-
الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(1) سبب تسمية الأندلس
https://majles.alukah.net/imgcache/2019/09/113.jpg
الاسم المعاصر للأندلس، ومن أول من سكنها، وسبب تسمية الأندلس:
أما الأندلس فتسمى الآن أسبانيا والبرتغال، أو ما يسمى بشبه الجزيرة الأيبيرية، ومساحتها ستمائة ألف كيلو متر مربع، أي: أقل من ثلثي من مصر، ثم تناقصت الأرض عليهم مع مرور الزمان، أما مساحة فرنسا فهي حوالي نصف مليون كيلو متر مربع، وإن شاء الله سيكون للمسلمين أيضاً فتوحات مرتبطة بفرنسا، وفرنسا في ذلك الزمن كان اسمها مملكة الفرنجة، أو مملكة غاليا.
سكن الأندلس منذ القرن الأول الميلادي بعض القبائل الهمجية التي جاءت من شمال اسكندنافا من بلاد السويد والدنمارك والنرويج وما إلى ذلك، وهجمت على منطقة الأندلس وعاشت فيها فترة من الزمان، ويقال: إن هذه القبائل جاءت من ألمانيا، وهذه القبائل كان اسمها قبائل الفندال، وباللغة العربية تحرف أحياناً إلى الوندال، فسميت هذه البلاد بفندلسيا لأن قبائل الفندال عاشت فيها فترة من الزمان، ثم حُرّف الاسم بعد ذلك إلى أندلسيا، وهذه القبائل كانت وحشية حتى يعلم الناس كيف انصلح الحال في هذه البلاد بعد دخول الإسلام،
وفي اللغة الإنجليزية فإ، كلمة فندلزم تعني همجية أو وحشية أو أسلوب غير حضاري أو بدائي في الحياة، فقبائل الفندال عاشت فترة من الزمان فسميت هذه البلاد بفندلسيا، ثم خرجت هذه القبائل وحكم الأندلس طوائف أخرى من النصارى عُرفت في التاريخ باسم القوط الغربيين، وهي التي كانت تعيش فيها حتى دخول المسلمين.
واتجه المسلمون لفتح بلاد الأندلس في ذلك الوقت، لأنهم وصلوا في الفتح إلى المغرب الأقصى، أي: أنهم فتحوا الشمال الأفريقي كله: مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، والناظر إلى خريطة هذه المنطقة يجد أنه بعد دولة المغرب مباشرة المحيط الأطلسي، فإما أن تصعد شمالاً وتعبر مضيق جبل طارق وتدخل في بلاد أسبانيا والبرتغال التي كان اسمها الأندلس، وإما أن تنزل جنوباً في الصحراء الكبرى، والمسلمون ليس من همّهم جمع الأراضي والممتلكات -والصحراء الكبرى قليلة السكان جداً- وإنما يبحثون عن البشر حتى يعلموهم دين الله سبحانه وتعالى، فلما انتهوا من المغرب انتقلوا إلى الدولة المجاورة مباشرة التي هي دولة الأندلس، وعندما انتهوا من الأندلس انتقلوا إلى الدولة المجاورة التي هي فرنسا، وكان عندهم العزم -لو ربنا سبحانه وتعالى فتح عليهم وأكملوا الفتوح- أن يفتحوا الدول المجاورة التي هي: إيطاليا وألمانيا وهكذا، فالمسلمون كانوا قد وصلوا إلى الأندلس واستتب لهم الأمر أواخر الثمانيات من الهجرة، كما سيأتي بالتفصيل إن شاء الله في شرح الطريق إلى الأندلس.
والله سبحانه وتعالى يقول لنا في كتابه الكريم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، ومعنى: {الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:123] أي: البلاد المجاورة لكم.
وقد دار حوار لطيف بين معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ملك الروم قبل موقعة اليرموك عن طريق المفاوضات بين الفريقين والرسل، فسأل ملك الروم معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال له: ما الذي دعاكم إلى الولوغ في بلادنا، وبلاد الحبشة أسهل عليكم؟ فالعالم القديم كان مقسماً بين الروم وفارس، أي: أنها القوة العظمى في ذلك الزمن.
فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: قال لنا ربنا في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وأنتم البلاد التي تلينا، ثم بعد الانتهاء من بلاد الروم سنفتح الحبشة وغيرها من البلاد، فالمسلمون كانوا قد وصلوا إلى المغرب الأقصى، وأول بلاد مجاورة هي بلاد الأندلس، وهي الخطوة التالية للفتح مباشرة.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(2) زمن فتح الأندلس
https://majles.alukah.net/imgcache/2019/09/114.jpg
وقد فتحت الأندلس في سنة (92 هـ) في الدولة الأموية، خصوصاً في خلافة الوليد بن عبد الملك رحمه الله الخليفة الأموي الذي حكم من سنة 86 هـ إلى سنة 96 هـ، أي: أن فتح الأندلس كان في منتصف خلافة الوليد بن عبد الملك رحمه الله.
والدولة الأموية مظلومة في التاريخ الإسلامي، فقد أشيع عنها كثيراً من الذين شوهوا التاريخ الإسلامي فقالوا: إنه ما كان تاريخ إلا في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى أن كثيراً من الناس يطعنون في تاريخ أبي بكر وعمر مع علم الجميع بفضلهما،
وغرضهم في ذلك عدم إقامة دولة إسلامية، فإذا كان السابقون القريبون من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم دولة بني أمية والدولة العباسية وغيرها من الدول لم تستطع أن تقيم حكماً إسلامياً صالحاً ناجحاً، فكيف بالمتأخرين؟
وهذه الرسالة يريدون أن يصلوا بها إلى كل المسلمين، فالدولة الأموية كانت دولة لها كثير من الأيادي البيضاء على المسلمين، فقد دخلت كثير من البلاد في الإسلام في عهد بني أمية، كشمال أفريقيا ابتداء من ليبيا إلى أواخر المغرب، نعم بدأت الفتوحات لهذه البلاد في عهد عثمان بن عفان ثم انتقضت وارتدت على عاقبها، وفُتحت من جديد في عهد بني أمية، وأفغانستان وجمهوريات جنوب روسيا دخلت في الإسلام في عهد بني أمية، وكثير من البلاد وكثير من الناس دخلوا في الإسلام في عهد هذه الفترة الناجحة جداً في تاريخ الأمة الإسلامية، ودوّنت السنة في عهد بني أمية، ورُغّب في الجهاد في عهد بني أمية حتى صار الجهاد أمراً طبيعياً،
وأنه في كل سنة سيكون جهاد في الصيف وجهاد في الشتاء فالمجاهدون كانوا يخرجون للجهاد كما يخرجون إلى أعمالهم، والشرع كان مطبّق في عهد بني أمية، ولا نقول أنهم كانوا بلا أخطاء ولا عيوب، ومن المؤكد أن كل البشر يخطئون، ومن المؤكد أن هناك أخطاء كثيرة في تاريخ بني أمية، لكن بلا شك أن هذه الأخطاء تذوب في بحر حسناتهم وأفضالهم على المسلمين.
حكمت دولة بني أمية من سنة (40 هـ إلى سنة 132 هـ) أي: أنه استمر الحكم في بني أمية 92سنة، ومؤسس دولة بني أمية الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وكثير من الناس يطعنون في خلافة معاوية بن أبي سفيان وفي تاريخه وكذبوا، وليتهم يصلون إلى معشار ما فعله معاوية بن أبي سفيان للإسلام والمسلمين، وإن شاء الله تكون بيننا محاضرات وجولات مع تاريخ معاوية بن أبي سفيان وتاريخ الدولة الأموية، وليس المجال الآن في الخوض والحديث بالتفصيل عن تاريخ بني أمية لكن نذكر مقدمة قد تفيد إن شاء الله في الحديث عن الأندلس.
تتابع الحكام بعد معاوية بن أبي سفيان وأشهرهم عبد الملك بن مروان رحمه الله، وتبعه من أولاده: الوليد وسليمان ويزيد وهشام، ثم الخليفة الخامس الراشد المشهور عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، الذي ملأ الأرض عدلاً ورحمة وأمناً ورخاء، وآخر سبع سنوات فقط في بني أمية هي التي كانت فيها الكثير من المآسي والاختلافات عن المنهج الإسلامي، وكسنة من سنن الله سبحانه وتعالى قامت دولة أخرى لما فسد الأمر في بني أمية وهي دولة بني العباس، لكن فتح الأندلس حسنة من حسنات بني أمية.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(3) حال أوروبا أثناء الفتح الإسلامي للأندلس
سؤال آخر قد يخطر على الذهن وهو:
كيف كان الوضع في بلاد الأندلس وأوروبا؟ وكيف تغيرت بعد دخول المسلمين إليها؟
الواقع أن أوروبا في ذلك الوقت كانت تعيش في فترة من فترات الجهل العظيم المنتشر في كل الأرض، وبعد كبير جداً عن كل مناهج العدل التي نشرها الإسلام بعد ذلك، وظلم بيّن من الحكام للمحكومين فالأموال الكثيرة والخيرات في يد الحكام أما الشعوب فهي تعيش في بؤس كبير.
والحكام اهتموا كثيراً ببناء القصور والقلاع والحصون بينما يعيش عامة الشعب في فقر شديد، وعموم الناس يزرعون الأراضي وكانوا يباعون ويشترون كالمتاع في هذا الزمان، وهناك انتهاك للحرمات وأخلاق متدنية، وبعد حتى عن مقومات الحياة الطبيعية، فالنظافة مختفية بالمرة، لدرجة أن الناس كانوا يتركون شعورهم تنسدل على وجوههم ولا يقصونها، ولا يغتسلون في العام إلا مرة أو مرتين، ويظنون أن هذه الأوساخ التي تتراكم على أجسادهم هي صحة لهذا الجسد، وهي خير وبركة لهذا الجسد!
والمشكلة الكبيرة جداً هي عندما يذهب أحدهم ليغتسل، والرحالة المسلمون الذين دخلوا إلى اسكندنافا وجدوا الناس يتفاهمون بالإشارة، أي: ليست لهم لغة منطوقة فضلاً عن أن تكون مكتوبة، فهذه البلاد كانت تعيش في جهل وفي ظلم وفي فقر،
وكان في هذه البلاد بعض أفعال الهنود والمجوس من حرق للمتوفى عند موته، وحرق لزوجة المتوفى معه وهي حية، أو الحرق لجاريته، أو من يحبه من الناس معه وهو حي والناس تشاهد وتعلم هذا الأمر، وكانت هذه البلاد تعيش في ظلم وفقر وضياع كبير جداً عن أي وجه من وجوه الحضارة، ثم لننظر ماذا فعل الإسلام في هذه البلاد؟
كانت هذه مقدمة لدراسة تاريخ الأندلس، وبإذن الله من المقال القادم نتحدث عن تاريخ الأندلس بالترتيب الزمني منذ الفتح سنة 92 هـ إلى السقوط في سنة 897 هـ.
وكما ذكرنا نؤكد ونعيد ونقول أن هذه المقالات ما هي إلا فتح الطريق لدراسة تاريخ الأندلس وليست هي كل تاريخ الأندلس، فتاريخ الأندلس يضم أكثر من 800 سنة كما ذكرنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(4) نبذة يسيرة عن موسى بن نصير ووالده
تحدثنا سابقا عن بعض المقدمات الخاصة بفتح الأندلس والآن ندخل في تفصيلات هذا الفتح، واليوم نتحدث عن أول فترات الأندلس ما يسمى: بعهد الفتح الإسلامي الأندلسي الذي بدأ في سنة 92 من الهجرة، ولكي نفهم الفتح الإسلامي للأندلس في سنة 92 من الهجرة لا بد أن نفهم الوضع في الشمال الأفريقي الملاصق للأندلس في ذلك الزمن، فبلاد الشمال الأفريقي دخلها الإسلام عبر سنوات عديدة تصل إلى 70 سنة، ابتداء من سنة 23 من الهجرة، وهناك فتوحات في الشمال الأفريقي، لكن كانت دائمة الارتداد عن دين الله سبحانه وتعالى.
يسكن في هذه المناطق قبائل ضخمة جداً اسمها: قبائل البربر وسنفصل إن شاء الله عنها خلال الحلقات اللاحقة، كانت قبائل البربر كثيرة الارتداد عن الإسلام، حتى دارت بينها وبين المسلمين جولات كثيرة حتى استقر الإسلام فيها في أواخر سنة 85 أو 86 من الهجرة على يد موسى بن نصير رحمه الله،
وموسى بن نصير رحمه الله ذلك القائد المسلم البارع التقي الورع الذي ثبت أقدام الإسلام في هذه البلاد المترامية الأطراف في الشمال الأفريقي.
كان من التابعين، روى عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه نصير كان غلاماً نصرانياً، أسر في موقعة عين التمر، وكان قائد المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وكان نصير يتعلم الإنجيل والدراسات النصرانية في كنيسة من الكنائس، ثم عرض عليه الإسلام، فأعجب بالإسلام ودخل فيه، ونصير هو أبو موسى بن نصير وكان معه أيضاً في نفس الفترة وفي نفس المكان سيرين والد محمد بن سيرين التابعي المشهور.
فانظر كيف فعل الإسلام بهؤلاء؟ فلو كان نصير نصرانياً لظل على ما هو عليه في زمانه، ولأصبح راهباً من الرهبان موجوداً في منطقة في العراق أو في فارس، لكن انظر كيف من الله عليه وعلى ابنه بعد ذلك وأصبح في حسنات خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه،
فبعد وفاته بسنوات فتحت بلاد الأندلس والشمال الأفريقي على يد موسى بن نصير رحمه الله، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
وهذه ثمرة من ثمرات الجهاد الإسلامي في فارس أن فتحت بلاد الأندلس بعد ذلك بعشرات الأعوام، وخالد بن الوليد إن شاء الله مشارك في الأجر لمن فتح بلاد الأندلس، ونصير لما أسلم أخذ يتدرج في الإسلام حتى أصبح عالماً ومجاهداً من المجاهدين، وكان فارساً مغواراً حتى أنه ترقى في المناصب حتى أصبح في زمن الدولة الأموية هو قائد جيوش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه،
فتولى القيادة لمدة سنوات كثيرة حتى أن ابنه موسى بن نصير أصبح يتربى في بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الأمراء والخلفاء، فتربى موسى بن نصير على حياة الجهاد والدين ونشر الإسلام وما إلى ذلك، ثم كبر بعد ذلك وأخذ يتولى المناصب حتى أصبح قائد جيوش الأمويين في منطقة مصر، وكان الوالي على مصر عبد العزيز بن مروان أخو عبد الملك بن مروان، ثم بعد ذلك أصبح والياً على أفريقيا في سنة 85هـ، وهو الذي ثبت أقدام الإسلام في أفريقيا بعد ارتداد الناس عن الإسلام، وقد كانوا دخلوا في الإسلام من قبل على يد عقبة بن نافع رحمه الله.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(5) الأخطاء التي وقعت أثناء فتح بلاد المغرب
الأخطاء التي وقعت أثناء فتح بلاد المغرب العربي والتي تجنبها موسى بن نصير:
ارتد الناس عن الإسلام فترة من الزمان بعد أن اغتيل عقبة بن نافع في القيروان على يد البربر وهو في طريق عودته من المغرب الأقصى، فنظر موسى بن نصير في سبب ارتداد الناس عن الإسلام بصورة متكررة، فوجد خطأين للسابقين وتجنبهما رحمه الله موسى بن نصير ولذلك ثبت الإسلام في عهده في تلك البلاد بعد ذلك.
الأمر الأول: أن عقبة بن نافع ومن معه كانوا يفتحون البلاد فتحاً سريعاً، ولا يحمون ظهورهم في أماكن كثيرة إذا توغلوا فيها، فانقلب عليه الناس وأحاطوا به وقتلوه، فبدأ موسى بن نصير يفتح البلاد في هدوء وفي حذر، وبدأ يتقدم خطوة خطوة ويؤمن ظهره ثم يدخل خطوة أخرى ويؤمن ظهره فتم فتح البلاد في 7 سنوات أو في 6 سنوات، بينما عقبة بن نافع فقد تم له الأمر في شهور معدودة.
الأمر الثاني: أن هؤلاء القوم لم يعرفوا الإسلام حق المعرفة، فبدأ يعلمهم الإسلام، فأتى بالتابعين من منطقة الشام والحجاز ليعلموا الناس الإسلام، فأحب الناس الإسلام ودخلوا في دين الله سبحانه وتعالى أفواجاً، وبدأ يأخذ في صبر شديد يعلم الناس هذا الدين حتى أصبح البربر في المنطقة هم جند الإسلام وأهله.
موسى بن نصير رحمه الله بعد أن استتب له الأمر في شمال أفريقيا فكر في قوله سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، فقال: البلاد المجاورة لشمال أفريقيا هي بلاد الأندلس، إذاً: لابد أن أفتح بلاد الأندلس، كان موسى بن نصير رحمه الله قد أتم فتح الشمال الأفريقي كله إلا مدينة سبتة، وهي مدينة من المدن المغربية، تقع على مضيق جبل طارق مباشرة، وبلاد الأندلس يفصل بينها وبين المغرب مضيق جبل طارق، ومضيق جبل طارق ليس مضيقاً هيناً بسيطاً، فإن عرضه في بعض المناطق 13 كيلو ويصل عرضه في بعض المناطق الأخرى 37 كيلو، وعلى ساحله ميناءان شهيران كبيران هما: ميناء طنجة وميناء سبتة.
فتح كل الشمال الأفريقي ما عدا ميناء سبتة، وميناء طنجة فتح في الإسلام، ولخطورة هذا المكان ولى على ميناء طنجة رجل من القواد المهرة المشهورين جداً في التاريخ الإسلامي وهو طارق بن زياد رحمه الله، وطارق بن زياد من قبائل البربر الأصلية التي تعيش في مناطق الشمال الأفريقي أي: أنه ليس بعربي رحمه الله، ونحن لما تأتي في رءوسنا كلمة البربر نظن أن وجوههم سوداء وأنهم من الزنوج أو ما إلى ذلك.
فالبربر شعوب شعورهم شقراء وأعينهم زرقاء وألوانهم أبيض حتى أن بعض المحللين يقول: أنهم من أصول أوروبية لأنهم شديدي الشبه بالأوروبيين، كان طارق بن زياد رحمه الله ضخم الجثة، شعره أشقر، عيناه زرقاوان، ومع ذلك فإن كل هذه الأمور لم تقف في طريق جهاده إلى الله سبحانه وتعالى، فتولى طارق بن زياد رحمه الله ولاية مدينة طنجة القريبة جداً من سبتة التي لم تفتح والقريبة من بلاد الأندلس، وموسى بن نصير رحمه الله لما فكر في فتح الأندلس لم تكن هذه الفكرة فكرة جديدة بل هي فكرة قديمة جداً من أيام سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
فالقسطنطينية كانت قد استعصت على الحملات الإسلامية في أيام سيدنا عثمان بن عفان عندما وصل الفتح إلى كل آسيا الصغرى، واستمرت القسطنطينية فترات طويلة لم تفتح إلا بعد قدوم الخلافة العثمانية الراشدة، فقد تم فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح رحمه الله، يقول سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر، يعني: يريد أن يفتح المسلمون الأندلس ومن ثم يتجه الفاتحون إلى أقصى غرب أوروبا حتى يفتحوا القسطنطينية من الغرب وليس من الشرق من قبل البحر الأسود في ذلك الوقت.
إذاً: فكرة فتح الأندلس فكرة قديمة راودت المسلمين منذ عهد سيدنا عثمان بن عفان، لكن المسلمون لم يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه المنطقة في المغرب العربي إلا في زمن الدولة الأموية في فترة حكم موسى بن نصير على الشمال الأفريقي.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(6) العقبات والعراقيل في فتح بلاد الأندلس
العقبات والعراقيل التي اعترضت موسى بن نصير في فتح بلاد الأندلس
كانت المشكلة الأولى عند موسى بن نصير: أن المسافة بين المغرب والأندلس 13 كيلو متر على الأقل، وليس عند المسلمين سفن كافية لعبور هذه العقبة المائية الكبيرة، ومعظم فتوحاتهم كانت برية باستثناء بعض المواقع مثل ذات الصواري وفتح قبرص وما إلى ذلك، وليست لهم سفن ضخمة تحمي الجيوش وتعبر بها مضيق جبل طارق في ذاك الوقت.
أما المشكلة الثانية: أن جزر البليار في شرق الأندلس كانت مملوكة للنصارى، ولو أن موسى بن نصير فتح الأندلس ستكون هذه الجزر من وراء ظهره، وهو يريد أن يحمي ظهره حتى لا يقع في أخطاء السابقين، فجزر البليار مشكلة بالنسبة له، لازم أن يحلها قبل أن يدخل على بلاد الأندلس.
