنه لا ضمان عليه ; لأن الغلط في المسببات أو وقوعها على غير وزان التسبب قليل فلا يؤاخذ ، بخلاف ما إذا لم يبذل الجهد ; فإن الغلط فيها كثير ; فلا بد من المؤاخذة .
فمن التفت إلى المسببات من حيث كانت علامة على الأسباب في الصحة أو الفساد لا من جهة أخرى ، فقد حصل على قانون عظيم يضبط به جريان الأسباب على وزان ما شرع أو على خلاف ذلك ، ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلا على ما في الباطن ; فإن كان الظاهر منخرما حكم على الباطن بذلك أو مستقيما حكم على الباطن بذلك أيضا ، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات ، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جدا ، والأدلة على صحته كثيرة جدا ، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع وعصيان العاصي وعدالة العدل وجرحة المجرح ، وبذلك تنعقد العقود ، وترتبط المواثيق ، إلى غير ذلك من الأمور ، بل هو كلية التشريع ، وعمدة التكليف [ ص: 368 ] بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (26)
صـ369 إلى صـ 380
فصل
- ومنها : أن المسببات قد تكون خاصة ، وقد تكون عامة ، ومعنى كونها خاصة : أن تكون بحسب وقع السبب ، كالبيع المتسبب به إلى إباحة الانتفاع بالمبيع ، والنكاح الذي يحصل به حلية الاستمتاع ، والذكاة التي بها يحصل حل الأكل ، وما أشبه ذلك ، وكذلك جانب النهي ، كالسكر الناشئ عن شرب الخمر ، وإزهاق الروح المسبب عن حز الرقبة .
وأما العامة ; فكالطاعة التي هي سبب في الفوز بالنعيم ، والمعاصي التي هي سبب في دخول الجحيم ، وكذلك أنواع المعاصي التي يتسبب عنها فساد في الأرض ، كنقص المكيال والميزان المسبب عنه قطع الرزق ، والحكم بغير الحق الناشئ عنه الدم ، وختر العهد الذي يكون عنه تسليط العدو ، والغلول الذي يكون عنه قذف الرعب ، وما أشبه ذلك ، ولا شك أن أضداد [ ص: 369 ] [ ص: 370 ] [ ص: 371 ] هذه الأمور يتسبب عنها أضداد مسبباتها .
فإذا نظر العامل فيما يتسبب عن عمله من الخيرات أو الشرور ، اجتهد في اجتناب المنهيات ، وامتثال المأمورات ، رجاء في الله وخوفا منه ، ولهذا جاء الإخبار في الشريعة بجزاء الأعمال ، وبمسببات الأسباب ، والله أعلم بمصالح عباده ، والفوائد التي تنبني على هذه الأصول كثيرة .
فصل
فإن قيل : تقرر في المسألة التي قبل هذه أن النظر في المسببات يستجلب مفاسد ، والجاري على مقتضى هذا أن لا يلتفت إلى المسبب في التسبب ، وتبين الآن أن النظر في المسببات يستجر مصالح ، والجاري على مقتضى هذا أن يلتفت إليها ; فإن كان هذا على الإطلاق كان تناقضا ، وإن لم يكن على الإطلاق ; فلا بد من تعيين موضع الالتفات الذي يجلب المصالح ، من الالتفات الذي يجر المفاسد بعلامة يوقف عندها أو ضابط يرجع إليه .
فالجواب : أن هذا المعنى مبسوط في غير هذا الموضع ، ولكن ضابطه أنه إن كان الالتفات إلى المسبب من شأنه التقوية للسبب والتكملة له والتحريض على المبالغة في إكماله ; فهو الذي يجلب المصلحة ، وإن كان [ ص: 372 ] من شأنه أن يكر على السبب بالإبطال أو بالإضعاف أو بالتهاون به ; فهو الذي يجلب المفسدة .
وهذان القسمان على ضربين :
أحدهما : ما شأنه ذلك بإطلاق ; بمعنى أنه يقوي السبب أو يضعفه بالنسبة إلى كل مكلف ، وبالنسبة إلى كل زمان ، وبالنسبة إلى كل حال يكون عليها المكلف .
والثاني : ما شأنه ذلك لا بإطلاق ، بل بالنسبة إلى بعض المكلفين دون بعض أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض أو بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض .
وأيضا ; فإنه ينقسم من جهة أخرى قسمين :
أحدهما : ما يكون في التقوية أو التضعيف مقطوعا به .
والثاني : مظنونا أو مشكوكا فيه ; فيكون موضع نظر وتأمل ; فيحكم بمقتضى الظن ، ويوقف عند تعارض الظنون ، وهذه جملة مجملة غير مفسرة ، ولكن إذا روجع ما تقدم وما يأتي ; ظهر مغزاه ، وتبين معناه بحول الله .
ويخرج عن هذا التقسيم نظر المجتهدين ; فإن على المجتهد أن ينظر في الأسباب ومسبباتها لما ينبني على ذلك من الأحكام الشرعية ، وما تقدم من التقسيم راجع إلى أصحاب الأعمال من المكلفين ، وبالله التوفيق .
فصل
[ ص: 373 ] وقد يتعارض الأصلان معا على المجتهدين ; فيميل كل واحد إلى ما غلب على ظنه : فقد قالوا في السكران إذا طلق أو أعتق أو فعل ما يجب عليه الحد فيه أو القصاص : عومل معاملة من فعلها عاقلا اعتبارا بالأصل الثاني ، وقالت طائفة : بأنه كالمجنون اعتبارا بالأصل الأول على تفصيل لهم في ذلك مذكور في الفقه ، واختلفوا أيضا في ترخص العاصي بسفره بناء على الأصلين أيضا ، واختلفوا في قضاء صوم التطوع ، وفي قطع التتابع بالسفر [ ص: 374 ] الاختياري إذا عرض له فيه عذر أفطر من أجله ، وكذلك اختلفوا في أكل الميتة إذا اضطر بسبب السفر الذي عصى بسببه ، وعليهما يجري الخلاف أيضا في المسألة المذكورة قبل هذا بين أبي هاشم وغيره ، فيمن توسط أرضا مغصوبة .
المسألة الحادية عشرة
الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح ، كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد ، مثال ذلك : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; فإنه أمر مشروع لأنه سبب لإقامة الدين ، وإظهار شعائر الإسلام ، وإخماد الباطل على أي وجه كان ، وليس بسبب ـ في الوضع الشرعي ـ لإتلاف مال أو نفس ، ولا نيل من عرض ، وإن أدى إلى ذلك في الطريق ، وكذلك الجهاد موضوع لإعلاء كلمة الله ، وإن أدى إلى مفسدة في المال أو النفس ، ودفع المحارب مشروع لرفع القتل والقتال وإن أدى إلى القتل والقتال ، والطلب بالزكاة مشروع لإقامة ذلك الركن من أركان الإسلام ، وإن أدى إلى القتال ، كما فعله أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ، وأجمع عليه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ، وإقامة الحدود ، والقصاص مشروع لمصلحة الزجر عن الفساد ، وإن أدى إلى إتلاف النفوس وإهراق الدماء ، وهو في نفسه مفسدة ، وإقرار حكم الحاكم مشروع لمصلحة فصل الخصومات ، وإن أدى إلى [ ص: 375 ] الحكم بما ليس بمشروع هذا في الأسباب المشروعة .
وأما في الأسباب الممنوعة ; فالأنكحة الفاسدة ممنوعة ، وإن أدت إلى إلحاق الولد ، وثبوت الميراث وغير ذلك من الأحكام وهي مصالح ، والغصب ممنوع للمفسدة اللاحقة للمغصوب منه ، وإن أدى إلى مصلحة الملك عند تغير المغصوب في يد الغاصب أو غيره من وجوه الفوت .
فالذي يجب أن يعلم أن هذه المفاسد الناشئة عن الأسباب المشروعة ، [ والمصالح الناشئة عن الأسباب الممنوعة ] ليست بناشئة عنها في الحقيقة ، وإنما هي ناشئة عن أسباب أخر مناسبة لها .
والدليل على ذلك ظاهر ; فإنها إذا كانت مشروعة ; فإما أن تشرع للمصالح أو للمفاسد أو لهما معا أو لغير شيء من ذلك ، فلا يصح أن تشرع للمفاسد ; لأن السمع يأبى ذلك ، فقد ثبت الدليل الشرعي على أن [ تلك ] [ ص: 376 ] الشريعة إنما جيء بالأوامر فيها جلبا للمصالح ، وإن كان ذلك غير واجب في العقول فقد ثبت في السمع ، وكذلك لا يصح أن تشرع لهما معا بعين ذلك الدليل ، ولا لغير شيء لما ثبت من السمع أيضا ; فظهر أنها شرعت للمصالح .
وهذا المعنى يستمر فيما منع ، إما أن يمنع لأن فعله مؤد إلى مفسدة أو إلى مصلحة أو إليهما أو لغير شيء ، والدليل جار إلى آخره ; فإذا لا سبب مشروع إلا وفيه مصلحة لأجلها شرع ; فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة ; فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب المشروع .
وأيضا ; فلا سبب ممنوع إلا وفيه مفسدة لأجلها منع ; فإن رأيته وقد انبنى عليه مصلحة فيما يظهر ، فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب الممنوع ، وإنما ينشأ عن كل واحد منها ما وضع له في الشرع إن كان مشروعا ، وما منع لأجله إن كان ممنوعا ، وبيان ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا ، لم يقصد به الشارع إتلاف نفس ولا مال ، وإنما هو أمر يتبع السبب المشروع لرفع الحق ، وإخماد الباطل ، كالجهاد ليس مقصوده إتلاف النفوس ، بل إعلاء الكلمة ، لكن يتبعه في الطريق الإتلاف من جهة نصب الإنسان نفسه في محل يقتضي تنازع الفريقين ، وشهر السلاح ، وتناول القتال ، والحدود وأشباهها يتبع المصلحة فيها الإتلاف ، من جهة أنه لا يمكن إقامة المصلحة إلا بذلك ، وحكم الحاكم سبب لدفع التشاجر وفصل الخصومات بحسب الظاهر ، حتى تكون المصلحة ظاهرة ، وكون الحاكم مخطئا راجع إلى أسباب أخر ، من تقصير في النظر أو كون [ ص: 377 ] الظاهر على خلاف الباطن ، ولم يكن له على ذلك دليل ، وليس بمقصود في أمر الحاكم ، ولا ينقض الحكم إذا كان له مساغ ما بسبب أمر آخر ، وهو أن الفسخ يؤدي إلى ضد ما نصب له الحاكم من الفصل بين الخصوم ، ورفع التشاجر ; فإن الفسخ ضد الفصل .
وأما قسم الممنوع ; فإن ثبوت تلك الأحكام إنما نشأ من الحكم بالتصحيح لذلك النكاح بعد الوقوع ، لا من جهة كونه فاسدا حسبما هو مبين في موضعه ، والبيوع الفاسدة من هذا النوع ، لأن لليد القابضة هنا حكم الضمان شرعا ، فصار القابض كالمالك للسلعة بسبب الضمان لا بسبب العقد ، فإذا فاتت عينها تعين المثل أو القيمة ، وإن بقيت على غير تغير ، ولا وجه من وجوه الفوت ، فالواجب ما يقتضيه النهي من الفساد فإذا حصل فيها تغير أو نحوه مما ليس بمفيت للعين ; تواردت أنظار المجتهدين هل يكون ذلك في حكم الفوت جملة بسبب التغير أم لا ؟ فبقي حكم المطالبة بالفسخ ، إلا أن في المطالبة بالفسخ حملا على صاحب السلعة إذا ردت عليه متغيرة مثلا ، كما [ ص: 378 ] أن فيها حملا على المشتري ، حيث أعطى ثمنا ، ولم يحصل له ما تعنى فيه من وجوه التصرفات التي حصلت في المبيع ، فكان العدل النظر فيما بين هذين ، فاعتبر في الفوت حوالة الأسواق ، والتغير الذي لم يفت العين ، وانتقال الملك ، وما أشبه ذلك من الوجوه المذكورة في كتب الفقهاء ، وحاصلها أن عدم الفسخ وتسليط المشتري على الانتفاع ليس سببه العقد المنهي عنه ، بل الطوارئ المترتبة بعده ، والغصب من هذا النحو أيضا ; فإن على اليد العادية حكم الضمان شرعا ، والضمان يستلزم تعين المثل أو القيمة في الذمة ، فاستوى في هذا المعنى مع المالك بوجه ما ، فصار له بذلك شبهة ملك فإذا حدث في المغصوب حادث تبقى معه العين على الجملة ; صار محل اجتهاد ، نظرا إلى حق صاحب المغصوب ، وإلى الغاصب ; إذ لا يجني عليه غصبه أن يحمل عليه في الغرم عقوبة له ، كما أن المغصوب منه لا يظلم بنقص حقه ، فكان في [ ص: 379 ] ذلك الاجتهاد بين هذين ، فالسبب في تملك الغاصب المغصوب ليس نفس الغصب ، بل التضمين أولا ، منضما إلى ما حدث بعد في المغصوب ، فعلى هذا النوع أو شبهه يجري النظر في هذه الأمور .
والمقصود أن الأسباب المشروعة لا تكون أسبابا للمفاسد ، والأسباب الممنوعة لا تكون أسبابا للمصالح ; إذ لا يصح ذلك بحال .
فصل
وعلى هذا الترتيب يفهم حكم كثير من المسائل في مذهب مالك وغيره .
ففي المذهب أن من حلف بالطلاق أن يقضي فلانا حقه إلى زمان كذا ، ثم خاف الحنث بعدم القضاء فخالع زوجته حتى انقضى الأجل ووقع الحنث وليست بزوجة ثم راجعها ، أن الحنث لا يقع عليه ، وإن كان قصده مذموما وفعله مذموما ; لأنه احتال بحيلة أبطلت حقا ، فكانت المخالعة ممنوعة ، وإن أثمرت عدم الحنث لأن عدم الحنث لم يكن بسبب المخالعة ، بل بسبب أنه حنث ، ولا زوجة له فلم يصادف الحنث محلا .
وكذلك قول اللخمي فيمن قصد بسفره الترخص بالفطر في رمضان أن له أن يفطر ، وإن كره له هذا القصد ; لأن فطره بسبب المشقة اللازمة للسفر لا بسبب نفس السفر المكروه ، وإن علل الفطر بالسفر فلاشتماله على المشقة لا لنفس السفر ، ويحقق ذلك أن الذي كره له السفر الذي هو من كسبه ، والمشقة خارجة عن كسبه ، فليست المشقة هي عين المكروه له بل سببها ، والمسبب هو السبب في الفطر .
[ ص: 380 ] فأما لو فرضنا أن السبب الممنوع لم يثمر ما ينهض سببا لمصلحة أو السبب المشروع لم يثمر ما ينهض سببا لمفسدة ، فلا يكون عن المشروع مفسدة تقصد شرعا ، ولا عن الممنوع مصلحة تقصد شرعا ، وذلك كحيل أهل العينة في جعل السلعة واسطة في بيع الدينار بالدينارين إلى أجل ، فهنا طرفان وواسطة : طرف لم يتضمن سببا ثابتا على حال كالحيلة المذكورة ، وطرف تضمن سببا قطعا أو ظنا كتغيير المغصوب في يد الغاصب ، فيملكه على التفصيل المعلوم ، وواسطة لم ينتف فيها السبب ألبتة ، ولا ثبت قطعا ، فهو محل أنظار المجتهدين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (27)
صـ381 إلى صـ 390
فصل
هذا كله إذا نظرنا إلى هذه المسائل الفرعية بهذا الأصل المقرر ; فإن تؤملت من جهة أخرى ، كان الحكم آخر ، وتردد الناظرون فيه لأنه يصير محلا للتردد .
وذلك أنه قد تقرر أن إيقاع المكلف الأسباب في حكم إيقاع المسببات ، وإذا كان كذلك ; اقتضى أن المسبب في حكم الواقع باختياره ، فلا يكون سببا شرعيا ، فلا يقع له مقتضى ، فالعاصي بسفره لا يقصر ولا يفطر ; لأن المشقة كأنها واقعة بفعله ; لأنها ناشئة عن سببه ، والمحتال للحنث بمخالعة امرأته لا يخلصه احتياله من الحنث ، بل يقع عليه إذا راجعها ، وكذلك المحتال لمراجعة زوجته بنكاح المحلل ، وما أشبه ذلك ; فهاهنا إذا روجع الأصلان ، كانت المسائل في محل الاجتهاد ، فمن ترجح عنده أصل قال بمقتضاه ، والله أعلم .
فصل
ما تقدم في هذا الأصل نظر في مسببات الأسباب ، من حيث كانت الأسباب مشروعة أو غير مشروعة ، أي : من جهة ما هي داخلة تحت نظر الشرع ، لا من جهة ما هي أسباب عادية لمسبباب عادية ; فإنها إذا نظر إليها من [ ص: 382 ] هذا الوجه كان النظر فيها آخر ; فإن قصد التشفي بقصد القتل متسبب فيما هو عنده مصلحة أو دفع مفسدة ، وكذلك تارك العبادات الواجبة إنما تركها فرارا من إتعاب النفس ، وقصدا إلى الدعة والراحة بتركها ، فهو من جهة ما هو فاعل بإطلاق أو تارك بإطلاق ، متسبب في درء المفاسد عن نفسه أو جلب المصالح لها ، كما كان الناس في أزمان الفترات ، والمصالح والمفاسد هنا هي المعتبرة بملائمة الطبع ومنافرته ; فلا كلام هنا في مثل هذا .
المسألة الثانية عشرة
الأسباب ـ من حيث هي أسباب شرعية ـ لمسببات إنما شرعت لتحصيل مسبباتها ، وهي المصالح المجتلبة أو المفاسد المستدفعة ، والمسببات بالنظر إلى أسبابها ضربان :
أحدهما : ما شرعت الأسباب لها ; إما بالقصد الأول ، وهي متعلق المقاصد الأصلية أو المقاصد الأول أيضا ، وإما بالقصد الثاني ، وهي متعلق المقاصد التابعة ، وكلا الضربين مبين في كتاب المقاصد .
[ ص: 383 ] والثاني : ما سوى ذلك مما يعلم أو يظن أن الأسباب لم تشرع لها أو لا يعلم ولا يظن أنها شرعت لها أو لم تشرع لها ، فتجيء الأقسام ثلاثة : أحدها : ما يعلم أو يظن أن السبب شرع لأجله ، فتسبب المتسبب فيه صحيح ; لأنه أتى الأمر من بابه ، وتوسل إليه بما أذن الشارع في التوسل به إلى ما أذن أيضا في التوسل إليه ; لأنا فرضنا أن الشارع قصد بالنكاح مثلا التناسل أولا ، ثم يتبعه اتخاذ السكن ، ومصاهرة أهل المرأة لشرفهم أو دينهم ، أو نحو ذلك أو الخدمة أو القيام على مصالحه أو التمتع بما أحل الله من النساء أو التجمل بمال المرأة أو الرغبة في جمالها أو الغبطة بدينها أو التعفف عما حرم الله أو نحو ذلك حسبما دلت عليه الشريعة ، فصار إذا ما قصده هذا المتسبب مقصود الشارع على الجملة ، وهذا كاف ، وقد تبين في كتاب المقاصد أن القصد المطابق لقصد الشارع هو الصحيح ، فلا سبيل إلى القول بفساد هذا التسبب .
لا يقال : إن القصد إلى الانتفاع مجردا لا يغني دون قصد حل البضع بالعقد أولا ; فإنه الذي ينبني عليه ذلك القصد ، والشارع إنما قصده بالعقد أولا [ ص: 384 ] الحل ، ثم يترتب عليه الانتفاع ، فإذا لم يقصد إلا مجرد الانتفاع فقد تخلف قصده عن قصد الشارع ، فيكون مجرد القصد إلى الانتفاع غير صحيح ، ويتبين هذا بما إذا أراد التمتع بفلانة كيف اتفق بحل أو غيره ، فلم يمكنه ذلك إلا بالنكاح المشروع ، وقصده أنه لو أمكنه بالزنا لحصل مقصوده ، فإذا عقد عليها ، والحال هذه فلم يكن قاصدا لحله ، وإذا لم يقصد حلها فقد خالف قصد الشارع بالعقد فكان باطلا ، والحكم في كل فعل أو ترك جار هذا المجرى .
لأنا نقول هو على ما فرض في السؤال صحيح ، وذلك أن حاصل قصد هذا القاصد أنه لم يقدر على ما قصد من وجه غير جائز ، فأتاه من وجه قد جعله الشارع موصلا إليه ، ولم يكن قصده بالعقد أنه ليس بعقد ، بل قصد انعقاد النكاح بإذن من إليه الإذن ، وأدى ما الواجب أن يؤدى فيه ، لكن ملجأ إلى ذلك ، فله بهذا التسبب الجائز مقتضاه ، ويبقى النظر في قصده إلى المحظور الذي لم يقدر عليه ; فإن كان عند عزم على المعصية لو قدر عليها أثم عند المحققين ، وإن كان خاطرا على غير عزيمة ، فمغتفر كسائر الخواطر ، فلم يقترن إذا بالعقد ما يصيره باطلا ; لوقوعه كامل الأركان ، حاصل الشروط ، منتفي الموانع ، وقصد القاصد للعصيان لو قدر عليه خارج عن قصده الاستباحة [ ص: 385 ] بالوجه المقصود للشارع ، وهذا القصد الثاني موجود عنده لا محالة ، وهو موافق لقصد الشارع بوضع السبب ، فصح التسبب ، وأما إلزام قصد الحل فلا يلزم ، بل يكفي القصد إلى إيقاع السبب المشروع ، وإن غفل عن وقوع الحل به ; لأن الحل الناشئ عن السبب ليس بداخل تحت التكليف كما تقدم .
والثاني : ما يعلم أو يظن أن السبب لم يشرع لأجله ابتداء ، فالدليل يقتضي أن ذلك التسبب غير صحيح ، لأن السبب لم يشرع أولا لهذا المسبب المفروض ، وإذا لم يشرع له فلا يتسبب عنه حكمته في جلب مصلحة ولا دفع مفسدة بالنسبة إلى ما قصد بالسبب ، فهو إذا باطل ، هذا وجه .
ووجه ثان : وهو أن هذا السبب بالنسبة إلى هذا المقصود المفروض غير مشروع ، فصار كالسبب الذي لم يشرع أصلا ، وإذا كان التسبب غير المشروع أصلا لا يصح ، فكذلك ما شرع إذا أخذ لما لم يشرع له .
ووجه ثالث : أن كون الشارع لم يشرع هذا السبب لهذا المسبب المعين دليل على أن في ذلك التسبب مفسدة لا مصلحة أو أن المصلحة المشروع لها السبب منتفية بذلك المسبب ، فيصير السبب بالنسبة إليه عبثا ; فإن كان الشارع قد نهى عن ذلك التسبب الخاص ، فالأمر واضح ، فإذا قصد بالنكاح [ ص: 386 ] مثلا التوصل إلى أمر فيه إبطاله كنكاح المحلل أو بالبيع التوصل إلى الربا مع إبطال البيع ، وما أشبه ذلك من الأمور التي يعلم أو يظن أن الشارع لا يقصدها ، كان هذا العمل باطلا لمخالفته لقصد الشارع في شرع النكاح والبيع ، وهكذا سائر الأعمال ، والتسببات العادية ، والعبادية .
فإن قيل : كيف هذا والناكح في المثال المذكور ؟ وإن كان قصد رفع النكاح بالطلاق لتحل للأول ، فما قصده إلا ثانيا عن قصد النكاح ; لأن الطلاق لا يحصل إلا في ملك نكاح ، فهو قصد نكاحا يرتفع بالطلاق ، والنكاح من شأنه ووضعه الشرعي أن يرتفع بالطلاق ، وهو مباح في نفسه فيصح ، لكن كونه قصد مع ذلك التحليل للأول أمر آخر ، وإن كان مذموما ; فإنه إذا اقترن أمران مفترقان في أنفسهما فلا تأثير لأحدهما في الآخر ; لانفكاك أحدهما من الآخر تحقيقا كالصلاة في الدار المغصوبة .
وفي الفقه ما يدل على هذا : فقد اتفق مالك وأبو حنيفة على صحة التعليق في الطلاق قبل النكاح والعتق قبل الملك ، فيقول للأجنبية إن تزوجتك ; فأنت طالق ، وللعبد إن اشتريتك فأنت حر ، ويلزمه الطلاق إن تزوج ، والعتق إذا اشترى ، وقد علم أن مالكا وأبا حنيفة يبيحان له أن يتزوج المرأة ، وأن يشتري العبد .
وفي " المبسوطة " عن مالك فيمن حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها إلى ثلاثين سنة ، ثم يخاف العنت قال : " أرى له جائزا أن يتزوج ، ولكن إن تزوج طلقت عليه " ، مع أن هذا النكاح ، وهذا الشراء ليس فيهما شيء مما قصده الشارع [ ص: 387 ] بالقصد الأول ، ولا بالقصد الثاني إلا الطلاق ، والعتق ، ولم يشرع النكاح للطلاق ، ولا الشراء للخروج عن اليد ، وإنما شرعا لأمور أخر ، والطلاق والعتاق من التوابع غير المقصودة في مشروعيتهما ، فما جاز هذا إلا لأن وقوع الطلاق أو العتق ثان عن حصول النكاح أو الملك ، وعن القصد إليه فالناكح قاصد بنكاحه الطلاق ، والمشتري قاصد بشرائه العتق ، وظاهر هذا القصد المنافاة لقصد الشارع ، ولكنه مع ذلك جائز عند هذين الإمامين ، وإذا كان كذلك ; فأحد الأمرين جائز ; إما جواز التسبب بالمشروع إلى ما لم يشرع له السبب ; وإما بطلان هذه المسائل .
وفي مذهب مالك من هذا كثير جدا ، ففي المدونة فيمن نكح وفي نفسه أن يفارق ، أنه ليس من نكاح المتعة ، فإذا تزوج المرأة ليمين لزمته أن يتزوج على امرأته فقد فرضوا المسألة ، وقال مالك : إن النكاح حلال ; فإن شاء أن يقيم عليه أقام ، وإن شاء أن يفارق فارق ، وقال ابن القاسم : وهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم مما علمنا أو سمعنا قال : وهو عندنا نكاح ثابت ، الذي يتزوج يريد أن يبر في يمينه ، وهو بمنزلة من يتزوج المرأة للذة يريد أن يصيب منها لا يريد حبسها ، ولا ينوي ذلك ، على ذلك نيته وإضماره في تزويجها ; فأمرهما واحد ; فإن شاء أن يقيما أقاما ، لأن أصل النكاح حلال ، ذكر هذه في " المبسوطة " .
وفي الكافي في الذي يقدم البلدة فيتزوج المرأة ، ومن نيته أن يطلقها بعد السفر : " أن قول الجمهور جوازه " .
[ ص: 388 ] وذكر ابن العربي مبالغة مالك في منع نكاح المتعة ، وأنه لا يجيزه بالنية ، كأن يتزوجها بقصد الإقامة معها مدة ، وإن لم يلفظ بذلك ، ثم قال : وأجازه سائر العلماء ، ومثل بنكاح المسافرين قال : وعندي أن النية لا تؤثر في ذلك ; فإنا لو ألزمناه أن ينوي بقلبه النكاح الأبدي لكان نكاحا نصرانيا ، فإذا سلم لفظه لم تضره نيته ، ألا ترى أن الرجل يتزوج على حسن العشرة رجاء الأدمة ، فإن وجدها وإلا فارق ، كذلك يتزوج على تحصيل العصمة ; فإن اغتبط ارتبط ، وإن كره فارق ، وهذا كلامه في كتاب الناسخ والمنسوخ ، وحكى اللخمي عن مالك [ فمن نكح لغربة ] أو لهوى ليقضي أربه ، ويفارق فلا بأس .
فهذه مسائل دلت على خلاف ما تقدم في القاعدة المستدل عليها ، وأشدها مسألة حل اليمين لأنه لم يقصد النكاح رغبة فيه ، وإنما قصد أن يبر في يمينه ، ولم يشرع النكاح لمثل هذا ، ونظائر ذلك كثيرة ، وجميعها صحيح مع القصد المخالف لقصد الشارع ، وما ذلك إلا لأنه قاصد للنكاح أولا ، ثم [ ص: 389 ] الفراق ثانيا ، وهما قصدان غير متلازمين ; [ وإلا ] فإن جعلتهما متلازمين في المسألة الأولى بحيث يؤثر أحدهما في الآخر ، فليكن كذلك في هذه المسائل ، وحينئذ يبطل جميع ما تقدم ، فعلى الجملة يلزم إما بطلان هذا كله ، وإما بطلان ما تقدم .
فالجواب من وجهين أحدهما إجمالي ، والآخر تفصيلي .
فأما الإجمالي : فهو أن نقول أصل المسألة صحيح لما تقدم من الأدلة ، وما اعترض به ليس بداخل تحتها ، ولا هي منها بدليل قولهم بالجواز والصحة فيها ، فما اتفقوا منها على جوازه فلسلامته من مقتضى أصل المسألة ، وما اختلفوا فيه فلدخوله عند المانعين تحتها ، ولسلامته عند المجيزين ; لأن العلماء لا يتناقض كلامهم ، ولا ينبغي أن يحمل على ذلك ما وجد إلى غيره سبيل ، وهذا جواب يكفي المقلد في الفقه وأصوله ، ويورد على العالم من باب تحسين الظن بمن تقدم من السلف الصالح ليتوقف ، ويتأمل ، ويلتمس المخرج ، ولا يتعسف بإطلاق الرد .
وأما التفصيلي : فنقول : إن هذه المسائل لا تقدح فيما تقدم ، أما مسألة [ ص: 390 ] التعليق فقد قال القرافي : " إنها من المشكلات على الإمامين ، وإن من قال بشرعية النكاح في صورة التعليق قبل الملك ، فقد التزم المشروعية مع انتفاء الحكمة المعتبرة فيه شرعا " قال : " وكان يلزم أن لا يصح العقد على المرأة ألبتة ، لكن العقد صحيح إجماعا ; فدل على عدم لزوم الطلاق تحصيلا لحكمة العقد ، قال : فحيث أجمعنا على شرعيته دل ذلك على بقاء حكمته ، وهو بقاء النكاح المشتمل على مقاصده قال : وهذا موضع مشكل على أصحابنا انتهى قوله .
وهو عاضد لما تقدم ، ولكن النظر فيه راجع إلى أصل آخر ندرجه أثناء هذه المسألة للضرورة إليه ، وهي :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (28)
صـ391 إلى صـ 399
المسألة الثالثة عشرة
وذلك أن السبب المشروع لحكمة لا يخلو أن يعلم أو يظن وقوع الحكمة به أو لا فإن علم أو ظن ذلك فلا إشكال في المشروعية ، وإن لم يعلم ، ولا ظن ذلك فهو على ضربين :
أحدهما : أن يكون ذلك لعدم قبول المحل لتلك الحكمة أو لأمر خارجي .
فإن كان الأول ; ارتفعت المشروعية أصلا فلا أثر للسبب شرعا ألبتة بالنسبة إلى ذلك المحل ، مثل الزجر بالنسبة إلى غير العاقل إذا جنى ، والعقد [ ص: 391 ] على الخمر ، والخنزير ، والطلاق بالنسبة إلى الأجنبية ، والعتق بالنسبة إلى ملك الغير ، وكذلك العبادات ، وإطلاق التصرفات بالنسبة إلى غير العاقل ، وما أشبه ذلك .
والدليل على ذلك أمران :
الأول أن أصل السبب قد فرض أنه لحكمة بناء على قاعدة إثبات المصالح حسبما هو مبين في موضعه ، فلو ساغ شرعه مع فقدانها جملة لم يصح أن يكون مشروعا ، وقد فرضناه مشروعا هذا خلف .
والثاني : أنه لو كان كذلك ; لزم أن تكون الحدود وضعت لغير قصد الزجر ، والعبادات لغير قصد الخضوع لله ، وكذلك سائر الأحكام ، وذلك باطل باتفاق القائلين بتعليل الأحكام .
وأما إن كان امتناع وقوع حكم الأسباب ـ وهي المسببات ـ لأمر خارجي مع قبول المحل من حيث نفسه فهل يؤثر ذلك الأمر الخارجي في شرعية السبب أم يجري السبب على أصل مشروعيته ، هذا محتمل ، والخلاف فيه سائغ ، وللمجيز أن يستدل على ذلك بأمور :
أحدها : أن القاعدة الكلية لا تقدح فيها قضايا الأعيان ولا نوادر التخلف ، وسيأتي لهذا المعنى تقرير في موضعه إن شاء الله .
[ ص: 392 ] والثاني : وهو الخاص بهذا المكان أن الحكمة إما أن تعتبر بمحلها وكونه قابلا لها فقط ، وإما أن تعتبر بوجودها فيه ، فإن اعتبرت بقبول المحل فقط فهو المدعى ، والمحلوف بطلاقها في مسألة التعليق قابلة للعقد عليها من الحالف وغيره ، فلا يمنع ذلك إلا بدليل خاص في المنع ، وهو غير موجود ، وإن اعتبرت بوجودها في المحل ، لزم أن يعتبر في المنع فقدانها مطلقا لمانع أو لغير مانع ، كسفر الملك المترفه ; فإنه لا مشقة له في السفر أو هو مظنة لعدم وجود المشقة فكان القصر والفطر في حقه ممتنعين ، وكذلك إبدال الدرهم بمثله ، وإبدال الدينار بمثله مع أنه لا فائدة في هذا العقد ، وما أشبه ذلك من المسائل التي نجد الحكم فيها جاريا على أصل مشروعيته ، والحكمة غير موجودة .
ولا يقال : إن السفر مظنة المشقة بإطلاق ، وإبدال الدرهم بالدرهم [ ص: 393 ] مظنة لاختلاف الأغراض بإطلاق ، وكذلك سائر المسائل التي في معناها ، فليجز التسبب بإطلاق ، بخلاف نكاح المحلوف بطلاقها بإطلاق ; فإنها ليست بمظنة للحكمة ، ولا توجد فيها على حال .
لأنا نقول : إنما نظير السفر بإطلاق نكاح الأجنبية بإطلاق ; فإن قلتم بإطلاق الجواز مع عدم اعتبار وجود المصلحة في المسألة المقيدة فلتقولوا بصحة نكاح المحلوف بطلاقها ; لأنها صورة مقيدة من مطلق صور نكاح الأجنبيات ، بخلاف نكاح القرابة المحرمة كالأم والبنت مثلا ; فإنها محرمة بإطلاق فالمحل غير قابل بإطلاق ، فهذا من الضرب الأول ، وإذا لم يكن ذلك فلا بد من القول به في تلك المسائل ، وإذ ذاك يكون بعض الأسباب مشروعا ، وإن لم توجد الحكمة ولا مظنتها ، إذا كان المحل في نفسه قابلا ;لأن قبول المحل في نفسه مظنة للحكمة وإن لم توجد وقوعا ، وهذا معقول .
والثالث : أن اعتبار وجود الحكمة في محل عينا لا ينضبط ; لأن تلك الحكمة لا توجد إلا ثانيا عن وقوع السبب ، فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها ، فكم ممن طلق على أثر إيقاع النكاح ، وكم من نكاح فسخ إذ ذاك لطارئ طرأ أو مانع منع ، وإذا لم نعلم وقوع الحكمة فلا يصح [ ص: 394 ] توقف مشروعية السبب على وجود الحكمة ; لأن الحكمة لا توجد إلا بعد وقوع السبب ، وقد فرضنا وقوع السبب بعد وجود الحكمة ، وهو دور محال ، فإذا لا بد من الانتقال إلى اعتبار مظنة قبول المحل لها على الجملة كافيا .
وللمانع أيضا أن يستدل على ما ذهب إليه بأوجه ثلاثة : أحدها : إن قبول المحل ; إما أن يعتبر شرعا بكونه قابلا في الذهن [ ص: 395 ] خاصة ، وإن فرض غير قابل في الخارج ، فما لا يقبل لا يشرع التسبب فيه ، وإما بكونه توجد حكمته في الخارج ، فما لا توجد حكمته في الخارج لا يشرع أصلا ، كان في نفسه قابلا لها ذهنا أو لا ، فإن كان الأول ; فهو غير صحيح ; لأن الأسباب المشروعة إنما شرعت لمصالح العباد ، وهي حكم المشروعية فما ليس فيه مصلحة ، ولا هو مظنة مصلحة موجودة في الخارج ، فقد ساوى ما لا يقبل المصلحة لا في الذهن ولا في الخارج من حيث المقصد الشرعي ، وإذا استويا امتنعا أو جازا ، لكن جوازهما يؤدي إلى جواز ما اتفق على منعه ، فلا بد من القول بمنعهما مطلقا ، وهو المطلوب .
الثاني : أنا لو أعملنا السبب هنا مع العلم بأن المصلحة لا تنشأ عن ذلك السبب ، ولا توجد به ; لكان ذلك نقضا لقصد الشارع في شرع الحكم ; لأن التسبب هنا يصير عبثا ، والعبث لا يشرع بناء على القول بالمصالح ، فلا فرق بين هذا وبين القسم الأول ، وهذا هو [ معنى ] كلام القرافي .
والثالث : أن جواز ما أجيز من تلك المسائل إنما هو باعتبار وجود [ ص: 396 ] الحكمة ; فإن انتفاء المشقة بالنسبة إلى الملك المترفه غير متحقق ، بل الظن بوجودها غالب ; غير أن المشقة تختلف باختلاف الناس ، ولا تنضبط ، فنصب الشارع المظنة في موضع الحكمة ضبطا للقوانين الشرعية ، كما جعل التقاء الختانين ضابطا لمسبباته المعلومة ، وإن لم يكن الماء عنه لأنه مظنته ، وجعل الاحتلام مظنة حصول العقل القابل للتكليف ; لأنه غير منضبط في نفسه ، إلى أشياء من ذلك كثيرة .
وأما إبدال الدرهم بمثله ، فالمماثلة من كل وجه قد لا تتصور عقلا ; فإنه ما من متماثلين إلا وبينهما افتراق ولو في تعيينهما ، كما أنه ما من مختلفين إلا وبينهما مشابهة ، ولو في نفي ما سواهما عنهما ، ولو فرض التماثل من كل وجه فهو نادر ، ولا يعتد بمثله أن يكون معتبرا ، والغالب المطرد اختلاف الدرهمين ، والدينارين ، ولو بجهة الكسب ، فأطلق الجواز لذلك ، [ وإذا كان ذلك ] كذلك ; فلا دليل في هذه المسائل على مسألتنا .
فصل
وقد حصل في ضمن هذه المسألة الجواب عن مسألة التعليق .
وأما مسألة النكاح للبر في اليمين ، وما ذكر معها ; فإنه موضع فيه احتمال [ ص: 397 ] للاختلاف ، وإن كان وجه الصحة هو الأقوى ، فمن نظر إلى أنه نكاح صدر من أهله في محله القابل له كما تقدم بسطه لم يمنع ، ومن نظر إلى أنه لما كان له نية ـ المفارقة أو كان مظنة لذلك ـ أشبه النكاح المؤقت ; لم يجز هذا ، وإن كان ابن القاسم لم يحك في مسألة نكاح البر خلافا ، فقد غمزه هو أو غيره بأنه لا يقع به الإحصان ، وهذا كاف فيما فيه من الشبهة ، فالموضع مجال نظر المجتهدين .
وإذا نظرنا إلى مذهب مالك ، وجدنا نكاح البر نكاحا مقصودا لغرضه المقصود ، لكن على أن يرفع حكم اليمين ، وكونه مقصودا به رفع اليمين يكفي بأنه قصد للنكاح المشروع الذي تحل به المرأة للاستمتاع وغيره من مقاصده ، إلا أنه يتضمن رفع اليمين ، وهذا غير قادح ، وكذلك النكاح لقضاء الوطر مقصود أيضا ; لأن قضاء الوطر من مقاصده على الجملة ، ونية الفراق بعد ذلك أمر خارج إلى ما بيده من الطلاق الذي جعل الشارع له ، وقد يبدو له فلا يفارق ، وهذا هو الفرق بينه وبين نكاح المتعة ; فإنه في نكاح المتعة بان على شرط التوقيت .
وكذلك نكاح التحليل لم يقصد به ما يقصد بالنكاح ، إنما قصد به تحليلها للمطلق الأول بصورة نكاح زوج غيره ، لا بحقيقته ; فلم يتضمن غرضا [ ص: 398 ] من أغراضه التي شرع لها .
وأيضا ; فمن حيث كان لأجل الغير لا يمكن فيه البقاء معها عرفا أو شرطا ; فلم يمكن أن يكون نكاحا يمكن استمراره .
وأيضا ; فالنص بمنعه عتيد ، فيوقف عنده على أنه لو لم يكن في نكاح المحلل تراوض ولا شرط ، وكان الزوج هو القاصد لذلك ; فإن بعض العلماء يصحح هذا النكاح اعتبارا بأنه قاصد الاستمتاع على الجملة ثم الطلاق ، فقد قصد على الجملة ما يقصد بالنكاح من أغراضه المقصودة ، ويتضمن ذلك العود إلى الأول إن اتفق على قول ، ولا يتضمنه على قول ، [ ص: 399 ] وذلك بحكم التبعية ، وإن كان هذا من الأقوال المرجوحة فلا يخلو من وجه من النظر .
ومما يدل على أن حل اليمين إذا قصد بالنكاح لا يقدح فيه ، أنه لو نذر أو حلف على فعل قربة من صلاة أو حج أو عمرة أو صيام أو ما أشبه ذلك من العبادات أنه يفعله ، ويصح منه قربة ، وهذا مثله ، فلو كان هذا من اليمين وشبهه قادحا في أصل العقد ، لكان قادحا في أصل العبادة ; لأن شرط العبادة التوجه بها إلى المعبود قاصدا بذلك التقرب إليه ، فكما تصح العبادة المنذورة أو المحلوف عليها ، وإن لم يقصد بها إلا حل اليمين ، وإلا لم يبر فيه ، فكذلك هنا بل أولى ، وكذلك من حلف أن يبيع سلعة يملكها فالعقد ببيعها صحيح ، وإن لم يقصد بذلك إلا حل اليمين ، وكذلك إن حلف أن يصيد أو يذبح هذه الشاة أو ما أشبه ذلك .
وهذا كله راجع إلى أصلين :
أحدهما : إن الأحكام المشروعة للمصالح لا يشترط وجود المصلحة في كل فرد من أفراد محالها ، وإنما يعتبر أن يكون مظنة لها خاصة .
والثاني : أن الأمور العادية إنما يعتبر في صحتها أن لا تكون مناقضة لقصد الشارع ، ولا يشترط ظهور الموافقة ، وكلا الأصلين سيأتي إن شاء الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (29)
صـ400 إلى صـ 412
فصل
والقسم الثالث من القسم الأول هو أن يقصد بالسبب مسببا لا يعلم ، ولا يظن أنه مقصود الشارع أو غير مقصود له ، وهذا موضع نظر ، وهو محل إشكال ، واشتباه ، وذلك أنا لو تسببنا لأمكن أن يكون ذلك السبب غير موضوع لهذا المسبب المفروض ، كما أنه يمكن أن يكون موضوعا له ولغيره ، فعلى الأول يكون التسبب غير مشروع ، وعلى الثاني : يكون مشروعا ، وإذا دار العمل بين أن يكون مشروعا أو غير مشروع ، كان الإقدام على التسبب غير مشروع .
لا يقال : إن السبب قد فرض مشروعا على الجملة ; فلم لا يتسبب به ؟
لأنا نقول : إنما فرض مشروعا بالنسبة إلى شيء معين مفروض معلوم لا مطلقا ، وإنما كان يصح التسبب [ به ] مطلقا ، إذا علم شرعيته لكل ما يتسبب عنه على الإطلاق والعموم ، وليس ما فرضنا الكلام فيه من هذا ، بل علمنا أن كثيرا من الأسباب شرعت لأمور تنشأ عنها ، ولم تشرع لأمور وإن كانت تنشأ عنها ، وتترتب عليها كالنكاح ; فإنه مشروع لأمور كالتناسل وتوابعه ، ولم يشرع عند الجمهور للتحليل ولا ما أشبهه ، فلما علمنا أنه مشروع لأمور مخصوصة ، كان ما جهل كونه مشروعا له مجهول الحكم ، فلا تصح مشروعية الإقدام حتى يعرف الحكم .
ولا يقال : الأصل الجواز ; لأن ذلك ليس على الإطلاق ، فالأصل في الأبضاع المنع ; إلا بأسباب [ ص: 401 ] مشروعة ، والحيوانات الأصل في أكلها المنع حتى تحصل الذكاة المشروعة ، إلى غير ذلك من الأمور المشروعة بعد تحصيل أشياء لا مطلقا ، فإذا ثبت هذا ، وتبين مسبب لا ندري أهو مما قصده الشارع بالتسبب المشروع أم مما لم يقصده ، وجب التوقف حتى يعرف الحكم فيه ، ولهذا قاعدة يتبين بها ما هو مقصود الشارع من مسببات الأسباب ، وما ليس بمشروع ، وهي مذكورة في كتاب " المقاصد " [ والله المستعان ] .
المسألة الرابعة عشرة
كما أن الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا ، كذلك غير المشروعة يترتب عليها أيضا أحكام ضمنا ، كالقتل يترتب عليه القصاص ، والدية في مال الجاني أو العاقلة ، وغرم القيمة إن كان المقتول عبدا ، والكفارة ، وكذلك التعدي يترتب عليه الضمان والعقوبة ، والسرقة يترتب عليها الضمان ، والقطع ، وما أشبه ذلك من الأسباب الممنوعة في خطاب التكليف المسببة لهذه الأسباب في خطاب الوضع .
[ ص: 402 ] وقد يكون هذا السبب الممنوع يسبب مصلحة من جهة أخرى ليس ذلك سببا فيها ; كالقتل يترتب عليه ميراث الورثة ، وإنفاذ الوصايا ، وعتق المدبرين ، وحرية أمهات الأولاد ، [ وكذلك ] الأولاد ، وكذلك الإتلاف بالتعدي يترتب عليه ملك المتعدي للمتلف تبعا لتضمينه القيمة ، والغصب يترتب عليه ملك المغصوب إذا تغير في يديه على التفصيل المعلوم بناء على تضمينه ، وما أشبه ذلك .
فأما الضرب الأول ; فالعاقل لا يقصد التسبب إليه ; لأنه عين مفسدة عليه لا مصلحة فيها ، وإنما الذي من شأنه أن يقصد .
الضرب الثاني : وهو إذا قصد فالقصد إليه على وجهين :
أحدهما : أن يقصد به المسبب الذي منع لأجله لا غير ذلك ; كالتشفي [ ص: 403 ] في القتل ، والانتفاع المطلق في المغصوب والمسروق ، فهذا القصد غير قادح في ترتب الأحكام التبعية المصلحية ; لأن أسبابها إذا كانت حاصلة حصلت مسبباتها ; إلا من باب سد الذرائع كما في حرمان القاتل ، وإن كان لم يقصد إلا التشفي أو كان القتل خطأ عند من قال بحرمانه ، ولكن قالوا : إذا تغير المغصوب في يد الغاصب أو أتلفه ; فإن من أحكام [ ذلك ] التغير أنه إن كان كثيرا فصاحبه غير مخير فيه ، ويجوز للغاصب الانتفاع به على ضمان القيمة ، على كراهية عند بعض العلماء ، وعلى غير كراهية عند آخرين .
وسبب ذلك أن قصد هذا المتسبب لم يناقض قصد الشارع في ترتب هذه الأحكام ; لأنها ترتبت على ضمان القيمة أو التغير أو مجموعهما ، وإنما ناقضة في إيقاع السبب المنهي عنه ، والقصد إلى السبب بعينه ; ليحصل به غرض مطلق غير القصد إلى هذا المسبب بعينه الذي هو ناشئ عن الضمان أو القيمة أو [ ص: 404 ] مجموعهما ، وبينهما فرق ، وذلك أن الغصب يتبعه لزوم الضمان على فرض تغيره ، فتجب القيمة بسبب التغير الناشئ عن الغصب ، وحين وجبت القيمة وتعينت ، صار المغصوب لجهة الغاصب ملكا له ; حفظا لمال الغاصب أن يذهب باطلا بإطلاق ; فصار ملكه تبعا لإيجاب القيمة عليه لا بسبب الغصب ، فانفك القصدان ، فقصد القاتل التشفي غير قصده لحصول الميراث ، وقصد الغاصب الانتفاع غير قصده لضمان القيمة ، وإخراج المغصوب عن ملك المغصوب منه ، وإذا كان كذلك ; جرى الحكم التابع الذي لم يقصده القاتل والغاصب على مجراه ، وترتب نقيض مقصوده فيما قصد مخالفته وذلك عقابه ، وأخذ المغصوب من يده أو قيمته ، وهذا ظاهر إلا ما سدت فيه الذريعة .
والثاني أن يقصد توابع السبب ، وهي التي تعود عليه بالمصلحة ضمنا ; كالوارث يقتل الموروث ليحصل له الميراث ، والموصى له يقتل الموصي ليحصل له الموصى به ، والغاصب يقصد ملك المغصوب فيغيره ليضمن قيمته [ ص: 405 ] ويتملكه ، وأشباه ذلك ; فهذا التسبب باطل ; لأن الشارع لم يمنع تلك الأشياء في خطاب التكليف ليحصل بها في خطاب الوضع مصلحة ، فليست إذا بمشروعة في ذلك التسبب ، ولكن يبقى النظر هل يعتبر في ذلك التسبب المخصوص كونه مناقضا في القصد لقصد الشارع عينا حتى لا يترتب عليه ما قصده المتسبب ، فتنشأ من هنا قاعدة المعاملة بنقيض المقصود ، ويطلق الحكم باعتبارها إذا تعين ذلك القصد المفروض ، وهو مقتضى الحديث في حرمان القاتل الميراث ، ومقتضى الفقه في حديث المنع من جمع المفترق ، وتفريق المجتمع خشية الصدقة ، وكذلك ميراث المبتوتة في المرض أو تأبيد التحريم على من نكح في العدة ، إلى كثير من هذا أو يعتبر جعل الشارع ذلك سببا للمصلحة المترتبة ، ولا يؤثر في ذلك قصد هذا القاصد ; فيستوي في الحكم مع الأول ، هذا مجال للمجتهدين فيه اتساع نظر ، ولا سبيل إلى القطع بأحد الأمرين ، فلنقبض عنان الكلام فيه .
الأسباب المشروعة يترتب عليها أحكام ضمنا
[ ص: 406 ] النوع الثاني في الشروط
والنظر فيه في مسائل :
المسألة الأولى
أن المراد بالشرط في هذا الكتاب ما كان وصفا مكملا لمشروطه فيما اقتضاه ذلك المشروط ; أو فيما اقتضاه الحكم فيه ; كما نقول : إن الحول أو [ ص: 407 ] [ ص: 408 ] [ ص: 409 ] إمكان النماء مكمل لمقتضى الملك أو لحكمة الغنى ، والإحصان مكمل لوصف الزنى في اقتضائه للرجم ، والتساوي في الحرمة مكمل لمقتضى القصاص أو لحكمة الزجر ، والطهارة والاستقبال وستر العورة مكملة لفعل الصلاة أو لحكمة الانتصاب للمناجاة والخضوع ، وما أشبه ذلك ، وسواء علينا أكان وصفا للسبب أو العلة أو المسبب أو المعلول أو لمحالها أو لغير ذلك مما يتعلق به مقتضى الخطاب الشرعي ; فإنما هو وصف من أوصاف ذلك المشروط ، ويلزم من ذلك أن يكون مغايرا له ، بحيث يعقل المشروط مع الغفلة عن الشروط ، وإن لم ينعكس كسائر الأوصاف مع الموصوفات حقيقة أو اعتبارا ، ولا فائدة في التطويل هنا ; فإنه تقرير اصطلاح .
[ ص: 410 ] وإذ ذكر اصطلاح هذا الكتاب في الشرط فليذكر اصطلاحه في السبب والعلة والمانع .
فأما السبب فالمراد به : ما وضع شرعا لحكم لحكمة يقتضيها ذلك الحكم ، كما كان حصول النصاب سببا في وجوب الزكاة ، والزوال سببا في وجوب الصلاة ، والسرقة سببا في وجوب القطع ، والعقود أسبابا في إباحة الانتفاع أو انتقال الأملاك ، وما أشبه ذلك .
وأما العلة فالمراد بها : الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو [ ص: 411 ] الإباحة ، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي ; فالمشقة علة في إباحة القصر والفطر في السفر ، والسفر هو السبب الموضوع سببا للإباحة ، فعلى الجملة العلة هي المصلحة نفسها أو المفسدة لا مظنتها ، كانت ظاهرة أو غير ظاهرة ، منضبطة أو غير منضبطة ، وكذلك نقول في قوله عليه الصلاة والسلام : لا يقضي القاضي وهو غضبان فالغضب سبب ، وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة ، على أنه قد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما ، ولا مشاحة في الاصطلاح .
وأما المانع : فهو السبب المقتضي لعلة تنافي علة ما منع ; لأنه إنما يطلق بالنسبة إلى سبب مقتض لحكم لعلة فيه ، فإذا حضر المانع وهو مقتض علة تنافي تلك العلة ، ارتفع ذلك الحكم ، وبطلت تلك العلة ، لكن من شرط كونه مانعا أن يكون مخلا بعلة السبب الذي نسب له المانع ; فيكون رفعا [ ص: 412 ] لحكمه ، فإنه إن لم يكن كذلك ; كان حضوره مع ما هو مانع له من باب تعارض سببين أو حكمين متقابلين ، وهذا بابه كتاب التعارض والترجيح فإذا قلنا : الدين مانع من الزكاة ، فمعناه أنه سبب يقتضي افتقار المديان إلى ما يؤدي به دينه ، وقد تعين فيما بيده من النصاب ، فحين تعلقت به حقوق الغرماء انتفت حكمة وجود النصاب ، وهي الغنى الذي هي علة وجوب الزكاة فسقطت ، وهكذا نقول في الأبوة المانعة من القصاص ; فإنها تضمنت علة تخل بحكمة القتل العمد العدوان ، وما أشبه ذلك مما هو كثير .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (30)
صـ413 إلى صـ 421
الشروط على ثلاثة أقسام :
أحدها : العقلية ; كالحياة في العلم ، والفهم في التكليف .
والثاني : العادية كملاصقة النار الجسم المحرق ـ في الإحراق ، ومقابلة الرائي للمرئي ، وتوسط الجسم الشفاف في الإبصار ـ ، وأشباه ذلك .
والثالث : الشرعية كالطهارة في الصلاة ، والحول في الزكاة ، والإحصان في الزنى ، وهذا الثالث هو المقصود بالذكر ; فإن حدث التعرض لشرط من شروط القسمين الأولين ، فمن حيث تعلق به حكم شرعي في خطاب الوضع أو خطاب التكليف ، ويصير إذ ذاك شرعيا بهذا الاعتبار ; فيدخل تحت القسم الثالث .
افتقرنا إلى بيان أن الشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف ، وليس بجزء ، والمستند فيه الاستقراء في الشروط الشرعية ; ألا ترى أن الحول هو المكمل لحكمة حصول النصاب وهي الغنى ; فإنه إذا ملك فقط لم يستقر عليه حكمه إلا بالتمكن من الانتفاع به في وجوه المصالح ; فجعل الشارع الحول مناطا لهذا التمكن الذي ظهر به وجه الغنى ، والحنث في اليمين مكمل [ ص: 414 ] لمقتضاها ; فإنها لم يجعل لها كفارة إلا وفي الإقدام عليها جناية ما على اسم الله ، وإن اختلفوا في تقريرها ، فعلى كل تقدير لا يتحقق مقتضى الجناية إلا عند الحنث ، فعند ذلك كمل مقتضى اليمين ، والزهوق أيضا مكمل لمقتضى إنفاذ المقاتل الموجب للقصاص أو الدية ، ومكمل لتقرر حقوق الورثة في مال المريض مرضا مخوفا ، والإحصان مكمل لمقتضى جناية الزنى الموجبة للرجم ، وهكذا سائر الشروط الشرعية مع مشروطاتها .
وربما يشكل هذا التقرير بما يذكر من أن العقل شرط التكليف ، والإيمان شرط في صحة العبادات والتقربات ; فإن العقل إن لم يكن فالتكليف محال عقلا أو سمعا كتكليف العجماوات ، والجمادات فكيف يقال : إنه مكمل ، بل هو العمدة في صحة التكليف ، وكذلك لا يصح أن يقال : إن الإيمان مكمل للعبادات ; فإن عبادة الكافر لا حقيقة لها يصح أن يكملها الإيمان ، وكثير من هذا .
ويرتفع هذا الإشكال بأمرين :
أحدهما : أن هذا من الشروط العقلية لا الشرعية ، وكلامنا في الشروط الشرعية .
[ ص: 415 ] والثاني : أن العقل في الحقيقة شرط مكمل لمحل التكليف وهو الإنسان لا في نفس التكليف ، ومعلوم أنه بالنسبة إلى الإنسان مكمل ، وأما الإيمان فلا نسلم أنه شرط لأن العبادات مبنية عليه ; ألا ترى أن معنى العبادات التوجه إلى المعبود بالخضوع والتعظيم بالقلب والجوارح ؟ وهذا فرع الإيمان ; فكيف يكون أصل الشيء ، وقاعدته التي ينبني عليها شرطا فيه ؟ هذا غير معقول ، ومن أطلق هنا لفظ الشرط ; فعلى التوسع في العبارة .
وأيضا ; فإن سلم في الإيمان أنه شرط ; ففي المكلف لا في التكليف ، ويكون شرط صحة عند بعض ، وشرط وجوب عند بعض ، فيما عدا التكليف بالإيمان حسبما ذكره الأصوليون في مسألة خطاب الكفار بالفروع .
الأصل المعلوم في الأصول أن السبب إذا كان متوقف التأثير على شرط فلا يصح أن يقع المسبب دونه ، ويستوي في ذلك شرط الكمال ، وشرط الإجزاء ، فلا يمكن الحكم بالكمال مع فرض توقفه على شرط ، [ كما لا يصح الحكم بالإجزاء مع فرض توقفه على شرط ] ، وهذا من كلامهم ظاهر ; فإنه لو صح وقوع المشروط بدون شرطه لم يكن شرطا فيه ، وقد فرض كذلك ، هذا خلف .
وأيضا ; لو صح ذلك ، لكان متوقف الوقوع على شرطه غير متوقف الوقوع عليه معا ، وذلك محال .
وأيضا ; فإن الشرط من حيث هو [ شرط ] يقتضي أنه لا يقع المشروط [ ص: 416 ] إلا عند حضوره فلو جاز وقوعه دونه ، لكان المشروط واقعا وغير واقع معا ، وذلك محال ، والأمر أوضح من الإطناب فيه .
ولكنه ثبت في كلام طائفة من الأصوليين أصل آخر ، وعزي إلى مذهب مالك أن الحكم إذا حضر سببه وتوقف حصول مسببه على شرط فهل يصح وقوعه بدون شرطه أم لا ؟ قولان ; اعتبارا باقتضاء السبب أو بتخلف الشرط ، فمن راعى السبب وهو مقتض لمسببه ، غلب اقتضاءه ولم يراع توقفه على الشرط ، ومن راعى الشرط وأن توقف السبب عليه مانع من وقوع مسببه ; لم يراع حضور السبب بمجرده إلا أن يحضر الشرط فينتهض السبب عند ذلك في اقتضائه .
وربما أطلق بعضهم جريان الخلاف في هذا الأصل مطلقا ، ويمثلون ذلك بأمثلة منها : إن حصول النصاب سبب في وجوب الزكاة ، ودوران الحول شرطه ، ويجوز تقديمها قبل الحول على الخلاف .
واليمين سبب في الكفارة ، والحنث شرطها ، ويجوز تقديمها قبل الحنث على أحد القولين .
وإنفاذ المقاتل سبب في القصاص أو الدية ، والزهوق شرط ، ويجوز العفو قبل الزهوق وبعد السبب ، ولم يحكوا في هذه الصورة خلافا .
وفي المذهب : إذا جعل الرجل أمر امرأة يتزوجها بيد زوجة هي في ملكه ، [ ص: 417 ] إن شاءت طلقت أو أبقت ، فاستأذنها في التزويج فأذنت له ، فلما تزوجها أرادت هذه أن تطلق عليه ، وقال مالك : ليس لها ذلك ; بناء على أنها قد أسقطت بعد جريان السبب وهو التمليك ، وإن كان قبل حصول الشرط وهو التزوج .
وإذا أذن الورثة عند المرض المخوف في التصرف في أكثر من الثلث جاز ، مع أنهم لا يتقرر ملكهم إلا بعد الموت ، فالمرض هو السبب لتملكهم ، والموت شرط فينفذ إذنهم عند مالك ـ خلافا لأبي حنيفة والشافعي ـ ، وإن لم يقع الشرط ، ومن الناس من قال بإنفاذ ; إذنهم في الصحة والمرض ; فالسبب على رأي هؤلاء هو القرابة ، ولا بد لهم من القول بأن الموت شرط .
وفي المذهب : من جامع فالتذ ولم ينزل فاغتسل ثم أنزل ، ففي وجوب الغسل عليه ثانية قولان ، ونفي الوجوب بناء على أن سبب الغسل انفصال الماء عن مقره ، وقد اغتسل فلا يغتسل له مرة أخرى ، هذه حجة سحنون وابن المواز ، فالسبب هو الانفصال ، والخروج شرط ولم يعتبر ، إلى كثير من المسائل تدار على هذا الأصل .
وهو ظاهر المعارضة للأصل الأول ; فإن الأول يقضي بأنه لا يصح وقوع المشروط بدون شرطه بإطلاق ، والثاني يقضي بأنه صحيح عند بعض العلماء ، وربما صح باتفاق كما في مسألة العفو قبل الزهوق ، ولا يمكن أن يصح الأصلان معا بإطلاق ، والمعلوم صحة الأصل الأول ; فلا بد من النظر [ ص: 418 ] في كلامهم في الأصل الثاني .
أما أولا : فنفس التناقض بين الأصلين كاف في عدم صحته عند العلم بصحة الأصل الأول .
وأما ثانيا : فلا نسلم أن تلك المسائل جارية على عدم اعتبار الشرط ; فإنا نقول :
من أجاز تقديم الزكاة قبل [ حلول ] الحول مطلقا من غير أهل مذهبنا فبناء على أنه ليس بشرط في الوجوب ، وإنما هو شرط في الانحتام ، فالحول كله كأنه وقت ـ عند هذا القائل ـ لوجوب الزكاة موسع ، ويتحتم في آخر الوقت كسائر أوقات التوسعة ، وأما الإخراج قبل الحول بيسير ـ على مذهبنا ـ فبناء على أن ما قرب من الشيء فحكمه حكمه ، فشرط الوجوب حاصل .
وكذلك القول في شرط الحنث : من أجاز تقديم الكفارة عليه فهو عنده شرط في الانحتام من غير تخيير لا شرط في وجوبها .
وأما مسألة الزهوق فهو شرط في وجوب القصاص أو الدية ، لا أنه شرط في صحة العفو ، وهذا متفق عليه ; إذ العفو بعده لا يمكن فلا بد من وقوعه قبله إن وقع ، ولا يصح أن يكون شرطا ; إذ ذاك في صحته ، ووجه صحته [ ص: 419 ] أنه حق من حقوق المجروح التي لا تتعلق بالمال ; فجاز عفوه عنه مطلقا كما يجوز عفوه عن سائر الجراح ، وعن عرضه إذا قذف ، وما أشبه ذلك ، والدليل على أن مدرك حكم العفو ليس ما قالوه ، أنه لا يصح للمجروح ولا لأوليائه استيفاء القصاص أو أخذ دية النفس كاملة قبل الزهوق باتفاق ، ولو كان كما قالوه لكان في هذه المسألة قولان .
وأما مسألة تمليك المرأة ; فإنها لما أسقطت حق نفسها فيما شرطت على الزوج قبل تزوجه ، لم يبق لها ما تتعلق به بعده ; لأن ما كانت تملكه بالتمليك قد أسقطت حقها فيه بعد ما جرى سببه ، فلم يكن لتزوجه تأثير فيما تقدم من الإسقاط ، وهو فقه ظاهر .
ومسألة إذن الورثة بينة المعنى ; فإن الموت سبب في صحة الملك لا في تعلقه ، والمرض سبب في تعلق حق الورثة بمال الموروث لا في تملكهم له ، فهما سببان ، كل واحد منها يقتضي حكما لا يقتضيه الآخر ، فمن حيث [ ص: 420 ] كان المرض سببا لتعلق الحق ، وإن لم يكن ملكا ، كان إذنهم واقعا في محله ; لأنهم لما تعلق حقهم بمال الموروث ، صارت لهم فيه شبهة ملك ، فإذا أسقطوا حقهم فيه لم يكن لهم بعد ذلك مطالبة ; لأنهم صاروا ـ في الحال الذي أنفذوا تصرف المريض فيه حالة المرض ـ كالأجانب فإذا حصل الموت لم يكن لهم فيه حق ; كالثلث . و [ قول ] القائل بمنع الإنفاذ يصح مع القول بأن الموت شرط ; لأنهم أذنوا قبل التمليك ، وقبل حصول الشرط ، فلا ينفذ كسائر الشروط مع مشروطاتها .
وأما مسألة الإنزال ; فيصح بناؤها على أنه ليس بشرط في هذا الغسل ، [ ص: 421 ] أو لأنه لا حكم له ; لأنه إنزال من غير اقتران لذة .
فعلى الجملة هذه الأشياء لم يتعين فيها التخريج على عدم اعتبار الشرط .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (31)
صـ422 إلى صـ 435
الشروط المعتبرة في المشروطات شرعا على ضربين :
أحدهما : ما كان راجعا إلى خطاب التكليف ; إما مأمورا بتحصيلها كالطهارة للصلاة ، وأخذ الزينة لها ، وطهارة الثوب ، ـ وما أشبه ذلك ـ ، وإما منهيا عن تحصيلها كنكاح المحلل الذي هو شرط لمراجعة الزوج الأول ، والجمع بين المفترق ، والفرق بين المجتمع خشية الصدقة ، الذي هو شرط لنقصان الصدقة ، وما أشبه ذلك فهذا الضرب واضح قصد الشارع فيه ، فالأول مقصود الفعل ، والثاني مقصود الترك ، وكذلك الشرط المخير فيه ـ إن اتفق ـ فقصد الشارع فيه جعله لخيرة المكلف : إن شاء فعله فيحصل المشروط ، وإن شاء تركه فلا يحصل .
والضرب الثاني : ما يرجع إلى خطاب الوضع ; كالحول في الزكاة ، والإحصان في الزنى ، والحرز في القطع ، وما أشبه ذلك ; فهذا الضرب ليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو شرط ، ولا في عدم تحصيله ، فإبقاء النصاب حولا حتى تجب الزكاة فيه ليس بمطلوب الفعل أن يقال : يجب على [ صاحبه ] إمساكه حتى تجب عليه الزكاة فيه ، ولا مطلوب الترك أن يقال : [ ص: 422 ] يجب عليه إنفاقه خوفا أن تجب فيه الزكاة ، وكذلك الإحصان لا يقال : إنه مطلوب الفعل ليجب عليه الرجم إذا زنى ، ولا مطلوب الترك لئلا يجب عليه الرجم إذا زنى .
وأيضا ; فلو كان مطلوبا لم يكن من باب خطاب الوضع ، وقد فرضناه كذلك ; هذا خلف ، والحكم فيه ظاهر .
فإذا توجه قصد المكلف إلى فعل الشرط أو إلى تركه ، من حيث هو فعل داخل تحت قدرته ، فلا بد من النظر في ذلك ، وهي :
المسألة السابعة
فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف مأمورا به أو منهيا عنه أو مخيرا فيه أو لا ، فإن كان ذلك فلا إشكال فيه ، وتنبني [ ص: 423 ] الأحكام التي تقتضيها الأسباب على حضوره ، وترتفع عند فقده ، كالنصاب إذا أنفق قبل الحول للحاجة إلى إنفاقه أو أبقاه للحاجة إلى إبقائه أو يخلط ماشيته بماشية غيره لحاجته إلى الخلطة أو يزيلها لضرر الشركة أو لحاجة أخرى أو يطلب التحصن بالتزويج لمقاصده أو يتركه لمعنى من المعاني الجارية على الإنسان ، إلى ما أشبه ذلك .