المشكلة الثالثة: أن ميناء سبتة الذي يطل على مضيق جبل طارق لم يفتح، ويحكمه رجل اسمه: يوليان أو جوليان، وهو رجل نصراني، وكانت له علاقات طيبة بملك الأندلس الأسبق غيطشة، والذي حدث عليه انقلاب وتولى الحكم في الأندلس من بعده رجل اسمه: لذريق أو ردريكو، لكن العرب كانوا يسمونه لذريق.
ولم يستطع موسى بن نصير أن يعبر إلى منطقة الأندلس ومن خلفه يوليان الذي كان على خلاف مع لذريق لكن الذي يخشاه هو أنه ينقلب عليه ويساعد لذريق في حربه مقابل أجر مادي أو ما إلى ذلك.
المشكلة الرابعة: أن قوات الفاتحين المسلمين التي جاءت من جزيرة العرب والشام واليمن قوات محدودة قليلة منتشرة في كل بلاد الشمال الأفريقي، فكيف يأخذ من هذه القوات وينتقل إلى منطقة الأندلس؟ قد تنتقض عليه بلاد الشمال الأفريقي وقد لا يستطيع أن يفتح بلاد الأندلس بهذا العدد القليل من المسلمين.
المشكلة الخامسة: أن قوات النصارى في الأندلس ضخمة جداً، فقد كانت النصارى تحكم بلاد الأندلس تحت قيادة لذريق، وكانت كميات الجيوش فيها كبيرة، والرجل كان قوياً ومتكبراً، والقوات ضخمة ومعهم عدة كبيرة وقلاع وحصون.
والمشكلة السادسة: أن أرض الأندلس بالنسبة لـ موسى بن نصير ومن معه مجهولة تماماً، فهي أرض لم تعبرها سفن المسلمين من قبل، فلا يعرفون أي شيء عن أرض الأندلس أو جغرافية الأندلس وما إلى ذلك، وإن كانت الأنباء تترامى أن هذه البلاد صعبة جداً في الفتح؛ لأن الأندلس أرض كلها جبال، والجبال شاقة جداً على الجيوش وبالذات في تلك الآونة لأنهم كانوا يعتمدون على نقل عتادهم بالخيول والبغال والحمير وما إلى ذلك، فكان من الصعب جداً حركة هذه الدواب في الجبال، إضافة إلى أن فيها أنهار وبحيرات كثيرة وهذه تعتبر عوائق ضخمة في عبور الجيوش.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(7) فتح بلاد الأندلس
فهذه مشاكل ضخمة جداً أمام موسى بن نصير رحمه الله، ومع ذلك فهو يصر على فتح بلاد الأندلس، فقد واجه كل هذه المشاكل الضخمة التي أمامه، ولم يكسل أبداً عن فتح بلاد الأندلس مع كل هذه العوائق، فبدأ في أناة يرتب الأمور، فأول شيء بدأ ينشئ سفناً ويبني مواني، وهذا أمر قد يطول لكن سبحان الله! كان عنده همة عالية جداً،
فقد بنى أكثر من ميناء في منطقة الشمال الأفريقي أشهرها ميناء القيروان التابع لمدينة القيروان والتي أسسها قبل ذلك عقبة بن نافع رحمه الله، ثم بدأ يعلم البربر الإسلام في مجالس خاصة، ويعطيهم دورات مكثفة لتعليم الإسلام، وبدأ يكون فرقاً من البربر حتى تكون جيش الإسلام.
وسبحان الله! فإن أي دولة من الدول حاربت غير دول الإسلام مستحيل أن تغير من طبائع الناس وولائهم وحبهم حتى يقاتلوا معها بعد سنتين أو ثلاث سنوات فقط من فتح الإسلام حتى أصبح كل هم معتنقيه أن ينصر هذا الدين، فإن فرنسا استمرت 130 سنة في الجزائر وخرجت منها والناس ما زالوا مسلمين وما زالوا متحمسين للإسلام والصحوة الإسلامية، ونسأل الله سبحانه وتعالى لهم العافية في هذه المشاكل التي تقابلهم في هذه الآونة الأخيرة.
أما الإسلام فقد انتشر في البربر وبدأ موسى بن نصير يعلم الناس الجهاد في سبيل الله، وبذل النفس لله سبحانه وتعالى، فكثر المسلمون، وصار معظم الجيش الإسلامي الموجود في الشمال الأفريقي من البربر في مدة تتراوح من خمس إلى ست سنوات، فأصبحوا محاربين لهذا الدين، وأصبحوا عماده وجنده.
الأمر الثالث: ولى طارق بن زياد على قيادة الجيش الإسلامي المتجه إلى فتح بلاد الأندلس، لأنه جمع بين التقوى والورع والكفاءة الحربية والجهاد في سبيل الله والرغبة في أن يموت في سبيل الله، وهو بربري ليس بعربي، فليس لعربي على أعجمي وليس لأعجمي على عربي فضل إلا بالتقوى.
وقد قدمه موسى بن نصير على العرب لما له من الكفاءة والفضل، إذ ليست دعوة الإسلام دعوة عنصرية أو قبلية، إنما هي دعوة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] صلى الله عليه وسلم.
ثم إن طارق بن زياد لكونه كان من البربر يستطيع أن يقود البربر، فليس هناك أي موانع نفسية لديه تجاه الإسلام، ثم إنه يفهم لغة البربر ويتقن الحديث باللغة العربية.
الأمر الرابع: الذي عمله موسى بن نصير والذي يدل على حنكة وحكمة هذا القائد الذي أغفل دوره في التاريخ الإسلامي، هو أنه فتح جزر البليار لأجل أن يأمن ظهره قبل أن يدخل بلاد الأندلس، ففتح جزر البليار وضمها لأملاك المسلمين وأصبح ظهره محمياً من ناحية الشرق إذ أن جزر البليار تقع في شرق بلاد الأندلس في البحر الأبيض المتوسط.
لكن بقيت عنده مشكلة سبتة، وكان يحكمها يوليان، وسبتة ميناء حصين جداً، ومشكلة أخرى هي مشكلة الجيش البربري، ومشكلة السفن فهو يحتاج إلى سفن كثيرة، فبدأ في بناء السفن في سنة 87 أو 88هـ، وهو لا يعرف أرض الأندلس فإنها مجهولة لديه فيريد يحل كل هذه المشاكل، ولما استنفذ موسى بن نصير الوسع والطاقة وفعل كل ما عليه تدخلت عناية رب العالمين سبحانه وتعالى وتدبيره، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، ففي قلب يوليان حقد كبير على لذريق حاكم الأندلس في ذلك الوقت؛ لأن لذريق قتل غيطشة الذي كان قبله وكانت هناك علاقات طيبة بين غيطشة ويوليان، وأولاد غيطشة استنجدوا بـ يوليان لكي يساعدهم في حرب لذريق، إذ ليست لهم طاقة بـ لذريق وكذلك يوليان ليست له طاقة بـ لذريق.
وأيضاً أن أولاد غيطشة كانت لهم ضياع ضخمة في أرض أسبانيا وقد صودرت وأخذها لذريق، الذي أذاق الشعب سوء العذاب، فقد فرض عليهم كثيراً من الضرائب حتى أن شعب أسبانيا كان يكرهه، لأن لذريق كان متنعماً وشعبه في بؤس شديد.
كل تلك الأفكار خالجت ذهن يوليان، فأرسل رسلاً إلى والي طنجة طارق بن زياد رحمه الله من أجل تتفاوض معه، وهذا من تدبير رب العباد سبحانه وتعالى، فعرض عليه ثلاثة أمور وهي:
الأمر الأول: أن يسلمه ميناء سبتة،
الأمر الثاني: أن يمده ببعض السفن لتساعد الجيش في عبور مضيق جبل طارق إلى الأندلس، فـ موسى بن نصير ما كانت عنده سفن كافية،
الأمر الثالث: أن يعطيه معلومات كافية عن أرض الأندلس، فانحلت كل المشاكل التي كانت تعيق طارق بن زياد والي طنجة وكذا
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(8) معركة وادي برباط الشهيرة
https://majles.alukah.net/imgcache/2019/09/134.jpg
ثم بدأ هذا الجيش يعبر مضيق جبل طارق في شعبان سنة 92 من الهجرة، ونزلوا على جبل عرف في التاريخ بعد ذلك بجبل طارق والمضيق جبل طارق، ويعرف بهذا الاسم إلى زماننا الحاضر حتى في اللغة الأسبانية بمضيق جبل طارق، ثم انتقل منه إلى الجزيرة الخضراء وهناك قابل الجيش الجنوبي للأندلس وجيش النصارى الضخم، وقد كانت هناك حامية في منطقة الجنوب فقابلها طارق بن زياد رحمه الله وعرض عليهم أموراً وهي:
إما أن تدخلوا في الإسلام ولكم ما لنا وعليكم ما علينا ونترك كل أملاككم في أيديكم على أن تدينوا بدين الله سبحانه وتعالى، أو تدفعوا الجزية للمسلمين ونترك لكم أيضاً كل ما في أيديكم، أو أن تدخلوا معنا في قتال ولا نؤخركم إلا ثلاثة أيام، هكذا كانت دعوة المسلمين.
فالنصارى القوط الموجودين في ذاك المكان أخذتهم العزة فتجهزوا لقتال المسلمين، فقاتلهم طارق بن زياد رحمه الله فانتصر عليهم، وقد كانت الحرب إلى حد ما سجالاً بين الفريقين، وقوة النصارى أو قوة القوط في ذاك الزمن لم تكن بالقوة الكبيرة، ولم يكن هو جل الجيش القوطي في هذه المنطقة فانتصر عليهم طارق بن زياد، فأرسل زعيم القوط في تلك المنطقة رسالة سريعة إلى لذريق في طليطلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمن، وكانت تقع في منتصف بلاد الأندلس كالقاهرة بالنسبة لجمهورية مصر العربية فإنها تقع في منتصف البلد، فقال في رسالته: أدركنا يا لذريق فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟!
والشيء الغريب عند أهل الأندلس أنهم يدخلون في دين الإسلام وأن يترك لهم كل شيء، وما كانوا متعودين على ذلك، فهذه السياسة ليست معروفة عندهم، والمعروف عندهم هو أن الفاتح أو المحتل لبلد ما يأخذ من خيراته وأمواله ثم يترك هذا البلد بعد أن يقتل ويذبح أبناء هذا البلد، أما أن يدخلوا ويترك لهم في دينهم كل شيء أو يدفعوا الجزية لهم ويترك لهم كل شيء فهذا لم يعهدوه من قبل، ثم إن المسلمين في ليلهم من القوام لله سبحانه وتعالى، يعني: أنه وجد طائفة عجيبة جداً من البشر فإنهم في الصلاة وكأنهم من الرهبان، وفي القتال وكأنهم من المحاربين الأشداء الذين تمرسوا على القتال طيلة حياتهم، فلا يدري أهل الأندلس أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟
وصلت الرسالة إلى لذريق فجن جنونه وأخذه الغرور وجمع من الناس مائة ألف مقاتل، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب، أما طارق بن زياد فإن عدد جيشه سبعة آلاف رجل ليست معهم إلا خيول قليلة، فأرسل رسالة إلى موسى بن نصير يطلب منه المدد، فأرسل له موسى بن نصير خمسة آلاف رجل آخرين رجالة على رأسهم طريف بن مالك رحمه الله الذي اكتشف أرض الأندلس منذ عام قبل ذلك.
فأصبح جيش المسلمين قوامه 12000 مقاتل، فأخذ طارق بن زياد رحمه الله يتجول في المنطقة ويبحث عن أرض تصلح للقتال حتى وصل إلى منطقة عرفت في التاريخ: بوادي برباط، وتسمى في بعض الكتب: وادي لبتة أو وادي لكة أو وادي لكة، فوجد أن هذا المكان مناسب؛ لأن في خلفه وعن يمينه -أي: في الجنوب والشرق- جبلاً ضخماً يحمي خلفه ويحمي الميمنة فلا يستطيع أحد أن يلتف من حوله، وفي ميسرة الوادي بحيرة عظيمة جداً فلا يستطيع أحد أيضاً أن يلتف من جهة اليسار ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي فرقة لحمايته بقيادة طريف بن مالك حتى لا يدخل أحد عليهم من هذا المدخل الجنوبي فيباغت ظهر المسلمين، وأصبح أمامه الشمال مفتوحاً للنصارى حتى يستدرج قوات النصارى للحرب في هذه المنطقة فلا يلتف أحد من حوله في هذه الأرض التي تعتبر إلى حد كبير مجهولة بالنسبة للمسلمين مهما درسوها أو عرفوها.
جاء لذريق ومعه مائة ألف فارس، جاء ومعه البغال محملة بالحبال، لتقييد المسلمين وأخذهم عبيداً بعد موقعة وادي برباط، وقد جلس على سرير محلى بالذهب يحمل على بغلين، وهو يلبس التاج الذهبي والثياب المغشاة بالذهب، فهو لم يستطع أن يتخلى عن دنياه حتى في لحظات القتال والحروب.
وقد تم اللقاء بينهما في 28 رمضان سنة 92 من الهجرة، والحقيقة أن شهر رمضان شهر معارك أو فتوحات وانتصارات وشهر قيام وصيام وقرآن، ولا يدري الإنسان لماذا تحول شهر رمضان إلى شهر مسلسلات وأفلام جديدة، وفوازير وسهر للفجر، ونوم إلى حد منتصف النهار، وهروب من العمل ومضاربات ومشاكل؟ وأصبحت نفسية الصائم ضيقة، بخلاف المسلمين في ذلك الزمان، فإن رمضان لديهم شهر جهاد، فقد دارت معركة من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين وهي موقعة وادي برباط في 28 رمضان لسنة 92هجرية.
وقد يشفق الناظر إلى الجيشين على جيش المسلمين البالغ عددهم 12000 مقاتل في مقابل 100000 مقاتل من النصارى القوط، لكن الناظر المحلل يجد أن الشفقة كل الشفقة على جيش النصارى في تلك الموقعة، قال تعالى: {هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ۖ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(9) مناقشة قضية حرق طارق بن زياد للسفن الحربية
وقبل الانتقال من موقعة وادي برباط إلى ما بعدها من المواقع في الأندلس نناقش قضية اشتهرت كثيراً في التاريخ الإسلامي والتاريخ الأوروبي وهي قضية حرق طارق بن زياد رحمه الله للسفن التي عبر عليها من المغرب إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي برباط.
يقولون: إن طارق بن زياد حرق السفن كلها حتى يحمس الجيش على القتال وقال لهم: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم فليس لكم نجاة إلا في السيف، هكذا تصور الرواية.
وبعض المؤرخين يصدقون الرواية والبعض الآخر يبطلونها، والحق أن هذه الرواية لا يجب أبداً أن تستقيم، فهذه رواية من الروايات الباطلة التي أدخلت على تاريخ المسلمين، والرد عليها كما يلي: أولاً: أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح بالنظر إلى الروايات الإسلامية الأخرى، فهناك علم اسمه: علم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، ولابد أن تكون الروايات عن أناس موثوقين، فهذه الرواية لم ترد أبداً في كتابات المسلمين الموثوق في تاريخهم، إنما جاءت فقط في الروايات الأوروبية التي كتبت عن موقعة وادي برباط، فهذه الرواية ليس لها سند صحيح.
ثانياً: أنه لو حدث حرق لهذه السفن كان سيكون هناك رد فعل من موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك؛ لأن هذا أمر غريب جداً أن قائداً يحرق سفنه، وقد يكون هنالك حوار بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، أو يكون هناك تعليق من الوليد بن عبد الملك أو من علماء المسلمين، هل يجوز هذا الفعل أم لا؟ فلذلك خفي تماماً رد الفعل لهذه الحادثة في كتب العلماء مما يعطي شكاً كبيراً في حدوثها.
ثالثاً: أن المصادر الأوروبية أشاعت هذا الخبر لأمر واضح جداً، وهو أن المحللين الأوبيين ما استطاعوا أبداً أن يفسروا كيف ينتصر 12000 من الرجال الذين ليس معهم خيول على 100000 فارس وهم في بلادهم وفي عقر دارهم وفي أرض عرفوها وألفوها، وكيف ينتصر هؤلاء القلة على هذه الكثرة العظيمة جداً من البشر؟ فقالوا: إن طارق بن زياد حرق سفنه وأصبح أمام المسلمين حل واحد فقط للهروب من الموت، ولذلك استماتوا في القتال فانتصروا، أما لو لم يحرق السفن فإنهم قد ينسحبون من البلاد ويرجعون إلى بلادهم، وهذا لأن الأوروبيين لا يستطيعون أبداً أن يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمعروفة والمسجلة في كتابه سبحانه وتعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].
والناظر إلى صفحات التاريخ الإسلامي يجد أنه من الطبيعي جداً أن ينتصر المسلمون بأعداد قليلة على غيرهم من الجيوش، بل إن الأصل المتكرر في معظم المعارك الإسلامية أن يكون المسلمون أقلة والكافرون كثرة، ويهزم أعداء المسلمين بهذا العدد القليل من المسلمين، بل إنه من العجب العجاب أنه لو زاد المسلمون في العدد كتبت عليهم الهزيمة كما حدث في حنين، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، وهذا الأمر سوف نتعرض له إن شاء الله في حوادث الأندلس اللاحقة.
إذاً: الأوروبيون يحاولون أن يشيعوا هذه الشائعة حتى يدخلوا في روع الناس أن المسلمين ما انتصروا إلا لظروف خاصة جداً، وليس من الطبيعي أن ينتصروا.
رابعاً: أن المسلمين ما هم محتاجون للتحميس بحرق السفن، فقد جاءوا إلى هذه الأماكن راغبين في الجهاد في سبيل الله، وطالبين للموت في سبيل الله، فما يحتاج القائد أن يحرق السفن لكي يشجعهم في سبيل الله! وبعض الناس يقولون: هذا الحدث مسبوق بما حدث قبل هذا في فتح الفرس لليمن، فإن القائد الفارسي الذي فتح اليمن حرق السفن لكي يحمس الجنود الفرس،
و
الجواب
هذا ممكن يحصل من القائد الفارسي أن يحمس الناس بحرق السفن، وقد كان الفرس يجبرون جنودهم على الحرب ضد المسلمين بربطهم في سلاسل كما حصل في موقعة ذات السلاسل المشهورة، وقد كان قائد جيش المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا ممكن أن يحصل بالنسبة لأهل الدنيا، أما جيش المسلمين فما هو محتاج لهذا التحميس عن طريق هذا الحرق.
خامساً لا يعقل أن قائداً محنكاً مثل طارق بن زياد رحمه الله يحرق سفنه، ويحرق خط الرجعة عليه، وماذا يصنع لو هزم في هذه الموقعة؟ وهذا أمر وارد جداً، فالأيام دول، فقد تحدث الكرة على المسلمين لفترة من الفترات، وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}[الأنفال:15 - 16].
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(10) بيان القول في الجزية
الجزية: هي ضريبة يدفعها أهل الكتاب بصفة عامة أو يدفعها المجوس أو المشركون في رأي بعض الفقهاء وإن كان هذا هو الرأي الغالب أنهم يدفعونها مقابل أن يدافع عنهم المسلمون، ولا يحمل الذين يدفعون الجزية سلاحاً ليدافعوا به عن أنفسهم، لكن على المسلمين أن يدافعوا عنهم مقابل هذه الجزية، بل إن فشل المسلمون في الدفاع عنهم ردت إليهم الجزية، وقد تكرر ذلك في بعض المواقف في التاريخ الإسلامي وسنتعرض لها إن شاء الله في أحاديث لاحقة.
والجزية تؤخذ فقط من الرجال والبالغين لا النساء والأطفال، وتؤخذ من الأصحاء لا المرضى الغير قادرين على القتال وأصحاب العاهات كالأعمى والكسيح، ولا تؤخذ من المعتكف للعبادة والذي لا يقاتل، ولا تؤخذ إلا من القادرين على القتال والغني لا الفقير، بل إن الفقير الذي هو من أهل الكتاب نصرانياً كان أو يهودياً أو مشركاً قد يأخذ من بيت مال المسلمين إن كان في بلد تحكم بالإسلام، والجزية في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون ومع ذلك فهي أقل بكثير مما يدفعه المسلمون، إذا أن الرجل الذمي يدفع ديناراً واحداً في السنة الكاملة جزية للمسلمين بينما المسلم يدفع زكاة 2.
5% من إجمالي الدخل الذي عنده إن كان قد بلغ نصاباً وحال عليه الحول.
فالمبالغ التي يدفعها المسلمون في الزكاة أضعاف ما يدفعه أهل الكتاب وغيرهم من الجزية، وفي حالة إذا أسلم الذمي سقطت عنه الجزية، وإذا شارك مع المسلمين في حروبهم دفعوا له أجرة على حربه مع المسلمين، والجزية أقل بكثير من الضرائب التي كان يفرضها عليهم أصحاب الحكم في بلادهم والذين كانوا من أبناء جلدتهم ومن أبناء شعوبهم، والجزية أقل من أي ضريبة في العالم، بل إن الزكاة نفسها أقل من أي ضريبة في العالم، فلا يوجد في الدنيا من يدفع ضريبة 2.
5% فقط، بل الناس إن يدفعون 10 و20 و30 و50% وأحياناً 70% ضرائب، بينما الزكاة والجزية في الإسلام أقل من ذلك، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ألا يكلف أهل الكتاب فوق طاقتهم، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: «من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالإسلام دين رحمة، لغير المسلمين فهو يدافع عنهم، وكانوا يستفيدون من كل مقدرات البلد في مقابل هذه الجزية البسيطة التي يدفعونها للمسلمين.
وإن شاء الله في المقال القادم نكمل الفتوح مع طارق بن زياد وموسى بن نصير كيف تم لها فتح بلاد الأندلس؟ وكيف كان رد فعل موسى بن نصير من هذه الانتصارات المتتالية لـ طارق بن زياد؟ وكيف دخل المسلمون بلاد فرنسا وكانت لهم فيها صولات وجولات؟ وكيف وصلوا إلى مسافة 30 كيلو متر فقط من باريس التي هي في أقصى شمال فرنسا؟ وكيف تأسس ما يسمى في التاريخ بعهد الولاة؟ هذا ما نتحدث عنه إن شاء الله في الحلقة القادمة.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وجزاكم الله خيراً كثيراً.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(11) فتح طارق بن زياد لمدينة إشبيلية وإستجة وغيرهما
تحدثنا في المقالات السابقة عن حلقة مجيدة جداً من حلقات التاريخ الإسلامي، ورأينا صفحة من صفحات التاريخ المشرق للمسلمين، وكيف أنهم انتصروا انتصارات باهرة على قوات النصارى الموجودة في الأندلس؟
فقد استطاع طارق بن زياد رحمه الله باثني عشر ألفاً من الرجال عديمي الخيول أن ينتصروا على مائة ألف فارس من النصارى في موقعة وادي برباط الشهيرة؛ واستشهد من المسلمين (3000) رجل، وهذا يمثل ربع الجيش المسلم، ومع ذلك لم يفت ذلك في عضد طارق بن زياد رحمه الله، بل انطلق من وادي برباط إلى الشمال ليفتح المدينة تلو المدينة، وكانت المدينة العظيمة التالية لمنطقة وادي برباط هي مدينة إشبيلية، وهذه المدينة مع حصانتها وقوتها ومجدها وحاميتها دفعت الجزية وفتحت أسوارها لـ طارق بن زياد رحمه الله؛ وذلك مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر».
وبعد فتح إشبيلية توجه طارق بن زياد رحمه الله إلى مدينة إستجة، وهي أيضاً من مدن الجنوب، أي: وادي برباط وإشبيلية وإستجة وغيرها من المدن في منطقة الجنوب، ونحن نعلم أن منطقة الجنوب الأندلسي هي المنطقة الملاصقة لمنطقة المغرب العربي، وفي منطقة إستجة قاتل المسلمون قتالاً عنيفاً، ولكنه بلا شك أقل من قتال وادي برباط؛ لأن معظم قوة النصارى كانت قد هلكت في وادي برباط، ثم قبل أن ينتصر المسلمون في أواخر الموقعة فتح النصارى أبوابهم وصالحوا على الجزية، وهناك فرق بين أن يصالح النصارى على الجزية وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحاً؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة لأخذوا كل ما فيها وملكوا البلد، أما إن صالح النصارى على الجزية، فإنهم يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلا الجزية، والتي تقدر بدينار واحد في كل عام على الرجل القادر المستطيع للقتال الغني، فلا تفرض الجزية على المرأة، والوليد الصغير، والمعتكف للعبادة، والضعيف غير القادر على القتال، والأعمى، والكسيح، وهكذا فإنها لا تفرض إلا على المستطيعين للقتال فقط.
وكان عدد جيش طارق بن زياد 9000 مقاتل فقط، فأرسل السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى، وانطلق بقوة الجيش الرئيسية في اتجاه الشمال، حتى وصل إلى طليطلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمان، فبث سرية إلى قرطبة، وسرية إلى غرناطة، وسرية إلى ملقة، وسرية إلى مرسية، فهذه مدن الجنوب المنتشر على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والموجودة بالقرب من مضيق جبل طارق، مع العلم أن كل سرية لا يزيد عدد الرجال فيها عن (700) رجل، ومع ذلك فقد فتحت قرطبة -على الرغم من عظمتها وكبرها- بسبعمائة رجل فقط من المسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر»، وقال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
ثم توجه طارق بن زياد رحمه الله اتجاه الشمال حتى فتح مدينة أخرى تسمى مدينة جيان، وهي من المدن الحصينة جداً للنصارى في ذلك الزمن.
ويبدو أن موسى بن نصير رحمه الله كان قد أوصى طارق بن زياد ألا يتجاوز مدينة جيان وقرطبة، وأمره ألا يسرع في الفتح حتى يصل إلى طليطلة؛ وذلك حتى لا يحاصره جيش النصارى بعد أن يتقدم بجيشه القليل البسيط في العدة والعتاد والذي يبلغ (9000) رجل فقط، لكن طارق بن زياد وجد الطريق أمامه مفتوحاً إلى طليطلة العاصمة، وهي أحصن مدن النصارى على الإطلاق، وفيها من الضعف الشديد للنصارى، فلو هاجمها فقد تفتح، وإن امتنع عن فتحها كما هو رأي موسى بن نصير فقد لا يستطيع أن يفتحها مرة أخرى، فاجتهد طارق بن زياد رحمه الله فخالف رأي الأمير الأعلى موسى بن نصير، والأفضل في هذا الموقف أن يستشير طارق بن زياد مرة أخرى موسى بن نصير، ويرسل له رسالة يبين له فيها أنه يرى أن الطريق مفتوح، وأنه سوف يفتح طليطلة، فما رأيه وما رده على ذلك، لكن طارق بن زياد أسرع في اتجاه طليطلة دون استئذان من موسى بن نصير رحمه الله، فعلم موسى بن نصير بتقدم طارق بن زياد إلى طليطلة، ولكن لطول المسافات لم يستطع أن يلحق بـ طارق بن زياد إلا بعد أن وصل إلى طليطلة، فوجد طارق بن زياد طليطلة المدينة الحصينة جداً من أحسن وأحصن مدن الأندلس على الإطلاق، محاطة بجبال طبيعية.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(12) رسالة الوليد لموسى بن نصير بالعودة مع طارق بن زياد
رسالة الوليد بن عبد الملك لموسى بن نصير بالعودة مع طارق بن زياد إلى دمشق
كان موسى بن نصير رحمه الله يريد أن يفتح منطقة الصخرة، لكن وصلته رسالة من دمشق من الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين في ذلك الوقت، يطلب منه ومن طارق بن زياد أن يعودا إلى دمشق ولا يستكملا الفتح، فحزن موسى بن نصير حزناً شديداً لهذا الطلب؛ لأنه لم يكمل الفتح، وكان رأي الوليد بن عبد الملك أن المسلمين قد توغلوا كثيراً في بلاد الأندلس في وقت قليل، وخشي رحمه الله أن يلتف النصارى من جديد حول المسلمين، فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في تلك البلاد فهي قليلة، فلا يريد أن يتوغل المسلمون أكثر من ذلك.
وهناك أمر آخر وهو صحيح: وهو أن سبب إصرار الوليد بن عبد الملك على استجلاب موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، هو أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير رحمه الله يريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوروبا، حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب، فإن مدينة القسطنطينية كانت قد استعصت على المسلمين من الشرق، فإن جيوش الدولة الأموية لم تستطع أن تفتحها.
وفعلاً فإن موسى بن نصير هذا الرجل العجيب كان يفكر في أن يخوض كل بلاد أوروبا؛ فيفتح فرنسا ثم إيطاليا ثم يوغسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم تركيا حتى يصل إلى القسطنطينية، فيفتحها من الغرب، ويتوغل بكل هذا الجيش الإسلامي في هذا العمق العجيب في قارة أوروبا، منقطعاً عن كل مدد، وهذا أمر أرعب الوليد بن عبد الملك، فإن هذا الجيش لو احتاج إلى مدد، فإنه سيحتاج إلى شهور، بل وسنوات حتى يصله هذا المدد، لما يفصل بينها وبين المسلمين من مسافات ضخمة من بحار وجبال وأراض واسعة، وخشي الوليد بن عبد الملك على جيش المسلمين من الهلكة.
وقد كان موسى بن نصير يبلغ من العمر (75) سنة، فهو شيخ كبير، ومع ذلك كان يركب الخيول ويجاهد في سبيل الله، ويفتح المدينة تلو المدنية ويحاصر إشبيلية شهوراً، ثم يحاصر مردا شهوراً، ثم يفتح برشلونة وسرقسطة والشمال الشرقي، ثم يتجه إلى الشمال الغربي ويحاصر الصخرة، ثم يريد أن يفتحها ويتجه إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها، حتى يصل إلى القسطنطينية، فأي همة عند هذا الشيخ الكبير موسى بن نصير؟ أما في زماننا فإن من بلغ هذا السن فإنه يصبح مقعداً غير عامل في المجتمع، ويعتبر أن رسالته قد انتهت، فمن لتعليم الأجيال، ولتوريث الخبرات، ولتصحيح المفاهيم؟ إذاً: حزن موسى بن نصير حزناً شديداً على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه لأرض الجهاد، فقد كان متشوقاً جداً إلى الجهاد؛ ولأن الصخرة التي في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تفتح بعد؛ ولأنه لم يستكمل فتح القسطنطينية من قبل الغرب، ثم لم يجد إلا أن يسمع ويطيع للوليد بن عبد الملك رحمه الله، فقطع المسافات الطويلة في شهور حتى وصل إلى دمشق، وهناك وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت، وما هي إلا ثلاثة أيام ومات الوليد بن عبد الملك رحمه الله، وتولى الخلافة من بعده سليمان بن عبد الملك والذي كان على فكر أخيه؛ فقد رفض أن يعيد موسى بن نصير خشية أن يستكمل الفتوح داخل بلاد أوروبا ويصل إلى القسطنطينية في حركة عسكرية قد تؤدي إلى هلاك الجيش الإسلامي، فأبقاه عنده في دمشق، وأبقى طارق بن زياد كذلك.
وبعدها بعام ذهب سليمان بن عبد الملك إلى مكة للحج، فـ موسى بن نصير اشتاق للحج، لأنه منذ سنوات طويلة وهو في أرض الجهاد، يفتح البلاد ويعلم الناس الإسلام أكثر من عشر سنين، فتشوق للحج فرافق سليمان بن عبد الملك إلى الحج في عام (97) من الهجرة، وفي طريقه إلى هناك قال: اللهم إن كنت تريد لي الحياة، فأعدني إلى أرض الجهاد وأمتني على الشهادة، وإن كنت تريد لي غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحج ثم سافر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات فيها.
فهذا حال القلوب الموصولة برب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا من حسن الخواتيم، فقد وصل إلى هذه المرتبة العظيمة بحيث يدعو ربه سبحانه وتعالى فيستجيب لدعائه، فيموت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدفن هناك مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه همة عظيمة جداً، فهو نبراس لكل المسلمين.
الأمر اللافت للنظر في التاريخ أن طارق بن زياد رحمه الله انقطعت أخباره بالكلية عند هذه المرحلة، فقد عاد إلى دمشق مع موسى بن نصير، لكن لا أحد يدري هل عاد مرة أخرى إلى بلاد الأندلس، أم أنه بقي في بلاد دمشق؟ وإن كان هناك بعض الروايات التي لا يثق المؤرخون من صحتها أنه قد مات في عام 102 من الهجرة، يعني بعد هذا الرجوع بحوالي بخمس أو ست سنوات.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(13) عهد الولاة في بلاد الأندلس
نستطيع أن نقسم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة والحكم إلى فترتين رئيسيتين: الفترة الأولى: هي فترة جهاد وفتوح وفترة عظمة للإسلام والمسلمين، وهذه تمتد من سنة (96) هجرية إلى سنة (123) من الهجرة، أي: أنها استمرت (27) سنة.
الفترة الثانية: هي فترة ضعف ومؤامرات ومكائد وما إلى ذلك، فتستمر من سنة (123) من الهجرة إلى سنة (138) من الهجرة، يعني: (15) سنة.
بعد فترة عهد الفتح بدأ عهد جديد يسمى: عهد الولاة، بدأ بعد رجوع موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، أي: من سنة (96) من الهجرة ويستمر حتى سنة (138) من الهجرة، أي: حوالي (42) سنة، وعهد الولاة هو أن يتولى حكم الأندلس في هذه الفترة وال يتبع الحاكم العام للمسلمين وهو الخليفة الأموي الموجود في بلاد الشام في دمشق، ويعتبر سليمان بن عبد الملك في أول عهد الولاة، ثم توالى من بعده الحكام من بني أمية؛ عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك وهكذا إلى آخر الدولة الأموية.
وكان أول الولاة على منطقة الأندلس هو عبد العزيز بن موسى بن نصير بأمر من سليمان بن عبد الملك رحمه الله، وهذا الرجل كان كأبيه في جهاده وتقواه وورعه كما يقول عنه أبوه موسى بن نصير: لقد عرفته صواماً قواماً، وكان مجاهداً في سبيل الله، ووطد الأركان بشدة في منطقة الأندلس، وتوالى من بعده الولاة.
تولى من الولاة على منطقة الأندلس خلال (42) سنة حوالي (22) أو (20) والياً، يعني: أن كل وال لا يحكم إلا سنتين أو ثلاثاً، فلماذا هذا التغيير المفاجئ للولاة والتغيير الكثير في الولاة؟ مما لا شك فيه أن هذا التغيير الكثير بسبب استشهاد كثير من الولاة في معاركهم في بلاد فرنسا، وأما في الفترة الثانية من عهد الولاة، فكان الولاة يغيرون بالمكائد والانقلابات والمؤامرات وما إلى ذلك، فالفترة الأولى تختلف بالكلية عن الفترة الثانية.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(14) مميزات الفترة الأولى وأبرز سماتها
تميزت الفترة الأولى من فترة الولاة ببعض الصفات:
أولاً: نشر الإسلام في بلاد الأندلس، بعد أن تمكن المسلمون من توطيد أركان الدولة في بلاد الأندلس، بدأ المسلمون يعلمون الناس الإسلام، والفطرة السوية تختار هذا الدين بلا تردد، فقد وجد الأستان في هذا الدين ديناً متكاملاً شاملاً ينظم كل أمور الحياة؛ وعقيدة واضحة، وعبادات منتظمة، وتشريعات في السياسة وفي الحكم وفي التجارة وفي الزراعة وفي المعاملات، وتواضعاً للقادة، وتفاصيل عن كيفية التعامل مع الوالدين والأقارب والأولاد والجيران والأصدقاء، ومن عرفت ومن لا تعرف، وكذا مع الأعداء والأسرى،
فهذه تفاصيل عجيبة جداً ما تعودوا عليها من قبل، هم تعودوا فصلاً كاملاً بين الدين والدولة؛ فالدين عندهم عبارة عن بعض المفاهيم اللاهوتية غير المفهومة، فيأخذونها ولا يستطيعون أبداً تطبيقها، أما التشريعات والحكم فيشرعها لهم من يحكمهم من الناس، أما الإسلام فقد وجدوا فيه أمراً عجيباً لم يستطيعوا أبداً أن يتخلفوا عن الارتباط بهذا الدين، فدخلوا في الإسلام أفواجاً، وفي فترات قليلة جداً من فتح الأندلس أصبح عموم أهل الأندلس من المسلمين، حتى إن غالبية المسلمين في بلاد الأندلس من أهل الأندلس الأصليين، وأصبح العرب والبربر قلة في هذه البلاد، لكن هذا أبداً ما غير الحكم في بلاد الأندلس، بل أصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين، وهم الذين اتجهوا إلى فتوحات بلاد فرنسا بعد ذلك، وبدأ المسلمون يتزوجون من الأندلسيات، فتكون جيل جديد؛ الأب من العرب أو البربر والأم من الأندلسيات، ونشأ جيل عرف في التاريخ باسم جيل المولدين، الأب عربي أو بربري والأم أندلسية.
ثانياً: بدأ المسلمون في الأندلس يلغون الطبقية، فقد جاء الإسلام وساوى بين الناس، حتى إن الحاكم والمحكوم كانا سواء بسواء أمام القضاة للتحاكم في المظالم، وقد أتاح المسلمون في هذه الفترة الحرية العقائدية للنصارى وتركوا كنائسهم، وإذا وافق النصارى على بيع كنيسة من الكنائس اشتراها المسلمون ولو بأثمان باهظة ثم يحولونها إلى مسجد، أما إن رفضوا أن يبيعوا كنائسهم تركوها لهم وما هدموها أبداً، فانظر إلى هذا الأمر من أجل أن تقارن بين ما سيفعله النصارى في آخر عهد المسلمين في بلاد الأندلس، فيما عرف بمحاكم التفتيش بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس.
ثالثاً: اهتم المسلمون أيضاً في هذه الفترة الأولى بتأسيس الحضارة المادية، وبتأسيس الإدارة والعمران، وبنشر الكباري والقناطر، وأنشئوا قنطرة عجيبة جداً تسمى قنطرة قرطبة، وهي من أعجب القناطر الموجودة في أوروبا في ذلك الزمن، وأنشئوا مصانع كبيرة للأسلحة، ومصانع لصناعة السفن، وبدأت القوى الإسلامية تقوى في هذه المنطقة.
رابعاً: من السمات المهمة جداً في عهد الولاة: أن الأسبان بدءوا يقلدون المسلمين في كل شيء، حتى أصبحوا يتعلمون اللغة العربية، وكذا الأسبان النصارى واليهود الذين كانوا يعيشون في هذه الفترة بدءوا يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم، وهذا لأن الأمم المهزومة تقلد الأمم المنتصرة، أما الآن فنحن نتلقى في بعض المدارس تعلم اللغة الإنجليزية، بل إن بعض المدارس الإسلامية بدأت تقيم مدارس لتعليم الأولاد اللغات في داخل البلاد الإسلامية، وتعلم الناس كل المناهج باللغة الإنجليزية؛ وهذه فتنة الحضارة الغربية والتقدم الغربي الآن، فيتركون اللغة التي شرفها الله سبحانه وتعالى بأن جعلها لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة.
أما الأسبان فهم معذورون في تعلم اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن، ووجدوا أمة غالبة ومتحضرة تتكلم بهذه اللغة، أما نحن فلا عذر لنا وقد تعلمنا اللغة التي شرفها الله سبحانه وتعالى بالقرآن الكريم.
خامساً: من سمات هذه الفترة: أنهم اتخذوا قرطبة عاصمة لهم، بدلاً من طليطلة عاصمة بلاد الأندلس سابقاً؛ لأن منطقة طليطلة كانت في الشمال وهي قريبة من بلاد فرنسا ومن منطقة الصخرة، فكانت غير آمنة أن تكون هي العاصمة، فاختار المسلمون مدينة قرطبة؛ لأنها في الجنوب؛ ولأنها قريبة من المدد في بلاد المغرب.
ومن الأشياء الهامة جداً في هذه الفترة والمميزة لهذه الفترة الأولى في عهد الولاة هو الجهاد في فرنسا، فقد كان له خطوات كبيرة في تاريخ المسلمين في الفترة الأولى من عهد الولاة.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(15) ذكر ولاة الفترة الأولى وجهادهم
نذكر في هذه الفترة بعض الولاة الذين كان لهم السبق في موضوع الجهاد في بلاد فرنسا، وعلى سبيل المثال: السمح بن مالك الخولاني رحمه الله، كان والياً في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، الذي حكم المسلمين من سنة (99هـ - 101هـ) أي: سنتين وستة أشهر على الأكثر، وفي هذه الفترة القليلة عم الرخاء والأمن والعدل في بلاد المسلمين، وكانت اختيارات عمر بن عبد العزيز موفقة رحمه الله؛ فاختار السمح بن مالك الخولاني القائد الرباني المشهور في التاريخ الإسلامي، وهو الذي انطلق إلى بلاد فرنسا، والتي كان فيها مدينة واحدة إسلامية وهي مدينة أرجونة التي فتحها موسى بن نصير بسرية من السرايا، ففتح السمح بن مالك الخولاني كل منطقة الجنوب الغربي لفرنسا، وأسس مقاطعة: ضخمة جداً اسمها مقاطعة سبتمانيا، وتعرف هذه المقاطعة الآن بساحل الريفيرا الموجود في فرنسا، وكثير من المسلمين الآن يذهبون إلى منطقة الريفيرا للتنزه وللجلوس على شواطئ هذه المناطق، التي تعتبر من أشهر المنتجعات السياحية في العالم، لكن انظر ماذا فعل المسلمون في السابق؟ فقد دخلوا هذه البلاد فاتحين، وحكموا منطقة الريفيرا بشرع الله سبحانه وتعالى، ودامت لهم السيطرة عليها سنوات عديدة.