وإن كان فعله أو تركه من جهة كونه شرطا قصدا لإسقاط حكم الاقتضاء في السبب أن لا يترتب عليه أثره ; فهذا عمل غير صحيح وسعي باطل ، دلت على ذلك دلائل العقل والشرع معا .
فمن الأحاديث في هذا الباب قوله : لا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق [ ص: 424 ] بين مجتمع خشية الصدقة .
[ ص: 425 ] وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ البيع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله .
وقال : من أدخل فرسا بين فرسين ، وهو لا يأمن أن تسبق ، فليس بقمار ، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن تسبق ; فهو قمار .
[ ص: 426 ] [ ص: 427 ] وقال في حديث بريرة حين اشترط أهلها أن يكون الولاء لهم : من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط الحديث .
ونهى [ عليه الصلاة والسلام ] عن بيع وشرط ، وعن بيع وسلف ، وعن شرطين في بيع ، وسائر أحاديث الشروط المنهي عنها .
[ ص: 428 ] ومنه حديث : من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه .
وحديث : إن اليمين على نية المستحلف .
وعليه جاءت الآية إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية [ آل عمران : 77 ] .
وفي القرآن أيضا : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله الآية [ البقرة : 229 ] .
وآية شهادة الزور والأحاديث فيها من هذا أيضا .
وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء : 29 ] .
وما جاء من الأحاديث .
وقال : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] .
[ ص: 429 ] وما جاء من أحاديث لعن المحلل والمحلل له والتيس المستعار .
وحديث التصرية في شراء الشاة على أنها غزيرة الدر .
وسائر أحاديث النهي عن الغش .
[ ص: 430 ] والخديعة .
والخلابة .
والنجش .
وحديث امرأة رفاعة القرظي حين طلقها ، وتزوجها عبد الرحمن بن [ ص: 431 ] الزبير .
والأدلة أكثر من أن يؤتى عليها هنا .
[ ص: 432 ] وأيضا ; فإن هذا العمل يصير ما انعقد سببا لحكم شرعي جلبا لمصلحة أو دفعا لمفسدة ، عبثا لا حكمة له ، ولا منفعة به ، وهذا مناقض لما ثبت في قاعدة المصالح وأنها معتبرة في الأحكام .
وأيضا ; فإنه مضاد لقصد الشارع من جهة أن السبب لما انعقد ، وحصل في الوجود ، صار مقتضيا شرعا لمسببه ، لكنه توقف على حصول شرط هو تكميل للسبب ، فصار هذا الفاعل أو التارك بقصد رفع حكم السبب قاصدا لمضادة الشارع في وضعه سببا ، وقد تبين [ أن ] مضادة قصد الشارع باطلة فهذا العمل باطل .
فإن قيل : المسألة مفروضة في سبب توقف اقتضاؤه للحكم على شرط ، فإذا فقد الشرط بحكم القصد إلى فقده ; كان كما لو لم يقصد ذلك ، ولا تأثير للقصد ، وقد تبين أن الشرط إذا لم يوجد لم ينهض السبب أن يكون مقتضيا ; كالحول في الزكاة ; فإنه شرط لا تجب الزكاة بدونه بالفرض ، والمعلوم من قصد الشارع أن السبب إنما يكون سببا مقتضيا عند وجود الشروط لا عند فقدها ، فإذا لم ينتهض سببا ، كانت المسألة كمن أنفق النصاب قبل حلول الحول لمعنى [ ص: 433 ] من معاني الانتفاع فلا تجب عليه الزكاة ; لأن السبب لم يقتض إيجابها لتوقفه على ذلك الشرط الذي ثبت اعتباره شرعا ، فمن حيث قيل فيه : إنه مخالف لقصد الشارع يقال : إنه موافق ، وهكذا سائر المسائل .
فالجواب : إن هذا المعنى إنما يجري فيما إذا لم يقصد رفع حكم السبب ، وأما مع القصد إلى ذلك فهو معنى غير معتبر لأن الشرع شهد له بالإلغاء على القطع ، ويتبين ذلك بالأدلة المذكورة إذا عرضت المسألة عليها ; فإن الجمع بين المتفرق أو التفرقة بين المجتمع قد نهي عنها إذا قصد بها إبطال حكم السبب ، بالإتيان بشرط ينقصها حتى تبخس المساكين ; فالأربعون شاة فيها شاة بشرط الافتراق ، ونصفها بشرط اختلاطها بأربعين أخرى مثلا ، فإذا جمعها بقصد إخراج النصف فذلك هو المنهي عنه ; كما أنه إذا كانت مائة مختلطة بمائة وواحدة ففرقها قصدا أن يخرج واحدة فكذلك ، وما ذاك إلا أنه أتى بشرط أو رفع شرطا يرفع عنه ما اقتضاه السبب الأول ، فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه من وجوب الإخراج ، وكذلك قوله : ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله فنهى عن القصد إلى رفع شرط الخيار الثابت [ ص: 434 ] له بسبب العقد ، وعن الإتيان بشرط الفرس المحللة [ للجعل ] بقصد أخذه ، لا بقصد المسابقة معه ، ومثله مسائل الشروط ; فإنها شروط يقصد بها رفع أحكام الأسباب الواقعة ; فإن العقد على الكتابة اقتضى أنه عقد على جميع ما ينشأ عنه ، ومن ذلك الولاء ، فمن شرط أن الولاء له من البائعين ; فقد قصد بالشرط رفع حكم السبب فيه ، واعتبر هكذا سائر ما تقدم تجده كذلك ; فعلى هذا الإتيان بالشروط أو رفعها بذلك القصد هو المنهي عنه ، وإذا كان منهيا عنه [ ص: 435 ] كان مضادا لقصد الشارع فيكون باطلا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (32)
صـ436 إلى صـ 444
فصل
هذا العمل هل يقتضي البطلان بإطلاق أم لا ؟
الجواب : إن في ذلك تفصيلا ، وهو أن نقول : لا يخلو أن يكون الشرط الحاصل في معنى المرتفع أو المرفوع في حكم الحاصل معنى أو لا .
فإن كان كذلك ; فالحكم الذي اقتضاه السبب على حاله قبل هذا العمل ، والعمل باطل ضائع لا فائدة فيه ولا حكم له ، مثل أن يكون وهب المال قبل الحول لمن راوضه على أن يرده عليه بعد الحول بهبة أو غيرها ، وكالجامع بين المفترق ريثما يأتي الساعي ، ثم ترد إلى التفرقة أو المفرق بين المجتمع كذلك ; ، ثم يردها إلى ما كانت عليه ، وكالناكح لتظهر صورة الشرط ، ثم تعود إلى مطلقها ثلاثا ، وأشباه ذلك ; لأن هذا الشرط المعمول فيه لا معنى له ، ولا فائدة فيه تقصد شرعا .
وإن لم يكن كذلك ; فالمسألة محتملة ، والنظر فيها متجاذب ثلاثة أوجه : أحدها أن يقال : إن مجرد انعقاد السبب كاف ; فإنه هو الباعث على [ ص: 436 ] الحكم ، وإنما الشرط أمر خارجي مكمل ، وإلا لزم أن يكون الشرط جزء العلة والفرض بخلافه ، وأيضا فإن القصد فيه قد صار غير شرعي ، فصار العمل فيه مخالفا لقصد الشارع ، فهو في حكم ما لم يعمل فيه ، واتحد مع القسم الأول في الحكم ، فلا يترتب على هذا العمل حكم ، ومثال ذلك : إن أنفق النصاب قبل الحول في منافعه أو وهبه هبة بتلة لم يرجع فيها أو جمع بين المفترق أو فرق بين المجتمع ، ـ وكل ذلك بقصد الفرار من الزكاة ـ ، لكنه لم يعد إلى ما كان عليه قبل الحول ، وما أشبه ذلك ; فقد علمنا ـ حين نصب الشارع ذلك السبب للحكم ـ ; أنه قاصد لثبوت الحكم به ، فإذا أخذ هذا برفع حكم السبب مع انتهاضه سببا ; كان مناقضا لقصد الشارع ، وهذا باطل ، وكون الشرط ـ حين رفع أو وضع ـ على وجه يعتبره الشارع على الجملة قد أثر فيه القصد الفاسد ; فلا يصح أن ينتهض شرطا شرعيا ، فكان كالمعدوم بإطلاق ، والتحق بالقسم الأول .
والثاني أن يقال : إن مجرد انعقاد السبب غير كاف ; فإنه وإن كان باعثا ; قد جعل في الشرع مقيدا بوجود الشرط ، فإذا ليس كون السبب باعثا بقاطع في أن الشارع قصد إيقاع المسبب بمجرده ، وإنما فيه أنه قصده إذا وقع شرطه فإذا كان كذلك ; فالقاصد لرفع حكم السبب مثلا بالعمل في رفع الشرط لم يناقض قصده قصد الشارع من كل وجه ، وإنما قصد لما لم يظهر فيه قصد الشارع للإيقاع أو عدمه ، وهو الشرط أو عدمه ، لكن لما كان ذلك القصد آيلا لمناقضة [ ص: 437 ] قصد الشارع على الجملة ، لا عينا ; لم يكن مانعا من ترتب أحكام الشروط عليها .
وأيضا ; فإن هذا العمل لما كان مؤثرا وحاصلا وواقعا ، لم يكن القصد الممنوع فيه مؤثرا في وضعه شرطا شرعيا أو سببا شرعيا ، كما كان تغير المغصوب سببا أو شرطا في منع صاحبه منه ، وفي تملك الغاصب له ، ولم يكن فعله بقصد العصيان سببا في ارتفاع ذلك الحكم .
وعلى هذا الأصل ينبني صحة ما يقول اللخمي فيمن تصدق بجزء من ماله لتسقط عنه الزكاة أو سافر في رمضان قصدا للإفطار أو أخر صلاة حضر عن وقتها الاختياري ليصليها في السفر ركعتين أو أخرت امرأة صلاة بعد دخول وقتها رجاء أن تحيض فتسقط عنها ، قال : فجميع ذلك مكروه ، ولا يجب على هذا في السفر صيام ، ولا أن يصلي أربعا ، ولا على الحائض قضاؤها ، وعليه أيضا يجري الحكم في الحالف ليقضين فلانا حقه إلى شهر ، وحلف بالطلاق الثلاث ، فخاف الحنث فخالع زوجته لئلا يحنث ، فلما انقضى الأجل راجعها فهذا الوجه يقتضي أنه لا يحنث لوقوع الحنث ، وليست بزوجة لأن الخلع ماض شرعا ، وإن قصد به قصد الممنوع .
والثالث : أن يفرق بين حقوق الله تعالى ، وحقوق الآدميين ، فيبطل العمل في الشرط في حقوق الله ، وإن ثبت له في نفسه حكم شرعي ; كمسألة الجمع بين المفترق ، والفرق بين المجتمع ، ومسألة نكاح المحلل على القول بأنه نافذ ماض ولا يحلها ذلك للأول ; لأن الزكاة من حقوق الله ، وكذلك المنع من نكاح المحلل حق الله ، لغلبة حقوق الله في النكاح على حقوق الآدميين ، وينفذ مقتضى الشرط في حقوق الآدميين ; كالسفر ليقصر أو ليفطر أو نحو ذلك .
[ ص: 438 ] هذا كله ما لم يدل دليل خاص على خلاف ذلك ; فإنه إن دل دليل خاص على خلافه صير إليه ، ولا يكون نقضا على الأصل المذكور ; لأنه إذ ذاك دال على إضافة هذا الأمر الخاص إلى حق الله أو إلى حق الآدميين ، ويبقى بعد ما إذ اجتمع الحقان محل نظر واجتهاد ; فيغلب أحد الطرفين بحسب ما يظهر للمجتهد ، والله أعلم .
الشروط مع مشروطاتها على ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون مكملا لحكمة المشروط ، وعاضدا لها بحيث لا يكون فيه منافاة لها على حال ; كاشتراط الصيام في الاعتكاف عند من يشترطه ، واشتراط الكفء ، والإمساك بالمعروف ، والتسريح بإحسان في النكاح ، واشتراط الرهن والحميل والنقد أو النسيئة في الثمن في البيع ، واشتراط العهدة في الرقيق ، واشتراط مال العبد ، وثمرة الشجر ، وما أشبه ذلك ، وكذا اشتراط الحول في الزكاة ، والإحصان في الزنى ، وعدم الطول في نكاح الإماء ، والحرز في القطع ; فهذا القسم لا إشكال في صحته شرعا ; لأنه مكمل لحكمة كل سبب يقتضي حكما ; فإن الاعتكاف لما كان انقطاعا إلى العبادة على [ ص: 439 ] وجه لائق بلزوم المسجد ، كان للصيام فيه أثر ظاهر ، ولما كان غير الكفء مظنة للنزاع وأنفة أحد الزوجين أو عصبتهما ، وكانت الكفاءة أقرب إلى التحام الزوجين والعصبة ، وأولى بمحاسن العادات ; كان اشتراطها ملائما لمقصود النكاح ، وهكذا الإمساك بمعروف ، وسائر تلك الشروط المذكورة تجري على هذا الوجه ; فثبوتها شرعا واضح .
والثاني : أن يكون غير ملائم لمقصود المشروط ولا مكمل لحكمته ، بل هو على الضد من الأول ; كما إذا اشترط في الصلاة أن يتكلم فيها إذا أحب أو اشترط في الاعتكاف أن يخرج عن المسجد إذا أراد بناء على رأي مالك أو اشترط في النكاح أن لا ينفق عليها أو أن لا يطأها وليس بمجبوب ولا عنين أو شرط في البيع أن لا ينتفع بالمبيع أو إن انتفع فعلى بعض الوجوه دون بعض أو شرط الصانع على المستصنع أن لا يضمن المستأجر عليه إن تلف ، وأن يصدقه في دعوى التلف ، وما أشبه ذلك ; فهذا القسم أيضا لا إشكال في إبطاله ; لأنه مناف لحكمة السبب ، فلا يصح أن يجتمع معه ; فإن الكلام في الصلاة مناف لما شرعت له من الإقبال على الله تعالى والتوجه إليه والمناجاة له ، وكذلك المشترط في الاعتكاف الخروج مشترط ما ينافي حقيقة الاعتكاف من لزوم المسجد ، واشتراط الناكح أن لا ينفق ينافي استجلاب المودة المطلوبة فيه ، وإذا اشترط أن لا يطأ أبطل حكمة النكاح الأولى وهي التناسل ، وأضر بالزوجة فليس من الإمساك بالمعروف الذي هو مظنة الدوام والمؤالفة ، وهكذا سائر الشروط المذكورة ; إلا أنها إذا كانت باطلة فهل تؤثر في المشروطات أم لا ؟ هذا محل نظر يستمد من المسألة التي قبل هذه .
[ ص: 440 ] والثالث : أن لا يظهر في الشرط منافاة لمشروطه ولا ملاءمة ، وهو محل نظر ، هل يلحق بالأول من جهة عدم المنافاة أو بالثاني من جهة عدم الملاءمة ظاهرا ؟ ، والقاعدة المستمرة في أمثال هذا التفرقة بين العبادات والمعاملات ، فما كان من العبادات لا يكتفى فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة ; لأن الأصل فيها التعبد دون الالتفات إلى المعاني ، والأصل فيها أن لا يقدم عليها إلا بإذن ; إذ لا مجال للعقول في اختراع التعبدات ، فكذلك ما يتعلق بها من الشروط ، وما كان من العاديات يكتفى فيه بعدم المنافاة ; لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد ، والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه ، والله أعلم .
النوع الثالث في الموانع
وفيه مسائل
المسألة الأولى
الموانع ضربان :
أحدهما : ما لا يتأتى فيه اجتماعه مع الطلب .
والثاني : ما يمكن فيه ذلك ، وهو نوعان : أحدهما : يرفع أصل الطلب .
والثاني : لا يرفعه ، ولكن يرفع انحتامه .
وهذا قسمان : أحدهما : أن يكون رفعه بمعنى أنه يصير مخيرا فيه لمن قدر عليه .
والآخر : أن يكون رفعه بمعنى أنه لا إثم على مخالف الطلب .
[ ص: 442 ] فهذه أربعة أقسام .
فأما الأول ; فنحو زوال العقل بنوم أو جنون أو غيرهما ، وهو مانع من أصل الطلب جملة ; لأن من شرط تعلق الخطاب إمكان فهمه ; لأنه إلزام يقتضي التزاما ، وفاقد العقل لا يمكن إلزامه ، كما لا يمكن ذلك في البهائم والجمادات ; فإن تعلق طلب يقتضي استجلاب مصلحة أو درء مفسدة ، فذلك راجع إلى الغير كرياضة البهائم وتأديبها ، والكلام في هذا مبين في الأصول .
وأما الثاني ; فكالحيض والنفاس ، وهو رافع لأصل الطلب ، وإن أمكن حصوله معه ، لكن إنما يرفع مثل هذا الطلب بالنسبة إلى ما لا يطلب به ألبتة ; كالصلاة ودخول المسجد ومس المصحف وما أشبه ذلك ، وأما ما يطلب به بعد رفع المانع ، فالخلاف بين أهل الأصول فيه مشهور لا حاجة لنا إلى ذكره هنا ، والدليل على أنه غير مطلوب حالة وجود المانع أنه لو كان كذلك ; [ ص: 443 ] لاجتمع الضدان ; لأن الحائض ممنوعة من الصلاة ، والنفساء كذلك ; فلو كانت مأمورة بها أيضا لكانت مأمورة حالة كونها منهية بالنسبة إلى شيء واحد ، وهو محال ، وأيضا ;إذا كانت مأمورة أن تفعل ، وقد نهيت أن تفعل ، لزمها شرعا أن تفعل وأن لا تفعل معا ، وهو محال ، وأيضا فلا فائدة في الأمر بشيء لا يصح لها فعله حالة وجود المانع ، ولا بعد ارتفاعه لأنها غير مأمورة بالقضاء باتفاق .
وأما الثالث : فكالرق والأنوثة بالنسبة إلى الجمعة والعيدين والجهاد ; فإن هؤلاء قد لصق بهم مانع من انحتام هذه العبادات الجارية في الدين مجرى التحسين والتزيين ; لأنهم من هذه الجهة غير مقصودين بالخطاب فيها إلا [ ص: 444 ] بحكم التبع ، فإن تمكنوا منها جرت بالنسبة إليهم مجراها مع المقصودين بها ، وهم الأحرار الذكور ، وهذا معنى التخيير بالنسبة إليهم مع القدرة عليها ، وأما مع عدم القدرة عليها فالحكم مثل الذي قبل هذا .
وأما الرابع ; فكأسباب الرخص ، هي موانع من الانحتام ، بمعنى أنه لا حرج على من ترك العزيمة ميلا إلى جهة الرخصة ، كقصر المسافر ، وفطره ، وتركه للجمعة ، وما أشبه ذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (33)
صـ445 إلى صـ 458
الموانع ليست بمقصودة للشارع ، بمعنى أنه لا يقصد تحصيل المكلف لها ولا رفعها ، وذلك أنها على ضربين :
ضرب منها داخل تحت خطاب التكليف ـ مأمورا به أو منهيا عنه أو مأذونا فيه ـ ، وهذا لا إشكال فيه من هذه الجهة ; كالاستدانة المانعة من انتهاض سبب الوجوب بالتأثير لوجوب إخراج الزكاة ، وإن وجد النصاب فهو متوقف على فقد المانع ، وكذلك الكفر المانع من صحة أداء الصلاة والزكاة أو من وجوبهما ، ومن الاعتداد بما طلق في حال كفره ، إلى غير ذلك من الأمور الشرعية التي منع منها الكفر ، وكذلك الإسلام مانع من انتهاك حرمة الدم والمال والعرض إلا [ ص: 445 ] بحقها ; فالنظر في هذه الأشياء وأشباهها من جهة خطاب التكليف خارج عن مقصود المسألة .
والضرب الثاني : هو المقصود ، وهو الداخل تحت خطاب الوضع من حيث هو كذلك ; فليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو مانع ، ولا في عدم تحصيله ; فإن المديان ليس بمخاطب برفع الدين إذا كان عنده نصاب لتجب عليه الزكاة ، كما أن مالك النصاب غير مخاطب بتحصيل الاستدانة لتسقط عنه ، لأنه من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف ، وإنما مقصود الشارع فيه أنه إذا حصل ارتفع مقتضى السبب .
والدليل على ذلك : أن وضع السبب مكمل الشروط ، يقتضي قصد الواضع إلى ترتب المسبب عليه ، وإلا فلو لم يكن كذلك ; لم يكن موضوعا على أنه سبب ، وقد فرض كذلك ، هذا خلف ، وإذا ثبت قصد الواضع إلى حصول المسبب ; ففرض المانع مقصودا له أيضا إيقاعه قصد إلى رفع ترتب المسبب على السبب ، وقد ثبت أنه قاصد إلى نفس الترتب ، هذا خلف ; فإن القصدين متضادان ، ولا هو أيضا قاصد إلى رفعه ; لأنه لو كان قاصدا إلى ذلك لم يثبت في الشرع مانعا .
وبيان ذلك أنه لو كان قاصدا إلى رفعه من حيث هو مانع ; لم يثبت حصوله معتبرا شرعا ، وإذا لم يعتبر ; لم يكن مانعا من جريان حكم السبب ، وقد فرض كذلك ، وهو عين التناقض .
فإذا توجه قصد المكلف إلى إيقاع المانع أو إلى رفعه ففي ذلك تفصيل ، وهي :
[ ص: 446 ] فلا يخلو أن يفعله أو يتركه من حيث هو داخل تحت خطاب التكليف ; مأمورا به أو منهيا عنه أو مخيرا فيه ، أو لا .
فإن كان الأول فظاهر ; كالرجل يكون بيده له نصاب ، لكنه يستدين لحاجته إلى ذلك ، وتنبني الأحكام على مقتضى حصول المانع .
وإن كان الثاني ، وهو أن يفعله مثلا من جهة كونه مانعا ، قصدا لإسقاط حكم السبب المقتضي أن لا يترتب عليه ما اقتضاه ، فهو عمل غير صحيح .
والدليل على ذلك من النقل أمور ، من ذلك قوله جل وعلا : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا الآية [ القلم : 17 ] ; فإنها تضمنت الإخبار بعقابهم على قصد التحيل لإسقاط حق المساكين ، بتحريهم المانع من إتيانهم ، وهو وقت الصبح الذي لا يبكر في مثله المساكين عادة ، والعقاب إنما يكون لفعل محرم .
وقوله تعالى : ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ البقرة : 231 ] ، نزلت بسبب مضارة الزوجات بالارتجاع أن لا ترى بعده زوجا آخر مطلقا ، [ ص: 447 ] وأن لا تنقضي عدتها إلا بعد طول ; فكان الارتجاع بذلك القصد ; إذ هو مانع من حلها للأزواج .
وفي الحديث : قاتل الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ، وفي بعض الروايات وأكلوا أثمانها .
وقال عليه الصلاة والسلام : ليشربن ناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها .
[ ص: 448 ] وفي رواية : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير ، والخمر والمعازف الحديث .
وفي بعض الحديث : يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء : يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها ، والسحت بالهدية ، والقتل بالرهبة ، والزنى بالنكاح ، والربا بالبيع . فكأن المستحل هنا رأى أن المانع [ ص: 449 ] هو الاسم ; فنقل المحرم إلى اسم آخر ، حتى يرتفع ذلك المانع فيحل له .
وقال تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] ; فاستثنى الإضرار ، فإذا أقر في مرضه بدين لوارث أو أوصى بأكثر من الثلث قاصدا حرمان الوارث أو نقصه بعض حقه بإبداء هذا المانع من تمام حقه ; كان مضارا ، والإضرار ممنوع باتفاق .
وقال تعالى : ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها الآية [ النحل : 91 ] .
قال أحمد بن حنبل : عجبت مما يقولون في الحيل والأيمان ، يبطلون الأيمان بالحيل ، [ وقال تعالى : ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها [ النحل : 91 ] .
وفي الحديث : لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ .
وفيه : إذا سمعتم به ـ يعني الوباء ـ بأرض ; فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها ; فلا تخرجوا فرارا منه .
[ ص: 450 ] والأدلة هنا في الشرع كثيرة من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح ـ رضى الله تعالى عنهم ـ .
وما تقدم من الأدلة والسؤال والجواب في الشروط جار معناه في الموانع ، ومن هنالك يفهم حكمها ، وهل يكون العمل باطلا أم لا ; فينقسم إلى الضربين ; فلا يخلو أن يكون المانع المستجلب مثلا في حكم المرتفع أو لا ; فإن كان كذلك ; فالحكم متوجه كصاحب النصاب استدان لتسقط عنه الزكاة ، بحيث قصد أنه إذا جاز الحول رد الدين من غير أن ينتفع به ، وإن لم يكن كذلك ; ، بل كان المانع واقعا شرعا ; كالمطلق خوفا من انحتام الحنث عليه ; فهو محل نظر ـ على وزان ما تقدم في الشروط ـ ، ولا فائدة في التكرار .
[ ص: 451 ] النوع الرابع في الصحة والبطلان
وفيه مسائل :
المسألة الأولى
في معنى الصحة ، ولفظ الصحة يطلق باعتبارين : أحدهما : أن يراد بذلك ترتب آثار العمل عليه في الدنيا ; كما نقول في العبادات : إنها صحيحة بمعنى أنها مجزئة ومبرئة للذمة ومسقطة للقضاء فيما فيه قضاء ، وما أشبه ذلك من العبادات المنبئة عن هذه المعاني ، وكما نقول في العادات إنها صحيحة بمعنى أنها محصلة شرعا للأملاك ، واستباحة الأبضاع ، وجواز الانتفاع ، وما يرجع إلى ذلك .
والثاني : أن يراد به ترتب آثار العمل عليه في الآخرة ، كترتب الثواب ، فيقال : هذا عمل صحيح ، بمعنى أنه يرجى به الثواب في الآخرة ; ففي [ ص: 452 ] العبادات ظاهر ، وفي العادات يكون فيما نوى به امتثال أمر الشارع ، وقصد به مقتضى الأمر والنهي ، وكذلك في المخير ، إذا عمل به من حيث إن الشارع خيره لا من حيث قصد مجرد حظه في الانتفاع غافلا عن أصل التشريع ، فهذا أيضا يسمى عملا صحيحا بهذا المعنى ، وهو وإن كان إطلاقا غريبا لا يتعرض له علماء الفقه ; فقد تعرض له علماء التخلق كالغزالي وغيره ، وهو مما يحافظ عليه السلف المتقدمون ، وتأمل ما حكاه الغزالي في كتاب النية والإخلاص من ذلك .
في معنى البطلان ، وهو ما يقابل معنى الصحة ; فله معنيان : أحدهما : أن يراد به عدم ترتب آثار العمل عليه في الدنيا ; كما نقول في العبادات : إنها غير مجزئة ولا مبرئة للذمة ولا مسقطة للقضاء ، فكذلك نقول : إنها باطلة بذلك المعنى ، غير أن هنا نظرا ; فإن كون العبادة باطلة ; إنما هو لمخالفتها لما قصد الشارع فيها حسبما هو مبين في موضعه ، ولكن قد تكون المخالفة راجعة إلى نفس العبادة فيطلق عليها لفظ البطلان إطلاقا ; كالصلاة من غير نية أو ناقصة ركعة أو سجدة أو نحو ذلك مما يخل بها من الأصل ، وقد تكون راجعة إلى وصف خارجي منفك عن حقيقتها وإن كانت [ ص: 453 ] متصفة به ; كالصلاة في الدار المغصوبة مثلا ; فيقع الاجتهاد : في اعتبار الانفكاك ; فتصح الصلاة لأنها واقعة على الموافقة للشارع ، ولا يضر حصول المخالفة من جهة الوصف .
أو في اعتبار الاتصاف ، فلا تصح بل تكون في الحكم باطلة من جهة أن الصلاة الموافقة إنما هي المنفكة عن هذا الوصف ، وليس الصلاة في الدار المغصوبة كذلك ; ، وهكذا سائر ما كان في معناها .
ونقول أيضا في العادات : إنها باطلة ، بمعنى عدم حصول فوائدها بها شرعا ; من حصول أملاك واستباحة فروج ، وانتفاع بالمطلوب ، ولما كانت العاديات في الغالب راجعة إلى مصالح الدنيا ; كان النظر فيها راجعا إلى اعتبارين : أحدهما : من حيث هي أمور مأذون فيها أو مأمور بها شرعا .
والثاني : من حيث هي راجعة إلى مصالح العباد .
فأما الأول ; فاعتبره قوم بإطلاق ، وأهملوا النظر في جهة المصالح ، وجعلوا مخالفة أمره مخالفة لقصده بإطلاق ; كالعبادات المحضة سواء ، وكأنهم مالوا إلى جهة التعبد ـ وسيأتي في كتاب " المقاصد " بيان أن في كل ما يعقل معناه تعبدا ـ ، وإذا كان كذلك ; فمواجهة أمر الشارع بالمخالفة يقضي بالخروج في ذلك الفعل عن مقتضى خطابه ، والخروج في الأعمال عن خطاب الشارع يقضي بأنها غير مشروعة ، وغير المشروع باطل ، فهذا كذلك ; كما لم تصح [ ص: 454 ] العبادات الخارجة عن مقتضى خطاب الشارع .
وأما الثاني : فاعتبره قوم أيضا لا مع إهمال الأول ، بل جعلوا الأمر منزلا على اعتبار المصلحة ، بمعنى أن المعنى الذي لأجله كان العمل باطلا ينظر فيه ; فإن كان حاصلا أو في حكم الحاصل ، بحيث لا يمكن التلافي فيه ; بطل العمل من أصله ، وهو الأصل فيما نهى الشرع عنه ; لأن النهي يقتضي أن لا مصلحة للمكلف فيه ، وإن ظهرت مصلحته لبادئ الرأي ، فقد علم الله أن لا مصلحة في الإقدام ، وإن ظنها العامل ، وإن لم يحصل ولا كان في حكم الحاصل ، لكن أمكن تلافيه ، لم يحكم بإبطال ذلك العمل ; كما يقول مالك [ ص: 455 ] في بيع المدبر : إنه يرد إلا أن يعتقه المسترق فلا يرد ; فإن البيع إنما منع لحق العبد في العتق أو لحق الله في العتق الذي انعقد سببه من سيده وهو التدبير ; فإن البيع يفيته في الغالب بعد موت السيد ، فإذا أعتقه المشتري حصل قصد الشارع في العتق ; فلم يرد لذلك ، وكذلك الكتابة الفاسدة ترد ما لم يعتق المكاتب ، وكذلك بيع الغاصب للمغصوب موقوف على إجازة المغصوب منه أو رده لأن المنع إنما كان لحقه ، فإذا أجازه جاز ، ومثله البيع والسلف منهي عنه ، فإذا أسقط مشترط السلف شرطه جاز ما عقداه ، ومضى على بعض الأقوال ، وقد يتلافى بإسقاط الشرط شرعا ، كما في حديث بريرة ، وعلى مقتضاه جرى الحنفية في تصحيح العقود الفاسدة كنكاح الشغار ، والدرهم بالدرهمين ، ونحوهما إلى غير ذلك من العقود التي هي باطلة على وجه ; فيزال ذلك الوجه فتمضي العقدة ، فمعنى هذا الوجه أن نهي الشارع كان لأمر ، فلما زال ذلك الأمر ارتفع النهي ، فصار العقد موافقا لقصد الشارع ; إما على حكم الانعطاف إن قدرنا رجوع الصحة إلى العقد الأول أو غير حكم الانعطاف إن قلنا : إن تصحيحه وقع الآن لا قبل ، وهذا الوجه بناء على أن مصالح العباد مغلبة على حكم التعبد .
والثاني من الإطلاقين : أن يراد بالبطلان عدم ترتب آثار العمل عليه في [ ص: 456 ] الآخرة ، وهو الثواب ، ويتصور ذلك في العبادات والعادات .
فتكون العبادة باطلة بالإطلاق الأول ; فلا يترتب عليها جزاء ; لأنها غير مطابقة لمقتضى الأمر بها ، وقد تكون صحيحة بالإطلاق الأول ، ولا يترتب عليها ثواب أيضا .
فالأول : كالمتعبد رئاء الناس ; فإن تلك العبادة غير مجزئة ، ولا يترتب عليها ثواب .
والثاني : كالمتصدق بالصدقة يتبعها بالمن والأذى ، وقد قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس الآية [ البقرة : 264 ] .
وقال : لئن أشركت ليحبطن عملك [ الزمر : 65 ] .
وفي الحديث : أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ إن لم يتب .
[ ص: 457 ] على تأويل من جعل الإبطال حقيقة .
[ ص: 458 ] وتكون أعمال العادات باطلة أيضا ; بمعنى عدم ترتب الثواب عليها ، سواء علينا أكانت باطلة بالإطلاق الأول أم لا ; فالأول كالعقود المفسوخة شرعا ، والثاني كالأعمال التي يكون الحامل عليها مجرد الهوى والشهوة من غير التفات إلى خطاب الشارع فيها كالأكل والشرب والنوم وأشباهها ، والعقود المنعقدة بالهوى ، ولكنها وافقت الأمر أو الإذن الشرعي بحكم الاتفاق لا بالقصد إلى ذلك ; فهي أعمال مقرة شرعا لموافقتها للأمر أو الإذن ; لما يترتب عليها من المصلحة في الدنيا ، فروعي فيها هذا المقدار من حيث وافقت قصد الشارع فيه ، وتبقى جهة قصد الامتثال مفقودة ; فيكون ما يترتب عليها في الآخرة مفقودا أيضا ; لأن الأعمال بالنيات .
والحاصل أن هذه الأعمال التي كان الباعث عليها الهوى المجرد ، إن وافقت قصد الشارع بقيت ببقاء حياة العامل ; فإذا خرج من الدنيا فنيت بفناء الدنيا وبطلت ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ النحل : 96 ] .
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ الشورى : 20 ] .
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها [ الأحقاف : 20 ] .
وما أشبه ذلك مما هو نص أو ظاهر أو فيه إشارة إلى هذا المعنى ; فمن هنا أخذ من تقدم بالحزم في الأعمال العادية أن يضيفوا إليها قصدا يجدون به أعمالهم في الآخرة . وانظر في الإحياء وغيره .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (34)
صـ459 إلى صـ 469
ما ذكر من إطلاق البطلان بالمعنى الثاني يحتمل تقسيما ، لكن بالنسبة إلى الفعل العادي ; إذ لا يخلو الفعل العادي ـ إذا خلا عن قصد التعبد ـ أن يفعل بقصد أو بغير قصد ، والمفعول بقصد ; إما أن يكون القصد مجرد الهوى والشهوة من غير نظر في موافقة قصد الشارع أو مخالفته ، وإما أن ينظر مع ذلك في الموافقة فيفعل أو في المخالفة فيترك ; إما اختيارا وإما اضطرارا ; فهذه أربعة أقسام :
أحدها : أن يفعل من غير قصد كالغافل والنائم ، فقد تقدم أن هذا الفعل لا يتعلق به خطاب اقتضاء ولا تخيير ، فليس فيه ثواب ولا عقاب ; لأن الجزاء في الآخرة إنما يترتب على الأعمال الداخلة تحت التكليف ، فما لا يتعلق به خطاب تكليف لا يترتب عليه ثمرته .
والثاني : أن يفعل لقصد نيل غرضه مجردا ، فهذا أيضا لا ثواب له على ذلك كالأول ، وإن تعلق به خطاب التكليف أو وقع واجبا كأداء الديون ورد الودائع والأمانات ، والإنفاق على الأولاد ، وأشباه ذلك ، ويدخل تحت هذا ترك المنهيات بحكم الطبع ; لأن الأعمال بالنيات ، وقد قال في الحديث : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ، ومعنى الحديث [ ص: 460 ] متفق عليه ، ومقطوع به في الشريعة .
فهذا القسم والذي قبله باطل بمقتضى الإطلاق الثاني .
والثالث : أن يفعل مع استشعار الموافقة اضطرارا ، كالقاصد لنيل لذته من المرأة الفلانية ، ولما لم يمكنه بالزنى لامتناعها أو لمنع أهلها ، عقد عليها عقد نكاح ليكون موصلا له إلى ما قصد ، فهذا أيضا باطل بالإطلاق الثاني ; لأنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إلا مضطرا ، ومن حيث كان موصلا إلى غرضه لا من حيث أباحه الشرع ، وإن كان غير باطل بالإطلاق الأول ، ومثل ذلك الزكاة المأخوذة كرها ; فإنها صحيحة على الإطلاق الأول ; إذ كانت مسقطة للقضاء أو مبرئة للذمة ، وباطلة على هذا الإطلاق الثاني ، وكذلك ترك المحرمات خوفا من العقاب عليها في الدنيا أو استحياء من الناس أو ما أشبه هذا ، ولذلك كانت الحدود كفارات فقط ، فلم يخبر الشارع عنها أنها مرتبة ثوابا [ ص: 461 ] على حال ، وأصل ذلك كون الأعمال بالنيات .
والرابع : أن يفعل لكن مع استشعار الموافقة اختيارا ; كالفاعل للمباح بعد علمه بأنه مباح ، حتى إنه لو لم يكن مباحا لم يفعله ; فهذا القسم إنما يتعين النظر فيه في المباح ، أما المأمور به يفعله بقصد الامتثال أو المنهي عنه يتركه بذلك القصد أيضا ; فهو من الصحيح بالاعتبارين ، كما أنه لو ترك المأمور به أو فعل المنهي عنه قصدا للمخالفة ، فهو من الباطل بالاعتبارين ; فإنما يبقى النظر في فعل المباح أو تركه من حيث خاطبه الشرع بالتخيير فاختار أحد الطرفين من الفعل أو الترك لمجرد حظه فتحتمل في النظر ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون صحيحا بالاعتبار الأول باطلا بالاعتبار الثاني ، وهذا هو الجاري على الأصل المتقدم في تصور المباح بالنظر إلى نفسه لا بالنظر إلى ما يستلزم .
والثاني : أن يكون صحيحا بالاعتبارين ، معا بناء على تحريه في نيل حظه مما أذن له فيه دون ما لم يؤذن له فيه ، وعلى هذا نبه الحديث في الأجر في وطء الزوجة ، وقولهم : أيقضي شهوته ، ثم يؤجر فقال : أرأيتم لو وضعها في حرام ، وهذا مبسوط في كتاب " المقاصد " من هذا الكتاب .
[ ص: 462 ] والثالث : أن يكون صحيحا بالاعتبارين معا في المباح الذي هو مطلوب الفعل بالكل ، وصحيحا بالاعتبار الأول باطلا بالاعتبار الثاني في المباح الذي هو مطلوب الترك بالكل ، وهذا هو الجاري على ما تقدم في القسم الأول من قسمي الأحكام ، ولكنه مع الذي قبله باعتبار أمر خارج عن حقيقة الفعل المباح ، والأول بالنظر إليه في نفسه .
فصل
وأما ما ذكر من إطلاق الصحة بالاعتبار الثاني ، فلا يخلو أن يكون عبادة أو عادة ; فإن كان عبادة فلا تقسيم فيه على الجملة ، وإن كان عادة ; فإما أن يصحبه مع قصد التعبد قصد الحظ أو لا ، والأول إما أن يكون قصد الحظ غالبا أو مغلوبا ; فهذه ثلاثة أقسام :
أحدها : ما لا يصحبه حظ ; فلا إشكال في صحته .
والثاني : كذلك ; لأن الغالب هو الذي له الحكم ، وما سواه في حكم [ ص: 463 ] المطرح .
والثالث : محتمل لأمرين : أن يكون صحيحا بالاعتبار الثاني أيضا ; إعمالا للجانب المغلوب ، واعتبارا بأن جانب الحظ غير قادح في العاديات بخلاف العباديات ، وأن يكون صحيحا بالاعتبار الأول دون الثاني ; إعمالا لحكم الغلبة ، وبيان هذا التقسيم والدليل عليه مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب ، والحمد لله .
[ ص: 464 ] النوع الخامس في العزائم والرخص .
والنظر فيه في مسائل : المسألة الأولى
العزيمة : ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء .
ومعنى كونها " كلية " أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون دون بعض ، ولا ببعض الأحوال دون بعض ; كالصلاة مثلا ; فإنها مشروعة على الإطلاق والعموم في كل شخص وفي كل حال ، وكذلك الصوم والزكاة والحج والجهاد وسائر شعائر الإسلام الكلية ، ويدخل تحت هذا ما شرع لسبب مصلحي في الأصل ; كالمشروعات المتوصل بها إلى إقامة مصالح الدارين من البيع ، والإجارة ، وسائر عقود المعاوضات ، وكذلك أحكام الجنايات ، والقصاص ، والضمان ، وبالجملة جميع كليات الشريعة .
ومعنى " شرعيتها ابتداء " أن يكون قصد الشارع بها إنشاء [ ص: 465 ] الأحكام التكليفية على العباد من أول الأمر ، فلا يسبقها حكم شرعي قبل ذلك ، فإن سبقها وكان منسوخا بهذا الأخير ، كان هذا الأخير كالحكم الابتدائي تمهيدا للمصالح الكلية العامة .
ولا يخرج عن هذا ما كان من الكليات واردا على سبب ; فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك ، فإذا وجدت اقتضت أحكاما ; كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] .
وقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله [ الأنعام : 108 ] .
وقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .
وقوله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم الآية [ البقرة : 187 ] .
وقوله : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه [ البقرة : 203 ] .
وما كان مثل ذلك ; فإنه تمهيد لأحكام وردت [ شيئا ] بعد شيء بحسب [ ص: 466 ] الحاجة إلى ذلك ; فكل هذا يشمله اسم العزيمة ; فإنه شرع ابتدائي حكما ، كما أن المستثنيات من العمومات وسائر المخصوصات كليات ابتدائية أيضا ; كقوله [ تعالى ] : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله [ البقرة : 229 ] .
وقوله تعالى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة [ النساء : 19 ] .
وقوله تعالى : فاقتلوا المشركين [ التوبة : 5 ] .
ونهى - صلى الله عليه وسلم ـ عن قتل النساء والصبيان ، هذا وما أشبهه من العزائم ; لأنه راجع إلى أحكام كلية ابتدائية .
وأما الرخصة ; فما شرع لعذر شاق ، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه .
فكونه " مشروعا لعذر " هو الخاصة التي ذكرها علماء الأصول .
[ ص: 467 ] وكونه شاقا ; فإنه قد يكون العذر مجرد الحاجة من غير مشقة موجودة ، فلا يسمى ذلك رخصة ; كشرعية القراض مثلا ; فإنه لعذر في الأصل ، وهو عجز صاحب المال عن الضرب في الأرض ، ويجوز حيث لا عذر ولا عجز ، وكذلك المساقاة والقرض والسلم ، فلا يسمى هذا كله رخصة ، وإن كانت مستثناة من أصل ممنوع ، وإنما يكون مثل هذا داخلا تحت أصل الحاجيات الكليات ، والحاجيات لا تسمى عند العلماء باسم الرخصة ، وقد يكون العذر راجعا إلى أصل تكميلي فلا يسمى رخصة أيضا ، وذلك أن من لا يقدر على الصلاة قائما أو يقدر بمشقة ، فمشروع في حقه الانتقال إلى الجلوس ، وإن كان مخلا بركن من أركان الصلاة ، لكن بسبب المشقة استثني فلم يتحتم عليه القيام ; فهذا رخصة محققة ; فإن كان هذا المترخص إماما ; فقد جاء في الحديث : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، ثم قال : وإن صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون فصلاتهم جلوسا وقع لعذر ; إلا أن العذر في حقهم ليس المشقة ، بل لطلب الموافقة للإمام وعدم المخالفة عليه ، فلا يسمى مثل هذا رخصة ، وإن كان مستثنى لعذر .
[ ص: 468 ] وكون هذا المشروع لعذر " مستثنى من أصل كلي " يبين لك أن الرخص ليست بمشروعة ابتداء ; فلذلك لم تكن كليات في الحكم ، وإن عرض لها ذلك ; فبالعرض ، فإن المسافر إذا أجزنا له القصر والفطر ; فإنما كان ذلك بعد استقرار أحكام الصلاة والصوم ، هذا وإن كانت آيات الصوم نزلت دفعة واحدة ; فإن الاستثناء ثان عن استقرار حكم المستثنى منه على الجملة ، وكذلك أكل الميتة للمضطر في قوله تعالى : فمن اضطر الآية [ البقرة : 173 ] .
وكونه " مقتصرا به على موضع الحاجة " خاصة من خواص الرخص أيضا لا بد منه ، وهو الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكلية ، وما شرع من الرخص ; فإن شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة ; فإن المصلي إذا انقطع سفره ، وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم ، والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصل قاعدا ، وإذا قدر على مس الماء لم يتيمم ، وكذلك سائر الرخص بخلاف القرض والقراض والمساقاة ، ونحو ذلك مما هو يشبه الرخصة ; فإنه ليس برخصة في حقيقة هذا الاصطلاح لأنه مشروع أيضا ، وإن زال العذر فيجوز للإنسان أن يقترض ، وإن لم يكن به حاجة إلى الاقتراض ، وأن يساقي حائطه وإن كان قادرا على عمله بنفسه أو بالاستئجار عليه ، وأن يقارض بماله وإن كان قادرا على التجارة فيه بنفسه أو بالاستئجار ، وكذلك ما أشبهه .
فالحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي ، والرخصة راجعة [ ص: 469 ] إلى جزئي مستثنى من ذلك الأصل الكلي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (35)
صـ470 إلى صـ 484
فصل
وقد تطلق الرخصة على ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقا ، من غير اعتبار بكونه لعذر شاق فيدخل فيه القرض والقراض والمساقاة ورد الصاع من الطعام في مسألة المصراة ، وبيع العرية بخرصها تمرا ، وضرب الدية على العاقلة ، وما أشبه ذلك ، وعليه يدل قوله : نهى عن بيع ما ليس عندك ، [ ص: 470 ] وأرخص في السلم ، وكل هذا مستند إلى أصل الحاجيات ; فقد اشتركت مع الرخصة بالمعنى الأول في هذا الأصل ، فيجري عليها حكمها في التسمية ، كما جرى عليها حكمها في الاستثناء من أصل ممنوع ، وهنا أيضا يدخل ما تقدم في صلاة المأمومين جلوسا اتباعا للإمام المعذور ، وصلاة الخوف المشروعة بالإمام كذلك أيضا ، لكن هاتين المسألتين تستمدان من أصل التكميلات لا [ ص: 471 ] من أصل الحاجيات ; فيطلق عليها لفظ الرخصة وإن لم تجتمع معها في أصل واحد ، كما أنه قد يطلق لفظ الرخصة وإن استمدت من أصل الضروريات ، كالمصلي لا يقدر على القيام ; فإن الرخصة في حقه ضرورية لا حاجية ، وإنما تكون حاجية إذا كان قادرا عليه لكن بمشقة تلحقه فيه أو بسببه ، وهذا كله ظاهر .
فصل
وقد يطلق لفظ الرخصة على ما وضع عن هذه الأمة من التكاليف الغليظة ، والأعمال الشاقة التي دل عليها قوله تعالى : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] .
وقوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ الأعراف : 157 ] .
فإن الرخصة في اللغة راجعة إلى معنى اللين ، وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الأحاديث : أنه عليه الصلاة والسلام صنع شيئا ترخص فيه ، [ ص: 472 ] ويمكن أن يرجع إليه معنى الحديث الآخر : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ، وسيأتي بيانه بعد إن شاء الله ; فكان ما جاء في هذه الملة السمحة من المسامحة واللين رخصة ، بالنسبة إلى ما حملته الأمم السالفة من العزائم الشاقة .
فصل
وتطلق الرخصة أيضا على ما كان من المشروعات توسعة على العباد مطلقا ، مما هو راجع إلى نيل حظوظهم ، وقضاء أوطارهم ; فإن العزيمة الأولى هي التي نبه عليها قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] .
وقوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا الآية [ طه : 132 ] .
وما كان نحو ذلك ما دل على أن العباد ملك الله على الجملة والتفصيل ; فحق عليهم التوجه إليه ، وبذل المجهود في عبادته ; لأنهم عباده وليس لهم حق لديه ولا حجة عليه ، فإذا وهب لهم حظا ينالونه ، فذلك كالرخصة لهم لأنه توجه إلى غير المعبود ، واعتناء بغير ما اقتضته العبودية .
فالعزيمة في هذا الوجه هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي على الإطلاق والعموم ، كانت الأوامر وجوبا أو ندبا ، والنواهي كراهة أو تحريما ، وترك كل [ ص: 473 ] ما يشغل عن ذلك من المباحات ، فضلا عن غيرها ; لأن الأمر من الآمر مقصود أن يمتثل على الجملة ، والإذن في نيل الحظ الملحوظ من جهة العبد رخصة ، فيدخل في الرخصة على هذا الوجه كل ما كان تخفيفا وتوسعة على المكلف ، فالعزائم حق الله على العباد ، والرخص حظ العباد من لطف الله ، فتشترك المباحات مع الرخص على هذا الترتيب من حيث كانا معا توسعة على العبد ورفع حرج عنه ، وإثباتا لحظه ، وتصير المباحات ـ عند هذا النظر ـ تتعارض مع المندوبات على الأوقات ، فيؤثر حظه في الأخرى على حظه في الدنيا أو يؤثر حق ربه على حظ نفسه ; فيكون رافعا للمباح من عمله رأسا أو آخذا له حقا لربه ، فيصير حظه مندرجا تابعا لحق الله ، وحق الله هو المقدم والمقصود ; فإن [ على ] العبد بذل المجهود ، والرب يحكم ما يريد .
وهذا الوجه يعتبره الأولياء من أصحاب الأحوال ، ويعتبره أيضا غيرهم ممن رقى عن الأحوال ، وعليه يربون التلاميذ ، ألا ترى أن من مذاهبهم الأخذ بعزائم العلم ، واجتناب الرخص جملة ، حتى آل الحال بهم أن عدوا [ ص: 474 ] أصل الحاجيات كلها أو جلها من الرخص ، وهو ما يرجع إلى حظ العبد منها حسبما بان لك في هذا الإطلاق الأخير ، وسيأتي لهذا الذي ذهبوا إليه تقرير في هذا النوع إن شاء الله تعالى .
فصل
ولما تقررت هذه الإطلاقات الأربعة ، ظهر أن منها ما هو خاص ببعض الناس ، وما هو عام للناس كلهم ; فأما العام للناس كلهم فذلك الإطلاق الأول ، وعليه يقع التفريع في هذا النوع ، وأما الإطلاق الثاني فلا كلام عليه هنا ; إذ لا تفريع يترتب عليه ، وإنما يتبين به أنه إطلاق شرعي ، وكذلك الثالث ; وأما الرابع فلما كان خاصا بقوم لم يتعرض له على الخصوص ، إلا أن التفريع على الأول يتبين به التفريع عليه ; فلا يفتقر إلى تفريع خاص بحول الله تعالى .
المسألة الثانية
حكم الرخصة الإباحة مطلقا من حيث هي رخصة ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : موارد النصوص عليها كقوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] .
وقوله : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] .
وقوله : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية [ ص: 475 ] [ النساء : 101 ] .
وقوله : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] الآية إلى آخرها .
وأشباه ذلك من النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا لقوله : فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] ، وقوله : فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] ، ولم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة ، بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة ، وهو الإثم والمؤاخذة على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل ، كقوله تعالى : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة [ البقرة : 236 ] .
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [ البقرة : 235 ] .
إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح ، وبجواز الإقدام خاصة .
[ ص: 476 ] وقال تعالى : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة : 185 ] .
وفي الحديث : كنا نسافر مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمنا المقصر ومنا المتم ، ولا يعيب بعضنا على بعض .
والشواهد على ذلك كثيرة .
[ ص: 477 ] والثاني : أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه ; حتى يكون من ثقل التكليف في سعة واختيار بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة ، وهذا أصله الإباحة كقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ البقرة : 29 ] .
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] .
متاعا لكم ولأنعامكم [ النازعات : 33 ] .
بعد تقرير نعم كثيرة .
وأصل الرخصة السهولة ، ومادة [ رخ ص ] للسهولة واللين كقولهم : شيء رخص : بين الرخوصة ، ومنه الرخص ضد الغلاء ، ورخص له في الأمر فترخص هو فيه إذا لم يستقص له فيه ، فمال هو إلى ذلك ، وهكذا سائر استعمال المادة .
والثالث : إنه لو كانت الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا لكانت عزائم لا رخصا ، والحال بضد ذلك ; فالواجب هو الحتم واللازم الذي لا خيرة فيه ، [ ص: 478 ] والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر ، ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات : إنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها ، فإذا كان كذلك ; ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين ، وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من حيث هي رخصة .
فإن قيل : هذا معترض من وجهين :
أحدهما : إن ما تقدم من الأدلة لا يدل على مقصود المسألة ; إذ لا يلزم من رفع الجناح والإثم عن الفاعل للشيء أن يكون ذلك الشيء مباحا ; فإنه قد يكون واجبا أو مندوبا ، أما أولا ; فقد قال تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] ، وهما مما يجب الطواف بينهما ، وقال تعالى : ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى [ البقرة : 203 ] ، والتأخر مطلوب طلب الندب ، وصاحبه أفضل عملا من المتعجل ، إلى غير ذلك من المواضع التي في هذا المعنى .
ولا يقال : إن هذه المواضع نزلت على أسباب ، حيث توهموا الجناح كما ثبت في حديث عائشة ; لأنا نقول : مواضع الإباحة أيضا نزلت على أسباب ، [ ص: 479 ] وهي توهم الجناح كقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .
وقوله : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم [ النور : 61 ] إلى آخرها .
وقوله : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج [ النور : 61 ] . [ استدراك : 4 ] .
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [ البقرة : 235 ] .
جميع هذا وما كان مثله متوهم فيه الجناح والحرج ، وإذا استوى الموضوعان لم يكن في النص على رفع الإثم والحرج والجناح دلالة على حكم الإباحة على الخصوص ، فينبغي أن يؤخذ حكمه من محل آخر ودليل خارجي .
[ ص: 480 ] والثاني : أن العلماء قد نصوا على رخص مأمور بها ، فالمضطر إذا خاف الهلاك وجب عليه تناول الميتة وغيرها من المحرمات الغاذية ، ونصوا على طلب الجمع بعرفة والمزدلفة ، وأنه سنة ، وقيل في قصر المسافر : إنه فرض أو سنة أو مستحب ، وفي الحديث : إن الله يحب أن تؤتى رخصه ، وقال ربنا تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] إلى كثير من ذلك ; فلم يصح إطلاق القول بأن حكم الرخص الإباحة دون التفصيل .
فالجواب عن الأول : إنه لا يشك أن رفع الحرج والإثم في وضع اللسان إذا تجرد عن القرائن يقتضي الإذن في التناول والاستعمال ، فإذا خلينا واللفظ كان راجعا إلى معنى الإذن في الفعل على الجملة ; فإن كان لرفع الجناح والحرج سبب خاص فلنا أن نحمله على مقتضى اللفظ لا على خصوص السبب ; فقد يتوهم فيما هو مباح شرعا أن فيه إثما بناء على استقرار عادة تقدمت أو رأي عرض كما توهم بعضهم الإثم في الطواف بالبيت بالثياب ، وفي بعض المأكولات حتى نزل : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] ، وكذلك في الأكل من بيوت الآباء [ ص: 481 ] والأمهات ، وسائر من ذكر في الآية ، وفي التعريض بالنكاح في العدة ، وغير ذلك ، فكذلك قوله : فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] يعطي معنى الإذن ; وأما كونه واجبا فمأخوذ من قوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ البقرة : 158 ] أو من دليل آخر ; فيكون التنبيه هنا على مجرد الإذن الذي يلزم الواجب من جهة مجرد الإقدام مع قطع النظر عن جواز الترك أو عدمه .
ولنا أن نحمله على خصوص السبب ، ويكون مثل قوله في الآية من شعائر [ الحج : 36 ] قرينة صارفة للفظ عن مقتضاه في أصل الوضع ; أما ما له سبب مما هو في نفسه مباح فيستوي مع ما لا سبب له في معنى الإذن ولا إشكال فيه ، وعلى هذا الترتيب يجري القول في الآية الأخرى ، وسائر ما جاء في هذا المعنى .
والجواب عن الثاني أنه قد تقدم أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين [ ص: 482 ] متنافيين فلا بد أن يرجع الوجوب أو الندب إلى عزيمة أصلية ، لا إلى الرخص بعينها ، وذلك أن المضطر الذي لا يجد من الحلال ما يرد به نفسه ، أرخص له في أكل الميتة قصدا لرفع الحرج عنه وردا لنفسه من ألم الجوع ; فإن خاف التلف وأمكنه تلافي نفسه بأكلها كان مأمورا بإحياء نفسه لقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم كما هو مأمور بإحياء غيره من مثلها إذا أمكنه تلافيه ، بل هو مثل من صادف شفا جرف يخاف الوقوع فيه ، فلا شك أن الزوال عنه مطلوب ، وأن إيقاع نفسه فيه ممنوع ، ومثل هذا لا يسمى رخصة ; لأنه راجع إلى أصل كلي ابتدائي ، فكذلك من خاف التلف إن ترك أكل الميتة هو مأمور بإحياء نفسه ، فلا يسمى رخصة من هذا الوجه ، وإن سمي رخصة من جهة رفع الحرج عن نفسه .
فالحاصل أن إحياء النفس على الجملة مطلوب طلب العزيمة ، وهذا فرد من أفراده ، ولا شك أن الرخصة مأذون فيها لرفع الحرج ، وهذا فرد من أفرادها ; فلم تتحد الجهتان ، وإذا تعددت الجهات زال التدافع ، وذهب التنافي ، [ ص: 483 ] وأمكن الجمع .
وأما جمع عرفة والمزدلفة ونحوه ، فلا نسلم أنه عند القائل بالطلب رخصة ، بل هو عزيمة متعبد بها عنده ، ويدل عليه حديث عائشة ـ رضى الله عنها ـ في القصر : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين الحديث ، وتعليل القصر بالحرج والمشقة لا يدل على أنه رخصة ; إذ ليس كل ما كان رفعا للحرج يسمى رخصة على هذا الاصطلاح العام ، وإلا فكان يجب أن تكون الشريعة كلها رخصة لخفتها بالنسبة إلى الشرائع المتقدمة أو يكون شرع الصلاة خمسا رخصة ; لأنها شرعت في السماء خمسين ، ويكون القرض والمساقاة والقراض وضرب الدية على العاقلة رخصة ، وذلك لا يكون كما تقدم ، فكل ما خرج عن مجرد الإباحة فليس برخصة .
وأما قوله : إن الله يحب أن تؤتى رخصه فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
[ ص: 484 ] وأيضا ; فالمباحات منها ما هو محبوب ومنها ما هو مبغض كما تقدم بيانه في الأحكام التكليفية فلا تنافي .
وأما قوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] ، وما كان نحوه ; فكذلك أيضا لأن شرعية الرخص المباحة تيسير ورفع حرج ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (36)
صـ485 إلى صـ 496
المسألة الثالثة
أن الرخصة إضافية لا أصلية ، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه ما لم يحد فيها حد شرعي فيوقف عنده ، وبيان ذلك من أوجه : أحدها : إن سبب الرخصة المشقة ، والمشاق تختلف بالقوة والضعف ، وبحسب الأحوال ، وبحسب قوة العزائم وضعفها ، وبحسب الأزمان ، وبحسب الأعمال ، فليس سفر الإنسان راكبا مسيرة يوم وليلة في رفقة مأمونة ، وأرض مأمونة ، وعلى بطء وفي زمن الشتاء ، وقصر الأيام ; كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر ، وكذلك الصبر على شدائد السفر ومشقاته يختلف ; فرب [ ص: 485 ] رجل جلد ضري على قطع المهامه ، حتى صار له ذلك عادة لا يحرج بها ، ولا يتألم بسببها ، يقوى على عباداته ، وعلى أدائها على كمالها ، وفي أوقاتها ، ورب رجل بخلاف ذلك ، وكذلك في الصبر على الجوع والعطش ، ويختلف أيضا باختلاف الجبن والشجاعة ، وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر على ضبطها ، وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها ، وإذا كان كذلك ; فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص ، ولا حد محدود يطرد في جميع الناس ، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة ; فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة ، وترك كل مكلف على ما يجد ، أي : إن كان قصر أو فطر ففي السفر ، وترك كثيرا منها موكولا إلى الاجتهاد كالمرض ، وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر ، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر ، وهذا لا مرية فيه ; فإذا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي ، ولا ضابط مأخوذ باليد ، بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه ; فمن كان من المضطرين معتادا للصبر على الجوع ، ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب ، وكما ذكر عن الأولياء ; فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك ، هذا وجه .
والثاني : إنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس ، وحسبك من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا [ ص: 486 ] الشدائد ، وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم ، من إتلاف مهجهم إلى ما دون ذلك ، وطالت عليهم الآماد ، وهم على أول أعمالهم حرصا عليها ، واغتناما لها ; طمعا في رضى المحبوبين ، واعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم ، بل لذة لهم ونعيم ، وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد ، وألم أليم ، فهذا من أوضح الأدلة على المشاق تختلف بالنسب والإضافات ، وذلك يقضي بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات .
والثالث : ما يدل على هذا من الشرع ; كالذي جاء في وصال الصيام ، وقطع الأزمان في العبادات ; فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد ، ثم فعله من بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علما بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حقهم ، ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا يصدهم ذلك عن حوائجهم ، ويقطعهم عن سلوك طريقهم ; فلا حرج في حقهم ، وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته وحاجاته ، وهذا معنى كون سبب الرخصة إضافيا ، ويلزم منه أن تكون الرخصة كذلك ; ، لكن هذا الوجه استدلال بجنس المشقة على نوع من أنواعها ، وهو غير منتهض إلا أن يجعل [ ص: 487 ] منضما إلى ما قبله ، فالاستدلال بالمجموع صحيح حسبما هو مذكور في فصل العموم في كتاب الأدلة .
فإن قيل : الحرج المعتبر في مشروعية الرخصة ; إما أن يكون مؤثرا في المكلف بحيث لا يقدر بسببه على التفرغ لعادة ولا لعبادة أو لا يمكن له ذلك على حسب ما أمر به أو يكون غير مؤثر ، بل يكون مغلوب صبره ومهزوم عزمه ، فإن كان الأول فظاهر أنه محل الرخصة ، إلا أنه يطلب فيه الأخذ بالرخصة وجوبا أو ندبا على حسب تمام القاطع عن العمل أو عدم تمامه ، وإذا كانت مأمورا بها ; فلا تكون رخصة كما تقدم بل عزيمة ، وإن كان الثاني فلا حرج في العمل ولا مشقة ، إلا [ ما ] في الأعمال المعتادة ، وذلك ينفي كونه حرجا ينتهض علة للرخصة ، وإذا انتفى محل الرخصة في القسمين ولا ثالث لهما ; ارتفعت الرخصة من أصلها ، والاتفاق على وجودها معلوم ، هذا خلف ; [ ص: 488 ] فما انبنى عليه مثله .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن هذا السؤال منقلب على وجه آخر ; لأنه يقتضي أن تكون الرخص كلها مأمورا بها وجوبا أو ندبا ; إذ ما من رخصة تفرض إلا وهذا البحث جار فيها ، فإذا كان مشترك الإلزام لم ينهض دليلا ، ولم يعتبر في الإلزامات .
والثاني : إنه إن سلم ; فلا يلزم السؤال لأمرين :
أحدهما : إن انحصار الرخص في القسمين لا دليل عليه ; لإمكان قسم ثالث بينهما ، وهو أن لا يكون الحرج مؤثرا في العمل ، ولا يكون المكلف رخي البال عنده ، وكل أحد يجد من نفسه في المرض أو السفر حرجا في الصوم ، مع أنه لا يقطعه عن سفره ، ولا يخل به في مرضه ، ولا يؤديه إلى الإخلال بالعمل ، وكذلك سائر ما يعرض من الرخص ، جار فيه هذا التقسيم ، والثالث : هو محل الإباحة ; إذ لا جاذب [ له ] يجذبه لأحد الطرفين .
والآخر : أن طلب الشرع للتخفيف حيث طلبه ليس من جهة كونه [ ص: 489 ] رخصة ، بل من جهة كون العزيمة لا يقدر عليها أو كونها تؤدي إلى الإخلال بأمر من أمور الدين أو الدنيا ، فالطلب من حيث النهي عن الإخلال لا من حيث العمل بنفس الرخصة ، ولذلك نهي عن الصلاة بحضرة الطعام ، ومع مدافعة الأخبثين ، ونحو ذلك ; فالرخصة باقية على أصل الإباحة من حيث هي [ ص: 490 ] رخصة فليست بمرتفعة من الشرع بإطلاق ، وقد مر بيان جهتي الطلب والإباحة ، والله أعلم .
المسألة الرابعة
الإباحة المنسوبة إلى الرخصة ; هل هي من قبيل الإباحة بمعنى رفع الحرج ، أم من قبيل الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك ؟
فالذي يظهر من نصوص الرخص أنها بمعنى رفع الحرج لا بالمعنى الآخر ، وذلك ظاهر في قوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] ، وقوله في الآية الأخرى : فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] ; فلم يذكر في ذلك أن له الفعل والترك ، وإنما ذكر أن التناول في حال الاضطرار يرفع الإثم .
وكذلك قوله : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ البقرة : 184 ] ، ولم يقل : فله الفطر ، ولا فليفطر ، ولا يجوز له ، بل ذكر نفس العذر وأشار إلى أنه إن أفطر ; فعدة من أيام أخر .
وكذلك قوله : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] على القول بأن المراد القصر من عدد الركعات ، ولم يقل : فلكم أن [ ص: 491 ] تقصروا أو فإن شئتم فاقصروا .
وقال [ تعالى ] في المكره : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره الآية إلى قوله : ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله [ النحل : 106 ] ; فالتقدير أن من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب يلحقه إن تكلم بكلمة الكفر ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولم يقل : فله أن ينطق أو إن شاء فلينطق .
وفي الحديث : أكذب امرأتي ؟ قال له : لا خير في الكذب . قال له : أفأعدها وأقول لها ؟ قال : لا جناح عليك ، ولم يقل له نعم ، ولا افعل إن [ ص: 492 ] شئت .
والدليل على أن التخيير غير مراد في هذه الأمور ، أن الجمهور أو الجميع يقولون : من لم يتكلم بكلمة الكفر مع الإكراه مأجور ، وفي أعلى الدرجات ، والتخيير ينافي ترجيح أحد الطرفين على الآخر ; فكذلك غيره من المواضع [ ص: 493 ] المذكورة وسواها .
وأما الإباحة التي بمعنى التخيير ففي قوله تعالى : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم [ البقرة : 223 ] ، يريد : كيف شئتم : مقبلة ومدبرة وعلى جنب ; فهذا تخيير واضح ، وكذلك قوله : وكلا منها رغدا حيث شئتما [ البقرة : 35 ] ، وما أشبه ذلك ، وقد تقدم في قسم خطاب التكليف فرق ما بين المباحين .