واستكمل السمح الفتوح، وأرسل من يعلم الناس الإسلام سواء في فرنسا أو في منطقة الأندلس، ثم لقي ربه شهيداً رحمه الله، وكان استشهاده في يوم عرفة سنة (102) هجرية.
وتولى من بعده بعض الولاة، ومنهم عنبسة بن سحيم رحمه الله، وكثير من الناس لا يسمعون عن هذا الرجل القائد التقي الورع الإداري العسكري المسلم المشهور في التاريخ الإسلامي، كان مجاهداً حق الجهاد، حكم المسلمين في بلاد الأندلس من سنة (103) إلى سنة (107) هجرية، ووصل في جهاده إلى ، والتي تبعد (30) كيلو متر من باريس في أقصى شمال فرنسا، ومعنى ذلك أن عنبسة بن سحيم رحمه الله قد فتح (70%) من أراضي فرنسا، ومن قبله السمح بن مالك الخولاني رحمه الله، ثم استشهد عنبسة بن سحيم وهو في طريق عودته.
ثم بدأت الأمور تتغير في بلاد الأندلس، فقد تولى من بعد عنبسة بن سحيم مجموعة من الولاة، كان آخرهم الهيثم الكلابي، كان متعصباً لقومه ولقبيلته، فبدأت تحدث خلافات بين المسلمين العرب والمسلمين البربر بحسب العرق والعنصر، وهذا أمر لم يحدث في تلك المناطق من قبل، فدارت مشاحنات، ومعارك بين العرب والبربر في هذه المنطقة.
ثم من الله على المسلمين بـ عبد الرحمن الغافقي رحمه الله، الذي ألغى العصبيات، وأعاد الدين من جديد، ووحد الصفوف، وبدأ يبث في الناس روح الإسلام الأولى التي جمعت بين البربر والعرب، والتي لم تفرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(16) معركة بلاط الشهداء وأسباب هزيمة المسلمين فيها
بعد أن وحد عبد الرحمن الغافقي الناس وظن أن القوة قد اكتملت أخذ هؤلاء الناس وانطلق بهم ناحية فرنسا ليستكمل الفتوح من جديد، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون، فقد فتح أقصى غرب فرنسا، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة؛ وفتح مدينة آرل، ثم مدينة بوردو، والتي تسمى الآن بهذا الاسم، ثم مدينة طلوشة، ثم مدينة تور، ثم وصل إلى بواتييه غرب باريس، والتي تبعد عنها حوالي مائة كيلو متر، وتبعد من قرطبة حوالي (1000) كيلو متر، فقد توغل جداً في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال الغربي، وهناك في مدينة بواتييه عسكر عند منطقة تسمى البلاط، والبلاط في اللغة الأندلسية تعني القصر، فإن هذه المنطقة كان فيها قصر قديم مهجور، وبدأ ينظم جيشه ليلاقي جيش النصارى، وكانت حملة عبد الرحمن الغافقي أكبر حملة تدخل بلاد فرنسا، فقد وصلت إلى خمسين ألف مقاتل، ما وصل إليها المسلمون قبل ذلك الوقت.
والمشكلة الخطيرة في جيش عبد الرحمن الغافقي هي تعلق قلوبهم بالغنائم الكثيرة التي غنموها، وافتتانهم بتلك الأموال الضخمة التي حصلوها من بلاد فرنسا، واشتهرت بين الناس فكرة العودة إلى أرض الأندلس لوضع هذه الغنائم هناك حتى لا يأخذها الفرنسيون، لكن عبد الرحمن الغافقي رحمه الله جمع الناس وقال لهم: ما جئنا لأجل هذه الغنائم، ما جئنا إلا لتعليم هؤلاء الناس هذا الدين، ولتعبيد العباد لرب العباد سبحانه وتعالى، وأخذ يحفز الجيش ويحضهم على الجهاد في سبيل الله، وعلى الموت في سبيله سبحانه وتعالى، وأخذ الجيش وانطلق إلى بواتييه رغماً عن أنف الجنود، وعندما وصل إلى منطقة بواتييه ظهرت أمور جديدة في الجيش وهي العصبيات التي كانت في بلاد الأندلس بين العرب والبربر، فقد تجددت من جديد، بسبب الغنائم الكثيرة التي لم توزع.
فبدأ الناس يختلفون، وكل واحد ينظر إلى ما في يد أخيه، وكل واحد يريد الشيء الأكثر، وكل واحد يرى نفسه أو نسبه أفضل من الآخر، فالعربي يقول: أنا عربي وأنت بربري والعربي أفضل، والبربر قالوا: نحن الذين فتحنا البلاد، ونسي الناس أن الفاتحين السابقين ما فرقوا أبداً عند الفتح وعند الدعوة إلى الله سبحانه في تلك البلاد بين عربي وبربري، وبين هؤلاء الفاتحين وبين الأندلسيين الذين دخلوا في الإسلام بعد ذلك، فلم يفرقوا إلا بحساب التقوى.
فبدأت هذه المشاكل تظهر في الجيش، فاجتمعت العصيبة، واجتمع حب الغنائم والخوف عليها، كما اجتمع إلى جوار ذلك الاعتداد بالعدد الضخم؛ الذي لم يسبق في تاريخ الأندلس، فأخذتهم العزة بهذا العدد، وظنوا أنهم لن يغلبوا.
ومن جديد تعود موقعة حنين الجديدة، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، وللأسف الشديد مع وجود هذا القائد الرباني المجاهد التقي الورع، إلا أن عوامل الهزيمة الكثيرة كانت موجودة في داخل جيش المسلمين، من حب الغنائم، والعصيبة القبلية العنصرية، والاعتداد بالأرقام والأعداد والعدة والعتاد، والمسلمون ما انتصروا أبداً بعدتهم ولا عتادهم، وإنما بطاعتهم لله ومعصية عدوهم لله سبحانه وتعالى.
أما جيش النصارى فقد أتى من باريس بقيادة شارل مارتل، ويلقب عند العرب بقارلة، وينطقونه تشار قارلة، وكلمة مارتل لقب وتعني المطرقة، وقد سماه بها بابا إيطاليا؛ لأنه كان شديداً على أعدائه، وكان من أقوى حكام فرنسا على الإطلاق، وأتى شارل مارتل بأربعمائة ألف مقاتل من النصارى، أي: ثمانية أضعاف الجيش المسلم، والمسلمون أبداً ما كانت تهزهم هذه الأرقام، لكن جيش المسلمين فيه عوامل الضعف.
والتقى الجيشان في موقعة من أشرس المواقع الإسلامية على الإطلاق في منطقة بواتييه؛ دارت الموقعة بينهما عشرة أيام كاملة، وكانت في رمضان سنة (114) هجرية، وكانت في بداية الموقعة الغلبة للمسلمين على قلة عددهم، لكن النصارى في آخر الموقعة فطنوا إلى كمية الغنائم الضخمة المحملة خلف الجيش الإسلامي، فالتفوا حول الجيش وهاجموا الغنائم، وبدءوا يسلبون غنائم المسلمين، فارتبك المسلمون وأسرعوا ليحموا الغنائم الكثيرة؛ لأن حب الغنائم دخل في قلوبهم.
فحدث ارتباك شديد في صف المسلمين، وبدأت تحدث هزة أدت إلى هزيمة للجيش الإسلامي في هذه الموقعة العجيبة موقعة بواتييه أو موقعة بلاط الشهداء، وسميت بذلك لكثرة شهداء المسلمين في موقعة بواتييه بالقرب من البلاط وهو القصر، ولم يرد في الروايات الإسلامية حصر دقيق لشهداء المسلمين في موقعة بلاط الشهداء، لكن الروايات الأوروبية تبالغ كثيراً حتى تقول: أنه قتل من المسلمين في موقعة بلاط الشهداء ثلاثمائة وخمسة وسبعون ألف مسلم، وهذا مبالغ فيه جداً؛ لأن جيش المسلمين كان خمسين ألفاً.
يقول النصارى في رواياتهم: أنه لو هزم الفرنسيون في موقعة بواتييه لفتحت أوروبا جميعاً، ولدرس القرآن في جامعات
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :(17) فترات حكم الإسلام في الأندلس منذ 92هـ - 138هـ
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ذكرنا أن فترة الأندلس تقسم إلى عهود بحسب طريقة الحكم والإدارة.
فالعهد الأول: وهو عهد الفتح، واستمر ثلاث سنوات وبضعة شهور، فقد بدأ من سنة (92هـ) وانتهى في أواخر (95هـ).
العهد الثاني: عهد الولاة، وهو أن الحاكم على بلاد الأندلس يعتبر والياً يتبع الخلافة الأموية للمسلمين، والتي كان مقرها في دمشق، واستمر هذا العهد من أواخر سنة (95هـ) وأوائل (96هـ) إلى سنة (138هـ)، بمعنى أنه استمر مدة 42 سنة متصلة، وهذا العهد قسمناه إلى فترتين رئيسيتين: الفترة الأولى: فترة قوة وجهاد ونشر للدعوة وتعليم للإسلام، وهذه الفترة استمرت من 96هـ إلى سنة 123هـ، أي: حوالي 27 سنة متصلة.
الفترة الثانية: فترة ضعف وانحطاط للمستوى الإيماني، والمستوى الحضاري في بلاد الأندلس، واستمرت هذه الفترة من سنة (123هـ) إلى سنة (138هـ) أي أنها استمرت (15) سنة متتالية.
وفي الدرس السابق تحدثنا عن الفترة الأولى منذ (96هـ) إلى سنة (114هـ)، وانتهى الحديث عند موقعة بلاط الشهداء والتي كانت في منطقة تسمى بواتييه في فرنسا، ومني المسلمون فيها بهزيمة، وتوقفت الفتوح في تلك المنطقة وانسحب الجيش الإسلامي، واستشهد فيها عبد الرحمن الغافقي رحمه الله تعالى.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(18) عدم وجود ثورات في الأندلس
سبب عدم وجود ثورات في الأندلس ضد المسلمين الفاتحين
لماذا لم يثر أهل الأندلس على المسلمين الفاتحين في فترة عهد الفتح وأوائل عهد الولاة، مع أن الجيش الإسلامي الموجود في بلاد الأندلس كان (12) ألف مقاتل بقيادة طارق بن زياد رحمه الله، واستشهد منه ثلاثة آلاف مقاتل في موقعة وادي برباط، ثم استشهد ثلاثة آلاف آخرون في الطريق من وادي برباط إلى طليطلة، فوصل طارق بن زياد إلى طليطلة بستة آلاف فقط من الرجال.
ثم عبر موسى بن نصير بثمانية عشر ألفاً من الرجال، وأصبح قوام الجيش الإسلامي كله في بلاد الأندلس (24) ألف مقاتل موزعين على كل مناطق الأندلس، والأندلس بلاد واسعة جداً، وتضم الآن أسبانيا والبرتغال، بل وفتح المسلمون بعض المناطق في جنوب فرنسا، فكان في كل مدينة من المدن حامية صغيرة جداً؟ فلماذا لم يثر أهل البلاد على المسلمين والطاقة الإسلامية في هذه البلاد قليلة، والجيش لا يقارن بعدد سكان المنطقة؟
الجواب
من العجب أن يثور أهل الأندلس، وليس من العجب ألا يثوروا.
كان أهل الأندلس قبل دخول الإسلام يعيشون في ذل عميق، وفي ضنك شديد، تنهب أموالهم فلا يتكلمون، وتنتهك أعراضهم فلا يعترضون، يتنعم حكامهم بالقصور والثروات، وهم لا يجدون ما يسد الرمق، يباعون ويشترون مع الأرض التي زرعوها بكدهم، وأكل غيرهم ثمارها.
أيثور شعب الأندلس من أجل هذا الذي أذاقه العذاب ألواناً؟ أيثور من أجل ظهور لذريق جديد أو غيطشة جديد أو ألفونسو جديد؟
إذا كان من فطرة الناس الطبيعية أنهم يحبون أوطانهم؛ لما فيها من ذكريات جميلة منذ الطفولة حتى الممات، لكن في بلاد الأندلس كانت الذكريات مليئة بالجوع والعطش والسياط والتعذيب والظلم والفساد والرشوة والجبروت والكبر والسرقة والنهب وما إلى ذلك من الأمور التي تكره الناس في حياتهم وأوطانهم.
ثم إن البديل المطروح البديل هو الإسلام الذي دخل على أيدي هؤلاء الفاتحين، عندما تجد رجلاً يقول لك: تعال أعطك بدلاً من الظلم عدلاً ليس هبة مني، ولكنه حق مكتسب لك ولقومك ولأهلك ولأولادك ولذريتك من بعدك، لا فرق فيه بين حاكم ومحكوم إن حدثت لك أو عليك مظلمة، والقاضي لا يفرق بين مسلم ويهودي ونصراني في الحكم، فالدين لا يرفع من قيمة الأشخاص بقدر أموالهم، ولكن يرفع بقدر أعمالهم، والأعمال مفتوحة للجميع، للغني والفقير والحاكم والمحكوم، والحاكم في الإسلام لا يفرض الضرائب على الناس وإنما الزكاة إن كانوا من المسلمين، ومقدارها ربع العشر، أي: (2.5%) في العام إن حال الحول على المال، ووجد نصاب الزكاة، والفقير المعدم لا يدفع شيئاً، بل يأخذ من بيت مال المسلمين، كيف يكون شعورك وأنت فقير معدم تدفع عشرين أو ثلاثين أو أربعين في المائة من مالك لحاكمك أو السلطان المتولي عليك، ثم تجد من يقول لك: ليس عليك أن تدفع من مالك للحاكم، بل هو لك ولأهلك ولعشيرتك إلى أن تغتني، ويكتمل الحول على مالك وكنت غنياً فتدفع الزكاة، أما إن كنت غير ذلك فستأخذ المال من بيت مال المسلمين.
فالإسلام كان خلاصاً للشعوب، والناس في بلاد الأندلس لما رأوا هذا الإسلام تمسكوا به واعتنقوه اعتناقاً، ولم يرضوا عنه بديلاً، فكيف يحارب هؤلاء الناس من أجل من أذاقهم هذا العذاب السابق، ويضحون بهذا النعيم المقيم في الدنيا وفي الآخرة؟
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الأندلس من الفتح إلى السقوط :
(19) سبب خوف الكفار أصحاب المصالح في الأندلس
هل من المعقول أن أهل الأندلس جميعاً قد أعجبوا بهذا الدين ودخلوا في الإسلام راغبين، ولم يوجد فيهم رجل واحد يثور ويعترض ويحب ما كان له من السلطان والمصلحة؟
الجواب
نعم، كان هناك كثير من الرجال أصحاب المصالح، الذين كان لهم كثير من الأعوان، يريدون أن يثوروا على حكم الإسلام، ويحققوا المصالح السابقة التي كانت لهم، وإنما لم يثر هؤلاء القوم؛ لأن رب العالمين سبحانه وتعالى يقول: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13]، فالمجاهد المؤمن في الفتوحات الإسلامية كانت له رهبة في قلوب النصارى واليهود والمشركين بصفة عامة، والمؤمن يلقي الله عليه جلالاً، فيخافه القريب والبعيد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر».
ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: «فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» [الحشر:2]، هذا الرعب لم يكن متولداً عن بشاعة الحرب، ولا عن إجرام منقطع النظير، ولكن هو هبة ربانية لجنده ولأوليائه ولحزبه سبحانه وتعالى، بل على العكس من ذلك تماماً، كانت حرب الإسلام رحمة للناس، ففي صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يودع الجيوش كان يقول: ( «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا» -أي: تأخذوا من الغنيمة قبل قسمتها- ولا تغدروا -أي: في عهد مع المشركين- «ولا تمثلوا» -أي: ولا تمثلوا بجثة بعد أن تقتل- «ولا تقتلوا وليداً» وفي رواية: «ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة».
أين هذا من حروب غير المسلمين مع المسلمين؟ أين هذا من قتل مائتي ألف رجل من المدنيين في البوسنة والهرسك وفي كوسوفو؟ أين هذا من فعل الروس في الشيشان، والهنود في كشمير، واليهود في فلسطين؟! إذاً: كانت حروب المسلمين رحمة للناس، ولكن الله سبحانه وتعالى ألقى على أعدائهم رهبة ورعباً من المسلمين، لا لبشاعة في الحرب، ولكن لجلال ألقي على المسلمين، لذلك اعتنق الناس الإسلام اعتناقاً، حتى من لم يدخل في دين الإسلام من اليهود والنصارى، فقد سعدوا في ظل الإسلام سعادة وأي سعادة، قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، فقد تركت لهم كنائسهم، وكان لهم قضاء خاص بهم، ولم يفرق بين مسلم ونصراني أو يهودي في مظلمة.
والعجب كل العجب أن يرفض هؤلاء الناس الإسلام وحكم الإسلام، وقد جاء من عند حكيم خبير، فهو سبحانه وتعالى يعلم ما يصلح عبيده وكونه وأرضه.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(20) دخول العنصرية القبلية والغنائم في موقعة بلاط الشهداء
وجه تعلق الجيش الإسلامي في موقعة بلاط الشهداء بالغنائم ودخول العنصرية القبلية فيه:
كيف تعلق الجيش الإسلامي في موقعة بلاط الشهداء بالغنائم، وتحدث مشاكل عنصرية وقبلية فيه، مع أنهم من التابعين أو تابعي التابعين، وهم قريبو عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين؟
الجواب:
قد حدث ذلك في غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة، وبلاط الشهداء كأنها أحد أخرى، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}[آل عمران:152]، هذه الآية نزلت في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقعة أحد، ألم يترك الرماة مواقعهم في موقعة أحد طلباً للغنيمة بعد أن أيقنوا بالنصر، ونزلوا وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً للغنيمة؟ قال عنهم ربهم سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، حتى إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كان يقول: ما كنت أحسب أن منا من يريد الدنيا حتى نزلت الآية: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ} [آل عمران:152].
فهزم المسلمون بعد النصر، وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء، فقد دخل المسلمون في أول يومين أو ثلاثة أيام من أيام المعركة وكان النصر حليفاً للمسلمين، ثم انقلبت المعركة لما التف النصارى حول غنائم المسلمين وأخذوها، فحدثت الانكسارة لجيش المسلمين ثم هزموا.
{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران:152]، يقول ابن كثير على هذه الآية: أي: لم يستأصلكم في هذه الموقعة، بل أعطاكم الفرصة للقيام من جديد، وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء لم يستأصل الجيش الإسلامي، ولكنه عاد وانسحب ليقوم من جديد، فبلاط الشهداء كأنها أحد بل أكثر من ذلك، ففي غزوة بدر بعد أن انتصر المسلمون على الكفار اختلفوا على الغنائم، وهم الرعيل الأول والجيل المصاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سورة الأنفال بعد هذا النصر المجيد جاء تعظيم أمر الاختلاف على الغنائم، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]، وهذا كلام شديد جداً على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هكذا أمر النفس البشرية.
إذاً: هذه عيوب موجودة في الناس.
والدرس والعبرة من بلاط الشهداء ومن أحد وبدر تدارك الأمر بسرعة بعد المعركة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تدارك الأمر بسرعة بعد غزوة أحد، وحمس المسلمين وذكرهم بالآخرة حتى واصلوا المسير خلف الكفار إلى حمراء الأسد، وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء قام رجل من جديد يحمس المسلمين هو عقبة بن الحجاج رحمه الله، لكن هذا لم يكن في أرض بواتييه، إنما كان بعد العودة إلى أرض الأندلس، لذلك لم تحدث موقعة مثل موقعة حمراء الأسد مباشرة بعد بلاط الشهداء، والسبب في اختلاف موقعة بلاط الشهداء عن غزوة أحد أن غالب جيش المسلمين في بلاط الشهداء كانت الدنيا والغنائم في قلوبهم، ولذلك لم يعودوا مباشرة كما عادوا في أحد، أما في أحد فقد قال عنهم ربهم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، ولما أشيع في غزوة أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، حدث الفرار والهزيمة والانكسار الكبير، وكذلك لما قتل عبد الرحمن الغافقي رحمه الله انسحب المسلمون من غزوة بلاط الشهداء.
لذلك الشبه كبير جداً، والتكرار في التاريخ أمر طبيعي جداً، والهزائم شديدة الشبه، وعلى المسلمين أن يتعظوا ويعتبروا.