فإن قيل : ما الذي ينبني على الفرق بينهما ؟
قيل : ينبني عليه فوائد كثيرة ، ولكن العارض في مسألتنا أنا إن قلنا : الرخصة مخير فيها حقيقة لزم أن تكون مع مقتضى العزيمة من الواجب المخير ، وليس كذلك إذا قلنا : إنها مباحة بمعنى رفع الحرج عن فاعلها ; إذ رفع الحرج لا يستلزم التخيير ; ألا ترى أنه موجود مع الواجب ؟ ، وإذا كان كذلك ; تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود شرعا ، فإذا عمل بها لم يكن بين المعذور وبين غيره في العمل بها فرق ، لكن العذر رفع التأثيم عن المنتقل عنها إن اختار لنفسه الانتقال ، وسيأتي لهذا بسط إن شاء الله تعالى .
المسألة الخامسة
الترخص المشروع ضربان :
أحدهما : أن يكون في مقابلة مشقة لا صبر عليها طبعا ; كالمرض الذي يعجز معه عن استيفاء أركان الصلاة على وجهها مثلا أو عن الصوم لفوت [ ص: 494 ] النفس .
أو شرعا كالصوم المؤدي إلى عدم القدرة على الحضور في الصلاة أو على إتمام أركانها ، وما أشبه ذلك .
والثاني : أن يكون في مقابلة مشقة بالمكلف قدرة على الصبر عليها ، وأمثلته ظاهرة .
فأما الأول ; فهو راجع إلى حق الله ; فالترخص فيه مطلوب ، ومن هنا جاء : ليس من البر الصيام في السفر ، وإلى هذا المعنى يشير النهي عن الصلاة بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان ، و إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء إلى ما كان نحو ذلك ; فالترخص في هذا الموضع ملحق بهذا الأصل ، ولا كلام أن الرخصة هاهنا جارية مجرى العزائم ، ولأجله قال العلماء بوجوب أكل الميتة خوف التلف ، وأن من لم يفعل ذلك فمات دخل النار .
وأما الثاني : فراجع إلى حظوظ العباد لينالوا من رفق الله وتيسيره بحظ ; إلا أنه على ضربين :
[ ص: 495 ] أحدهما : أن يختص بالطلب حتى لا يعتبر فيه حال المشقة أو عدمها ; كالجمع بعرفة والمزدلفة ; فهذا أيضا لا كلام فيه أنه لاحق بالعزائم ، من حيث صار مطلوبا مطلقا طلب العزائم حتى عده الناس سنة لا مباحا ، لكنه مع ذلك لا يخرج عن كونه رخصة ; إذ الطلب الشرعي في الرخصة لا ينافي كونها رخصة ; كما يقوله العلماء في أكل الميتة للمضطر ; فإذا هي رخصة من حيث وقع عليها حد الرخصة ، وفي حكم العزيمة من حيث كانت مطلوبة طلب العزائم .
والثاني : أن لا يختص بالطلب ، بل يبقى على أصل التخفيف ورفع الحرج ، فهو على أصل الإباحة ، فللمكلف الأخذ بأصل العزيمة ، وإن تحمل في ذلك مشقة ، وله الأخذ بالرخصة .
والأدلة على صحة الحكم على هذه الأقسام ظاهرة ، فلا حاجة إلى إيرادها ، فإن تشوف أحد إلى التنبيه على ذلك فنقول : أما الأول ; فلأن المشقة إذا أدت إلى الإخلال بأصل كلي ; لزم أن لا يعتبر فيه أصل العزيمة ; إذ قد صار إكمال العبادة هنا والإتيان بها على وجهها يؤدي إلى رفعها من أصلها ، فالإتيان بما قدر عليها منها ـ وهو مقتضى الرخصة ـ هو المطلوب ، وتقرير هذا الدليل مذكور في كتاب المقاصد من هذا الكتاب .
[ ص: 496 ] وأما الثاني ; فإذا فرض اختصاص الرخصة المعينة بدليل يدل على طلب [ العمل بها على الخصوص ، خرجت من هذا الوجه عن أحكام الرخصة في نفسها ، كما ثبت عند مالك ] [ الدليل على ] طلب الجمع بعرفة والمزدلفة ، فهذا وشبهه مما اختص عن عموم حكم الرخصة ، ولا كلام فيه .
وأما الثالث ; فما تقدم من الأدلة واضح في الإذن في الرخصة أو في رفع الإثم عن فاعلها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (37)
صـ497 إلى صـ 511
المسألة السادسة
حيث قيل بالتخيير بين الأخذ بالعزيمة ، والأخذ بالرخصة ; فللترجيح [ ص: 497 ] بينهما مجال رحب ، وهو محل نظر ، فلنذكر جملا مما يتعلق بكل طرف من الأدلة .
فأما الأخذ بالعزيمة ; فقد يقال إنه أولى لأمور :
أحدها : أن العزيمة هي الأصل الثابت المتفق عليه المقطوع به ، وورود الرخصة عليه ، وإن كان مقطوعا به أيضا ; فلا بد أن يكون سببها مقطوعا به في الوقوع ، وهذا المقدار بالنسبة إلى كل مترخص غير متحقق إلا في القسم المتقدم ، وما سواه لا تحقق فيه ، وهو موضع اجتهاد ; فإن مقدار المشقة المباح من أجلها الترخص غير منضبط ، ألا ترى أن السفر قد اعتبر في مسافته ثلاثة أميال فأكثر كما اعتبر أيضا ثلاثة أيام بلياليهن ، وعلة القصر المشقة ، وقد اعتبر فيها أقل ما ينطلق عليه اسم المشقة ، واعتبر في المرض أيضا أقل ما ينطلق عليه الاسم ; فكان منهم من أفطر لوجع أصبعه ، كما كان منهم من قصر في ثلاثة أميال ، واعتبر آخرون ما فوق ذلك ، وكل مجال الظنون لا موضع فيه للقطع ، وتتعارض فيه الظنون ، وهو محل الترجح والاحتياط ; فكان من مقتضى هذا كله أن لا يقدم على الرخصة مع بقاء احتمال في السبب .
[ ص: 498 ] والثاني : إن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف كلي ; لأنه مطلق عام على الأصالة في جميع المكلفين ، والرخصة راجعة إلى جزئي بحسب بعض المكلفين ممن له عذر ، وبحسب بعض الأحوال وبعض الأوقات في أهل الأعذار لا في كل حالة ولا في كل وقت ، ولا لكل أحد ، فهو كالعارض الطارئ على الكلي ، والقاعدة المقررة في موضعها أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي ; فالكلي مقدم لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية ، والكلي يقتضي مصلحة كلية ، ولا ينخرم نظام في العالم بانخرام المصلحة الجزئية ، بخلاف ما إذا قدم اعتبار المصلحة الجزئية ; فإن المصلحة الكلية ينخرم نظام كليتها فمسألتنا كذلك ; إذ قد علم أن العزيمة بالنسبة إلى كل مكلف أمر كلي ثابت عليه ، والرخصة إنما مشروعيتها أن تكون جزئية ، وحيث يتحقق الموجب ، وما فرضنا الكلام فيه لا يتحقق في كل صورة تفرض إلا والمعارض الكلي ينازعه ; فلا ينجي من طلب الخروج عن العهدة إلا الرجوع إلى الكلي ; وهو العزيمة .
والثالث : ما جاء في الشريعة من الأمر بالوقوف مع مقتضى الأمر والنهي مجردا ، والصبر على حلوه ومره ، وإن انتهض موجب الرخصة ، وأدلة ذلك لا تكاد تنحصر ، من ذلك قوله تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم [ آل عمران : 173 ] ; فهذا مظنة التخفيف ، فأقدموا على الصبر والرجوع إلى الله ; فكان عاقبة ذلك ما أخبر الله به .
[ ص: 499 ] وقال تعالى إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر إلى آخر القصة حيث قال : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 10 - 23 ] ; فمدحهم بالصدق مع حصول الزلزال الشديد والأحوال الشاقة التي بلغت القلوب فيها الحناجر ، وقد عرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أصحابه أن يعطوا الأحزاب من ثمار المدينة ; لينصرفوا عنهم فيخف عليهم الأمر ; فأبوا من ذلك ، وتعززوا بالله وبالإسلام ; فكان ذلك سببا لمدحهم والثناء عليهم .
وارتدت العرب عند وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان الرأي من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ أو من بعضهم غير أبي بكر ـ استئلافهم بترك أخذ الزكاة ممن منعها منهم ; حتى يستقيم أمر الأمة ، ثم يكون ما يكون ; فأبى أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ; [ ص: 500 ] فقال : " والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي " ، والقصة مشهورة .
[ ص: 501 ] وأيضا ; قال الله تعالى : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره الآية [ النحل : 106 ] ; فأباح التكلم بكلمة الكفر ، مع أن ترك ذلك أفضل عند جميع الأمة أو عند الجمهور ، وهذا جار في قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; أن الأمر مستحب والأصل مستتب ، وإن أدى إلى الإضرار بالمال والنفس ، لكن يزول الانحتام ، ويبقى ترتب الأجر على الصبر على ذلك .
ومن الأدلة قوله عليه الصلاة والسلام : إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل من أحد شيئا فحمله الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على عمومه ، ولا بد أن يلحق من التزم هذا العقد مشقات كثيرة فادحة ، ولم يأخذوه إلا على عمومه حتى اقتدى [ ص: 502 ] بهم الأولياء ، منهم أبو حمزة الخراساني ; فاتفق له ما ذكره القشيري وغيره من وقوعه في البئر ، وقد كان هذا النمط مما يناسب استثناؤه من ذلك الأصل .
وقصة الثلاثة الذين خلفوا حتى أتوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصدقوه ، ولم يعتذروا له في موطن كان مظنة للاعتذار ، فمدحوا لذلك ، وأنزل الله توبتهم ، ومدحهم في القرآن بعد ما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، ولكن ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، ففتح لهم باب القبول ، وسماهم صادقين ; لأخذهم بالعزيمة دون الترخص .
[ ص: 503 ] وقصة عثمان بن مظعون وغيره ممن كان في أول الإسلام لا يقدر على دخول مكة إلا بجوار ، ثم تركوا الجوار رضى بجوار الله مع ما نالهم من المكروه ، ولكن هانت عليهم أنفسهم في الله فصبروا إيمانا بقوله : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ الزمر : 10 ] .
وقال تعالى : لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [ آل عمران : 186 ] .
وقال لنبيه عليه [ الصلاة و ] السلام : لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [ الأحقاف : 35 ] .
وقال : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [ الشورى : 41 ] .
ثم قال : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ الشورى : 43 ] .
ولما نزلت هذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية [ البقرة : 284 ] ; شق ذلك على الصحابة فقيل لهم : قولوا : سمعنا وأطعنا . فقالوها ; فألقى الله الإيمان في قلوبهم ; [ ص: 504 ] فنزلت : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه الآية [ البقرة : 285 ] .
وجهز النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسامة في جيش إلى الشام قبيل موته فتوقف خروجه بمرضه عليه السلام ، ثم جاء موته ; فقال الناس لأبي بكر : احبس أسامة بجيشه تستعين به على من حاربك من المجاورين لك ، فقال : لو لعب الكلاب بخلاخيل نساء أهل المدينة ; ما رددت جيشا أنفذه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولكن سأل [ ص: 505 ] أسامة أن يترك له عمر ; ففعل ، وخرج فبلغ الشام ، ونكأ في العدو بها ; فقالت الروم : إنهم لم يضعفوا بموت نبيهم ، وصارت تلك الحالة هيبة في قلوبهم لهم .
وأمثال هذا كثيرة مما يقتضي الوقوف مع العزائم ، وترك الترخص ; لأن القوم عرفوا أنهم مبتلون ، وهو : الوجه الرابع : وذلك أن هذه العوارض الطارئة وأشباهها مما يقع للمكلفين من أنواع المشاق ، هي مما يقصدها الشارع في أصل التشريع أعني أن المقصود في التشريع إنما هو جار على توسط مجاري العادات ، وكونه شاقا على بعض الناس أو في بعض الأحوال مما هو على غير المعتاد لا يخرجه عن أن يكون مقصودا له ; لأن الأمور الجزئية لا تخرم الأصول الكلية ، وإنما تستثنى حيث تستثنى نظرا إلى أصل الحاجيات بحسب الاجتهاد ، والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول للمجتهد ، والخروج عنه لا يكون إلا بسبب قوي ، ولذلك لم يعمل العلماء مقتضى الرخصة الخاصة بالسفر في غيره ; كالصنائع الشاقة في الحضر مع وجود المشقة التي هي العلة في مشروعية الرخصة ، فإذا لا ينبغي الخروج عن حكم العزيمة مع عوارض المشقات التي لا تطرد ولا تدوم ; لأن ذلك جار أيضا في العوائد الدنيوية ، ولم يخرجها ذلك عن أن تكون عادية ، فصار عارض المشقة ـ إذا لم يكن كثيرا أو دائما ـ مع أصل عدم المشقة ، كالأمر المعتاد أيضا ; فلا يخرج عن ذلك بالأصل .
[ ص: 506 ] لا يقال : كيف يكون اجتهاديا وفيه نصوص كثيرة ; كقوله : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [ البقرة : 173 ] .
وقوله : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر الآية [ البقرة : 184 ] .
و إن الله يحب أن تؤتى رخصه .
إلى غير ذلك مما تقدم وسواه مما في معناه .
لأنا نقول : حالة الاضطرار قد تبين أنه الذي يخاف معه فوت الروح ، وذلك لا يكون إلا بعد العجز عن العبادات والعادات ، وهو في نفسه عذر أيضا ; وما سوى ذلك فمحمول على تحقق المشقة التي يعجز معها عن القيام بالوظائف الدينية أو الدنيوية ، بحيث ترجع العزيمة إلى نوع من تكليف ما لا يطاق ، وهو منتف سمعا ، وما سوى ذلك من المشاق مفتقر إلى دليل يدل على دخوله تحت تلك النصوص ، وفيه تضطرب أنظار النظار كما تقدم ، فلا معارضة بين النصوص المتقدمة وبين ما نحن فيه ، وسبب ذلك ـ وهو روح هذا الدليل ـ هو أن هذه العوارض الطارئة تقع للعباد ابتلاء ، واختبارا لإيمان المؤمنين وتردد المترددين ، حتى يظهر للعيان من آمن بربه على بينة ممن هو في شك ، ولو كانت التكاليف كلها يخرم كلياتها كل مشقة عرضت لانخرمت الكليات كما تقدم ، ولم يظهر لنا شيء من ذلك ، ولم يتميز الخبيث من الطيب ، فالابتلاء في [ ص: 507 ] التكاليف واقع ، ولا يكون إلا مع بقاء أصل العزيمة ، فيبتلى المرء على قدر دينه ، قال تعالى : ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] .
الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم الآية [ العنكبوت : 1 - 3 ] .
لتبلون في أموالكم وأنفسكم ، ثم قال : وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [ آل عمران : 186 ] .
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ محمد : 31 ] .
وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين [ آل عمران : 141 ] .
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين [ البقرة : 155 ] إلى آخرها .
فأثنى عليهم بأنهم صبروا لها ، ولم يخرجوا بها عن أصل ما حملوه إلى غيره ، وقوله : ولنبلونكم بشيء يدل على أن هذه البلوى قليلة الوقوع بالنسبة إلى جمهور الأحوال كما تقدم في أحوال التكليف ; فإذا كان المعلوم من الشرع في مثل هذه الأمور طلب الاصطبار عليها والتثبت فيها حتى يجري التكليف على مجراه الأصلي ، كان الترخص على الإطلاق كالمضاد لما قصده الشارع من تكميل العمل على أصالته لتكميل الأجر .
والخامس : أن الترخص إذا أخذ به في موارده على الإطلاق ، كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق ، فإذا أخذ بالعزيمة ; كان حريا بالثبات في التعبد ، والأخذ بالحزم فيه .
[ ص: 508 ] بيان الأول " أن الخير عادة والشر لجاجة " ، وهذا مشاهد محسوس لا يحتاج إلى إقامة دليل ، والمتعود لأمر يسهل عليه ذلك الأمر ما لا يسهل على غيره ; كان خفيفا في نفسه أو شديدا ، فإذا اعتاد الترخص ; صارت كل عزيمة في يده كالشاقة الحرجة ، وإذا صارت كذلك ; لم يقم بها حق قيامها ، وطلب الطريق إلى الخروج منها ، وهذا ظاهر ، وقد وقع هذا المتوقع في أصول كلية وفروع جزئية ; كمسألة الأخذ بالهوى في اختلاف أقوال العلماء ، ومسألة إطلاق القول بالجواز عند اختلافهم بالمنع والجواز ، وغير ذلك مما نبه عليه في أثناء الكتاب أو لم ينبه عليه .
وبيان الثاني ظاهر أيضا مما تقدم ; فإنه ضده .
وسبب هذا كله أن أسباب الرخص أكثر ما تكون مقدرة ومتوهمة لا محققة ، فربما عدها شديدة وهي خفيفة في نفسها ، فأدى ذلك إلى عدم صحة التعبد ، وصار عمله ضائعا وغير مبني على أصل ، وكثيرا ما يشاهد الإنسان ذلك ، فقد يتوهم الإنسان الأمور صعبة ، وليست كذلك إلا بمحض التوهم ; ألا ترى أن المتيمم لخوف لصوص أو سباع ، إذا وجد الماء في الوقت أعاد عند مالك ; لأنه عده مقصرا ; لأن هذا يعتري في أمثاله مصادمة الوهم المجرد الذي لا دليل عليه ، بخلاف ما لو رأى اللصوص أو السباع ، وقد منعته من الماء ; فلا إعادة هنا ، ولا يعد هذا مقصرا ، ولو تتبع الإنسان الوهم لرمى به في مهاو [ ص: 509 ] بعيدة ، ولأبطل عليه أعمالا كثيرة ، وهذا مطرد في العادات والعبادات وسائر التصرفات .
وقد تكون شديدة ، ولكن الإنسان مطلوب بالصبر في ذات الله والعمل على مرضاته ، وفي الصحيح : من يصبر يصبره الله ، وجاء في آية الأنفال في وقوف الواحد للاثنين بعد ما نسخ وقوفه للعشرة والله مع الصابرين [ الأنفال : 66 ] ، قال بعض الصحابة لما نزلت : " نقص من الصبر بمقدار ما نقص من العدد " هذا بمعنى الخبر ، وهو موافق للحديث والآية .
[ ص: 510 ] والسادس : إن مراسم الشريعة مضادة للهوى من كل وجه ; كما تقرر في كتاب المقاصد من هذا الكتاب ، وكثيرا ما تدخل المشقات ، وتتزايد من جهة مخالفة الهوى ، واتباع الهوى ضد اتباع الشريعة ; فالمتبع لهواه يشق عليه كل شيء ، سواء أكان في نفسه شاقا أم لم يكن ; لأنه يصده عن مراده ، ويحول بينه وبين مقصوده ، فإذا كان المكلف قد ألقى هواه ونهى نفسه عنه ، وتوجه إلى العمل بما كلف به خف عليه ، ولا يزال بحكم الاعتياد يداخله حبه ، ويحلو له مره حتى يصير ضده ثقيلا عليه ، بعد ما كان الأمر بخلاف ذلك ، فصارت المشقة وعدمها إضافية تابعة لغرض المكلف ; فرب صعب يسهل لموافقة الغرض ، وسهل يصعب لمخالفته .
فالشاق على الإطلاق في هذا المقام وهو ما لا يطيقه من حيث هو مكلف ; كان مطيقا له بحكم البشرية ، أم لا ، هذا لا كلام فيه ، إنما الكلام في غيره مما هو إضافي ، لا يقال فيه : [ إنه ] مشقة على الإطلاق ، ولا إنه ليس بمشقة على الإطلاق ، وإذا كان دائرا بين الأمرين ، وأصل العزيمة حقيقي ثابت ; فالرجوع إلى أصل العزيمة حق ، والرجوع إلى الرخصة ينظر فيه بحسب كل شخص ، وبحسب كل عارض ; فإذا لم يكن في ذلك بيان قطعي ، وكان أعلى ذلك الظن الذي لا يخلو عن معارض ; كان الوجه الرجوع إلى الأصل ، [ ص: 511 ] حتى يثبت أن المشقة المعتبرة في حق هذا الشخص حق ، ولا تكون حقا على الإطلاق ; حتى تكون بحيث لا يستطيعها ، فتلحق حينئذ بالقسم الأول الذي لا كلام فيه ، هذا إذا لم يأت دليل من خارج يدل على اعتبار الرخصة والتخفيف مطلقا ; كفطره عليه [ الصلاة و ] السلام في السفر حين أبى الناس من الفطر ، وقد شق الصوم عليهم ; فهذا ونحوه أمر آخر إلى ما تقدم من الأقسام ، وإنما الكلام في غيره .
فثبت أن الوقوف مع العزائم أولى ، والأخذ بها في محال الترخص أحرى .
فإن قيل : فهل الوقوف مع أصل العزيمة من قبيل الواجب أو المندوب على الإطلاق أم ثم انقسام ؟
فالجواب : إن ذلك يتبين بتفصيل أحوال المشقات ، وهي :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (38)
صـ512 إلى صـ 518
المسألة السابعة
فالمشقات التي هي مظان التخفيفات في نظر الناظر على ضربين :
أحدهما : أن تكون حقيقية ، وهو معظم ما وقع فيه الترخص كوجود المشقة المرضية والسفرية ، وشبه ذلك مما له سبب معين واقع .
والثاني : أن تكون توهمية مجردة ، بحيث لم يوجد السبب المرخص [ ص: 512 ] لأجله ، ولا وجدت حكمته ، وهي المشقة ، وإن وجد منها شيء ، لكن غير خارج عن مجاري العادات .
فأما الضرب الأول ; فإما أن يكون بقاؤه على العزيمة يدخل عليه فسادا لا يطيقه طبعا أو شرعا ، ويكون ذلك محققا لا مظنونا ولا متوهما أو لا ; فإن كان الأول ; فرجوعه إلى الرخصة مطلوب ، ورجع إلى القسم الذي لم يقع الكلام فيه ; لأن الرخصة هنا حق لله ، وإن كان الثاني ـ وهو أن يكون مظنونا ـ ; فالظنون تختلف ، والأصل البقاء على أصل العزيمة ، ومتى قوي الظن ضعف مقتضى العزيمة ، ومتى ضعف الظن قوي ; كالظان أنه غير قادر على الصوم مع وجود المرض الذي مثله يفطر فيه ، ولكن إما أن يكون ذلك الظن مستندا إلى سبب معين ، وهو أنه دخل في الصوم مثلا فلم يطق الإتمام أو الصلاة مثلا فلم يقدر على القيام فقعد فهذا هو الأول ; إذ ليس عليه ما لا يقدر عليه ، وإما [ ص: 513 ] أن يكون مستندا إلى سبب مأخوذ من الكثرة ، والسبب موجود عينا بمعنى أن المرض حاضر ، ومثله لا يقدر معه على الصيام ، ولا على الصلاة قائما أو على استعمال الماء عادة من غير أن يجرب نفسه في شيء من ذلك ، فهذا قد يلحق بما قبله ، ولا يقوى قوته ، أما لحوقه به فمن جهة وجود السبب ، وأما مفارقته له فمن جهة أن عدم القدرة لم يوجد عنده ; لأنه إنما يظهر عند التلبس بالعبادة ، وهو لم يتلبس بها على الوجه المطلوب في العزيمة حتى يتبين له قدرته عليها وعدم قدرته ; فيكون الأولى هنا الأخذ بالعزيمة إلى أن يظهر بعد ما يبتنى عليه .
وأما الضرب الثاني ، وهو أن تكون توهمية ، بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة ، فلا يخلو أن يكون للسبب عادة مطردة في أنه يوجد بعد أو لا ، فإن كان الأول ; فلا يخلو أن يوجد أو لا ; فإن وجد فوقعت الرخصة موقعها ففيه خلاف ، أعني في إجزاء العمل بالرخصة لا في جواز الإقدام ابتداء ; إذ لا يصح أن يبنى حكم على سبب لم يوجد بعد ، بل لا يصح البناء على سبب لم يوجد شرطه ، وإن وجد السبب ، وهو المقتضي للحكم ; فكيف إذا لم يوجد نفس السبب ، وإنما الكلام في نحو الظان أنه تأتيه الحمى غدا بناء على عادته في أدوارها فيفطر قبل مجيئها ، وكذلك الطاهر إذا بنت على الفطر ظنا أن حيضتها ستأتي ذلك اليوم ، وهذا كله أمر ضعيف جدا ، وقد استدل بعض العلماء على [ ص: 514 ] صحة هذا الاعتبار في إسقاط الكفارة عنها بقوله تعالى : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ الأنفال : 68 ] .
فإن هذا إسقاط للعقوبة للعلم بأن الغنائم ستباح لهم ، وهذا غير ما نحن فيه ; لأن كلامنا فيما يترتب على المكلف من الأحكام الشرعية ، وترتب العذاب هنا ليس براجع إلى ترتب شرعي ، بل هو أمر إلهي كسائر العقوبات اللاحقة للإنسان من الله تعالى بسبب ذنوبه من قوله تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [ الشورى : 30 ] .
وأما إن لم يكن للسبب عادة مطردة فلا إشكال هنا .
والحاصل من هذا التقسيم أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى قسم التوهمات ، وهي مختلفة ، وكذلك أهواء النفوس ; فإنها تقدر أشياء لا حقيقة لها ، فالصواب الوقوف مع أصل العزيمة إلا في المشقة المخلة الفادحة ; فإن الصبر أولى ما لم يؤد ذلك إلى دخل في عقل الإنسان أو دينه ، وحقيقة ذلك أن لا يقدر على الصبر ; لأنه لا يؤمر بالصبر إلا من يطيقه ، فأنت ترى بالاستقراء أن المشقة الفادحة لا يلحق بها توهمها ، بل حكمها أضعف ، بناء على أن التوهم غير صادق في كثير من الأحوال ، فإذا ليست المشقة بحقيقية ، والمشقة الحقيقية هي العلة الموضوعة للرخصة ، فإذا لم توجد كان الحكم غير لازم إلا إذا قامت المظنة ـ وهي السبب ـ مقام الحكمة ; فحينئذ يكون [ ص: 515 ] السبب منتهضا على الجواز لا على اللزوم ; لأن المظنة لا تستلزم الحكمة التي هي العلة على كمالها ، فالأحرى البقاء مع الأصل ، وأيضا ; فالمشقة التوهمية راجعة إلى الاحتياط على المشقة الحقيقية ، والحقيقية ليست في الوقوع على وزان واحد ، فلم يكن بناء الحكم عليها متمكنا .
وأما الراجعة إلى أهواء النفوس خصوصا ; فإنها ضد الأولى ; إذ قد تقرر أن قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن أهوائها وعوائدها ، فلا تعتبر في شرعية الرخصة بالنسبة إلى كل من هويت نفسه أمرا ، ألا ترى كيف ذم الله تعالى من اعتذر بما يتعلق بأهواء النفوس ليترخص ؟ كقوله تعالى : ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني الآية [ التوبة : 49 ] ; لأن الجد بن قيس قال : ائذن لي في التخلف عن الغزو ، ولا تفتني ببنات الأصفر ; فإني لا أقدر على الصبر عنهن ، وقوله تعالى : وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا الآية [ التوبة : 81 ] ، ثم بين العذر الصحيح في قوله تعالى : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله الآيات [ التوبة : 91 ] ; فبين أهل الأعذار هنا وهم الذين لا يطيقون الجهاد ، وهم الزمنى ، والصبيان ، والشيوخ ، والمجانين ، والعميان ، ونحوهم ، وكذلك من لم يجد نفقة أصلا ، ولا وجد من يحمله ، وقال فيه : إذا نصحوا لله ورسوله ، ومن جملة النصيحة لله ورسوله أن لا يبقوا من أنفسهم بقية في طاعة الله ، ألا ترى إلى قوله تعالى : انفروا خفافا وثقالا [ التوبة : 41 ] ، وقال : إلا تنفروا يعذبكم الآية [ التوبة : 39 ] ; فما ظنك بمن كان [ ص: 516 ] عذره هوى نفسه ؟ !
نعم ، وضع الشريعة على أن تكون أهواء النفوس تابعة لمقصود الشارع فيها ، وقد وسع الله تعالى على العباد في شهواتهم ، وأحوالهم ، وتنعماتهم على وجه لا يفضي إلى مفسدة ، ولا يحصل بها المكلف على مشقة ، ولا ينقطع بها عنه التمتع إذا أخذه على الوجه المحدود له ; فلذلك شرع له ابتداء رخصة السلم ، والقراض ، والمساقاة ، وغير ذلك مما هو توسعة عليه ، وإن كان فيه مانع في قاعدة أخرى ، وأحل له من متاع الدنيا أشياء كثيرة ، فمتى جمحت نفسه إلى هوى قد جعل الشرع له منه مخرجا ، وإليه سبيلا ، فلم يأته من بابه ; كان هذا هوى شيطانيا واجبا عليه الانفكاك عنه ; كالمولع بمعصية من المعاصي فلا رخصة له ألبتة ; لأن الرخصة هنا هي عين مخالفة الشرع بخلاف الرخص المتقدمة ; فإن لها في الشرع موافقة إذا وزنت بميزانها .
فقد تبين من هذا أن مشقة مخالفة الهوى لا رخصة فيها ألبتة ، والمشقة الحقيقية فيها الرخصة بشرطها ، وإذا لم يوجد شرطها ، فالأحرى بمن يريد براءة ذمته وخلاص نفسه الرجوع إلى أصل العزيمة ، إلا أن هذه الأحروية تارة تكون من باب الندب ، وتارة تكون من باب الوجوب ، والله أعلم .
[ ص: 517 ] فصل
ومن الفوائد في هذه الطريقة الاحتياط في اجتناب الرخص في القسم المتكلم فيه ، والحذر من الدخول فيه ; فإنه موضع التباس ، وفيه تنشأ خدع الشيطان ومحاولات النفس ، والذهاب في اتباع الهوى على غير مهيع ، ولأجل هذا أوصى شيوخ الصوفية تلامذتهم بترك اتباع الرخص جملة ، وجعلوا من أصولهم الأخذ بعزائم العلم ، وهو أصل صحيح مليح ، مما أظهروا من فوائدهم ـ رحمهم الله ـ ، وإنما يرتكب من الرخص ما كان مقطوعا به أو صار شرعا مطلوبا كالتعبدات أو كان ابتدائيا كالمساقاة ، والقرض ; لأنه حاجي ، وما سوى ذلك ; فاللجأ إلى العزيمة .
- ومنها : أن يفهم معنى الأدلة في رفع الحرج على مراتبها ; فقوله عليه الصلاة والسلام : إن الله يحب أن تؤتى رخصه فالرخص التي هي محبوبة ما ثبت الطلب فيها ; فإنا إذا حملناها على المشقة الفادحة التي قال في مثلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ : ليس من البر الصيام في السفر ، كان موافقا لقوله [ ص: 518 ] تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .
وقوله تعالى : يريد الله أن يخفف عنكم [ النساء : 28 ] .
بعد ما قال في الأولى : وأن تصوموا خير لكم [ البقرة : 184 ] .
وفي الثانية : وأن تصبروا خير لكم [ النساء : 25 ] .
فليتفطن الناظر في الشريعة إلى هذه الدقائق ; ليكون على بينة في المجاري الشرعيات ، ومن تتبع الأدلة الشرعية في هذا المقام تبين له ما ذكر أتم بيان ، وبالله التوفيق ، هذا تقرير وجه النظر في هذا الطرف .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (39)
صـ519 إلى صـ 530
فصل
وقد يقال : إن الأخذ بالعزيمة ليس بأولى من أوجه : أحدها : إن أصل العزيمة ، وإن كان قطعيا ; فأصل الترخص قطعي [ ص: 519 ] أيضا ; فإذا وجدنا المظنة اعتبرناها كانت قطعية أو ظنية ; فإن الشارع قد أجرى الظن في ترتب الأحكام مجرى القطع ، فمتى ظن وجود سبب الحكم استحق السبب للاعتبار ، فقد قام الدليل القطعي على أن الدلائل الظنية تجري في فروع الشريعة مجرى الدلائل القطعية .
ولا يقال : إن القاطع إذا عارض الظن سقط اعتبار الظن ; لأنا نقول : إنما ذلك في باب تعارض الأدلة بحيث يكون أحدهما رافعا لحكم الآخر جملة ، أما إذا كانا جاريين مجرى العام مع الخاص أو المطلق مع المقيد فلا ، ومسألتنا من هذا الثاني لا من الأول ; لأن العزائم واقعة على المكلف بشرط أن لا حرج ، فإن كان الحرج صح اعتباره ، واقتضى العمل بالرخصة .
وأيضا ; فإن غلبة الظن قد تنسخ حكم القطع السابق ، كما إذا كان الأصل التحريم في الشيء ، ثم طرأ سبب محلل ظني ، فإذا غلب على ظن الصائد أن موت الصيد بسبب ضرب الصائد ، وإن أمكن أن يكون بغيره أو يعين على موته غيره ; فالعمل على مقتضى الظن صحيح ، وإنما كان هذا ; لأن الأصل وإن كان قطعيا ، فاستصحابه مع هذا المعارض الظني لا يمكن ; إذ لا يصح بقاء القطع بالتحريم مع ، وجود الظن هنا ، بل مع الشك ; فكذلك ما نحن فيه ، وحقيقة الأمر أن غلبة الظن لا تبقي للقطع المتقدم حكما ، وغلبات الظنون معتبرة فلتكن معتبرة في الترخص .
والثاني : إن أصل الرخصة وإن كان جزئيا بالإضافة إلى عزيمتها ; [ ص: 520 ] فذلك غير مؤثر ، وإلا لزم أن تقدح فيما أمر به بالترخص ، بل الجزئي إذا كان مستثنى من كلي ، فهو معتبر في نفسه ; لأنه من باب التخصيص للعموم أو من باب التقييد للإطلاق ، وقد مر في الأصول الفقهية صحة تخصيص القطعي بالظني ; فهذا أولى ، وأيضا ;إذا كان الحكم الرجوع إلى التخصيص وهو بظني ، دون أصل العموم وهو قطعي ; فكذلك هنا ، وكما لا ينخرم الكلي بانخرام بعض جزئياته كما هو مقرر في موضعه من هذا الكتاب ، فكذلك هنا ، وإلا لزم أن ينخرم بالرخص المأمور بها ، وذلك فاسد ; فكذلك ما أدى إليه .
والثالث : إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع كقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .
وسائر ما يدل على هذا المعنى ; كقوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 28 ] .
ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له [ الأحزاب : 38 ] .
[ ص: 521 ] ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ الأعراف : 157 ] .
وقد سمي هذا الدين " الحنيفية السمحة " لما فيها من التسهيل والتيسير ، وأيضا ; قد تقدم في المسائل قبل هذا أدلة إباحة الرخص ، وكلها وأمثالها جارية هنا ، والتخصيص ببعض الرخص دون بعض تحكم من غير دليل .
ولا يقال : إن المشقة إذا كانت قطعية فهي المعتبرة دون الظنية .
فإن القطع مع الظن مستويان في الحكم ، وإنما يقع الفرق في التعارض ، ولا تعارض في اعتبارهما معا هاهنا ، وإذ ذاك لا يكون الأخذ بالعزيمة دون الرخصة أولى ، بل قد يقال : الأولى الأخذ بالرخصة لأنها تضمنت حق الله وحق العبد معا ; فإن العبادة المأمور بها واقعة ، لكن على مقتضى الرخصة لا أنها ساقطة رأسا ، بخلاف العزيمة ; فإنها تضمنت حق الله مجردا ، والله تعالى غني عن العالمين ، وإنما العبادة راجعة إلى حظ العبد في الدنيا والآخرة ، فالرخصة أحرى لاجتماع الأمرين فيها .
والرابع : إن مقصود الشارع من مشروعية الرخصة الرفق بالمكلف عن تحمل المشاق ، فالأخذ بها مطلقا موافقة لقصده بخلاف الطرف الآخر ; فإنه [ ص: 522 ] مظنة التشديد ، والتكلف والتعمق المنهي عنه في الآيات [ والأحاديث ] ; كقوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ] .
وقوله : ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .
وفي التزام المشاق تكليف وعسر ، وفيها روي عن ابن عباس في قصة بقرة بني إسرائيل : " لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم " ، وفي الحديث : هلك المتنطعون .
ونهى - صلى الله عليه وسلم ـ عن التبتل ، وقال : من رغب عن سنتي فليس مني بسبب من عزم على صيام النهار ، وقيام الليل ، واعتزال النساء إلى أنواع الشدة التي كانت في الأمم ، فخففها الله عليهم بقوله : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ الأعراف : 157 ] .
[ ص: 523 ] وقد ترخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ بأنواع من الترخص خاليا وبمرأى من الناس كالقصر ، والفطر في السفر ، والصلاة جالسا حين جحش شقه ، وكان ـ حين بدن ـ يصلي بالليل في بيته قاعدا حتى إذا أراد أن يركع ; قام فقرأ شيئا ثم ركع ، وجرى أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ذلك المجرى من غير عتب ولا لوم ، [ ص: 524 ] كما قال : " ولا يعيب بعضنا على بعض " ، والأدلة في هذا المعنى كثيرة .
والخامس : أن ترك الترخص مع ظن سببه قد يؤدي إلى الانقطاع عن الاستباق إلى الخير ، والسآمة والملل ، والتنفير عن الدخول في العبادة ، وكراهية العمل ، وترك الدوام ، وذلك مدلول عليه في الشريعة بأدلة كثيرة ; فإن الإنسان إذا توهم التشديد أو طلب [ به ] أو قيل له فيه كره ذلك ومله ، وربما عجز عنه في بعض الأوقات ; فإنه قد يصبر أحيانا وفي بعض الأحوال ، ولا يصبر في بعض ، والتكليف دائم ، فإذا لم ينفتح له من باب الترخص إلا ما يرجع إلى مسألة تكليف ما لا يطاق ، وسد عنه ما سوى ذلك ; عد الشريعة شاقة ، وربما ساء ظنه بما تدل عليه دلائل رفع الحرج أو انقطع أو عرض له بعض ما يكره شرعا ، وقد قال تعالى واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] .
وقال : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا [ المائدة : 87 ] .
قيل : إنها نزلت بسبب تحريم ما أحل الله تشديدا على النفس فسمي [ ص: 525 ] اعتداء لذلك .
وفي الحديث : خذوا من العمل ما تطيقون ; فإن الله لن يمل حتى [ ص: 526 ] تملوا ، وما خير عليه [ الصلاة و ] السلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما الحديث .
ونهى عن الوصال ، فلما لم ينتهوا ; واصل بهم يوما ثم يوما ، ثم رأوا الهلال ، فقال : لو تأخر الشهر لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا ، [ ص: 527 ] وقال : لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ، وقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص حين كبر : يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ ، وفي الحديث : هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل ; فقال عليه الصلاة والسلام : لا تنام الليل ؟ خذوا من العمل ما تطيقون الحديث ; [ ص: 528 ] فأنكر فعلها كما ترى .
وحديث إمامة معاذ حين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم ـ أفتان أنت يا معاذ ، وقال رجل : والله يا رسول الله ; إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان ، مما يطيل بنا . قال : فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ في موعظة أشد غضبا منه يومئذ ، ثم قال : إن منكم منفرين الحديث .
وحديث الحبل المربوط بين ساريتين ، سأل عنه عليه [ الصلاة و ] السلام قالوا : حبل لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت ; أمسكت به ، فقال : حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا كسل أو فتر ; قعد .
[ ص: 529 ] وأشباه هذا كثير ; فترك الرخصة من هذا القبيل ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : ليس من البر الصيام في السفر فإذا كان كذلك ; ثبت أن الأخذ بالرخصة أولى ، وإن سلم أنه ليس بأولى فالعزيمة ليست بأولى .
والسادس : إن مراسم الشريعة إن كانت مخالفة للهوى كما تبين في موضعه من هذا الكتاب ; فإنها أيضا إنما أتت لمصالح العباد في دنياهم ودينهم ، والهوى ليس بمذموم إلا إذا كان مخالفا لمراسم الشريعة ، وليس كلامنا فيه ، فإن كان موافقا فليس بمذموم ، ومسألتنا من هذا ; فإنه إذا نصب لنا الشرع سببا لرخصة ، وغلب على الظن ذلك فأعملنا مقتضاه وعملنا بالرخصة ، فأين اتباع الهوى في هذا ؟ وكما أن اتباع الرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي ، كذلك اتباع التشديدات وترك الأخذ بالرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي ، وليس أحدهما بأولى من الآخر ، والمتبع للأسباب المشروعة في الرخص والعزائم سواء ، فإن كانت غلبة الظن في العزائم [ ص: 530 ] معتبرة ; كذلك في الرخص ، وليس أحدهما أحرى من الآخر ، ومن فرق بينهما فقد خالف الإجماع ، هذا تقرير هذا الطرف .
فصل
وينبني عليه أن الأولوية في ترك الترخص إذا تعين سببه بغلبة ظن أو قطع ، وقد يكون الترخص أولى في بعض المواضع ، وقد يستويان ، وأما إذا لم يكن ثم غلبة ظن فلا إشكال في منع الترخص .
[ وأيضا ] ; فتكون الأدلة الدالة على الأخذ بالتخفيف محمولة على عمومها وإطلاقها من غير تخصيص ببعض الموارد دون بعض ، ومجال النظر بين الفريقين أن صاحب الطريق الأول إنما جعل المعتبر العلة التي هي المشقة من غير اعتبار بالسبب الذي هو المظنة ، وصاحب الطريق الثاني إنما جعل المعتبر المظنة التي هي السبب كالسفر والمرض ، فعلى هذا إذا كانت العلة غير منضبطة ، ولم يوجد لها مظنة منضبطة فالمحل محل اشتباه ، وكثيرا ما يرجع هنا إلى أصل الاحتياط ; فإنه ثابت معتبر حسبما هو مبين في موضعه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (39)
صـ531 إلى صـ 538
فصل
فإن قيل : الحاصل مما تقدم إيراد أدلة متعارضة ، وذلك وضع إشكال في المسألة ; فهل له مخلص أم لا ؟ قيل : نعم من وجهين :
أحدهما : أن يوكل ذلك إلى نظر المجتهد ; فإنما أورد هنا استدلال كل فريق من غير أن يقع بين الطرفين ترجيح فيبقى موقوفا على المجتهد حتى يترجح له أحدهما مطلقا أو يترجح له أحدهما في بعض المواضع ، والآخر في بعض المواضع ، أو بحسب الأحوال .
والثاني : أن يجمع بين هذا الكلام ، وما ذكر في كتاب " المقاصد " في تقرير أنواع المشاق وأحكامها ; فإنه إذا تؤمل الموضعان ظهر فيما بينهما وجه الصواب إن شاء الله ، وبالله التوفيق .
المسألة الثامنة
كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجا ، فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء ; كما جاء في الرخص شرعية المخرج من المشاق ، فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك على الوجه الذي شرع له ; كان ممتثلا لأمر الشارع آخذا بالحزم في أمره ، وإن لم يفعل ذلك ; وقع في [ ص: 532 ] محظورين : أحدهما : مخالفته لقصد الشارع ، كانت تلك المخالفة في واجب أو مندوب أو مباح .
والثاني : سد أبواب التيسير عليه ، وفقد المخرج عن ذلك الأمر الشاق ، الذي طلب الخروج عنه بما لم يشرع له ، وبيان ذلك من أوجه : أحدها : إن الشارع لما تقرر أنه جاء بالشريعة لمصالح العباد ، وكانت الأمور المشروعة ابتداء قد يعوق عنها عوائق من الأمراض والمشاق الخارجة عن المعتاد ، شرع له أيضا توابع وتكميلات ومخارج بها ينزاح عن المكلف تلك المشقات حتى يصير التكليف بالنسبة إليه عاديا ومتيسرا ، ولولا أنها كذلك ; لم يكن في شرعها زيادة على الأمور الابتدائية ، ومن نظر في التكليفات أدرك هذا بأيسر تأمل ، فإذا كان كذلك ; فالمكلف في طلب التخفيف مأمور أن يطلبه من وجهه المشروع ; لأن ما يطلب من التخفيف حاصل فيه حالا ومآلا على القطع في الجملة ; فلو طلب ذلك من غير هذا الطريق ; لم يكن ما طلب من التخفيف مقطوعا به ولا مظنونا لا حالا ولا مآلا لا على الجملة ولا على التفصيل ; إذ لو كان كذلك ; لكان مشروعا أيضا ، والفرض أنه ليس بمشروع ; فثبت أن طالب التخفيف من غير طريق الشرع لا مخرج له .
والثاني : إن هذا الطالب إذا طلب التخفيف من الوجه المشروع ; فيكفيه في حصول التخفيف طلبه من وجهه ، والقصد إلى ذلك يمن وبركة كما أن من طلبه من غير وجهه المشروع يكفيه في عدم حصول مقصوده شؤم قصده ، ويدل على هذا من الكتاب قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق : 2 - 3 ] ، ومفهوم الشرط أن من لا يتقي الله لا يجعل له مخرجا .
[ ص: 533 ] خرج إسماعيل القاضي عن سالم بن أبي الجعد ; قال جاء رجل من أشجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم ـ فذكر الجهد فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اذهب فاصبر ، وكان ابنه أسيرا في أيدي المشركين فأفلت من أيديهم فأتاه بغنيمة فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم ـ طيبة فنزلت الآية ، ومن يتق الله الآية [ الطلاق : 2 ] .
وعن ابن عباس ; أنه جاءه رجل فقال له : إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال : " إن عمك عصى الله ; فأندمه ، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا " فقال : أرأيت إن أحلها له رجل فقال : " من يخادع يخدعه الله " .
وعن الربيع بن خثيم في قوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا [ الطلاق : 2 ] ، قال : " من كل شيء ضاق على الناس " .
[ ص: 534 ] وعن ابن عباس : من يتق الله ; ينجه من كل كرب في الدنيا والآخرة . وقيل : من يتق الله والمعصية يجعل له مخرجا إلى الحلال .
وخرج الطحاوي عن أبي موسى ; قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل أعطى ماله سفيها ، وقد قال الله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم [ النساء : 5 ] ، ورجل داين بدين ولم يشهد ، ورجل له امرأة سيئة الخلق فلا يطلقها ، ومعنى هذا أن الله لما أمر بالإشهاد على البيع ، وأن [ ص: 535 ] لا نؤتي السفهاء أموالنا حفظا لها ، وعلمنا أن الطلاق شرع عند الحاجة إليه ; كان التارك لما أرشده الله إليه قد يقع فيما يكره ، ولم يجب دعاؤه لأنه لم يأت الأمر من بابه .
والآثار في هذا كثيرة تدل بظواهرها ومفهوماتها على هذا المعنى ، وقد روي عن ابن عباس ; أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا ; فتلا : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن حتى بلغ : يجعل له مخرجا [ الطلاق : 1 - 2 ] ، وأنت لم تتق الله ، لم أجد لك مخرجا .
وخرج مالك في البلاغات في هذا المعنى أن رجلا أتى إلى عبد الله بن مسعود ; فقال : إني طلقت امرأتي ثمان تطليقات . فقال ابن مسعود : فماذا قيل لك ؟ قال : قيل لي إنها قد بانت مني . فقال ابن مسعود : صدقوا ، من طلق كما أمره الله ; فقد بين الله له ، ومن لبس على نفسه لبسا جعلنا لبسه به ، لا تلبسوا على أنفسكم ، ونتحمله عنكم ، هو كما تقولون .
[ ص: 536 ] وتأمل حكاية أبي يزيد البسطامي حين أراد أن يدعو الله أن يرفع عنه شهوة النساء ، ثم تذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ لم يفعل ذلك فأمسك عنه ; فرفع عنه ذلك حتى كان لا يفرق بين المرأة والحجر .
والثالث : أن طالب المخرج من وجهه طالب لما ضمن له الشارع النجح فيه ، وطالبه من غير وجهه قاصد لتعدي طريق المخرج ; فكان قاصدا لضد ما طلب من حيث صد عن سبيله ، ولا يتأتى من قبل ضد المقصود إلا ضد المقصود ; فهو إذا طالب لعدم المخرج ، وهذا مقتضى ما دلت عليه الآيات المذكور فيها الاستهزاء والمكر والخداع ; كقوله : ومكروا ومكر الله [ آل عمران : 54 ] .
[ ص: 537 ] وقوله : الله يستهزئ بهم [ البقرة : 15 ] .
وقوله : يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون [ البقرة : 9 ] .
ومنه قوله تعالى : ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه [ الطلاق : 1 ] .
وقوله : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما [ الفتح : 10 ] .
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ فصلت : 46 ] .
إلى سوى ذلك مما في هذا المعنى ، وجميعه محقق كما تقدم ، من أن المتعدي على طريق المصلحة المشروع ساع في ضد تلك المصلحة ، وهو المطلوب .
والرابع : إن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها ، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه ، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له ، فقد يكون ساعيا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها أو يوصله إليها عاجلا لا آجلا أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة أو يكون فيها مفسدة تربي في الموازنة على المصلحة ; فلا يقوم خيرها بشرها ، وكم من مدبر أمرا لا يتم له على كماله أصلا ، ولا يجني منه ثمرة أصلا ، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء ، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، فإذا كان كذلك ; [ ص: 538 ] فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة ، والتخفيف على الكمال بخلاف الرجوع إلى ما خالفه ، وهذه المسألة بالجملة فرع من فروع موافقة قصد الشارع أو مخالفته ، ولكن سيق لتعلقه بالموضع في طلب الترخص من وجه لم يؤذن فيه أو طلبه في غير موضعه ; فإن من الأحكام الثابتة عزيمة ما لا تخفيف فيه ولا ترخيص ، وقد تقدم منه في أثناء الكتاب في هذا النوع مسائل كثيرة ، ومنها ما فيه ترخيص ، وكل موضع له ترخيص يختص به لا يتعدى .
وأيضا ; فمن الأحوال اللاحقة للعبد ما يعده مشقة ، ولا يكون في الشرع كذلك ; فربما ترخص بغير سبب شرعي ، ولهذا الأصل فوائد كثيرة في الفقهيات كقاعدة المعاملة بنقيض المقصود ، وغيرها من مسائل الحيل ، وما كان نحوها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (41)
صـ539 إلى صـ 550
المسألة التاسعة
أسباب الرخص ليست بمقصودة التحصيل للشارع ، ومقصوده الرفع ; لأن تلك الأسباب راجعة إلى منع انحتام العزائم التحريمية أو الوجوبية ، فهي : إما موانع للتحريم أو التأثيم ، وإما أسباب لرفع الجناح أو إباحة ما ليس بمباح ، فعلى كل تقدير إنما هي موانع لترتب أحكام العزائم مطلقا ، وقد تبين في الموانع أنها غير مقصودة الحصول ولا الزوال للشارع ، وأن من قصد إيقاعها رفعا لحكم السبب المحرم أو الموجب ; ففعله غير صحيح ، ويجري فيه [ ص: 539 ] التفصيل المذكور في الشروط ; فكذلك الحكم بالنسبة إلى أسباب الرخص ، من غير فرق .
المسألة العاشرة
إذا فرعنا على أن الرخصة مباحة بمعنى التخيير بينها وبين العزيمة ، صارت العزيمة معها من الواجب المخير ; إذ صار هذا المترخص يقال له : إن شئت فافعل العزيمة ، وإن شئت فاعمل بمقتضى الرخصة ، وما عمل منهما فهو الذي واقع واجبا في حقه ، على وزان خصال الكفارة ; فتخرج العزيمة في حقه عن أن تكون عزيمة .
وأما إذا فرعنا على أن الإباحة فيها بمعنى رفع الحرج ، فليست الرخصة معها من ذلك الباب ; لأن رفع الحرج لا يستلزم التخيير ; ألا ترى أن رفع الحرج موجود مع الواجب ، وإذا كان كذلك ; تبينا أن العزيمة على أصلها من الوجوب المعين المقصود للشارع ، فإذا فعل العزيمة لم يكن بينه وبين من لا عذر له فرق ، لكن العذر رفع الحرج عن التارك لها إن اختار لنفسه الانتقال إلى الرخصة ، وقد تقرر قبل أن الشارع إن كان قاصدا لوقوع الرخصة ; فذلك بالقصد الثاني ، والمقصود بالقصد الأول هو وقوع العزيمة .
والذي يشبه هذه المسألة الحاكم إذا تعينت له في إنفاذ الحكم بينتان ، إحداهما في نفس الأمر عادلة ، والأخرى غير عادلة ; فإن العزيمة عليه أن يحكم بما أمر به من أهل العدالة في قوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] .
[ ص: 540 ] وقال : ممن ترضون من الشهداء .
فإن حكم بأهل العدالة ; أصاب أصل العزيمة وأجر أجرين ، وإن حكم بالأخرى فلا إثم عليه لعذره بعدم العلم بما في نفس الأمر ، وله أجر في اجتهاده ، وينفذ ذلك الحكم على المتحاكمين كما ينفذ مقتضى الرخصة على المترخصين ، فكما لا يقال في الحاكم : إنه مخير بين الحكم بالعدل ، والحكم بمن ليس بعدل ; كذلك لا يقال هنا : إنه مخير مطلقا بين العزيمة والرخصة .
فإن قيل : كيف يقال إن شرع الرخص بالقصد الثاني ؟ وقد ثبتت قاعدة رفع الحرج مطلقا بالقصد الأول ; كقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .
وجاء بعد تقرير الرخصة : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .
قيل : كما يقال : إن المقصود بالنكاح التناسل وهو القصد الأول ، وما سواه من اتخاذ السكن ونحوه بالقصد الثاني ، مع قوله تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها [ الروم : 21 ] .
وقوله : وجعل منها زوجها ليسكن إليها [ الأعراف : 189 ] .
وأيضا ; فإن رفع الجناح نفسه عن المترخص تسهيل وتيسير عليه ، مع [ ص: 541 ] كون الصوم أياما معدودات ليست بكثيرة ; فهو تيسير أيضا ورفع حرج .
وأيضا ; فإن رفع الحرج مقصود للشارع في الكليات ; فلا تجد كلية شرعية مكلفا بها وفيها حرج كلي أو أكثري ألبتة ، وهو مقتضى قوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .
ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجا ومشقة ; ، ولم يشرع فيه رخصة تعريفا بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليات ; فكذلك نقول في محال الرخص : إنها ليست بكليات ، وإنما هي جزئيات كما تقدم التنبيه عليه في مسألة الأخذ بالعزيمة أو الرخصة .
فإذا العزيمة من حيث كانت كلية هي مقصودة للشارع بالقصد الأول ، والحرج من حيث هو جزئي عارض لتلك الكلية ; إن قصده الشارع بالرخصة ; فمن جهة القصد الثاني ، والله أعلم .
المسألة الحادية عشرة
إذا اعتبرنا العزائم مع الرخص ; وجدنا العزائم مطردة مع العادات الجارية ، والرخص جارية عند انخراق تلك العوائد .
أما الأول ; فظاهر ، فإنا وجدنا الأمر بالصلاة على تمامها في أوقاتها ، [ ص: 542 ] وبالصيام في وقته المحدود له أولا ، وبالطهارة المائية ، على [ حسب ] ما جرت به العادة : من الصحة ، ووجود العقل ، والإقامة في الحضر ، ووجود الماء ، وما أشبه ذلك ، وكذلك سائر العادات والعبادات ; كالأمر بستر العورة مطلقا أو للصلاة ، والنهي عن أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها ، إنما أمر بذلك كله ونهي عنه عند وجود ما يتأتى به امتثال الأمر واجتناب النهي ، ووجود ذلك هو المعتاد على العموم التام أو الأكثر ولا إشكال فيه .
وأما الثاني : فمعلوم أيضا من حيث علم الأول ، فالمرض والسفر وعدم الماء أو الثوب أو المأكول ، مرخص لترك ما أمر بفعله أو فعل ما أمر بتركه ، وقد مر تفصيل ذلك فيما مر من المسائل ، ولمعناه تقرير آخر مذكور في موضعه من كتاب " المقاصد " بحمد الله .
إلا أن انخراق العوائد على ضربين :
عام ، وخاص ; فالعام ما تقدم ، والخاص كانخراق العوائد للأولياء إذا عملوا بمقتضاها ; فذلك إنما يكون في الأكثر على حكم الرخصة ; كانقلاب الماء لبنا ، والرمل سويقا ، والحجر ذهبا ، وإنزال الطعام من السماء أو إخراجه من الأرض ; فيتناول المفعول له ذلك [ ص: 543 ] ويستعمله ; فإن استعماله له رخصة لا عزيمة ، والرخصة كما تقدم لما كان الأخذ بها مشروطا بأن لا يقصدها ولا يتسبب فيها لينال تخفيفها ; كان الأمر فيها كذلك ; إذ كان مخالفة هذا الشرط مخالفة لقصد الشارع ; إذ ليس من شأنه أن يترخص ابتداء ، وإنما قصده في التشريع أن سبب الرخصة إن وقع توجه الإذن في مسببه كما مر ; فهاهنا أولى ; لأن خوارق العادات لم توضع لرفع أحكام العبودية ، وإنما وضعت لأمر آخر ، فكان القصد إلى التخفيف من جهتها قصدا إليها لا إلى ربها ، وهذا مناف لوضع المقاصد في التعبد لله تعالى .
وأيضا ; فقد ذكر في كتاب " المقاصد " أن أحكام الشريعة عامة لا خاصة ، بمعنى أنها عامة في كل مكلف ، لا خاصة ببعض المكلفين دون بعض ، والحمد لله .
ولا يعترض على هذا الشرط بقصد النبي - صلى الله عليه وسلم ـ لإظهار الخارق كرامة ومعجزة ; لأنه عليه الصلاة والسلام إنما قصد بذلك معنى شرعيا مبرأ من طلبه حظ النفس ، وكذلك نقول : إن للولي أن يقصد إظهار الكرامة الخارقة لمعنى شرعي لا لحظ نفسه ، ويكون هذا القسم خارجا عن حكم الرخصة بأن يكون بحسب القصد ، وعلى هذا المعنى ظهرت كرامات الأولياء الراقين عن الأحوال ، حسبما دل عليه الاستقراء ، فأما إذا لم يكن هذا ; فالشرط معتبر بلا إشكال ، وليس بمختص بالعموم ، بل هو في الخصوص أولى .
فإن قيل : الولي إذا انخرقت له العادة فلا فرق بينه وبين صاحب العادة على الجملة ; فإن الذي هيئ له الطعام أو الشراب أو غيره من غير سبب عادي مساو لمن حصل له ذلك بالتكسب العادي ، فكما لا يقال في صاحب التكسب العادي : إنه في التناول مترخص ، كذلك لا يقال في صاحب انخراق العادة ; [ ص: 544 ] إذ لا فرق بينهما ، وهكذا سائر ما يدخل تحت هذا النمط .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : إن الأدلة المنقولة دلت على ترك أمثال هذه الأشياء لا إيجابا ، ولكن على غير ذلك ; فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير بين الملك والعبودية ; فاختار العبودية ، وخير في أن تتبعه جبال تهامة ذهبا وفضة ; فلم يختر ذلك ، وكان [ ص: 545 ] عليه الصلاة والسلام مجاب الدعوة فلو شاء [ له ] لدعا بما يحب فيكون ، فلم يفعل ، بل اختار الحمل على مجاري العادات : يجوع يوما فيتضرع إلى ربه ، ويشبع يوما فيحمده ، ويثني عليه ; حتى يكون في الأحكام البشرية العادية كغيره من البشر ، وكثيرا ما كان عليه الصلاة والسلام يري أصحابه من ذلك في مواطن ما فيه شفاء في تقوية اليقين وكفاية من أزمات الأوقات ، وكان عليه الصلاة والسلام يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه ، ومع ذلك لم يترك التكسب لمعاشه ومعاش أهله ، فإذا كانت الخوارق في حقه متأتية ، والطلبات محضرة له ; حتى قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ ما أرى الله إلا يسارع في هواك ، وكان ـ لما أعطاه الله من شرف المنزلة - متمكنا منها فلم يعول إلا على مجاري العادات في الخلق ، كان ذلك أصلا لأهل الخوارق والكرامات عظيما في أن لا يعملوا على ما اقتضته الخوارق ، ولكن لما لم يكن ذلك حتما على الأنبياء ; لم يكن [ ص: 546 ] حتما على الأولياء ; لأنهم الورثة في هذا النوع .
والثاني : [ إن ] فائدة الخوارق عندهم تقوية اليقين ، ويصحبها الابتلاء الذي هو لازم للتكاليف كلها ، وللمكلفين أجمعين في مراتب التعبد ; فكانت كالمقوي لهم على ما هم عليه ; لأنها آيات من آيات الله تعالى ، برزت على عموم العادات ، حتى يكون لها خصوص في الطمأنينة ; كما قال إبراهيم عليه السلام : رب أرني كيف تحي الموتى الآية [ البقرة : 260 ] ، وكما قال نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما حكى الله تعالى فراق موسى للخضر : يرحم الله أخي موسى ، وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما فإذا كانت هذه [ ص: 547 ] فائدتها ; كان ما ينشأ عنها مما يرجع إلى حظوظ النفس كالصدقة الواردة على المحتاج ; فهو في التناول والاستعمال بحكم الخيرة ; فإن تكسب وطلب حاجته من الوجه المعتاد ; صار كمن ترك التصدق عليه وتكسب فرجع إلى العزيمة العامة ، وإن قبل الصدقة ; فلا ضرر عليه لأنها وقعت موقعها .
وأيضا ; فإن القوم علموا أن الله وضع الأسباب والمسببات ، وأجرى العوائد فيها تكليفا وابتلاء ، وإدخالا للمكلف تحت قهر الحاجة إليها ، كما وضع له العبادات تكليفا وابتلاء أيضا ; فإذا جاءت الخارقة لفائدتها التي وضعت لها كان في ضمنها رفع لمشقة التكليف بالكسب وتخفيف عنه ، فصار قبوله لها من باب قبول الرخص من حيث كانت رفعا لمشقة التكليف [ بالكسب وتخفيفا عنه ] فمن هنا صار حكمها حكم الرخص ومن حيث كانت ابتلاء أيضا فيها شيء آخر ، وهو أن تناول مقتضاها ميل ما إلى جهتها ، ومن شأن أهل العزائم في السلوك عزوب أنفسهم عن غير الله ، كما كانت النعم العادية الاكتسابية ابتلاء أيضا ، وقد تقرر أن جهة التوسعة على الإطلاق إنما أخذوها مآخذ [ ص: 548 ] الرخص كما تبين وجهه ، فهذا من ذلك القبيل ; فتأمل كيف صار قبول مقتضى الخوارق رخصة من وجهين ! فلأجل هذا لم يستندوا إليها ، ولم يعولوا عليها من هذه الجهة ، بل قبلوها واقتبسوا منها ما فيها من الفوائد المعينة لهم على ما هم بسبيله ، وتركوا منها ما سوى ذلك ; إذ كانت مع أنها كرامة وتحفة ; تضمنت تكليفا وابتلاء .
وقد حكى القشيري من هذا المعنى : فروى عن أبي الخير البصري أنه كان بعبادان رجل أسود فقير يأوي إلى الخرابات ; قال : فحملت معي شيئا وطلبته ، فلما وقعت عينه علي تبسم ، وأشار بيده إلى الأرض ، فرأيت الأرض كلها ذهبا تلمع ، ثم قال : هات ما معك ، فناولته ، وهالني أمره وهربت .
وحكي عن النوري أنه خرج ليلة إلى شاطئ دجلة ; فوجدها وقد التزق الشطان ، فانصرف وقال : وعزتك لا أجوزها إلا في زورق .
وعن سعيد بن يحيى البصري ; قال : أتيت عبد الرحمن بن زيد وهو جالس في ظل ، فقلت له : لو سألت الله أن يوسع عليك الرزق لرجوت أن يفعل . فقال : ربي أعلم بمصالح عباده ، ثم أخذ حصى من الأرض ، ثم قال : اللهم إن شئت أن تجعلها ذهبا فعلت ، فإذا هي والله في يده ذهب ، فألقاها إلي [ ص: 549 ] وقال : أنفقها أنت ; فلا خير في الدنيا إلا للآخرة .
بل كان منهم من استعاذ منها ومن طلبها ، والتشوف إليها ، كما يحكى عن أبي يزيد البسطامي ، ومنهم من استوت عنده مع غيرها من العادات من حيث شاهد خروج الجميع من تحت يد المنة ، وواردة من جهة مجرد الإنعام ; فالعادة في نظر هؤلاء خوارق للعادات ; فكيف يتشوف إلى خارقة ، ومن بين يديه ، ومن خلفه ، ومن فوقه ، ومن تحته مثلها ، مع أن ما لديه منها أتم في تحقيق العبودية كما مر في الشواهد ، وعدوا من ركن إليها مستدرجا ، من حيث كانت ابتلاء لا من جهة كونها آية أو نعمة .
حكى القشيري عن أبي العباس الشرفي ; قال : كنا مع أبي تراب النخشبي في طريق مكة ، فعدل عن الطريق إلى ناحية فقال له بعض أصحابنا : أنا عطشان . فضرب برجله الأرض ، فإذا عين ماء زلال ; فقال الفتى : أحب أن أشربه بقدح ، فضرب بيده إلى الأرض فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت فشرب وسقانا ، وما زال القدح معنا إلى مكة ; فقال لي أبو تراب يوما : ما يقول أصحابك في هذه الأمور التي يكرم الله بها عباده ؟ فقلت : ما رأيت أحدا إلا وهو يؤمن بها ، فقال : من لا يؤمن بها فقد كفر ، إنما سألتك من طريق الأحوال ، فقلت : ما أعرف لهم قولا فيه ، فقال : [ ص: 550 ] بل قد زعم أصحابك أنها خدع من الحق ، وليس الأمر كذلك ; إنما الخدع في حال السكون إليها فأما من لم يقترح ذلك ولم يساكنها فتلك مرتبة الربانيين .
وهذا كله يدلك على ما تقدم من كونها في حكم الرخصة ، لا في حكم العزيمة ; فليتفطن لهذا المعنى فيها ; فإنه أصل ينبني عليه فيها مسائل : منها أنها من جملة الأحوال العارضة للقوم ، والأحوال من حيث هي أحوال لا تطلب بالقصد ، ولا تعد من المقامات ، ولا هي معدودة في النهايات ، ولا هي دليل على أن صاحبها بالغ مبلغ التربية والهداية ، والانتصاب للإفادة ، كما أن المغانم في الجهاد لا تعد من مقاصد الجهاد الأصلية ، ولا هي دليل على بلوغ النهاية ، والله أعلم .
الاستدراكات
( استداراك 1 ) : ذكره عنه ابن كثير في " تفسيره " ( 1 \ 212 ، البقرة : 173 ) ، وقال : " وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة ، قال أبو الحسن الطبري المعروف بـ ( ألكيا الهراسي ) رفيق الغزالي في الاشتغال : وهذا هو الصحيح عندنا كالإفطار للمريض ونحو ذلك " . ( استدراك 2 ) : كذا في ( ط ) ، و " الناسخ والمنسوخ " ( 1 \ 171 ) ، لابن العربي ، وفي سائر النسخ : " رجاء الأبدية " . ( استدارك 3 ) : قلت : أخرج سبب النزول المذكور البخاري في " صحيحه " ( كتاب التفسير ، باب ليس عليكم جناح ، 8 \ 186 \ رقم 4519 ) ، وأبو داود في " السنن " ، ( 2 \ 75 ) ، والحاكم في " المستدرك " ( 2 \ 277 ) ، وابن جرير في " التفسير " ، ( 2 \ 273 ) ، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما . ( استدراك 4 ) : عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيدفعون مفاتيحهم إلى ضمنائهم ـ الضمن : الزمن المبتلى ـ ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما أحببتم ، فكانوا يقولون إنه لا يحل لنا أنهم أذنوا عن غير طيب نفس ؛ فأنزل الله ـ عز وجل ـ : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم إلى قوله : أو ما ملكتم مفاتحه ، رواه البزار في " مسنده " ؛ كما في " كشف الستار " ( رقم 2241 ) ، ورجاله رجال الصحيح ؛ كما في " المجمع " ( 7 \ 83 ) ، وقال السيوطي في " لباب النقول : " سنده صحيح " ، وقال ابن حجر في " مختصر زوائد البزار " ( 2 \ 97 \ رقم 1490 ) : " صحيح " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (42)
صـ7 إلى صـ 23
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتاب المقاصد
والمقاصد التي ينظر فيها قسمان :
أحدهما يرجع إلى قصد الشارع .