أما ظهور العنصرية والقومية في ذلك الجيش، وفي ذلك الوقت المتقدم من الزمان، فإن العنصرية والقبلية قد ظهرت أيضاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلكم تذكرون الحادثة المشهورة بين أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه وبين بلال لما قال أبو ذر لـ بلال: يا ابن السوداء! فسبه بشيء في شكله ولونه، وغضب بلال رضي الله عنه وأرضاه، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وقال لـ أبي ذر: «يا أبا ذر! طف الصاع إنك امرؤ فيك جاهلية، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى»، هكذا صلى الله عليه وسلم أخذ يذكره بالتقوى، فاستجاب أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه لذلك، فوضع رأسه على التراب، وأصر على بلال رضي الله عنه وأرضاه أن يطأ وجهه بقدمه حتى يكفر عن خطاياه، لكن لم يفعل
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(21) حال المسلمين في الأندلس في آخر الفترة الأولى من عهد الولاة
بعد موقعة بلاط الشهداء وانسحاب الجيش الإسلامي وعودته إلى الأندلس، قامت للمسلمين قائمة جديدة، فقد قام فيهم عقبة بن الحجاج السلولي رحمه الله، وتولى الولاية من سنة (116هـ) إلى سنة (123هـ)، وكان عقبة بن الحجاج السلولي رحمه الله آخر المجاهدين بحق في فترة عهد الولاة الأول.
ولقد خير بين إمارة الشمال الإفريقي كله وبين إمارة الأندلس، فاختار إمارة الأندلس؛ لأنها الملاصقة لبلاد النصارى، فهي أرض جهاد، فاختار أرض الأندلس، وقاد المعارك في بلاد فرنسا في خلال سبع سنوات أكثر من سبع حملات، ثم كان ينزل إلى الأسرى بنفسه ويعلمهم الإسلام، حتى إنه أسلم على يديه ألفان من الأسرى بصورة مباشرة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم»، فكيف بألفين من الرجال الذين أسلموا على يد هذا المجاهد عقبة بن الحجاج السلولي رحمه الله؟!
ثم استشهد في سنة (123هـ)، وباستشهاده انتهت الفترة الأولى من عهد الولاة.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(22) حال المسلمين في الأندلس في الفترة الثانية من عهد الولاة
في الفترة الثانية من عهد الولاة من سنة (123هـ - 138هـ) يبدأ عهد جديد، وبذور هذه الفترة بدأت في موقعة بلاط الشهداء من حب للغنائم، ومن تفضيل للعنصرية والقبلية.
وفي أول هذا العهد كانت الأموال كثيرة جداً، والغنائم ضخمة جداً، فقد فتحت الدنيا وكثرت الأموال، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: «إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها»، فحين فتحت زهرة الدنيا على المسلمين وانخرطوا فيها تأثر الإيمان، وتبعاً لتأثر الإيمان ظهرت العنصرية بصورة كبيرة جداً، وحدثت انقسامات كثيرة في الأندلس، فحدثت انقسامات بين العرب والبربر، وهذه البذور كانت موجودة منذ بلاط الشهداء، ثم حدثت انقسامات بين العرب أنفسهم، فحدثت انقسامات بين المضريين والحجازيين، وحدثت انقسامات بين العدنانيين والقحطانيين، فالعدنانيون هم أهل الحجاز، والقحطانيون هم أهل اليمن، فكانت هناك حروب وخلافات وشقاقات كثيرة بين أهل اليمن وبين أهل الحجاز، ثم حدثت انقسامات أخرى بين أهل الحجاز أنفسهم، أي: بين الفهريين والأمويين، وبين بني قيس وبني ساعدة، وهكذا انقسم أهل الحجاز أنفسهم بعضهم على بعض، وكخطوة لاحقة لأمر حب الدنيا وظهور العصبية ظهر أمر جديد وهو تولي ولاة ظلموا الناس، وألهبوا ظهورهم بالسياط.
فهذه تداعيات يوصل بعضها إلى بعض، فظهر على سبيل المثال رجل اسمه عبد الملك بن قطن، ملأ الأرض ظلماً وجوراً، فقسم الناس بحسب العنصرية والقبلية، وأذاق الآخرين ألواناً من العذاب، ولم يعط من الغنائم للبربر، ولم يعط لغير المضريين، فانقسم الناس عليه وانقلبوا، وظهر يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وتولى الحكم من سنة (130 هـ - 138هـ) يعني: آخر ثمان سنوات في عهد الولاة، فانفصل بالكلية عن الخلافة الأموية، وادعى أن الإمارة في الأندلس إمارة مستقلة، وأذاق الناس العذاب ألواناً، فحدثت انكسارات كثيرة جداً، وثورات عديدة في أرض الأندلس، وتفككت إلى أكثر من عشرين أو ثلاثين ثورة في داخل بلاد الأندلس.
وسبحان الله! فقد كنت منذ قليل أتحدث عن الانتصارات الإسلامية والتاريخ المجيد، وفتح الأندلس وفرنسا، ثم ها هي العنصرية وها هو ظلم الولاة يسلم الناس إلى هذه الثورات، وكرد فعل طبيعي جداً ترك الناس الجهاد، وتوقفت الفتوحات في فرنسا، وتوقفت الحروب ضد النصارى في الشمال الغربي في منطقة الصخرة، والتي كان فيها مجموعة من النصارى متمركزين منذ الفتح الأول لبلاد الأندلس، وهذه قاعدة وسنة من سنن الله سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا».
وجاء في حديث أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».
وهكذا لما ترك المسلمون الجهاد سلط الله عليهم ذلاً، فانقسموا على أنفسهم وانشغلوا بأنفسهم، وتركوا الجهاد في فرنسا، والأندلس.
وباختصار شديد فإن خلاصة النصف الثاني من عهد الولاة، ونظراً لتفاعل أمور الدنيا والقبلية وظلم الولاة وترك الجهاد كان الوضع في سنة (138هـ) كما يلي: أولاً: فقدان كل الأراضي الإسلامية في فرنسا باستثناء مقاطعة سبتمانيا، والتي فتحت بسرية من سرايا موسى بن نصير أول الفتح.
ثانياً: ظهور مملكة نصرانية اسمها مملكة ليون في المنطقة الشمالية الغربية عند منطقة الصخرة.
ثالثاً: ظهور يوسف بن عبد الله الفهري الذي أعلن انفصال الأندلس عن الخلافة العباسية القائمة في ذلك الوقت.
رابعاً: انقسام الأندلس إلى فرق عديدة متناحرة وثورات لا نهائية، كل يريد التملك والتقسيم بحسب العنصر والقبيلة.
خامساً: ظهور فكر الخوارج عن طريق الذين جاءوا من الشام، وانضم إليهم البربر، فالبربر كانوا يعانون من الظلم الشديد من يوسف بن عبد الرحمن الفهري؛ بسبب العنصرية بين العرب والبربر، فاضطروا إلى اتباع هذا الفكر الخارج عن المنهج الإسلامي الصحيح، فأجمع المؤرخون نتيجة هذه العوامل جميعاً أن الإسلام بالفعل كاد أن ينتهي من الأندلس، وذلك في عام (138هـ).
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(23) قصة دخول عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس
مما زاد من خطورة الموقف الحدث الجسيم الذي حدث في الأمة الإسلامية في سنة (132هـ) وهو سقوط الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية، وكان قيام الخلافة العباسية قياماً دموياً رهيباً، وانشغل العباسيون بحرب الأمويين، وضاعت قضية الأندلس تماماً من الأذهان، وهكذا أصبح أمر الأندلس يحتاج إلى معجزة حتى ينصلح الحال، ومن فضل الله ومنّه وجوده وكرمه على المسلمين أن حدثت المعجزة بالفعل في ذي الحجة من سنة (138هـ)، والتي منّ الله بها على المسلمين، وهي دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك رحمه الله إلى أرض الأندلس.
لقد دخل إلى أرض الأندلس حين سقوط خلافة بني أمية سنة (132هـ) كما ذكرنا، فقد حدث في ذلك العام قتل لكل مرشحي الخلافة من الأمراء وأبنائهم وأحفادهم من قبل العباسيين إلا قليلاً، ومن هؤلاء القليل عبد الرحمن بن معاوية حفيد هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المشهور، الذي حكم من سنة (105هـ - 125هـ)، كان عمر عبد الرحمن بن معاوية في ذلك الوقت 19 سنة فقط، وكان يعيش في منطقة العراق، وكان لديه أخ صغير يبلغ من العمر (13) سنة، وكان عبد الرحمن بن معاوية وأخوه الوليد بن معاوية مطلوبين للقتل.
وفي يوم من الأيام يجلس عبد الرحمن بن معاوية في بيته في العراق، فدخل عليه ابنه وكان عمره أربع سنوات، وهو يبكي فزعاً وكان عبد الرحمن بن معاوية في عينه رمد، وكان معتزلاً في غرفة داخل البيت، فأبعد الطفل عنه وأخذ يسكنه فلم يسكن الطفل بما يسكن به الأطفال، ولكنه ظل فزعاً مرعوباً، فقام معه عبد الرحمن بن معاوية فوجد في خارج البيت رايات الدولة العباسية السود تعم القرية جميعاً، فعلم أنه مطلوب، فأخذ معه النقود وأخذ الوليد بن معاوية، وترك النساء والأطفال وكل شيء وراء ظهره؛ لأن العباسيين لم يقتلوا نساء ولا أطفالاً، إنما كانوا يقتلون كل من بلغ وكان مؤهلاً للخلافة، ثم هرب عبد الرحمن بن معاوية وأخوه حتى وصلا إلى نهر الفرات، فوجدوا القوات العباسية تحاصر النهر، فألقيا بأنفسهما في النهر وأخذا يسبحان، فناداهما العباسيون أن ارجعا ولكما الأمان، فـ الوليد بن معاوية أخو عبد الرحمن بن معاوية كان قد تعب من السباحة في نهر الفرات، فقال له عبد الرحمن بن معاوية: لا تعد يا أخي! أخشى أن يقتلوك، فقال: قد أعطونا الأمان، فعاد إليهم، فأمسك به العباسيون وقتلوه أمام أخيه عبد الرحمن بن معاوية، فعبر عبد الرحمن بن معاوية النهر وهو لا يستطيع أن يتكلم أو يفكر من شدة الحزن، ثم اتجه نحو المغرب إلى بلاد القيروان؛ لأن أخواله كانوا من البربر، فهرب إلى أخواله، وقصة هروبه طويلة جداً، فقد عبر بلاد الحجاز ومصر ثم ليبيا ثم القيروان، ولما وصل إلى القيروان وهو يبلغ من العمر (19) عاماً، وجد هناك ثورة كبيرة جداً للخوارج على رأسها عبد الرحمن بن حبيب في الشمال الإفريقي كله، وقد استقل بالشمال الإفريقي عن الدولة العباسية التي قامت في سنة (132هـ)، وكان عبد الرحمن بن حبيب أيضاً يسعى للقضاء على عبد الرحمن بن معاوية؛ لأن هناك كراهية شديدة بين الخوارج وبين الأمويين، لأن أصل ظهور الخوارج هو خلاف بين سيدنا علي بن أبي طالب وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما؛ لأن علي بن أبي طالب ارتضى أن يحكم كتاب الله سبحانه وتعالى بينه وبين معاوية بن أبي سفيان في موقعة صفين المشهورة، فظهر فكر الخوارج من ساعتها، فهم يكرهون بني أمية بشدة، فبمجرد أن وصل عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان اجتمع عليه الخوارج وكادوا أن يقتلوه، فهرب من جديد إلى برقة في ليبيا، ومكث هناك أربع سنوات كاملة مختبئاً عند بعض أخواله، حتى سنة (136هـ)، وكان عمره آنذاك (23) سنة، فجلس يفكر: ماذا أعمل؟ هل أظل مختفياً طيلة العمر، أم ظهر من جديد؟ وإن ظهر في أي قطر من أقطار المسلمين فهو مطلوب الرأس، إن ظهر في الشام قتله العباسيون، وإن ظهر في الشمال الإفريقي قتله عبد الرحمن بن حبيب.
أيظل مختبئاً في مكانه وهو سليل الخلفاء والأمراء؟!
أيظل مختبئاً في مكانه والأمويون في كل مكان يقتلون ويذبحون إن عرف بمكانهم، أم يحاول أن يقيم للأمويين مجداً من جديد؟!
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(24) أسباب اختيار عبد الرحمن بن معاوية لبلاد الأندلس
لقد خطر في ذهن عبد الرحمن بن معاوية أن يذهب إلى الأندلس، لأنها أصلح الأماكن لاستقباله وذلك لعدة أسباب:
أولاً: أن الأندلس أبعد رقعة في بلاد المسلمين عن الدولة العباسية.
ثانياً: أنه يفصل بين الأندلس وبين العباسيين مضيق جبل طارق والبحر الأبيض المتوسط، وهي في قارة مختلفة تماماً، فمن الصعب أن يصل إليها العباسيون إلا بعد فترة من الزمان.
ثالثاً: أن الوضع في الأندلس ملتهب جداً، وقد تحدثنا عنه في الفترة الثانية من عهد الولاة، وهي الفترة التي هرب فيها عبد الرحمن بن معاوية إلى برقة في ليبيا، ففي هذه الفترة كانت ثورات كبيرة جداً في أرض الأندلس، وخلافات كبيرة جداً بين كل القبائل، والناس تكره بشدة يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي يحكم هذه البلاد مستقلاً بها عن الدولة الأموية ثم عن الدولة العباسية بعد قيام الدولة العباسية، ثم ظهرت مملكة ليون في الشمال، وهي أيضاً تحارب المسلمين، ثم ظهر الخوارج في الشمال الإفريقي وهم يحاربون الأندلس، وهكذا أصبحت أرض الأندلس أرضاً ملتهبة تماماً.
وفي هذا الجو استطاع عبد الرحمن بن معاوية أن يدخل هذه البلاد، فلو كانت البلاد تبايع الخلافة العباسية أو الخوارج ما استطاع أن يدخلها.
إذاً: الأندلس أنسب الأماكن لاستقبال عبد الرحمن بن معاوية على وعورتها.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(25) خطة عبد الرحمن بن معاوية لدخول الأندلس
بدأ عبد الرحمن بن معاوية يخطط لدخول الأندلس في سنة (136هـ) بما يلي: أولاً: أرسل مولاه بدر إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثرة في الحكم في بلاد الأندلس.
ثانياً: راسل كل محبي الدولة الأموية في أرض الأندلس عن طريق مولاه بدر.
والحق أن كثيراً من الناس كانوا يحبون الدولة الأموية منذ عهد ولاية معاوية بن أبي سفيان على الشام في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب، وخلافة عثمان بن عفان وخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، فقد كان أهل الشام جميعاً، وكان المسلمون في أقطار العالم الإسلامي المختلفة يحبون بني أمية حباً شديداً على مر العصور، فقد اشتهر بنو أمية بالسخاء الشديد، والسياسة والحكمة واكتساب الناس، وحسن معاملتهم والجهاد في سبيل الله، ونشر الدين، وفتح البلاد وما إلى ذلك من الأمور، فكان لبني أمية في داخل بلاد الأندلس كثير من المريدين والمحبين من القبائل الأخرى المختلفة.
ثالثاً: في ذكاء شديد راسل البربر يطلب معونتهم ومساعدتهم.
وقد كان البربر على خلاف كبير جداً مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري؛ لأنه فرق بين العرب والبربر، فالبربر يريدون أن يتخلصوا من حكم يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي عاملهم بهذه العنصرية.
رابعاً: بدأ يراسل كل الأمويين في الحجاز وفي مصر وفي السودان وفي أماكن كثيرة جداً من الأرض التي هربوا إليها، ويعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول بلاد الأندلس، ويطلب معونتهم ومددهم وهكذا بدأ يجمع الناس ويجمع الأفكار معه لتنفيذ فكرة عجيبة جداً، وهي أن يدخل وهو وحيد بمفرده مستصحباً لعزمه فقط إلى أرض الأندلس، وهذا أمر في منتهى الغرابة جداً، وهذا كان في سنة (136هـ) وكان قد بلغ من العمر (23) عاماً.
وبالفعل بدأ في تجميع الأعوان حتى سنة (138هـ) أي: أن مدة التجميع استغرقت سنتين.
وفي سنة (138هـ) يأتي له رسول من عند مولاه بدر من الأندلس يقول له: إن الوضع قد تجهز لاستقبالك هناك في بلاد الأندلس، فيقول له: ما اسمك؟ فيقول: اسمي غالب التميمي، فاستبشر باسمه فقال: الحمد لله! غلبنا وتم أمرنا.
وبدأ يعد العدة ويجهز السفينة التي تأخذه منفرداً إلى بلاد الأندلس، فركب السفينة ونزل على ساحل الأندلس بمفرده، فاستقبله مولاه بدر، وانطلق معه إلى قرطبة، وكان يحكم هذه البلاد في هذه الآونة يوسف بن عبد الرحمن الفهري.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(26) موقعة المسارة
موقعة المسارة بين عبد الرحمن بن معاوية ويوسف بن عبد الرحمن الفهري
لما دخل عبد الرحمن بن معاوية أخذ في تجميع الناس من حوله من محبي الدولة الأموية من البربر وكثير من القبائل المعارضة لـ يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقد جاءه بعض الأمويين من بقاع الأرض المختلفة، ومع ذلك لم يكن العدد كافياً يستطيع به أن يغير من الأوضاع، ففكر في اليمنيين؛ لأنهم كانوا على خلاف مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري، فـ يوسف بن عبد الرحمن الفهري من مضر من الحجاز، وعبد الرحمن بن معاوية أيضاً من مضر من بني أمية، أي: أن كلاهما من الحجاز.
فبدأ يراسل اليمنيين، فقبلوا أن يتحدوا مع عبد الرحمن بن معاوية، وكان على رئاسة اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي، وكان المقر الرئيسي لهم إشبيلية، وكانت إشبيلية مدينة كبيرة جداً من حواضر الإسلام في ذلك الوقت، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى إشبيلية، واجتمع طويلاً مع أبي الصباح اليحصبي، واتفقا على أن يقاتلا سوياً ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقبل القتال أرسل عبد الرحمن بن معاوية رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب وده، ويطلب منه أن يسلِّم له الإمارة؛ لأنه حفيد هشام بن عبد الملك أصل الخلافة الأموية، ويكون رجلاً من رجاله في بلاد الأندلس، ولكن يوسف بن عبد الرحمن الفهري رفض ذلك كلياً، وجمع جيشاً له، وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية، فاجتمع عبد الرحمن بن معاوية مع اليمنيين ومن معه من القبائل المختلفة في حرب يوسف بن عبد الرحمن الفهري وذلك في موقعة كبيرة عرفت في التاريخ باسم موقعة المسارة، وفي لفظ: موقعة المصارة، (بالسين أو بالصاد)، وقد كان هذا في ذي الحجة سنة (138هـ).
وكان من المؤسف جداً أن يلتقي المسلمون بسيوفهم، لكن كثرة الثورات والفتن والانقلابات جعل الحل العسكري والحل بالسيف هو الحل الحتمي في ذلك الوقت.
دارت موقعة كبيرة بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري ومعه جيش كبير، وجيش عبد الرحمن بن معاوية ويعتمد في الأساس على اليمنيين، فسمع أبو الصباح اليحصبي بعض المقالات من اليمنيين أن عبد الرحمن بن معاوية غريب على البلاد، وهو على فرس أشهب وعظيم، وإن حدثت هزيمة هرب من ساحة القتال وتركنا للفهريين، فبلغ عبد الرحمن بن معاوية هذا الكلام، وكان عمره آنذاك (25) عاماً، فذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي وقال له: إن هذا الجواد سريع الحركة ولا يمكنني من الرمي، فإن أردت أن تأخذه وتعطيني بغلتك فعلت، فأعطى الجواد السريع إليه وأخذ البغلة يقاتل عليها، فقال اليمنيون: هذا ليس بمسلك رجل يريد الهرب، هذا رجل يريد أن يموت في ساحة المعركة، فبقي معه اليمنيون وقاتلوا قتالاً شديداً، ودارت موقعة عظيمة جداً، وانتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية ومن معه، وهزم يوسف بن عبد الرحمن الفهري من أرض المعركة بجيشه الكبير، وفر يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكعادة الناس في ذلك الزمن أن يتابع المنتصرون المنهزمين حتى يقتلوهم ويقضوا على الثورة، فبدأ اليمنيون يجهزون أنفسهم حتى يتتبعوا الجيش الفار، لكن عبد الرحمن بن معاوية يقف لهم ويمنعهم من تتبع الفارين ويقول قولة خالدة: لا تتبعوهم، اتركوهم، لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوة منهم.
يقصد أن يستبقوهم للنصارى، فإن الموقعة الرئيسية ستكون مع النصارى، فإن هؤلاء الذين قاتلوننا في يوم من الأيام سيصبحون من جنودنا، وسيصبحون أعواننا على غيرنا من النصارى في ليون وفي فرنسا وما إلى ذلك.
كان عنده فكر واسع وجديد جداً، ونظرة متسعة تشمل كل بلاد الأندلس، وتشمل كل أوروبا، بل وفي نظري أنه ينوي إعادة بلاد الشام بعد ذلك إلى أملاك الأمويين، وقد امتاز في حربه ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري بما يلي: أولاً: ليس في قلبه غل ولا حقد على من كان حريصاً على قتله منذ دقائق معدودات.
ثانياً: الفهم العميق للعدو الحقيقي وهم النصارى في الشمال.
ثالثاً: إذا جاز له شرعاً أن يقاتلهم لتجميع الناس حول راية واحدة، فلا يجوز له شرعاً أن يتتبعهم وأن يقتل الفار منهم، أو يجهز على جريحهم، أو يقتل أسيرهم؛ لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام، وليس لهم حكم المشركين، والباغي في الإسلام لا يتتبع الفار منه، ولا يقتل أسيره، ولا يجهز على جريحه، بل ولا تؤخذ منه الغنائم وهكذا، فقد كان عنده فقه وعلم وسعة اطلاع وفهم عميق جداً، وهو لم يبلغ من العمر إلا خمسة وعشرين سنة.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(27) موقف العباسيين من الإمارة الأموية بالأندلس
لن نستفيض في شرح الثورات ضد عبد الرحمن الداخل وماذا حصل في كل ثورة؟
فالكتب فيها تفصيلات كثيرة، لكن أقف عند ثورة واحدة لأهميتها في فهم هذا الانفصال الذي حصل للأندلس عن الخلافة العباسية، هذه الثورة حدثت في سنة (146هـ)، أي: بعد حوالي ثمان سنوات من استلام عبد الرحمن بن معاوية للحكم في بلاد الأندلس، قام بها رجل اسمه العلاء بن مغيث الحضرمي، أرسله أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي كي يقتل عبد الرحمن بن معاوية ويضم الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية، وهذا بالنسبة لـ أبي جعفر المنصور أمر طبيعي، يريد أن يضم بلاد الأندلس؛ لأنها البلاد الوحيدة من بلاد المسلمين التي هي منشقة عن الخلافة العباسية الكبيرة.
جاء العلاء بن المغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي، وعبر إلى الأندلس، وقام فيها بثورة ينادي بدعوة العباسيين، ويرفع الراية السوداء التي أرسلها الخليفة أبو جعفر المنصور الذي يعتبر الخليفة العباسي الثاني، أو المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح.
دارت حرب كبيرة بين العلاء بن مغيث الحضرمي وبين عبد الرحمن بن معاوية، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية، ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي أن العلاء بن المغيث الحضرمي قد قتل، وأن جيشه قد هزم هزيمة منكرة، فقال أبو جعفر المنصور: قتلنا هذا البائس، بتكليفه بحرب عبد الرحمن بن معاوية، ثم قال: ما لنا في هذا الفتى من مطمح، ويقصد به عبد الرحمن بن معاوية، وليس لنا أمل في حربه، والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر.
ومنذ هذه اللحظة والدولة العباسية لم تفكر ولا مرة واحدة في استعادة بلاد الأندلس، بل إن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمى عبد الرحمن بن معاوية بـ صقر قريش، وقد اشتهر في التاريخ بـ صقر قريش، كان أبو جعفر المنصور جالساً مع أصحابه فسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟ فقالوا له: أنت، فقال: لا.
فعددوا له أسماء حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان وأسماء من بني أمية.
فقال: لا، بل عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفرداً بنفسه مؤيداً برأيه مستصحباً لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلداً أعجمياً، فجمع الأنصار وجند الأجناد، وأقام ملكاً بحسن تدبيره وشدة عزمه.
هكذا كان أبو جعفر المنصور معجباً بـ عبد الرحمن بن معاوية، لكنه إعجاب اضطرار، لا بد أن في نفوسنا وفي نفوس جميع المسلمين أشياء وأشياء على هذا الانفصال الطويل بين دولة الأندلس وبين الخلافة العباسية على مر العصور، لماذا يحارب عبد الرحمن بن معاوية الرجل الورع التقي الزاهد الذي أقام دولة قوية جداً في بلاد الأندلس؟
ولماذا ينفصل عن الخلافة العباسية؟ والتحليل الصادق هو أن الدولة العباسية هي التي أخطأت خطأ فاحشاً في حق الأمويين بقتلهم، وتتبعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية، إذا كان الأمويون في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقوا الاستبدال، فليكن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من المفترض أن تحتوي الدولة العباسية هذه الطاقات الأموية وتوظفها لخدمة الإسلام والمسلمين، بدلاً من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب في صقع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس أو غيرها من بلاد المسلمين، وكان من المفترض ألا تفرط في قتل المسلمين من بني أمية، وهي تعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ما المانع أن تقيم الحد على من يستحق أن يقتل من بني أمية، ثم تترك وتستوعب الآخرين؟!
ما المانع أن تعطي بني أمية بعضاً من الملك، كإمارة مدينة أو إمارة ولاية، فقد كانوا خلفاء وأبناء الخلفاء، حتى يستوعبوهم في داخل الصف؟ انظر إلى عبد الرحمن الداخل في موقعة المسارة وهو يقول للناس: اتركوهم لا تتبعوهم؛ لأنه كان يريد أن يضمهم إلى جيشه بعد ذلك، هكذا كان يجب على العباسيين أن يتركوا الأمويين تحت عباءتهم، حتى يستطيعوا أن يكونوا جنداً لهم، تخيل أن شخصاً مثل عبد الرحمن بن معاوية بهذا الفكر وهذا النضوج وهذا الجهاد يكون عوناً للخلافة العباسية، لكنه أصبح ضد الخلافة العباسية؛ بسبب هذا القتل المفرط من الدولة العباسية في بدء نشأتها.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(28) موقف عبد الرحمن الداخل من الثوار في الأندلس
ذكرنا فيما سبق كيف دخل عبد الرحمن الداخل رحمه الله أرض الأندلس، وكيف سيطر على الموقف هناك، وضم إليه جميع القبائل، كذلك سيطر على جميع الثورات، وأقام ملكاً لبني أمية في أرض الأندلس، بعد قصة فرار طويلة من العباسيين، ومن الخوارج في المغرب.
ما زالت هناك بعض التعليقات على موقف عبد الرحمن الداخل رحمه الله من الثائرين، هل يجوز له أن يحارب الثائرين وإن كانوا من المسلمين؟
الجواب
أن موقفه سليم جداً في حرب الثائرين داخل أرض الأندلس؛ لأن جميع أهل الأندلس قد أجمعوا على أن يكون أميراً للبلاد، ودليل ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عرفجة رضي الله عنه في صحيح مسلم يقول:«من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، فأراد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم، فاضربوا رأسه بالسيف كائناً من كان»، فلذلك كان موقف عبد الرحمن الداخل رحمه الله صارماً مع من أراد الثورة؛ ليقمع هذه الانقلابات المتكررة في أرض الأندلس في ذلك الزمن، لكن من الإنصاف أن نذكر أنه كان رحمه الله يبدأ دائماً بالصلح، وبالاستمالة إلى السلم، ويكره الحرب إلا إذا كان مضطراً رحمه الله، والثورات التي حدثت في بدء ولاية عبد الرحمن الداخل رحمه الله كان ثمنها غالياً في بداية دخوله، وفي أول أربع سنوات من دخوله من سنة (138) إلى سنة (142) من الهجرة سقطت كل مدن المسلمين في فرنسا، بعد أن حكمت بالإسلام مدة (47) سنة متصلة، منذ أيام موسى بن نصير وحتى هذه اللحظات، فإن من سنن الله الثوابت أنه إذا انشغل المسلمون بأنفسهم كانت الهزيمة أمراً حتمياً.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(29) أعمال عبد الرحمن الداخل في الأندلس بعد قمعه للثورات
لما دخل عبد الرحمن الداخل رحمه الله أرض الأندلس وقمع هذه الثورات بدأ يفكر فيما هو بعد ذلك.
أولاً: اهتم بالأمور الداخلية في أرض الأندلس اهتماماً كبيراً جداً، فبدأ بإنشاء جيش قوي، واعتمد فيه على ما يلي: أولاً: اعتمد على أهل البلاد الملقبين بالمولدين؛ فإن عموم أهل الأندلس كانوا من أهل الأندلس الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام وأحبوا عقيدته، فـ عبد الرحمن الداخل لما رأى أن غالب الشعب من أهل الأندلس أنفسهم اعتمد في جيشه عليهم.
ثانياً: اعتمد في جيشه على كل الفصائل والقبائل الموجودة في أرض الأندلس، وضم إليه كل الفصائل المضرية سواء من بني أمية أو من غير بني أمية، كما ضم إليه كل فصائل البربر، وهم قبائل كثيرة جداً، وكان يضم رءوس القوم حتى يؤثروا في أقوامهم، بل إنه ضم إليه اليمانية، مع علمه أن أبا الصباح اليحصبي يدبر له مكيدة، وصبر عليهم صبراً طويلاً حتى تمكن من الأمور تماماً، ثم تخلص منه بعد (11) سنة كاملة من توليه الحكم في البلاد.
وكان في جيش عبد الرحمن الداخل رحمه الله الصقالبة، وهم أطفال نصارى اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوروبا ورباهم تربية إسلامية عسكرية صحيحة منذ أن اشتراهم، وليس في أفكارهم أي فكر أو اتجاه معين أو دين معين، فرباهم على الإسلام التربية الكاملة الشاملة، من حيث صحة العقيدة وصحة العبادات وصحة الفهم، والجهاد في سبيل الله، لذلك كان هؤلاء عماد الجيش عند عبد الرحمن الداخل ومن جاء بعده من خلفاء وأمراء بني أمية.
وصل تعداد الجيش الإسلامي في أواخر عهد عبد الرحمن الداخل رحمه الله إلى مائة ألف فارس غير الرجالة، فهذا جيش ضخم جداً، على الرغم من أنه دخل البلاد وحيداً.
ثالثاً: اهتم عبد الرحمن الداخل رحمه الله اهتماماً كبيراً بالجانب الديني ونشر العلم وتوقير العلماء، واهتم بالقضاء وبالحسبة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أعظم أعماله أنه بنى مسجد قرطبة الكبير، وأنفق على بنائه ثمانين ألفاً من الدنانير الذهبية، وتنافس الخلفاء من بعده في زيادة حجمه حتى اكتمل بناؤه على مدى عهد ثمانية من خلفاء بني أمية.
رابعاً: اهتم كثيراً بالإنشاء والتعمير وبناء الحصون والقلاع والقناطر، وربط أول الأندلس بآخرها؛ وأنشأ أول دار لسك النقود الإسلامية في الأندلس، وأنشأ الرصافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وأنشأها على غرار الرصافة التي كانت موجودة في الشام، والتي أنشأها جده هشام بن عبد الملك رحمه الله، وأتى لها بالثمار العجيبة من كل بلاد العالم، فإن نجحت زراعتها فإنها ما تلبث أن تنتشر في بلاد الأندلس جميعاً.
خامساً: كان عبد الرحمن الداخل رحمه الله يعلم أن الخطر الحقيقي من قبل دولة ليون في الشمال الغربي من بلاد الأندلس، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فبدأ هذا الرجل العجيب في تنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشاً ثابتة في هذه الثغور الملاقية لهذه البلاد النصرانية، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأعلى، وهو ثغر سرقسطة في الشمال الشرقي مواجهاً لفرنسا، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأوسط، ويشمل مدينة سالم ويمتد حتى طليطلة، وأنشأ ما يسمى بالثغر الأدنى، وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية.
وكانت له عادة عظيمة جداً تعلمها من أجداده وآبائه في بلاد الشام، وهي عادة الجهاد المستمر بصورة منتظمة ودائمة في كل عام، حيث كانوا يجاهدون في الصيف حين يذوب الجليد، وكانت الجيوش تسمى الصوائف، كانت تخرج إلى الشمال كل عام لهدف الإرباك الدائم للعدو، وهذا ما يسمونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق.
وقد جعل الصوائف أمراً ثابتاً يتناوب عليه كبار قواد الجيش كل عام.
سادساً: كان رحمه الله كبير الاهتمام بالجيش، فقد كان يقسم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم يعطيه بكامله للجيش، والقسم الثاني: لأمور الدولة العامة، من مؤن ومعمار ومرتبات ومشاريع وغير ذلك، والقسم الثالث: يدخره لنوائب الزمان غير المتوقعة.
اهتم عبد الرحمن الداخل رحمه الله أيضاً بإنشاء دور الأسلحة؛ فأنشأ مصانع للسيوف، وللمنجنيق، وأشهرها مصانع طليطلة وبرديل.
سابعاً: اهتم أيضاً رحمه الله بإنشاء أسطول بحري قوي، وإنشاء أكثر من ميناء، وفي عهده تم إنشاء ميناء طرطوشة وألمارية وإشبيلية وبرشلونة وغيرها من الموانئ.
يقول المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(30) صفات عبد الرحمن الداخل ورجاحة عقله
ذكر ابن حيان الأندلسي في وصف عبد الرحمن الداخل قال: كان عبد الرحمن الداخل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئاً من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغاً مفوهاً، شاعراً محسناً، سمحاً سخياً، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضراً الجمعة والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، فهو مثال رائع للقائد المسلم، فإنه مع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه رحمه الله.
وهذه حياة المؤمنين الصادقين؛ فأعمال الخير دائماً أكثر من الأوقات، وقد يتعجب المرء أحياناً لما يجد شباباً في سن عبد الرحمن الداخل أو رجالاً أكبر من عبد الرحمن الداخل يقضون الساعات الطويلة أمام شاشات التلفاز وفي المقاهي والنوادي في غير مصلحة لا له ولا للمسلمين، وأتعجب أين وقت التعلم والتفكر في الدين والدنيا؟ أين وقت الصلاة والقيام والذكر والقرآن؟ أين وقت عيادة المرضى وشهود الجنائز وصلة الأرحام وبر الوالدين؟ أين وقت خدمة الناس والقيام على مصالحهم؟ أين وقت تتبع أخبار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟
فـ عبد الرحمن الداخل كانت همومه عظيمة، ومع ذلك كان يقوم بكل هذا، ولو وكل أحداً ما لامه أحد، وكان مع شدته وحزمه وجهاده وقوته شاعراً محسناً رقيقاً مرهف المشاعر، ومع كونه ذا هيبة عظيمة عند أوليائه وأعدائه، فإنه يتبسط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويصلي بهم ومعهم، ومع كونه قليل الطمأنينة، وشديد الحذر لا يمنعه ذلك من الاختلاط بالناس، ومن السير في وسطهم دون حراس يعزلونه عن الشعوب، وكيف يمتنع من شعبه وهو المحبوب بينهم المقرب إلى قلوبهم؟ حتى خاطبه مقربوه في ذلك، وأشاروا عليه ألا يخرج وسط الناس كثيراً حتى لا يتبسطوا معه، لكنه تذكر عمر بن الخطاب حينما قال فيه القائل: حكمت فعدلت، فأمنت فنمت يا عمر انظر إلى همته وقد أتى مطارداً مشرداً مطلوب الرأس تجري وراءه قوى الأرض جميعاً من عباسيين في المشرق وخوارج في المغرب، ونصارى في الشمال وثورات في الداخل، فإذا به يؤسس هذا البنيات القوي المتين، وهذه الدولة العظيمة ذات المجد التليد.
وكان رحمه الله يحافظ على شعور الناس جميعاً، يحكى أنه طلب منه أحد الناس أمراً أمام الناس، فقضاه له، ثم قال له: وإذا ألم بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك؛ كيما نستر عليك؛ وذلك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عز وجهه بإخلاص الدعاء وصدق النية.
فكان يربي الناس على أن يرفعوا حاجتهم في البداية لرب العالمين سبحانه وتعالى، ويربيهم أن الله سبحانه وتعالى يملكهم جميعاً.
وكان يأمرهم بأن ترفع الحاجة إليه في رقعة، حتى يستر عليه حاجته، ولا يشمت فيه أعداؤه.
دخل عليه أحد الجنود في يوم انتصارهم على النصارى، فتحدث معه الجندي بأسلوب فيه إساءة أدب وفيه رفع صوت، فأخذ عبد الرحمن الداخل يعلمه، فقال له: يا هذا! إني أعلمك من جهل، إنه يشفع لك في هذا الموقف هذا النصر الذي نحن فيه، عليك بالسكينة والوقار، فإني أخاف أن تسيء الأدب في يوم ليس فيه نصر، فأغضب عليك، فإذا بالجندي يرد عليه رداً في منتهى الذكاء؛ فيقول له: أيها الأمير! عسى الله أن يجعل عند كل زلة مني نصراً لك فتغفر لي زلاتي، فقال الأمير عبد الرحمن الداخل رحمه الله: هذا ليس اعتذار جاهل، وقربه إليه ورفع من شأنه.
فقد ألغى الضغينة تماماً من قلبه، واستفاد منه لما رأى من ذكائه وقدرته على التصرف في مثل هذه الأمور.
وظل فترة طويلة يختبر أبناءه، أيهم يصلح للإمارة الابن الأكبر سليمان أم الأصغر هشام بن عبد الرحمن الداخل، وبعد اختبارات كثيرة واستشارات واستخارات استقر رأيه على الابن الأصغر هشام بن عبد الرحمن الداخل فولاه العهد مع كونه أصغر من أخيه، حيث كان هشام يشبه بـ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه في علمه وعمله وتقواه.
وظل عبد الرحمن الداخل يحكم البلاد من سنة (138) هجرية إلى سنة (172) هجرية، أي: أنه حكم قرابة (34) عاماً.
كانت بداية تأسيس ما يسمى بعهد الإمارة الأموية في بلاد الأندلس، والتي استمرت من سنة (138) هجرية إلى سنة (316) هجرية، وهذه الفترة تقسم إلى ثلاث فترات رئيسية: الفترة الأولى: فترة قوة ومجد وحضارة وعز وهيمنة على ما حولها من المناطق، واستمرت مائة عام أي: من سنة 138 إلى (238) هجرية.
الفترة الثانية: فترة ضعف، واستمرت (62) سنة، أي: من سنة (238) إلى سنة (300).
الفترة الأخيرة: وهي من سنة (300) إلى ما بعدها، وسنتحدث عنها بعد ذلك
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(31) الفترة الممتدة من ولاية عبد الرحمن الداخل إلى آخر ولاية حفيده الحكم
بدأ عهد القوة من سنة (138) إلى سنة (238) للهجرة، بدأ هذا العهد بإمارة عبد الرحمن الداخل رحمه الله، ثم خلفه من بعده ثلاثة أمراء.
الأمير الأول: هشام بن عبد الرحمن الداخل؛ والذي حكم من سنة (172) إلى (180) هجرية، وكان رحمه الله عالماً محباً للعلم، أحاط نفسه رحمه الله بالفقهاء، وكان له أثر عظيم في بلاد الأندلس؛ لأنه نشر اللغة العربية بمجهود وافر وعظيم، حتى أصبحت اللغة العربية تدرس في معاهد اليهود والنصارى في داخل أرض الأندلس؛ ونشر المذهب المالكي بدلاً من مذهب الأوزاعي، وكانت له صولات وجولات كثيرة جداً مع ممالك النصارى الشمالية.