[ ص: 8 ] والآخر يرجع إلى قصد المكلف .
فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء ، ومن جهة قصده في وضعها للأفهام ، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها ، ومن جهة قصده في دخول المكلف تحت حكمها; فهذه أربعة أنواع .
ولنقدم قبل الشروع في المطلوب .
[ ص: 9 ] مقدمة كلامية مسلمة في هذا الموضع :
وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا ، وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا ، وليس هذا موضع ذلك ، وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام ، وزعم الفخر الرازي : أن [ ص: 10 ] [ ص: 11 ] أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة ، كما أن أفعاله كذلك ، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد ، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين ، ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية; أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة ، [ ص: 12 ] ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة .
والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره ، فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ النساء : 165 ] ، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ الأنبياء : 107 ] .
وقال في أصل الخلقة : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ هود : 7 ] ، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] ، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] .
وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة; فأكثر من أن تحصى كقوله بعد آية الوضوء : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم [ المائدة : 6 ] .
وقال في الصيام : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 183 ] .
وفي الصلاة : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [ العنكبوت : 45 ] .
[ ص: 13 ] وقال في القبلة : فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة [ البقرة : 150 ] .
وفي الجهاد : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا [ الحج : 39 ] .
وفي القصاص : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب [ البقرة : 179 ] .
وفي التقرير على التوحيد : ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين [ الأعراف : 172 ] ، والمقصود التنبيه .
وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة ، ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد; فلنجر على مقتضاه - ويبقى البحث في كون ذلك واجبا أو غير واجب موكولا إلى علمه - ; فنقول والله المستعان :
[ ص: 14 ] [ ص: 15 ] القسم الأول
مقاصد الشارع
[ ص: 16 ] [ ص: 17 ] النوع الأول
في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة وفيه مسائل :
المسألة الأولى
تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق ، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام :
أحدها : أن تكون ضرورية .
والثاني : أن تكون حاجية .
والثالث : أن تكون تحسينية .
فأما الضرورية; فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا ، [ ص: 18 ] بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة ، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم ، والرجوع بالخسران المبين .
والحفظ لها يكون بأمرين :
أحدهما : ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود .
والثاني : ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم .
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود; كالإيمان ، [ ص: 19 ] والنطق بالشهادتين ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، وما أشبه ذلك .
والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا; كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات ، وما أشبه ذلك .
والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود ، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا ، لكن بواسطة العادات .
والجنايات - ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ترجع إلى [ ص: 20 ] حفظ الجميع من جانب العدم .
والعبادات والعادات قد مثلت ، والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره; كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض بالعقد على الرقاب أو المنافع أو الأبضاع ، والجنايات ما كان عائدا على ما تقدم بالإبطال ، فشرع فيها ما يدرأ ذلك الإبطال ، ويتلافى تلك المصالح; كالقصاص ، والديات للنفس ، والحد للعقل ، وتضمين قيم الأموال للنسل ، والقطع والتضمين للمال ، وما أشبه ذلك .
ومجموع الضروريات خمسة ، وهي : حفظ الدين ، والنفس ، والنسل ، والمال ، والعقل ، وقد قالوا : إنها مراعاة في كل ملة .
[ ص: 21 ] وأما الحاجيات; فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تراع دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة ، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة .
وهي جارية في العبادات ، والعادات ، والمعاملات ، والجنايات :
ففي العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض [ ص: 22 ] والسفر ، وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال ، مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا ، وما أشبه ذلك .
وفي المعاملات; كالقراض ، والمساقاة ، والسلم ، وإلقاء التوابع في العقد على المتبوعات ، كثمرة الشجر ، ومال العبد .
وفي الجنايات; كالحكم باللوث ، والتدمية ، والقسامة ، وضرب الدية على العاقلة ، وتضمين الصناع ، وما أشبه ذلك .
وأما التحسينات; فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات ، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق .
وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان :
ففي العبادات; كإزالة النجاسة - وبالجملة الطهارات كلها - ، وستر العورة ، وأخذ الزينة ، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات ، وأشباه ذلك .
[ ص: 23 ] وفي العادات; كآداب الأكل والشرب ، ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات ، والإسراف والإقتار في المتناولات .
وفي المعاملات; كالمنع من بيع النجاسات ، وفضل الماء والكلأ ، وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة ، وسلب المرأة منصب الإمامة ، وإنكاح نفسها ، وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير ، وما أشبهها .
وفي الجنايات; كمنع قتل الحر بالعبد ، أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد .
وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو في معناها فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية ، إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي ، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (42)
صـ24 إلى صـ 43
المسألة الثانية
كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة ، مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية .
فأما الأولى; فنحو التماثل في القصاص; فإنه لا تدعو إليه ضرورة ولا تظهر فيه شدة حاجة ، ولكنه تكميلي ، وكذلك نفقة المثل ، وأجرة المثل ، وقراض المثل ، والمنع من النظر إلى الأجنبية ، وشرب قليل المسكر ، ومنع الربا ، والورع اللاحق في المتشابهات ، وإظهار شعائر الدين ، كصلاة الجماعة في الفرائض والسنن ، وصلاة الجمعة ، والقيام بالرهن والحميل والإشهاد في البيع إذا قلنا : إنه من الضروريات .
[ ص: 25 ] وأما الثانية; فكاعتبار الكفء ، ومهر المثل في الصغيرة ، فإن ذلك كله لا تدعو إليه حاجة مثل الحاجة إلى أصل النكاح في الصغيرة ، وإن قلنا إن البيع من باب الحاجيات; فالإشهاد والرهن والحميل من باب التكملة ، ومن ذلك الجمع بين الصلاتين في السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، وجمع المريض الذي يخاف أن يغلب على عقله; فهذا وأمثاله كالمكمل لهذه المرتبة ، إذ لو لم يشرع لم يخل بأصل التوسعة والتخفيف .
وأما الثالثة; فكآداب الأحداث ، ومندوبات الطهارات ، وترك إبطال الأعمال المدخول فيها وإن كانت غير واجبة ، والإنفاق من طيبات المكاسب ، والاختيار في الضحايا والعقيقة والعتق ، وما أشبه ذلك .
ومن أمثلة هذه المسألة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات ، وكذلك التحسينات كالتكملة للحاجيات; فإن الضروريات هي أصل المصالح حسب ما يأتي تفصيل ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى .
[ ص: 26 ] المسألة الثالثة
كل تكملة فلها - من حيث هي تكملة - شرط ، وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال ، وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها; فلا يصح اشتراطها عند ذلك; لوجهين :
أحدهما : أن في إبطال الأصل إبطال التكملة; لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف ، فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف; لزم من ذلك ارتفاع الصفة أيضا ، فاعتبار هذه التكملة على هذا الوجه مؤد إلى عدم اعتبارها ، وهذا محال لا يتصور ، وإذا لم يتصور ، لم تعتبر التكملة واعتبر الأصل من غير مزيد .
والثاني : أنا لو قدرنا تقديرا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت .
وبيان ذلك أن حفظ المهجة مهم كلي ، وحفظ المروءات مستحسن ، فحرمت النجاسات حفظا للمروءات وإجراء لأهلها على محاسن العادات فإن دعت الضرورة إلى إحياء المهجة بتناول النجس ; كان تناوله أولى .
وكذلك أصل البيع ضروري ، ومنع الغرر والجهالة مكمل ، فلو اشترط نفي الغرر جملة لانحسم باب البيع ، وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية ، [ ص: 27 ] واشتراط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميلات ، ولما كان ذلك ممكنا في بيع الأعيان من غير عسر; منع من بيع المعدوم إلا في السلم ، وذلك في الإجارات ممتنع فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسد باب المعاملة بها ، والإجارة محتاج إليها; فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد ومثله جار في الاطلاع على العورات للمباضعة والمداواة وغيرهما .
وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه ، قال مالك : لو ترك ذلك لكان ضررا على المسلمين ، فالجهاد ضروري ، والوالي فيه ضروري ، والعدالة فيه مكملة للضرورة ، والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر ، ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
[ ص: 28 ] اوكذلك ما جاء من الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء ; فإن في ترك ذلك [ ص: 29 ] ترك سنة الجماعة ، والجماعة من شعائر الدين المطلوبة ، والعدالة مكملة لذلك المطلوب ، ولا يبطل الأصل بالتكملة .
ومنه إتمام الأركان في الصلاة مكمل لضروراتها ، فإذا أدى طلبه إلى أن لا تصلى - كالمريض غير القادر - سقط المكمل ، أو كان في إتمامها حرج ارتفع الحرج عمن لم يكمل ، وصلى على حسب ما أوسعته الرخصة ، وستر العورة من باب محاسن الصلاة ، فلو طلب على الإطلاق; لتعذر أداؤها على من [ ص: 30 ] لم يجد ساترا إلى أشياء من هذا القبيل في الشريعة تفوق الحصر ، كلها جار على هذا الأسلوب .
وانظر فيما قاله الغزالي في الكتاب المستظهري في الإمام الذي لم يستجمع شروط الإمامة ، واحمل عليه نظائره .
[ ص: 31 ] المسألة الرابعة
المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية .
فلو فرض اختلال الضروري بإطلاق لاختلا باختلاله بإطلاق ، ولا يلزم من اختلالهما أو اختلال أحدهما اختلال الضروري بإطلاق ، نعم ، قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما ، وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما ، فلذلك إذا حوفظ على الضروري ، فينبغي المحافظة على الحاجي ، وإذا حوفظ على الحاجي ، فينبغي أن يحافظ على التحسيني إذا ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي ، وأن الحاجي يخدم الضروري; فإن الضروري هو المطلوب .
فهذه مطالب خمسة لا بد من بيانها :
أحدها : أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي .
والثاني : أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق .
والثالث : أنه لا يلزم من اختلال الباقيين بإطلاق اختلال الضروري بإطلاق .
والرابع : أنه قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما .
والخامس : أنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني [ ص: 32 ] للضروري .
بيان الأول : أن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم ، فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها ، حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود - أعني : ما هو خاص بالمكلفين والتكليف - ، وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك .
فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى ولو عدم المكلف لعدم من يتدين ، ولو عدم العقل لارتفع التدين ، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء ، ولو عدم المال لم يبق عيش - وأعني بالمال ما يقع عليه الملك واستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه ، ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها ، وما يؤدي إليها من جميع المتمولات ، فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء ، وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا ، وأنها زاد للآخرة .
وإذا ثبت هذا; فالأمور الحاجية إنما هي حائمة حول هذا الحمى ، إذ هي تتردد على الضروريات ، تكملها بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها المشقات ، وتميل بهم فيها إلى التوسط والاعتدال في الأمور; حتى تكون جارية على وجه لا يميل إلى إفراط ولا تفريط .
وذلك مثل ما تقدم في اشتراط عدم الغرر والجهالة في البيوع ، وكما نقول في رفع الحرج عن المكلف بسبب المرض حتى يجوز له الصلاة قاعدا [ ص: 33 ] ومضطجعا ، ويجوز له ترك الصيام في وقته إلى زمان صحته ، وكذلك ترك المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وسائر ما تقدم في التمثيل وغير ذلك ، فإذا فهم هذا ، لم يرتب العاقل في أن هذه الأمور الحاجية فروع دائرة حول الأمور الضرورية ، وهكذا الحكم في التحسينية; لأنها تكمل ما هو حاجي أو ضروري ، فإذا كملت ما هو ضروري ، فظاهر ، وإذا كملت ما هو حاجي ، فالحاجي مكمل للضروري ، والمكمل للمكمل مكمل; فالتحسينية إذا كالفرع للأصل الضروري ومبني عليه .
بيان الثاني : يظهر مما تقدم ; لأنه إذا ثبت أن الضروري هو الأصل المقصود ، وأن ما سواه مبني عليه كوصف من أوصافه أو كفرع من فروعه; لزم من اختلاله اختلال الباقيين; لأن الأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أولى .
فلو فرضنا ارتفاع أصل البيع من الشريعة; لم يكن اعتبار الجهالة والغرر ، وكذلك لو ارتفع أصل القصاص ، لم يمكن اعتبار المماثلة فيه ، فإن ذلك من أوصاف القصاص ، ومحال أن يثبت الوصف مع انتفاء الموصوف ، وكما إذا سقط عن المغمى عليه ، أو الحائض أصل الصلاة; لم يمكن أن يبقى عليهما حكم القراءة فيها ، أو التكبير ، أو الجماعة ، أو الطهارة الحدثية أو الخبثية ، ولو فرض أن ثم حكما هو ثابت لأمر فارتفع ذلك الأمر ، ثم بقي الحكم مقصودا لذلك الأمر كان هذا فرض محال ، ومن هنا يعرف مثلا أن الصلاة إذا ارتفعت ارتفع ما هو تابع لها ومكمل; من القراءة والتكبير والدعاء وغير ذلك; لأنها من أوصاف الصلاة بالفرض ، فلا يصح أن يقال : إن أصل الصلاة هو المرتفع ، وأوصافها بخلاف ذلك .
[ ص: 34 ] وكذلك نقول إذا كان أصل الصلاة منهيا عنه قصدا ، أو الصيام كذلك ، كالنهي عن الصلاة في طرفي النهار ، والنهي عن الصيام في العيد ، فكل ما تتصف به من مكملاتها مندرج تحت أصل النهي; من حيث نهي عن أصل الصلاة التي لها هيئة اجتماعية في الوقوع; لأن النهي عن العبادة المخصوصة من حيث هي كذلك ، ولا تكون منهيا عنها إلا بمجموع أفعالها وأقوالها; فاندرجت المكملات تحت النهي باندراج الكل .
ولا يقال : إن لهذه الأشياء حقائق في أنفسها لا تكون منهيا عنها بذلك الاعتبار ، فلا يلزم أن تكون منهيا عنها مطلقا ، وإذا لم تكن منهيا عنها على الإطلاق; لم يلزم ارتفاعها بارتفاع ما هي تابعة له ، فلا يلزم من اختلال الأصل اختلال الفرع ، كما أصلت .
وأيضا; فإن الوسائل لها مع مقاصدها هذه النسبة; كالطهارة مع الصلاة ، وقد تثبت الوسائل شرعا مع انتفاء المقاصد ، كجر الموسى في الحج على رأس من لا شعر له ، فالأشياء إذا كان لها حقائق في أنفسها ، فلا يلزم من كونها وضعت مكملة أن ترتفع بارتفاع المكمل .
لأنا نقول : إن القراءة والتكبير وغيرهما لها اعتباران :
اعتبار من حيث هي من أجزاء الصلاة .
واعتبار من حيث أنفسها .
فأما اعتبارها من الوجه الثاني; فليس الكلام فيه وإنما الكلام في اعتبارها من حيث هي أجزاء مكملة للصلاة ، وبذلك الوجه صارت بالوضع كالصفة مع الموصوف ، ومن المحال بقاء الصفة مع انتفاء الموصوف ، إذ الوصف معنى لا يقوم بنفسه عقلا ، فكذلك ما كان في الاعتبار مثله ، فإذا كان كذلك لم يصح القول ببقاء المكمل مع انتفاء المكمل ، وهو المطلوب ، [ ص: 35 ] وكذلك الصوم وأشباهه .
وأما مسألة الوسائل; فأمر آخر ، ولكن إن فرضنا كون الوسيلة كالوصف للمقصود بكونه موضوعا لأجله ، فلا يمكن والحال هذه - أن تبقى الوسيلة مع انتفاء المقصد ، إلا أن يدل دليل على الحكم ببقائها ، فتكون إذ ذاك مقصودة لنفسها ، وإن انجر مع ذلك أن تكون وسيلة إلى مقصود آخر ، فلا امتناع في هذا وعلى ذلك يحمل إمرار الموسى على رأس من لا شعر له .
وبهذه القاعدة يصح القول بإمرار الموسى على رأس من ولد مختونا بناء على أن ثم ما يدل على كون الإمرار مقصودا لنفسه ، وإلا لم يصح ، فالقاعدة صحيحة ، وما اعترض به لا نقض فيه عليها ، والله أعلم بغيبه وأحكم .
بيان الثالث : أن الضروري مع غيره كالموصوف مع أوصافه ، ومن المعلوم [ ص: 36 ] أن الموصوف لا يرتفع بارتفاع بعض أوصافه; فكذلك في مسألتنا لأنه يضاهيه .
مثال ذلك : الصلاة إذا بطل منها الذكر أو القراءة أو التكبير أو غير ذلك مما يعد من أوصافها لأمر لا يبطل أصل الصلاة .
وكذلك إذا ارتفع اعتبار الجهالة والغرر ، لا يبطل أصل البيع; كما في الخشب ، والثوب المحشو ، والجوز ، والقسطل ، والأصول المغيبة في الأرض; كالجزر واللفت ، وأسس الحيطان ، وما أشبه ذلك .
وكذا لو ارتفع اعتبار المماثلة في القصاص; لم يبطل أصل القصاص ، وأقرب الحقائق إليه الصفة مع الموصوف ، فكما أن الصفة لا يلزم من بطلانها بطلان الموصوف بها ، كذلك ما نحن فيه ، اللهم إلا أن تكون الصفة ذاتية ، بحيث صارت جزءا من ماهية الموصوف ، فهي إذ ذاك ركن من أركان الماهية ، وقاعدة من قواعد ذلك الأصل ، وينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده ، كما في الركوع والسجود ونحوهما في الصلاة ، فإن الصلاة تنخرم من أصلها بانخرام شيء منها ، بالنسبة إلى القادر عليها ، هذا لا نظر فيه ، والوصف [ ص: 37 ] الذي شأنه هذا ليس من المحسنات ، ولا من الحاجيات ، بل هو من الضروريات .
لا يقال : إن من أوصاف الصلاة مثلا الكمالية ألا تكون في دار مغصوبة ، وكذلك الذكاة من تمامها ألا تكون بسكين مغصوبة وما أشبهه ، ومع ذلك ، فقد قال جماعة ببطلان أصل الصلاة وأصل الذكاة ، فقد عاد بطلان الوصف بالبطلان على الموصوف; لأنا نقول : من قال بالصحة في الصلاة والذكاة ، فعلى هذا الأصل المقرر بنى ، ومن قال بالبطلان فبنى على اعتبار هذا الوصف كالذاتي ، فكأن الصلاة في نفسها منهي عنها; من حيث كانت أركانها كلها - التي هي أكوان - غصبا; لأنها أكوان حاصلة في الدار المغصوبة ، وتحريم الأصل إنما يرجع إلى تحريم الأكوان; فصارت الصلاة نفسها منهيا عنها ، كالصلاة في طرفي النهار ، والصوم في يوم العيد .
وكذلك الذكاة حين صارت السكين منهيا عن العمل بها; لأن العمل بها غصب ، كان هذا العمل المعين وهو الذكاة منهيا عنه فصار أصل الذكاة منهيا عنه فعاد البطلان إلى الأصل; بسبب بطلان وصف ذاتي بهذا الاعتبار .
[ ص: 38 ] ويتصور هنا النظر في أبحاث هي منشأ الخلاف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ، ولكنها غير قادحة في أصلنا المذكور ، إذ لا يتصور فيه خلاف لأن أصله عقلي ، وإنما يتصور الخلاف في إلحاق الفروع به أو عدم إلحاقها به .
بيان الرابع من أوجه :
أحدها : أن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الاعتبار; فالضروريات آكدها ، ثم تليها الحاجيات والتحسينات ، وكان مرتبطا بعضها ببعض; كان في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه ، ومدخل للإخلال به ، فصار الأخف كأنه حمى للآكد والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، فالمخل بما هو مكمل ، كالمخل بالمكمل من هذا الوجه .
ومثال ذلك الصلاة; فإن لها مكملات ، وهي هنا سوى الأركان والفرائض ، ومعلوم أن المخل بها متطرق للإخلال بالفرائض والأركان; لأن الأخف طريق إلى الأثقل .
ومما يدل على ذلك ما في الحديث من قوله عليه السلام : كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه [ ص: 39 ] وفي الحديث : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده .
وقول من قال : " إني لأجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أخرقها " .
وهو أصل مقطوع به متفق عليه ، ومحل ذكره القسم الثاني من هذا الكتاب .
فالمتجرئ على الأخف بالإخلال به معرض للتجرؤ على ما سواه ، فكذلك المتجرئ على الإخلال بها يتجرأ على الضروريات; فإذا قد يكون في [ ص: 40 ] إبطال الكمالات بإطلاق إبطال الضروريات بوجه ما .
ومعنى ذلك أن يكون تاركا للمكملات ومخلا بها بإطلاق ، بحيث لا يأتي بشيء منها ، وإن أتى بشيء منها كان نزرا ، أو يأتي بجملة منها إن تعددت; إلا أن الأكثر هو المتروك والمخل به ، ولذلك لو اقتصر المصلي على ما هو فرض في الصلاة لم يكن في صلاته ما يستحسن ، وكانت إلى اللعب أقرب ، ومن هنا يقول بالبطلان في ذلك من يقوله ، وكذلك نقول في البيع : إذا فات فيه ما هو من المكملات كانتفاء الغرر والجهالة ، أوشك أن لا يحصل للمتعاقدين أو لأحدهما مقصود ، فكان وجود العقد كعدمه ، بل قد يكون عدمه أحسن من وجوده ، وكذلك سائر النظائر .
والثاني : أن كل درجة بالنسبة إلى ما هو آكد منها كالنفل بالنسبة إلى ما هو فرض ، فستر العورة واستقبال القبلة بالنسبة إلى أصل الصلاة كالمندوب إليه ، وكذلك قراءة السورة والتكبير والتسبيح بالنسبة إلى أصل الصلاة . وهكذا كون المأكول والمشروب غير نجس ، ولا مملوك للغير ولا مفقود الذكاة ، بالنسبة إلى أصل إقامة البنية ، وإحياء النفس - كالنفل . وكذلك كون المبيع معلوما ، ومنتفعا به شرعا ، وغير ذلك من أوصافه بالنسبة إلى أصل البيع - كالنافلة .
وقد تقرر في كتاب الأحكام أن المندوب إليه بالجزء ينتهض أن يصير واجبا بالكل ، فالإخلال بالمندوب مطلقا يشبه الإخلال بالركن من أركان الواجب; لأنه قد صار ذلك المندوب بمجموعه واجبا في ذلك الواجب ، فكذلك إذا أخل بما هو بمنزلته أو شبيه به - فمن هذا الوجه أيضا - يصح أن يقال : إن إبطال المكملات بإطلاق قد يبطل الضروريات بوجه ما .
[ ص: 41 ] والثالث : أن مجموع الحاجيات والتحسينيات ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات ، وذلك أن كمال الضروريات من حيث هي ضروريات إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعة وبسطة من غير تضييق ولا حرج وحيث يبقى معها خصال معاني العادات ومكارم الأخلاق موفرة الفصول ، مكملة الأطراف ، حتى يستحسن ذلك أهل العقول ، فإذا أخل بذلك; لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت ، واتصف بضد ما يستحسن في العادات ، فصار الواجب الضروري متكلف العمل ، وغير صاف في النظر الذي وضعت عليه الشريعة ، وذلك ضد ما وضعت عليه ، وفي الحديث : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، فكأنه لو فرض فقدان المكملات; [ ص: 42 ] لم يكن الواجب واقعا على مقتضى ذلك ، وذلك خلل في الواجب ظاهر ، أما إذا كان الخلل في المكمل للضروري واقعا في بعض ذلك وفي يسير منه ، بحيث لا يزيل حسنه ، ولا يرفع بهجته ، ولا يغلق باب السعة عنه ، فذلك لا يخل به ، وهو ظاهر .
والرابع : أن كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري ، ومؤنس به ، ومحسن لصورته الخاصة; إما مقدمة له أو مقارنا أو تابعا ، وعلى كل تقدير ، فهو يدور بالخدمة حواليه ، فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالاته .
وذلك أن الصلاة مثلا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم ، فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه ، فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع والسكون ، ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن; لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه ، وإذا كبر وسبح وتشهد فذلك كله تنبيه للقلب ، وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه ، والوقوف بين يديه ، وهكذا إلى آخرها ، فلو قدم قبلها نافلة ، كان ذلك تدريجا للمصلي [ ص: 43 ] واستدعاء للحضور ، ولو أتبعها نافلة أيضا ، لكان خليقا باستصحاب الحضور في الفريضة .
ومن الاعتبار في ذلك أن جعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل; ليكون اللسان والجوارح متطابقة على شيء واحد ، وهو الحضور مع الله فيها بالاستكانة والخضوع والتعظيم والانقياد ، ولم يخل موضع من الصلاة من قول أو عمل; لئلا يكون ذلك فتحا لباب الغفلة ، ودخول وساوس الشيطان .
فأنت ترى أن هذه المكملات الدائرة حول حمى الضروري خادمة له ، ومقوية لجانبه ، فلو خلت عن ذلك أو عن أكثره ، لكان خللا فيها ، وعلى هذا الترتيب يجري سائر الضروريات مع مكملاتها لمن اعتبرها .
بيان الخامس ظاهر مما تقدم ، لأنه إذا كان الضروري قد يختل باختلال مكملاته ، كانت المحافظة عليها لأجله مطلوبة ، ولأنه إذا كانت زينة لا يظهر حسنه إلا بها ، كان من الأحق أن لا يخل بها .
وبهذا كله يظهر أن المقصود الأعظم في المطالب الثلاثة المحافظة على الأول منها ، وهو قسم الضروريات ، ومن هنالك كان مراعى في كل ملة ، بحيث لم تختلف فيه الملل كما اختلفت في الفروع ، فهي أصول الدين ، وقواعد الشريعة ، وكليات الملة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (44)
صـ44 إلى صـ 61
المسألة الخامسة
المصالح المثبوتة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين :
من جهة مواقع الوجود .
ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها .
فأما النظر الأول; فإن المصالح الدنيوية - من حيث هي موجودة هنا - لا يتخلص كونها مصالح محضة ، وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان ، وتمام عيشه ، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق ، حتى يكون منعما على الإطلاق ، وهذا في مجرد الاعتياد لا يكون; لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق ، قلت أو كثرت ، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها; كالأكل ، والشرب ، واللبس ، والسكنى ، والركوب ، والنكاح ، وغير ذلك; فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب .
كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود; إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق ، واللطف ونيل اللذات كثير ، ويدلك على ذلك ما هو الأصل ، وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين ، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك ، وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق ، وأصل ذلك الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص ، قال [ ص: 45 ] الله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ الأنبياء : 35 ] ، ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] ، وما في هذا المعنى ، وقد جاء في الحديث : حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات فلهذا لم يخلص في الدنيا لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى .
فإذا كان كذلك; فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب ، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا ، وإذا غلبت الجهة الأخرى; فهي المفسدة المفهومة عرفا ، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة ، فإن رجحت المصلحة فمطلوب ، ويقال فيه : إنه مصلحة ، وإذا غلبت جهة المفسدة ، فمهروب عنه ، ويقال : إنه مفسدة ، وإذا اجتمع فيه الأمران على تساو; فلا يقال فيه أنه مصلحة أو مفسدة على ما جرت به العادات في مثله ، فإن خرج عن مقتضى العادات; فله نسبة أخرى وقسمة غير هذه القسمة .
[ ص: 46 ] هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية ، من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية .
وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعا ، فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد ، فهي المقصودة شرعا ، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ، ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل ، وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا ، فإن تبعها مفسدة أو مشقة ، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه .
وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد ، فرفعها هو المقصود شرعا ، ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها ، حسب ما يشهد له كل عقل سليم ، فإن تبعتها مصلحة أو لذة ، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل ، بل المقصود ما غلب في المحل ، وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي ، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر .
فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعا أو المفاسد المعتبرة شرعا هي خالصة غير مشوبة بشيء من المفاسد ، لا قليلا ولا كثيرا ، وإن توهم [ ص: 47 ] أنها مشوبة ، فليست في الحقيقة الشرعية كذلك ، لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة ، وهذا المقدار هو الذي قيل إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام ، والدليل على ذلك أمران :
أحدهما : أن الجهالة المعلومة لو كانت مقصودة للشارع - أعني معتبرة عند الشارع - لم يكن الفعل مأمورا به بإطلاق ، ولا منهيا عنه بإطلاق ، بل كان يكون مأمورا به من حيث المصلحة ، ومنهيا عنه من حيث المفسدة ، ومعلوم قطعا أن الأمر ليس كذلك .
وهذا يتبين في أعلى المراتب في الأمر والنهي; كوجوب الإيمان وحرمة [ ص: 48 ] الكفر ، ووجوب إحياء النفوس ومنع إتلافها ، وما أشبه ذلك; فكأن يكون الإيمان الذي لا أعلى منه في مراتب التكليف منهيا عنه ، من جهة ما فيه من كسر النفس من إطلاقها وقطعها عن نيل أغراضها وقهرها تحت سلطان التكليف الذي لا لذة فيه لها ، وكان الكفر الذي يقتضي إطلاق النفس من قيد التكليف ، وتمتعها بالشهوات من غير خوف مأمورا به أو مأذونا فيه; لأن الأمور الملذوذة والمخرجة عن القيود القاهرة مصلحة على الجملة ، وكل هذا باطل محض ، بل الإيمان مطلوب بإطلاق ، والكفر منهي عنه بإطلاق ، فدل على أن جهة المفسدة بالنسبة إلى طلب الإيمان ، وجهة المصلحة بالنسبة إلى النهي عن الكفران غير معتبرة شرعا ، وإن ظهر تأثيرها عادة وطبعا .
والثاني : أن ذلك لو كان مقصود الاعتبار شرعا; لكان تكليف العبد كله تكليفا بما لا يطاق ، وهو باطل شرعا ، أما كون تكليف ما لا يطاق باطلا شرعا ، فمعلوم في الأصول ، وأما بيان الملازمة; فلأن الجهة المرجوحة مثلا مضادة في الطلب للجهة الراجحة ، وقد أمر مثلا بإيقاع المصلحة الراجحة ، لكن على وجه يكون فيه منهيا عن إيقاع المفسدة المرجوحة ، فهو مطلوب بإيقاع الفعل ومنهي عن إيقاعه معا ، والجهتان غير منفكتين لما تقدم من أن المصالح والمفاسد غير متمحضة ، فلا بد في إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه من توارد الأمر والنهي معا ، فقد قيل له : افعل ولا تفعل لفعل واحد ، أي من وجه واحد في الوقوع ، وهو عين تكليف ما لا يطاق .
لا يقال : إن المصلحة قد تكون غير مأمور بها ، ولكن مأذونا فيها; فلا يجتمع الأمر والنهي معا ، فلا يلزم المحظور .
[ ص: 49 ] لأنا نقول : إن هذا لا يطرد في جميع المصالح; فإن المصلحة كما يصح أن تكون مأذونا فيها ، يصح أن تكون مأمورا بها ، وإن سلم ذلك ، فالإذن مضاد للأمر والنهي معا ، فإن التخيير مناف لعدم التخيير ، وهما واردان على الفعل الواحد ، فورود الخطاب بهما معا خطاب بما لا يستطاع إيقاعه على الوجه المخاطب به ، وهو ما أردنا بيانه ، وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة ، لإمكان الانفكاك بأن يصلى في غير الدار ، وهذا ليس كذلك .
فإن قيل : إن هذا التقرير مشير لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم من أن الشر ليس بمقصود الفعل ، وإنما المقصود الخير ، فإذا خلق الله تعالى خلقا ممتزجا خيره بشره ، فالخير هو الذي خلق الخلق لأجله ، ولم يخلق لأجل الشر ، وإن كان واقعا به;كالطبيب عندهم إذا سقى المريض الدواء المر البشع المكروه ، فلم يسقه إياه لأجل ما فيه من المرارة والأمر المكروه ، بل لأجل ما فيه من الشفاء والراحة ، وكذلك الإيلام بالفصد والحجامة وقطع العضو المتآكل ، إنما قصده بذلك جلب الراحة ودفع المضار; فكذلك عندهم جميع ما في الوجود من المفاسد المسببة عن أسبابها ، فما تقدم شبيه بهذا من حيث قلت : إن الشارع - مع قصده التشريع لأجل المصلحة - لا يقصد وجه المفسدة ، مع أنها لازمة للمصلحة .
وهو أيضا مشير إلى مذاهب المعتزلة القائلين بأن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع ، وأن وقوعها إنما هو على خلاف الإرادة ، تعالى الله عن ذلك [ ص: 50 ] علوا كبيرا .
فالجواب أن كلام الفلاسفة إنما هو في القصد الخلقي التكويني ، وليس كلامنا فيه ، وإنما كلامنا في القصد التشريعي ، وقد تبين الفرق بينهما في موضعه من كتاب الأوامر والنواهي ، ومعلوم أن الشريعة وضعت لمصالح الخلق بإطلاق حسب ما تبين في موضعه ، فكل ما شرع لجلب مصلحة أو دفع مفسدة ، فغير مقصود فيه ما يناقض ذلك ، وإن كان واقعا في الوجود فبالقدرة القديمة وعن الإرادة القديمة ، لا يعزب عن علم الله وقدرته وإرادته شيء من ذلك كله في الأرض ولا في السماء ، وحكم التشريع أمر آخر له نظر وترتيب آخر على حسب ما وضعه ، والأمر والنهي لا يستلزمان إرادة الوقوع ، أو عدم الوقوع ، وإنما هذا قول المعتزلة ، وبطلانه مذكور في علم الكلام ، فالقصد التشريعي شيء والقصد الخلقي شيء آخر ، لا ملازمة بينهما .
فصل
وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة عن حكم الاعتياد ، بحيث لو انفردت لكانت مقصودة الاعتبار للشارع ، ففي ذلك نظر ، ولا بد من تمثيل ذلك ، ثم تخليص الحكم فيه بحول الله .
[ ص: 51 ] مثاله أكل الميتة للمضطر ، وأكل النجاسات والخبائث اضطرارا ، وقتل القاتل ، وقطع القاطع ، وبالجملة العقوبات والحدود للزجر ، وقطع اليد المتأكلة ، وقلع الضرس الوجعة ، والإيلام بقطع العروق والفصد ، وغير ذلك للتداوي ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لو انفردت عما غلب عليها لكان النهي عنها متوجها ، وبالجملة كل ما تعارضت فيه الأدلة فلا يخلو أن تتساوى الجهتان ، أو تترجح إحداهما على الأخرى .
فإن تساوتا; فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر ، إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة ، ولعل هذا غير واقع في الشريعة ، وإن فرض وقوعه ، فلا ترجيح إلا بالتشهي من غير دليل ، وذلك في الشرعيات باطل باتفاق ، وأما أن قصد الشارع متعلق بالطرفين معا : طرف الإقدام ، وطرف الإحجام ، فغير صحيح;لأنه تكليف ما لا يطاق ، إذ قد فرضنا تساوي الجهتين على الفعل الواحد ، فلا يمكن أن يؤمر به وينهى عنه معا ، ولا يكون أيضا القصد غير متعلق بواحدة منهما ، إذ قد فرضنا أن توارد الأمر والنهي معا ، وهما علمان على القصد على الجملة حسب ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى;إذ لا أمر ولا نهي من غير اقتضاء ، فلم يبق إلا أن يتعلق بإحدى الجهتين دون الأخرى ، ولم يتعين ذلك للمكلف ، فلا بد من التوقف .
وأما إن ترجحت إحدى الجهتين على الأخرى;فيمكن أن يقال : إن قصد [ ص: 52 ] الشارع متعلق بالجهة الراجحة - أعني في نظر المجتهد - وغير متعلق بالجهة الأخرى; إذ لو كان متعلقا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح ، ولكان الحكم كما إذا تساوت الجهتان; فيجب التوقف ، وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح ، ويمكن أن يقال : إن الجهتين معا عند المجتهد معتبرتان ، إذ كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المقصودة للشارع ، ونحن إنما كلفنا بما ينقدح عندنا أنه مقصود للشارع ، لا بما هو مقصوده في نفس الأمر ، فالراجحة - وإن ترجحت - لا تقطع إمكان كون الجهة الأخرى هي المقصودة للشارع ، إلا أن هذا الإمكان مطرح في التكليف إلا عند تساوي الجهتين ، وغير مطرح في النظر ، ومن هنا نشأت قاعدة مراعاة الخلاف عند طائفة من الشيوخ ، [ ص: 53 ] والإمكان الأول جار على طريقة المصوبين ، والثاني جار على طريقة المخطئين .
وعلى كل تقدير; فالذي تلخص من ذلك أن الجهة المرجوحة غير مقصودة الاعتبار شرعا عند اجتماعها مع الجهة الراجحة ، إذ لو كانت مقصودة للشارع لاجتمع الأمر والنهي معا على الفعل الواحد; فكان تكليفا بما لا يطاق ، وكذلك يكون الحكم في المسائل الاجتهادية كلها ، سواء علينا أقلنا : إن كل مجتهد مصيب أم لا; فلا فرق إذا بين ما كان من الجهات المرجوحة جاريا على الاعتياد ، أو خارجا عنه; فالقياس مستمر ، والبرهان مطلق في القسمين ، وذلك ما أردنا بيانه .
فإن قيل : أفلا تكون الجهة المغلوبة مقصودة للشارع بالقصد الثاني; فإن مقاصد الشارع تنقسم إلى ذينك الضربين .
فالجواب أن القصد الثاني إنما يثبت إذا لم يناقض القصد الأول ، فإذا ناقضه; لم يكن مقصودا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني ، وهذا مذكور في موضعه من هذا الكتاب ، وبالله التوفيق .
المسألة السادسة
لما كانت المصالح والمفاسد على ضربين : دنيوية ، وأخروية ، وتقدم الكلام على الدنيوية ، اقتضى الحال الكلام في المصالح والمفاسد الأخروية ، فنقول : إنها على ضربين :
أحدهما : أن تكون خالصة لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر; كنعيم أهل الجنان ، وعذاب أهل الخلود في النيران ، أعاذنا الله من النار ، وأدخلنا الجنة برحمته .
والثاني : أن تكون ممتزجة ، وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين ، في حال كونه في النار خاصة ، فإذا أدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول ، وهذا كله حسب ما جاء في الشريعة; إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال ، وإنما تتلقى أحكامها من السمع .
أما كون هذا القسم الثاني ممتزجا فظاهر; لأن النار لا تنال منهم مواضع السجود ، ولا محل الإيمان ، وتلك مصلحة ظاهرة .
[ ص: 55 ] وأيضا فإنما تأخذهم على قدر أعمالهم ، وأعمالهم لم تتمحض للشر خاصة; فلا تأخذهم النار أخذ من لا خير في عمله على حال ، وهذا كاف في حصول المصلحة الناشئة عن الإيمان والأعمال الصالحة ، ثم الرجاء المعلق بقلب المؤمن راحة ما ، حاصلة له مع التعذيب ، فهي تنفس عنه من كرب النار ، إلى غير ذلك من الأمور الجزئية الآتية في الشريعة ، من استقراها ألفاها .
وأما كون الأول محضا; فيدل عليه من الشريعة أدلة كثيرة; كقوله تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ الزخرف : 75 ] .
وقوله : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار [ الحج : 19 ] الآية .
وقوله : لا يموت فيها ولا يحيا [ طه : 74 ] .
وهو أشد ما هنالك ، إلى سائر ما يدل على الإبعاد من الرحمة .
وفي الجنة آيات أخر وأحاديث تدل على أن لا عذاب ولا مشقة ولا [ ص: 56 ] مفسدة; كقوله : إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين إلى قوله : لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين [ الحجر : 45 - 48 ] .
وقوله : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ الزمر : 73 ] .
إلى غير ذلك مما هو معلوم .
وقد بين ذلك ربنا بقوله في الجنة : " أنت رحمتي " ، وفي النار : " أنت عذابي " ; فسمى هذه بالرحمة مبالغة ، وهذه بالعذاب مبالغة .
فإن قيل : كيف يستقيم هذا وقد ثبت أن في النار دركات بعضها أشد من بعض ، كما أنه جاء في الجنة أن فيها درجات بعضها فوق بعض ، وجاء في بعض أهل النار أنه في ضحضاح مع أنه من المخلدين ، وجاء أن في الجنة من يحرم بعض نعيمها; كالذي يموت مدمن خمر ولم يتب منها ، وإذا كانت [ ص: 57 ] دركات الجحيم - أعاذنا الله منها - بعضها أشد; فالذي دون الأشد أخف من الأشد ، والخفة مما يقتضيه وصف الرحمة التي تحصل مصلحة ما .
وأيضا; فالقدر الذي وصل إليه العذاب بالنسبة إلى ما يتوهم فوقه خفيف ، كما أنه شديد بالنسبة إلى ما هو دونه ، وإذا تصورت الخفة - ولو بنسبة ما - فهي مصلحة في ضمن مفسدة العذاب ، كما أن درجات الجنة كذلك في الطرف الآخر; فإن الجزاء على قدر العمل ، وإذا كان عمل الطاعة قليلا بسبب كثرة المخالفة ، كان الجزاء على تلك النسبة ، ومعلوم أن رتبة آخر من يدخل الجنة ليست كرتبة من لم يعص الله قط ودأب على الطاعات عمره ، وإنما ذلك لأجل عمل الأول السببي ، فكان جزاؤه على الطاعة في الآخرة نعيما كدره عليه كثرة المخالفة ، وهذا معنى ممازجة المفسدة ، فإذا كان كذلك فالقسمان معا قسم واحد .
فالجواب أنه لا يصح في المنقول ألبتة أن تكون الجنة ممتزجة النعيم بالعذاب ، ولا أن فيها مفسدة ما بوجه من الوجوه ، هذا مقتضى نقل الشريعة ، نعم العقل لا يحيل ذلك; فإن أحوال الآخرة ليست جارية على مقتضيات العقول ، كما أنه لا يصح أن يقال في النار إن فيها للمخلدين رحمة تقتضي مصلحة ما ، ولذلك قال تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ الزخرف : 75 ] [ ص: 58 ] فلا حالة هنالك يستريحون إليها وإن قلت ، كيف وهي دار العذاب ؟ ! عياذا بالله منها .
وما جاء في حرمان الخمر; فذلك راجع إلى معنى المراتب ، فلا يجد من يحرمها ألما بفقدها ، كما لا يجد الجميع ألما بفقد شهوة الولد ، أما المخرج إلى الضحضاح; فأمر خاص ، كشهادة خزيمة ، وعناق أبي بردة ، ولا نقض بمثل ذلك على الأصول الاستقرائية القطعية; غير أنه يجب النظر هنا في وجه تفاوت الدرجات والدركات ، لما ينبني على ذلك من الفوائد الفقهية لا من جهة أخرى .
وذلك أن المراتب - وإن تفاوتت - لا يلزم من تفاوتها نقيض ولا ضد ، ومعنى هذا أنك إذا قلت : فلان عالم فقد وصفته بالعلم وأطلقت ذلك عليه إطلاقا بحيث لا يستراب في حصول ذلك الوصف له على كماله ، فإذا قلت : وفلان فوقه في العلم ، فهذا الكلام يقتضي أن الثاني حاز رتبة في العلم فوق رتبة الأول ، ولا يقتضي أن الأول متصف بالجهل ، ولو على وجه ما ، فكذلك إذا قلت : مرتبة الأنبياء في الجنة فوق مرتبة العلماء ، فلا يقتضي ذلك للعلماء نقصا من النعيم ، ولا غضا من المرتبة ، بحيث يداخله ضده ، بل العلماء منعمون نعيما لا نقص فيه والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فوق ذلك في النعيم الذي [ ص: 59 ] لا نقص فيه ، وكذلك القول في العذاب بالنسبة إلى المنافقين وغيرهم . كل في العذاب لا يداخله راحة ، ولكن بعضهم أشد عذابا من بعض .
ولأجل ذلك لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خير دور الأنصار; أجاب بما عليه الأمر في ترتيبهم في الخيرية بقوله : خير دور الأنصار بنو النجار ، ثم بنو عبد الأشهل ، ثم بنو الحارث بن الخزرج ، ثم بنو ساعدة ، ثم قال : وفي كل دور الأنصار خير رفعا لتوهم الضد ، من حيث كانت أفعل التفصيل قد تستعمل [ ص: 60 ] على ذلك الوجه ، كقوله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ الأعلى : 16 ] ، ونحو ذلك ، فلم يكن تفضيله عليه الصلاة والسلام بعض دور الأنصار على بعض تنقيصا بالمفضول ، ولو قصد ذلك; لكان أقرب إلى الذم منه إلى المدح ، وقد بين الحديث هذا المعنى المقرر فإن في آخره : فلحقنا سعد بن عبادة ، فقال : ألم تر أن نبي الله خير الأنصار; فجعلنا أخيرا ؟ فقال : " أوليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار ؟ " لكن التقديم في الترتيب يقتضي رفع المزية ، ولا يقتضي اتصاف المؤخر بالضد لا قليلا ولا كثيرا ، وكذلك يجري حكم التفضيل بين الأشخاص ، وبين الأنواع ، وبين الصفات ، وقد قال الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ البقرة : 253 ] .
[ ص: 61 ] ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ الإسراء : 55 ] .
وفي الحديث : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير .
وحاصل هذا أن ترتيب أشخاص النوع الواحد بالنسبة إلى حقيقة النوع لا يمكن ، وإنما يكون بالنسبة إلى ما يمتاز به بعض الأشخاص من الخواص والأوصاف الخارجة عن حقيقة ذلك النوع ، وهذا معنى حسن جدا ، من تحققه هانت عليه معضلات ومشكلات في فهم الشريعة; كالتفضيل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وزيادة الإيمان ونقصانه ، وغير ذلك من الفروع الفقهية والمعاني الشرعية ، التي زلت بسبب الجهل بها أقدام كثير من الناس ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (45)
صـ62 إلى صـ 78
المسألة السابعة
إذا; ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية; وذلك على وجه لا يختل لها به نظام ، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء ، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات; فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تنحل أحكامها; لم يكن التشريع موضوعا لها ، إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد ، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق; فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال ، وكذلك وجدنا الأمر فيها ، والحمد لله .
وأيضا; فسيأتي بيان أن الأمور الثلاثة كلية في الشريعة ، لا تختص على الجملة ، وإن تنزلت إلى الجزئيات ، فعلى وجه كلي ، وإن خصت بعضا; فعلى نظر الكلي ، كما أنها إن كانت كلية; فليدخل تحتها الجزئيات ، فالنظر الكلي فيها منزل للجزئيات ، وتنزله للجزئيات لا يخرم كونه كليا ، وهذا المعنى إذا ثبت دل على كمال النظام في التشريع ، وكمال النظام فيه يأبى أن ينخرم ما وضع له ، وهو المصالح .
المسألة الثامنة
المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى ، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ، أو درء مفاسدها العادية ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : ما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى - أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم ، حتى يكونوا عبادا لله ، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس ، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت ، وقد قال ربنا سبحانه : [ ص: 64 ] ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن الآية [ المؤمنون : 71 ] .
والثاني : ما تقدم معناه من أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة ، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع ، كما نقول : إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء ، بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها ، أو إتلافها وإحياء المال ، كان إحياؤها أولى ، فإن عارض إحياؤها إماتة الدين ، كان إحياء الدين أولى ، وإن أدى إلى إماتتها كما جاء في جهاد الكفار ، وقتل المرتد ، وغير ذلك ، وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب مثلا ، كان إحياء النفوس الكثيرة أولى ، وكذلك إذا قلنا : الأكل والشرب فيه إحياء النفوس ، وفيه منفعة ظاهرة ، مع أن فيه من المشاق والآلام في تحصيله ابتداء وفي استعماله حالا وفي لوازمه وتوابعه انتهاء كثيرا .
ومع ذلك; فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم ، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا لا من حيث أهواء النفوس - حتى إن العقلاء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة وإن لم يدركوا من تفاصيلها قبل الشرع ما أتى به الشرع ; [ ص: 65 ] فقد اتفقوا في الجملة على اعتبار إقامة الحياة الدنيا لها أو للآخرة ، بحيث منعوا من اتباع جملة من أهوائهم بسبب ذلك ، هذا وإن كانوا بفقد الشرع على غير شيء فالشرع لما جاء بين هذا كله وحمل المكلفين عليه طوعا أو كرها ، ليقيموا أمر دنياهم لآخرتهم .
والثالث : أن المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية ، ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال ، وبالنسبة إلى شخص دون شخص ، أو وقت دون وقت; فالأكل والشرب مثلا منفعة للإنسان ظاهرة ، ولكن عند وجود داعية الأكل ، وكون المتناول لذيذا طيبا لا كريها ولا مرا ، وكونه لا يولد ضررا عاجلا ولا آجلا ، وجهة اكتسابه لا يلحقه به ضرر عاجل ولا آجل ، ولا يلحق غيره بسببه أيضا ضرر عاجل ولا آجل ، وهذه الأمور قلما تجتمع فكثير من المنافع تكون ضررا على قوم لا منافع ، أو تكون ضررا في وقت أو حال ، ولا تكون ضررا في آخر ، وهذا كله بين في كون المصالح والمفاسد مشروعة ، أو ممنوعة لإقامة هذه الحياة ، لا لنيل الشهوات ، ولو كانت موضوعة لذلك ، لم يحصل ضرر مع متابعة الأهواء ، ولكن ذلك لا يكون ، فدل على أن المصالح والمفاسد لا تتبع الأهواء .
والرابع : أن الأغراض في الأمر الواحد تختلف بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه; فحصول الاختلاف في الأكثر [ ص: 66 ] يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض ، وإنما يستتب أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقا ، وافقت الأغراض أو خالفتها .
فصل
وإذا ثبت هذا انبنى عليه قواعد :
منها : أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الإذن ، وفي المضار المنع ، كما قرره الفخر الرازي; إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي ولا ضرر حقيقي ، وإنما عامتها أن تكون إضافية .
والمصالح والمفاسد إذا كانت راجعة إلى خطاب الشارع - وقد علمنا من خطابه أنه يتوجه بحسب الأحوال والأشخاص والأوقات حتى يكون الانتفاع المعين مأذونا فيه في وقت أو حال أو بحسب شخص ، وغير مأذون فيه إذا كان [ ص: 67 ] على غير ذلك ; فكيف يسوغ إطلاق هذه العبارة أن الأصل في المنافع الإذن ، وفي المضار المنع ؟
وأيضا; فإذا كانت المنافع لا تخلو من مضار وبالعكس ، فكيف يجتمع الإذن والنهي على الشيء الواحد ، وكيف يقال أن الأصل في الخمر مثلا الإذن من حيث منفعة الانتشاء ، والتشجيع ، وطرد الهموم ، والأصل فيها أيضا المنع من حيث مضرة سلب العقل والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهما لا ينفكان ، أو يقال : الأصل في شرب الدواء المنع لمضرة شربه لكراهته وفظاعته ومرارته ، والأصل فيه الإذن لأجل الانتفاع به وهما غير منفكين فيكون الأصل في ذلك كله الإذن وعدم الإذن معا ، وذلك محال فإن قيل المعتبر عند التعارض الراجح فهو الذي ينسب إليه الحكم ، وما سواه في حكم المغفل المطرح .
فالجواب أن هذا مما يشد ما تقدم ; إذ هو دليل على أن المنافع ليس [ ص: 68 ] أصلها الإباحة بإطلاق ، وأن المضار ليس أصلها المنع بإطلاق ، بل الأمر في ذلك راجع إلى ما تقدم ، وهو ما تقوم به الدنيا للآخرة ، وإن كان في الطريق ضرر ما متوقع ، أو نفع ما مندفع .
ومنها أن القرافي أورد إشكالا في المصالح والمفاسد ولم يجب عنه ، وهو عنده لازم لجميع العلماء المعتبرين للمصالح والمفاسد ، فقال :
" المراد بالمصلحة والمفسدة إن كان مسماهما كيف كانا; فما من مباح إلا وفيه في الغالب مصالح ومفاسد ، فإن أكل الطيبات ولبس اللينات فيها مصالح الأجساد ولذات النفوس ، وآلام ومفاسد في تحصيلها ، وكسبها ، وتناولها ، وطبخها ، وإحكامها ، وإجادتها بالمضغ ، وتلويث الأيدي . . . ، إلى غير ذلك ، مما لو خير العاقل بين وجوده وعدمه; لاختار عدمه فمن يؤثر وقيد النيران وملابسة الدخان وغير ذلك ؟ فيلزم أن لا يبقى مباح ألبتة " .
وإن أرادوا ما هو أخص من مطلقهما مع أن مراتب الخصوص متعددة; فليس بعضها أولى من بعض ، ولأن العدول عن أصل المصلحة والمفسدة تأباه قواعد الاعتزال; فإنه سفه .
ولا يمكنهم أن يقولوا : إن ضابط ذلك أن كل مصلحة توعد الله على [ ص: 69 ] تركها ، وكل مفسدة توعد الله على فعلها هي المقصودة ، وما أهمله الله تعالى غير داخل في مقصودنا ، فنحن نريد مطلق المعتبر من غير تخصيص فيندفع الإشكال; لأنا نقول : الوعيد عندكم ، والتكليف تابع للمصلحة والمفسدة ، ويجب عندكم بالعقل أن يتوعد الله على ترك المصالح ، وفعل المفاسد ، فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد ، لزم الدور ، ولو صحت الاستفادة في المصالح والمفاسد من الوعيد للزمكم أن تجوزوا أن يرد التكليف بترك المصالح وفعل المفاسد ، وتنعكس الحقائق حينئذ; فإن المعتبر هو التكليف; فأي شيء كلف الله به كان مصلحة ، وهذا يبطل أصلكم " .
قال : وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال ، فهو أن يتعذر عليهم أن يقولوا : إن الله تعالى راعى مطلق المصلحة ومطلق المفسدة على سبيل التفضيل; لأن المباحات فيها ذلك ولم يراع ، بل يقولون : إن الله ألغى بعضها [ ص: 70 ] في المباحات ، واعتبر بعضها ، وإذا سئلوا عن ضابط المعتبر مما ينبغي أن لا يعتبر عسر الجواب ، بل سبيلهم استقراء المواقع فقط ، وهذا وإن كان يخل بنمط من الاطلاع على بعض أسرار الفقه ، غير أنهم يقولون : ويفعل الله ما يشاء [ إبراهيم : 27 ] ، و يحكم ما يريد [ المائدة : 1 ] ويعتبر الله ما يشاء ، ويترك ما يشاء لا غرو في ذلك ، وأما المعتزلة الذين يوجبون ذلك عقلا; فيكون هذا الأمر عليهم في غاية الصعوبة; لأنهم إذا فتحوا هذا الباب تزلزلت قواعد الاعتزال " . هذا ما قاله القرافي .
وأنت إذا راجعت أول المسألة وما تقدم قبلها ، لم يبق لهذا الإشكال موقع ، أما على مذهب الأشاعرة ، فإن استقراء الشريعة دل على ما هو المعتبر مما ليس بمعتبر ، لكن على وجه يحصل ضوابط ذلك ، والدليل القاطع في ذلك استقراء أحوال الجارين على جادة الشرع من غير إخلال بالخروج في [ ص: 71 ] جريانها على الصراط المستقيم ، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير إخلال بنظام ، ولا هدم لقاعدة من قواعد الإسلام ، وفي وقوع الخلل فيها بمقدار ما يقع من المخالفة في حدود الشرع ، وذلك بحسب كل باب من أبواب الشرع ، وكل أصل من أصول التكليف ، فإذا حصل ذلك للعلماء الراسخين; حصل لهم به ضوابط في كل باب على ما يليق به وهو مذكور في كتبهم ، ومبسوط في علم أصول الفقه .
وأما على مذهب المعتزلة; فكذلك أيضا لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل في زعمهم ، وهو الوجه الذي يتم به صلاح العالم على الجملة ، والتفصيل في المصالح ، أو ينخرم به في المفاسد ، وقد جعلوا الشرع كاشفا لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بلا زيادة ولا نقصان ، فلا فرق بينهم وبين الأشاعرة في محصول المسألة ، وإنما اختلفوا في المدرك ، [ ص: 72 ] واختلافهم فيه لا يضر في كون المصالح معتبرة شرعا ، ومنضبطة في أنفسها .
وقد نزع إلى هذا المعنى أيضا في كلامه على العزيمة والرخصة ، حين فسرها الإمام الرازي بأنها " جواز الإقدام مع قيام المانع " ; قال :
" هو مشكل; لأنه يلزم أن تكون الصلوات والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة; إذ يجوز الإقدام على ذلك كله ، وفيه مانعان : ظواهر النصوص المانعة من إلزامه; كقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] ، وفي الحديث : لا ضرر ولا ضرار وذلك مانع من وجوب [ ص: 73 ] [ ص: 74 ] [ ص: 75 ] هذه الأمور ، والآخر أن صورة الإنسان مكرمة ، لقوله : ولقد كرمنا بني آدم [ الإسراء : 70 ] ، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ التين : 4 ] ، وذلك يناسب أن لا يهلك بالجهاد ، ولا يلزمه المشاق والمضار .
وأيضا الإجارة رخصة من بيع المعدوم ، والسلم كذلك ، والقراض والمساقاة رخصتان لجهالة الأجرة ، والصيد رخصة لأكل الحيوان بدمه ، ولم تعد منها ، واستقراء الشريعة يقتضي أن لا مصلحة إلا وفيها مفسدة ، وبالعكس ، وإن قلت على العبد كالكفر والإيمان; فما ظنك بغيرهما ؟
وعلى هذا ما في الشريعة حكم إلا وهو مع المانع الشرعي ; لأنه لا يمكن أن يراد بالمانع ما سلم عن المعارض الراجح; فإن أكل الميتة وغيره [ ص: 76 ] وجد فيه معارض راجح على مفسدة الميتة; فحينئذ ما المراد إلا المانع المغمور بالراجح ، وحينئذ تندرج جميع الشريعة; لأن كل حكم فيه مانع مغمور بمعارضه " .
ثم ذكر أن الذي استقر عليه حاله في شرحي " التنقيح " و " المحصول " العجز عن ضبط الرخصة .
وما تقدم إن شاء الله تعالى يغني في الموضع ، مع ما ذكر في الرخصة في كتاب الأحكام .
ومنها : أن هذه المسألة إذا فهمت حصل بها فهم كثير من آيات القرآن وأحكامه; كقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ البقرة : 29 ] .
وقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ الجاثية : 13 ] .
وقوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية [ الأعراف : 32 ] .
[ ص: 77 ] وما كان نحو ذلك من أنها ليست على مقتضى ظاهرها بإطلاق ، بل بقيود تقيدت بها ، حسب ما دلت عليه الشريعة في وضع المصالح ودفع المفاسد ، والله أعلم .
ومنها : أن بعض الناس قال : إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع ، وأما الدنيوية; فتعرف بالضرورات ، والتجارب والعادات ، والظنون المعتبرات .
قال : ومن أراد أن يعرف المناسبات في المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها ، فليعرض ذلك على عقله ، بتقدير أن الشارع لم يرد به ، ثم يبني عليه الأحكام ، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا التعبدات التي لم يوقف على مصالحها أو مفاسدها . هذا قوله .
وفيه بحسب ما تقدم نظر ، أما أن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع; فكما قال . وأما ما قال في الدنيوية فليس كما قال من كل وجه بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض ، ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة ; تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة ، وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام .
ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق; لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة خاصة ، وذلك لم يكن ، وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة معا ، وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة; فليس بخارج عن كونه [ ص: 78 ] قاصدا لإقامة مصالح الدنيا; حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة ، وقد بث في ذلك من التصرفات ، وحسم من أوجه الفساد التي كانت جارية ما لا مزيد عليه; فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل ، اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها ، بعد وضع الشرع أصولها ، فذلك لا نزاع فيه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (46)
صـ79 إلى صـ 90
المسألة التاسعة
كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث الضرورية ، والحاجية ، والتحسينية ، لا بد عليه من دليل يستند إليه ، والمستند إليه في ذلك ، إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا ، وكونه ظنيا باطل ، مع أنه أصل من أصول الشريعة ، بل هو أصل أصولها ، وأصول الشريعة قطعية حسب ما تبين في موضعه ، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية ، ولو جاز إثباتها بالظن ، لكانت الشريعة مظنونة أصلا وفرعا ، وهذا باطل ، فلا بد أن تكون قطعية ، فأدلتها قطعية بلا بد .
فإذا ثبت هذا ، فكون هذا الأصل مستندا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه ، فلا يخلو أن يكون عقليا أو نقليا .
فالعقلي لا موقع له هنا; لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية ، وهو غير صحيح ، فلا بد أن يكون نقليا .
والأدلة النقلية; إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند لا يحتمل متنها التأويل على حال ، أو لا ، فإن لم تكن نصوصا ، أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر; فلا يصح استناد مثل هذا إليها; لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع ، وإفادة القطع هو المطلوب وإن كانت نصوصا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند ، فهذا مفيد للقطع ، إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء .
والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد في كل مسألة تفرض في الشريعة ، بل يوجد في بعض المواضع دون بعض ، ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليل قطعي .
والقائل بعدم وجوده في الشريعة يقول : إن التمسك بالدلائل النقلية إذا كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحدة منها ظنية ، والموقوف على [ ص: 80 ] الظني لا بد أن يكون ظنيا; فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو ، وعدم الاشتراك ، وعدم المجاز ، وعدم النقل الشرعي أو العادي ، وعدم الإضمار ، وعدم التخصيص للعموم ، وعدم التقييد للمطلق ، وعدم الناسخ ، وعدم التقديم والتأخير ، وعدم المعارض العقلي ، وجميع ذلك أمور ظنية .
ومن المعترفين بوجوده من اعترف بأن الدلائل في أنفسها لا تفيد قطعا ، لكنها إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين ، وهذا لا يدل قطعا على أن دليل مسألتنا من هذا القبيل; لأن القرائن المفيدة لليقين غير لازمة لكل دليل ، وإلا لزم أن تكون أدلة الشرع كلها قطعية ، وليس كذلك باتفاق ، وإذا كانت لا تلزم ، ثم وجدنا أكثر الأدلة الشرعية ظنية الدلالة ، أو المتن والدلالة معا ، ولا سيما مع افتقار الأدلة إلى النظر في جميع ما تقدم ، دل ذلك على أن اجتماع القرائن المفيدة للقطع واليقين نادر ، على قول المقرين بذلك ، وغير موجود على قول الآخرين .
فثبت أن دليل هذه المسألة على التعيين غير متعين .
ولا يقال : إن الإجماع كاف ، وهو دليل قطعي; لأنا نقول : هذا أولا : مفتقر إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعا ، نقلا متواترا عن جميع أهل الإجماع ، وهذا يعسر إثباته ولعلك لا تجده ، ثم نقول :
[ ص: 81 ] ثانيا : إن فرض وجوده; فلا بد من دليل قطعي يكون مستندهم ، ويجتمعون على أنه قطعي; فقد يجتمعون على دليل ظني ، فتكون المسألة ظنية لا قطعية ، فلا تفيد اليقين; لأن الإجماع إنما يكون قطعيا على فرض اجتماعهم على مسألة قطعية لها مستند قطعي ، فإن اجتمعوا على مستند ظني ، فمن الناس من خالف في كون هذا الإجماع حجة .
فإثبات المسألة بالإجماع لا يتخلص ، وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي .
وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة ، وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع ، وأن اعتبارها مقصود للشارع .
ودليل ذلك استقراء الشريعة ، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية ، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص ، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض مختلفة الأغراض; بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم ، وشجاعة علي - رضي الله عنه - ، وما أشبه ذلك; فلم يعتمد [ ص: 82 ] الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص ، ولا على وجه مخصوص ، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات ، والمطلقات والمقيدات ، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه ، وكل نوع من أنواعه حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد ، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة .
وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم ، إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين ، لكان إخبار كل واحد منهم على فرض عدالته مفيدا للظن ، فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادة على إفادة الظن ، لكن للاجتماع خاصية ليست للافتراق ، فخبر واحد مفيد للظن مثلا ، فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن ، وهكذا خبر آخر وآخر حتى يحصل بالجميع القطع الذي لا يحتمل النقيض ، فكذلك هذا; إذ لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار .
وهذا بين في كتاب المقدمات من هذا الكتاب .
فإذا تقرر هذا; فمن كان من حملة الشريعة الناظرين في مقتضاها ، والمتأملين لمعانيها سهل عليه التصديق بإثبات مقاصد الشارع في إثبات هذه القواعد الثلاث .
[ ص: 83 ] المسألة العاشرة
هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها; فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات .
ولذلك أمثلة : أما في الضروريات; فإن العقوبات مشروعة للازدجار ، مع أنا نجد من يعاقب فلا يزدجر عما عوقب عليه ، ومن ذلك كثير وأما في الحاجيات; فكالقصر في السفر مشروع للتخفيف وللحوق المشقة ، والملك المترفه لا مشقة له ، والقصر في حقه مشروع ، والقرض أجيز للرفق بالمحتاج ، مع أنه جائز أيضا مع عدم الحاجة ، وأما في التحسينيات; فإن الطهارة شرعت للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم .
فكل هذا غير قادح في أصل المشروعية; لأن الأمر الكلي إذا ثبت كليا; فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا ، وأيضا; [ ص: 84 ] فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي ; لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت ، هذا شأن الكليات الاستقرائية ، واعتبر ذلك بالكليات العربية; فإنها أقرب شيء إلى ما نحن فيه ، لكون كل واحد من القبيلين أمرا وضعيا لا عقليا ، وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات قادحا في الكليات العقلية ، كما نقول : ما ثبت للشيء ثبت لمثله عقلا ، فهذا لا يمكن فيه التخلف ألبتة ، إذ لو تخلف لم يصح الحكم بالقضية القائلة : " ما ثبت للشيء ثبت لمثله " .
فإذا كان كذلك فالكلية في الاستقرائيات صحيحة ، وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات .
وأيضا; فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي; فلا تكون داخلة تحته أصلا ، أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها ، أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى; [ ص: 85 ] فالملك المترفه قد يقال : إن المشقة تلحقه ، لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها ، أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها : إن المصلحة ليست الازدجار فقط ، بل ثم أمر آخر ، وهو كونها كفارة ، لأن الحدود كفارات لأهلها ، وإن كانت زجرا أيضا عن إيقاع المفاسد ، وكذلك سائر ما يتوهم أنه خادم للكلي .
فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح .
[ ص: 86 ] المسألة الحادية عشرة
مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة ، لا تختص بباب دون باب ، ولا بمحل دون محل ، ولا بمحل وفاق دون محل خلاف ، وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها .
ومن الدليل على ذلك ما تقدم في الاستدلال على مطلق المصالح ، وأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد ، ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق ، لكن البرهان قام على ذلك فدل على أن المصالح فيها غير مختصة ، وقد زعم بعض المتأخرين - وهو القرافي - : أن القول بالمصالح إنما يستمر على القول بأن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد ، لأن القاعدة العقلية أن الراجح يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض ، بل متى كان أحدهما [ ص: 87 ] راجحا كان الآخر مرجوحا ، وهذا يقتضي أن يكون المصيب واحدا ، وهو المفتي بالراجح ، وغيره يتعين أن يكون مخطئا; لأنه مفت بالمرجوح ، فتتناقض قاعدة المصوبين مع القول بالقياس ، وأن الشرائع تابعة للمصالح .
هذا ما قال .
ونقل عن شيخه ابن عبد السلام في الجواب أنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا : إن هذه القاعدة لا تكون إلا في الأحكام الإجماعية ، أما في مواطن الخلاف; فلم يكن الصادر عن الله تعالى أن الحكم تابع للراجح في نفس الأمر ، بل فيما في الظنون فقط; كان راجحا في نفس الأمر أو مرجوحا ، وسلم أن قاعدة التصويب تأبى قاعدة مراعاة المصالح لتعين الراجح ، وكان يقول يتعين على القائل بالتصويب أن يصرف الخطأ في حديث الحاكم إلى [ ص: 88 ] الأسباب; للاتفاق على أن الخطأ يقع فيها ، وحمل كلام الشارع على المتفق عليه أولى ، هذا ما نقل عنه .
ويظهر أن القاعدة جارية على كلا المذهبين ; لأن الأحكام على مذهب التصويب إضافية; إذ حكم الله عندهم تابع لنظر المجتهد ، والمصالح تابعة للحكم أو متبوعة له فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه ، ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة ، فإذا غلب على ظن المالكي أن ربا الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز ، فجهة المصلحة عنده هي الراجحة ، وهي كذلك في نفس الأمر في ظنه; لأنها عنده خارجة عن حكم الربا المحرم ، فالمقدم على التفاضل فيها مقدم على ما هو جائز ، وما هو جائز لا ضرر فيه ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، بل فيه مصلحة لأجلها أجيز ، وإذا غلب على ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز ، فهي عنده داخلة تحت حكم الربا المحرم ، وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة لا الراجحة ، وهي كذلك في نفس الأمر [ ص: 89 ] على ما ظنه فلا ضرر لاحق به في الدنيا وفي الآخرة ، فحكم المصوب هاهنا حكم المخطئ .
وإنما يكون التناقض واقعا إذا عد الراجح مرجوحا من ناظر واحد ; بل هو من ناظرين ظن كل واحد منهما العلة التي بنى عليها الحكم موجودة في المحل بحسب ما في نفس الأمر عنده ، وفي ظنه لا ما هو عليه في نفسه; إذ لا يصح ذلك إلا في مسائل الإجماع ، فهاهنا اتفق الفريقان ، وإنما اختلفا بعد ، فالمخطئة حكمت بناء على أن ذلك الحكم هو ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه ، والمصوبة حكمت بناء على أن لا حكم في نفس الأمر ، بل هو ما ظهر الآن ، وكلاهما بأن حكمه على علة مظنون بها أنها كذلك في نفس الأمر .
ويتفق هاهنا من يقول باعتبار المصالح لزوما أو تفضلا ، وكذلك من قال : إن المصالح والمفاسد من صفات الأعيان ، أو ليست من صفات الأعيان ، وهذا مجال يحتمل بسطا أكثر من هذا ، وهو من مباحث أصول الفقه ، وإذا ثبت [ ص: 90 ] هذا; لم يفتقر إلى الاعتذار الذي اعتذر به ابن عبد السلام ، وارتفع إشكال المسألة والحمد لله .
وتأمل; فإن الجويني نقل اتفاق المعتزلة على القول بالتصويب اجتهادا وحكما ، وذلك يقتضي تصور اجتماع قاعدة التصويب عندهم مع القول بالتحسين والتقبيح العقلي ، وأن ذلك راجع إلى الذوات; فكلام القرافي مشكل على كل تقدير ، والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (47)
صـ91 إلى صـ 99
المسألة الثانية عشرة
إن هذه الشريعة المباركة معصومة كما أن صاحبها معصوم ، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة .
ويتبين ذلك بوجهين :
أحدهما : الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا; كقوله تعالى :
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ الحجر : 9 ] .
وقوله : كتاب أحكمت آياته [ هود : 1 ] .
وقد قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته [ الحج : 52 ] ; فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل ، والسنة وإن لم تذكر ، فإنها مبينة له ودائرة حوله ، فهي منه وإليه ترجع في معانيها ، فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضا ، ويشد بعضه بعضا ، وقال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ المائدة : 3 ] .
حكى أبو عمرو الداني في " طبقات القراء " له عن أبي الحسن بن المنتاب; قال :
كنت يوما عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق ، فقيل له : لم [ ص: 92 ] جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن ؟ فقال القاضي : قال الله عز وجل في أهل التوراة : بما استحفظوا من كتاب الله [ المائدة : 44 ] فوكل الحفظ إليهم; فجاز التبديل عليهم ، وقال في القرآن : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ الحجر : 9 ] ; فلم يجز التبديل عليهم ، قال علي : فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي ، فذكرت له الحكاية ، فقال : ما سمعت كلاما أحسن من هذا .
وأيضا ما جاء من حوادث الشهب أمام بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنع الشياطين من استراق السمع لما كانوا يزيدون فيما سمعوا من أخبار السماء ، حيث كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مائة كذبة أو أكثر ، فإذا كانوا قد منعوا من ذلك في السماء ، فكذلك في الأرض ، وقد عجزت الفصحاء اللسن عن الإتيان بسورة [ ص: 93 ] من مثله وهو كله من جملة الحفظ ، والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة ، فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل .
والثاني : الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله إلى الآن ، وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة ، والمناضلة عنها ، بحسب الجملة والتفصيل .
أما القرآن الكريم ، فقد قيض الله له حفظة; بحيث لو زيد فيه حرف واحد ، لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر ، فضلا عن القراء الأكابر .
وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة ، فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم .
فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب ، حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث - وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة ، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب - .
ثم قيض رجالا يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعا ونصبا ، وجرا وجزما ، وتقديما وتأخيرا ، وإبدالا وقلبا ، وإتباعا وقطعا ، وإفرادا وجمعا ، إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد والتركيب ، واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان ، فسهل الله بذلك [ ص: 94 ] الفهم عنه في كتابه ، وعن رسوله في خطابه .
ثم قيض الحق سبحانه رجالا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله ، وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة ، حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم ، وتعرفوا التواريخ ، وصحة الدعاوى في الأخذ لفلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله .
وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة عن البدعة ناسا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابا وسنة ، وعما كان عليه السلف الصالحون ، وداوم عليه الصحابة والتابعون ، وردوا على أهل البدع والأهواء ، حتى تميز أتباع الحق عن أتباع الهوى .
وبعث الله تعالى من عباده قراء أخذوا كتابه تلقيا من الصحابة ، وعلموه لمن يأتي بعدهم حرصا على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف ، حتى يتوافق الجميع على شيء واحد ، ولا يقع في القرآن اختلاف من أحد من الناس .
ثم قيض الله تعالى ناسا يناضلون عن دينه ، ويدفعون الشبه ببراهينه ، فنظروا في ملكوت السماوات والأرض ، واستعملوا الأفكار ، وأذهبوا عن أنفسهم ما يشغلهم عن ذلك ليلا ونهارا ، واتخذوا الخلوة أنيسا ، وفازوا بربهم جليسا ، حتى نظروا إلى عجائب صنع الله في سماواته وأرضه ، وهم العارفون من خلقه والواقفون مع أداء حقه ، فإن عارض دين الإسلام معارض ، أو جادل فيه خصم [ ص: 95 ] مناقض ، غبروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة ، فهم جند الإسلام وحماة الدين .
وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسول الله ، فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة ، تارة من نفس القول ، وتارة من معناه ، وتارة من علة الحكم ، حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر ، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك ، وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه أو احتيج في إيضاحها إليه .
وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة ، وبالله التوفيق .
المسألة الثالثة عشرة
كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أوالحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول : إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها; فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي ، وذلك الجزئيات ، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع .
والدليل على ذلك أمور :
منها : ورود العتب على التارك في الجملة من غير عذر ، كترك الصلاة ، أو الجماعة ، أو الجمعة ، أو الزكاة ، أو الجهاد ، أو مفارقة الجماعة لغير أمر مطلوب أو مهروب عنه ، كان العتب وعيدا أو غيره ، كالوعيد بالعذاب ، وإقامة الحدود في الواجبات ، والتجريح في غير الواجبات ، وما أشبه ذلك .
ومنها : أن عامة التكاليف من هذا الباب لأنها دائرة على القواعد الثلاث ، والأمر والنهي فيها قد جاء حتما ، وتوجه الوعيد على فعل المنهي عنه منها ، أو ترك المأمور به من غير اختصاص ولا محاشاة; إلا في مواضع الأعذار التي تسقط أحكام الوجوب أو التحريم ، وحين كان ذلك كذلك ، دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها .
ومنها : أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي; لم يصح الأمر بالكلي من أصله ، لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه; لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات ، فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق ، [ ص: 97 ] وذلك ممنوع الوقوع كما سيأتي إن شاء الله ، فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات; فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات .
وأيضا فإن المقصود بالكلي هنا أن تجري أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف ، وإهمال القصد في الجزيئات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي; فإنه مع الإهمال لا يجري كليا بالقصد ، وقد فرضناه مقصودا ، هذا خلف; فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات ، وليس البعض في ذلك أولى من البعض ، فانحتم القصد إلى الجميع ، وهو المطلوب .
[ ص: 98 ] فإن قيل : هذا يعارض القاعدة المتقدمة أن الكليات لا يقدح فيها تخلف آحاد الجزئيات .
فالجواب : أن القاعدة صحيحة ، ولا معارضة فيها لما نحن فيه ، فإن ما نحن فيه معتبر من حيث السلامة من العارض المعارض ، فلا شك في انحتام القصد إلى الجزئي ، وما تقدم معتبر من حيث ورود العارض على الكلي ، حتى إن تخلف الجزئي هنالك ، إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كليه من جهة أخرى ، كما نقول : إن حفظ النفوس مشروع - وهذا كلي مقطوع بقصد الشارع إليه - ، ثم شرع القصاص حفظا للنفوس ، فقتل النفس في القصاص محافظة عليها بالقصد ، ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه ، وهو إتلاف هذه النفس لعارض عرض وهو الجناية على النفس; فإهمال هذا الجزئي في كليه من جهة المحافظة على جزئي في كليه أيضا ، وهو النفس المجني عليها; فصار عين اعتبار الجزئي في كلي هو عين إهمال الجزئي ، لكن في المحافظة على كليه من وجهين ، وهكذا سائر ما يرد من هذا الباب .
[ ص: 99 ] فعلى هذا تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إن كان لغير عارض; فلا يصح شرعا ، وإن كان لعارض ، فذلك راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى ، أو على كلي آخر; فالأول يكون قادحا تخلفه في الكلي ، والثاني لا يكون تخلفه قادحا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (48)
صـ100 إلى صـ 107
النوع الثاني
في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام ويتضمن مسائل
المسألة الأولى
إن هذه الشريعة المباركة عربية ، لا مدخل فيها للألسن العجمية ، وهذا - وإن كان مبينا في أصول الفقه ، وأن القرآن ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين ، أو فيه ألفاظ أعجمية تكلمت بها العرب ، وجاء القرآن على وفق ذلك; فوقع فيه المعرب الذي ليس من أصل كلامها - ، فإن هذا البحث [ ص: 102 ] على هذا الوجه غير مقصود هنا .
وإنما البحث المقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة ، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة ; لأن الله تعالى يقول : إنا أنزلناه قرآنا عربيا [ يوسف : 2 ] .
وقال : بلسان عربي مبين [ الشعراء : 195 ] .
وقال : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ] .
وقال : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي [ فصلت : 44 ] .
إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب ، لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم ، فمن أراد تفهمه; فمن جهة لسان العرب يفهم ، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة ، هذا هو المقصود من المسألة .
وأما كونه جاءت فيه ألفاظ من ألفاظ العجم ، أو لم يجئ فيه شيء من ذلك; فلا يحتاج إليه إذا كانت العرب قد تكلمت به ، وجرى في خطابها ، وفهمت معناه ، فإن العرب إذا تكلمت به صار من كلامها ، ألا ترى أنها لا تدعه على لفظه الذي كان عليه عند العجم ، إلا إذا كانت حروفه في المخارج والصفات كحروف العرب ، وهذا يقل وجوده ، وعند ذلك يكون منسوبا إلى العرب ، فأما إذا لم تكن حروفه كحروف العرب ، أو كان بعضها كذلك دون [ ص: 103 ] بعض; فلا بد لها من أن تردها إلى حروفها ، ولا تقبلها على مطابقة حروف العجم أصلا ، ومن أوزان الكلم ما تتركه على حاله في كلام العجم ، ومنها ما تتصرف فيه بالتغيير كما تتصرف في كلامها ، وإذا فعلت ذلك صارت تلك الكلم مضمومة إلى كلامها ، كالألفاظ المرتجلة ، والأوزان المبتدأة لها ، هذا معلوم عند أهل العربية لا نزاع فيه ولا إشكال .
ومع ذلك; فالخلاف الذي يذكره المتأخرون في خصوص المسألة لا ينبني عليه حكم شرعي ، ولا يستفاد منه مسألة فقهية ، وإنما يمكن فيها أن توضع مسألة كلامية ينبني عليها اعتقاد ، وقد كفى الله مؤونة البحث فيها بما استقر عليه كلام أهل العربية في الأسماء الأعجمية .
فإن قلنا : إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه ، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها ، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره ، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه ، وبالعام يراد به الخاص ، والظاهر يراد به غير الظاهر ، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره ، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره ، أو آخره عن أوله ، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة ، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة ، والأشياء الكثيرة باسم واحد ، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها .
[ ص: 104 ] فإذا كان كذلك; فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب ، فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب ، كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم; لاختلاف الأوضاع والأساليب ، والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام ، في رسالته الموضوعة في أصول الفقه ، وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ; فيجب التنبه لذلك ، وبالله التوفيق .
[ ص: 105 ] المسألة الثانية
للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران :
أحدهما : من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة ، دالة على معان مطلقة ، وهي الدلالة الأصلية .
والثاني : من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة ، وهي الدلالة التابعة .
فالجهة الأولى هي التي يشترك فيها جميع الألسنة ، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين ، ولا تختص بأمة دون أخرى ، فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام ، ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام ، تأتى له ما أراد من غير كلفة ، ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين - ممن ليسوا من أهل اللغة العربية - وحكاية كلامهم ، ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها ، وهذا لا إشكال فيه .
وأما الجهة الثانية; فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار ، فإن كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الإخبار بحسب الخبر والمخبر والمخبر عنه والمخبر به ، ونفس الإخبار في الحال ، والمساق ، ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء ، والإيجاز والإطناب ، وغير ذلك .
وذلك أنك تقول في ابتداء الإخبار : قام زيد إن لم تكن ثم عناية بالمخبر عنه ، بل بالخبر ، فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت : زيد قام ، وفي جواب السؤال أو ما هو منزل تلك المنزلة : إن زيدا قام ، وفي جواب المنكر [ ص: 106 ] لقيامه : والله إن زيدا قام ، وفي إخبار من يتوقع قيامه أو الإخبار بقيامه : قد قام زيد ، أو زيد قد قام ، وفي التنكيت على من ينكر : إنما قام زيد .
ثم يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره - أعني المخبر عنه - ، وبحسب الكناية عنه والتصريح به ، وبحسب ما يقصد في مساق الأخبار ، وما يعطيه مقتضى الحال ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها ، وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام عن زيد .
فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ليست هي المقصود الأصلي ، ولكنها من مكملاته ومتمماته ، وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر ، وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن ، لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه ، وفي بعضها على وجه آخر ، وفي ثالثة على وجه ثالث ، وهكذا ما تقرر فيه من الإخبارات ، لا بحسب النوع الأول ، إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض ونص عليه في بعض ، وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت ، وما كان ربك نسيا [ مريم : 64 ] .
فصل
وإذا ثبت هذا; فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال ، فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى [ ص: 107 ] لسان غير عربي ، إلا مع فرض استواء اللسانين في اعتباره عينا ، كما إذا استوى اللسانان في استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه ، فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر ، وإثبات مثل هذا بوجه بين عسير جدا ، وربما أشار إلى شيء من ذلك أهل المنطق من القدماء ، ومن حذا حذوهم من المتأخرين ، ولكنه غير كاف ولا مغن في هذا المقام .
وقد نفى ابن قتيبة إمكان الترجمة في القرآن - يعني على هذا الوجه الثاني - ، فأما على الوجه الأول; فهو ممكن ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه ، وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام ، فصار هذا الاتفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (49)
صـ108 إلى صـ 126
فصل
وإذا اعتبرت الجهة الثانية مع الأولى وجدت كوصف من أوصافها; لأنها كالتكملة للعبارة والمعنى من حيث الوضع للإفهام ، وهل تعد معها كوصف من [ ص: 108 ] الأوصاف الذاتية ؟ أو هي كوصف غير ذاتي ؟ في ذلك نظر وبحث ينبني عليه من المسائل الفرعية - جملة ، إلا أن الاقتصار على ما ذكر فيها كاف; فإنه كالأصل لسائر الأنظار المتفرعة; فالسكوت عن ذلك أولى ، وبالله التوفيق .
المسالة الثالثة
هذه الشريعة المباركة أمية ; لأن أهلها كذلك فهو أجرى على اعتبار المصالح ، ويدل على ذلك أمور :
أحدها : النصوص المتواترة اللفظ والمعنى ، كقوله تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم [ الجمعة : 2 ] .
وقوله : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته [ الأعراف : 158 ] .
[ ص: 110 ] وفي الحديث : بعثت إلى أمة أمية لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين ، والأمي منسوب إلى الأم ، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره ، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها .
وفي الحديث : نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقد فسر معنى الأمية في الحديث; أي ليس لنا علم بالحساب ولا الكتاب .
ونحوه قوله تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك [ العنكبوت : 48 ] .
وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة ، الدالة على أن [ ص: 111 ] الشريعة موضوعة على وصف الأمية ، لأن أهلها كذلك .
والثاني : أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما; إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا ، فإن كان كذلك ، فهو معنى كونها أمية ; أي منسوبة إلى الأميين ، وإن لم تكن كذلك; لزم أن تكون على غير ما عهدوا ، فلم تكن لتتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد ، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها ، فلا بد أن تكون على ما يعهدون ، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية ، فالشريعة إذا أمية .
والثالث : أنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزا ، [ ص: 112 ] ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم : هذا على غير ما عهدنا; إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام ، من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا ، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف ، فلم تقم الحجة عليهم به ، ولذلك قال سبحانه : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي [ فصلت : 44 ] فجعل الحجة على فرض كون القرآن أعجميا ، ولما قالوا : إنما يعلمه بشر [ النحل : 103 ] رد الله عليهم بقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ] لكنهم أذعنوا لظهور الحجة ، فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدهم بمثله ، مع العجز عن مماثلته ، وأدلة هذا المعنى كثيرة .
فصل
واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس ، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق ، واتصاف بمحاسن شيم ، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه ، وأبطلت ما هو باطل ، وبينت منافع ما ينفع من ذلك ، ومضار ما يضر منه .
فمن علومها علم النجوم وما يختص بها من الاهتداء في البر والبحر ، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها ، وتعرف منازل سير النيرين ، وما يتعلق بهذا [ ص: 113 ] المعنى ، وهو معنى مقرر في أثناء القرآن في مواضع كثيرة ، كقوله تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر [ الأنعام : 97 ] .
وقوله : وبالنجم هم يهتدون [ النحل : 16 ] .
وقوله : والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار [ يس : 39 - 40 ] .
وقوله : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب [ يونس : 5 ] .
وقوله : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة [ الإسراء : 12 ] الآية .
وقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين [ الملك : 5 ] .
وقوله : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ البقرة : 189 ] .
وما أشبه ذلك .
[ ص: 114 ] ومنها : علوم الأنواء ، وأوقات نزول الأمطار ، وإنشاء السحاب ، وهبوب الرياح المثيرة لها ، فبين الشرع حقها من باطلها ، فقال تعالى : هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده [ الرعد : 12 - 13 ] الآية .
وقال : أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون [ الواقعة : 68 - 69 ] .
وقال : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا [ النبأ : 14 ] .
وقال : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون [ الواقعة : 82 ] .
خرج الترمذي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون [ الواقعة : 82 ] ; قال شكركم ، تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، وبنجم كذا [ ص: 115 ] وكذا .
وفي الحديث : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي الحديث في الأنواء .
[ ص: 116 ] وفي الموطأ مما انفرد به : إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت; فتلك عين غديقة .
[ ص: 117 ] وقال عمر بن الخطاب للعباس وهو على المنبر والناس تحته : كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال له العباس : بقي من نوئها كذا وكذا .
فمثل هذا مبين للحق من الباطل في أمر الأنواء والأمطار .
وقال تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه [ الحجر : 22 ] الآية .
وقال : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها [ فاطر : 9 ] .
إلى كثير من هذا .
ومنها : علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية ، وفي القرآن من ذلك ما هو كثير ، وكذلك في السنة ، ولكن القرآن احتفل في ذلك ، وأكثره من الإخبار بالغيوب التي لم يكن للعرب بها علم ، لكنها من جنس ما كانوا ينتحلون ، [ ص: 118 ] قال تعالى : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم [ آل عمران : 44 ] الآية .
وقال تعالى : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا [ هود : 49 ] .
وفي الحديث قصة أبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء البيت وغير ذلك مما جرى .
ومنها : ما كان أكثره باطلا أو جميعه; كعلم العيافة ، والزجر ، والكهانة ، وخط الرمل ، والضرب بالحصى ، والطيرة; فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل [ ص: 119 ] ونهت عنه; كالكهانة ، والزجر ، وخط الرمل ، وأقرت الفأل لا من جهة تطلب الغيب; فإن الكهانة والزجر كذلك ، وأكثر هذه الأمور تحرص على علم الغيب من غير دليل; فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض ، وهو الوحي والإلهام . وأبقي للناس من ذلك بعد موته عليه السلام - جزء من النبوة ، وهو الرؤيا الصالحة ، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة .
[ ص: 120 ] ومنها : علم الطب; فقد كان في العرب منه شيء لا على ما عند الأوائل ، بل مأخوذ من تجاريب الأميين ، غير مبني على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون ، وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة ، لكن على وجه جامع شاف قليل يطلع منه على كثير; فقال تعالى : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا [ الأعراف : 31 ] .
وجاء في الحديث التعريف ببعض الأدوية لبعض الأدواء ، وأبطل من [ ص: 121 ] ذلك ما هو باطل; كالتداوي بالخمر ، والرقى التي اشتملت على ما لا يجوز شرعا .
ومنها : التفنن في علم فنون البلاغة ، والخوض في وجوه الفصاحة ، والتصرف في أساليب الكلام ، وهو أعظم منتحلاتهم; فجاءهم بما أعجزهم من القرآن الكريم ، قال تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ الإسراء : 88 ] .
[ ص: 122 ] ومنها : ضرب الأمثال ، وقد قال تعالى : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل [ الروم : 58 ] ; إلا ضربا واحدا ، وهو الشعر ، فإن الله نفاه وبرأ الشريعة منه ، قال تعالى في حكايته عن الكفار : أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين [ الصافات : 36 ] ; أي لم يأت بشعر فإنه ليس بحق ، ولذلك قال : وما علمناه الشعر وما ينبغي له [ يس : 69 ] الآية .
وبين معنى ذلك في قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون [ الشعراء : 224 - 226 ] .
فظهر أن الشعر ليس مبنيا على أصل ، ولكنه هيمان على غير تحصيل ، وقول لا يصدقه فعل ، وهذا مضاد لما جاءت به الشريعة إلا ما استثنى الله تعالى .
فهذا أنموذج ينبهك على ما نحن بسبيله بالنسبة إلى علوم العرب الأمية .
وأما ما يرجع إلى الاتصاف بمكارم الأخلاق وما ينضاف إليها; فهو أول ما خوطبوا به ، وأكثر ما تجد ذلك في السور المكية ، من حيث كان آنس لهم ، [ ص: 123 ] وأجري على ما يتمدح به عندهم; كقوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى [ النحل : 90 ] إلى آخرها .
وقوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا [ الأنعام : 151 ] إلى انقضاء تلك الخصال .
وقوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده [ الأعراف : 32 ] .
وقوله : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق [ الأعراف : 33 ] .
إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا المعنى .
لكن أدرج فيها ما هو أولى ؛ من النهي عن الإشراك والتكذيب بأمور الآخرة ، وشبه ذلك مما هو المقصود الأعظم ، وأبطل لهم ما كانوا يعدونه كرما وأخلاقا حسنة وليس كذلك ، أو فيه من المفاسد ما يربي على المصالح التي توهموها; كما قال تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [ المائدة : 90 ] .
ثم بين ما فيها من المفاسد خصوصا في الخمر والميسر; من إيقاع العداوة والبغضاء ، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهذا في الفساد أعظم مما ظنوه فيهما صلاحا; لأن الخمر كانت عندهم تشجع الجبان ، وتبعث البخيل على البذل ، وتنشط الكسالى ، والميسر كذلك كان عندهم محمودا لما كانوا يقصدون به من إطعام الفقراء والمساكين ، والعطف على المحتاجين ، وقد قال تعالى : [ ص: 124 ] يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ البقرة : 219 ] .
والشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق ، ولهذا قال عليه السلام : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .
إلا أن مكارم الأخلاق إنما كانت على ضربين :
أحدهما : ما كان مألوفا وقريبا من المعقول المقبول ، كانوا في ابتداء الإسلام إنما خوطبوا به ، ثم لما رسخوا فيه تمم لهم ما بقي ، وهو :
الضرب الثاني : وكان منه ما لا يعقل معناه من أول وهلة فأخر; حتى كان من آخره تحريم الربا ، وما أشبه ذلك ، وجميع ذلك راجع إلى مكارم الأخلاق ، وهو الذي كان معهودا عندهم على الجملة .
[ ص: 125 ] ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام ، كما قالوا في القراض ، وتقدير الدية ، وضربها على العاقلة ، وإلحاق الولد بالقافة ، والوقوف بالمشعر الحرام ، والحكم في الخنثى ، وتوريث الولد للذكر مثل حظ الأنثيين ، والقسامة ، وغير ذلك مما ذكره العلماء .
ثم نقول : لم يكتف بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون; من سماء ، وأرض ، وجبال ، وسحاب ، ونبات ، وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك ، ولما كان الباقي عندهم من شرائع الأنبياء شيء من شريعة إبراهيم عليه السلام أبيهم ، خوطبوا من تلك الجهة ودعوا إليها ، وأن ما جاء به محمد هي تلك بعينها ، كقوله تعالى : ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا [ الحج : 78 ] .
وقوله : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا [ آل عمران : 67 ] الآية .
غير أنهم غيروا جملة منهم ، وزادوا ، واختلفوا ، فجاء تقويمها من جهة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم ، وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا ، لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعيم الدنيوي; كقوله : وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود [ الواقعة : 27 - 30 ] إلى آخر الآيات .
وبين من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم; كالماء ، [ ص: 126 ] واللبن ، والخمر ، والعسل ، والنخيل ، والأعناب ، وسائر ما هو عندهم مألوف دون الجوز ، واللوز ، والتفاح ، والكمثرى ، وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم ، بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة .
وقال تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ النحل : 125 ] .
فالقرآن كله حكمة ، وقد كانوا عارفين بالحكمة ، وكان فيهم حكماء; فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله ، وكان فيهم أهل وعظ وتذكير; كقس بن ساعدة وغيره ، ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل ، ومن تأمل القرآن وتأمل كلام العرب في هذه الأمور الثلاثة; وجد الأمر سواء إلا ما اختص به كلام الله من الخواص المعروفة .
وسر في جميع ملابسات العرب هذا السير; تجد الأمر كما تقرر ، وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (50)
صـ127 إلى صـ 135
المسألة الرابعة
ما تقرر من أمية الشريعة ، وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب ، ينبني عليه قواعد :
منها : أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد; فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين ; من علوم الطبيعيات والتعاليم ، والمنطق ، وعلم الحروف ، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها ، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح ، وإلى هذا; فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه ، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى ، سوى ما تقدم ، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف ، وأحكام الآخرة ، وما يلي ذلك ، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر ، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة; إلا أن [ ص: 128 ] ذلك لم يكن فدل على أنه غير موجود عندهم ، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا ، نعم ، تضمن علوما هي من جنس علوم العرب ، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بإعلامه ، والاستنارة بنوره ، أما أن فيه ما ليس من ذلك ، فلا .
[ ص: 129 ] وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ النحل : 89 ] .
وقوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] .
ونحو ذلك ، وبفواتح السور وهي مما لم يعهد عند العرب ، وبما نقل عن الناس فيها ، وربما حكي من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء .
فأما الآيات; فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد ، أو المراد بالكتاب في قوله :ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] اللوح المحفوظ ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية .
وأما فواتح السور; فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا; كعدد الجمل الذي تعرفوه من أهل الكتاب ، حسب ما ذكره أصحاب السير ، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى ، وغير ذلك ، وأما تفسيرها بما لا عهد به; فلا يكون ، ولم يدعه أحد ممن تقدم ، فلا دليل فيها على ما [ ص: 130 ] ادعوا ، وما ينقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت ، فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه ، كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه ، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة .
[ ص: 131 ] فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية ، فمن طلبه بغير ما هو أداة له; ضل عن فهمه ، وتقول على الله ورسوله فيه ، والله أعلم ، وبه التوفيق .
فصل
ومنها : أنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين ، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر; فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة ، وإن لم يكن ثم عرف ، فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه .
وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب ، مثال ذلك أن معهود العرب أن لا ترى الألفاظ تعبدا عند محافظتها على المعاني ، وإن كانت تراعيها أيضا; فليس أحد الأمرين عندها بملتزم ، بل قد تبني على أحدهما مرة ، وعلى الآخر أخرى ، ولا يكون ذلك قادحا في صحة كلامها واستقامته .
والدليل على ذلك أشياء :
أحدها : خروجها في كثير من كلامها عن أحكام القوانين المطردة والضوابط المستمرة ، وجريانها في كثير من منثورها على طريق منظومها ، وإن [ ص: 132 ] لم يكن بها حاجة ، وتركها لما هو أولى في مراميها ، ولا يعد ذلك قليلا في كلامها ولا ضعيفا ، بل هو كثير قوي ، وإن كان غيره أكثر منه .
والثاني : أن من شأنها الاستغناء ببعض الألفاظ عما يراد فيها أو يقاربها ، ولا يعد ذلك اختلافا ولا اضطرابا إذا كان المعنى المقصود على استقامة ، والكافي من ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف ، وفي هذا المعنى من الأحاديث وكلام السلف العارفين بالقرآن كثير ، وقد استمر أهل القراءات على أن يعملوا بالروايات التي صحت عندهم مما وافق المصحف ، وأنهم في ذلك قارئون للقرآن من غير شك ولا إشكال ، وإن كان بين القراءتين ما يعده الناظر ببادئ الرأي اختلافا في المعنى; لأن معنى الكلام من أوله إلى آخره على استقامة لا تفاوت فيه بحسب مقصود الخطاب ، كـ مالك [ الفاتحة : 4 ] .
و " ملك " [ الفاتحة : 4 ] .
" وما يخدعون إلا أنفسهم " [ البقرة : 9 ] .
" وما يخادعون إلا أنفسهم " [ البقرة : 9 ] .
[ ص: 133 ] لنبوئنهم من الجنة غرفا [ العنكبوت : 58 ] .
" لنبوئنهم من الجنة غرفا " .
إلى كثير من هذا; لأن جميع ذلك لا تفاوت فيه بحسب فهم ما أريد من الخطاب ، وهذا كان عادة العرب .
ألا ترى ما حكى ابن جني عن عيسى بن عمر ، وحكي عن غيره أيضا; قال : سمعت ذا الرمة ينشد :
وظاهر لها من يابس الشخت واستعن عليها الصبا واجعل يديك لها سترا
.
فقلت : أنشدتني : من بائس; فقال : يابس وبائس واحد .
فأنت ترى ذا الرمة لم يعبأ بالاختلاف بين البؤس واليبس; لما كان معنى البيت قائما على الوجهين ، وصوابا على كلتا الطريقتين ، وقد قال في رواية أبي العباس الأحول : " البؤس واليبس واحد " ; يعني : بحسب قصد الكلام لا بحسب تفسير اللغة .
[ ص: 134 ] وعن أحمد بن يحيى; قال : أنشدني ابن الأعرابي :
وموضع زين لا أريد مبيته كأني به من شدة الروع آنس
.
فقال له شيخ من أصحابه : ليس هكذا أنشدتنا ، وإنما أنشدتنا : وموضع ضيق ، فقال : سبحان الله ! تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزين والضيق واحد ؟ !
وقد جاءت أشعارهم على روايات مختلفة ، وبألفاظ متباينة ، يعلم من مجموعها أنهم كانوا لا يلتزمون لفظا واحدا على الخصوص ، بحيث يعد مرادفه أو مقاربه عيبا أو ضعفا ، إلا في مواضع مخصوصة لا يكون ما سواه من المواضع محمولا عليها ، وإنما معهودها الغالب ما تقدم .
والثالث : أنها قد تهمل بعض أحكام اللفظ وإن كانت تعتبره على الجملة; كما استقبحوا العطف على الضمير المرفوع المتصل مطلقا ، ولم يفرقوا بين ما له لفظ; وما ليس له لفظ ، فقبح " قمت وزيد " كما قبح " قام وزيد " وجمعوا في الردف بين عمود ويعود من غير استكراه ، وواو عمود أقوى في المد ، [ ص: 135 ] وجمعوا بين سعيد وعمود مع اختلافهما ، وأشباه ذلك من الأحكام اللطيفة التي تقتضيها الألفاظ في قياسها النظري ، لكنها تهملها وتوليها جانب الإعراض ، وما ذلك إلا لعدم تعمقها في تنقيح لسانها .
والرابع : أن الممدوح من كلام العرب عند أرباب العربية ما كان بعيدا عن تكلف الاصطناع ، ولذلك إذا اشتغل الشاعر العربي بالتنقيح اختلف في الأخذ عنه; فقد كان الأصمعي يعيب الحطيئة ، واعتذر عن ذلك بأن قال : " وجدت شعره كله جيدا; فدلني على أنه كان يصنعه ، وليس هكذا الشاعر المطبوع ، إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه ، جيده على رديئه " ، وما قاله هو الباب المنتهج ، والطريق المهيع عند أهل اللسان ، وعلى الجملة; فالأدلة على هذا المعنى كثيرة ، ومن زاول كلام العرب وقف من هذا على علم .
وإذا كان كذلك; فلا يستقيم للمتكلم في كتاب الله أو سنة رسول الله أن يتكلف فيهما فوق ما يسعه لسان العرب ، وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به ، والوقوف عند ما حدته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (51)
صـ136 إلى صـ 150
فصل
ومنها : أنه إنما يصح في مسلك الأفهام والفهم ما يكون عاما لجميع العرب; فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعاني ، فإن الناس في الفهم وتأتي التكليف فيه ليسوا على وزان واحد ولا متقارب ، إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية وما والاها ، وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا ، ولم يكونوا بحيث يتعمقون في كلامهم ولا في أعمالهم إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم ، اللهم إلا أن يقصدوا أمرا خاصا لأناس خاصة ، فذاك كالكنايات الغامضة والرموز البعيدة ، التي تخفى عن الجمهور ، ولا تخفى عمن قصد بها ، وإلا كان خارجا عن حكم معهودها .
فكذلك يلزم أن ينزل فهم الكتاب والسنة ، بحيث تكون معانيه مشتركة لجميع العرب ، ولذلك أنزل القرآن على سبعة أحرف ، واشتركت فيه اللغات [ ص: 137 ] حتى كانت قبائل العرب تفهمه .
وأيضا; فمقتضاه من التكليف لا يخرج عن هذا النمط; لأن الضعيف ليس كالقوي ، ولا الصغير كالكبير ، ولا الأنثى كالذكر ، بل كل له حد ينتهي إليه في العادة الجارية ، فأخذوا بما يشترك الجمهور في القدرة عليه ، وألزموا ذلك من طريقهم : بالحجة القائمة ، والموعظة الحسنة ، ونحو ذلك ، ولو شاء الله لألزمهم ما لا يطيقون ، ولكلفهم بغير قيام حجة ، ولا إتيان ببرهان ، ولا وعظ ، ولا تذكير ، ولطوقهم فهم ما لا يفهم ، وعلم ما لم يعلم ، فلا حجر عليه في ذلك ، فإن حجة الملك قائمة ، قل فلله الحجة البالغة [ الأنعام : 149 ] .
لكن الله سبحانه خاطبهم من حيث عهدوا ، وكلفهم من حيث لهم القدرة على ما به كلفوا ، وغذوا في أثناء ذلك بما يستقيم به منآدهم ، ويقوى به ضعيفهم ، وتنتهض به عزائمهم : من الوعد تارة ، والوعيد أخرى ، والموعظة الحسنة أخرى ، وبيان مجاري العادات فيمن سلف من الأمم الماضية ، والقرون الخالية ، إلى غير ذلك مما في معناه ، حتى يعلموا أنهم لم ينفردوا بهذا الأمر دون الخلق الماضين ، بل هم مشتركون في مقتضاه ، ولا يكونون مشتركين إلا فيما لهم منة على تحمله ، وزادهم تخفيفا دون الأولين ، وأجرى فوقهم فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم .
[ ص: 138 ] وقد خرج الترمذي وصححه عن أبي بن كعب; قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ، فقال : يا جبريل ! إني بعثت إلى أمة أميين; منهم العجوز ، والشيخ الكبير ، والغلام ، والجارية ، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط . قال يا محمد : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف .
فالحاصل أن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذي يسع الأميين كما يسع غيرهم .
فصل
ومنها : أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم ، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني ، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها ، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية; فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد ، والمعنى هو المقصود ، ولا أيضا كل المعاني ، فإن [ ص: 139 ] المعنى الإفرادي قد يعبأ به ، إذا كان المعنى التركيبي مفهوما دونه ، كما لم يعبأ ذو الرمة " ببائس " ولا " يابس " اتكالا منه على أن حاصل المعنى مفهوم .
وأبين من هذا ما في " جامع الإسماعيلي المخرج على صحيح البخاري " عن أنس بن مالك; أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ : وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] ، قال : ما الأب ؟ ثم قال : ما كلفنا هذا ، أو قال : ما أمرنا بهذا .
وفيه أيضا عن أنس ; أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله : وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] : ما الأب ؟ فقال عمر : نهينا عن التعمق والتكلف .
ومن المشهور تأديبه لصبيغ حين كان يكثر السؤال عن " المرسلات [ المرسلات : 1 ] " و " العاصفات " [ المرسلات : 2 ] ونحوهما .
وظاهر هذا كله أنه إنما نهى عنه; لأن المعنى التركيبي معلوم على الجملة ، ولا ينبني على فهم هذه الأشياء حكم تكليفي ، فرأى أن الاشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلف ، ولهذا أصل في الشريعة صحيح; نبه عليه قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب [ البقرة : 177 ] إلى آخر الآية ، فلو كان فهم اللفظ الإفرادي يتوقف عليه فهم التركيبي; لم يكن تكلفا ، بل هو مضطر إليه ، كما روي عن عمر نفسه في قوله تعالى : أو يأخذهم على تخوف [ النحل : 47 ] فإنه سئل عنه على المنبر ، فقال له رجل من هذيل : التخوف عندنا التنقص ، ثم أنشده :
[ ص: 140 ]
تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن
.
فقال عمر : أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم ، فإن فيه تفسير كتابكم ، فليس بين الخبرين تعارض; لأن هذا قد توقف فهم معنى الآية عليه ، بخلاف الأول ، فإذا كان الأمر هكذا ، فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب; لأنه المقصود والمراد وعليه ينبني الخطاب ابتداء ، وكثيرا ما يغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة ، فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي ، فتستبهم على الملتمس ، وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب ، فيكون عمله في غير معمل ، ومشيه على غير طريق ، والله الواقي برحمته .
[ ص: 141 ] فصل
ومنها : أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها ، ليسعه الدخول تحت حكمها .
أما الاعتقادية - بأن تكون من القرب للفهم ، والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور ، من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدا ، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة ، ولم تكن أمية ، وقد ثبت كونها كذلك ، فلا بد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ .
وأيضا; فلو لم تكن كذلك لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق ، وهو غير واقع كما هو مذكور في الأصول ، ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور الإلهية إلا بما يسع فهمه ، وأرجت غير ذلك ، فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات ، وحضت على النظر في المخلوقات إلى أشباه ذلك ، وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة ، وهو قوله تعالى : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] ، وسكتت عن أشياء لا تهتدي إليها العقول ، نعم ، لا ينكر [ ص: 142 ] تفاضل الإدراكات على الجملة ، وإنما النظر في القدر المكلف به .
ومما يدل على ذلك أيضا أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يبلغنا عنهم من الخوض في هذه الأمور ما يكون أصلا للباحثين والمتكلفين ، كما لم يأت ذلك عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام ، وكذلك التابعون المقتدى بهم لم يكونوا إلا على ما كان عليه الصحابة ، بل الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه النهي عن الخوض في الأمور الإلهية وغيرها; حتى قال : لن يبرح الناس يتساءلون ، حتى يقولوا : هذا الله خالق كل شيء ، فمن خلق الله ؟ .
وثبت النهي عن كثرة السؤال ، وعن تكلف ما لا يعني عاما في الاعتقاديات والعمليات ، وأخبر مالك أن من تقدم كانوا يكرهون الكلام إلا فيما تحته عمل ، وإنما يريد ما كان من الأشياء التي لا تهتدي العقول لفهمها مما [ ص: 143 ] سكت عنه ، أو مما وقع نادرا من المتشابهات محالا به على آية التنزيه .
وعلى هذا; فالتعمق في البحث فيها وتطلب ما لا يشترك الجمهور في فهمه خروج عن مقتضى وضع الشريعة الأمية; فإنه ربما جمحت النفس إلى طلب ما لا يطلب منها; فوقعت في ظلمة لا انفكاك لها منها ، ولله در القائل :
وللعقول قوى تستن دون مدى إن تعدها ظهرت فيها اضطرابات
.
ومن طماح النفوس إلى ما لم تكلف به نشأت الفرق كلها أو أكثرها .
وأما العمليات ; فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات في الأمور ، بحيث يدركها الجمهور كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم; كتعريفها بالظلال ، وطلوع الفجر والشمس ، وغروبها وغروب الشفق ، وكذلك في الصيام في قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [ البقرة : 187 ] ولما كان فيهم من حمل العبارة على حقيقتها; نزل : من الفجر .
وفي الحديث : إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا ، وغربت الشمس; فقد أفطر الصائم .
[ ص: 144 ] وقال : نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ، الشهر هكذا وهكذا .
وقال : لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم; فأكملوا العدة ثلاثين .
ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر في المنازل; لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها ، ولدقة الأمر فيه ، وصعوبة الطريق إليه ، وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين ، وعذر الجاهل فرفع [ ص: 145 ] عنه الإثم ، وعفا عن الخطأ ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور ، فلا يصح الخروج عما حد في الشريعة ، ولا تطلب ما وراء هذه الغاية ، فإنها مظنة الضلال ، ومزلة الأقدام .
فإن قيل : هذا مخالف لما نقل عنهم من تدقيق النظر في مواقع الأحكام ، ومظان الشبهات ، ومجاري الرياء ، والتصنع للناس ، ومبالغتهم في التحرز من الأمور المهلكات - التي هي عند الجمهور من الدقائق - التي لا يهتدي إلى فهمها والوقوف عليها إلا الخواص ، وقد كانت عندهم عظائم ، وهي مما لا يصل إليها الجمهور .
وأيضا لو كانت كذلك لم يكن للعلماء مزية على سائر الناس ، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم خاصة وعامة ، وكان للخاصة من الفهم في الشريعة ما لم يكن للعامة ، وإن كان الجميع عربا وأمة أمية ، وهكذا سائر القرون إلى اليوم ، فكيف هذا ؟
وأيضا; فإن الشريعة قد اشتملت على ما تعرفه العرب عامة ، وما يعرفه العلماء خاصة ، وما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وذلك المتشابهات فهي شاملة لما يوصل إلى فهمه على الإطلاق ، وما لا يوصل إليه على الإطلاق ، وما يصل إليه البعض دون البعض ، فأين الاختصاص بما يليق بالجمهور خاصة ؟
فالجواب أن يقال : أما المتشابهات; فإنها من قبيل غير ما نحن فيه لأنها إما راجعة إلى أمور إلهية لم يفتح الشارع لفهمها بابا غير التسليم والدخول تحت [ ص: 146 ] آية التنزيه ، وإما راجعة إلى قواعد شرعية; فتتعارض أحكامها ، وهذا خاص مبني على عام هو ما نحن فيه ، وذلك أن هذه الأمور كلها يجاب عنها بأوجه :
أحدها : أنها أمور إضافية لم يتعبد بها أول الأمر للأدلة المتقدمة ، وإنما هي أمور تعرض لمن تمرن في علم الشريعة وزاول أحكام التكليف ، وامتاز عن الجمهور بمزيد فهم فيها ، حتى زايل الأمية من وجه ، فصار تدقيقه في الأمور الجليلة بالنسبة إلى غيره ممن لم يبلغ درجته ، فنسبته إلى ما فهمه ، نسبة العامي إلى ما فهمه ، والنسبة إذا كانت محفوظة ، فلا يبقى تعارض بين ما تقدم ، وما ذكر في السؤال .
والثاني : أن الله تعالى جعل أهل الشريعة على مراتب ليسوا فيها على وزان واحد ، ورفع بعضهم فوق بعض ، كما أنهم في الدنيا كذلك ، فليس من له مزيد في فهم الشريعة ، كمن لا مزيد له ، لكن الجميع جار على أمر مشترك .
والاختصاصات فيها هبات من الله لا تخرج أهلها عن حكم الاشتراك ، بل يدخلون مع غيرهم فيها ، ويمتازون هم بزيادات في ذلك الأمر المشترك [ ص: 147 ] بعينه ، فإن امتازوا بمزيد الفهم لم يخرجهم ذلك عن حكم الاشتراك ، فإن ذلك المزيد أصله الأمر المشترك .
كما نقول : إن الورع مطلوب من كل أحد على الجملة ، ومع ذلك فمنه ما هو من الجلائل ، كالورع عن الحرام البين والمكروه البين ، ومنه ما ليس من الجلائل عند قوم ، وهو منها عند قوم آخرين ، فصار الذين عدوه من الجلائل داخلين في القسم الأول على الجملة ، وإن كانوا قد امتازوا عنهم بالورع عن بعض ما لا يتورع عنه القسم الأول ، بناء على الشهادة بكون الموضع متأكدا لبيانه أو غير متأكد لدقته ، وهكذا سائر المسائل التي يمتاز بها الخواص عن العوام لا تخرج عن هذا القانون; فقد بان أن الجميع جارون على حكم أمر مشترك مفهوم للجمهور على الجملة .
والثالث : أن ما فيه التفاوت إنما تجده في الغالب في الأمور المطلقة في الشريعة التي لم يوضع لها حد يوقف عنده ، بل وكلت إلى نظر المكلف ، فصار كل أحد فيها مطلوبا بإدراكه ، فمن مدرك فيها أمرا قريبا ، فهو المطلوب منه ، ومن مدرك فيها أمرا هو فوق الأول ، فهو المطلوب منه ، وربما تفاوت [ ص: 148 ] الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته ، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها ، بل بما هو دونها ، ومن كان قادرا على ذلك كان مطلوبا ، وعلى هذا السبيل يعتبر ما جاء مما يظن أنه مخالف لما تقدم ، والله أعلم .
فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل بسببها ، أو إلى تعطيل عاداته التي يقوم بها صلاح دنياه ، ويتوسع بسببها في نيل حظوظه ، وذلك أن الأمي الذي لم يزاول شيئا من الأمور الشرعية ولا العقلية - وربما اشمأز قلبه عما يخرجه عن معتاده - بخلاف من كان له بذلك عهد ، ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في عشرين سنة ، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا ، ولم تنزل دفعة واحدة ، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة ، وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك ، قال له : " ما لك لا تنفذ الأمور ؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق " . قال له عمر : " لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين ، وحرمها في الثالثة ، وإنى أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة ، فيدفعوه جملة ، ويكون من ذا فتنة " .
[ ص: 149 ] وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي; فكان ما كان أجرى بالمصلحة وأجرى على جهة التأنيس ، وكان أكثرها على أسباب واقعة; فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع ، وكانت أقرب فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع ، وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكما حكما وجزئية جزئية ، لأنها إذا نزلت كذلك لم ينزل حكم إلا والذي قبله قد صار عادة ، واستأنست به نفس المكلف الصائم عن التكليف ، وعن العلم به رأسا ، فإذا نزل الثاني كانت النفس أقرب للانقياد له ، ثم كذلك في الثالث والرابع .
ولذلك أونسوا في الابتداء بأن هذه الملة ملة إبراهيم عليه السلام ، كما يؤنس الطفل في العمل بأنه من عمل أبيه ، يقول تعالى : ملة أبيكم إبراهيم [ الحج : 78 ] .
ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ النحل : 123 ] .
إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه [ آل عمران : 68 ] .
إلى غير ذلك من الآيات ، فلو نزلت دفعة واحدة لتكاثرت التكاليف على المكلف; فلم يكن لينقاد إليها انقياده إلى الحكم الواحد أو الاثنين .
[ ص: 150 ] وفي الحديث : الخير عادة وإذا اعتادت النفس فعلا ما من أفعال الخير حصل له به نور في قلبه ، وانشرح به صدره; فلا يأتي فعل ثان إلا وفي النفس له القبول ، هذا في عادة الله في أهل الطاعة ، وعادة أخرى جارية في الناس أن النفس أقرب انقيادا إلى فعل يكون عندها فعل آخر من نوعه ، ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام يكره أضداد هذا ويحب ما يلائمه ، فكان يحب الرفق ويكره العنف ، وينهى عن التعمق والتكلف والدخول تحت ما لا يطاق حمله; لأن هذا كله أقرب إلى الانقياد ، وأسهل في التشريع للجمهور .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (52)
صـ151 إلى صـ 162
المسألة الخامسة
إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى اعتبارين : من جهة دلالته على المعنى الأصلي ، ومن جهة دلالته على المعنى التبعي الذي هو خادم للأصلي; كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذي تستفاد منه الأحكام ، وهل يختص بجهة المعنى الأصلي ، أو يعم الجهتين معا ؟
أما جهة المعنى الأصلي; فلا إشكال في صحة اعتبارها في الدلالة على الأحكام بإطلاق ، ولا يسع فيه خلاف على حال ، ومثال ذلك صيغ الأوامر والنواهي ، والعمومات والخصوصات ، وما أشبه ذلك مجردا من القرائن الصارفة لها عن مقتضى الوضع الأول .
وأما جهة المعنى التبعي; فهل يصح اعتبارها في الدلالة على الأحكام من حيث يفهم منها معان زائدة على المعنى الأصلي أم لا ؟ هذا محل تردد ، ولكل واحد من الطرفين وجه من النظر .
فللمصحح أن يستدل بأوجه :
أحدها : أن هذا النوع إما أن يكون معتبرا في دلالته على ما دل عليه ، أو لا ، ولا يمكن عدم اعتباره; لأنه إنما أتى به لذلك المعنى فلا بد من اعتباره فيه ، وهو زائد على المعنى الأصلي وإلا لم يصح ، فإذا كان هذا المعنى يقتضي حكما شرعيا; لم يمكن إهماله واطراحه ، كما لا يمكن ذلك بالنسبة إلى النوع الأول; فهو إذا معتبر ، وهو المطلوب .
والثاني : أن الاستدلال بالشريعة على الأحكام إنما هو من جهة كونها [ ص: 152 ] بلسان العرب ، لا من جهة كونها كلاما فقط ، وهذا الاعتبار يشمل ما دل بالجهة الأولى ، وما دل بالجهة الثانية ، هذا وإن قلنا : إن الثانية مع الأولى كالصفة مع الموصوف كالفصل والخاص; فذلك كله غير ضائر ، وإذا كان كذلك ، فتخصيص الأولى بالدلالة على الأحكام دون الثانية تخصيص من غير مخصص ، وترجيح من غير مرجح ، وذلك كله باطل ، فليست الأولى إذ ذاك بأولى للدلالة من الثانية ، فكان اعتبارهما معا هو المتعين .
والثالث : أن العلماء قد اعتبروها واستدلوا على الأحكام من جهتها في مواضع كثيرة ، كما استدلوا على أن أكثر مدة الحيض خمسة عشر يوما بقوله عليه السلام : تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي ، والمقصود الإخبار بنقصان [ ص: 153 ] الدين ، لا الإخبار بأقصى المدة ، ولكن المبالغة اقتضت ذكر ذلك ، ولو تصورت الزيادة لتعرض لها .
واستدل الشافعي على تنجيس الماء القليل بنجاسة لا تغيره ، بقوله عليه السلام : إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء ، حتى يغسلها الحديث; فقال : لولا أن قليل النجاسة ينجس لكان توهمه لا يوجب [ ص: 154 ] الاستحباب; فهذا الموضع لم يقصد فيه بيان حكم الماء القليل تحله قليل النجاسة ، لكنه لازم مما قصد ذكره .
وكاستدلالهم على تقدير أقل مدة الحمل ستة أشهر أخذا من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] ، مع قوله : وفصاله في عامين [ لقمان : 14 ] ; فالمقصد في الآية الأولى بيان مدة الأمرين جميعا من غير تفصيل ، ثم بين في الثانية مدة الفصال قصدا ، وسكت عن بيان مدة الحمل وحدها قصدا ، فلم يذكر له مدة فلزم من ذلك أن أقلها ستة أشهر .
وقالوا في قوله تعالى : فالآن باشروهن ، إلى قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [ البقرة : 187 ] الآية ، إنه يدل على جواز الإصباح جنبا ، وصحة الصيام ; لأن إباحة المباشرة إلى طلوع الفجر تقتضي ذلك ، وإن لم يكن مقصود البيان; لأنه لازم من القصد إلى بيان إباحة المباشرة والأكل والشرب .
واستدلوا على أن الولد لا يملك بقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] .
وأشباه ذلك من الآيات; فإن المقصود بإثبات العبودية لغير الله [ ص: 155 ] وخصوصا للملائكة نفي اتخاذ الولد ، لا أن الولد لا يملك ، لكنه لزم من نفي الولادة أن لا يكون المنسوب إليها إلا عبدا ، إذ لا موجود إلا رب أو عبد .
واستدلوا على ثبوت الزكاة في قليل الحبوب وكثيرها بقوله عليه الصلاة والسلام : فيما سقت السماء العشر الحديث ، مع أن المقصود تقدير [ ص: 156 ] الجزء المخرج لا تعيين المخرج منه ، ومثله كل عام نزل على سبب ، فإن الأكثر على الأخذ بالتعميم اعتبارا بمجرد اللفظ والمقصود ، وإن كان السبب على الخصوص .
واستدلوا على فساد البيع وقت النداء بقوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] مع أن المقصود إيجاب السعي لا بيان فساد البيع .
وأثبتوا القياس الجلي قياسا كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق ، مع أن المقصود في قوله عليه السلام : من أعتق شركا له في عبد مطلق الملك ; [ ص: 157 ] لا خصوص الذكر .
إلى غير ذلك من المسائل التي لا تحصى كثرة ، وجميعها تمسك بالنوع الثاني لا بالنوع الأول ، وإذا كان كذلك; ثبت أن الاستدلال من جهته صحيح مأخوذ به .
وللمانع أن يستدل أيضا بأوجه :
أحدها : أن هذه الجهة إنما هي بالفرض خادمة للأولى وبالتبع لها; فدلالتها على معنى إنما يكون من حيث هي مؤكدة للأولى ، ومقوية لها وموضحة لمعناها ، وموقعة لها من الأسماع موقع القبول ، ومن العقول موقع الفهم ، كما نقول في الأمر الآتي للتهديد أو التوبيخ; كقوله : اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] .
وقوله : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ الدخان : 49 ] .
فإن مثل هذا لم يقصد به الأمر ، وإنما هو مبالغة في التهديد أو الخزي ، [ ص: 158 ] فلذلك لم يقبل أن يؤخذ منه حكم في باب الأوامر ، ولا يصح أن يؤخذ ، وكما نقول في نحو : واسأل القرية التي كنا فيها [ يوسف : 82 ] : إن المقصود : سل أهل القرية ، ولكن جعلت القرية مسئولة مبالغة في الاستيفاء بالسؤال أو غير ذلك; فلم ينبن على إسناد السؤال للقرية حكم ، وكذلك قوله : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض [ هود : 107 ] بناء على القول بأنهما تفنيان ولا تدومان ، لما كان المقصود به الإخبار بالتأبيد لم يؤخذ منه انقطاع مدة العذاب للكفار . . . إلى أشياء من هذا المعنى لا يؤتى على حصرها ، وإذا كان [ ص: 159 ] كذلك; فليس لها من الدلالة على المعنى الذي وضعت له أمر زائد على الإيضاح والتأكيد والتقوية للجهة الأولى; فإذا ليس لها خصوص حكم يؤخذ منها زائدا على ذلك بحال .
والثاني : أنه لو كان لها موضع خصوص حكم يقرر شرعا دون الأولى لكانت هي الأولى; إذ كان يكون تقرير ذلك المعنى مقصودا بحق الأصل; فتكون العبارة عنه من الجهة الأولى لا من الثانية ، وقد فرضناه من الثانية ، هذا خلف لا يمكن .
[ ص: 160 ] لا يقال : إن كونها دالة بالتبع لا ينفي كونها دالة بالقصد ، وإن كان القصد ثانيا كما نقول في المقاصد الشرعية : إنها مقاصد أصلية ومقاصد تابعة ، والجميع مقصود للشارع ، ويصح من المكلف القصد إلى المقاصد التابعة مع الغفلة عن الأصلية ، وينبني على ذلك في أحكام التكليف حسب ما يأتي بعد إن شاء الله; فكذلك نقول هنا : إن دلالة الجهة الثانية لا تمنع قصد المكلف إلى فهم الأحكام منها; لأن نسبتها من فهم الشريعة نسبة تلك من الأخذ بها عملا ، وإذا اتحدت النسبة كان التفريق بينهما غير صحيح ، ولزم من اعتبار إحداهما اعتبار الأخرى ، كما يلزم من إهمال إحداهما إهمال الأخرى .
لأنا نقول : هذا - إن سلم - من أدل الدليل على ما تقدم ; لأنه إذا كان النكاح بقصد قضاء الوطر مثلا صحيحا ، من حيث كان مؤكدا للمقصود الأصلي من النكاح ، وهو النسل فغفلة المكلف عن كونه مؤكدا لا يقدح في كونه مؤكدا في قصد الشارع ، فكذلك نقول في مسألتنا : إن الجهة الثانية من حيث القصد في اللسان العربي إنما هي مؤكدة للأولى في نفس ما دلت عليه الأولى ، وما دلت عليه هو المعنى الأصلي ، فالمعنى التبعي راجع إلى المعنى الأصلي ، ويلزم من هذا أن لا يكون في المعنى التبعي زيادة على المعنى الأصلي ، وهو المطلوب .
وأيضا; فإن بين المسألتين فرقا ، وذلك أن النكاح بقصد قضاء الوطر إن كان داخلا من وجه تحت المقاصد التابعة للضروريات ، فهو داخل من وجه آخر تحت الحاجيات لأنه راجع إلى قصد التوسعة على العباد في نيل مآربهم ، وقضاء أوطارهم ، ورفع الحرج عنهم ، وإذا دخل تحت أصل الحاجيات; صح [ ص: 161 ] إفراده بالقصد من هذه الجهة ، ورجع إلى كونه مقصودا لا بالتبعية ، بخلاف مسألتنا; فإن الجهة التابعة لا يصح إفرادها بالدلالة على معنى غير التأكيد للأولى; لأن العرب ما وضعت كلامها على ذلك إلا بهذا القصد ، فلا يمكن الخروج عنه إلى غيره .
والثالث : أن وضع هذه الجهة على أن تكون تبعا للأولى يقتضي أن ما تؤديه من المعنى لا يصح أن يؤخذ إلا من تلك الجهة ، فلو جاز أخذه من غيرها لكان خروجا بها عن وضعها ، وذلك غير صحيح ، ودلالتها على حكم زائد على ما في الأولى خروج لها عن كونه تبعا للأولى ، فيكون استفادة الحكم من جهتها على غير فهم عربي ، وذلك غير صحيح ، فما أدى إليه مثله ، وما ذكر من استفادة الأحكام بالجهة الثانية غير مسلم ، وإنما هي راجعة إلى أحد أمرين : إما إلى الجهة الأولى ، وإما إلى جهة ثالثة غير ذلك .
فأما مدة الحيض; فلا نسلم أن الحديث دال عليها ، وفيه النزاع ، ولذلك يقول الحنفية : إن أكثرها عشرة أيام ، وإن سلم; فليس ذلك من جهة دلالة اللفظ بالوضع ، وفيه الكلام .
ومسألة الشافعي في نجاسة الماء من باب القياس أو غيره ، وأقل مدة [ ص: 162 ] الحمل مأخوذ من الجهة الأولى لا من الجهة الثانية ، وكذلك مسألة الإصباح جنبا; إذ لا يمكن غير ذلك ، وأما كون الولد لا يملك ، فالاستدلال عليه بالآية ممنوع وفيه النزاع ، وما ذكر في مسألة الزكاة ، فالقائل بالتعميم - إنما بنى على أن العموم مقصود ، ولم يبن على أنه غير مقصود ، وإلا كان تناقضا; لأن أدلة الشريعة إنما أخذ منها الأحكام الشرعية بناء على أنه هو مقصود الشارع ، فكيف يصح الاستدلال بالعموم مع الاعتراف بأن ظاهره غير مقصود ، وهكذا العام الوارد على سبب من غير فرق ، ومن قال بفسخ البيع وقت النداء بناء على قوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] فهو عنده مقصود لا ملغى ، وإلا لزم التناقض في الأمر كما ذكر ، وكذلك شأن القياس الجلي لم يجعلوا دخول الأمة في حكم العبد بالقياس ، إلا بناء على أن العبد هو المقصود بالذكر بخصوصه ، وهكذا سائر ما يفرض في هذا الباب .
فالحاصل أن الاستدلال بالجهة الثانية على الأحكام لا يثبت ، فلا يصح إعماله ألبتة ، وكما أمكن الجواب عن الدليل الثالث ، كذلك يمكن في الأول والثاني ، فإن في الأول مصادرة على المطلوب لأنه قال فيه : فإذا كان المعنى المدلول عليه يقتضي حكما شرعيا; فلا يمكن إهماله ، وهذا عين مسألة النزاع ، والثاني مسلم ، ولكن يبقى النظر في استقلال الجهة الثانية بالدلالة على حكم شرعي وهو المتنازع فيه; فالصواب إذا القول بالمنع مطلقا ، والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (53)
صـ163 إلى صـ 169
فصل
قد تبين تعارض الأدلة في المسألة ، وظهر أن الأقوى من الجهتين جهة المانعين ، فاقتضى الحال أن الجهة الثانية ، وهي الدالة على المعنى التبعي لا دلالة لها على حكم شرعي زائد ألبتة .
لكن يبقى فيها نظر آخر ربما أخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي ، هي آداب شرعية ، وتخلقات حسنة ، يقر بها كل ذي عقل سليم ، فيكون لها اعتبار في الشريعة ، فلا تكون الجهة الثانية خالية عن الدلالة جملة ، وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا .
وبيان ذلك يحصل بأمثلة سبعة :
أحدها : أن القرآن أتى بالنداء من الله تعالى للعباد ، ومن العباد لله سبحانه ، إما حكاية ، وإما تعليما ، فحين أتى بالنداء من قبل الله للعباد جاء بحرف النداء المقتضي للبعد ثابتا غير محذوف ، كقوله تعالى : يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة [ العنكبوت : 56 ] .
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [ الزمر : 53 ] .
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] .
يا أيها الناس [ الأعراف : 158 ] .
يا أيها الذين آمنوا [ البقرة : 104 ] .
فإذا أتى بالنداء من العباد إلى الله تعالى; جاء من غير حرف فلا تجد فيه نداء بالرب تعالى بحرف نداء ثابت بناء على أن حرف النداء للتنبيه في الأصل ، والله منزه عن التنبيه .
[ ص: 164 ] وأيضا; فإن أكثر حروف النداء للبعيد ، ومنها " يا " التي هي أم الباب ، وقد أخبر الله تعالى أنه قريب من الداعي خصوصا ، لقوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب [ البقرة : 186 ] الآية .
ومن الخلق عموما ، لقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم [ المجادلة : 7 ] .
وقو****له : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ ق : 16 ] .
فحصل من هذا التنبيه على أدبين :
أحدهما : ترك حرف النداء .
والآخر : استشعار القرب .
كما أن في إثبات الحرف في القسم الآخر التنبيه على معنيين إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة والإعراض والغيبة ، وهو العبد ، والدلالة على ارتفاع شأن المنادى ، وأنه منزه عن مداناة العباد; إذ هو في دنوه عال ، وفي علوه دان ، سبحانه !
والثاني : أن نداء العبد للرب نداء رغبة وطلب لما يصلح شأنه ، فأتى في النداء القرآني بلفظ : الرب ****في عامة الأمر; تنبيها وتعليما لأن يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضى للحال المدعو بها ، وذلك أن الرب في اللغة : هو القائم بما يصلح المربوب; فقال تعالى في معرض بيان دعاء العباد : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] إلى آخرها ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ آل عمران : 8 ] ، [ ص: 165 ] وإنما أتى قوله تعالى : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك [ الأنفال : 32 ] من غير إتيان بلفظ الرب لأنه لا مناسبة بينه وبين ما دعوا به ، بل هو مما ينافيه ، بخلاف الحكاية عن عيسى عليه السلام في قوله : قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء [ المائدة : 114 ] الآية; فإن لفظ الرب فيها مناسب ****جدا .
والثالث : أنه أتى فيه الكناية في الأمور التي يستحيا من التصريح بها; كما كنى عن الجماع باللباس والمباشرة ، وعن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط ، وكما قال في نحوه : كانا يأكلان الطعام [ المائدة : 75 ] فاستقر ذلك أدبا لنا استنبطناه من هذه المواضع ، وإنما دلالتها على هذه المعاني بحكم التبع لا بالأصل .
والرابع : أنه أتى فيه بالالتفات الذي ينبئ في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه; كقوله تعالى : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين [ الفاتحة : 2 - 4 ] .
ثم قال : إياك نعبد [ الفاتحة : 5 ] .
وبالعكس إذا اقتضاه الحال أيضا; كقوله تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة [ يونس : 22 ] .
[ ص: 166 ] وتأمل في هذا المساق معنى قوله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى [ عبس : 1 - 2 ] حيث عوتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا المقدار من هذا العتاب ، لكن على حال تقتضي الغيبة التي شأنها أخف بالنسبة إلى المعاتب ، ثم رجع الكلام إلى الخطاب ، إلا أنه بعتاب أخف من الأول ، ولذلك ختمت الآية بقوله : كلا إنها تذكرة [ عبس : 11 ] .