الأمير الثاني: الحكم بن هشام فإنه تولى الإمارة من بعد والده هشام بن عبد الرحمن الداخل من سنة (180) إلى سنة (206)، لكنه لم يكن على شاكلة أبيه ولا على شاكلة جده، كان قاسياً جداً؛ فقد فرض الكثير من الضرائب، واهتم بالشعر، وبالصيد، وقاوم الثورات بأسلوب غير مسبوق في بلاد الأندلس في عهد الإمارة الأموية؛ وكان يحرق بيوت الثائرين، ويطردهم إلى خارج البلاد، ومن أشهر الثورات التي قمعها: ثورة قوم يسمون بالربض، والربض منطقة في جوار قرطبة، ثار أهلها ثورة كبيرة على الحكم بن هشام فأحرق ديارهم وطردهم خارج البلاد، ومن تدبير الله سبحانه وتعالى؛ أنه لما طردهم إلى خارج البلاد، انتقلوا بسفنهم إلى جزيرة كريت في البحر الأبيض المتوسط، فأسسوا فيها مملكة إسلامية ظلت قائمة مائة سنة متصلة، لكنه مع كل هذه الأمور لم يوقف حركة الجهاد في الشمال؛ لأن الجهاد كان عادة عند الإمارة الأموية، سواء في بلاد الشام أو في بلاد الأندلس، فقد كانت له انتصارات وعليه هزائم، وكنتيجة طبيعية تماماً لهذا الظلم الذي كان من قبل الحكم بن هشام، فإن العلاقة ساءت بين الحاكم والمحكوم، سقطت بعض البلاد الإسلامية في يد النصارى؛ كبرشلونة، وأصبحت إمارة نصرانية صغيرة جداً في الشمال الشرقي، وعرفت في التاريخ باسم إمارة أراجون، وكانت متاخمة لحدود فرنسا، بجوار جبال البرينيه في الشمال الشرقي للبلاد، لكن من فضل الله ومنّه وجوده وكرمه على الحكم بن هشام أنه في آخر عهده تاب وأناب واستغفر، واعتذر للناس عن ذنوبه، واختار من أبنائه أصلحهم وإن لم يكن الأكبر ليكون ولياً لعهده، ومن حسن خاتمته أنه قام بهذا الاعتذار وهو في كامل قوته وبأسه، وظل عامين على هذه التوبة قبل أن يموت.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(32) ولاية عبد الرحمن الأوسط
تولى من بعد الحكم بن هشام ابنه عبد الرحمن الثاني المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط، فإن عندنا الأول هو عبد الرحمن الداخل رحمه الله، وهذا هو الثاني، والثالث هو المعروف في التاريخ بـ عبد الرحمن الناصر، حكم عبد الرحمن الأوسط بن الحكم من سنة (206) إلى سنة (238) من الهجرة، أي: استمر حكمه إلى آخر عهد القوة في عهد الإمارة الأموية، وكانت فترة حكم عبد الرحمن الأوسط فترة جيدة جداً في تاريخ الأندلس؛ فقد استأنف الجهاد من جديد ضد النصارى في الشمال، وألحق بهم هزائم عدة، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، ومحباً للناس رحمه الله.
فقد تحققت في حياته ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ازدهار الحضارة العلمية في بلاد الأندلس؛ فقد انتشر العلماء في كل مجال، وكان أشهر هؤلاء العلماء عباس بن فرناس رحمه الله الذي يعتبر أول من حاول الطيران في العالم، وسبحان الله! فإنه صار ضحية هذه المحاولة، وقد كانت له اختراعات كثيرة؛ فقد اخترع آلة لتحديد الوقت، واخترع آلة تشبه قلم الحبر، ونحن قد نستصغر مثل هذا الاختراع، لكن كانت له أهمية كبيرة جداً في ذلك الزمن؛ أما هذا الزمن الذي انتشر فيه العلم والتعليم، فإن الجميع يحتاجون إلى مثل هذا الذي ينسخ لهم بسرعة مثل القلم الحبر، وهو أول من اخترع الزجاج من الحجارة.
واستقدم عبد الرحمن الأوسط العلماء من كل بلاد العالم الإسلامي، حتى استقدمهم من بغداد، وجاءوا إلى بلاد الأندلس وعظمهم وكبرهم، ورفع من قيمتهم، وأسس في سنوات مكتبة قرطبة العظمية، وشاع التعليم في كل بلاد الأندلس.
الأمر الثاني: اهتمامه الشديد بالحضارة العمرانية والاقتصادية، فقد ازدهرت التجارة في عهده جداً وكثرت الأموال، حتى إن جميع المؤرخين يذكرون أنه لم يكن هناك في الأندلس عادة التسول، فقد كانت عادة التسول منتشرة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى، أما في الأندلس فلم تعرف أصلاً هذه العادة لكثرة الأموال.
وتقدمت وسائل الري في عهد عبد الرحمن الأوسط بشكل رائع، وتم رصف الشوارع، في هذا العمق القديم في التاريخ، وكانت أوروبا في جهل وظلام عميق، فأقام عبد الرحمن الأوسط القصور المختلفة والحدائق الغناء، ووسع في المعمار حتى أصبحت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهد عبد الرحمن الثاني رحمه الله.
الأمر الثالث: هو ما يسمى بغزوات الفايكنج أو غزوات النورمن، وهم أهل إسكندنافيا في ذلك الوقت، وهذه بلاد تضم الدنمارك والنرويج وفنلندا والسويد، فقد كانت تعيش في همجية مطلقة، وكانوا يعيشون على حرب العصابات؛ وفعلت ما يسمى بغزوات الفايكنج، وهي غزوات إغارة على بلاد العالم في أماكن مختلفة متفرقة، ليس لها هم إلا جمع المال وهدم الديار وما إلى ذلك، فهجمت على أشبيلية في سنة (230) من الهجرة؛ في عهد عبد الرحمن الثاني وكان قوام الجيش الإسكندنافي في هذه الموقعة (54) سفينة؛ فدخلوا إشبيلية، فأفسدوا فيها فساداً كبيراً، وهذه هي طبيعة الحروب المادية بصفة عامة، كل الجيوش المادية تدخل أي بلاد فتفسد فيها إفساداً عظيماً، وشتان بين المسلمين في فتحهم للبلاد وبين غيرهم في معاركهم؛ فقد دخل هؤلاء فدمروا إشبيلية تماماً، ونهبوا ثرواتها، وهتكوا أعراض نسائها، وهكذا في غيرها من البلاد؛ كشذونة وألمارية ومرسية، حتى أشاعوا الرعب فيها.
فجهز عبد الرحمن الثاني رحمه الله جيوشه، ودارت بينه وبينهم معارك ضارية استمرت أكثر من مائة يوم كاملة، ومنّ الله على المسلمين بالنصر، وغرقت (23) سفينة كاملة للفايكنج، وعادوا إلى بلادهم خائبين.
فقد استفاد من الأخطاء التي كانت سبباً في دخول الفايكنج إلى هذه البلاد، فكان رد فعله لهذا الحدث الكبير ما يلي: أولاً: أنشأ سوراً ضخماً جداً حول أشبيلية، وأشبيلية تقع على نهر الوادي الكبير، ونهر الوادي الكبير يصب في المحيط الأطلنطي، ومن السهولة جداً أن تدخل سفن الفايكنج أو غيرها من السفن من المحيط الأطلنطي إلى أشبيلية، لذلك حصنها تحصيناً ظلت بعده من أحفظ حصون الأندلس بصفة عامة.
ثانياً: أنشأ أسطولين قويين جداً، فجعل أحدهما في الأطلسي، والآخر في البحر الأبيض المتوسط، حتى يدافع عن سواحل الأندلس، فكانت هذه الأساطيل تجوب البحار؛ حتى تصل إلى أعلى حدود الأندلس في الشمال عند مملكة ليون، وتصل في البحر الأبيض المتوسط إلى إيطاليا، وكان من نتيجة ذلك أنه فتح جزر البليار للمرة الثانية، والذي فتحها للمرة الأولى هو موسى بن نصير رحمه الله؛ وكان ذلك قبل فتح بلاد الأندلس في سنة (91) من الهجرة، ثم سقطت جزر البليار في يد النصارى في عهد الوالي الثاني الحكم بن هشام لما انحدر حال المسلمين هناك، ثم أعاد من جديد عبد الرحمن الأوسط رحمه الله فتح جزر البليار في سنة (234) من الهجرة،
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(33) أسباب ضعف الدولة الأموية في الأندلس
انفتاح الدنيا على المسلمين في الأندلس
أولاً: انفتاح الدنيا على المسلمين وكثرة الأموال في آخر عهد القوة من الإمارة الأموية، فقد زادت الأموال بشدة وازدهرت التجارة، ولم يوجد هناك في البلاد فقير، وفتن الناس بالمال.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم»،
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخشى على المؤمنين من هذه الفتنة؛ كان يقول صلى الله عليه وسلم: «إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال»،
وكان يقلل صلى الله عليه وسلم كثيراً من قيمة الدنيا؛ كان يقول: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع».
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(34) ظهور نجم زرياب
ظهور "نجم زرياب" وما صاحبه من ترف وحب للملاهي في المجتمع الأندلسي
ثانياً: السبب الثاني لضعف الإمارة الأموية في الفترة الثانية: هو زرياب، مطرب من مطربي بغداد، تربى في بيت الخلفاء في بغداد، وكان يغني لهم، وكان معلمه هو إبراهيم الموصلي، وهو كبير مطربي بغداد في ذلك الوقت، ومع مرور الوقت لمع نجم زرياب هناك في بغداد، فغار منه إبراهيم الموصلي فدبر له مكيدة، فطرد من البلاد، فخرج من بغداد متجهاً صوب المغرب، حتى وجد ضالته في الأندلس؛ أرض غنية جداً، فيها أموال كثيرة، وقصور، وحدائق، هذه البلاد هي التي تستقبل المطربين في ذلك الزمن، مع أن الأندلس إلى هذه الفترة لم يكن فيها غناء.
فلما وصل زرياب أرض الأندلس استقبلوه وعظموه وأكرموه، وأدخلوه على الخلفاء، وفي بيوت عامة، ونواديهم؛ فأخذ يغني للناس، ويعلمهم ما قد تعلمه هناك في بغداد، ولم يكتف زرياب بتعليمهم الغناء، وتكوين ما يسمى بالموشحات الأندلسية المشهورة، لكنه بدأ يعلمهم فنون الموضة؛ فقال للناس: هناك لبس خاص بالصيف، ولبس خاص بالشتاء، ولبس خاص بالربيع، ولبس خاص بالخريف، ولبس خاص بالمناسبات العامة، كما هو الحال في أرض بغداد، ولم يكن الناس في الأندلس على هذه الشاكلة، فأخذوا يتعلمون من زرياب، وأخذ يعلمهم فنون الطعام، كل يوم أكلة جديدة، وصنف جديد وهكذا تعلم الناس ألواناً كثيرة من الطعام، ثم أخذ يحكي لهم حكايات الأمراء والخلفاء، وحكايات الأساطير والروايات وما إلى ذلك، حتى تعلق الناس به بشدة، وتعلق الناس بالغناء، وكثر المطربون في بلاد الأندلس، ثم بعد ذلك انتشر الرقص، وكان في البداية بين الرجال، ثم انتقل إلى غيرهم وهكذا.
في هذا الوقت الذي دخل فيه زرياب إلى أرض الأندلس، كان في عهد عبد الرحمن الأوسط رحمه الله، الذي اهتم بالعلم والحضارة والعمران والاقتصاد وما إلى ذلك، لكنه للأسف ترك زرياب يفعل كل هذه الأمور؛ مع أن النهضة العلمية كانت موجودة وكان العلماء كثيرين، إلا أن كلام زرياب صرف الناس عن سماع العلماء إلى سماع زرياب، وصرف الناس عن سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصص السلف الصالح إلى سماع حكايات زرياب العجيبة وأساطيره الغريبة، بل صرف الناس عن سماع القرآن إلى سماع أغانيه، وهذا ليس عجيباً وليس جديداً، فإنه لما ظهرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هناك رجل اسمه النضر بن الحارث، وكان من رءوس الكفر في مكة، ولما رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس بالقرآن فيتأثرون ويبكون ويؤمنون بهذا الدين، ذهب إلى بلاد فارس؛ وقطع أميالاً كثيرة، وقضى هناك فترة طويلة؛ ليتعلم هناك حكايات رستم وإسفنديار، ويتعلم الأساطير التاريخية، واشترى مغنيتين وعاد إلى بلاد مكة، فإذا وجد في قلب رجل ميلاً إلى الإسلام أرسل له المغنيتين تغنيان له مما عرفه في بلاد فارس من حكايات رستم وإسفنديار حتى تلهياه عن هذا الدين، وهكذا ظل يفعل كحرب مضادة للدعوة الإسلامية في بلاد مكة، فأنزل الله فيه قرآناً: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [لقمان:6]، ويقسم عبد الله بن مسعود رحمه الله أنها ما نزلت إلا في الغناء.
فالشيطان لا ينام ولا يهدأ، حتى في وجود هذه النهضة العلمية، قال تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، وكلما زاد الاهتمام بالدين كلما نشط الشيطان؛ عن طريق زرياب ومن سار على نهج زرياب إلى يومنا هذا، ونحن ننظر في رمضان كلما ارتقى مستوى الإيمان عند الناس، وكلما تعلقت قلوبهم بالمساجد زاد الشيطان في أثره وفي مفعوله، فيضع الناس على طريق غير التي أرادها الله سبحانه وتعالى لهم.
فلو أخذنا عينة عشوائية من الناس وسألناهم إن كانوا يحفظون من الأغاني أكثر أم القرآن، أو يحفظون قصص الأفلام والمسلسلات أكثر أم قصص الأنبياء والصحابة والفتوح الإسلامية وما إلى ذلك؟ فالأمر خطير جد خطير.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(35) ظهور شخصيات تحارب الإسلام
ظهور شخصيات تحارب الإسلام
السبب الثالث: سبب متكرر في التاريخ وهو عمر بن حفصون الأندلسي شبيه جون قرنق، ولا أظن أنكم لا تعرفون جون قرنق! عمر بن حفصون هذا هو رجل من المولدين، أي: من أهل الأندلس الأصليين، ونحن عندما نلاحظ في الأسماء، ونجد في آخر الاسم واو ونون، نعرف أن هذا الرجل أندلسي من أهل الأندلس الأصليين؛ كانوا يضيفون واو ونون في آخر الكلمة؛ نحو: حفصون، سعدون، زيدون وما إلى ذلك، أو يضيفون واو وسين بدل واو ونون، نحو: عمروس أو ما إلى ذلك.
فـ عمر بن حفصون كان رجلاً قاطع طريق من أهل الأندلس الأصليين، وكانت له عصابة كبيرة نسبياً، فقد كان معه أربعون من الرجال، واشتد خطره لما بدأ الناس يركنون إلى الدنيا ويتركون الجهاد في سبيل الله، وزاد حجمه جداً وبدأ يثور في منطقة الجنوب، والناس في هذه المنطقة كانت ترهبه بشدة، فأخذ يجمع حوله الأنصار، فزاد في الحجم جداً حتى سيطر على كل جنوب الأندلس، فقد كان مسلماً من أرض الأندلس، ولكي يؤيد قوته في آخر عهده عمل شيئاً لن يتكرر في تاريخ الأندلس إلا قليلاً؛ فقد تحول من الإسلام إلى النصرانية سنة (286) من الهجرة، أي: بعد حوالي (22) سنة من ثورته مسلماً انقلب إلى نصراني، وسمى نفسه صمويل، وبدأ يستعين ببلاد النصارى في الشمال، وسبب هذا الانقلاب كأنه يريد أن يأخذ التأييد من مملكة ليون الشمالية، فانقلب على عقبيه وأصبح نصرانياً، فتركه بعض المسلمين، لكن نال من تأييد مملكة ليون، وتزامن مع هذا الموقف توقف الجهاد في ممالك النصارى، فبدأت مملكة ليون تتجرأ على حدود الدولة الإسلامية؛ فبدأت تهاجمها من الشمال، وعمر بن حفصون أو صمويل من الجنوب، وهذا ما تفعله أمريكا واليهود الآن مع جون قرنق المتمرد في جنوب السودان، فإن هدفهم واضح جداً، وهو أنهم يمدون جون قرنق بالسلاح والخطط والخرائط والأغذية والأموال والمؤن وما إلى ذلك، وكل هذا يهدف إلى ضرب السودان من الداخل، من أجل أن تنشغل بنفسها فتضعف القوة التي في داخلها، ثم يوقفون المد الإسلامي من بلاد السودان إلى بلاد وسط إفريقيا.
هذه خطة قديمة كما ذكرنا، فقد حدثت في بلاد الأندلس مع عمر بن حفصون ورغبوه في الانقلاب إلى النصرانية، فتحول إلى صمويل ليضرب الأندلس من الداخل، وحدثت من قبل ذلك بكثير في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما راسلت قريش عبد الله بن أبي ابن سلول في المدينة المنورة، وشجعته كثيراً على أن يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطرده من بلاده وما إلى ذلك.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
الفترة الثانية في الدولة الأموية في الأندلس وأسباب ضعفها
بوفاة عبد الرحمن الأوسط رحمه الله بدأ عهد جديد في بلاد الأندلس، وهو عهد الضعف في الإمارة الأموية، من سنة (238) إلى سنة (300) من الهجرة، أي: حوالي (62) سنة، تولى من بعد عبد الرحمن الأوسط ابنه محمد بن عبد الرحمن الأوسط ثم اثنين من أولاده: المنذر ثم عبد الله، لكن الإنسان في الحقيقة يتعجب كثيراً، كيف بعد هذه القوة العظيمة والبأس الشديد والهيمنة على أرض الأندلس وما حولها يحدث هذا الضعف وهذا السقوط وهذا الانحدار؟! إنه ليس من سنن الله أن تسقط الأمم فجأة، إن الأمر يكون متدرجاً على فترات طويلة، ففي العهد الثاني للولاة حصلت الثورات والمكائد والتي بدأت بوفاة عبد الرحمن الأوسط؛ والسبب وراء ضعف الولاة كان فيما يلي: أولاً: انفتاح الدنيا وكثرة الغنائم، ثانياً: القبلية والقومية، ثالثاً: ظلم الولاة، رابعاً: ترك الجهاد، لكن كل هذا كانت له بذور في أواخر عهد القوة من عهد الولاة، بدأت هذه البذور أثناء وبعد موقعة بلاط الشهداء.
ولكي نفهم سبب ضعف الإمارة الأموية علينا أن ندرس الفترة الأخيرة من عهد القوة، ونبحث فيها عن بذور الضعف والأمراض التي أدت إلى هلكة أو ضعف الدولة الأموية في عهد الإمارة الثاني فبعد هذا الضعف الشديد، وهذه العوامل المتفاعلة، وهذه الفترة الطويلة نسبياً؛ (62) سنة من الضعف، نحلل الوضع في بلاد الأندلس في سنة (300)، أي: زمن انتهاء عهد الضعف أو أواخر عهد الضعف في بلاد الأندلس، فيما يلي: أولاً: وجود ثورات لا حصر لها في الأندلس؛ بل واستقلالات في كثير من المناطق، وأشهر هذه الاستقلالات استقلال صمويل أو عمر بن حفصون بجنوب الأندلس، حيث كون ما يشبه الدويلة في هذه الرقعة من بلاد الأندلس، وضم إليه الكثير من الحصون، حتى ضم إليه كل حصون إستجّة وجيان، التي كانت من أحصن المناطق الأندلسية على الإطلاق، وصارت غرناطة في حوزة عمر بن حفصون، واتخذ له عاصمة سماها ببشتر في الجنوب بجوار ألمارية على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
ثانياً: الثورة الثانية الكبيرة في أشبيلية أثارها رجل اسمه ابن حجاج، وهذه الثورة كانت تمد وتساعد عمر بن حفصون أو صمويل في ثورته ضد قرطبة.
ثالثاً: ثورة في شرق الأندلس في منطقة بلنسية.
رابعاً: ثورة في منطقة سراقسطة في الشمال الشرقي، أدت إلى استقلال إمارة سراقسطة عن الإمارة الأموية في قرطبة، وثورة في غرب الأندلس يقودها رجل اسمه عبد الرحمن الزليقي، وثورة في طليطلة وهكذا.
وكل هذه الثورات أدت إلى أن الحكومة المركزية للإمارة الأموية لا تسيطر في كل بلاد الأندلس إلا على مدينة قرطبة وما حولها من بعض القرى، وهكذا انفرط العقد تماماً في سنة 300 من الهجرة، وتوزعت البلاد بين كثير من القواد، كل يحارب الآخر، وكل يبغي ملكاً ومالاً ودنيا.
خامساً: أنه في الشمال تكونت مملكة نصرانية ثالثة بالإضافة إلى مملكة ليون التي تكونت لما ضعف المسلمون في عهد الولاة الثاني، وكانت نواتها هي منطقة الصخرة التي لم تفتح لـ موسى بن نصير ومن معه في بدء الفتح، كانت مملكة ليون في الشمال الغربي من البلاد، وتكونت مملكة صغيرة اسمها مملكة أراجون في عهد الحكم بن هشام الذي تميز بالظلم فحدثت له هزائم، وكانت مملكة أراجون في الشمال الشرقي للبلاد، وعاصمتها برشلونة.
وتكونت إمارة ثالثة انفصلت عن مملكة ليون وهي: إمارة نافار، وفي بعض الكتب العربية تكتب نبارة، وهي الآن ما يعرف في أسبانيا بإقليم الباسك الذي فيه خلافات كثيرة، ومحاولة الانشقاق عن أسبانيا الآن.
هذه الثلاث الممالك النصرانية اجترأت كثيراً على البلاد الإسلامية، فقد كانت تخاف المسلمين في عهد الإمارة الأموية الأول، أما بعد ذلك فقد بدأت تهاجم شمال الأندلس، وبدأت تسيطر على بعض البلاد الإسلامية، بل وبدأت تقتل من المسلمين المدنيين في هذه المدن الشمالية في بلاد الأندلس.