والخامس : الأدب في ترك التنصيص على نسبة الشر إلى الله تعالى ، وإن كان هو الخالق لكل شيء ، كما قال بعد قوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء [ آل عمران : 26 ] إلى قوله بيدك الخير [ آل عمران : 26 ] ولم يقل : " بيدك الخير والشر " ، وإن كان قد ذكر القسمين معا; لأن نزع الملك والإذلال بالنسبة إلى من لحق ذلك به شر ظاهر ، نعم ، قال في أثره : إنك على كل شيء قدير [ آل عمران : 26 ] تنبيها في الجملة على أن الجميع خلقه; حتى جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : والخير في يديك ، والشر ليس إليك [ ص: 167 ] وقال إبراهيم عليه السلام : الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين [ الشعراء : 78 ] إلخ ، فنسب إلى رب العالمين الخلق ، والهداية ، والإطعام ، والسقي ، والشفاء ، والإماتة ، والإحياء ، وغفران الخطيئة دون ما جاء في أثناء ذلك من المرض ، فإنه سكت عن نسبته إليه .
والسادس : الأدب في المناظرة أن لا يفاجئ بالرد كفاحا دون التقاضي بالمجاملة والمسامحة; كما في قوله تعالى : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ سبأ : 24 ] .
وقوله : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ الزخرف : 81 ] .
قل إن افتريته فعلي إجرامي [ هود : 35 ] .
وقوله : قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون [ الزمر : 43 ] .
أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ المائدة : 104 ] .
لأن ذلك أدعى إلى القبول وترك العناد وإطفاء نار العصبية .
والسابع : الأدب في إجراء الأمور على العادات في التسببات وتلقي الأسباب منها ، وإن كان العلم قد أتى من وراء ما يكون أخذا من مساقات الترجيات العادية; كقوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] .
فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده [ المائدة : 52 ] .
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] .
[ ص: 168 ] ومن هذا الباب جاء نحو قوله تعالى : لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] .
لعلكم تذكرون [ الأنعام : 152 ] .
وما أشبه ذلك ، فإن الترجي والإشفاق ونحوهما إنما تقع حقيقة ممن لا يعلم عواقب الأمور والله تعالى عليم بما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ، ولكن جاءت هذه الأمور على المجرى المعتاد في أمثالنا; فكذلك ينبغي لمن كان عالما بعاقبة أمر ، بوجه من وجوه العلم الذي هو خارج عن معتاد الجمهور - أن يحكم فيه عند العبارة عنه بحكم غير العالم ، دخولا في غمار العامة ، وإن بان عنهم بخاصية يمتاز بها ، وهو من التنزلات الفائقة الحسن في محاسن العادات ، وقد كان رسول الله يعلم بأخبار كثير من المنافقين ، ويطلعه ربه على أسرار كثير منهم ، ولكنه كان يعاملهم في الظاهر معاملة يشترك معهم فيها المؤمنون; لاجتماعهم في عدم انخرام الظاهر; فما نحن فيه نوع من هذا الجنس ، والأمثلة كثيرة فإذا كان كذلك; ظهر أن الجهة الثانية يستفاد بها أحكام شرعية وفوائد عملية ليست داخلة تحت الدلالة بالجهة الأولى ، وهو توهين لما تقدم اختياره .
[ ص: 169 ] والجواب : أن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعاني ، وإنما استفيد من جهة أخرى ، وهي جهة الاقتداء بالأفعال ، والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (54)
صـ170 إلى صـ 179
النوع ***الثالث
في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها
ويحتوي على مسائل
المسألة الأولى
ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به ، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا ، ولا معنى لبيان ذلك هاهنا; فإن الأصوليين قد تكفلوا بهذه الوظيفة ، ولكن نبني عليها ونقول : إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه; [ ص: 172 ] فقول الله تعالى : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ البقرة : 132 ] ، وقوله في الحديث : كن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل ، وقوله : " لا تمت [ ص: 173 ] وأنت ظالم " ، وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة ، وهو الإسلام ، وترك الظلم ، والكف عن القتل ، والتسليم لأمر الله ، وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل .
ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة حيث ترس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وكان عليه الصلاة والسلام يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا [ ص: 174 ] تشرف يا رسول الله ، لا يصيبوك الحديث; فقوله : " لا يصيبوك " من هذا القبيل .
[ ص: 175 ] المسألة الثانية
إذا ثبت هذا; فالأوصاف التي طبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب برفعها ، ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها ، فإنه من تكليف ما لا يطاق ، كما لا يطلب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه ، ولا تكميل ما نقص منها; فإن ذلك غير مقدور للإنسان ، ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له ولا نهيا عنه ، ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يحل ، وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل ، وذلك راجع إلى ما ينشأ من الأفعال من جهة تلك الأوصاف مما هو داخل تحت الاكتساب .
[ ص: 176 ] المسألة الثالثة
إن ثبت بالدليل أن ثم أوصافا تماثل ما تقدم في كونها مطبوعا عليها الإنسان ; فحكمها حكمها لأن الأوصاف المطبوع عليها ضربان :
منها : ما يكون ذلك فيه مشاهدا محسوسا كالذي تقدم .
ومنها : ما يكون خفيا حتى يثبت بالبرهان فيه ذلك ، ومثاله العجلة ، فإن ظاهر القرآن أنها مما طبع الإنسان عليه; لقوله تعالى : خلق الإنسان من عجل [ الأنبياء : 37 ] .
وفي الصحيح : إن إبليس لما رأى آدم أجوف علم أنه خلق خلقا لا يتمالك .
وقد جاء أن : " الشجاعة والجبن غرائز " .
و " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها " .
[ ص: 177 ] إلى أشياء من هذا القبيل ، وقد جعل منها الغضب وهو معدود عند الزهاد من المهلكات .
وجاء : " يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب " .
[ ص: 178 ] وإذا ثبت هذا; فالذي تعلق به الطلب ظاهرا من الإنسان على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما لم يكن داخلا تحت كسبه قطعا ، وهذا قليل; كقوله : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ البقرة : 132 ] ، وحكمه أن الطلب به مصروف إلى ما تعلق به .
والثاني : ما كان داخلا تحت كسبه قطعا ، وذلك جمهور الأفعال المكلف بها التي هي داخلة تحت كسبه ، والطلب المتعلق بها على حقيقته في صحة التكليف بها سواء علينا أكانت مطلوبة لنفسها أم لغيرها .
والثالث : ما قد يشتبه أمره; كالحب والبغض وما في معناهما; فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها ، فحيث ثبتت له من القسمين حكم عليه بحكمه ، والذي يظهر من أمر الحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها أنها داخلة على الإنسان اضطرارا; إما لأنها من أصل الخلقة ، فلا يطلب إلا بتوابعها; فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية ، فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه ، كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب ، وإما لأن لها باعثا من غيره فتثور فيه فيقتضي لذلك أفعالا أخر ، فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه; فالطلب يرد عليه كقوله : " تهادوا تحابوا " فيكون كقوله : " أحبوا [ ص: 179 ] الله لما أسدى إليكم من نعمه " مرادا به التوجه إلى النظر في نعم الله تعالى [ ص: 180 ] على العبد وكثرة إحسانه إليه ، وكنهيه عن النظر المثير للشهوة الداعية إلى ما لا يحل ، وعين الشهوة لم ينه عنه ، وإن لم يكن المثير لها داخلا تحت كسبه; [ ص: 181 ] فالطلب يرد على اللواحق; كالغضب المثير لشهوة الانتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (55)
صـ180 إلى صـ 190
فصل
ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها من الكبر والحسد وحب الدنيا والجاه ، وما ينشأ عنها من آفات اللسان ، وما ذكره الغزالي في ربع المهلكات وغيره .
وعليه يدل كثير من الأحاديث ، وكذلك فقه الأوصاف الحميدة; كالعلم ، والتفكر ، والاعتبار ، واليقين ، والمحبة ، والخوف ، والرجاء ، وأشباهها مما هو نتيجة عمل ، فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها ، أفلا ترى أن العلم وإن كان مطلوبا ، فليس تحصيله بمقدور أصلا ، فإن الطالب إذا توجه نحو مطلوب إن كان من الضروريات ، فهو حاصل ولا يمكنه الانصراف عنه ، وإن كان غير ضروري لم يمكن تحصيله إلا بتقديم النظر ، وهو المكتسب دون نفس العلم; لأنه داخل عليه بعد النظر ضرورة ، لأن النتيجة لازمة للمقدمتين فتوجيه النظر فيه هو المكتسب ، فيكون المطلوب وحده ، وأما العلم على أثر النظر ، فسواء علينا قلنا إنه مخلوق لله تعالى كسائر المسببات مع أسبابها ، كما هو رأي المحققين ، أم لم نقل ذلك ، فالجميع متفقون على [ ص: 183 ] أنه غير داخل تحت الكسب نفسه ، وإذا حصل لم يمكن إزالته على حال .
وهكذا سائر ما يكون وصفا باطنا ، إذا اعتبرته وجدته على هذا السبيل ، وإذا كانت على هذا الترتيب; لم يصح التكليف بها أنفسها ، وإن جاء في الظاهر ما يظهر منه ذلك; فمصروف إلى غير ذلك مما يتقدمها ، أو يتأخر عنها ، أو يقارنها ، والله أعلم .
المسألة الرابعة
الأوصاف التي لا قدرة للإنسان على جلبها ولا دفعها بأنفسها على ضربين :
أحدهما : ما كان نتيجة عمل ، كالعلم والحب في نحو قوله : " أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه " .
والثاني : ما كان فطريا ولم يكن نتيجة عمل ، كالشجاعة ، والجبن ، والحلم ، والأناة المشهود بهما في أشج عبد القيس ، وما كان نحوها .
فالأول ظاهر أن الجزاء يتعلق بها في الجملة ، من حيث كانت مسببات عن أسباب مكتسبة ، وقد مر في كتاب الأحكام أن الجزاء يتعلق بها وإن لم تدخل تحت قدرته ولا قصدها ، وكذلك أيضا يتعلق بها الحب والبغض ، على ذلك الترتيب .
والثاني وهو ما كان منها فطريا ينظر فيه من جهتين :
إحداهما : من جهة ما هي محبوبة للشارع أو غير محبوبة له .
والثانية : من جهة ما يقع عليها ثواب أو لا يقع ؟
فأما النظر الأول; فإن ظاهر النقل أن الحب والبغض يتعلق بها ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس : إن فيك لخصلتين يحبهما [ ص: 185 ] الله : الحلم ، والأناة .
وفي بعض الروايات أخبره أنه مطبوع عليهما ، وفي بعض الحديث : " الشجاعة والجبن غرائز " .
[ ص: 186 ] وجاء : إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية [ ص: 187 ] وفي الحديث : الأرواح جنود مجندة; فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ، وهذا معنى التحاب والتباغض ، وهو غير مكتسب .
وجاء في الحديث : وجبت محبتي للمتحابين في .
وقد حمل حديث أبي هريرة يرفعه : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله [ ص: 188 ] من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير على أن يكون المراد بالقوة شدة البدن وصلابة الأمر ، والضعف خلاف ذلك .
وجاء : إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها .
[ ص: 189 ] وجاء : يطبع المؤمن على كل خلق إلا الخيانة والكذب .
وقال تعالى : خلق الإنسان من عجل [ الأنبياء : 37 ] .
وجاء في معرض الذم والكراهية ، ولذلك كان ضد العجل محبوبا وهو الأناة .
ولا يقال : إن الحب والبغض يتعلقان بما ينشأ عنهما من الأفعال; لأن ذلك : أولا : خروج عن الظاهر بغير دليل .
وثانيا : أنهما يصح تعلقهما بالذوات ، وهي أبعد عن الأفعال من الصفات; كقوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه [ المائدة : 54 ] الآية .
أحبوا الله لما غذاكم به من نعمه .
و من الإيمان الحب في الله والبغض في الله .
[ ص: 190 ] ولا يسوغ في هذه المواضع أن يقال : إن المراد حب الأفعال فقط; فكذلك لا يقال في الصفات - إذا توجه الحب إليها في الظاهر - إن المراد الأفعال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (56)
صـ191 إلى صـ 203
فصل
وإذا ثبت هذا; فيصح أيضا أن يتعلق الحب والبغض بالأفعال; كقوله تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ النساء : 148 ] .
ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم [ التوبة : 46 ] .
أبغض الحلال إلى الله الطلاق .
ليس أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه .
[ ص: 191 ] وهذا كثير .
وإذا قلت : أحب الشجاع وأكره الجبان; فهذا حب وكراهة يتعلقان بذات موصوفة لأجل ذلك الوصف; نحو قوله تعالى : والله يحب المحسنين [ آل عمران : 134 ] .
والله يحب الصابرين [ آل عمران : 146 ] .
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] .
وفي القرآن أيضا : إن الله لا يحب كل مختال فخور [ لقمان : 18 ] .
والله لا يحب الظالمين [ آل عمران : 57 ] .
وفي الحديث : إن الله يبغض الحبر السمين .
[ ص: 192 ] [ ص: 193 ] فإذا; الحب والبغض مطلق في الذوات والصفات والأفعال ; فتعلقهما بها تعلق بالماهية من حيث إنها ذات أو صفة أو فعل .
وأما النظر الثاني وهو أن يقال : هل يصح أن يتعلق بتلك الأوصاف - وهي غير المقدورة للإنسان إذا اتصف بها - الثواب والعقاب أم لا يصح ؟
هذا يتصور في ثلاثة أوجه :
أحدها : أن لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب .
والثاني : أن يتعلقا معا بها .
والثالث : أن يتعلق بها أحدهما دون الآخر .
أما هذا الأخير; فيؤخذ النظر فيه من النظر في الوجهين لأنه مركب منهما .
فأما الأول; فيستدل عليه بوجهين :
أحدهما : أن الأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها لا يكلف بإزالتها ولا بجلبها شرعا; لأنه تكليف بما لا يطاق ، وما لا يكلف به لا يثاب عليه ولا يعاقب ، لأن الثواب والعقاب تابع للتكليف شرعا; فالأوصاف المشار إليها لا [ ص: 194 ] ثواب عليها ولا عقاب .
والثاني : أن الثواب والعقاب على تلك الأوصاف; إما أن يكون من جهة ذواتها من حيث هي صفات أو من جهة متعلقاتها ، فإن كان الأول لزم في كل صفة منها أن تكون مثابا عليها ، كانت صفة محبوبة أو مكروهة شرعا ، ومعاقبا عليها أيضا كذلك ، لأن ما وجب للشيء وجب لمثله ، وعند ذلك يجتمع الضدان على الصفة الواحدة من جهة واحدة ، وذلك محال ، وإن كان من حيث متعلقاتها ، فالثواب والعقاب على المتعلقات - وهي الأفعال والتروك - لا عليها ، فثبت أنها في أنفسها لا يثاب عليها ولا يعاقب ، وهو المطلوب .
وأما الثاني; فيستدل عليه أيضا بأمرين :
أحدهما : أن الأوصاف المذكورة قد ثبت تعلق الحب والبغض بها ، والحب والبغض من الله تعالى; إما أن يراد بهما نفس الإنعام أو الانتقام; فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك ، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام; فيرجعان إلى صفات الذات لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى ، وهذا رأي طائفة [ ص: 195 ] أخرى ، وعلى كلا الوجهين ، فالحب والبغض راجعان إلى نفس الإنعام أو الانتقام ، وهما عين الثواب والعقاب; فالأوصاف المذكورة إذا يتعلق بها الثواب والعقاب .
والثاني : أنا لو فرضنا أن الحب والبغض لا يرجعان إلى الثواب والعقاب فتعلقهما بالصفات; إما أن يستلزم الثواب والعقاب ، أو لا ، فإن استلزم فهو المطلوب ، وإن لم يستلزم ، فتعلق الحب والبغض إما للذات ، وهو محال ، وإما لأمر راجع إلى الله تعالى ، وهو محال ، لأن الله غني عن العالمين ، تعالى أن يفتقر لغيره أو يتكمل بشيء ، بل هو الغني على الإطلاق ، وذو الكمال بكل اعتبار ، وإما للعبد وهو الجزاء; لا زائد يرجع للعبد إلا ذلك .
[ ص: 196 ] [ ص: 197 ] [ ص: 198 ] [ ص: 199 ] [ ص: 200 ] وأمر ثالث : وهو أنه لو سلم أنها محبوبة أو مكروهة من جهة متعلقاتها وهو الأفعال فلا يخلو أن يكون الجزاء على تلك الأفعال مع الصفات مثل الجزاء عليها بدون تلك الصفات ، أو لا ، فإن كان الجزاء متفاوتا; فقد صار للصفات قسط من الجزاء ، وهو المطلوب ، وإن كان متساويا; لزم أن يكون فعل أشج عبد القيس حين صاحبه الحلم والأناة مساويا لفعل من لم يتصف بهما وإن استويا في الفعل ، وذلك غير صحيح ، لما يلزم عليه من أن يكون المحبوب عند الله مساويا لما ليس بمحبوب ، واستقراء الشريعة يدل على خلاف ذلك .
وأيضا يلزم أن يكون ما هو محبوب ليس بمحبوب ، وبالعكس ، وهو محال; فثبت أن للوصف حظا من الثواب أو العقاب ، وإذا ثبت أن له حظا ما من الجزاء ثبت مطلق الجزاء; فالأوصاف المطبوع عليها وما أشبهها مجازى عليها ، وذلك ما أردنا .
[ ص: 201 ] وما تقدم ذكره من الأدلة على أنه لا يثاب عليها مشكل .
أما الأول; فإن الثواب والعقاب مع التكليف لا يتلازمان ، فقد يكون الثواب والعقاب على غير المقدور للمكلف ، وقد يكون التكليف ولا ثواب ولا عقاب; فالأول مثل المصائب النازلة بالإنسان اضطرارا ، علم بها أو لم يعلم ، والثاني; كشارب الخمر ، ومن أتى عرافا; فإنه جاء أن الصلاة لا تقبل منه أربعين يوما ، ولا أعلم أحدا من أهل السنة يقول بعدم إجزاء صلاته إذا استكملت [ ص: 202 ] أركانها وشروطها ، ولا خلاف أيضا في وجوب الصلاة على كل مسلم ، عدلا كان أو فاسقا ، وإذا لم يتلازما لا يصح هذا الدليل .
وأما الثاني; فقد اعترضه الدليل الثالث الدال على الجزاء ، فقوله : إن الجزاء وقع على العمل أو الترك إن أراد به مجردا كما يقع دون الوصف; فقد ثبت بطلانه ، وإن أراد به مع اقتران الوصف فقد صار للوصف أثر في الثواب والعقاب ، وذلك دليل دال على صحة الجزاء عليه لا على نفيه .
ولصاحب المذهب الأول أن يعترض على الثاني في أدلته :
أما الأول ، فإنه إذا صار معنى الحب والبغض إلى الثواب والعقاب امتنع أن يتعلقا بما هو غير مقدور ، وهو الصفات والذوات المخلوق عليها .
وأما الثاني; فإن القسمة غير منحصرة; إذ من الجائز أن يتعلقا لأمر راجع للعبد غير الثواب أو العقاب ، وذلك كونه اتصف بما هو حسن أو قبيح في مجاري العادات .
وأما الثالث; فإن الأفعال لما كانت ناشئة عن الصفات; فوقوعها على حسبها في الكمال أو النقصان ، فنحن نستدل بكمال الصنعة على كمال [ ص: 203 ] الصانع وبالضد; فكذلك هاهنا وعند ذلك يختص الثواب بالأفعال ، ويكون التفاوت راجعا إلى تفاوتها لا إلى الصفات ، وهو المطلوب .
فالحاصل أن النظر يتجاذبه الطرفان ، ويحتمل تحقيقه بسطا أوسع من هذا ، ولا حاجة إليه في هذا الموضع ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (57)
صـ204 إلى صـ 213
المسألة الخامسة
تقدم الكلام على التكليف بما لا يدخل تحت مقدور المكلف ، وبقي النظر فيما يدخل تحت مقدوره ، لكنه شاق ، فهذا موضعه; فإنه لا يلزم إذا علمنا من قصد الشارع نفي التكليف بما لا يطاق ، أن نعلم منه نفي التكليف بأنواع المشاق ، ولذلك ثبت في الشرائع الأول التكليف بالمشاق ، ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق .
وأيضا; فإن التكليف بما لا يطاق قد منعه جماعة عقلاء ، بل أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم .
[ ص: 205 ] [ ص: 206 ] وأما المعتزلة; فذلك أصلهم ، بخلاف التكليف بما يشق ، فإذا كان كذلك; فلا بد من النظر في ذلك بالنسبة إلى هذه الشريعة الفاضلة .
ولا بد قبل الخوض في المطلوب من النظر في معنى " المشقة " ، وهي في [ ص: 207 ] أصل اللغة من قولك : شق علي الشيء يشق شقا ومشقة إذا أتعبك ، ومنه قوله تعالى : لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [ النحل : 7 ] .
والشق هو الاسم من المشقة ، وهذا المعنى إذا أخذ مطلقا من غير نظر إلى الوضع العربي; اقتضى أربعة أوجه اصطلاحية :
أحدها : أن يكون عاما في المقدور عليه وغيره ، فتكليف ما لا يطاق يسمى مشقة ، من حيث كان تطلب الإنسان نفسه بحمله موقعا في عناء وتعب لا يجدي; كالمقعد إذا تكلف القيام ، والإنسان إذا تكلف الطيران في الهواء ، وما أشبه ذلك ، فحين اجتمع مع المقدور عليه الشاق الحمل إذا تحمل في نفس المشقة; سمي العمل شاقا والتعب في تكلف حمله مشقة .
والثاني : أن يكون خاصا بالمقدور عليه; إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية ، بحيث يشوش على النفوس في تصرفها ، ويقلقها في القيام بما فيه تلك المشقة .
إلا أن هذا الوجه على ضربين :
أحدهما : أن تكون المشقة مختصة بأعيان الأفعال المكلف بها ، بحيث لو وقعت مرة واحدة لوجدت فيها ، وهذا هو الموضع الذي وضعت له الرخص المشهورة في اصطلاح الفقهاء; كالصوم في المرض والسفر ، والإتمام في السفر ، وما أشبه ذلك .
والثاني : ألا تكون مختصة ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها ، صارت شاقة ، ولحقت المشقة العامل بها ، ويوجد هذا في النوافل وحدها إذا تحمل الإنسان منها فوق ما يحتمله على وجه ما ، إلا أنه في الدوام [ ص: 208 ] يتعبه ، حتى يحصل للنفس بسببه ما يحصل لها بالعمل مرة واحدة في الضرب الأول ، وهذا هو الموضع الذي شرع له الرفق والأخذ من العمل بما لا يحصل مللا ، حسب ما نبه عليه نهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال ، وعن التنطع والتكلف ، وقال : خذوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لن يمل حتى تملوا .
وقوله : القصد ، القصد تبلغوا .
والأخبار هنا كثيرة ، وللتنبيه عليها موضع آخر; فهذه مشقة ناشئة من أمر كلي وفي الضرب الأول ناشئة من أمر جزئي .
[ ص: 209 ] والوجه الثالث : أن يكون خاصا بالمقدور عليه ، وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية ، ولكن نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف شاق على النفس ، ولذلك أطلق عليه لفظ التكليف ، وهو في اللغة يقتضي معنى المشقة; لأن العرب تقول : كلفته تكليفا إذا حملته أمرا يشق عليه وأمرته به ، وتكلفت الشيء إذا تحملته على مشقة ، وحملت الشيء تكلفته إذا لم تطقه إلا تكلفا ، فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار لأنه إلقاء بالمقاليد ، ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا .
والرابع : أن يكون خاصا بما يلزم عما قبله; فإن التكليف إخراج للمكلف عن هوى نفسه ، ومخالفة الهوى شاقة على صاحب الهوى مطلقا ، ويلحق الإنسان بسببها تعب وعناء ، وذلك معلوم في العادات الجارية في الخلق .
فهذه خمسة أوجه من حيث النظر إلى المشقة في نفسها ، انتظمت في أربعة :
فأما الأول; فقد تخلص في الأصول ، وتقدم ما يتعلق به .
وأما الثاني : وهي :
[ ص: 210 ] المسألة السادسة
فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالشاق الإعنات فيه ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : النصوص الدالة على ذلك; كقوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ الأعراف : 157 ] .
وقوله : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] الآية .
وفي الحديث : " قال الله تعالى : قد فعلت " .
وجاء : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] .
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .
[ ص: 211 ] وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 28 ] .
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم [ المائدة : 6 ] الآية .
وفي الحديث : بعثت بالحنيفية السمحة .
وما خير بين شيئين; إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما .
[ ص: 212 ] وإنما قال : " ما لم يكن إثما " ; لأن ترك الإثم لا مشقة فيه ، من حيث كان مجرد ترك ، إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى ولو كان قاصدا للمشقة لما كان مريدا لليسر ولا للتخفيف ، ولكان مريدا للحرج والعسر ، وذلك باطل .
والثاني : ما ثبت أيضا من مشروعية الرخص ، وهو أمر مقطوع به ، ومما علم من دين الأمة ضرورة; كرخص القصر ، والفطر ، والجمع ، وتناول المحرمات في الاضطرار ، فإن هذا النمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج والمشقة ، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال ، ولو كان الشارع قاصدا للمشقة في التكليف ، لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف .
والثالث : الإجماع على عدم وقوعه وجودا في التكليف ، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه ، ولو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض [ ص: 213 ] والاختلاف ، وذلك منفي عنها; فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة ، وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير; كان الجمع بينهما تناقضا واختلافا ، وهي منزهة عن ذلك .
وأما الثالث : وهي :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (58)
صـ214 إلى صـ 221
المسألة السابعة
فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما ، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة ، كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع; لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد ، بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان ، ويذمونه بذلك; فكذلك المعتاد في التكاليف .
وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة ، والتي تعد مشقة ، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه ، أو عن بعضه ، أو إلى وقوع خلل في صاحبه ، في نفسه أو ماله ، أو حال من أحواله ، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد ، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب; فلا يعد في العادة مشقة ، وإن سميت كلفة ، فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار ، في أكله وشربه وسائر تصرفاته ، ولكن جعل له قدرة عليها ، بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره ، لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات ، فكذلك التكاليف; فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة .
[ ص: 215 ] وإذا تقرر هذا; فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضا ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة ، بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف ، والدليل على ذلك ما تقدم في المسالة قبل هذا .
فإن قيل : ما تقدم لا يدل على عدم القصد إلى المشقة في التكليف; لأوجه :
أحدها : أن نفس تسميته تكليفا يشعر بذلك; إذ حقيقته في اللغة طلب ما فيه كلفة ، وهي المشقة فقول الله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] ; معناه لا يطلبه بما يشق عليه مشقة لا يقدر عليها ، وإنما يطلبه بما تتسع له قدرته عادة; فقد ثبت التكليف بما هو مشقة فقصد الأمر والنهي يستلزم بلا بد طلب المشقة ، والطلب إنما تعلق بالفعل من حيث هو مشقة ، لتسمية الشرع له تكليفا; فهي إذا مقصودة له ، وعلى هذا النحو [ ص: 216 ] يتنزل قوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وأشباهه .
والثاني : أن الشارع عالم بما كلف به وبما يلزم عنه ، ومعلوم أن مجرد التكليف يستلزم المشقة; فالشارع عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك ، فإذا يلزم أن يكون الشارع طالبا للمشقة ، بناء على أن القاصد إلى السبب عالما بما يتسبب عنه قاصد للمسبب ، وقد مر تقرير هذه المسألة في كتاب الأحكام; فاقتضى أن الشارع قاصد للمشقة هنا .
والثالث : أن المشقة في الجملة مثاب عليها إذا لحقت في أثناء التكليف ، مع قطع النظر عن ثواب التكليف; كقوله تعالى : ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله [ التوبة : 120 ] إلى آخر الآية .
وقوله : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ العنكبوت : 69 ] .
وما جاء في " كثرة الخطا إلى المساجد وأن أعظمهم أجرا أبعدهم دارا " [ ص: 217 ] وما جاء في " إسباغ الوضوء على المكاره " .
وقد نبه على ذلك أيضا قوله تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] الآية ، وذلك لما في القتال من أعظم المشقات; حتى قال تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ التوبة : 111 ] ، وأشباه ذلك .
فإذا كانت المشقات - من حيث هي مشقات - مثابا عليها زيادة على معتاد التكليف; دل على أنها مقصود له ، وإلا ، فلو لم يقصدها; لم يقع عليها ثواب كسائر الأمور التي لم يكلف بها ، فأوقعها المكلف باختياره حسب ما هو مذكور في المباح في كتاب الأحكام; فدل هذا كله على قصد الشارع لطلب المشقة بالتكليف ، وهو المطلوب .
فالجواب عن الأول أن التكليف إذا وجه على المكلف يمكن القصد فيه على وجهين :
أحدهما : أن يقصد إليه من جهة ما هو مشقة .
والثاني : أن يقصد إليه من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا .
[ ص: 218 ] فأما الثاني; فلا شك في أنه مقصود الشارع بالعمل ، والشريعة كلها ناطقة بذلك كما تقدم أول هذا الكتاب .
وأما الأول; فلا نسلم أنه قصد ذلك ، والقصدان لا يلزم اجتماعهما; فإن الطبيب يقصد بسقي الدواء المر البشع ، والإيلام بفصد العروق وقطع الأعضاء المتأكلة; نفع المريض لا إيلامه ، وإن كان على علم من حصول الإيلام; فكذلك يتصور في قصد الشارع إلى مصالح الخلق بالتكليف في العاجلة والآجلة ، والإجماع على أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة ، فالنزاع في قصده للمشقة ، وإنما سمي تكليفا باعتبار ما يلزمه ، على عادة العرب في تسمية الشيء بما يلزمه ، وإن كان في الاستعمال غير مقصود حسب ما هو معلوم في علم الاشتقاق ، من غير أن يكون ذلك مجازا ، بل على حقيقة الوضع اللغوي .
[ ص: 219 ] والجواب عن الثاني أن العلم بوقوع المسبب عن السبب - وإن ثبت أنه يقوم مقام القصد إليه في حق المكلف - ; فإنما هو جار مجرى القصد من بعض الوجوه ، أعني : في الأحكام الشرعية من جهة ما هو بالتسبب متعد على الجملة ، لا من جهة ما هو قاصد للمفسدة الواقعة ، إذ قد فرضناه لم يقصد إلا منفعة نفسه ، وإذا كان غير قاصد فهو المطلوب هنا في حق الشارع; إذ هو قاصد نفس المصلحة لا ما يلزم في طريقها من بعض المفاسد ، وقد تقدم لهذا تقرير في كتاب الأحكام ، وسيأتي بسطه في حق المكلف بعد هذا إن شاء الله .
وأيضا ، لو لزم من قصد الشارع إلى التكليف بما يلزم عنه مفسدة في طريق المصلحة قصده إلى إيقاع المفسدة شرعا; لزم بطلان ما تقدم البرهان على صحته من وضع الشريعة للمصالح لا للمفاسد ، ولزم في خصوص مسألتنا أن يكون قاصدا لرفع المشقة وإيقاعها معا ، وهو محال باطل عقلا وسمعا .
وأيضا; فلا يمتنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر وقطع الأعضاء المتأكلة ، وقلع الأضراس الوجعة ، وبط الجراحات الوجعة ، وأن يحمي المريض ما يشتهيه ، وإن كان يلزم منه إذاية المريض; لأن المقصود إنما هو [ ص: 220 ] المصلحة التي هي أعظم وأشد في المراعاة من مفسدة الإيذاء التي هي بطريق اللزوم ، وهذا شأن الشريعة أبدا ، فإذا كان التكليف على وجه ، فلا بد منه وإن أدى إلى مشقة; لأن المقصود المصلحة ; فالتكليف أبدا جار على هذا المهيع ، فقد علم من الشارع أن المشقة ينهى عنها ، فإذا أمر بما تلزم عنه ، فلم يقصدها إذ لو كان قاصدا لها لما نهى عنها ، ومن هنا لا يسمى ما يلزم عن الأعمال العاديات مشقة عادة .
وتحصيله أن التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها لا مشقة فيه كما تقدم ، فما يلزم عن التكليف لا يسمى مشقة; فضلا عن أن يكون العلم بوقوعها يستلزم طلبها أو القصد إليها .
والجواب عن الثالث أن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف ، وبها حصل العمل المكلف به ، ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصود ، لا أنها مقصودة مطلقا ، فرتب الشارع في مقابلتها أجرا زائدا على أجر إيقاع المكلف به ، ولا يدل هذا على أن النصب مطلوب أصلا ، ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات ، وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب ، كما يؤجر الإنسان ويكفر عنه من سيئاته بسبب ما يلحقه من المصائب والمشقات ، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها; إلا كفر الله به من سيئاته وما أشبه ذلك .
[ ص: 221 ] وأيضا; فالمباح إذا علم أنه ينشأ عنه ممنوع لا يكون العلم بذلك كالقصد إلى نفس الممنوع ، وكذلك يتفق على منع القصد إلى نفس الممنوع اللازم عن المباح ، ويختلفون إذا لم يقصد إليه وهو عالم به ، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (59)
صـ222 إلى صـ 232
فصل
ويترتب على هذا أصل آخر :
وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها ، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل .
أما هذا الثاني; فلأنه شأن التكليف في العمل كله لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر ، وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به ، وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب .
وأما الأول; فإن الأعمال بالنيات ، والمقاصد معتبرة في التصرفات كما يذكر في موضعه إن شاء الله ، فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع ، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة ، فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل ، فالقصد إلى المشقة باطل ، فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه ، وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم ، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض .
[ ص: 223 ] فإن قيل : هذا مخالف لما في الصحيح من حديث جابر; قال : خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال لهم : إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد ، قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك ، فقال بني سلمة ! دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم ! .
وفي رواية : فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا .
وفي رواية عن جابر; قال : كانت ديارنا نائية عن المسجد ، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إن لكم بكل خطوة درجة .
وفي رقائق ابن المبارك عن أبي موسى الأشعري; أنه كان في سفينة في البحر مرفوع شراعها ، فإذا رجل يقول : " يا أهل السفينة ! قفوا " سبع مرار . فقلنا : ألا ترى على أي حال نحن ؟ ثم قال في السابعة : لقضاء قضاه الله على نفسه أنه من عطش لله نفسه في يوم حار من أيام الدنيا شديد الحر; كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة . فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد [ ص: 224 ] الحر فيصومه .
وفي الشريعة من هذا ما يدل على أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه ، فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم عليه الصلاة والسلام بالثبوت لأجل عظم الأجر بكثرة الخطا ، فكانوا كرجل له طريقان إلى العمل : أحدهما سهل ، والآخر صعب; فأمر بالصعب ووعد على ذلك بالأجر ، بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادا إلى كثرة الأجر .
وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء; فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم ، حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم ، وترك الرخص جملة ، فهذا كله دليل على خلاف ما تقدم .
وفي الصحيح أيضا عن أبي بن كعب; قال : كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة ، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فتوجعنا له; فقلنا له : يا فلان ! لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض ؟ فقال : أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : فحملت به حتى أتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، قال : فدعاه ، فقال له مثل [ ص: 225 ] ذلك ، وذكر أنه يرجو له في أثره الأجر . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن لك ما احتسبت " .
فالجواب أن نقول :
أولا : إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي ، والظنيات لا تعارض القطعيات; فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات .
وثانيا : إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة ، فالحديث الأول قد جاء في البخاري ما يفسره; فإنه زاد فيه : " وكره أن تعرى المدينة قبل ذلك; لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها " .
وقد روى عن مالك بن أنس أنه كان أولا نازلا بالعقيق ، ثم نزل إلى المدينة ، وقيل له عند نزوله العقيق : لم تنزل العقيق فإنه يشق بعده إلى المسجد ؟ فقال : بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه ويأتيه ، وأن بعض الأنصار [ ص: 226 ] أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد; فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما تحتسبون خطاكم ؟ " ; فقد فهم مالك أن قوله : " ألا تحتسبون خطاكم " ليس من جهة إدخال المشقة; ولكن من جهة فضيلة المحل المنتقل عنه .
[ ص: 227 ] وأما حديث ابن المبارك; فإنه حجة من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه ، ومع ذلك; فإنما فيه الإخبار بأن عظم الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه; كالوضوء عند الكريهات ، والظمأ والنصب في الجهاد ، فإذا اختيار أبي موسى رضي الله عنه للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك ، لا أن فيه قصد التشديد على النفس ليحصل الأجر به ، وإنما فيه قصد الدخول في عبادة عظم أجرها لعظم مشقتها; فالمشقة في هذا القصد تابعة لا متبوعة ، وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة في القصد غير تابعة ، وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد ، وإنما فيه دليل على قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره ، وهكذا سائر ما في هذا المعنى .
وأما شأن أرباب الأحوال; فمقاصدهم القيام بحق معبودهم ، مع اطراح النظر في حظوظ نفوسهم ، ولا يصح أن يقال : إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات; لما تقدم من الدليل عليه ، ولما سيأتي بعد إن شاء الله .
[ ص: 228 ] وثالثا : إن ما اعترض به معارض بنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أرادوا التشديد بالتبتل ، حين قال أحدهم : أما أنا; فأصوم ولا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا; فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الآخر : أما أنا; فلا آتي النساء ، فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله ، وقال : من رغب عن سنتي; فليس مني .
وفي الحديث : ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - التبتل على عثمان بن مظعون ، ولو أذن له لاختصينا .
ورد - صلى الله عليه وسلم - على من نذر أن يصوم قائما في الشمس; فأمره بإتمام صيامه ، ونهاه عن القيام في الشمس .
وقال : هلك المتنطعون .
[ ص: 229 ] ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة ، بحيث صار أصلا فيها قطعيا ، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس ، كان قصد المكلف إليه مضادا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به ، فإذا خالف قصده قصد الشارع; بطل ولم يصح ، وهذا واضح ، وبالله التوفيق .
فصل
وينبني أيضا على ما تقدم أصل آخر .
وهو أن الأفعال المأذون فيها; إما وجوبا ، أو ندبا ، أو إباحة ، إذا تسبب عنها مشقة ; فإما أن تكون معتادة في مثل ذلك العمل ، أو لا تكون معتادة ، فإن كانت معتادة; فذلك الذي تقدم الكلام عليه ، وأنه ليست المشقة فيه مقصودة للشارع من جهة ما هي مشقة ، وإن لم تكن معتادة; فهي أولى ألا تكون مقصودة للشارع ، ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلة بسبب المكلف واختياره ، مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله ، أو لا .
فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهيا عنه وغير صحيح في التعبد به; لأن الشارع لا يقصد الحرج فيما أذن فيه ، ومثال هذا حديث الناذر للصيام [ ص: 230 ] قائما في الشمس ، ولذلك قال مالك في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بإتمام الصوم وأمره له بالقعود والاستظلال : " أمره أن يتم ما كان لله طاعة ، ونهاه عما كان لله معصية " ; لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه ولا لنيل ما عنده ، وهو ظاهر ، إلا أن هذا النهي مشروط بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشرة ، لا بسبب الدخول في العمل; كما في المثال; فالحكم فيه بين .
وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض الغير القادر على الصوم أو الصلاة قائما ، والحاج لا يقدر على الحج ماشيا أو راكبا; إلا بمشقة خارجة عن المعتاد في مثل العمل ، فهذا هو الذي جاء فيه قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] ، وجاء فيه مشروعية الرخص .
ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة; فذاك ، ويمكن أن يكون عاملا لمجرد حظ نفسه ، وأن يكون قبل الرخصة من ربه تلبية لإذنه ، وإن لم يعمل بالرخصة; فعلى وجهين :
أحدهما : أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنت ، ويكره بسببه العمل; فهذا أمر ليس له ، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن ، ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك ، فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش .
وفي مثل هذا جاء : ليس من البر الصيام في السفر .
[ ص: 231 ] وفي نحوه نهي عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان .
وقال : لا يقض القاضي وهو غضبان .
وفي القرآن : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] .
إلى أشباه ذلك مما نهى عنه بسبب عدم استيفاء العمل المأذون فيه على كماله ، فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب ، والإبقاء عليه حتى يكون في ترفه وسعة حال دخوله في ربقة التكليف .
والثاني : أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد ، ولكن في العمل مشقة غير معتادة; فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة ، ويتفصل الأمر فيه في كتاب الأحكام ، والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت ، بل المشقة في نفسها هي العنت والحرج ، وإن قدر على الصبر عليها; فهي مما لا يقدر على الصبر عليه عادة .
[ ص: 232 ] إلا أن هنا وجها ثالثا ، وهو أن تكون المشقة غير معتادة ، لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة ، ورب شيء هكذا ، فإن أرباب الأحوال من العباد والمنقطعين إلى الله تعالى ، المعانين على بذل المجهود في التكاليف قد خصوا بهذه الخاصية ، وصاروا معانين على ما انقطعوا إليه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] ; فجعلها كبيرة على المكلف ، واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو الذي كانت قرة عينه في الصلاة ، حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا ، وقام حتى تفطرت قدماه ، فإذا كان كذلك فمن خص بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية .
وهذا القسم يستدعي كلاما يكون فيه مد بعض نفس; فإنه موضع مغفل قل من تكلم عليه ، مع تأكده في أصول الشريعة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (60)
صـ233 إلى صـ 247
فصل
فاعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين :
أحدهما : الخوف من الانقطاع من الطريق ، وبغض العبادة ، وكراهة التكليف ، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله .
والثاني : خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع ، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق ، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلا عنها ، وقاطعا بالمكلف دونها ، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء; فانقطع عنهما .
فأما الأول ; فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة ، حفظ فيها على الخلق قلوبهم ، وحببها لهم بذلك ، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة; لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم ، ألا ترى إلى قوله تعالى : واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] إلى آخرها; فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله ، وزينه في قلوبنا بذلك ، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه .
[ ص: 234 ] وفي الحديث : عليكم من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا .
وفي حديث قيام رمضان : أما بعد; فإنه لم يخف علي شأنكم ، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها .
وفي حديث الحولاء بنت تويت حين قالت له عائشة - رضي الله عنها : هذه الحولاء بنت تويت ، زعموا أنها لا تنام الليل . فقال عليه الصلاة والسلام : لا تنام الليل ؟ ! خذوا من العمل ما تطيقون; فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا .
وحديث أنس : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد وحبل ممدود بين ساريتين; [ ص: 235 ] فقال : " ما هذا ؟ " ، قالوا : حبل لزينب ، تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به . فقال : حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا كسل أو فتر; قعد .
وحديث معاذ حين قال له النبي عليه الصلاة والسلام : أفتان أنت يا معاذ ؟ حين أطال الصلاة بالناس ، وقال : إن منكم منفرين; فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز; فإن فيهم الضعيف ، والكبير ، وذا الحاجة .
ونهى عن الوصال رحمة لهم .
ونهى عن النذر ، وقال : إن الله يستخرج به من البخيل ، وإنه لا يغني من قدر الله شيئا .
أو كما قال ، لكن هذا كله معلل معقول المعنى بما دل عليه [ ص: 236 ] ما تقدم من السآمة والملل ، والعجز ، وبغض الطاعة وكراهيتها .
وقد جاء عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; أنه قال : إن هذا الدين متين; فأوغلوا فيه برفق ، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله ، فإن المنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى .
[ ص: 237 ] [ ص: 238 ] [ ص: 239 ] وقالت عائشة رضي الله عنها : نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمة لهم . قالوا : إنك تواصل . فقال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني .
وحاصل هذا كله أن النهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع ، وإذا كان كذلك; فالنهي دائر مع العلة وجودا وعدما ، فإذا وجد ما علل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان النهي متوجها ومتجها ، وإذا لم توجد; فالنهي مفقود ، إذ الناس في هذا الميدان على ضربين :
ضرب يحصل له بسبب إدخال نفسه في العمل تلك المشقة الزائدة على المعتاد; فتؤثر فيه أو في غيره فسادا ، أو تحدث له ضجرا ومللا ، وقعودا عن النشاط إلى ذلك العمل; كما هو الغالب في المكلفين; فمثل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك ، بل يترخص فيه بحسب ما شرع له في الترخص ، إن كان مما لا يجوز تركه ، أو يتركه إن كان مما له تركه ، وهو مقتضى التعليل ، ودليله قوله عليه الصلاة والسلام : لا يقض القاضي وهو غضبان ، وقوله : إن لنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، وهو الذي أشار به عليه [ ص: 240 ] الصلاة والسلام على عبد الله بن عمرو بن العاص حين بلغه أنه يسرد الصوم ، وقد قال بعد الكبر : ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل ، لوازع هو أشد من المشقة ، أو حاد يسهل به الصعب ، أو لما له في العمل من المحبة ، ولما حصل له فيه من اللذة ، حتى خف عليه ما ثقل على غيره ، وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة ، بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورا وراحة ، أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره; كما جاء في الحديث : أرحنا بها يا بلال .
وفي الحديث : حبب إلي من دنياكم ثلاث ، قال : وجعلت قرة عيني في الصلاة .
[ ص: 241 ] وقال لما قام حتى تورمت أو تفطرت قدماه : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ ! .
وقيل له عليه الصلاة والسلام : أنأخذ عنك في الغضب والرضى ؟ قال : نعم .
[ ص: 242 ] وهو القائل في حقنا : " لا يقضي القاضي وهو غضبان " ، وهذا وإن كان خاصا به; فالدليل صحيح .
وجاء في هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائما كثير .
ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم رضي الله عنهم ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد; كعمر ، وعثمان ، وأبي موسى الأشعري ، وسعيد بن عامر ، وعبد الله بن الزبير; ومن التابعين ، كعامر بن عبد قيس ، وأويس ، ومسروق ، وسعيد بن المسيب ، والأسود بن يزيد ، والربيع بن خثيم ، وعروة بن الزبير ، وأبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش ، وكمنصور بن زاذان ، ويزيد بن هارون ، وهشيم ، وزر بن حبيش ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، ومن سواهم ممن يطول ذكرهم ، وهم من اتباع السنة والمحافظة عليها ما هم .
ومما جاء عن عثمان - رضي الله عنه - أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله .
[ ص: 243 ] وكم من رجل منهم صلى الصبح بوضوء العشاء كذا وكذا سنة ، وسرد الصيام كذا وكذا سنة .
وروي عن ابن عمر وابن الزبير أنهما كانا يواصلان الصيام ، وأجاز مالك صيام الدهر .
وكان أويس القرني يقوم ليلة حتى يصبح ، ويقول : بلغني أن لله عبادا سجودا أبدا .
[ ص: 244 ] ونحوه عن عبد الله بن الزبير .
وعن الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة ، حتى يخضر جسده ويصفر ، فكان علقمة يقول له : ويحك ! لم تعذب هذا الجسد ؟ فيقول : إن الأمر جد ، إن الأمر جد .
وعن أنس بن سيرين أن امرأة مسروق قالت : كان يصلي حتى تورمت قدماه ، فربما جلست أبكي خلفه مما أراه يصنع بنفسه .
وعن الشعبي ; قال غشي على مسروق في يوم صائف وهو صائم ، فقالت له ابنته : أفطر ! قال : ما أردت بي ؟ قالت : الرفق . قال : يا بنية ! إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
إلى سائر ما ذكر عن الأولين من الأعمال الشاقة التي لا يطيقها إلا الأفراد هيأهم الله لها وهيأها لهم وحببها إليهم ، ولم يكونوا بذلك مخالفين للسنة ، بل كانوا معدودين في السابقين ، جعلنا الله منهم ، وذلك لأن العلة التي لأجلها نهي عن العمل الشاق مفقودة في حقهم; فلم ينتهض النهي في حقهم ، كما أنه لما [ ص: 245 ] قال : " لا يقض القاضي وهو غضبان " ، وكان وجه النهي وعلته تشويش الفكر عن استيفاء الحجج اطرد النهي مع كل ما يشوش الفكر ، وانتفى عند انتفائه ، حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذي لا يشوش ، وهذا صحيح مليح .
فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد ، والثاني حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة ، فالخوف سوط سائق ، والرجاء حاد قائد ، والمحبة تيار حامل ، فالخائف يعمل مع وجود المشقة ، غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقا ، والراجي يعمل مع وجود المشقة أيضا ، غير أن الرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب ، والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب ، فيسهل عليه الصعب ويقرب عليه البعيد ، ويفنى القوي ، ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ، ولا قام بشكر النعمة ، ويعمر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته ، وكذلك الخوف على النفس أو العقل أو المال يمنع من العمل المسبب لذلك إن كان لخيرة الإنسان ، ويرخص له فيه إن كان لازما له ، حتى لا يحصل في مشقة ذلك; لأن فيه تشويش النفس كما تقدم .
ولكن العمل الحاصل - والحالة هذه - هل يكون مجزئا أم لا إذا خاف تلف نفسه أو عضو من أعضائه أو عقله ؟
هذا مما فيه نظر يطلع على حقيقة الأمر فيه من قاعدة " الصلاة في الدار المغصوبة " ، وقد نقل منع الصوم إذا خاف التلف به عن مالك والشافعي ، وأنه لا يجزئه إن فعل ، ونقل المنع في الطهارة عند خوف التلف ، والانتقال إلى التيمم ، وفي خوف المرض أو تلف المال احتمال ، والشاهد للمنع قوله [ ص: 246 ] تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء : 29 ] ، وإذا كان منهيا عن هذه الأشياء وأشباهها بسبب الخوف ، لا من جهة إيقاع نفس تلك العبادات ، فالأمران مفترقان ، فإن إدخال المشقة الفادحة على النفس يعقل النهي عنها مجردة عن الصلاة ، والصلاة يعقل الأمر بها مجردة عن المشقة; فصارت ذات قولين .
وأيضا; فيدخل فيها النظر من قاعدة أخرى ، وهي أن يقال هل قصد الشارع رفع المشقة لأجل أن ذلك حق لله ، أم لأجل أنها حق للعبد ؟ فإن قلنا : إنها حق لله ، فيتجه المنع حيث وجهه الشارع ، وقد رفع الحرج في الدين ، فالدخول فيما فيه الحرج مضاد لذلك الرفع ، وإن قلنا إنه حق للعبد ، فإذا سمح العبد لربه بحظه كانت عبادته صحيحة ولم يتمحض النهي عن تلك العبادة .
والذي يرجح هذا الثاني أمور :
منها : أن قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء : 29 ] ، وقد دل بإشارته على أن ذلك من جهة الرفق بالعباد; لقوله تعالى : إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] ، يشير بذلك إلى رفع الحرج عنهم لأنه أرفق بهم ، وأيضا; فقوله : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ الأنبياء : 107 ] وأشباهها من الآيات الدالة على وضع الشريعة لمصالح العباد .
ومنها : ما تقدم من الأدلة على رفع الحرج وإرادة اليسر; فإنما يكون النهي منتهضا مع فرض الحرج والعسر ، فإذا فرض ارتفاع ذلك بالنسبة إلى قوم ارتفع النهي ، ومما يخص مسألتنا قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطرت قدماه ، أو تورمت قدماه ، والعبادة إذا صارت إلى هذا الحد شقت ولا بد ، ولكن المر في طاعة [ ص: 247 ] الله يحلو للمحبين ، وهو عليه الصلاة والسلام كان إمامهم ، وكذلك جاء عن السلف ترداد البكاء حتى عميت أعينهم ، وقد روي عن الحسن بن عرفة; قال : رأيت يزيد بن هارون بواسط ، وهو من أحسن الناس عينين ، ثم رأيته بعين واحدة ، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه ، فقلت له : يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان ؟ فقال : ذهب بهما بكاء الأسحار .
وما تقدم في احتمال مطلق المشقة عن السلف الصالح عاضد لهذا المعنى ، فإذا من غلب جانب حق الله تعالى منع بإطلاق ، ومن غلب جانب حق العبد لم يمنع بإطلاق ، ولكن جعل ذلك إلى خيرته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (61)
صـ248 إلى صـ 255
فصل
وأما الثاني; فإن المكلف مطلوب بأعمال ووظائف شرعية لا بد له منها ، ولا محيص له عنها ، يقوم فيها بحق ربه تعالى ، فإذا أوغل في علم شاق; فربما قطعه عن غيره ، ولا سيما حقوق الغير التي تتعلق به ، فيكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعا عما كلفه الله به; فيقصر فيه ، فيكون بذلك ملوما غير معذور; إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها ، ولا بحال من أحواله فيها .
ذكر البخاري عن أبي جحيفة; قال : آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء - وهي زوجه - متبذلة; فقال لها : ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا . فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما ، فقال له : كل فإني صائم . فقال : ما أنا بآكل حتى [ ص: 248 ] تأكل; فأكل . فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم ، فقال : نم ، فنام . ثم ذهب ليقوم ، فقال : نم . فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قم الآن . فصلينا ، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه . فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر له ذلك; فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : صدق سلمان .
وقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ : أفتان أنت ، أو أفاتن أنت ؟ ( ثلاث مرات ) ، فلولا صليت ب سبح اسم ربك الأعلى [ الأعلى : 1 ] ، والشمس وضحاها [ الشمس : 1 ] ، و والليل إذا يغشى [ الليل : 1 ] ، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة ، وكان الشاكي به رجل أقبل بناضحين وقد جنح الليل ، فوافق معاذا يصلي ، فترك ناضحيه ، وأقبل إلى معاذ ، فقرأ سورة البقرة والنساء; فانطلق الرجل . انظره في البخاري .
وكذلك حديث : إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي الحديث .
[ ص: 249 ] ويروى عن محمد بن صالح أنه دخل صوامع المنقطعين ومواضع المتعبدين ، فرأى رجلا يبكي بكاء عظيما بسبب أن فاتته صلاة صلاة الصبح في الجماعة لإطالته الصلاة من الليل .
وأيضا; فقد يعجز الموغل في بعض الأعمال عن الجهاد أو غيره وهو من أهل الغناء فيه ، ولهذا قال في الحديث في داود عليه السلام : كان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى .
وقيل لابن مسعود رضي الله عنه : وإنك لتقل الصوم . فقال : إنه يشغلني عن قراءة القرآن ، وقراءة القرآن أحب إلي منه .
[ ص: 250 ] ونحو هذا ما حكى عياض عن ابن وهب أنه آلى أن يصوم يوم عرفة أبدا; لأنه كان في الموقف يوما صائما ، وكان شديد الحر فاشتد عليه . قال : فكان الناس ينتظرون الرحمة وأنا أنتظر الإفطار .
وكره مالك إحياء الليل كله وقال : لعله يصبح مغلوبا ، وفي رسول الله أسوة . ثم قال : " لا بأس به ما لم يضر ذلك بصلاة الصبح ، فإن كان يأتيه الصبح وهو نائم; فلا ، وإن كان وهو به فتور أو كسل; فلا بأس به " .
فإذا ظهرت علة النهي عن الإيغال في العمل ، وأنه يسبب تعطيل وظائف ، كما أنه يسبب الكسل والترك ويبغض العبادة ، فإذا وجدت العلة أو كانت متوقعة ، نهي عن ذلك ، وإن لم يكن شيء من ذلك; فالإيغال فيه حسن ، وسبب القيام [ ص: 251 ] بالوظائف مع الإيغال ما تقدم في الوجه الأول من غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة .
فإن قيل : دخول الإنسان في العمل وإيغاله فيه ، وإن كان له وازع الخوف ، أو حادي الرجاء ، أو حامل المحبة ، لا يمكن معه استيفاء أنواع العبادات ، ولا يتأتى له أن يكون قائما الليل ، صائما النهار ، واطئا أهله ، إلى أشباه ذلك من مواصلة الصيام مع القيام على الكسب للعيال ، أو القيام بوظائف الجهاد على كمالها ، وكذلك إدامة الصلاة مع إعانة العباد ، وإغاثة اللهفان ، وقضاء حوائج الناس ، وغير ذلك من الأعمال ، بل كثير منها تضاد أعمالا أخر بحيث لا يمكن الاجتماع فيها ، وقد لا تضادها ، ولكن تؤثر فيها نقصا ، وتزاحم الحقوق على المكلف معلوم غير مجهول ، فكيف يمكن القيام بجميع الحقوق أو بأكثرها والحالة هذه ؟ ولهذا جاء : من يشاد هذا الدين يغلبه .
وأيضا; فإن سلم مثل هذا في أرباب الأحوال ومسقطي الحظوظ; فكيف الحال مع إثباتها والسعي فيها والطلب لها ؟
فالجواب أن الناس كما تقدم ضربان :
أحدهما : أرباب الحظوظ ، وهؤلاء لا بد لهم من استيفاء حظوظهم المأذون لهم فيها شرعا ، لكن بحيث لا يخل بواجب عليهم ، ولا يضر بحظوظهم .
فقد وجدنا عدم الترخص في مواضع الترخص بالنسبة إليهم موقعا في مفسدة أو مفاسد يعظم موقعها شرعا ، وقطع العوائد المباحة قد يوقع في [ ص: 252 ] المحرمات ، وكذلك وجدنا المرور مع الحظوظ مطلقا خروجا عن ربقة العبودية; لأن المسترسل في ذلك على غير تقييد ملق حكمة الشرع عن نفسه ، وذلك فساد كبير ، ولرفع هذا الاسترسال جاءت الشرائع ، كما أن ما في السماوات وما في الأرض مسخر للإنسان .
فالحق الذي جاءت به الشريعة هو الجمع بين هذين الأمرين تحت نظر العدل ، فيأخذ في الحظوظ ما لم يخل بواجب ، ويترك الحظوظ ما لم يؤد الترك إلى محظور ، ويبقى في المندوب والمكروه على توازن ، فيندب إلى فعل المندوب الذي فيه حظه; كالنكاح مثلا ، وينهى عن المكروه الذي لا حظ فيه عاجلا; كالصلاة في الأوقات المكروهة ، وينظر في المندوب الذي لا حظ له فيه ، وفي المكروه الذي له فيه حظ - أعني : الحظ العاجل - ; فإن كان ترك حظه في المندوب يؤدي لما يكره شرعا ، أو لترك مندوب هو أعظم أجرا; كان استعماله الحظ وترك المندوب أولى; كترك التمتع بزوجته المؤدي إلى التشوف إلى الأجنبيات ، حسب ما نبه عليه حديث : إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته [ ص: 253 ] إلخ .
وكذلك ترك الصوم يوم عرفة ، أو لأجل أن يقوى على قراءة القرآن .
[ ص: 254 ] وفي الحديث : إنكم قد استقبلتم عدوكم والفطر أقوى لكم .
وكذلك إن كان ترك المكروه الذي له فيه حظ يؤدي إلى ما هو أشد كراهة منه; غلب الجانب الأخف; كما قال الغزالي : إنه ينبغي أن يقدم طاعة الوالدين في تناول المتشابهات ، على التورع عنها مع عدم طاعتهما; فإن تناول المتشابهات للنفس فيها حظ ، فإذا كان فيها اشتباه طلب التورع عنها وكره تناولها لأجله ، فإن كان في تناولها رضا الوالدين; رجح جانب الحظ هنا بسبب ما هو أشد في الكراهية ، وهو مخالفة الوالدين ، ومثله ما روي عن مالك أن طلب الرزق في شبهة أحسن من الحاجة إلى الناس .
فالحاصل أن الحظوظ لأصحاب الحظوظ تزاحم الأعمال; فيقع الترجيح بينها ، فإذا تعين الراجح ارتكب وترك ما عداه ، وبسط هذه الجملة هي عمدة كلام الفقهاء في تفاريع الفقه .
[ ص: 255 ] والثاني : أهل إسقاط الحظوظ ، وحكمهم حكم الضرب الأول في الترجيح بين الأعمال ، غير أن سقوط حظوظهم لعزوف أنفسهم عنها منع الخوف عليهم من الانقطاع وكراهية الأعمال ، ووفقهم في الترجيح بين الحقوق ، وأنهضهم من الأعمال بما لم ينهض به غيرهم; فصاروا أكثر أعمالا وأوسع مجالا في الخدمة; فيسعهم من الوظائف الدينية المتعلقة بالقلوب والجوارح ما يستعظمه غيرهم ويعده في خوارق العادات ، وأما أنه يمكنهم القيام بجميع ما كلفه العبد وندب إليه على الجملة; فمتعذر ، إلا في المنهيات; فإنه ترك بإطلاق ، ونفي أعمال لا إعمال ، والنفي العام ممكن الحصول بخلاف الإثبات العام ، ولما سقطت حظوظهم صارت عندهم لا تزاحم الحقوق إلا من حيث الأمر ; كقوله : إن لنفسك عليك حقا ، وحقه من حيث هو حق له ضعيف عنده ، أو ساقط فصار غيره عنده أقوى من حظ نفسه; فحظه إذا آخر الأشياء المستحقة ، وإذا سقطت الحظوظ لحق ما هو بدل عنها; لأن زمان طلب الحظ لا يبقى خاليا ، فدخل فيه من الأعمال كثير ، وإذا عمل على حظه من حيث الأمر; فهو عبادة كما سيأتي; فصار عبادة بعد ما كان عادة ، فهو ساقط من جهته ، ثابت من جهة الأمر; كسائر الطاعات ، ومن هنا صار مسقط الحظ أعبد الناس ، بل يصير أكثر عمله في الواجبات ، وهنا مجال رحب له موضع غير هذا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (62)
صـ256 إلى صـ 264
فصل
ما تقدم ذكره إنما هو فيما كان من الأعمال يتسبب عنه مشقة وهو من [ ص: 256 ] المأذون فيه ، فإن كان غير مأذون فيه وتسبب عنه مشقة فادحة; فهو أظهر في المنع من ذلك التسبب; لأنه زاد على ارتكاب النهي إدخال العنت والحرج على نفسه .
إلا أنه قد يكون في الشرع سببا لأمر شاق على المكلف ، ولكن لا يكون قصد من الشارع لإدخال المشقة عليه ، وإنما قصد الشارع جلب مصلحة أو درء مفسدة; كالقصاص ، والعقوبات الناشئة عن الأعمال الممنوعة; فإنها زجر للفاعل ، وكف له عن مواقعة مثل ذلك الفعل ، وعظة لغيره أن يقع في مثله أيضا ، وكون هذا الجزاء مؤلما وشاقا مضاه لكون قطع اليد المتأكلة ، وشرب الدواء البشيع مؤلما وشاقا ، فكما لا يقال للطبيب : إنه قاصد للإيلام بتلك الأفعال ، فكذلك هنا ، فإن الشارع هو الطبيب الأعظم .
والأدلة المتقدمة في أن الله لم يجعل في الدين من حرج ولا يريد جعله فيه ، ويشبه هذا ما في الحديث من قوله : ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته ، ولا بد له من الموت ; لأن الموت لما كان حتما على المؤمن ، وطريقا إلى وصوله إلى ربه ، وتمتعه بقربه في دار القرار ، صار في القصد إليه معتبرا ، وصار من جهة المساءة فيه مكروها ، وقد يكون لاحقا بهذا المعنى النذور التي يشق على الإنسان [ ص: 257 ] الوفاء بها; لأن المكلف لما أريح من مقتضياتها كان التزامها مكروها ، فإذا وقع وجب الوفاء بها من حيث هي عبادات وإن شقت ، كما لزمت العقوبات بناء على التسبب فيها ، حتى إذا كانت النذور فيما ليس بعبادة ، أو كانت في عبادة لا تطاق وشرعت لها تخفيفات ، أو كانت مصادمة لأمر ضروري أو حاجي في الدين سقطت ، كما إذا حلف بصدقة ماله ، فإنه يجزئه الثلث ، أو نذر المشي إلى مكة راجلا فلم يقدر ، فإنه يركب ويهدي ، أو كما إذا نذر أن لا يتزوج ، أو لا يأكل الطعام ، فإنه يسقط حكمه إلى أشباه ذلك; فانظر كيف صحبه الرفق الشرعي فيما أدخل نفسه فيه من المشقات .
فعلى هذا كون الشارع لا يقصد إدخال المشقة على المكلف عام في المأمورات والمنهيات .
ولا يقال : إنه قد جاء في القرآن : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ البقرة : 194 ] ، فسمي الجزاء اعتداء ، وذلك يقتضي القصد إلى الاعتداء ، ومدلوله المشقة الداخلة على المعتدي .
لأنا نقول : تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداء مجازا معروف مثله في كلام العرب ، وفي الشريعة من هذا كثير; كقوله تعالى : الله يستهزئ بهم [ البقرة : 15 ] .
[ ص: 258 ] [ ص: 259 ] [ ص: 260 ] ومكروا ومكر الله [ آل عمران : 54 ] .
إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا [ الطارق : 15 - 16 ] .
إلى أشباه ذلك ، فلا اعتراض بمثل ذلك .
فصل
وقد تكون المشقة الداخلة على المكلف من خارج ، لا بسببه ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه; فهاهنا ليس للشارع قصد في بقاء ذلك الألم وتلك المشقة والصبر عليها ، كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على النفس ، غير أن المؤذيات والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاء للعباد وتمحيصا ، وسلطها عليهم كيف شاء ولما شاء : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [ الأنبياء : 23 ] ، وفهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق ، رفعا للمشقة اللاحقة ، وحفظا على الحظوظ التي أذن لهم فيها ، بل [ ص: 261 ] أذن في التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع; تكملة لمقصود العبد وتوسعة عليه ، وحفظا على تكميل الخلوص في التوجه إليه ، والقيام بشكر النعم .
فمن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش ، والحر والبرد ، وفي التداوي عند وقوع الأمراض ، وفي التوقي من كل مؤذ آدميا كان أو غيره ، والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها ، وهكذا سائر ما يقوم به عيشه في هذه الدار من درء المفاسد وجلب المصالح ، ثم رتب له مع ذلك دفع المؤلمات الأخروية ، وجلب منافعها بالتزام القوانين الشرعية ، كما رتب له ذلك فيما يتسبب عن أفعاله ، وكون هذا مأذونا فيه معلوم من الدين ضرورة .
إلا أن هذا الدفع المأذون فيه إن ثبت انحتامه; فلا إشكال في علمنا أن الشارع قصد رفع تلك المشقة ، كما أوجب علينا دفع المحاربين والساعين على الإسلام والمسلمين بالفساد ، وجهاد الكفار القاصدين لهدم الإسلام وأهله ، ولا يعتبر هنا جهة التسليط والابتلاء; لأنا قد علمنا بإيجاب الدفع أن ذلك ملغى في التكليف ، وإن كان معتبرا في العقد الإيماني ، كما لا تعتبر جهة التكليف ابتداء ، وإن كان في نفسه ابتلاء; لأنه طاعة أو معصية من جهة [ ص: 262 ] العبد ، خلق للرب; فالفعل والترك فيه بحسب ما يخلق الله في العبد ، فليس له في الأصل حيلة إلا الاستسلام لأحكام القضاء والقدر ، فكذلك هنا .
وأما إن لم يثبت انحتام الدفع; فيمكن اعتبار جهة التسليط والابتلاء ، وأن ذلك الشاق مرسل من المسلط المبلي ، فيستسلم العبد للقضاء ، ولذلك لما لم يكن التداوي محتما تركه كثير من السلف الصالح ، وأذن عليه الصلاة والسلام في البقاء على حكم المرض ، كما في حديث السوداء المجنونة التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لها; فخيرها في الأجر مع البقاء على حالتها أو زوال ذلك ، وكما في الحديث : ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون .
ويمكن اعتبار جهة الحظ بمقتضى الإذن ويتأيد بالندب ، كما في التداوي حيث قال عليه الصلاة والسلام : تداووا; فإن الذي أنزل الداء أنزل [ ص: 263 ] الدواء وأما إن ثبت الإباحة; فالأمر أظهر .
وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث من أوجه المشقات المفهومة من إطلاق اللفظ ، وبقي الكلام على الوجه الرابع ، وذلك مشقة مخالفة الهوى ، وهي :
[ ص: 264 ]
المسألة الثامنة
وذلك أن مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها ، وصعب خروجها عنه ، ولذلك بلغ أهل الهوى في مساعدته مبالغ لا يبلغها غيرهم ، وكفى شاهدا على ذلك حال المحبين ، وحال من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المشركين وأهل الكتاب ، وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه ، حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال ، ولم يرضوا بمخالفة الهوى ، حتى قال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم [ الجاثية : 23 ] .
وقال : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس [ النجم : 23 ] .
وقال : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم [ محمد : 14 ] .
وما أشبه ذلك .
ولكن الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع هواه; حتى يكون عبدا لله; فإذا مخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة في التكليف ، وإن كانت شاقة في مجاري العادات ، إذ لو كانت معتبرة حتى يشرع التخفيف لأجل ذلك; لكان ذلك نقضا لما وضعت الشريعة له ، وذلك باطل ، فما أدى إليه مثله ، وبيان هذا المعنى مذكور بعد إن شاء الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (63)
صـ265 إلى صـ 273
المسألة التاسعة
كما أن المشقة تكون دنيوية ، كذلك تكون أخروية ، فإن الأعمال إذا كان الدخول فيها يؤدي إلى تعطيل واجب ، أو فعل محرم فهو أشد مشقة باعتبار الشرع من المشقة الدنيوية التي هي غير مخلة بدين ، واعتبار الدين مقدم على اعتبار النفس وغيرها في نظر الشرع ، وكذلك هنا ، فإذا كان كذلك; فليس للشارع قصد في إدخال المشقة من هذه الجهة ، وقد تقدم من الأدلة التي يدخل تحتها هذا المطلب ما فيه كفاية .
[ ص: 266 ] المسألة العاشرة
قد تكون المشقة الناشئة من التكليف تختص بالمكلف وحده ، كالمسائل المتقدمة ، وقد تكون عامة له ولغيره ، وقد تكون داخلة على غيره بسببه .
ومثال العامة له ولغيره كالوالي المفتقر إليه لكونه ذا كفاية فيما أسند إليه; إلا أن الولاية تشغله عن الانقطاع إلى عبادة الله والأنس بمناجاته ، فإنه إذا لم يقم بذلك عم الفساد والضرر ، ولحقه من ذلك ما يلحق غيره .
ومثال الداخلة على غيره دونه كالقاضي والعالم المفتقر إليهما; إلا أن الدخول في الفتيا والقضاء يجرهما إلى ما لا يجوز ، أو يشغلهما عن مهم ديني أو دنيوي ، وهما إذا لم يقوما بذلك عم الضرر غيرهما من الناس ، فقد نشأ هنا عن طلبهما لمصالحهما المأذون فيها والمطلوبة منهما فساد عام .
[ ص: 267 ] وعلى كل تقدير; فالمشقة من حيث هي غير مقصودة للشارع تكون غير مطلوبة ، ولا العمل المؤدي إليها مطلوبا كما تقدم بيانه; فقد نشأ هنا نظر في تعارض مشقتين ، فإن المكلف إن لزم من اشتغاله بنفسه فساد ومشقة لغيره ، فيلزم أيضا من الاشتغال بغيره فساد ومشقة في نفسه ، وإذا كان كذلك تصدى النظر في وجه اجتماع المصلحتين مع انتفاء المشقتين إن أمكن ذلك ، وإن لم يمكن ، فلا بد من الترجيح ، فإذا كانت المشقة العامة أعظم اعتبر جانبها وأهمل جانب الخاصة ، وإن كان بالعكس ، فالعكس ، وإن لم يظهر ترجيح ، فالتوقف كما سيأتي ذكره في كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله .
[ ص: 268 ] المسألة الحادية عشرة
حيث تكون المشقة الواقعة بالمكلف في التكليف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية ، حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي; [ ص: 269 ] فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة ، وعلى ذلك دلت الأدلة المتقدمة ، ولذلك شرعت فيها الرخص مطلقا .
وأما إذا لم تكن خارجة عن المعتاد ، وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية ، فالشارع وإن لم يقصد وقوعها ، فليس بقاصد لرفعها أيضا .
والدليل على ذلك أنه لو كان قاصدا لرفعها لم يكن بقاء التكليف معها; لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعبا وتكليفا على قدره قل أو جل ، إما في نفس العمل المكلف به ، وإما في خروج المكلف عما كان فيه إلى الدخول في عمل التكليف ، وإما فيهما معا ، فإذا اقتضى الشرع رفع ذلك التعب كان ذلك اقتضاء لرفع العمل المكلف به من أصله ، وذلك غير صحيح ، فكان مما يستلزمه غير صحيح .
إلا أن هنا نظرا ، وهو أن التعب والمشقة في الأعمال المعتادة مختلفة باختلاف تلك الأعمال; فليست المشقة في صلاة ركعتي الفجر ، كالمشقة في ركعتي الصبح ، ولا المشقة في الصلاة كالمشقة في الصيام ، ولا المشقة في الصيام كالمشقة في الحج ، ولا المشقة في ذلك كله كالمشقة في الجهاد ، إلى غير ذلك من أعمال التكليف ، ولكن كل عمل في نفسه له مشقة معتادة فيه توازي مشقة مثله من الأعمال العادية فلم تخرج عن المعتاد على الجملة .
ثم إن الأعمال المعتادة ليست المشقة فيها تجري على وزان واحد ، في [ ص: 270 ] كل وقت ، وفي كل مكان ، وعلى كل حال; فليس إسباغ الوضوء في السبرات يساوي إسباغه في الزمان الحار ، ولا الوضوء مع حضرة الماء من غير تكلف في استقائه يساويه مع تجشم طلبه أو نزعه من بئر بعيدة ، وكذلك القيام إلى الصلاة من النوم في قصر الليل أو في شدة البرد ، مع فعله على خلاف ذلك .
وإلى هذا المعنى أشار القرآن بقوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله [ العنكبوت : 10 ] بعد قوله : أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون [ العنكبوت : 2 ] إلى آخرها .
وقوله : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [ الأحزاب : 10 - 11 ] .
ثم مدح الله من صبر على ذلك وصدق في وعده بقوله : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] .
وقصة كعب بن مالك وصاحبيه - رضي الله عنهم - في تخلفهم عن غزوة [ ص: 271 ] تبوك ، ومنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكالمتهم ، وإرجاء أمرهم : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم [ التوبة : 118 ] .
وكذلك ما جاء في نكاح الإماء عند خشية العنت ، ثم قال : وأن تصبروا خير لكم [ النساء : 25 ] .
إلى أشباه ذلك مما يدل على أن المشقة قد تبلغ في الأعمال المعتادة ما يظن أنه غير معتاد ، ولكنه في الحقيقة معتاد ، ومشقته في مثلها مما يعتاد; إذ المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة : طرف أعلى بحيث لو زاد شيئا لخرج عن المعتاد ، وهذا لا يخرجه عن كونه معتادا ، وطرف أدنى بحيث لو نقص شيئا لم يكن ثم مشقة تنسب إلى ذلك العمل ، وواسطة هي الغالب والأكثر ، فإذا كان كذلك فكثير مما يظهر ببادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد لا يكون كذلك لمن كان عارفا بمجاري العادات وإذا لم تخرج عن المعتاد; لم يكن للشارع قصد في رفعها كسائر المشقات المعتادة في الأعمال الجارية على العادة ، فلا يكون فيها رخصة ، وقد يكون الموضع مشتبها فيكون محلا للخلاف .
[ ص: 272 ] فحيث قال الله تعالى : انفروا خفافا وثقالا [ التوبة : 41 ] ، ثم قال : إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما [ التوبة : 39 ] ; كان هذا موضع شدة لأنه يقتضي أن لا رخصة أصلا في التخلف ، إلا أنه بمقتضى الأدلة على رفع الحرج محمول على أقصى الثقل في الأعمال المعتادة ، بحيث يتأتى النفير ويمكن الخروج ، وقد كان اجتمع في غزوة تبوك أمران : شدة الحر ، وبعد الشقة ، زائدا على مفارقة الظلال ، واستدرار الفواكه والخيرات ، وذلك كله زائد في مشقة الغزو زيادة ظاهرة ، ولكنه غير مخرج لها عن المعتاد; فلذلك لم يقع في ذلك رخصة; فكذلك أشباهها ، وقد قال تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ محمد : 31 ] .
وقد قال ابن عباس في قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] ، إنما ذلك سعة الإسلام ما جعل الله من التوبة والكفارات .
وقال عكرمة : ما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع .
وعن عبيد بن عمير ; أنه جاء في ناس من قومه إلى ابن عباس ، فسأله عن الحرج; فقال : أولستم العرب ؟ فسألوه ثلاثا ، كل ذلك يقول : أولستم العرب ؟ ثم قال : ادع لي رجلا من هذيل; فقال له : ما الحرج فيكم ؟ قال الحرجة من الشجر ما ليس له مخرج . قال ابن عباس : ذلك الحرج ما لا مخرج له .
[ ص: 273 ] فانظر كيف جعل الحرج ما لا مخرج له ، وفسر رفعه بشرع التوبة والكفارات ، وأصل الحرج الضيق ، فما كان من معتادات المشقات في الأعمال المعتاد مثلها; فليس بحرج لغة ولا شرعا ، كيف وهذا النوع من الحرج وضع لحكمة شرعية ، وهي التمحيص والاختبار حتى يظهر في الشاهد ما علمه الله في الغائب; فقد تبين إذا ما هو من الحرج مقصود الرفع ، وما ليس بمقصود الرفع ، والحمد لله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (64)
صـ274 إلى صـ 286
فصل
قال ابن العربي : " إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس ، فإنه يسقط ، وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا وفي بعض أصول الشافعي اعتباره " انتهى ما قال .
وهو مما ينظر فيه ، فإنه إن عنى بالخاص الحرج الذي في أعلى مراتب المعتاد ، فالحكم كما قال ولا ينبغي أن يختلف فيه ، لأنه إن كان من المعتاد ، فقد ثبت أن المعتاد لا إسقاط فيه ، وإلا لزم في أصل التكليف ، فإن تصور وقوع اختلاف; فإنما هو مبني على أن ذلك الحرج من قبيل المعتاد ، أو من قبيل الخارج عن المعتاد لا أنه مختلف فيه مع الاتفاق على أنه من أحدهما .
وأيضا; فتسميته خاصا يشاح فيه ، فإنه بكل اعتبار عام غير خاص; إذ [ ص: 274 ] ليس مختصا ببعض المكلفين على التعيين دون بعض .
وإن عنى بالحرج ما هو خارج عن المعتاد ، ومن جنس ما تقع فيه الرخصة والتوسعة; فالعموم والخصوص فيه أيضا مما يشكل فهمه ، فإن السفر مثلا سبب للحرج مع تكميل الصلاة والصوم ، وقد شرع فيه التخفيف ، فهذا عام ، والمرض قد شرع فيه التخفيف وهو ليس بعام ، بمعنى أنه لا يسوغ التخفيف في كل مرض ، إذ من المرضى من لا يقدر على إكمال الصلاة قائما أو قاعدا ، ومنهم من يقدر على ذلك ، ومنهم من يقدر على الصوم ، ومنهم من لا يقدر ، فهذا يخص كل واحد من المكلفين في نفسه ، ومع ذلك فقد شرع فيه التخفيف على الجملة ، فالظاهر أنه خاص ، ولكن لا يخالف فيه مالك الشافعي; إلا أن يكونوا جعلوا هذا من الحرج العام عند تقييد المرض بما يحصل فيه الحرج غير المعتاد ، فيرجع إذ ذاك إلى قسم العام ، ولا يخالف فيه مالك الشافعي أيضا ، وعند ذلك يصعب تمثيل الخاص ، وإلا; فما من حرج يعد أن يكون له تخفيف مشروع باتفاق أو باختلاف إلا وهو عام ، وإن اتفق أن لا يقع منه في الوجود إلا فرد واحد ، وإن قدر أن يكون التشريع له وحده أو لقوم مخصوصين; فهذا غير متصور في الشريعة إلا ما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو خص به أحد من أصحابه كتضحية أبي بردة بالعناق الجذعة وشهادة خزيمة; فذلك مختص بزمان النبوة دون ما بعد ذلك .
فإن قيل : لعله يريد بالخصوص والعموم ما كان عاما للناس كلهم ، وما كان خاصا ببعض الأقطار ، أو بعض الأزمان ، أو بعض الناس ، وما أشبه [ ص: 275 ] ذلك .
فالجواب : إن هذا أيضا مما ينظر فيه ; فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام في ذلك الكلي لا خاص ; لأن حقيقة الخاص ما كان الحرج فيه خاصا ببعض الأشخاص المعينين ، أو بعض الأزمان المعينة ، أو الأمكنة المعينة ، وكل ذلك إنما يتصور في زمان النبوة ، أو على وجه لا يقاس عليه غيره ; كنهيه عن ادخار لحوم الأضاحي زمن الدافة ، وكتخصيص الكعبة [ ص: 276 ] بالاستقبال ، والمساجد الثلاثة بما اشتهر من فضلها على سائر المساجد ; فتصور مثل هذا في مسألة ابن العربي غير متأت .
فإن قيل : ففي النوع أو الصنف خصوص من حيث هو نوع أو صنف داخل تحت جنس شامل له ولغيره .
قيل : وفيه أيضا عموم من جهة كونه شاملا لمتعدد لا ينحصر ; فليس أحد الطرفين وهو الخصوص أولى به من الطرف الآخر وهو العموم ، بل جهة العموم أولى ; لأن الحرج فيها كلي بحيث لو لحق نوعا آخر أو صنفا آخر للحق به في الحكم ; فنسبة ذلك النوع أو الصنف إلى سائر الأنواع أو الأصناف الداخلة تحت الجنس الواحد نسبة بعض أفراد ذلك الجنس في لحوق المرض أو السفر إلى جميع أفراده ; فإن ثبت الحكم في بعضها ثبت في البعض ، وإن سقط ، سقط في البعض ، وهذا متفق عليه بين الإمامين ، فمسألتنا ينبغي أن يكون الأمر فيها كذلك .
فإن قيل : لعله يريد بذلك ما كان مثل التغير اللاحق للماء بما لا ينفك عنه غالبا ، وهو عام ; كالتراب والطحلب وشبه ذلك ، أو خاص كما إذا كان عدم [ ص: 277 ] الانفكاك خاصا ببعض المياه ، فإن حكم الأول ساقط لعمومه ، والثاني مختلف فيه لخصوصه ، وكذلك اختلف في ماء البحر : هل هو طهور أم لا ؟ لأنه متغير خاص ، وكالتغير بتفتت الأوراق في المياه خصوصا ففيه خلاف ، والطلاق قبل النكاح إن كان عاما سقط ، وإن كان خاصا ففيه خلاف ، كما إذا قال : كل امرأة أتزوجها من بني فلان ، أو من البلد الفلاني ، أو من السودان ، أو من البيض ، أو كل بكر أتزوجها ، أو كل ثيب ، وما أشبه ذلك ، فهي طالق ، ومثله كل أمة اشتريتها ، فهي حرة ، هو بالنسبة إلى قصد الوطء من الخاص ، كما لو قال : كل حرة أتزوجها طالق ، وبالنسبة إلى قصد مطلق الملك من العام فيسقط ، فإن قال فيه : كل أمة اشتريتها من السودان كان خاصا ، وجرى فيه الخلاف ، وأشباه ذلك من المسائل .
فالجواب : أن هذا ممكن ، وهو أقرب ما يؤخذ عليه كلامه ; إلا أن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها عنمالك بعدم الاعتبار ، وعن الشافعي بالاعتبار يجب أن يحقق في هذه الأمثلة ، وفي غيرها بالنسبة إلى علم الفقه ، لا [ ص: 278 ] بالنسبة إلى نظر الأصول ، إلا أنه إذا ثبت الخلاف ، فهو المراد هنا والنظر الأصولي يقتضي ما قال ; فإن الحرج العام هو الذي لا قدرة للإنسان في الانفكاك عنه ، كالأمثلة المتقدمة ، فأما إذا أمكن الانفكاك عنه ; فليس بحرج عام بإطلاق ، إلا أن الانفكاك عنه قد يكون فيه حرج آخر ، وإن كان أخف إذ لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة ، لاختلاف أحوال الناس في ذلك .
وأيضا ; فكما لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة كذلك لا يطرد مع وجودها ; فكان بهذا الاعتبار ذا نظرين ، فصارت المسألة ذات طرفين وواسطة : الطرف العام الذي لا انفكاك عنه في العادة الجارية ، ويقابله طرف خاص يطرد الانفكاك عنه من غير حرج كتغير هذا الماء بالخل والزعفران ونحوه ، وواسطة دائرة بين الطرفين هي محل نظر واجتهاد ، والله أعلم .
[ ص: 279 ] المسألة الثانية عشرة
الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل ، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه ، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال ، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال ; كتكاليف الصلاة ، والصيام ، والحج ، والجهاد ، والزكاة ، وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك ، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل ; كقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون [ البقرة : 215 ] .
يسألونك عن الخمر والميسر [ البقرة : 219 ] .
وأشباه ذلك .
فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف ، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين ; كان التشريع رادا إلى الوسط الأعدل ، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه ، فعلى الطبيب الرفيق [ أن ] يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته ، وقوة مرضه وضعفه ، حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا لائقا به في جميع أحواله .
أو لا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب [ ص: 280 ] التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم ، ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم ، وتكمل بها تصرفاتهم ; كقوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ البقرة : 22 ] .
وقوله : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره إلى قوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ إبراهيم : 32 - 34 ] .
وقوله : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ النحل : 10 ] .
إلى آخر ما عد لهم من النعم ، ثم وعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا ، وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر ، فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران ، وشكوا في صدق ما قيل لهم ; أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته ، فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة ; أخبروا [ ص: 281 ] بحقيقتها ، وأنها في الحقيقة كلا شيء ; لأنها زائلة فانية .
وضربت لهم الأمثال في ذلك ; كقوله تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء [ يونس : 24 ] الآية .
وقوله : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو [ الحديد : 20 ] [ إلى آخر الآية ]
وقوله : وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ الحديد : 20 ] وقوله وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ العنكبوت : 64 ] .
بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها أو نظرا إلى هذا المعنى ; فقال عليه الصلاة والسلام : إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا .
ولما لم يظهر ذلك ولا مظنته ; قال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] .
وقال : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا [ المؤمنون : 51 ] .
[ ص: 282 ] ووقع لأهل الإسلام النهي عن الظلم ، والوعيد فيه والتشديد ، وقال تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ فشق ذلك عليهم ، وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فنزل : إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ; فخفف عنهم بسبب ذلك ، مع أن قليل الظلم وكثيره منهي عنه ، لكنهم فهموا أن مطلق الظلم لا يحصل معه الأمن في الآخرة والهداية لقوله : " ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون " [ الأنعام : 82 ] .
ولما قال عليه الصلاة والسلام : آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ; شق ذلك عليهم ، إذ لا يسلم أحد من شيء منه ، ففسره عليه الصلاة والسلام لهم حين أخبروه بكذب وإخلاف وخيانة مختصة بأهل الكفر .
وكذلك لما نزل : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [ البقرة : 284 ] الآية ; شق عليهم ; فنزل : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] .
وقارف بعضهم بارتداد أو غيره وخاف أن لا يغفر له ، فسئل في ذلك [ ص: 283 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; فأنزل الله : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله [ الزمر : 53 ] الآية .
[ ص: 284 ] ولما ذم الدنيا ومتاعها ; هم جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا ، وينقطعوا إلى العبادة ، فرد ذلك عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : من رغب عن سنتي ; فليس مني .
ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله : إنما أموالكم وأولادكم فتنة [ التغابن : 15 ] والمال والولد هي الدنيا ، وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها ، ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها ; إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه ، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه ; فلا .
ومن غامض هذا المعنى أن الله تعالى أخبر عما يجازي به المؤمنين في الآخرة ، وأنه جزاء لأعمالهم ; فنسب إليهم أعمالا وأضافها إليهم بقوله : جزاء بما كانوا يعملون [ السجدة : 17 ] .
ونفى المنة به عليهم في قوله : فلهم أجر غير ممنون [ التين : 6 ] .
فلما منوا بأعمالهم قال تعالى : يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [ الحجرات : 17 ] .
فأثبت المنة عليهم على ما هو الأمر في نفسه ; لأنه مقطع حق ، وسلب [ ص: 285 ] عنهم ما أضاف إلى الآخرين ، بقوله : أن هداكم للإيمان [ الحجرات : 17 ] ، كذلك أيضا ، أي فلولا الهداية لم يكن ما مننتم به ، وهذا يشبه في المعنى المقصود حديث شراج الحرة حين تنازع فيه الزبير ورجل من الأنصار ; فقال عليه السلام : اسق يا زبير - فأمره بالمعروف - ، وأرسل الماء إلى جارك . فقال الرجل : إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : اسق يا زبير حتى يرجع الماء إلى الجدر ، واستوفى له حقه ; فقال الزبير : إن هذه الآية نزلت في ذلك : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم [ النساء : 65 ] الآية .
وهكذا تجد الشريعة أبدا في مواردها ومصادرها .
وعلى نحو من هذا الترتيب يجري الطبيب الماهر ، يعطي الغذاء ابتداء [ ص: 286 ] على ما يقتضيه الاعتدال في توافق مزاج المغتذي مع مزاج الغذاء ، ويخبر من سأله عن بعض المأكولات التي يجهلها المغتذي : أهو غذاء ، أم سم ، أم غير ذلك ؟ فإذا أصابته علة بانحراف بعض الأخلاط ; قابله في معالجته على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر ، ليرجع إلى الاعتدال وهو المزاج الأصلي ، والصحة المطلوبة ، وهذا غاية الرفق ، وغاية الإحسان والإنعام من الله سبحانه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (65)
صـ287 إلى صـ 295
فصل
فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط ، فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف ، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر .
فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر - يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين .
وطرف التخفيف - وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص - يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد ، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحا ، ومسلك الاعتدال واضحا ، وهو الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يلجأ إليه .
وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط ; فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى ، [ ص: 287 ] وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما ، وما قابلها . والتوسط يعرف بالشرع ، وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء ; كما في الإسراف والإقتار في النفقات .
[ ص: 288 ] [ ص: 289 ] النوع الرابع
في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة
ويشتمل على مسائل
المسألة الأولى
المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ; حتى يكون عبدا لله اختيارا ، كما هو عبد لله اضطرارا .
والدليل على ذلك أمور :
أحدها : النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله ، والدخول [ ص: 290 ] تحت أمره ونهيه ; كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 56 - 57 ] .
وقوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] .
وقوله : يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] .
ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة ; كقوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن إلى قوله : وأولئك هم المتقون [ البقرة : 177 ] .
وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام ، وقوله : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا [ النساء : 36 ] .
إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق ، وبتفاصيلها على العموم ، فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال ، والانقياد إلى أحكامه على كل حال ، وهو معنى التعبد لله .
والثاني : ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله ، وذم من أعرض عن الله ، وإيعادهم بالعذاب العاجل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات ، والعذاب الآجل في الدار الآخرة ، وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة ، والشهوات الزائلة ; فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق ، وعده قسيما له ، كما في قوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية [ ص : 26 ] .
[ ص: 291 ] وقال تعالى : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [ النازعات : 37 - 39 ] .
وقال في قسيمه : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ النازعات : 40 - 41 ] .
وقال : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ النجم : 3 - 4 ] .
فقد حصر الأمر في شيئين : الوحي وهو الشريعة ، والهوى ، فلا ثالث لهما ، وإذا كان كذلك ; فهما متضادان ، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده ، فاتباع الهوى مضاد للحق .
وقال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم [ الجاثية : 23 ] .
وقال : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ المؤمنون : 71 ] .
وقال : الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم [ محمد : 16 ] . ،
وقال : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم [ محمد : 14 ] .
وتأمل ; فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى ; فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه ، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس ; أنه قال : " ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه " . فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن [ ص: 292 ] اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى .
والثالث : ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى ، والمشي مع الأغراض ; لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك ، الذي هو مضاد لتلك المصالح ، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة ، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته ، وسار حيث سارت به ، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها ، أو كان له شريعة درست ، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي ، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم ، واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا ، وهي التي يسمونها السياسة المدنية ; فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة ، وهو أظهر من أن يستدل عليه .
وإذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم ; إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة ، أما الوجوب والتحريم ; فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار ; إذ يقال له : " افعل كذا " كان لك فيه غرض أم لا ، و " لا تفعل كذا " كان لك فيه غرض أم لا ، فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق ، وهوى باعث على [ ص: 293 ] مقتضى الأمر أو النهي ، فبالعرض لا بالأصل ، وأما سائر الأقسام - وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف - ; فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره ، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره ، ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض ، وقد لا يكون ؟ فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار ، بل في رفعه مثلا ، كيف يقال : إنه داخل تحت اختياره ؟ فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعا ; حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه ، كما يطرأ للمتنازعين في حق .
وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول ، حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه ، ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس ، فيحب الآن ما يكره غدا ، وبالعكس ، فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق ، وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشيء الواحد فينخرم النظام بسبب فرط اتباع الأغراض والهوى ; فسبحان الذي أنزل في كتابه : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ المؤمنون : 71 ] .
فإذا ; إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف ، إلا من حيث كان قضاء من الشارع ، وإذ ذاك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع ، وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي ، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله .
فإن قيل : وضع الشرائع ; إما أن يكون عبثا ، أو لحكمة ; فالأول باطل باتفاق ، وقد قال تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا [ المؤمنون : 115 ] .
[ ص: 294 ] وقال : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا [ ص : 27 ] .
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق [ الدخان : 38 - 39 ] .
وإن كان لحكمة ومصلحة ، فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى أو إلى العباد ، ورجوعها إلى الله محال ; لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام ، فلم يبق إلا رجوعها إلى العباد ، وذلك مقتضى أغراضهم ، لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه وما يوافق هواه في دنياه وأخراه ، والشريعة تكفلت لهم بهذا المطلب في ضمن التكليف ; فكيف ينفى أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم ؟
وأيضا ; فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد ، وثبتت لهم حظوظهم تفضلا من الله تعالى على ما يقوله المحققون ، أو وجوبا على ما يزعمه المعتزلة ، وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقا ; كان ما ينافيه باطلا .
فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد ; فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع ، وعلى الحد الذي حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم ; ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس ، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك ، فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه ، حتى يأخذها من تحت الحد المشروع ، وهذا هو المراد ، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض ، أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في [ ص: 295 ] العاجل والآجل ، فصحيح ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع ، ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع ، وهذا ظاهر وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم ; لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع ; لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة ، وذلك ما أردنا هاهنا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (66)
صـ296 إلى صـ 304
فصل
فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد :
منها : أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير ; فهو باطل بإطلاق ; لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه ، وداع يدعو إليه ، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل ، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة ، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق ; لأنه خلاف الحق بإطلاق ، فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة ، وتأمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الموطأ : إنك في زمان كثير فقهاؤه ، قليل قراؤه ، تحفظ فيه حدود القرآن ، وتضيع حروفه ، قليل من يسأل ، كثير من يعطي ، يطيلون في الصلاة ، ويقصرون في الخطبة ، يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم ، [ ص: 296 ] وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه ، كثير قراؤه ، تحفظ فيه حروف القرآن ، وتضيع حدوده ، كثير من يسأل ، قليل من يعطي ، يطيلون فيه الخطبة ، ويقصرون الصلاة ، يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم .
فأما العبادات ; فكونها باطلة ظاهر ، وأما العادات ; فذلك من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي ، فوجودها في ذلك وعدمها سواء ، وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به ، كما تقدم في كتاب الأحكام وفي هذا الكتاب .
وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر أو النهي أو التخيير ; فهو صحيح وحق لأنه قد أتى به من طريقه الموضوع له ، ووافق فيه صاحبه قصد الشارع ; [ ص: 297 ] فكان كله صوابا ، وهو ظاهر .
وأما إن امتزج فيه الأمران ; فكان معمولا بهما ; فالحكم للغالب والسابق ، فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع ; فلا إشكال في إلحاقه بالقسم الثاني ، وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة ; لأن الشريعة موضوعة أيضا لمصالح العباد ، فإذا جعل الحظ تابعا ; فلا ضرر على العامل .
إلا أن هنا شرطا معتبرا ، وهو أن يكون ذلك الوجه الذي حصل أو يحصل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض ، وإلا ; فليس السابق فيه أمر الشارع ، وبيان هذا الشرط مذكور في موضعه .
وإن كان الغالب والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع ; فهو لاحق بالقسم الأول .
وعلامة الفرق بين القسمين تحري قصد الشارع وعدم ذلك ; فكل عمل شارك العامل فيه هواه فانظر فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع ; فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع ، وهواه تبع ، وإن لم يكف عند ورود النهي عليه ; فالغالب والسابق له الهوى والشهوة ، وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده ; فواطئ زوجته وهي طاهر محتمل أن يكون فيه تابعا لهواه ، أو لإذن الشارع ، فإن حاضت فانكف ، دل على أن هواه تبع ، وإلا دل على أنه السابق .
[ ص: 298 ] فصل
ومنها : أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود ; لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة ; فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفا .
أما أولا ; فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي ; لأنه مضاد لها .
وأما ثانيا ; فإنه إذا اتبع واعتيد ، ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسا به ، حتى يسري معها في أعمالها ، ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج ; فقد يكون مسبوقا بالامتثال الشرعي فيصير سابقا له ، وإذ صار سابقا له صار العمل الامتثالي تبعا له وفي حكمه ; فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة ، ودليل التجربة حاكم هنا .
وأما ثالثا ; فإن العامل بمقتضى الامتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه ، والنعيم بما يجتنيه من ثمرات الفهوم ، وانفتاح مغاليق العلوم ، وربما أكرم ببعض الكرامات ، أو وضع له القبول في الأرض ; فانحاش الناس إليه ، وحلقوا عليه ، وانتفعوا به ، وأموه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم ، إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة ; من الصلاة ، والصوم ، وطلب العلم ، والخلوة للعبادة ، وسائر الملازمين لطرق الخير ، فإذا دخل عليه ذلك ، كان للنفس به بهجة وأنس وغنى ولذة ونعيم ، بحيث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك كما ، قال بعضهم : " لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف " ، أو كما قال ، وإذا كان كذلك ; فلعل النفس تنزع [ ص: 299 ] إلى مقدمات تلك النتائج ، فتكون سابقة للأعمال ، وهو باب السقوط عن تلك الرتبة والعياذ بالله ، هذا وإن كان الهوى المحمود ليس بمذموم على الجملة ; فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق ، ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين وأخبار الفضلاء والصالحين ; فلا حاجة إلى تقريره هاهنا .
فصل
ومنها : أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه فتصير كالآلة المعدة لاقتناص أغراضه ; كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلما لما في أيدي الناس ، وبيان هذا ظاهر ، ومن تتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرا ، وقد تقدم في كتاب الأحكام من هذا المعنى جملة عند الكلام على الالتفات إلى المسببات في أسبابها ، ولعل الفرق الضالة المذكورة في الحديث أصل ابتداعها اتباع أهوائها ، دون توخي مقاصد الشرع .
[ ص: 300 ] المسألة الثانية
المقاصد الشرعية ضربان : مقاصد أصلية ، ومقاصد تابعة .
فأما المقاصد الأصلية ; فهي التي لا حظ فيها للمكلف ، وهى الضروريات المعتبرة في كل ملة ، وإنما قلنا : إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية ; لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة ، لا تختص بحال دون حال ، ولا بصورة دون صورة ، ولا بوقت دون وقت ، لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية ، وإلى ضرورية كفائية .
فأما كونها عينية ; فعلى كل مكلف في نفسه ، فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادا وعملا ، وبحفظ نفسه قياما بضرورية حياته ، وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب من ربه إليه ، وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار ، ورعيا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه ، وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة ، ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه ، ولحيل بينه [ ص: 301 ] وبين اختياره ، فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ ، محكوما عليه في نفسه ، وإن صار له فيها حظ ، فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي .
وأما كونها كفائية ; فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين ; لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها ، إلا أن هذا القسم مكمل للأول ; فهو لاحق به في كونه ضروريا ; إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي ، وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق ; فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص ، لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط ، وإلا صار عينيا ، بل بإقامة الوجود ، وحقيقته أنه خليفة الله في عباده على حسب قدرته ، وما هيئ له من ذلك ، فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله ، فضلا عن أن يقوم بقبيلة ، فضلا عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض ; فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة حتى قام الملك في الأرض .
ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي معرى من الحظ شرعا أن القائمين به في ظاهر الأمر ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من ذلك ; فلا يجوز لوال أن يأخذ أجرة ممن تولاهم على ولايته عليهم ، ولا لقاض أن يأخذ من المقضي عليه أو له أجرة على قضائه ، ولا لحاكم على حكمه ، [ ص: 302 ] ولا لمفت على فتواه ، ولا لمحسن على إحسانه ، ولا لمقرض على قرضه ، ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التي للناس فيها مصلحة عامة ، ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية ; لأن استجلاب المصلحة هنا مؤد إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات .
وعلى هذا المسلك يجري العدل في جميع الأنام ، ويصلح النظام ، وعلى خلافه يجري الجور في الأحكام ، وهدم قواعد الإسلام ، وبالنظر فيه يتبين أن العبادات العينية لا تصح الإجارة عليها ، ولا قصد المعاوضة فيها ، ولا نيل مطلوب دنيوي بها ، وأن تركها سبب للعقاب والأدب ، وكذلك النظر في المصالح العامة موجب تركها للعقوبة ; لأن في تركها أي مفسدة في العالم .
وأما المقاصد التابعة ; فهي التي روعي فيها حظ المكلف ، فمن جهتها [ ص: 303 ] يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات ، والاستمتاع بالمباحات ، وسد الخلات ، وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره ، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش ، ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه ، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها ، وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة ، فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن ثم خلق الجنة والنار ، وأرسل الرسل مبينة أن الاستقرار ليس هنا ، وإنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى ، وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك ، لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع أو بالخروج عنه ، فأخذ المكلف في استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض ، ولم يجعل له قدرة على القيام بذلك وحده ، لضعفه عن مقاومة هذه الأمور ، فطلب التعاون بغيره ، فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره ، فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع ، وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه .
فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها ، ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ ، أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها ، لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة ، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحا لا ممنوعا ، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة ، وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [ البقرة : 216 ] ولو شاء لمنعنا في الاكتساب الأخروي القصد إلى الحظوظ ، فإنه المالك وله الحجة البالغة ، [ ص: 304 ] ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا ، وعجل لنا من ذلك حظوظا كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به ، فبهذا الحظ قيل : إن هذه المقاصد توابع ، وإن تلك هي الأصول ; فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية ، والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (67)
صـ305 إلى صـ 312
المسألة الثالثة
قد تحصل إذا أن الضروريات ضربان :
أحدهما : ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود ، كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله في الاقتيات ، واتخاذ السكن ، والمسكن ، واللباس ، وما يلحق بها من المتممات ; كالبيوع ، والإجارات ، والأنكحة ، وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية .
والثاني : ما ليس فيه حظ عاجل مقصود ، كان من فروض الأعيان كالعبادات البدنية والمالية ; من الطهارة ، والصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، وما أشبه ذلك ، أو من فروض الكفايات كالولايات العامة ; من الخلافة ، والوزارة ، والنقابة ، والعرافة ، والقضاء ، وإمامة الصلوات ، والجهاد ، والتعليم ، وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام .
فأما الأول ; فلما كان للإنسان فيه حظ عاجل ، وباعث من نفسه يستدعيه [ ص: 306 ] إلى طلب ما يحتاج إليه ، وكان ذلك الداعي قويا جدا بحيث يحمله قهرا على ذلك ; لم يؤكد عليه الطلب بالنسبة إلى نفسه ، بل جعل الاحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبا طلب الندب لا طلب الوجوب ، بل كثيرا ما يأتي في معرض الإباحة ، كقوله : وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] .
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] .
كلوا من طيبات ما رزقناكم [ البقرة : 172 ] .
وما أشبه ذلك ، مع أنا لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب بحيث يسعهم جميعا الترك ; لأثموا لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب ، فهذا من الشارع ; كالحوالة على ما في الجبلة من الداعي الباعث على الاكتساب حتى إذا لم يكن فيه حظ أو جهة نازع طبعي أوجبه الشرع عينا أو كفاية ، كما [ ص: 307 ] لو فرض هذا في نفقة الزوجات والأقارب ، وما أشبه ذلك .
فالحاصل أن هذا الضرب قسمان :
قسم يكون القيام بالمصالح فيه بغير واسطة ; كقيامه بمصالح نفسه مباشرة .
وقسم يكون القيام بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير ; كالقيام بوظائف الزوجات والأولاد والاكتساب بما للغير فيه مصلحة ; كالإجارات والكراء ، والتجارة ، وسائر وجوه الصنائع والاكتسابات ، فالجميع يطلب الإنسان بها حظه ، فيقوم بذلك حظ الغير ، خدمة دائرة بين الخلق كخدمة بعض أعضاء الإنسان بعضا ، حتى تحصل المصلحة للجميع .
ويتأكد الطلب فيما فيه حظ الغير على طلب حظ النفس المباشر ، وهذه حكمة بالغة ، ولما كان النظر هكذا وكانت جهة الداعي كالمتروكة إلى ما يقتضيه ، وكان ما يناقض الداعي ليس له خادم ، بل هو على الضد من ذلك ; [ ص: 308 ] أكدت جهة الكف هنا بالزجر والتأديب في الدنيا ، والإيعاد بالنار في الآخرة ; كالنهي عن قتل النفس ، والزنا ، والخمر ، وأكل الربا ، وأكل أموال اليتامى وغيرهم من الناس بالباطل ، والسرقة ، وأشباه ذلك ; فإن الطبع النازع إلى طلب مصلحة الإنسان ، ودرء مفسدته يستدعي الدخول في هذه الأشياء .
وعلى هذا الحد جرى الرسم الشرعي في قسم الكفاية من الضرب الثاني أو أكثر أنواعه ; فإن عز السلطان ، وشرف الولايات ، ونخوة الرياسة ، وتعظيم المأمورين للآمر مما جبل الإنسان على حبه ، فكان الأمر بها جاريا مجرى الندب لا الإيجاب ، بل جاء ذلك مقيدا بالشروط المتوقع خلافها ، وأكد النظر في مخالفة الداعي ; فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهي عما تنزع إليه النفس فيها ; كقوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ ص : 26 ] إلى آخرها .
وفي الحديث : لا تطلب الإمارة ; فإنك إن طلبتها باستشراف نفس وكلت إليها أو كما قال .
وجاء النهي عن غلول الأمراء ، وعن عدم النصح في الإمارة ; لما كان [ ص: 309 ] هذا كله على خلاف الداعي من النفس ، ولم يكن هذا كله دليلا على عدم الوجوب في الأصل ، بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات .
وأما قسم الأعيان ; فلما لم يكن فيه حظ عاجل مقصود ، أكد القصد إلى فعله بالإيجاب ، ونفيه بالتحريم ، وأقيمت عليه العقوبات الدنيوية ، وأعني بالحظ المقصود ما كان مقصود الشارع بوضعه السبب [ الباعث عليه ، وغير المقصود وهو ما لم يكن مقصودا للشارع بوضعه السبب ] ; فإنا نعلم أن الشارع شرع الصلاة وغيرها من العبادات لا لنحمد عليها ، ولا لننال بها في الدنيا شرفا وعزا أو شيئا من حطامها ، فإن هذا ضد ما وضعت له العبادات ، بل هي خالصة لله رب العالمين ، ألا لله الدين الخالص [ الزمر : 3 ] .
وهكذا شرعت أعمال الكفاية لا لينال بها عز السلطان ، ونخوة الولاية ، وشرف الأمر والنهي ، وإن كان قد يحصل ذلك بالتبع ، فإن عز المتقي لله في الدنيا وشرفه على غيره لا ينكر ، وكذلك ظهور العزة في الولايات موجود معلوم ثابت شرعا ، من حيث يأتي تبعا للعمل المكلف به ، وهكذا القيام بمصالح الولاة من حيث لا يقدح في عدالتهم حسبما حده الشارع غير منكر ولا ممنوع ، بل هو مطلوب متأكد ، فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة ، فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك ، وقد قال تعالى :
[ ص: 310 ] وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] الآية .
وقال : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق : 2 - 3 ] .
وفي الحديث : من طلب العلم ، تكفل الله برزقه .
إلى غير ذلك مما يدل على أن قيام المكلف بحقوق الله سبب لإنجاز ما عند الله من الرزق .
فصل
فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل له فيه حظه بالقصد الثاني من الشارع ، وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول [ ص: 311 ] يحصل فيه العمل المبرأ من الحظ .
وبيان ذلك في الأول ما ثبت في الشريعة أولا من حظ نفسه وماله ، وما وراء ذلك من احترام أهل التقوى والفضل والعدالة ، وجعلهم عمدة في الشريعة في الولايات والشهادات وإقامة المعالم الدينية ، وغير ذلك زائدا إلى ما جعل لهم من حب الله وحب أهل السماوات لهم ، ووضع القبول لهم في الأرض حتى يحبهم الناس ويكرمونهم ويقدمونهم على أنفسهم ، وما يخصون به من انشراح الصدور ، وتنوير القلوب ، وإجابة الدعوات ، والإتحاف بأنواع الكرامات ، وأعظم من ذلك ما في الحديث مسندا إلى رب العزة : من آذى لي وليا ، فقد بارزني بالمحاربة .
وأيضا ; فإذا كان من هذا وصفه قائما بوظيفة عامة لا يتفرغ بسببها لأموره الخاصة به في القيام بمصالحه ونيل حظوظه ; وجب على العامة أن يقوموا له بذلك ، ويتكفلوا له بما يفرغ باله للنظر في مصالحهم من بيوت أموالهم المرصدة لمصالحهم ، إلى ما أشبه ذلك مما هو راجع إلى نيل حظه على الخصوص ، فأنت تراه لا يعرى عن نيل حظوظه الدنيوية في طريق تجرده عن حظوظه ، وما له في الآخرة من النعيم أعظم .
وأما الثاني ; فإن اكتساب الإنسان لضرورياته في ضمن قصده إلى المباحات التي يتنعم بها ظاهر ; فإن أكل المستلذات ، ولباس اللينات ، وركوب [ ص: 312 ] الفارهات ، ونكاح الجميلات قد تضمن سد الخلات والقيام بضرورة الحياة ، وقد مر أن إقامة الحياة من حيث هو ضروري لا حظ فيه .
وأيضا ; فإن في اكتسابه بالتجارات وأنواع البياعات والإجارات وغير ذلك مما هو معاملة بين الخلق قياما بمصالح الغير ، وإن كان في طريق الحظ ; فليس فيه من حيث هو حظ له يعود عليه منه غرض إلا من جهة ما هو طريق إلى حظه ، وكونه طريقا ووسيلة غير كونه مقصودا في نفسه ، وهكذا نفقته على أولاده وزوجته ، وسائر من يتعلق به شرعا من حيوان عاقل وغير عاقل ، وسائر ما يتوسل به إلى الحظ المطلوب ، والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (68)
صـ313 إلى صـ 327
فصل
وإذا نظرنا إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف بالنسبة إلى قسم الكفاية ; وجدنا الأعمال ثلاثة أقسام :
قسم لم يعتبر فيه حظ المكلف بالقصد الأول على حال ، وذلك الولايات العامة والمناصب العامة للمصالح العامة .
وقسم اعتبر فيه ذلك ، وهو كل عمل كان فيه مصلحة الغير في طريق مصلحة الإنسان في نفسه ; كالصناعات والحرف العادية كلها ، وهذا القسم في الحقيقة راجع إلى مصلحة الإنسان واستجلابه حظه في خاصة نفسه ، وإنما كان استجلاب المصلحة العامة فيه بالعرض .
وقسم يتوسط بينهما ; فيتجاذبه قصد الحظ ولحظ الأمر الذي لا حظ [ ص: 313 ] فيه ، وهذا ظاهر في الأمور التي لم تتمخض في العموم وليست خاصة ، ويدخل تحت هذا ولاية أموال الأيتام ، والأحباس ، والصدقات ، والأذان ، وما أشبه ذلك ، فإنها من حيث العموم يصح فيها التجرد من الحظ ، ومن حيث الخصوص وأنها كسائر الصنائع الخاصة بالإنسان في الاكتساب يدخلها الحظ ، ولا تناقض في هذا ، فإن جهة الأمر بلا حظ غير وجه الحظ ; فيؤمر انتدابا أن يقوم به لحظ ، ثم يبذل له الحظ في موطن ضرورة أو غير ضرورة ، حين لا يكون ثم قائم بالانتداب ، وأصل ذلك في والي مال اليتيم قوله تعالى : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف [ النساء : 6 ] .
وانظر ما قاله العلماء في أجرة القسام والناظر في الأحباس والصدقات الجارية ، وتعليم العلوم على تنوعها ; ففي ذلك ما يوضح هذا القسم .
[ ص: 314 ] المسألة الرابعة
ما فيه حظ العبد محضا - من المأذون فيه - يتأتى تخليصه من الحظ ; فيكون العمل فيه لله تعالى خالصا ; فإنه من قبيل ما أذن فيه أو أمر به ، فإذا تلقى الإذن بالقبول من حيث كان المأذون فيه هدية من الله للعبد ; صار مجردا من الحظ ، كما أنه إذا لبى الطلب بالامتثال من غير مراعاة لما سواه تجرد عن الحظ ، وإذا تجرد من الحظ ساوى ما لا عوض عليه شرعا من القسم الأول الذي لا حظ فيه للمكلف .
وإذا كان كذلك ; فهل يلحق به في الحكم لما صار ملحقا به في القصد ؟ هذا مما ينظر فيه ، ويحتمل وجهين من النظر :
[ ص: 315 ] أحدهما : أن يقال : إنه يرجع في الحكم إلى ما ساواه في القصد ; لأن قسم الحظ هنا قد صار عين القسم الأول بالقصد ، وهو القيام بعبادة من العبادات مختصة بالخلق في إصلاح أقواتهم ومعايشهم ، أو صار صاحبه على حظ من منافع الخلق يشبه الخزان على أموال بيوت الأموال والعمال في أموال الخلق ، فكما لا ينبغي لصاحب القسم الأول أن يقبل من أحد هدية ولا عوضا على ما ولي عليه ولا على ما تعبد به ; كذلك هاهنا لا ينبغي له أن يزيد على مقدار حاجته يقتطعه من تحت يده ; كما يقتطع الوالي ما يحتاج إليه من تحت يده بالمعروف ، وما سوى ذلك يبذله من غير عوض ; إما بهدية ، أو صدقة ، أو إرفاق ، أو إعراء ، أو ما أشبه ذلك ، أو يعد نفسه في الأخذ كالغير يأخذ الغير ; لأنه لما صار كالوكيل على غيره والقيم بمصالحه عد نفسه مثل ذلك الغير ; لأنها نفس مطلوب إحياؤها على الجملة .
ومثل هذا محكي التزامه عن كثير من الفضلاء ، بل هو محكي عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ; فإنهم كانوا في الاكتساب ماهرين ودائبين ومتابعين لأنواع الاكتسابات ، لكن لا ليدخروا لأنفسهم ، ولا ليحتجنوا [ ص: 316 ] أموالهم ، بل لينفقوها في سبيل الخيرات ، ومكارم الأخلاق ، وما ندب الشرع إليه ، وما حسنته العوائد الشرعية ; فكانوا في أموالهم كالولاة على بيوت الأموال ، وهم في كل ذلك على درجات حسبما تنصه أخبارهم ; فهذا وجه يقتضي أنهم لما صاروا عاملين لغير حظ ، عاملوا هذه الأعمال معاملة ما لا حظ فيه البتة .
ويدل على أن هذا مراعى على الجملة وإن قلنا بثبوت الحظ ; أن طلب الإنسان لحظه حيث أذن له لا بد فيه من مراعاة حق الله وحق المخلوقين ، فإن طلب الحاجة إذا كان مقيدا بوجود الشروط الشرعية ، وانتفاء الموانع الشرعية ووجود الأسباب الشرعية على الإطلاق والعموم ، وهذا كله لا حظ فيه للمكلف من حيث هو مطلوب به ; فقد خرج في نفسه عن مقتضى حظه ، ثم إن معاملة الغير في طريق حظ النفس تقتضي ما أمر به من الإحسان إليه في المعاملة ، والمسامحة في المكيال والميزان ، والنصيحة على الإطلاق ، وترك الغش كله ، وترك المغابنة غبنا يتجاوز الحد المشروع ، وأن لا تكون المعاملة عونا له على ما يكره شرعا فيكون طريقا إلى الإثم والعدوان ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تعود على طالب حظه بحظ أصلا ; فقد آل الأمر في طلب الحظ إلى عدم الحظ .
هذا والإنسان بعد في طلب حظه قصدا ; فكيف إذا تجرد عن حظه في أعماله ؟ فكما لا يجوز له أخذ عوض على تحري المشروع في الأعمال ، لا [ ص: 317 ] بالنسبة إلى العبادات ولا إلى العادات ، وهو مجمع عليه ; فكذلك فيما صار بالقصد كذلك .
وأيضا ; فإن فرض هذا القصد لا يتصور مع فرض طلب الحظ ، وإذا كان كذلك ; فهي داخلة في حكم ما لا يتم الواجب إلا به ، فإن ثبت أنه مطلوب بما يقتضي سلب الحظ ، فهو مطلوب بما لا يتم ذلك المطلوب إلا به ، سواء علينا أقلنا : إنه مطلوب به طلبا شرعيا ، أم لا ، فحكمه على الجملة لا يعدو أن يكون حكم ما ليس فيه حظ البتة ، وهذا ظاهر ; فالشارع قد طلب النصيحة مثلا طلبا جازما ، بحيث جعله الشارع عمدة الدين بقوله - صلى الله عليه وسلم - : الدين النصيحة ، وتوعد [ ص: 318 ] على تركه في مواضع ، فلو فرضنا توقفها على العوض أو حظ عاجل ; لكانت موقوفة على اختيار الناصح والمنصوح ، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون طلبها جازما .
وأيضا الإيثار مندوب إليه ممدوح فاعله ; فكونه معمولا به على عوض لا [ ص: 319 ] يتصور أن يكون إيثارا ; لأن معنى الإيثار تقديم حظ الغير على حظ النفس ، وذلك لا يكون مع طلب العوض العاجل ، وهكذا سائر المطلوبات العادية والعبادية ، فهذا وجه نظري في المسألة ، يمكن القول بمقتضاه .
والوجه الثاني أن يقال : إنه يرجع في الحكم إلى أصله من الحظ ، لأن الشارع قد أثبت لهذا العامل حظه في عمله ، وجعله المقدم على غيره ، حتى إنه إن أراد أن يستبد بجميعه كان سائغا ، وكان له أن يدخره لنفسه ، أو يبذله لمصلحة نفسه في الدنيا أو في الآخرة ; فهي هدية الله إليه ، فكيف لا يقبلها ؟ وهو وإن أخذها بالإذن وعلى مقتضى حدود الشرع ، فإنما أخذ ما جعل له فيه حظ ، ومن حيث جعل له ، وبالقصد الذي أبيح له القصد إليه .
وأيضا ; فالحدود الشرعية وإن لم يكن له في العمل بمقتضاها حظ ; فهي وسيلة وطريق إلى حظه ، فكما لم يحكم للمقصد بحكم الوسيلة فيما تقدم قبل هذه المسألة من أخذ الإنسان ما ليس له في العمل به حظ لأنه وسيلة إلى حظه كالمعاوضات ; فكذلك لا يحكم هنا للمأذون فيه من الحظ بحكم ما توسل به إليه .
[ ص: 320 ] وقد وجدنا من السلف الصالح رحمهم الله كثيرا يدخرون الأموال لمصالح أنفسهم ، ويأخذون في التجارة وغيرها بمقدار ما يحتاجون إليه في أنفسهم خاصة ، ثم يرجعون إلى عبادة ربهم حتى إذا نفد ما اكتسبوه عادوا إلى الاكتساب ، ولم يكونوا يتخذون التجارة أو الصناعة عبادة لهم على ذلك الوجه ، بل كانوا يقتصرون على حظوظ أنفسهم ، وإن كانوا إنما يفعلون ذلك من حيث التعفف والقيام بالعبادة ، فذلك لا يخرجهم عن زمرة الطالبين لحظوظهم .
وما ذكر أولا عن السلف الصالح ليس بمتعين فيما تقدم ; لصحة حمله على أن المقصود بذلك التصرف حظوظ أنفسهم من حيث أثبتها الشارع لهم فيعملون في دنياهم على حسب ما يسعهم من الحظوظ ، ويعملون في أخراهم كذلك ، فالجميع مبني على إثبات الحظوظ ، وهو المطلوب ، وإنما الغرض أن تكون الحظوظ مأخوذة من جهة مما حد الشارع من غير تعد يقع في طريقها .
وأيضا ; فإنما حدت الحدود في طريق الحظ أن لا يخل الإنسان بمصلحة غيره فيتعدى ذلك إلى مصلحة نفسه ، فإن الشارع لم يضع تلك الحدود إلا لتجري المصالح على أقوم سبيل بالنسبة إلى كل أحد في نفسه ، ولذلك قال تعالى : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ فصلت : 46 ] ، وذلك عام في أعمال الدنيا والآخرة .
[ ص: 321 ] وقال : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه [ الفتح : 10 ] .
وفي أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذكر الظلم وتحريمه : يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها .
ولا يختص مثل هذ بالآخرة دون الدنيا ، ولذلك كانت المصائب النازلة بالإنسان بسبب ذنوبه ، لقوله : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [ الشورى : 30 ] .
وقال : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ البقرة : 194 ] .
والأدلة على هذا تفوت الحصر ; فالإنسان لا ينفك عن طلبه حظه في هذه الأمور التي هي طريق إلى نيل حظه ، وإذا ثبت هذا تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ العاجلة جملة .
وقد يمكن الجمع بين الطريقين ، وذلك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب :
منهم من لا يأخذها إلا بغير تسببه ; فيعمل العمل أو يكتسب الشيء فيكون فيه وكيلا على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر ، ولا يدخر لنفسه من [ ص: 322 ] ذلك شيئا ; بل لا يجعل من ذلك حظا لنفسه من الحظوظ ; إما لعدم تذكره لنفسه لاطراح حظها حتى يصير عنده من قبيل ما ينسى ، وإما قوة يقين بالله ; لأنه عالم به وبيده ملكوت السماوات والأرض وهو حسبه فلا يخيبه ، أو عدم التفات إلى حظه يقينا بأن رزقه على الله فهو الناظر له بأحسن مما ينظر لنفسه ، أو أنفة من الالتفات إلى حظه مع حق الله تعالى ، أو لغير ذلك من المقاصد الواردة على أصحاب الأحوال ، وفي مثل هؤلاء جاء : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ الحشر : 9 ] .
وقد نقل عن عائشة رضي الله عنها أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين - قال الراوي : أراه ثمانين ومائة ألف ، فدعت بطبق وهى يومئذ صائمة ، فجعلت تقسمه بين الناس ، فأمست وما عندها من ذلك درهم ، فلما أمست قالت : " يا جارية هلمي أفطري " ، فجاءتها بخبز وزيت . فقيل لها أما استطعت فيما قسمت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه ؟ فقالت : لا تعنيني ، لو كنت ذكرتني لفعلت .
وخرج مالك أن مسكينا سأل عائشة وهى صائمة وليس في بيتها إلا رغيف ; فقالت لمولاة لها : اعطيه إياه . فقالت : ليس لك ما تفطرين عليه . فقالت : اعطيه إياه . قالت : ففعلت . [ قالت ] : فما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان [ ص: 323 ] - ما [ كان ] يهدي لنا شاة - وكفنها ; فدعتني عائشة ، فقالت : كلي من هذا . هذا خير من قرصك .
وروى عنها أنها قسمت سبعين ألفا وهي ترقع ثوبها ، وباعت ما لها بمائة ألف وقسمته ، ثم أفطرت على خبز الشعير ، وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة ، فلا يأخذ إلا من الملك ، لأنه قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه ، ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم ، فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا من تدبيره لنفسه ، فإذا دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها ، [ ص: 324 ] وهؤلاء هم أرباب الأحوال .
ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم ; إن استغنى استعف ، وإن احتاج أكل بالمعروف ، وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه ; فقد يكون في الحال غنيا عنه ; فينفقه حيث يجب الإنفاق ، ويمسكه حيث يجب الإمساك ، وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار ، وهذا أيضا براءة من الحظوظ في ذلك الاكتساب ; فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره ، وهو لم يفعل ، بل جعل نفسه كآحاد الخلق ، فكأنه قسام في الخلق يعد نفسه واحدا منهم .
وفي الصحيح عن أبي موسى ; قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة ، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد ; فهم مني وأنا منهم .
[ ص: 325 ] وفي حديث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هذا ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور ، فالإيثار بالحظوظ محمود غير مضاد لقوله عليه الصلاة والسلام : ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ، [ ص: 326 ] بل يحمل على الاستقامة في حالتين .
فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدوا أنفسهم بالحظوظ العاجلة ، وما أخذوا لأنفسهم لا يعد سعيا في حظ ; إذ للقصد إليه أثر ظاهر ، وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره ، ولم يفعل هنا ذلك ، بل آثر غيره على نفسه ، أو سوى نفسه مع غيره ، وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء برءاء من الحظوظ ، كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ ، وتجدهم في الإجارات والتجارات لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة ، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسبا لغيره لا له ، ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم ; لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم ; فأين الحظ هنا ؟ بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم ; فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكما بالقسم الأول ، بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء .
ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء ، بل أخذوا ما أذن لهم فيه من حيث الإذن ، وامتنعوا مما منعوا منه ، واقتصروا على الإنفاق في كل ما لهم إليه حاجة ; [ ص: 327 ] فمثل هؤلاء بالاعتبار المتقدم أهل حظوظ ، لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها ، فإن قيل في مثل هذا : إنه تجرد عن الحظ ، فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزا ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي ، وهذا هو الحظ المذموم ، إذ لم يقف دون ما حد له ، بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي في شهواتها ، ولا كلام في هذا ، وإنما الكلام في الأول ، وهو لم يتصرف إلا لنفسه ، فلا يجعل في حكم الوالي على المصالح العامة على المسلمين ، بل هو وال على مصلحة نفسه ، وهو من هذا الوجه ليس بوال عام ، والولاية العامة هي المبرأة من الحظوظ ، فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ ; فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين ، وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به ، لكن على نسبة القسمة ونحوها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (69)
صـ328 إلى صـ 337
المسألة الخامسة
العمل إذا وقع على وفق المقاصد الشرعية ; فإما على المقاصد الأصلية ، أو المقاصد التابعة ، وكل قسم من هذين فيه نظر وتفريع ، فلنضع في كل قسم مسألة ، فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها في العمل ; فلا إشكال في صحته وسلامته مطلقا ، فيما كان بريئا من الحظ وفيما روعي فيه الحظ ، لأنه مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع ; إذ تقدم أن المقصود الشرعي في التشريع إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله ، وهذا كاف هنا .
وينبني عليه قواعد وفقه كثير :
من ذلك أن المقاصد الأصلية إذا روعيت أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة ، وأبعد عن مشاركة الحظوظ التي تغير في وجه محض العبودية .
وبيان ذلك أن حظ الإنسان ليس بواجب أن يراعيه من حيث هو حظه ، على قولنا : إن إثبات الشرع له وإباحة الالتفات إليه إنما هو مجرد تفضل امتن الله به ; إذ ليس بواجب على الله مراعاة مصالح العبيد ، وهو أيضا جار على القول بالوجوب العقلي ; فمجرد قصد الامتثال للأمر والنهي أو الإذن كاف في [ ص: 329 ] حصول كل غرض ، في التوجه إلى مجرد خطاب الشارع ، فالعامل على وفقه ملبيا له ; برئ من الحظ ، وفعله واقع على الضروريات وما حولها ثم يندرج حظه في الجملة ، بل هو المقدم شرعا على الغير .
فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر ، أو اعتبارا بعلة الأمر ، وهو القصد إلى إحياء النفوس على الجملة وإماطة الشرور عنها ، كان هو المقدم شرعا : " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " ، أو كان قيامه بما قام به قياما بواجب مثلا ، ثم نظره في ذلك الواجب قد يقتصر على بعض النفوس دون بعض ، كمن يقصد القيام بحياة نفسه من حيث هو مكلف بها ، أو بحياة من تحت نظره ، وقد يتسع نظره فيكتسب ليحيي به من شاء الله ، وهذا أعم الوجوه وأحمدها وأعودها بالأجر ; لأن الأول قد يفوته فيه أمور كثيرة ، وتقع نفقته حيث لم يقصد ، ويقصد غير ما كسب وإن كان لا يضره فإنه لم يكل التدبير إلى ربه ، وأما الثاني ; فقد جعل قصده وتصرفه في يد من هو على كل شيء قدير ، وقصد أن ينتفع بيسيره عالم كبير لا يقدر على حصره ، وهذا غاية في التحقق بإخلاص العبودية ، ولا يفوته من [ ص: 330 ] حظه شيء .
بخلاف مراعاة المقاصد التابعة ; فقد يفوته معها جل هذا أو جميعه ; لأنه إنما يراعي مثلا زوال الجوع أو العطش أو البرد أو قضاء الشهوة أو التلذذ بالمباح مجردا عن غير ذلك ، وهذا وإن كان جائزا ; فليس بعبادة ولا روعي فيه قصد الشارع الأصلي ، وهو منجر معه ، ولو روعي قصد الشارع لكان العمل امتثالا ; فيرجع إلى التعلق بمقتضى الخطاب كما تقدم ، فإذا لم يراع ; لم يبق إلا مراعاة الحظ خاصة ، هذا وجه .
ووجه ثان أن المقاصد الأصلية راجعة إما إلى مجرد الأمر والنهي من غير نظر في شيء سوى ذلك ، وهو بلا شك طاعة للأمر وامتثال لما أمر لا داخلة فيه ، وإما إلى ما فهم من الأمر من أنه عبد استعمله سيده في سخرة عبيده ; فجعله وسيلة وسببا إلى وصول حاجاتهم إليهم كيف يشاء .
[ ص: 331 ] وهذا أيضا لا يخرج عن اعتبار مجرد الأمر ; فهو عامل بمحض العبودية ، مسقط لحظه فيها ; فكأن السيد هو القائم له بحظه ، بخلاف العامل لحظه ; فإنه لما لم يقم بذلك من حيث مجرد الأمر ، ولا من حيث فهم مقصود الأمر ، ولكنه قام به من جهة استجلاب حظه أو حظ من له فيه حظ ; فهو إن امتثل الأمر فمن جهة نفسه ، فالإخلاص على كماله مفقود في حقه ، والتعبد بذلك العمل منتف ، وإن لم يمتثل الأمر ; فذلك أوضح في عدم القصد إلى التعبد ، فضلا عن أن يكون مخلصا فيه ، وقد يتخذ الأمر والنهي عاديين لا عباديين ، إذا غلب عليه طلب حظه ، وذلك نقص .
ووجه ثالث وهو أن القائم على المقاصد الأول قائم بعبء ثقيل جدا ، وحمل كبير من التكليف لا يثبت تحته طالب الحظ في الغالب ، بل يطلب حظه بما هو أخف ، وسبب ذلك أن هذا الأمر حالة داخلة على المكلف شاء أو أبى ، يهدي الله إليها من اختصه بالتقريب من عباده ، ولذلك كانت النبوة أثقل الأحمال وأعظم التكاليف ، وقد قال تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [ المزمل : 5 ] .
فمثل هذا لا يكون إلا مع اختصاص زائد ، بخلاف طالب الحظ ; فإنه [ ص: 332 ] عامل بنفسه ، وغير مستويين فاعل بربه وفاعل بنفسه ، فالأول محمول ، والثاني عامل بنفسه ، فلذلك قلما تجد صاحب حظ يقوم بتكليف شاق ، فإن رأيت من يدعي تلك الحال ; فاطلبه بمطالب أهل ذلك المقام ، فإن أوفى به ; فهو ذاك ، وإلا ; علمت أنه متقول قلما يثبت عند ما ادعى ، وإذا ثبت أن صاحب المقاصد الأول محمول ; فذلك أثر من آثار الإخلاص ، وصاحب الحظ ليس بمحمول ذلك الحمل إلا بمقدار ما نقص عنده حظه ، فإذا سقط حظه ثبت قصده في المقاصد الأول ، وثبت له الإخلاص ، وصارت أعماله عبادات .
فإن قيل : فنحن نرى كثيرا ممن يسعى في حظه وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين ، بل قد جاء عن سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحب الطيب ، والنساء ، والحلواء والعسل ، وكان تعجبه الذراع ، ويستعذب له الماء ، وأشباه ذلك مما هو اتباع لحظ النفس ; إذا كان لا يمتنع مما يشتهيه من الحلال ، بل كان يستعمله إذا وجده ، وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين ، وهو أتقى الخلق وأزكاهم ، وكان خلقه القرآن ، فهذا في هذا الطرف .
ونرى أيضا كثيرا ممن يسقط حظ نفسه ويعمل لغيره أو في مصالح العباد بمقتضى ما قدر عليه صادقا في عمله ، ومع ذلك فليس له في الآخرة من [ ص: 333 ] خلاق ، ككثير من رهبان النصارى وغيرهم ممن تزهد وانقطع عن الدنيا وأهلها ، ولم يلتفت إليها ولا أخطرها بباله ، واتخذ العبادة والسعي في حوائج الخلق دأبا وعادة ; حتى صار في الناس آية ، وكل ما يعمله مبني على باطل محض ، وبين هذين الطرفين وسائط لا تحصى تقرب من الفريقين .
فالجواب من وجهين :
أحدهما :
أن ما زعمت ظواهر ، وغائبات الأمور قد لا تكون معلومة ; فانظر ما قاله الإسكاف في " فوائد الأخبار " في قوله عليه الصلاة والسلام : حبب إلي من دنياكم ثلاث يلح لك من ذلك المطلع خلاف ما توهمت من طلب الحظ الصرف إلى طلب الحق الصرف ، ويدل عليه أنه جعل من الثلاث الصلاة ، وهي أعلى العبادات بعد الإيمان ، وهكذا يمكن أن يقال في سواها .
وأيضا ; فإنه لا يلزم من حب الشيء أن يكون مطلوبا بحظ لأن الحب أمر باطن لا يملك ، وإنما ينظر فيما ينشأ عنه من الأعمال ; فمن أين لك أنه كان عليه الصلاة والسلام يتناول تلك الأشياء لمجرد الحظ ، دون أن يتناوله من حيث الإذن ؟ وهذا هو عين البراءة من الحظ ، وإذا تبين هذا في القدوة الأعظم - صلى الله عليه وسلم - تبين نحوه في كل مقتدى به ممن اشتهرت ولايته .
وأما الكلام عن الرهبان ، فلا نسلم أنها مجردة من الحظ ، بل هي عين الحظ ، واستهلاك في هوى النفس ; لأن الإنسان قد يترك حظه في أمر إلى حظ هو أعلى منه ، كما ترى الناس يبذلون المال في طلب الجاه ; لأن حظ النفس في الجاه أعلى ، ويبذلون النفوس في طلب الرياسة حتى يموتوا في طريق ذلك ، وهكذا الرهبان قد يتركون لذات الدنيا للذة الرياسة والتعظيم ; فإنها أعلى ، وحظ الذكر والتعظيم والرياسة والاحترام والجاه القائم في الناس من أعظم الحظوظ [ ص: 334 ] التي يستحقر متاع الدنيا في جنبها ، وذلك أول منهي في مسألتنا ; فلا كلام فيمن هذا شأنه ، ولذلك قالوا : " حب الرياسة آخر ما يخرج من رءوس الصديقين " ، وصدقوا .