سادساً: أن ولي العهد للأمير الذي كان يحكم البلاد في ذلك الوقت قد قتل؛ واسم الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط، واسم ولي العهد المقتول هو محمد بن عبد الله قتله أخوه المطرف بن عبد الله، فعندما يتفرق المسلمون وينشغلون بدنياهم، وبالأغاني والطرب، وبأنفسهم هكذا تكون العاقبة، فقد قتل ولي العهد، وأصبح الوضع في منتهى الخطورة؛ ثورات في الداخل، وحكومات نصرانية في الشمال تهجم على المسلمين، وليس للبلاد ولي عهد، وزاد الأمور خطورة بظهور دولة جديدة في بلاد المغرب كانت من أشد الدول خطورة على بلاد الأندلس، وهي الدولة الفاطمية أو المسماة بالدولة العبيدية؛ التي ظهرت في سنة (296) من الهجرة، يعني: قبل سنة (300) بأربع سنوات فقط، ظهرت هذه الدولة في بلاد المغرب العربي وكانت دولة شيعية خبيثة جداً.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(37) الخلافة الأموية
الرد على من يقول: إن أمر الدولة الأموية بالجهاد كان تجنباً للثورات والانقلابات الداخلية:
نفتح سوياً صفحة جديدة في هذا التاريخ الطويل، وقبل أن ندخل في هذه الحلقة فإن بعض الإخوة اشتكوا من كثرة المعلومات في الدروس السابقة، وتلاحق الأسماء والتواريخ، فهذه دراسة لثمانمائة سنة من تاريخ الأمة الإسلامية، والحق أنك تحتاج إلى سماع الحلقة أكثر من مرة لاستنباط الدروس، وقد لا نقف أحياناً على بعض الدروس في بعض المواقف، ويترك للأفراد الاستفادة منها بقدر حاجتهم، فعلى سبيل المثال: صفات عبد الرحمن الداخل؛ فلو جلست مع نفسك أياماً ما استطعت أن تكفيه حقه، ولا أن تدرس صفاته دراسة كافية وافية.
فبعض الأسئلة جاءت بخصوص الحلقات السابقة.
فمنها هذا السؤال وهو: ما زال يعتقد أن الصوائف -وهي خروج الدولة الأموية للجهاد في سبيل الله كل صيف، كانت سواء في فترة الشام أو في فترة حكمهم لبلاد الأندلس، لم تكن إلا لإخراج الشباب من البلاد إلى الثغور وذلك لإفراغ الشحنات، وبذلك يتجنبون الثورات والانقلابات والتمرد في داخل البلاد، فهل هذا حقيقي وصحيح؟ أولاً: الرد على هذا السؤال هو أنني حزنت حزناً شديداً، أن أرى هذا الفهم لفتوحات الدولة الأموية الكثيرة، بأن يقلب كل حسن إلى قبيح، وكل خير إلى شر، فلماذا الطعن في فتوحات بني أمية، وأياديهم البيضاء على المسلمين لا تنقطع؟ ماذا كان سيقع لو أن بني أمية لم يدخلوا إلى ليبيا أو تونس أو الجزائر أو المغرب أو جمهوريات الاتحاد السوفييتي الإسلامية جميعاً؛ أوزباكستان وكازاخستان والشيشان وأذربيجان وأفغانستان والهند وغيرها من البلاد التي ظلت تحكم بالإسلام قروناً طويلة بفضل هذا الدخول؟
ولماذا الطعن في الأمثلة الجميلة والصور الرائعة، كـ موسى بن نصير، والقول بأنه ما ذهب إلى بلاد الأندلس بجيشه إلا غيرة من طارق بن زياد رحمه الله؟
ولماذا الطعن في عبد الرحمن الداخل، والقول بأنه لم يذهب إلى الأندلس إلا طلباً للملك وللسيادة والسلطان؟ ولماذا تشويه هذه الصور للشباب، وهي صور قلما تتكرر في تاريخ الأمم؟
ثانياً: أن المستشرقين ومن على شاكلتهم من أبناء المسلمين يقيسون التاريخ الماضي بأفكار الحاضر، فقد رأوا في هذه الآونة أن السياسة لا تستغني عن الغش والخداع والغدر والرشوة والمؤامرة والمكيدة، والعلمانيون لا يتخيلون أبداً أن يبذل الإنسان نفسه وماله وجهده ووقته من أجل الآخرين، أو من أجل شيء غير منظور، كالجنة مثلاً، لذلك من المستحيل عليهم أن يفهموا هذه النماذج الطاهرة، التي ما تكررت إلا في التاريخ الإسلامي فقط.
ثالثاً: هناك سنة من سنن الله الثوابت، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، فلو كان سعي بني أمية كله في هذه الفتوح لمجرد إلهاء الشعوب عن الملك، وإلهاء الشباب عن الثورات والمؤامرات، وليس في نواياهم الجهاد والدعوة وحب الإسلام، أكان يصلحه الله؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً»؛ فقد علمنا انهزام المسلمين عند الأخطاء القلبية، فقد هزم المسلمون في أحد لخطأ قلبي، قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، وهزم المسلمون في حنين لخطأ قلبي أيضاً، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]، وهذا على كرامة هذا الجيش من وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، فإذا حقق الأمويون هذا النصر الراسخ لقرون خلت، أليس هذا دليلاً على خيريتهم؟ هل اطلع هؤلاء الطاعنون على قلوبهم، فوجدوا فيها خبثاً، قال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148].
رابعاً: ليس معنى هذا أنه لا توجد في بني أمية أخطاء أبداً، بل يجب أن نشير إلى أخطائهم، ولكن في حجمها، وقد أشرنا في الدروس السابقة إلى أخطاء ملموسة في عهد الإمارة الأموية، أدت إلى ظهور عهد الضعف في الإمارة الأموية، وستظهر أخطاء أخرى، وقد تكون جسيمة وتؤدي إلى هلكة، وإلا لاستمر بنو أمية إلى هذه الآونة، لكن من سنن الله سبحانه وتعالى أنه من أفسد يهلك، فمن عدم الإنصاف أن ننظر بعين واحدة إلى الأخطاء ولو قلت، ونهمل الحسنات ولو تعاظمت.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(38) موقف الشرع من الفن الغنائي
هذا سؤال بخصوص قصة زرياب وأثره على المجتمع الأندلسي؟
إن الفن ليس حراماً مطلقاً كما أنه ليس حلالاً مطلقاً، بل هناك شروط إن لم تتوافر في الفن أصبح حراماً، فالله سبحانه وتعالى ذكر في أواخر سورة الشعراء وهو يستثني الشعر الحلال من الحرام، يقول سبحانه وتعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226].
ثم يستثني سبحانه وتعالى فيقول: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227].
فالاستثناء ألا يتعارض العمل الأدبي شعراً كان أو غيره مع الإيمان والعمل الصالح، حتى لو وصل هذا الأدب أو هذا العلم أو هذا الشعر إلى أرقى جوائز الأدب في العالم، فإن كان يعارض الشرع والإيمان والعمل الصالح فإن الله سبحانه وتعالى سيحبطه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81].
أما الاستثناء الثاني: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في نفس الآية أيضاً: {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء:227]، فلا يلهي هذا العمل الأدبي صاحبه أبداً عن ذكر الله في كل أحواله؛ لأن الأصل هو ذكر الله، والفرع هو قول الشعر أو ما شابهه من أعمال الفن الجائز.
ثم يكمل سبحانه وتعالى فيقول: {وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227]، أي: أن يستخدم شعره وأدبه في الدفاع عن الإسلام والنفس والوطن، وتحسين الصورة للشرق والغرب، ودفع الشبهات وغيرها.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(39) فترة ضعف الإمارة الأموية في الأندلس
حال الحكام في فترة ضعف الإمارة الأموية في الأندلس
هذا سؤال أخير عن طبيعة الحكام في فترة الضعف في عهد الإمارة الأموية في الأندلس والتي استمرت من (238هـ - 300هـ)؟
الجواب
أن الأمراء الذين حكموا في هذه الفترة ثلاثة وهم: محمد بن عبد الرحمن الأوسط، والمنذر بن محمد وعبد الله بن محمد، فقد كان محمد بن عبد الرحمن الأوسط عاقلاً رزيناً مجاهداً، خفف الأعباء المالية عن الناس واهتم بالعلماء، أما المنذر بن محمد فقد كان فارساً شجاعاً وقائداً متميزاً، ولم يحكم إلا سنتين فقط، ثم مات وهو في حصار إحدى حركات التمرد، أما عبد الله بن محمد فإنه كان متقشفاً عادلاً رحيماً محباً للناس ينظر في المظالم بنفسه.
إذاً: كان الأمراء على درجة عالية جداً من التقوى والعدل والرحمة والجهاد، ومع ذلك ضعفت الأمة، والملحوظة الغريبة أنه يسأل: لم لم تسقط الأمة في عهد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الذي تميز في معظم فترات حياته بالظلم والقسوة، ولكنها سقطت في عهد هؤلاء الذين تميزوا بالتقوى والعدل والرحمة والجهاد؟
ولتبرير هذا التباين أرى بعض الأمور، وقد يكون هناك تبريرات كثيرة جداً، لكن أكتفي باستنتاجين: الأول: أن هؤلاء الأمراء كانوا يتصفون بضعف القيادة، وسوء الإدارة باستثناء المنذر بن محمد، بينما تميز الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل -على الرغم من ظلمه- بحسن الإدارة وقوة الشخصية.
إذاً: القائد لا بد أن تجتمع له مع التقوى الكفاءة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع المهام على أصحابه، كان يعطي هذا قيادة الجيوش، وهذا قراءة القرآن، وهذا الأذان، وهذا إمامة الصلاة، وهكذا كان يوزع عليهم الأمور بحسب كفاءتهم وقدرتهم على العمل، مع أن الجميع من الأتقياء.
إذاً: الكفاءة مطلوبة مع التقوى.
الثاني وهو هام جداً: أن الشعب في عهد الحكم بن هشام كان قد ربي على أعلى درجات التربية، وذلك في عهد عبد الرحمن الداخل رحمه الله، وفي عهد ابنه هشام بن عبد الرحمن الداخل الذي شبهوه بـ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، فلم تسقط الإمارة في عهد الحكم بن هشام، بل إنه قد تاب من ظلمه في آخر عامين من حياته تأثراً بشعبه الذي كان غالبه على التقوى.
بينما الشعب في عهد الضعف كان شعباً متراخياً، ربي على الدعة والخنوع والطرب والمال وحب الدنيا وكثرة الغنائم وما إلى ذلك، فحتى إن تولى الصالحون فإن الأمة ستسقط، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث».
والخبث كثر في عهد الإمارة الأموية الثاني، حتى أصبح عموم الشعب من الخبثاء، ومن محبي الدنيا والدعة والخنوع، وهذا يبين دور تربية الشعوب على حب الله سبحانه وتعالى، وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(40) ما كانت عليه الإمارة الأموية سنة 300هـ
أما ما كانت عليه الإمارة الأموية في فترة الضعف سنة (300هـ)، فكان كما يلي:
أولاً: وجود حركات تمرد في معظم مناطق الأندلس؛ كان من أشهرها حركة عمر بن حفصون أو صمويل بن حفصون الذي تنصر في سنة (286هـ).
ثانياً: الحكومة الأموية المركزية لا تملك إلا قرطبة فقط، وما حولها من القرى، وهذا يمثل تقريباً أقل من عشر مساحة الأندلس في ذلك الوقت.
ثالثاً: شمال الأندلس كانت به ثلاث ممالك نصرانية: أراجون، ونافار، وليون، وأكبرها مملكة ليون، وكانت هذه الممالك قد بدأت تجترئ على الحدود الشمالية الأندلسية وتهجم عليها، بل واحتلت بعض المدن الإسلامية في الشمال، مثل: مدينة سالم.
رابعاً: أن الأمير عبد الله بن محمد وهو آخر الأمراء كان قد مات في سنة ثلاثمائة من الهجرة، وابنه الأكبر محمد الذي كان مرشحاً للخلافة كان قد قتل، وخلف وراءه طفلاً عمره ثلاثة أسابيع فقط.
خامساً: الدولة العبيدية الشيعية المسماة بالفاطمية ظهرت وبقوة في المغرب، فقد بدأ ظهورها في عام (296هـ) وهي تؤيد عمر بن حفصون وتدعمه بالسلاح عن طريق مضيق جبل طارق.
سادساً: روح سلبية رهيبة تستولي على الناس في كل ربوع الأندلس، أنه لا أمل في الإصلاح.
سابعاً: الأمر في بلاد العالم الإسلامي لا يختلف كثيراً عن الأحوال في بلاد الأندلس، فقد تمزق العالم الإسلامي إلى دويلات كثيرة متفرقة.
في هذا الجو المليء بالفتن، وهذه التركة المثقلة بالهموم حدث أمر غريب ولكنه متوقع، فقد زهد جميع أبناء عبد الله بن محمد المرشحين للخلافة عن الحكم، لأن الحكم تركة مثقلة بالهموم، ولا يصلح فيهم أحد لهذا الأمر، فقدموا حفيد عبد الله بن محمد، حفيد الأمير الأخير عبد الله بن محمد، وهو ابن القتيل محمد بن عبد الله، الذي قتل منذ اثنتين وعشرين سنة، وهذا الحفيد هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط رحمه الله، وكان يبلغ من العمر في ذلك الوقت اثنين وعشرين عاماً فقط، وهو الذي عرف في التاريخ باسم عبد الرحمن الناصر.
يقوم عبد الرحمن الناصر بأمر الإمارة، فإذا به يغير الضعف إلى قوة، والذل إلى عزة، والفرقة إلى وحدة، والهوان إلى مجد وسيادة وسلطان، وهي خطوات بحق لا بد أن تدرس بعناية.
فهذا الرجل لو كان في زماننا لكان في السنة الرابعة في الجامعة على أقصى تقدير، فقد كانت طاقة الشباب لديهم كبيرة جداً، وأحياناً قد يبخس الشباب نفسه، أو يبخس المجتمع، وسبحان الله! فإن الإسلام دين عجيب، وهذه الأمة أمة ولادة، فإن موسى بن نصير فتح الأندلس وهو في الخامسة والسبعين من عمره، ومع ذلك كانت له روح الشباب في هذا السن المتقدم.
أما الشاب عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فقد ضم إلى فورة الشباب حكمة الشيوخ، رحمه الله وأكثر من أمثاله.
-
رد: الأندلس من الفتح إلى السقوط
(41) **خطوات عبد الرحمن الناصر في الإصلاح
**سياسة الناصر في القضاء على المتمردين حوله وممالك النصارى
كان الموقف في عهد عبد الرحمن الناصر كما يلي:
أولاً: أصبحت قوة عبد الرحمن الناصر رحمه الله تضم قرطبة وإشبيلية وجيان وإستجة وهي جميعاً مدن الجنوب، بالإضافة إلى حصون مجاورة كثيرة، وهذا يمثل حوالي سدس الأندلس الإسلامية في ذلك الوقت.
ثانياً: أن صمويل بن حفصون ما زال يملك حصوناً كثيرة، ويسيطر سيطرة كبيرة على الجنوب الشرقي من البلاد، لكن قطعت عنه الإمدادات الخارجية سواء من النصارى أو الدولة الفاطمية أو إشبيلية.
ثالثاً: هناك تمرد في طليطلة وهي توجد في شمال قرطبة.
رابعاً: هناك تمرد في سرقسطة في الشمال الشرقي.
خامساً: هناك تمرد في شرق الأندلس ومقره بلنسية.
سادساً: هناك تمرد في غرب الأندلس يقوده عبد الرحمن الجليقي.
إذاً: الأندلس في سنة (٣٠٢هـ) كانت مقسمة إلى ستة أقسام: قسم واحد في يد عبد الرحمن الناصر ويشمل قرطبة وإشبيلية وما حولها، وخمسة أقسام موزعة على خمسة من المتمردين.
إذاً: المتوقع من عبد الرحمن الناصر رحمه الله أن يقاوم من جديد إحدى هذه التمردات من حوله، لكنه يفاجئنا ويفاجئ الجميع بأمر يجعل الواحد منا يقف فاغراً فاه لهذا الرجل المعجزة عبد الرحمن الناصر رحمه الله.
يترك عبد الرحمن الناصر كل هذه المؤامرات، ويتجه إلى الشمال الغربي، ليقاتل قوات النصارى في مملكة ليون التي هجمت على منطقة من مناطق المتمردين في غرب الأندلس، فيحاربهم لمدة سنتين كاملتين في أرض المتمردين.
ثم بعد أن ينتصر عليهم انتصارات كبيرة ويعود محملاً بالغنائم يترك البلاد ويعود إلى قرطبة وإشبيلية، وكأنه يعلم الناس أمراً في منتهى الوضوح، لكنه كان قد خفي عنهم، وهو أن العدو الحقيقي هم النصارى في الشمال وليست الأعداء من داخل المسلمين، وبهذا الفعل أحرج عبد الرحمن الناصر المتمردين إحراجاً كبيراً أمام شعوبهم، وحرك العاطفة في قلوب الشعوب نحوه، وكذلك تتحرك عواطف الشعوب تجاه من يدافع عن قضاياها الخارجية، ومن يقاتل أعداءها الحقيقيين.
هي نصيحة لكل المسلمين أن يوجهوا الشعوب إلى الأعداء الحقيقيين، بدلاً من تصارع كل قطرين مسلمين على الحدود بينهما، فنركز على قضية فلسطين، أو الشيشان، أو كشمير أو البوسنة أو كوسوفا أو غيرها من قضايا المسلمين الحقيقية.
وقد أتم عبد الرحمن الناصر رحمه الله في هاتين السنتين انتصارات عديدة بجيشه القليل نسبياً، فقد كان معه العلماء والمجاهدون يرغبون الناس في الجنة، والموت في سبيل الله.
وانتهت هذه الحملات بحملة في سنة (٣٠٤هـ)، وهي من أكبر الحملات التي قادها رحمه الله على النصارى، وعاد محملاً بغنائم كثيرة.
وحدث بعد عودته إلى قرطبة وإشبيلية أن انضمت سرقسطة بدون قتال إلى عبد الرحمن الناصر، وهذه هدية من الله لمن جاهد وثبت على دينه، ثم هدية أخرى من رب العالمين سبحانه وتعالى في سنة (٣٠٦هـ) وهي موت صمويل بن حفصون على نصرانيته مرتداً وقد بلغ من العمر ستاً وستين سنة، فيستغل عبد الرحمن الناصر الموقف ويضم إليه كل مناطق الجنوب الشرقي، واستتاب النصارى الذين انقلبوا من الإسلام إلى النصرانية لمدة ثلاثة أيام، فمن قبل منهم الإسلام قبله في جيشه، ومن أبى إلا أن يبقى على نصرانيته قتله ردة، وكان من بين هؤلاء ابنة عمر بن حفصون والتي كانت تحفز الناس على ألا يتركوا دين النصرانية، فقتلها ردة.
وفي سنة (٣٠٨هـ) تحرك عبد الرحمن الناصر إلى طليطلة، وما استطاع التمرد الذي كان فيها أن يقف أمام هذه القوة الإسلامية الجارفة فضمها إليه بسهولة، وكان عمره آنذاك ثلاثين سنة فقط.
وأصبح الطريق آمناً للشمال الشرقي والذي به سرقسطة، فضم طليطلة للمسلمين، ثم وجه حملة ضخمة جداً للنصارى، تعرف بغزوة موبش الكبرى في سنة (٣٠٨هـ)، ضد جيوش ليون ونافار المجتمعة، واستمرت الغزوة ثلاثة شهور كاملة وعبد الرحمن الناصر رحمه الله على رأس الجيوش، فتحققت انتصارات ضخمة وغنائم عظيمة، وضم إليه مدينة سالم والتي كان قد سيطر عليها النصارى من قبل.
وفي سنة (٣١٢هـ) قاد عبد الرحمن الناصر حملة ضخمة أخرى بنفسه على مملكة نافار، واستطاع في أيام معدودات أن يكتسحها اكتساحاً، وضم إلى أملاك المسلمين مدينة دندلونة عاصمة نافار، وبدأ رحمه الله يحرر الأراضي التي أخذها النصارى في عهد ضعف الإمارة الأموية.
وفي سنة (٣١٦هـ) قاد حملة على شرق الأندلس، وقمع التمرد الذي كان هناك، وضمها إلى أملاكه.
ثم في نفس العام قاد حملة على غرب الأندلس فهزم عبد الرحمن الجليقي، وضمها إلى أملاكه من جديد، وبذلك وحد الأندلس كلها تحت راية واحدة بعد ست عشرة سنة من الكفاح المضني، ولم يبلغ من العمر إلا ثمانية وثلاثين سنة فقط.
نظر إلى العالم الإسلامي من حوله، فوجد الخلافة العباسية قد ضعفت