والثاني : أن طلب الحظوظ قد يكون مبرءا من الحظوظ ، وقد لا يكون كذلك ، والفرق بينهما أن الباعث على طلبه أولا إما أن يكون أمر الشارع أو لا ، فإن كان أمر الشارع ، فهو الحظ المبرأ المنزه ; لأن نفسه عنده تنزلت منزلة غيره ، فكما يكون في مصالح غيره مبرء عن الحظ ، كذلك يكون في مصالح نفسه ، وذلك بمقتضى القصد الأول ، وهذا شأن من ذكر في السؤال ، ولا يعد مثل هذا حظا ولا سعيا فيه بحسب القصد ; لأن القصد التابع إذا كان الباعث عليه القصد الأصلي كان فرعا من فروعه ; فله حكمه ، فأما إن لم يرتبط بالقصد الأول ; فإنه سعي في الحظ ، وليس ما نحن فيه هكذا .
وأما شأن الرهبان ومن أشبههم ; فقد يتفق لهم هذه الحالة وإن كانت فاسدة الوضع ; فينقطعون في الصوامع والديارات ، ويتركون الشهوات واللذات ، ويسقطون حظوظهم في التوجه إلى معبودهم*************** ، ويعملون في ذلك غاية ما يمكنهم من وجوه التقرب إليه ، وما يظنون أنه سبب إليه ، ويعاملونه في الخلق وفي أنفسهم حسبما يفعله المحق في الدين حرفا بحرف ، ولا أقول : " إنهم غير مخلصين ، بل هم مخلصون إلى من عبدوا ، ومتوجهون صدقا إلى ما عاملوا ، إلا أن كل ما يعملون مردود عليهم ، لا ينفعهم الله بشيء منه في الآخرة ; لأنهم بنوا على غير أصل : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية [ الغاشية : 2 - 4 ] ، والعياذ بالله " .
[ ص: 335 ] ودونهم في ذلك أهل البدع والضلال من أهل هذه الملة ، وقد جاء في الخوارج ما علمت من قوله عليه الصلاة والسلام في ذي الخويصرة : دعه ; فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم الحديث ; فأخبر أن لهم عبادة تستعظم وحالا يستحسن ظاهره ، لكنه مبني على غير أصل ، فلذلك قال فيهم : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، وأمر عليه الصلاة والسلام بقتلهم ، ويوجد في أهل الأهواء من هذا كثير .
[ ص: 336 ] [ ص: 337 ] وعلى الجملة ; فالإخلاص في الأعمال إنما يصح خلوصه مع اطراح الحظوظ ; لكنه إن كان مبنيا على أصل صحيح كان منجيا عند الله ، وإن كان على أصل فاسد فبالضد ، ويتفق هذا كثيرا في أهل المحبة ; فمن طالع أحوال المحبين رأى اطراح الحظوظ وإخلاص الأعمال لمن أحبوا على أتم الوجوه التي تتهيأ من الإنسان .
فإذا ; قد ظهر أن البناء على المقاصد الأصلية أقرب إلى الإخلاص ، وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدمه ، ولا أنفيه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (70)
صـ338 إلى صـ 343
فصل
ويظهر من هنا أيضا أن البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات ، كانت من قبيل العبادات أو العادات ; لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا ، وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم ، فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل ، ويترك إذا طلب منه الترك فهو أبدا في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان والقلب .
أما باليد ; فظاهر في وجوه الإعانات .
[ ص: 338 ] وأما باللسان ; فبالوعظ والتذكير بالله أن يكونوا فيما هم عليه مطيعين لا عاصين ، وتعليم ما يحتاجون إليه في ذلك من إصلاح المقاصد والأعمال ، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبالدعاء بالإحسان لمحسنهم والتجاوز عن مسيئهم .
وبالقلب لا يضمر لهم شرا ، بل يعتقد لهم الخير ، ويعرفهم بأحسن الأوصاف التي اتصفوا بها ولو بمجرد الإسلام ، ويعظمهم ويحتقر نفسه بالنسبة إليهم ، إلى غير ذلك من الأمور القلبية المتعلقة بالعباد .
بل لا يقتصر في هذا على جنس الإنسان ، ولكن تدخل عليه الشفقة على الحيوانات كلها ، حتى لا يعاملها إلا بالتي هي أحسن ، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : في كل ذي كبد رطبة أجر ، وحديث تعذيب المرأة في هرة ربطتها ، وحديث : إن الله كتب الإحسان على كل مسلم ، فإذا قتلتم ; [ ص: 339 ] فأحسنوا القتلة الحديث إلى أشباه ذلك .
فالعامل بالمقاصد الأصلية عامل في هذه الأمور في نفسه امتثالا لأمر ربه ، واقتداء بنبيه عليه الصلاة والسلام ; فكيف لا تكون تصاريف من هذه سبيله عبادة كلها ؟ بخلاف من كان عاملا على حظه ; فإنه إنما يلتفت إلى حظه أو ما كان طريقا إلى حظه ، وهذا ليس بعبادة على الإطلاق ، بل هو عامل في مباح إن لم يخل بحق الله أو بحق غيره فيه ، والمباح لا يتعبد إلى الله به ، وإن فرضناه قام على حظه من حيث أمره الشارع ; فهو عبادة بالنسبة إليه خاصة ، وإن فرضته كذلك فهو خارج عن داعية حظه بتلك النسبة .
فصل
ومن ذلك أن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب ; إذ المقاصد الأصلية دائرة على حكم الوجوب ، من حيث كانت حفظا للأمور الضرورية في الدين المراعاة باتفاق ، وإذا كانت كذلك ; صارت الأعمال الخارجة عن الحظ دائرة على الأمور العامة ، وقد تقدم أن غير الواجب بالجزء يصير واجبا بالكل ، وهذا عامل بالكل فيما هو مندوب بالجزء أو مباح يختل النظام باختلاله ; فقد صار عاملا بالوجوب .
[ ص: 340 ] فأما البناء على المقاصد التابعة ; فهو بناء على الحظ الجزئي ، والجزئي لا يستلزم الوجوب ، فالبناء على المقاصد التابعة لا يستلزم الوجوب ; فقد يكون العمل مباحا ; إما بالجزء ، وإما بالكل والجزء معا ، وإما مباحا بالجزء مكروها ، أو ممنوعا بالكل ، وبيان هذه الجملة في كتاب الأحكام .
فصل
ومن ذلك أن المقصد الأول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده الشارع في العمل من حصول مصلحة أو درء مفسدة ; فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع ; إما بعد فهم ما قصد ، وإما لمجرد امتثال الأمر ، وعلى كل تقدير فهو قاصد ما قصده الشارع ، وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد وأولها ، وأنه نور صرف لا يشوبه غرض ولا حظ ; كان المتلقي له على هذا الوجه آخذا له زكيا وافيا كاملا ، غير مشوب ولا قاصر عن مراد الشارع ; فهو حر أن يترتب الثواب فيه للمكلف على تلك النسبة .
وأما القصد التابع ; فلا يترتب عليه ذلك كله لأن أخذ الأمر والنهي بالحظ أو أخذ العمل بالحظ قد قصره قصد الحظ عن إطلاقه ، وخص عمومه ; فلا ينهض نهوض الأول .
شاهده قاعدة " الأعمال بالنيات " ، وقوله عليه الصلاة والسلام : الخيل لرجل أجر ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ، فأما الذي هي له أجر ; فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ذلك من [ ص: 341 ] المرج أو الروضة كان له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه لم يرد أن يسقي به كان ذلك له حسنات ; فهي له أجر في هذا الوجه من الحديث لصاحب القصد الأول ; لأنه قصد بارتباطها سبيل الله ، وهذا عام غير خاص ، فكان أجره في تصرفاته عاما أيضا غير خاص ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ; فهي له ستر ، فهذا في صاحب الحظ المحمود لما قصد وجها خاصا وهو حظه ; كان حكمها مقصورا على ما قصد ، وهو الستر ، وهو صاحب القصد التابع ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام ; فهي على ذلك وزر ; فهذا في الحظ المذموم المستمد من أصل متابعة الهوى ، ولا كلام فيه هنا .
[ ص: 342 ] ويجري مجرى العمل بالقصد الأول الاقتداء بأفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو بالصحابة أو التابعين ، لأن ما قصدوا يشمله قصد المقتدي في الاقتداء ، وشاهده الإحالة في النية على نية المقتدى به ; كما في قول بعض الصحابة في إحرامه : " بما أحرم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، فكان حجة في الحكم كذلك يكون في غيره من الأعمال .
فصل
ومن ذلك أن العمل على المقاصد الأصلية يصير الطاعة أعظم ، وإذا خولفت كانت معصيتها أعظم .
أما الأول ; فلأن العامل على وفقها عامل على الإصلاح [ العام ] لجميع الخلق والدفع عنهم على الإطلاق ; لأنه إما قاصد لجميع ذلك بالفعل وإما قاصر نفسه على امتثال الأمر الذي يدخل تحت قصده كل ما قصده الشارع بذلك الأمر ، وإذا فعل [ ذلك ] جوزي على كل نفس أحياها ، وعلى كل مصلحة عامة قصدها ، ولا شك في عظم هذا العمل ، ولذلك كان من أحيا النفس فكأنما أحيا الناس جميعا ، وكان العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء بخلاف ما إذا لم يعمل على وفقه ، فإنما يبلغ ثوابه مبلغ قصده ; لأن الأعمال بالنيات ، فمتى كان قصده أعم ; كان أجره أعظم ، ومتى لم يعم قصده ; لم يكن [ ص: 343 ] أجره إلا على وزان ذلك ، وهو ظاهر .
وأما الثاني ; فإن العامل على مخالفتها عامل على الإفساد العام ، وهو مضاد للعامل على الإصلاح العام ، وقد مر أن قصد الإصلاح العام يعظم به الأجر ; فالعامل على ضده يعظم به وزره ، ولذلك كان على ابن آدم الأول كفل من وزر كل من قتل النفس المحرمة ; لأنه أول من سن القتل ، وكان من قتل النفس فكأنما قتل الناس جميعا ، و من سن سنة سيئة ; كان عليه وزرها ووزر من عمل بها .
فصل
ومن هنا تظهر قاعدة أخرى ، وهي أن أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية ، وكبائر الذنوب إذا اعتبرت وجدت في مخالفتها ، ويتبين لك بالنظر في الكبائر المنصوص عليها وما ألحق بها قياسا ; فإنك تجده مطردا إن شاء الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (71)
صـ344 إلى صـ 360
المسالة السادسة
العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة ; فلا يخلو أن تصاحبه المقاصد الأصلية ، أو لا .
فأما الأول ; فعمل بالامتثال بلا إشكال ، وإن كان سعيا في حظ النفس .
وأما الثاني ; فعمل بالحظ والهوى مجردا .
والمصاحبة إما بالفعل ، ومثاله أن يقول مثلا : هذا المأكول ، أو هذا الملبوس ، أو هذا الملموس ، أباح لي الشرع الاستمتاع به ; فأنا أستمتع بالمباح وأعمل باستجلابه لأنه مأذون فيه ، وإما بالقوة ، ومثاله أن يدخل في التسبب إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه ، لكن نفس الإذن لم يخطر بباله ، وإنما خطر له أن هذا يتوصل إليه من الطريق الفلاني ، فإذا توصل إليه منه فهذا في الحكم كالأول ، إذا كان الطريق التي توصل إلى المباح من جهته مباحا ; إلا أن المصاحبة بالفعل أعلى ، ويجري غير المباح مجراه في الصورتين .
فإذا تقرر هذا ; فبيان كونه عاملا بالحظ والامتثال أمران :
[ ص: 345 ] أحدهما : أنه لو لم يكن كذلك ; لم يجز لأحد أن يتصرف في أمر عادي حتى يكون القصد في تصرفه مجرد امتثال الأمر ، من غير سعي في حظ نفسه ولا قصد في ذلك ، بل كان يمتنع للمضطر أن يأكل الميتة حتى يستحضر هذه النية ويعمل على هذا القصد المجرد من الحظ ، وهذا غير صحيح باتفاق ، ولم يأمر الله تعالى ولا رسوله بشيء من ذلك ، ولا نهى عن قصد الحظوظ في الأعمال العادية على حال مع قصد الشارع للإخلاص في الأعمال وعدم التشريك فيها ، وأن لا يلحظ فيها غير الله تعالى ; فدل على أن القصد للحظ في الأعمال إذا كانت عادية لا ينافي أصل الأعمال .
فإن قيل : كيف يتأتى قصد الشارع للإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها ؟
قيل : معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع ، لا يقصد بها عمل جاهلي ، ولا اختراع شيطاني ، ولا تشبه بغير أهل الملة ; كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر ، وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم ، أو ما ذبح على مضاهاة الجاهلية ، وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك .
كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن [ ص: 346 ] إسماعيل المخزومي أجرى عينا ، فقال له المهندسون عند ظهور الماء : لو أهرقت عليها دما كان أحرى أن لا تغيض ولا تهور فتقتل من يعمل فيها ، فنحر جزائر حين أرسل الماء فجرى مختلطا بالدم ، وأمر فصنع له ولأصحابه منها طعام ، فأكل وأكلوا ، وقسم سائرها بين العمال فيها ، فقال ابن شهاب : بئس والله ما صنع ، ما حل له نحرها ولا الأكل منها ، أما بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يذبح للجن ؟ ; لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاه لما ذبح [ ص: 347 ] على النصب وسائر ما أهل لغير الله به .
وكذلك جاء النهي عن معاقرة الأعراب ، وهي أن يتبارى الرجلان [ ص: 348 ] فيعقر كل واحد منهما ، يجاود به صاحبه ; فأكثرهما عقرا أجودهما ، نهى عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به . قال الخطابي : وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان ، وأوان حوادث يتجدد لهم ، وفي نحو ذلك من الأمور .
وخرج أبو داود : " نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتباريين أن يؤكل " ، وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه ; فهذا وما كان نحوه إنما [ ص: 349 ] شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل ، فإذا زيد فيه هذا القصد ; كان تشريكا في المشروع ، ولحظا لغير أمر الله تعالى ، وعلى هذا وقعت الفتيا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز ، وقوله فيها : إنها مما [ ص: 350 ] أهل لغير الله به وهو باب واسع .
والثاني : أنه لو كان قصد الحظ مما ينافي الأعمال العادية ; لكان العمل بالطاعات وسائر العبادات رجاء في دخول الجنة أو خوفا من دخول النار عملا بغير الحق ، وذلك باطل قطعا ; فيبطل ما يلزم عنه .
أما بيان الملازمة ; فلأن طلب الجنة أو الهرب من النار سعي في حظ ، لا فرق بينه وبين طلب الاستمتاع بما أباحه له الشارع وأذن له فيه من حيث هو حظ ; إلا أن أحدهما عاجل والآخر آجل ، والتعجيل والتأجيل في المسألة طردي كالتعجيل والتأجيل في الدنيا لا منافسة فيه ، ولما كان طلب الحظ الآجل سائغا كان طلب العاجل أولى بكونه سائغا .
وأما بطلان التالي ; فإن القرآن قد جاء بأن من عمل جوزي ، واعملوا يدخلكم الجنة ، واتركوا تدخلوا الجنة ، ولا تعملوا كذا فتدخلوا النار ، ومن يعمل كذا يجز بكذا ، وهذا بلا شك تحريك على العمل بحظوظ النفوس ، فلو كان طلب الحظ قادحا في العمل لكان القرآن مذكرا بما يقدح في العمل ، وذلك باطل باتفاق ، فكذلك ما يلزم عنه .
وأيضا ; فإن النبي كان يسأل عن العمل الذي يدخل الجنة ويبعد من النار ; فيخبر به من غير احتراز ولا تحذير من طلب الحظ في ذلك ، وقد أخبر الله تعالى عمن قال : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [ الإنسان : 9 ] .
[ ص: 351 ] بقولهم : إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا [ الإنسان : 10 ] .
وفي الحديث : مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما إلى آخر الحديث ، وهو نص في العمل على الحظ .
وفي حديث بيعة الأنصار قولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اشترط لربك واشترط لنفسك . فلما اشترط ; قالوا : فما لنا ؟ قال : الجنة الحديث .
[ ص: 352 ] وبالجملة ; فهذا أكثر من أن يحصى ، وجميعه تحريض على العمل بالحظ ، وإن لم يقل : اعمل لكذا ; فقد قال : اعمل يكن لك كذا ، فإذا لم [ ص: 353 ] يكن مثله قادحا في العبادات ; فأولى أن لا يكون قادحا في العادات .
فإن قيل : بل مثل هذا قادح في العمل بالنص والمعقول .
أما المعقول ; فإن العامل بقصد الحظ قد جعل حظه مقصدا والعمل وسيلة ، لأنه لو لم يكن مقصدا لم يكن مطلوبا بالعمل ، وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف ، وكذلك العمل ولو لم يكن وسيلة لم يطلب الحظ من طريقه ، وقد فرضناه أنه يعمله ليصل به إلى غيره ، وهو حظه ; فهو بالنسبة إلى ذلك الحظ وسيلة ، وقد تقرر أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لأنفسها ، وإنما هي تبع للمقاصد بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل ، وبحيث لو توصل إلى المقاصد دونها لم يتوسل بها ، وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار ، بل كانت تكون كالعبث ، وإذا ثبت هذا ، فالأعمال المشروعة إذا عملت للتوصل بها إلى حظوظ النفوس ، فقد صارت غير متعبد بها إلا من حيث الحظ ، فالحظ هو المقصود بالعمل لا التعبد ، فأشبهت العمل بالرياء لأجل حظوظ الدنيا من الرياسة والجاه والمال وما أشبه ذلك ، والأعمال المأذون فيها كلها يصح التعبد بها إذا أخذت من حيث أذن فيها ، فإذا أخذت من جهة [ ص: 354 ] الحظوظ سقط كونها متعبدا بها ; فكذلك العمل بالأعمال المأمور بها والمتعبد بها كالصلاة والصيام وأشباههما ، ينبغي أن يسقط التعبد بها ، وكل عمل من عادة أو عبادة مأمور به ; فحظ النفس متعلق به ، فإذا أخذ من ذلك الوجه لا من جهة كونه متعبدا به سقط كونه عبادة ; فصار مهمل الاعتبار في العبادة ، فبطل التعبد فيه ، وذلك معنى كون العمل غير صحيح .
وأيضا ; فهذا المأمور أو المنهي بما فيه حظه ، يا ليت شعري ما الذي كان يصنع لو ثبت أنه عري عن الحظوظ ؟ ! هل كان يلزمه التعبد لله بالأمر والنهي أم لا ؟ فإذا كان من المعلوم أنه يلزمه ; فالمأمور به والمنهي عنه بلا بد مقصود في نفسه لا وسيلة ، وعلى هذا نبه القائل بقوله :
هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم أليس من الواجب المستحق
ثناء العباد على المنعم
ويعني بالوجوب بالشرع ، فإذا جعل وسيلة ; أخرج عن مقتضى المشروع ، وصار العمل بالأمر والنهي على غير ما قصد الشارع ، والقصد المخالف لقصد الشارع باطل ، والعمل المبني ، عليه مثله ; فالعمل المبني على الحظ كذلك .
وإلى هذا فقد ثبت أن العبد ليس له في نفسه مع ربه حق ، ولا حجة له عليه ، ولا يجب عليه أن يطعمه ولا أن يسقيه ولا أن ينعمه ، بل لو عذب أهل السماوات والأرض لكان له ذلك بحق الملك ، قل فلله الحجة البالغة [ الأنعام : 149 ] ; فإذا لم يكن له إلا مجرد التعبد ; فحقه أن يقوم به من غير طلب حظ ، فإن طلب الحظ بالعمل لم يكن قائما بحقوق السيد بل بحظوظ نفسه .
[ ص: 355 ] وأما النصوص الدالة على صحة هذا النظر ; فالآيات والأحاديث الدالة على إخلاص الأعمال لله ، وعلى أن ما لم يخلص لله منها ; فلا يقبله الله ، كقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ البينة : 5 ] .
وقوله : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ الكهف : 110 ] .
وفي الحديث : أنا أغنى الشركاء عن الشرك .
وفيه : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ; أي : ليس له من التعبد لله بالأمر بالهجرة شيء ، فإن كل أمر ونهي عقل معناه أو لم يعقل معناه ; ففيه تعبد حسبما يأتي إن شاء الله ; فالعامل لحظه مسقط لجانب التعبد ، ولذلك عد جماعة من السلف المتقدمين العامل للأجر خديم السوء وعبد السوء ، وفي الآثار من ذلك أشياء ، وقد جمع الأمر كله قوله تعالى : ألا لله الدين الخالص [ الزمر : 3 ] .
وأيضا ; فقد عد الناس من هذا ما هو قادح في الإخلاص ومدخل للشوب في الأعمال ; فقال الغزالي : كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ، ويميل إليه القلب قل أو كثر إذا تطرق إلى العمل ، تكدر به صفوه ، وقل به [ ص: 356 ] إخلاصه .
قال : " والإنسان منهمك في حظوظه ومنغمس في شهواته ، قلما ينفك فعل من أفعاله ، وعبادة من عباداته عن حظوظ ما وأغراض عاجلة [ من هذه الأجناس ] ، ولذلك [ قيل ] : من سلم له في عمره خطرة واحدة خالصة لوجه الله نجا ، وذلك لعز الإخلاص ، وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب ، بل الخالص هو الذي لا باعث فيه إلا طلب القرب من الله تعالى " .
ثم قال : " وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها ، حتى يتجرد فيه قصد التقرب ; فلا يكون فيه باعث سواه " .
قال : " وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتر ، مستغرق الهم بالآخرة ، بحيث لم يبق ل [ حب ] الدنيا في قلبه قرار ، حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا ، بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة ; فلا يشتهي الطعام لأنه طعام ، بل لأنه يقويه على العبادة ، ويتمنى [ أن ] لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل ; فلا يبقى في قلبه حظ في الفضول الزائدة على الضرورة ، ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده لأنه ضرورة دينية ; فلا يكون له هم إلا الله تعالى ، فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته ; كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته ، فلو نام مثلا ليريح نفسه ليتقوى على العبادة بعده ; كان نومه عبادة وحاز درجة المخلصين ، ومن ليس كذلك ; فباب الإخلاص في الأعمال كالمسدود عليه إلا على سبيل الندور " . ثم تكلم على باقي المسألة ، وله في الإحياء من هذا المعنى مواضع يعرفها من زواله ، فإذا كان كذلك ; فالعامل الملتفت إلى حظ نفسه على [ ص: 357 ] خلاف ما وقع الكلام عليه .
فالجواب أن ما تعبد العباد به على ضربين :
أحدهما : العبادات المتقرب بها إلى الله بالأصالة ، وذلك الإيمان وتوابعه من قواعد الإسلام وسائر العبادات .
والثاني : العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق ، وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق ، وهذا هو المشروع لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم ، وهو القسم الدنيوي المعقول المعنى ، والأول هو حق الله من العباد في الدنيا ، والمشروع لمصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم .
فأما الأول ; فلا يخلو أن يكون الحظ المطلوب دنيويا أو أخرويا .
فإن كان أخرويا ; فهذا حظ قد أثبته الشرع حسبما تقدم ، وإذا ثبت شرعا ; فطلبه من حيث أثبته صحيح ، إذ لم يتعد ما حده الشارع ، ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره ، ولا قصد مخالفته ; إذ قد فهم من الشارع حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال ; فصار العامل ليقع له الجزاء عاملا لله وحده على مقتضى العلم الشرعي ، وذلك غير قادح في [ ص: 358 ] إخلاصه ; لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله لا ما قصد به غيره ; لأنه عز وجل يقول : إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم إلى قوله في جنات النعيم [ الصافات : 40 - 43 ] الآية .
فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلص - ومعنى كونه مخلصا أن لا يشرك معه في العبادة غيره - ; فهذا قد عمل على وفق ذلك ، وطلب الحظ ليس بشرك ، إذ لا يعبد الحظ نفسه ، وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب ، وهو الله تعالى ، لكن لو أشرك مع الله من ظن بيده بذل حظ ما من العباد ; فهذا هو الذي أشرك ، حيث جعل مع الله غيره في ذلك الطلب بذلك العمل ، والله لا يقبل عملا فيه شرك ، ولا يرضى بالشرك ، وليست مسألتنا من هذا .
فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها ، بل إذا كان العبد عالما بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى ; فذلك باعث له على الإخلاص ، قوي لعلمه أن غيره لا يملك ذلك .
وأيضا ; فإن العبد لا ينقطع طلبه للحظ لا في الدنيا ولا في الآخرة ، على ما نص عليه أبو حامد رحمه الله ; لأن أقصى حظوظ المحبين التنعم في الآخرة بالنظر إلى محبوبهم والتقرب منه ، والتلذذ بمناجاته ، وذلك حظ عظيم ، بل هو أعظم ما في الدارين ، وهو راجع إلى حظ العبد من ذلك ، فإن الله تعالى غني عن العالمين ، قال تعالى : ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين [ العنكبوت : 6 ] .
[ ص: 359 ] وإلى هذا فإن كون الإنسان يعمل لمجرد امتثال الأمر نادر قليل إن وجد ، والله عز وجل قد أمر الجميع بالإخلاص ، والإخلاص البريء عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسير جدا لا يصل إليه إلا خواص الخواص ، وذلك قليل ، فيكون هذا المطلوب قريبا من تكليف ما لا يطاق ، وهذا شديد .
وعلى أن بعض الأئمة قال : " إن الإنسان لا يتحرك إلا بحظ ، والبراءة من الحظوظ صفة إلهية ، ومن ادعاه فهو كافر ، قال أبو حامد : وما قاله حق ، ولكن القوم إنما أرادوا به - يعني الصوفية - البراءة عما يسميه الناس حظوظا ، وذلك الشهوات الموصوفة في الجنة فقط ، فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة ، والنظر إلى وجه الله العظيم ; فهذا حظ هؤلاء ، وهذا لا يعده الناس حظا ، بل يتعجبون منه " .
قال : " وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة ، وملازمة الشهود للحضرة الإلهية سرا وجهرا نعيم الجنة ، لاستحقروها ولم يلتفتوا إليها ; فحركتهم لحظ ، وطاعتهم لحظ ، ولكن حظهم معبودهم دون غيره " . هذا ما قال ، وهو إثبات لأعظم الحظوظ ، ولكن هؤلاء على ضربين :
[ ص: 360 ] أحدهما : من يسبق له امتثال أمر الله الحظ ، فإذا أمر أو نهي لبى قبل حضور الحظ ، فهم عاملون بالامتثال لا بالحظ ، وأصحاب هذا الضرب على درجات ، ولكن الحظ لا يرتفع خطوره على قلوبهم إلا نادرا ، ولا مقال في صحة إخلاص هؤلاء .
والثاني : من يسبق له الحظ الامتثال ، بمعنى أنه لما سمع الأمر أو النهي خطر له الجزاء ، وسبق له الخوف أو الرجاء ، فلبى داعي الله ، فهو دون الأول ، ولكن هؤلاء مخلصون أيضا ; إذ طلبوا ما أذن لهم في طلبه ، وهربوا عما أذن لهم في الهرب عنه ، من حيث لا يقدح في الإخلاص عما تقدم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (72)
صـ361 إلى صـ 373
فصل
وإن كان الحظ المطلوب بالعبادات ما في الدنيا ; فهو قسمان :
قسم يرجع إلى صلاح الهيئة ، وحسن الظن عند الناس ، واعتقاد الفضيلة للعامل بعمله .
وقسم يرجع إلى نيل حظه من الدنيا ، وهذا ضربان :
أحدهما : يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه مع الغفلة عن مراءاة الناس بالعمل .
والآخر يرجع إلى المراءاة لينال بذلك مالا أو جاها أو غير ذلك ; فهذه ثلاثة أقسام .
[ ص: 361 ] أحدها : يرجع إلى تحسين الظن عند الناس واعتقاد الفضيلة .
فإن كان هذا القصد متبوعا ; فلا إشكال في أنه رياء لأنه إنما يبعثه على العبادة قصد الحمد وأن يظن به الخير ، وينجر مع ذلك كونه يصلي فرضه أو نفله ، وهذا بين .
وإن كان تابعا ; فهو محل نظر واجتهاد ، واختلف العلماء في هذا الأصل ; فوقع في العتبية في الرجل الذي يصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب أن يعلم ، ويحب أن يلقى في طريق المسجد ، ويكره أن يلقى في طريق غيره ; فكره ربيعة هذا ، وعده مالك من قبيل الوسوسة العارضة للإنسان ; أي أن الشيطان يأتي للإنسان إذ سره مرأى الناس له على الخير ; فيقول له : إنك لمراء وليس كذلك ، وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يملك ، وقد قال تعالى : وألقيت عليك محبة مني [ طه : 39 ] .
وقال عن إبراهيم عليه السلام : واجعل لي لسان صدق في الآخرين [ الشعراء : 84 ] . وفي حديث ابن عمر : وقع في نفسي أنها النخلة ، فأردت أن أقولها ، فقال عمر : لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا .
وطلب العلم عبادة ، قال ابن العربي : سألت شيخنا الإمام أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا [ البقرة : 160 ] [ ص: 362 ] ما بينوا ؟ قال : أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات . قلت : ويلزم ذلك ؟ قال : نعم ; لتثبت أمانته ، وتصح إمامته ، وتقبل شهادته " .
قال ابن العربي : ويقتدي به غيره ; فهذه الأمور وما كان مثلها تجري هذا المجرى والغزالي يجعل مثل هذا مما لا تتخلص فيه العبادة .
والثاني : ما يرجع إلى ما يخص الإنسان في نفسه ، مع الغفلة عن مراءاة الغير ، وله أمثلة :
أحدها : الصلاة في المسجد للأنس بالجيران ، أو الصلاة بالليل لمراقبة أو مراصدة أو مطالعة أحوال .
والثاني : الصوم توفيرا للمال ، أو استراحة من عمل الطعام وطبخه ، أو احتماء لألم يجده ، أو مرض يتوقعه أو بطنة تقدمت له .
والثالث : الصدقة للذة السخاء والتفضل على الناس .
والرابع : الحج لرؤية البلاد ، والاستراحة من الأنكاد ، أو للتجارة ، أو لتبرمه بأهله وولده ، أو إلحاح الفقر .
[ ص: 363 ] والخامس : الهجرة مخافة الضرر في النفس أو الأهل أو المال .
والسادس : تعلم العلم ليحتمي به عن الظلم .
والسابع : الوضوء تبردا .
والثامن : الاعتكاف فرارا من الكراء .
والتاسع : عيادة المرضى والصلاة على الجنائز ليفعل به ذلك .
والعاشر : تعليم العلم ليتخلص به من كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث .
والحادي عشر : الحج ماشيا ليتوفر له الكراء .
وهذا الموضع أيضا محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعا لقصد العبادة ، وقد التزم الغزالي فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص ، لكن بشرط أن يصير العمل عليه أخف بسبب هذه الأغراض ، وأماابن العربي ، فذهب إلى خلاف ذلك ، وكأن مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما ; فابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك فيصحح العبادات ، وظاهر الغزالي الالتفات إلى مجرد الاجتماع وجودا ، كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا ، وذلك بناء على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ، والخلاف فيها واقع ، ورأي أصبغ فيها البطلان ، فإذا كان كذلك ; اتجه [ ص: 364 ] النظران ، وظهر مغزى المذهبين .
على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أوجه ; لما جاء [ ص: 365 ] [ ص: 366 ] من الأدلة على ذلك ; ففي القرآن الكريم : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] ، يعني في مواسم الحج .
وقال ابن العربي في الفرار من الأنكاد بالحج أو الهجرة : إنه دأب المرسلين ; فقد قال الخليل عليه السلام : إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ الصافات : 99 ] ، وقال الكليم : ففررت منكم لما خفتكم [ الشعراء : 21 ] ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلت قرة عينه في الصلاة ; فكان يستريح إليها [ ص: 367 ] من تعب الدنيا ، وكان فيها نعيمه ولذته ، أفيقال : إن دخوله فيها على هذا الوجه قادح فيها ؟ كلا ، بل هو كمال فيها وباعث على الإخلاص فيها .
وفي الصحيح : يا معشر الشباب ! من استطاع منكم الباءة فليتزوج ; فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع ; فعليه بالصوم فإنه له وجاء .
ذكر ابن بشكوال عن أبي علي الحداد ; قال : حضرت القاضي أبا بكر بن زرب شكا إلى الترجيلي المتطبب ضعف معدته وضعف هضمه ، على ما لم يكن يعهد من نفسه ، وسأله عن الدواء ، فقال : اسرد الصوم تصلح معدتك . فقال له : يا أبا عبد الله ! على غير هذا دلني ، ما كنت لأعذب نفسي بالصوم إلا لوجهه خالصا ، ولي عادة في الصوم الاثنين والخميس لا أنقل نفسي عنها . قال أبو علي : وذكرت في ذلك المجلس حديث الرسول عليه الصلاة والسلام - يعني : هذا الحديث - وجبنت عن إيراد ذلك عليه في ذلك المجلس ، وأحسبني ذاكرته في ذلك في غير هذا المجلس ; فسلم للحديث .
[ ص: 368 ] وقد بعث عليه الصلاة والسلام رجلا ليكون رصدا في شعب ، فقام يصلى ولم يكن قصده بالإقامة في الشعب إلا الحراسة والرصد .
[ ص: 369 ] والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، ويكفي من ذلك ما يراعيه الإمام في صلاته من أمر الجماعة ; كانتظار الداخل ليدرك الركوع معه على ما جاء في الحديث ، وما لم يعمل به مالك فقد عمل به غيره ، وكالتخفيف لأجل [ ص: 370 ] الشيخ والضعيف وذي الحاجة ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " إني لأسمع بكاء [ ص: 371 ] الصبي " الحديث .
وكرد السلام في الصلاة ، وحكاية المؤذن ، وما أشبه ذلك مما هو [ ص: 372 ] عمل خارج عن حقيقة الصلاة ، مفعول فيها مقصود يشرك قصد الصلاة ، ومع ذلك ; فلا يقدح في حقيقة إخلاصها .
بل لو كان شأن العبادة أن يقدح في قصدها قصد شيء آخر سواه ; لقدح فيها مشاركة القصد إلى عبادة أخرى ، كما إذا جاء المسجد قاصدا للتنفل فيه ، وانتظار الصلاة ، والكف عن إذاية الناس ، واستغفار الملائكة له ، فإن كل قصد منها شاب غيره ، وأخرجه عن إخلاصه عن غيره ، وهذا غير صحيح باتفاق ، بل كل قصد منها صحيح في نفسه ، وإن كان العمل واحدا ; لأن الجميع محمود شرعا ، فكذلك ما كان غير عبادة من المأذون فيه ، لاشتراكهما في الإذن الشرعي ، فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان لا يمنع اجتماعها مع العبادات إلا ما كان بوضعه منافيا لها ، كالحديث ، والأكل ، والشرب ، والنوم ، والرياء ، وما أشبه ذلك ، أما ما لا منافاة فيه ، فكيف يقدح القصد إليه في العبادة ؟ هذا لا ينبغي أن يقال ، غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى ، ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان [ ص: 373 ] الحكم للغالب ، فلم يعتد بالعبادة فإن غلب قصد العبادة فالحكم له ، ويقع الترجيح في المسائل بحسب ما يظهر للمجتهد .
والثالث : ما يرجع إلى المراءات ، فأصل هذا إذا قصد به نيل المال أو الجاه ، فهو الرياء المذموم شرعا ، وأدهى ما في ذلك فعل المنافقين الداخلين في الإسلام ظاهرا بقصد إحراز دمائهم وأموالهم ، ويلي ذلك عمل المرائين العاملين بقصد نيل حطام الدنيا ، وحكمه معلوم ; فلا فائدة في الإطالة فيه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (73)
صـ374 إلى صـ 379
فصل
وأما الثاني ; وهو أن يكون العمل إصلاحا للعادات الجارية بين العباد ، كالنكاح ، والبيع ، والإجارة ، وما أشبه ذلك من الأمور التي علم قصد الشارع إلى القيام بها لمصالح العباد في العاجلة ; فهو حظ أيضا قد أثبته الشارع وراعاه في الأوامر والنواهي ، وعلم ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة له ، وإذا علم ذلك بإطلاق ; فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع ; فكان حقا وصحيحا ، هذا وجه .
[ ص: 374 ] ووجه ثان : أنه لو كان طلب الحظ في ذلك قادحا في التماسه وطلبه ; لاستوى مع العبادات كالصيام والصلاة وغيرهما في اشتراط النية والقصد إلى الامتثال ، وقد اتفقوا على أن العادات لا تفتقر إلى نية ، وهذا كاف في كون القصد إلى الحظ لا يقدح في الأعمال التي يتسبب عنها ذلك الحظ ، بل لو فرضنا رجلا تزوج ليرائي بتزوجه ، أو ليعد من أهل العفاف ، أو لغير ذلك لصح تزوجه من حيث لم يشرع فيه نية العبادة من حيث تزوج ، فيقدح فيها الرياء والسمعة ، بخلاف العبادات المقصود بها تعظيم الله تعالى مجردا .
ووجه ثالث : أنه لو لم يكن طلب الحظ فيها سائغا ، لم يصح النص على الامتنان بها في القرآن والسنة ، كقوله تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها [ الروم : 21 ] .
وقال : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا [ يونس : 67 ] .
وقال : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ البقرة : 22 ] .
وقال : ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [ القصص : 73 ] .
وقال : وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا [ النبأ : 10 - 11 ] .
إلى آخر الآيات ، إلى غير ذلك مما لا يحصى .
وذلك أن ما جاء في معرض مجرد التكليف لا يقع النص عليه في معرض الامتنان ; لأنه في نفسه كلفة وخلاف للعادات ، وقطع للأهواء ; كالصلاة ، [ ص: 375 ] والصيام ، والحج ، والجهاد ، إلا ما نحا نحو قوله : وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] ، بعد قوله : كتب عليكم القتال وهو كره لكم [ البقرة : 216 ] ، بخلاف ما تميل إليه النفوس وتقضى به الأوطار ، وتفتح به أبواب التمتع ، واللذات النفسانية ، وتسد به الخلات الواقعة من الغذاء والدواء ، ودفع المضرات ، وأضراب ذلك ; فإن الإتيان بها في معرض الامتنان مناسب ، وإذا كان كذلك اقتضى هذا البساط الأخذ بها من جهة ما وقعت المنة بها ، فلا يكون الأخذ على ذلك قدحا في العبودية ، ولا نقصا من حق الربوبية ، لكنهم مطالبون على أثر ذلك بالشكر للذي امتن بها ، وذلك صحيح .
فإن قيل : فيلزم على هذا أن يكون الأخذ لها بقصد التجرد عن الحظ قادحا أيضا ; إذ كان المقصود المفهوم من الشارع إثبات الحظ والامتنان به ، وهذا أيضا لا يقال به على الإطلاق ; لما تقدم .
فالجواب أن أخذها من حيث تلبية الأمر أو الإذن قد حصل في ضمنه الحظ وبالتبعية ; لأنه إذا ندب إلى التزوج مثلا فأخذه من حيث الندب على وجه لو لم يندب إليه لتركه مثلا ، فإن أخذه من هنالك قد حصل له به أخذه من حيث الحظ ; لأن الشارع قصد بالنكاح التناسل ، ثم أتبعه آثارا حسنة ; من التمتع باللذات ، والانغمار في نعم يتنعم بها المكلف كاملة ، فالتمتع بالحلال من جملة ما قصده الشارع ، فكان قصد هذا القاصد بريئا من الحظ ، وقد انجر [ ص: 376 ] في قصده الحظ ; فلا فرق بينه وبين من قصد بالنكاح نفس التمتع ; فلا مخالفة للشارع من جهة القصد ، بل له موافقتان : موافقة من جهة قبول ما قصد الشارع أن يتلقاه بالقبول ، وهو التمتع ، وموافقة من جهة أن أمر الشارع في الجملة يقتضي اعتبار المكلف له في حسن الأدب ، فكان له تأدب مع الشارع في تلبية الأمر زيادة إلى حصول ما قصده من نيل حظ المكلف .
وأيضا ; ففي قصد امتثال الأمر القصد إلى المقصد الأصلي من حصول النسل ، فهو بامتثال الأمر ملب للشارع في هذا القصد ، بخلاف طلب الحظ فقط ; فليس له هذه المزية .
فإن قيل : فطالب الحظ في هذا الوجه ملوم ; إذ أهمل قصد الشارع في الأمر من هذه الجهة .
فالجواب أنه لم يهمله مطلقا ; فإنه حين ألقى مقاليده في نيل هذه الحظوظ للشارع على الجملة حصل له بالضمن مقتضى ما قصد الشارع ، فلم يكن قصد المكلف في نيل الحظوظ منافيا لقصد الشارع الأصلي .
وأيضا ; فالداخل في حكم هذه الحظوظ داخل بحكم الشرط العادي على أنه يلد ، ويتكلف التربية والقيام بمصالح الأهل والولد ; كما أنه عالم إذا أتى الأمر من بابه أنه ينفق على الزوجة ويقوم بمصالحها ، لكن لا يستوي القصدان : قصد الامتثال ابتداء حتى كان الحظ حاصلا بالضمن ، وقصد الحظ ابتداء حتى صار قصد الامتثال بالضمن ; فثبت أن قصد الحظ في هذا القسم [ ص: 377 ] غير قادح في العمل .
فإن قيل : فطالب الحظ إذا فرضناه لم يقصد الامتثال على حال ، وإنما طلب حظه مجردا ، بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لأخذ به ، لكنه لم يقدر عليه إلا بالوجه المشروع ; فهل يكون القصد الأول في حقه موجودا بالقوة أم لا ؟
فالجواب أنه موجود له بالقوة أيضا ; لأنه إذا لم يكن له سبيل إلى الوصول إلى حظه على غير المشروع ; فرجوعه إلى الوجه المشروع قصد إليه ، وقصد الوجه المشروع يتضمن امتثال الأمر أو العمل بمقتضى الإذن ، وهو القصد الأول الأصلي وإن لم يشعر به على التفصيل ، وقد مر بيان هذا في موافقة قصد الشارع ، وأما العمل بالحظ والهوى بحيث [ لو ] يكون قصد العامل تحصيل مطلوبه وافق الشارع أو خالفه ، فليس من الحق في شيء ، وهو ظاهر والشواهد عليه أظهر .
فإن قيل : أما كونه عاملا على قصد المخالفة ; فظاهر أنه عامل بالهوى لا بالحق ، وأما عمله على غير قصد المخالفة فليس عاملا بالهوى بإطلاق ; فقد تبين في موضعه أن العامل بالجهل فيخالف أمر الشارع حكمه حكم الناسي ، فلا ينسب عمله إلى الهوى هكذا بإطلاق ، وإذا وافق أمر الشرع جهلا ، فسيأتي أن يصح عمله على الجملة ، فلا يكون عمله بالهوى أيضا وإلى هذا ، فالعامل بالهوى إذا صادف أمر الشارع فلم تقول : إنه عامل بالهوى وقد وافق قصده مع ما مر آنفا أن موافقة أمر الشارع تصير الحظ محمودا .
فالجواب أنه إذا عمل على غير قصد المخالفة ; فلا يستلزم أن يكون موافقا له ، بل الحالات ثلاث :
[ ص: 378 ] حال يكون فيها قاصدا للموافقة ; فلا يخلو أن يصيب بإطلاق ; كالعالم يعمل على وفق ما علم ; فلا إشكال أو يصيب بحكم الاتفاق أو لا يصيب ، فهذان قسمان يدخل فيهما العامل بالجهل ، فإن الجاهل إذا ظن في تقديره أن العمل هكذا ، وأن العمل مأذون فيه على ذلك الوجه الذي دخل فيه لم يقصد مخالفة ، لكن فرط في الاحتياط لذلك العمل ، فيؤاخذ في الطريق ، وقد لا يؤاخذ إذا لم يعد مفرطا ، ويمضي عمله إن كان موافقا .
وأما إذا قصد مخالفة أمر الشارع فسواء في العبادات وافق أو خالف [ فإنه لا اعتبار بموافقته كما ] لا اعتبار بما يخالف فيه ; لأنه مخالف القصد بإطلاق ، وفي العادات الأصل اعتبار ما وافق دون ما خالف ; لأن ما لا تشترط النية في صحته من الأعمال لا اعتبار بموافقته في القصد الشرعي ولا مخالفته ، كمن عقد [ ص: 379 ] عقدا يقصد أنه فاسد فكان صحيحا ، أو شرب جلابا يظنه خمرا ; إلا أن عليه في قصد المخالفة درك الإثم .
وأما إذا لم يقصد موافقة ولا مخالفة ; فهو العمل علي مجرد الحظ أو الغفلة ; كالعامل ولا يدري ما الذي يعمل ، أو يدري ولكنه إنما قصد مجرد العاجلة ، معرضا عن كونه مشروعا أو غير مشروع ، وحكمه في العبادات عدم الصحة ; لعدم نية الامتثال ، ولذلك لم يكلف الناسي ولا الغافل ولا غير العاقل ، وفي العادات الصحة إن وافق قصد الشارع ، وإلا ; فعدم الصحة .
وفي هذا الموضع نظر إذ يقال : إن المقصد هنا لما انتفى ; فالموافقة غير معتبرة لإمكان الاسترسال بها في المخالفة وقد يظهر لهذا تأثير في تصرفات المحجور ; كالطفل والسفيه الذي لا قصد له إلى موافقة قصد الشارع في إصلاح المال ، فلذلك قيل بعدم نفوذ تصرفاته مطلقا ، وإن وافقت المصلحة ، وقيل بنفوذ ما وافق المصلحة منها لا ما خالفها ، على تفصيل أصله هذا النظر ، وهو أن مطلق القصد إلى المصلحة غير منتهض ، فهو بهذا القصد مخالف للشارع ، وقد يقال : القصد إنما يعتبر بما ينشأ عنه ، وقد نشأ هنا مع عدم القصد موافقة قصد الشارع ; فصح .
فصل
حيث قلنا بالصحة في التصرفات العادية وإن خالف القصد قصد الشارع ; فإن ما مضى الكلام فيه مع اصطلاح الفقهاء ، وأما إذا اعتبرنا ما هو مذكور في هذا الكتاب في نوع الصحة والبطلان من كتاب الأحكام ; فكل ما خالف قصد الشارع ; فهو باطل على الإطلاق ، لكن بالتفسير المتقدم ، والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (74)
صـ380 إلى صـ 386
المسألة السابعة
المطلوب الشرعي ضربان :
أحدهما : ما كان من قبيل العاديات الجارية بين الخلق ، في الاكتسابات وسائر المحاولات الدنيوية ، التي هي طرق الحظوظ العاجلة ; كالعقود على اختلافها ، والتصاريف المالية على تنوعها .
والثاني : ما كان من قبيل العبادات اللازمة للمكلف ، من جهة توجهه إلى الواحد المعبود .
فأما الأول ; فالنيابة فيه صحيحة ، فيقوم فيها الإنسان عن غيره وينوب منابه فيما لا يختص به منها ; فيجوز أن ينوب منابه في استجلاب المصالح له ودرء المفاسد عنه ، بالإعانة والوكالة ونحو ذلك مما هو في معناه ; لأن الحكمة التي يطلب بها المكلف في ذلك كله صالحة أن يأتي بها سواه ; كالبيع والشراء ، والأخذ والإعطاء ، والإجارة والاستئجارة ، والخدمة ، والقبض ، والدفع ، وما أشبه ذلك ما لم يكن مشروعا لحكمة لا تتعدى المكلف عادة أو شرعا ; كالأكل ، والشرب ، واللبس ، والسكنى ، وغير ذلك مما جرت به العادات ، وكالنكاح وأحكامه التابعة له من وجوه الاستمتاع التي لا تصح النيابة فيها شرعا ، فإن مثل هذا مفروغ من النظر فيه ، لأن حكمته لا تتعدى صاحبها إلى غيره ، ومثل ذلك وجوه العقوبات والازدجار ; لأن مقصود الزجر لا يتعدى صاحب الجناية ما لم يكن ذلك راجعا إلى المال ; فإن النيابة فيه تصح ، فإن كان دائرا بين الأمر المالي [ ص: 381 ] وغيره ; فهو مجال نظر واجتهاد ، كالحج والكفارات ; فالحج بناء على أن المغلب فيه التعبد ; فلا تصح النيابة فيه ، أو المال ; فتصح ، والكفارة بناء على أنها زجر فتختص ، أو جبر فلا تختص ، وكالتضحية في الذبح بناء على ما بني عليه في الحج ، وما أشبه هذه الأشياء .
فالحاصل أن حكمة العاديات إن اختصت بالمكلف ; فلا نيابة ، وإلا صحت النيابة ، وهذا القسم لا يحتاج إلى إقامة دليل لوضوح الأمر فيه .
وأما الثاني ; فالتعبدات الشرعية لا يقوم فيها أحد عن أحد ، ولا يغني فيها عن المكلف غيره ، وعمل العامل لا يجتزى به غيره ، ولا ينتقل بالقصد إليه ، ولا يثبت إن وهب ، ولا يحمل إن تحمل ، وذلك بحسب النظر الشرعي القطعي نقلا وتعليلا .
فالدليل على صحة هذه الدعوى أمور :
أحدها : النصوص الدالة على ذلك ; كقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الأنعام : 164 ] .
[ ص: 382 ] وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 39 ] .
وفي القرآن : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الإسراء : 15 ] في مواضع .
وفي بعضها : وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ فاطر : 18 ] .
ثم قال : ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه [ فاطر : 18 ] .
وقال تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون [ العنكبوت : 12 ] .
وقال : وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم [ القصص : 55 ] .
وقال تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء [ الأنعام : 52 ] الآية .
وأيضا ما يدل على أن أمور الآخرة لا يملك فيها أحد عن أحد شيئا ، كقوله : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا [ الانفطار : 19 ] ; فهذا عام في نقل الأجور أو حمل الأوزار ونحوها .
وقال : واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا [ لقمان : 33 ] .
وقال : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل [ البقرة : 48 ] الآية .
[ ص: 383 ] إلى كثير من هذا المعنى .
وفي الحديث حين أنذر عليه الصلاة والسلام عشيرته الأقربين : يا بني فلان ! إني لا أملك لكم من الله شيئا .
والثاني : المعنى ، وهو أن مقصود العبادات الخضوع لله ، والتوجه إليه ، والتذلل بين يديه ، والانقياد تحت حكمه ، وعمارة القلب بذكره ; حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرا مع الله ، ومراقبا له غير غافل عنه ، وأن يكون ساعيا في مرضاته ، وما يقرب إليه على حسب طاقته ، والنيابة تنافي هذا المقصود وتضاده ; لأن معنى ذلك أن لا يكون العبد عبدا ولا المطلوب بالخضوع والتوجه خاضعا ولا متوجها ، إذا ناب عنه غيره في ذلك ، وإذا قام غيره في ذلك مقامه ; فذلك الغير هو الخاضع المتوجه ، والخضوع والتوجه ونحوهما إنما هو اتصاف بصفات العبودية ، والاتصاف لا يعدو المتصف به ولا ينتقل عنه إلى غيره ، والنيابة إنما معناها أن يكون المنوب منه بمنزلة النائب ، حتى يعد المنوب عنه متصفا بما اتصف به النائب ، وذلك لا يصح في العبادات كما يصح في التصرفات ; فإن النائب في أداء الدين مثلا لما قام مقام المدان صار المدان متصفا بأنه مؤد لدينه ; فلا مطالبة للغريم بعد ذلك به ، وهذا في التعبد لا يتصور ما لم يتصف المنوب عنه بمثل ما اتصف به النائب ، ولا نيابة إذ ذاك على حال .
والثالث : أنه لو صحت النيابة في العبادات البدنية لصحت في الأعمال [ ص: 384 ] القلبية ; كالإيمان وغيره من الصبر والشكر ، والرضى والتوكل ، والخوف والرجاء ، وما أشبه ذلك ، ولم تكن التكاليف محتومة على المكلف عينا لجواز النيابة ; فكان يجوز أمره ابتداء على التخيير بين العمل والاستنابة ، ولصح مثل ذلك في المصالح المختصة بالأعيان من العاديات ; كالأكل ، والشرب ، والوقاع ، واللباس ، وما أشبه ذلك ، وفي الحدود والقصاص ، والتعزيرات ، وأشباهها من أنواع الزجر ، وكل ذلك باطل بلا خلاف ; من جهة أن حكم هذه الأحكام مختصة ; فكذلك سائر التعبدات .
وما تقدم من آيات القرآن كلها عمومات لا تحتمل التخصيص ; لأنها محكمات نزلت بمكة احتجاجا على الكفار ، وردا عليهم في اعتقادهم حمل بعضهم عن بعض أو دعواهم ذلك عنادا ، ولو كانت تحتمل الخصوص في هذا [ ص: 385 ] المعنى ; لم يكن فيها رد عليهم ، ولما قامت عليهم بها حجة ، أما على القول بأن العموم إذا خص لا يبقى حجة في الباقي ; فظاهر ، وأما على قول غيرهم ; فلتطرق احتمال التخصيص بالقياس أو غيره ، وإذا تأمل الناظر العمومات المكية وجد عامتها عرية عن التخصيص والنسخ وغير ذلك من الأمور المعارضة ; فينبغي للبيب أن يتخذها عمدة في الكليات الشرعية ، ولا ينصرف عنها .
فإن قيل : كيف هذا ؟ وقد جاء في النيابة في العبادات واكتساب الأجر والوزر من الغير ، وعلى ما لم يعمل أشياء :
أحدها : الأدلة الدالة على خلاف ما تقدم ، وهي جملة منها أن الميت يعذب ببكاء الحي عليه .
وأن من سن سنة حسنة أو سيئة ; كان له أجرها أو عليه وزرها .
[ ص: 386 ] وأن " الرجل إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث " .
وأنه ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها .
وفي القرآن : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم [ الطور : 21 ] .
وفسر بأن الأبناء يرفعون إلى منازل الآباء وإن لم يبلغوا ذلك بأعمالهم .
وفي الحديث : إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ; أفأحج عنه ؟ قال : نعم .
وفي رواية : أفرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته ، أكان يجزئه ؟ قالت : نعم . قال : فدين الله أحق أن يقضى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (75)
صـ387 إلى صـ 400
ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه .
وقيل : يا رسول الله ! إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه . قال : فاقضه عنها .
وقد قال بمقتضى هذه الأحاديث كبراء وعلماء ، وجماعة ممن لم يذهب إلى ذلك قالوا بجواز هبة العمل ، وأن ذلك ينفع الموهوب له عند الله تعالى ; فهذه جملة تدل على ما لم يذكر من نوعها ، وتبين أن ما تقدم في الكلية المذكورة ليست على العموم ; فلا تكون صحيحة .
والثاني : أن لنا قاعدة يرجع إليها غير مختلف فيها ، وهي قاعدة الصدقة عن الغير ، وهى عبادة ; لأنها إنما تكون صدقة إذا قصد بها وجه الله تعالى وامتثال أمره ، فإذا تصدق الرجل عن الرجل ; أجزأ ذلك عن المتصدق عنه وانتفع [ ص: 388 ] به ، ولا سيما إن كان ميتا ، فهذه عبادة حصلت فيها النيابة ، ويؤكد ذلك ما كان من الصدقة فرضا كالزكاة ; فإن إخراجها عن الغير جائز وجاز عن ذلك الغير ، والزكاة أخية الصلاة .
والثالث : أن لنا قاعدة أخرى متفقا عليها أو كالمتفق عليها ، وهى تحمل العاقلة للدية في قتل الخطأ ; فإن حاصل الأمر في ذلك أن يتلف زيد فيغرم عمرو ، وليس ذلك إلا من باب النيابة في أمر تعبدي لا يعقل معناه ، ومنه أيضا نيابة الإمام عن المأموم في القراءة وبعض أركان الصلاة مثل القيام ، والنيابة عنه في سجود السهو بمعنى أنه يحمله عنه ، وكذلك الدعاء للغير ; فإن حقيقته خضوع لله وتوجه إليه ، والغير هو المنتفع بمقتضى تلك العبادة ، وقد خلق الله ملائكة عبادتهم الاستغفار للمؤمنين خصوصا ولمن في الأرض عموما ، وقد استغفر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبويه حتى نزل : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين [ التوبة : 113 ] .
[ ص: 389 ] [ ص: 390 ] وقال في ابن أبي : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " حتى نزل : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم [ التوبة : 80 ] ، ونزل : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا [ التوبة : 84 ] الآية .
وإن كان قد نهي عنه ; فلم ينه عن الاستغفار لمن كان حيا منهم ، وقال عليه الصلاة والسلام : اللهم اغفر لقومي ; فإنهم لا يعلمون .
وعلى الجملة ; فالدعاء للغير مما علم من دين الأمة ضرورة .
والرابع : إن النيابة في الأعمال البدنية غير العبادات صحيحة ، وكذلك [ ص: 391 ] بعض العبادات البدنية ، وإن كانت واجبة على الإنسان عينا ، وكذلك المالية ، وأولها الجهاد ; فإنه جائز أن يستنيب فيه المكلف به غيره بجعل وبغير جعل ، إذا أذن الإمام ، والجهاد عبادة ، فإذا جازت النيابة في مثل هذا ; فلتجز في باقي الأعمال المشروعة لأن الجميع مشروع .
والخامس : إن مآل الأعمال التكليفية أن يجازى عليها ، وقد يجازى الإنسان على ما لم يعمل ، خيرا كان الجزاء أو شرا ، وهو أصل متفق عليه في الجملة ، وذلك ضربان :
أحدهما : المصائب النازلة في نفسه وأهله وولده وعرضه ; فإنه إن كانت باكتساب كفر بها من سيئاته ، وأخذ بها من أجر غيره ، وحمل غيره وزره ، و [ لو ] لم يعمل بذلك ، فضلا عن أن يجد ألمه ، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في المفلس يوم القيامة ، وإن كانت بغير اكتساب ، فهي كفارات فقط ، أو كفارات وأجور ، وكما جاء فيمن " غرس غرسا أو زرع زرعا يأكل منه [ ص: 392 ] إنسان أو حيوان أنه له أجر " ، وفيمن ارتبط فرسا في سبيل الله فأكل في مرج أو روضة ، أو شرب في نهر ، أو استن شرفا أو شرفين ، ولم يرد أن يكون ذلك ; فهي له حسنات " ، وسائر ما جاء في هذا المعنى .
والضرب الثاني : النيات التي تتجاوز الأعمال كما جاء : " إن المرء يكتب له قيام الليل أو الجهاد إذا حبسه عن عذر " .
[ ص: 393 ] وكذلك سائر الأعمال ; حتى قال عليه الصلاة والسلام في المتمني أن يكون له مال يعمل به مثل عمل فلان : " فهما في الأجر سواء " ، وفي الآخر : " فهما في الوزر سواء " .
[ ص: 394 ] وحديث : من هم بحسنة فلم يعملها ; كتبت له حسنة .
والمسلمان يلتقيان بسيفيهما الحديث .
إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عد المكلف بمجرد النية كالعامل نفسه في الأجر والوزر ، فإذا كان كالعامل وليس بعامل ولا عمل عنه غيره ; فأولى أن يكون كالعامل إذا استناب غيره على العمل .
[ ص: 395 ] فالجواب : أن هذه الأشياء وإن كان منها ما قال بعض العلماء فيه بصحة النيابة ; فإن للنظر فيها متسعا .
أما قاعدة الصدقة عن الغير وإن عددناها عبادة ; فليست من هذا الباب ; فإن كلامنا في نيابة في عبادة من حيث هي تقرب إلى الله تعالى وتوجه إليه ، والصدقة عن الغير من باب التصرفات المالية ، ولا كلام فيها .
وأما قاعدة الدعاء ; فظاهر أنه ليس في الدعاء نيابة لأنه شفاعة للغير ; فليس من هذا الباب .
وأما قاعدة النيابة في الأعمال البدنية والمالية ; فإنها مصالح معقولة المعنى لا يشترط فيها من حيث هي كذلك نية ، بل المنوب عنه إن نوى القربة فيما له سبب فيه ; فله أجر ذلك ، فإن العبادة منه صدرت لا من النائب ، والنيابة على مجرد التفرقة أمر خارج عن نفس التقرب بإخراج المال ، والجهاد وإن كان من الأعمال المعدودة في العبادات ، فهي في الحقيقة معقولة المعنى ، كسائر فروض الكفايات التي هي مصالح الدنيا ، لكن لا يحصل لصاحبها الأجر الأخروي إلا إذا قصد وجه الله تعالى ، وإعلاء كلمة الله ، فإن قصد الدنيا ، فذلك حظه مع أن المصلحة الجهادية قائمة ; كقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد شعبة منها ، على أن من أهل العلم من كره النيابة في الجهاد بالجعل ; لما فيه من تعريض النفس للهلكة في عرض من أعراض الدنيا ، ولو فرض هنا قصد التقرب بالعمل ; لم يصح فيه من تلك الجهة نيابة أصلا ; فهذا الأصل لا اعتراض به أيضا .
وأما قاعدة المصائب النازلة ; فليست من باب النيابة في التعبد ، وإنما [ ص: 396 ] الأجر والكفارة في مقابلة ما نيل منه لا لأمر خارج عن ذلك ، وكون حسنات الظالم تعطى المظلوم ، أو سيئات المظلوم تطرح على الظالم ; فمن باب الغرامات ; فهي معاوضات ; لأن الأعواض الأخروية إنما تكون في الأجور والأوزار ; إذ لا دينار هناك ولا درهم ، وقد فات القضاء في الدنيا .
ومسألة الغرس والزرع من باب المصائب في المال ، ومن باب الإحسان به إن كان باختيار مالكه .
ومسألة العاجز عن الأعمال راجعة إلى الجزاء على الأعمال المختصة بالعامل بلا نيابة ; إذ عد في الجزاء بسبب نيته كمن عمل تفضلا من الله تعالى ، مع أن الأحكام إنما تجري في الدنيا على الظاهر ، ولذلك يقال فيمن عجز عن عبادة واجبة وفي نيته أن لو قدر عليها لعملها إن له أجر من عملها مع أن ذلك لا يسقط القضاء عنه فيما بينه وبين الله إن كانت العبادة مما يقضى ، كما أنه لو تمنى أن يقتل مسلما أو يسرق أو يفعل شرا إلا أنه لم يقدر ; كان له وزر من عمل ، ولا يعد في الدنيا كمن عمل ، حتى يجب عليه ما يجب على الفاعل حقيقة ; فليست من النيابة في شيء ، وإن فرضت النيابة ; فالنائب هو المكتسب ، فعمله عليه أو له ، فهذه القواعد لا تنقض ما تأصل .
ونرجع إلى ما ذكر أول السؤال ; فإنه عمدة من خالف في المسألة .
[ ص: 397 ] فحديث تعذيب الميت ببكاء الحي ظاهر حمله على عادة العرب في تحريض المريض - إذا ظن الموت - أهله على البكاء عليه ، وأما " من سن سنة . . . " ، وحديث ابن آدم الأول ، وحديث انقطاع العمل إلا من ثلاث ، وما أشبه ذلك ، فإن الجزاء فيها راجع إلى عمل المأجور أو الموزور ; لأنه الذي تسبب فيه أولا ، فعلى جريان سببه تجري المسببات ، والكفل الراجع إلى المتسبب [ الأول ] ناشئ عن عمله ، لا عن عمل المتسبب الثاني ، وإلى هذا المعنى يرجع قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم [ الطور : 21 ] الآية ; لأن ولده كسب من كسبه ، فما جرى عليه من خير فكأنه منسوب إلى الأب ، وبذلك فسر قوله تعالى : ما أغنى عنه ماله وما كسب [ المسد : 2 ] أن ولده من كسبه ; فلا غرو أن يرجع إلى منزلته وتقر عينه به ، كما تقر عينه بسائر أعماله الصالحة ، وذلك قوله تعالى : وما ألتناهم من عملهم من شيء [ الطور : 21 ] .
وإنما يشكل من كل ما أورد ما بقي من الأحاديث ; فإنها كالنص في معارضة القاعدة المستدل عليها ، وبسببها وقع الخلاف فيما نص فيها خاصة - وذلك الصيام والحج - ، وأما النذر ; فإنما كان صياما فيرجع إلى الصيام .
والذي يجاب به فيها أمور :
أحدها : أن الأحاديث فيها مضطربة ، نبه البخاري ومسلم على [ ص: 398 ] اضطرابها ; فانظره في الإكمال ، وهو مما يضعف الاحتجاج بها إذا لم تعارض أصلا قطعيا ; فكيف إذا عارضته ؟
وأيضا ; فإن الطحاوي قال في حديث من مات وعليه صوم صام عنه وليه : إنه لم يرو إلا من طريق عائشة ، وقد تركته فلم تعمل به وأفتت بخلافه ، وقال في حديث التي ماتت وعليها نذر : إنه لا يرويه إلا ابن عباس ، وقد خالفه وأفتى بأنه لا يصوم أحد عن أحد .
والثاني : أن الناس على أقوال في هذه الأحاديث : منهم من قبل ما صح منها بإطلاق ; كأحمد بن حنبل ، ومنهم من قبل من قال ببعضها ، فأجاز ذلك في الحج دون الصيام ، وهو مذهب الشافعي ، ومنهم من منع بإطلاق ، كمالك بن أنس ، فأنت ترى بعضهم لم يأخذ ببعض الأحاديث وإن صح ، وذلك دليل على ضعف الأخذ بها في النظر ، ويدل على ذلك أنهم اتفقوا في الصلاة على ما حكاه ابن العربي ، وإن كان ذلك لازما في الحج لمكان ركعتي الطواف ; لأنهم تبع ، ويجوز في التبع ما لا يجوز في غيره ; كبيع الشجرة بثمرة قد أبرت ، وبيع العبد بماله ، واتفقوا على المنع في الأعمال القلبية .
[ ص: 399 ] والثالث : أن من العلماء من تأول الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقا ; وذلك أنه قال : سبيل الأنبياء صلوات الله عليهم أن لا يمنعوا أحدا من فعل الخير ، يريد أنهم سئلوا عن القضاء في الحج والصوم ، فأنفذوا ما سئلوا فيه من جهة كونه خيرا ، لا من جهة أنه جاز عن المنوب عنه ، وقال هذا القائل : لا يعمل أحد عن أحد شيئا ، فإن عمله ; فهو لنفسه كما قال تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 39 ] .
والرابع : أنه يحتمل أن تكون هذه الأحاديث خاصة بمن كان له تسبب في تلك الأعمال ، كما إذا أمر بأن يحج عنه ، أو أوصى بذلك ، أو كان له فيه سعي حتى يكون موافقا لقوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 39 ] ، وهو قول بعض العلماء .
والخامس : أن قوله : " صام عنه وليه محمول على ما تصح فيه النيابة ، وهو الصدقة مجازا ; لأن القضاء تارة يكون بمثل المقضي ، وتارة بما يقوم مقامه عند تعذره ، وذلك في الصيام الإطعام ، وفي الحج النفقة عمن يحج عنه ، أو [ ص: 400 ] ما أشبه ذلك .
والسادس : أن هذه الأحاديث على قلتها معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي ، ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي ; فلا يعارض الظن القطع ، كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي ، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة ، وهذا الوجه هو نكتة الموضع ، وهو المقصود فيه ، وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بتلك الأحاديث ، وقد وضح مأخذ هذا الأصل الحسن ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg