-
التتار من البداية إلى عين جالوت
(1) أوجه التشابه بين الأحداث أيام التتار والأحداث التي نعيشها
بين أيدينا حدث من الأحداث الهامة جداً في تاريخ المسلمين، بل وفي تاريخ الأرض بصفة عامة، وهو حدث ظهور قوة جديدة رهيبة على سطح الأرض في القرن السابع الهجري، وقد أدى ظهور هذه القوة إلى تغييرات هائلة في الدنيا بصفة عامة، وفي أرض الإسلام بصفة خاصة، تلك القوة هي دولة التتار.
والقصة عجيبة بكل المقاييس، ولولا أنها موثقة في كل المصادر، وبصورة تكاد تكون متطابقة أحياناً، لقلنا: إنها خيال، بل وأغرب من الخيال؛ لأن التغيير فيها من ضعف إلى قوة ومن قوة إلى ضعف لم يأخذ إلا وقتاً يسيراً جداً، فما هي إلا أعوام قليلة ويغير الله عز وجل من حال إلى حال، ويعز الله عز وجل دولة ويذل أخرى، ثم تمر أعوام أخرى قليلة جداً في عرف الناس والتاريخ، فيذل الله عز وجل الأولى ويعز الأخرى، وهكذا يعز الله من يشاء ويذل من يشاء، بيده الملك، وهو على كل شيء قدير.
والقصة عجيبة للمبالغة الشديدة في أحداثها، ففيها مبالغة في الأرقام، وأعداد القتلى، والجيوش، والخيانات وغيرها من الأحداث.
والقصة عجيبة لشدة التطابق بينها وبين ما نعيشه الآن في واقعنا، وكأن الله عز وجل أراد أن يوضح لنا حقيقة ثبات السنن، وتكرار التاريخ، فجعل الأحداث التي تمر بها أمتنا في القرن الخامس عشر الهجري، تتطابق مع نفس الأحداث التي مرت بها أمتنا في القرن السابع الهجري، ثمانية قرون مضت، ومع ذلك تتطابق الأحداث.
وإذا بحثنا في التاريخ فسنجد أحداثاً أخرى كثيرة تتطابق مع نفس الأحداث التي تمر الأمة بها الآن.
وقد وقع اختياري على هذا الحديث بالذات؛ لأنه كان في نفس المنطقة التي تدور فيها بأمتنا أحداث هامة جداً في هذا الوقت الذي نعيشه الآن، ففي وقتنا هذا تدور الأحداث في أفغانستان، وأوزباكستان، والعراق، وفلسطين، وإيران وغيرها من بلاد العالم الإسلامي، وبهذا التطابق يستطيع القارئ لأحداث التتار والمتابع والمدقق والمحلل لها أن يربط بسهولة بين التاريخ وبين الواقع، ويستطيع أيضاً أن يستقرئ سنن الله عز وجل في أرضه وفي خلقه.
وليس الغرض من هذه المحاضرات هو الدخول في كل تفصيل، والبحث عن كل موقف، فهذا يطول جداً، فنحن هنا سنمر على الأحداث في عجالة؛ لنبحث فيها عن مواطن العبرة، وأوجه الشبه بينها وبين زماننا المعاصر، ونحلل بسرعة أسباب الهزيمة وأسباب النصر، ومن أراد أن يستزيد فليعد إلى المراجع الكثيرة العظيمة التي تزخر بها المكتبة الإسلامية.
والله أسأل أن ينفعنا بكل كلمة وحرف من هذه القصة العجيبة.
-
رد:التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
حالة الأمة الإسلامية وقت ظهور التتار (2)
عند تحليل كل قوة من هاتين القوتين نجد أن مساحة أمة الإسلام في ذلك الوقت تقترب من نصف مساحة الدنيا،
فحدود البلاد الإسلامية كانت تبدأ من غرب الصين، وتمتد عبر آسيا وأفريقيا لتصل إلى غرب أوروبا وبلاد الأندلس، فقد كانت مساحتها شاسعة للغاية، ولكن للأسف الشديد كان وضع العالم الإسلامي في ذلك الوقت مؤسفاً جداً، فمع المساحات الواسعة من الأرض، والأعداد الهائلة من البشر، والإمكانيات العظيمة جداً من المال والمواد والسلاح والعلوم إلا أن الفرقة كانت شديدة جداً في العالم الإسلامي، والحالة السياسية لمعظم الأقطار الإسلامية متدهورة تدهوراً كبيراً، والغريب أن هذا الوضع المؤسف كان بعد سنوات قليلة من أواخر القرن السادس الهجري ما بين (20) إلى (30) سنة حيث كانت أمة الإسلام قوية ومنتصرة ومتوحدة ورائدة، ولكن سنة الله الماضية، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
وقد كان العالم الإسلامي في ذلك الوقت عبارة عن كيانات متفرقة: الكيان الأول: كان كياناً كبيراً جداً، ولكنه للأسف الشديد كان ضعيفاً جداً في أوائل القرن السابع الهجري، وهذا الكيان هو الخلافة العباسية.
والخلافة العباسية خلافة قديمة جداً، فقد نشأت بعد سقوط الدولة الأموية سنة (132هـ)، أي: أن عمرها إلى أوائل القرن السابع الهجري (500) سنة تقريباً، وكانت تتخذ من بغداد عاصمة لها، ثم ضعفت الخلافة العباسية جداً في أوائل القرن السابع الهجري، حتى أصبحت لا تسيطر حقيقة إلا على وسط العراق وجنوبه، وكان حول العراق عشرات الإمارات المستقلة استقلالاً حقيقياً عن دولة الخلافة، وإن كانت لا تعلن نفسها كخلافة منافسة للخلافة العباسية، وكانت الخلافة العباسية في ذلك الزمن مجرد صورة خلافة، وليست خلافة حقيقية.
ولكي نفهم معنى خلافة عباسية في ذلك الوقت، فلننظر إلى واقع بريطانيا الآن، فالإنجليز الآن يبقون على ملكتهم كرمز تاريخي فقط، وإلا فهي ليس لها دور يذكر في الحكم، وكذلك أبقى المسلمون في ذلك الزمن على الخليفة العباسي كرمز للمسلمين، وللخلافة العباسية العريقة التي حكمت العالم الإسلامي (500) عام، مع أن الخليفة العباسي كان يحكم وسط وجنوب العراق فقط.
وكان يتعاقب على الخلافة العباسية في العراق خلفاء من بني العباس حملوا هذا الاسم العظيم الجليل: (الخليفة)، ولكنهم في هذه الفترة ما اتصفوا أبداً بهذا الاسم، ولا حتى رغبوا في الاتصاف به، إذ لم يكن همهم إلا جمع المال وتوطيد أركان السلطان في هذه الرقعة المحدودة جداً من الأرض، ولم ينظروا نظرة صحيحة أبداً إلى وظيفتهم كحكام، ولم يدركوا أن من مسئولية الحاكم أن يوفر الأمان لدولته، ويقوي جيشها، ويرفع مستوى المعيشة لأفراد شعبه، ويحكم في المظالم، ويرد الحقوق لأصحابها، ويجير المظلومين، ويعاقب الظالمين، ويقيم حكم الله عز وجل في العباد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدافع عن كل ما يتعلق بالإسلام، ويوحد الصفوف والقلوب، فهم لم يدركوا أبداً هذه المهام الجليلة للحاكم المسلم،
وكان كل ما يريدونه هو الاستمرار أطول فترة ممكنة في الحكم، ثم توريثه لأبنائهم، وتمكين أفراد عائلتهم من رقاب الناس، وكذلك كانوا يحرصون على جمع الأموال الكثيرة، والتحف النادرة، وإقامة الحفلات الساهرة، وسماع الأغاني والموسيقى واللهو والطرب، فحياة الحكام في هذه الفترة كانت حياة لا تصلح أن تكون حياة لفرد من عوام أمة الإسلام، فضلاً عن أن تكون حياة حاكم لأمة الإسلام، فقد ضاعت هيبة الخلافة، وتضاءلت طموحات الخليفة.
هذه هي حالة الخلافة العباسية في أوائل القرن السابع الهجري، كانت تحكم نصف العراق أو ثلثه تقريباً.
الكيان الثاني من العالم الإسلامي: كان متمثلاً في مصر والشام والحجاز واليمن، وقد كانت هذه الأقاليم في أوائل القرن السابع الهجري في أيدي الأيوبيين أحفاد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله،
ولكن للأسف الشديد هؤلاء الحكام الذين حكموا هذه الأقاليم، لم يكونوا أبداً على شاكلة هذا الرجل العظيم رحمه الله، بل تنازعوا الحكم، وقسموا الدولة الأيوبية الموحدة -التي هزمت الصليبيين في حطين هزيمة منكرة وفتحت بيت المقدس- إلى ممالك صغيرة متناحرة، فقد استقلت الشام عن مصر، وكذلك اليمن والحجاز، بل وانقسمت الشام إلى إمارات متعددة متحاربة،
فقد انفصلت حمص عن حلب ودمشق، وفلسطين عن الأردن، ثم ما لبثت الأراضي التي حررها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله من أيدي الصليبيين بعد جهد جهيد ودماء كثيرة أن تقع من جديد في أيدي الصليبيين، بعد هذه الفرقة الشنيعة بين المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الكيان الثالث: بلاد المغرب والأندلس، وقد كانت هذه البلاد في تلك الآونة تحت إمرة دولة الموحدين، وكانت هذه الدولة فيما سبق دولة قوية جداً، ومترامية الأطراف، فقد كانت تحكم من ليبيا شرقاً إلى المغرب غرباً، ومن الأندلس شمالاً إلى وسط إفريقيا جنوباً.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
حالة الصليبيين وقت ظهور التتار
القوة الثانية:
قوة الصليبيين، وكان مركزهم في ذلك الوقت في غرب أوروبا، وكان لهم هناك أكثر من معقل، وقد انشغل الأوربيون في ذلك الوقت بالحروب المستمرة مع المسلمين، فكان نصارى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا يقومون بالحملات الصليبية المتتالية المشهورة على بلاد الشام ومصر، وكان نصارى أسبانيا والبرتغال وكذلك فرنسا في حروب مستمرة مع المسلمين في الأندلس.
وبالإضافة إلى هذا التجمع الصليبي الضخم في غرب أوروبا، كانت هناك تجمعات صليبية أخرى في العالم، وكانت هذه التجمعات على درجة عالية جداً من الحقد على الأمة الإسلامية، ولم تنقطع الحروب بينها وبين الأمة الإسلامية أبداً.
وكان أشهر هذه التجمعات الإمبراطورية البيزنطية: الدولة الرومانية الشرقية، التي كانت تحكم شرق أوروبا، وكانت تقع في غرب الأناضول المسلم، ومع أن حروب الدولة البيزنطية كانت شرسة مع الدولة الإسلامية عبر تاريخها، إلا أنها في ذلك الوقت كانت قد وصلت إلى حالة من الضعف، لا تسمح لها بدخول الأراضي الإسلامية، كما أن الدولة الإسلامية في ذلك الوقت كانت ضعيفة ومفرقة.
وكذلك التجمع الصليبي الذي كان في مملكة أرمينيا، التي تقع في شمال فارس وغرب الأناضول، فقد كانت أيضاً في حروب مستمرة مع المسلمين السلاجقة الأتراك في منطقة الأناضول تركيا.
وكذلك التجمع الصليبي في مملكة الكورج -جورجيا الروسية الآن-، فقد كانت دولة نصرانية، وإن كان فيها بعض القبائل الوثنية تعيش في نفس المنطقة، ولم تتوقف الحروب بينها وبين أمة الإسلام، وبالذات مع الدولة الخوارزمية.
ومن التجمعات الصليبية تجمع خطير جداً، ومع أنه كان قليل الحجم، إلا أنه كان في عمق العالم الإسلامي، وهو الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين وتركيا، فقد كانت هذه الإمارات تحتل مناطق إسلامية في داخل هذه البلاد منذ أواخر القرن الخامس الهجري من سنة (491هـ)،
وعلى الرغم من انتصارات صلاح الدين الأيوبي رحمه الله على القوات الصليبية في حطين وبيت المقدس وغيرهما إلا أن هذه الإمارات كانت لا تزال باقية، بل ولا تزال من آن إلى آخر تعتدي على الأراضي الإسلامية المجاورة غير المحتلة، وكان أشهر هذه الإمارات الصليبية: أنطاكيا، وعكا، وطرابلس، وصيدا، وبيروت وغيرها.
وهكذا استمرت الحروب في كل بقاع العالم الإسلامي تقريباً، وزادت جداً ضغائن الصليبين على الإسلام، لكن كانت فترة نهاية القرن السادس الهجري سعيدة جداً على العالم الإسلامي، وتعيسة جداً على الصليبيين، ففي أواخر القرن السادس الهجري انتصر البطل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله في موقعة حطين بالشام،
وذلك في عام (583هـ)، وبعد ذلك بثمان سنوات فقط انتصر البطل الإسلامي الجليل المنصور الموحدي رحمه الله زعيم دولة الموحدين على نصارى الأندلس في موقعة الأرك الخالدة في سنة (591هـ)، وبالرغم من هذين الانتصارين العظيمين، إلا أن المسلمين في أوائل القرن السابع الهجري كانوا في حالة ضعف شديد، وكان الفارق بين زمان القوة والضعف عشرين سنة فقط.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
لمحة سريعة عن نشأة التتار (4)
ظهرت قوة جديدة ثالثة ناشئة قلبت الموازين تماماً على الأرض، فغيرت من خريطة العالم تماماً، وفرضت نفسها كقوة ثالثة في الأرض، أو كانت القوة الأولى في الأرض في النصف الأول من القرن السابع الهجري وبلا منازع، وهذه القوة هي قوة دولة التتار أو المغول.
ظهرت دولة التتار في عام (603هـ) -أي: في أوائل القرن السابع الهجري، ظهرت في منغوليا في شمال الصين، وكان أول زعمائها هو جنكيز خان، وجنكيز خان هذا ليس اسمه الحقيقي، وإنما يعني: قاهر العالم أو ملك ملوك العالم أو القوي، حسب الترجمات المختلفة للغة المنغولية، واسمه الأصلي تيموجين، وكان رجلاً سفاحاً سفاكاً للدماء، وقائداً عسكرياً شديد البأس، وله القدرة على تجميع الناس حوله،
فقد ظهر في منغوليا ثم بدأ في التوسع تدريجياً في المناطق المحيطة به، وسرعان ما اتسعت مملكته، حتى بلغت حدودها من كوريا شرقاً إلى حدود الدولة الخوارزمية الإسلامية غرباً، ومن سهول سيبيريا شمالاً إلى بحر الصين جنوباً، وفي غضون سنوات قليلة أصبح يِضم بين طياته دولة الصين بكاملها، والصين وحدها (9) مليون كيلو متر مربع تقريباً، فضم الصين ومنغوليا وفيتنام وكوريا وكمبوديا وتايلاند وأجزاء من سيبيريا.
واسم التتار والمغول يطلق على الأقوام الذين نشئوا في شمال الصين، في صحراء تسمى صحراء جوبي في منغوليا.
فالتتار هم أصل القبائل في هذه المنطقة، ومنهم جاءت قبائل أخرى كثيرة، منها: قبيلة المغول والترك والسلاجقة وغيرها من القبائل، وعندما سيطر جنكيز خان على هذه المنطقة أطلق اسم المغول على هذه القبائل كلها، وكان للتتار ديانة عجيبة جداً، خليطة من أديان مختلفة، فقد جمع جنكيز خان بعض الشرائع من الإسلام ومن المسيحية ومن البوذية، واخترع أشياء من عنده، ثم أخرج من عنده كتاباً جعله كالدستور للتتار، وسمى هذا الكتاب: الياسق أو الياسك أو الياسة، حسب التسميات المختلفة، فكان دستور دولة التتار ودينهم.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
السمات المميزة لحروب التتار مع غيرهم (5)
كانت حروب التتار مع غيرهم تتميز بصفات خاصة جداً:
أولاً: سرعة انتشار رهيبة.
ثانياً: أعداد ضخمة هائلة من البشر، وملايين من المقاتلين.
ثالثاً: نظام محكم وترتيب عجيب جداً.
رابعاً: تحمل للظروف قاسية، فهم يقاتلون في الحر والبرد والصحاري والأدغال وفي كل مكان.
خامساً: قيادة عسكرية بارعة جداً، وليس فقط جنكيز خان وإنما جميع القادة الذين تحته كانت لديهم قدرة قيادية فذة حقيقية.
سادساً: أنهم بلا قلب تماماً، فحروب التتار كانت حروب تخريب غير طبيعية، ومن السهل أن ترى في تاريخهم أنهم دخلوا مدينة كذا فدمروها وقتلوا كل سكانها، ولم يفرقوا في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، ولا بين ظالم ومظلوم، ولا بين مدني ومحارب، بل أبادوهم إبادة جماعية رهيبة، فقد كانت طباعهم دموية لا تصل إليها الحيوانات الشرسة، وكأن قصدهم إبادة العالم، فهم لا يقصدون الملك والمال، ولا يريدون من الدنيا شيئاً إلا أن يخربوها.
سابعاً: رفض قبول الآخر، وعدم قبول آخر يعيش بجانبهم، وإنما كان عندهم مبدأ القطب الواحد، ولا يقبلون التعامل مع الدول الأخرى المحيطة بهم، والغريب أنهم كانوا يتظاهرون دائماً بأنهم ما جاءوا إلى البلاد إلا ليقيموا الدين، ولينشروا العدل، وليخلصوا البلاد من الظالمين.
ثامناً: أنهم كانوا لا عهد لهم مطلقاً، ولا أيسر عندهم من نقض العهود وإخلاف المواثيق، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، وكانت هذه صفة أصيلة فيهم، لازمة لهم، لم يتخلوا عنها مطلقاً في أي مرحلة من مراحل دولتهم، منذ قيامها وإلى أن سقطت.
هذه هي السمات التي اتصف بها جيش التتار، وهي صفات تتكرر كثيراً في كل جيش لم يضع في حسبانه قوانين السماء وشريعة الله عز وجل، والذين يملكون القوة ويفتقرون إلى الدين لا بد أن يكونوا بهذه الصورة، وقد يتفاوتون في الجرائم والفظائع، ولكنهم في النهاية مجرمون،
فقد كانت حروب المرتدين قريباً من هذا، وكذلك حروب الفرس والرومان، وكذلك حروب الصليبيين في الشام ومصر والأندلس، ثم سار على طريقتهم بعد ذلك أتباعهم من المستعمرين من الأسبانيين والبرتغاليين والإنجليزيين والفرنسيين والطليان واليهود، ثم الأمريكيين، فكلهم شكل واحد، وقد يختلف الشكل الخارجي أحياناً، وتختلف الوجوه والأشكال، ولكن القلوب واحدة، فقد امتلأت حقداً وضغينة وشحناء وبغضاء على كل ما هو إسلامي، بل على كل ما هو حضاري، يقول الله عز وجل في حقهم: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53].
إذاً: القوى التي كانت موجودة على الساحة في أوائل القرن السابع الهجري كانت ثلاث قوى رئيسية: القوة الأولى: قوة الأمة الإسلامية، وهي قوة ذات تاريخ عظيم جداً، وأمجاد معروفة، ولكنها كانت تمر بفترة من فترات الضعف، وهذا الضعف وإن كان شديداً إلا أنه لم يسقط هيبتها تماماً؛ لأن أعداءها كانوا يعلمون أن أسباب النصر وعوامل القوة مزروعة في داخل هذه الأمة، وهي فقط تحتاج إلى من يستخرج هذه الأسباب وينميها.
القوة الثانية: قوة الصليبيين، وهم وإن كانوا أيضاً في حالة ضعف وتخلف علمي وحضاري شديدين بالمقارنة بالأمة الإسلامية، إلا أنهم كانوا قوة لا يستهان بها؛ لكثرة أعدادهم، وشدة حقدهم وإصرارهم على استكمال المعركة إلى النهاية مع المسلمين، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
فكانت قوة الإسلام وقوة الصليبيين تمثلان سوياً قوة العالم القديم في ذلك الوقت.
ثم ظهرت القوة الثالثة الجديدة: وهي قوة التتار، وكانت قوة همجية بشعة، فهي قوة بلا تاريخ، وبلا حضارة، فقد ظهرت فجأة وليس عندها مخزون ثقافي أو حضاري أو ديني يسمح لها بالتفوق على غيرها، فكان لا بد لها من الاعتماد على القوة الهمجية والحرب البربرية؛ لفرض سطوتها على من حولها.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تحالف قوى الكفر ضد الإسلام سنة ماضية (6)
من سنة الله عز وجل أن يحدث الصراع بين القوى المختلفة، ويحدث التدافع بين الفرق المتعددة.
ومن سنة الله عز وجل كذلك أن الأقوياء المفتقرين إلى الدين لا يقبلون أبداً بوجود الضعفاء إلى جوارهم، ولا يرحمونهم مطلقاً.
ومن سنة الله عز وجل أيضاً أن الباطل مهما تعددت صوره، فلا بد أن يجتمع لحرب الحق مهما كانت الأيدولوجيات والتوجهات مختلفة.
ومن سنة الله عز وجل كذلك أن الحرب بين الحق والباطل لا بد أن تستمر إلى يوم القيامة.
فإذا وضعنا كل هذه السنن في أذهاننا، فإننا يجب أن نتوقع تعاوناً بين التتار والصليبيين -على اختلاف توجهاتهم وسياساتهم ونظرياتهم- لحرب المسلمين، وهذا ما حدث بالضبط.
فقد أرسل الصليبيون وفداً رفيع المستوى من أوروبا إلى منغوليا -والمسافة بينهما مسافة تزيد على اثني عشر ألف كيلو متر ذهاباً فقط-؛ ليحفزوا التتار على غزو بلاد المسلمين، وإسقاط الخلافة العباسية، واقتحام بغداد درة العالم الإسلامي في ذلك الوقت،
فقد كان الصليبيون غير قادرين على دخول العالم الإسلامي، فقد كانوا ضعفاء حال خروجهم من معركة حطين ومعركة الأرك، ويريدون أن يدمروا أمة الإسلام، فنظروا إلى هذه القوة الجديدة الناشئة، فأرسلوا إليها، يعرضون عليها التعاون معها، وعظموا لهم جداً من شأن الخلافة الإسلامية، وذكروا لهم أنهم سيكونون عوناً لهم في بلاد المسلمين، وعيناً لهم هناك، وبذلك تم إغراء التتار إغراء كاملاً، وحدث ما توقعه الصليبيون، فقد سال لعاب التتار لأملاك الخلافة العباسية، وقرروا غزو هذه البلاد الواسعة الغنية جداً بثرواتها، والمليئة بالخيرات، هذا مع عدم توافق التتار مع الصليبيين في أمور كثيرة، حتى إنه دارت بينهم بعد ذلك حروب في أماكن متفرقة من العالم، فقد حارب التتار الصليبيين في كل مكان، ولكنهم عندما يواجهون أمة الإسلام، فإنهم يوحدون صفوفهم لحرب الإسلام والمسلمين.
وهذا الكلام ليس غريباً، بل هو من السنن الثابتة لأهل الباطل في حربهم على المسلمين، فقد تعاون قبل ذلك اليهود مع المشركين لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، مع الاختلاف الكبير جداً بين عقائد اليهود وعقائد المشركين، وتعاون بعدهم الفرس مع الرومان في حرب المسلمين، مع شدة الكراهية بين الدولتين الكبيرتين: فارس، والروم، ومع الثارات القديمة والخلافات المستمرة والحروب الطويلة بينهما، وتعاون أيضاً الإنجليز مع اليهود لإسقاط الخلافة العثمانية، واحتلال فلسطين، وزرع إسرائيل في داخل هذه الأرض المباركة، مع شدة العداء بين اليهود والنصارى، واليوم نرى التعاون بين الروس مع الأمريكان للقضاء على ما يسمونه بالإرهاب الإسلامي، فروسيا تسهل مهمة أمريكا في حروبها مع أفغانستان والعراق وفلسطين، وأمريكا تسهل مهمة روسيا في حربها ضد الشيشان، والضحية في الحالتين من المسلمين.
فاتحاد أهل الباطل في حربهم ضد المسلمين أمر متكرر، وسنة ماضية؛ ولأجل ذلك لا يستقيم أن يتعامل المسلمون بالمبدأ القائل: عدو عدوي صديقي.
بل لا بد أن يعرف المسلمون أعداءهم، وأن عدو عدوهم قد يكون أيضاً عدوهم، وقد يتحالف المسلمون أحياناً مع أعدائهم لهدف خاص، وإلى أجل معين، ولكن لا يصح أن يكون ذلك بتفريط في الدين، أو بتساهل في الحقوق، بل لا بد أن يكون بحذر كاف، وإلى أجل معلوم، ولا يصل الأمر إلى الولاء والصداقة ونسيان الحقائق التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حين قال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
والمهم في كل ذلك أن التتار بدءوا يفكرون جدياً في غزو بلاد العالم الإسلامي، ويخططون بحماسة لإسقاط الخلافة العباسية، ودخول بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية منذ خمسة قرون، فبدءوا في التفكير في التمركز في منطقة أفغانستان وأوزباكستان، وهذه الأحداث تتكرر اليوم بحذافيرها؛ لأن الله عز وجل يريد أن يرسخ في أذهاننا أن سننه سبحانه وتعالى ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
احتلال التتار لكازاخستان وبخارى (7)
أما جنكيز خان فقد جهز جيشه من جديد، واخترق إقليم كازاخستان -وكازاخستان دولة حجمها ثلاثة ملايين كيلو متر مربع تقريباً، يعني: ثلاثة أضعاف دولة مصر- وقطعه دون مقاومة تذكر، حتى وصل إلى مدينة بخارى -وهي الآن في دولة أوزباكستان، وهي بلدة الإمام الجليل والمحدث العظيم البخاري رحمه الله- فحاصرها سنة (316هـ)، ثم طلب من أهلها التسليم على أن يعطيهم الأمان، وكان محمد بن خوارزم شاه بعيداً عنها في ذلك الوقت، فقد كان يعيش في أورجندة -وهي تقع في دولة تركمانستان المسلمة الآن- فاحتار أهلها ماذا يفعلون، ثم ظهر رأيان:
الرأي الأول: قال أصحابه: نقاتل التتار وندافع عن مدينتنا.
الرأي الثاني: قال أصحابه: نأخذ الأمان ونفتح الأبواب للتتار؛ لتجنب القتل، وما أدرك هؤلاء أن التتار لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين: فريق من المجاهدين قرروا القتال واعتصموا بالقلعة في المدينة، وانضم إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها، وفريق آخر من المستسلمين -وهم الفريق الأعظم والأكبر في المدينة- قرروا فتح أبواب المدينة والاعتماد على أمان التتار، ففتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار، ودخل جنكيز خان إلى المدينة الكبيرة، وأعطى أهلها الأمان فعلاً في أول دخوله خديعة لهم؛ وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين في القلعة الكبيرة داخل المدينة،
وبدأ جنكيز خان في حصار القلعة، وأمر جنكيز خان أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة؛ ليسهل فتحها، فأطاعوه، ولا تستغربوا ذلك، فنحن نرى كثيراً من جيوش المسلمين يحاربون مع أعدائهم إخوانهم المسلمين، فحوصرت القلعة عشرة أيام، ثم فتحت عنوة، ولما دخلها جنكيز خان عليه لعنة الله قتل من فيها من المجاهدين جميعاً، ولم يبق فيها مجاهداً، وهنا بدأ جنكيز خان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضتها، واصطفى كل ذلك لنفسه، ثم أحل المدينة المسلمة لجنده، ففعلوا فيها ما لا يتخيله عقل.
يقول ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية مصوراً ما فعله التتار في بخارى: فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن، وارتكبوا الزنا مع البنت في حضرة أبيها، ومع الزوجة في حضرة زوجها، فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت المدينة تماماً، حتى صارت خاوية على عروشها.
انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: « نعم، إذا كثر الخبث».
والخبث كان قد كثر جداً في هذه البلاد.
فمن الخبث ألا يرفع المسلمون سيوفهم ليدافعوا عن دينهم وأرضهم وعرضهم.
ومن الخبث أن يصدق المسلمون بعهود الكافرين لهم.
ومن الخبث أن يسلم المسلمون من رفعوا راية الجهاد فيهم إلى عدوهم.
ومن الخبث أن يتفرق المسلمون ويتقاتلوا فيما بينهم.
ومن الخبث ألا يحتكم المسلمون إلى كتاب ربهم وإلى سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا كله من الخبث.
وإذا كثر الخبث فلا بد أن تحدث الهلكة، وصدق الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم.
وهكذا هلكت بخارى في سنة (616هـ).
هذه أول صفحات القصة، وبداية الطوفان والإعصار، وستكون صفحات القصة القادمة أشد سواداً وأكثر دماءً، وسيدخل المسلمون فيها أسوأ وأظلم السنوات التي مرت على تاريخ المسلمين منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، فماذا حدث في هذه السنة الرهيبة (617هـ)؟ وماذا فعل فيها التتار؟ وماذا فعل فيها المسلمون؟ وما هو مصير محمد بن خوارزم شاه الزعيم المسلم لدولة خوارزم الكبرى؟ وما هو مصير شعبه؟ وما هو مصير الدول الإسلامية المحيطة بدولة خوارزم؟ هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في الدرس القادم.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُون مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
هجوم التتار على الدولة الخوارزمية (8)
بدأ الإعصار التتاري الرهيب على بلاد العالم الإسلامي، وجاء جنكيز خان بجيشه الكبير في الهجمة التتارية الأولى لغزو مملكة خوارزم شاه، وخرج له محمد بن خوارزم شاه بجيشه أيضاً، وكان هذا في سنة (616هـ)، أي: بعد ثلاث عشرة سنة فقط من قيام دولة التتار- فدولة التتار بدأت في منغوليا في جزء صغير جداً منها سنة (603هـ)، ولم تأت سنة (616هـ) إلا وكانت قد احتلت تقريباً كل شرق آسيا،
ولم يبق غير الدولة الخوارزمية، والتقى جيش التتار مع جيش محمد بن خوارزم شاه في شرق الدولة الخوارزمية أو في غرب الصين، واستمرت الحرب أربعة أيام متصلة في شرق نهر سيحون، المعروف الآن باسم نهر سرداريا، والواقع في دولة كازاخستان المسلمة، فقتل من الفريقين خلق كثير، واستشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفاً، ومات من التتار أضعاف ذلك، ثم تحاجز الفريقان، وبعد أن تحاجز الفريقان انسحب محمد بن خوارزم شاه بعد أن وجد أن أعداد التتار هائلة،
ثم ذهب إلى تحصين المدن الكبرى في مملكته وبالذات العاصمة أورجندة، وانشغل بتجميع الجيوش من أطراف مملكته، وقد كان منفصلاً ومعادياً للخلافة العباسية في العراق، ولغيرها من الممالك الإسلامية، فلم يكن على وفاق مع الأتراك، ولا مع السلاجقة، ولا مع الغوريين في الهند، فقد كانت مملكته منعزلة عن بقية العالم الإسلامي، ووحيدة في مواجهة الغزو التتري المهول،
وهذه المملكة وإن كانت قوية وكبيرة، وثابتة في أول اللقاءات، إلا أنها لن تصمد بمفردها أمام الضربات التتارية المتوالية بلا شك.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
أسباب هزيمة المسلمين أمام التتار (9)
لم يكن سبب المأساة الإسلامية بعد ذلك في الأساس هذه القوة التترية وبأسها وعددها، وإنما كان بسبب الفرقة والتشتت والتشرذم بين ممالك المسلمين، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
فالفشل جعله الله عز وجل قريناً للتنازع، والمسلمون في ذلك الوقت كانوا في نزاع مستمر وخلاف دائم، وعندما كانت تحدث بعض فترات الهدنة في الحروب مع التتار، كان المسلمون يغيرون على بعضهم بعضاً، ويأسرون بعضهم بعضاً، ويقتلون بعضهم بعضاً، وقد علم يقيناً أن من كانت هذه صفتهم فلا يكتب لهم النصر أبداً.
فقد روى الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة» -يعني: لا يهلك أمة الإسلام بكاملها بقحط مثلاً- «وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم -يعني: لا يأتي عدو من أعداء أمة الإسلام فيستأصلها بكاملها، مهما كانت قوة هذا العدو- وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها»، -أي: إذا اجتمع أهل الأرض جميعاً لحرب أمة الإسلام، فلن يستأصلوها، هذا وعد من رب العالمين سبحانه وتعالى- ثم قال: حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً»
وكان المسلمون في تلك الفترة يهلك بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، فلا عجب إن غلبهم جيش التتار أو غيره.
وبالإضافة إلى داء الفرقة، فقد أخطأ محمد بن خوارزم خطأ واضحاً في الإعداد، وهو أنه مع اهتمامه بتحصين العاصمة أورجندة إلا أنه ترك كل المساحات الشرقية في دولته دون حماية كافية، فعلى الرغم من كونه قائداً محنكاً وعلى دراية بالحروب، إلا أنه وقع في مثل هذا الخطأ الساذج، فقد ترك كل الحدود الشرقية دون حماية، وهذا لم يكن خطأً تكتيكياً في المقام الأول، ولكنه كان خطأً قلبياً أخلاقياً في الأساس.
فقد اهتم محمد بن خوارزم الزعيم المسلم لدولة خوارزم بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه، والحفاظ على كنوزه وكنوز آبائه، وأهمل تماماً تأمين شعبه والحفاظ على مقدراته وأملاكه، وعادة ما يسقط أمثال هؤلاء القواد أمام الأزمات التي تعصف بأمتهم، بل وتسقط الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المقلوبة دون إصلاح.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
أسباب غزو التتار للدولة الخوارزمية (10)
فكر جنكيز خان بالذهاب إلى أفغانستان وأوزباكستان قبل الذهاب إلى العراق؛ لأن المسافة كبيرة بين الصين والعراق، ولا بد من وجود قواعد إمداد ثابتة للجيوش التترية في منطقة متوسطة بين العراق والصين، وهذه المنطقة تعرف اليوم بالقوقاز، وكانت غنية جداً بثرواتها الزراعية والاقتصادية في ذلك الوقت، والآن في القرن الخامس عشر الهجري ظهر فيها أيضاً البترول، حتى أصبحت من أغنى مناطق العالم بالبترول،
بل يقال: إن المخزون الذي فيها أعلى من المخزون الذي في الخليج، وكانت من حواضر الإسلام المشهورة، وكنوزها كثيرة، وأموالها وفيرة، هذا بالإضافة إلى أن جنكيز خان لا يستطيع تكتيكياً أو إستراتيجياً أن يحارب العراق وفي ظهره شعوب مسلمة قد تحاربه، أو تقطع عليه خطوط الإمداد، فمن أجل كل هذا فكر جنكيز خان أولاً خوض حروب متتالية مع المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية، والتي تعرف بالدولة الخوارزمية، فقد كانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية، ولا مانع عندهم من نقض العهد وتمزيق كل الاتفاقيات السابقة، وهي سنة في أهل الباطل، قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100].
وحتى تكون الحرب مقنعة لكلا الطرفين، فلا بد من وجود سبب يدعو إلى الحرب، فهو الآن في حالة اتفاق، ويريد أن يدعي أن الاتفاقيات بين الدولتين لم تعد سارية، فبحث جنكيز خان عن سبب مناسب فلم يجد، ثم حدث أمر مفاجئ يصلح أن يكون سبباً مقنعاً للحرب، ولم يكن هذا السبب من إعداد جنكيز خان، ولكن لا مانع من استغلاله، وتقديم بعض الخطوات في خطة الحرب، وتأخير خطوات أخرى، فهو في كل الأحوال سيدخل أرض المسلمين وينقض العهد معهم، وليس في ذلك خلاف، ولكنه يريد سبباً منطقياً أمام المسلمين والتتار والعالم أجمع.
وكان هذا الأمر أن مجموعة من تجار المغول ذهبوا إلى مدينة أوترار الإسلامية في شرق مملكة خوارزم شاه، وفي حدود الدولة التترية، فأمسكهم حاكم المدينة المسلم وقتلهم، وقد اختلف المؤرخون في سبب قتلهم.
فمنهم من يقول: إنهم كانوا جواسيس أرسلهم جنكيز خان للتجسس على الدولة الإسلامية واستفزازها.
ومنهم من يقول: إن هذا كان عمداً من حاكم مدينة أوترار؛ رداً على عمليات السلب والنهب التي قام بها التتار في بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد خوارزمية مسلمة.
ومنهم من يقول: إن هذا كان فعلاً متعمداً من حاكم أوترار المسلمة؛ لاستثارة التتار للحرب؛ ليدخل خوارزم شاه منطقة تركستان التي كانت في أملاك التتار في ذلك الوقت.
وهذا الرأي مستبعد؛ لأن محمد بن خوارزم شاه لم تكن له أطماع تذكر في أرض التتار، وكل ما كان يريده هو بقاء كل فريق في مملكته دون تعد على الآخر، وليس من المعقول أن يستثير التتار وهو يعلم أعدادهم وجيوشهم، أو أنه لم يكن يدري عن قواتهم شيئاً، فهم الملاصقون له، وقد ذاع صيت جنكيز خان في كل مكان في ذلك الوقت.
ومن المؤرخين من يقول: إنما أرسل جنكيز خان بعضاً من رجاله إلى أرض المسلمين؛ ليقتلوا تجار التتار هناك؛ حتى يكون ذلك سبباً لغزو بلاد المسلمين.
ومنهم من قال: إن حاكم أوترار طمع في أموال التجار فقتلهم لأجلها.
وكل هذه الاحتمالات واردة، قتل التجار أو الجواسيس.
فلما وصل النبأ إلى جنكيز خان أرسل رسالة إلى محمد بن خوارزم شاه زعيم دولة خوارزم الكبرى يطلب منه تسليم القتلة إليه حتى يحاكمهم بنفسه، ولكن محمد بن خوارزم شاه اعتبر ذلك تعدياً على سيادة البلاد المسلمة، فهو لن يسلم مجرماً مسلماً ليحاكم في بلدة أخرى وبشريعة أخرى،
وقال له: إنه سيحاكمهم في بلاده، فإن ثبت أنهم قتلوا التتار، عاقبهم في بلادهم حسب نصوص الشريعة الإسلامية.
وكان هذا الكلام منطقياً ومقبولاً جداً في كل أعراف أهل الأرض وبقاعهم، فأي بلد يحدث في داخله جريمة، فإن المجرمين يعاقبون على جريمتهم بقانون هذا البلد، ولكن جنكيز خان لم يكن يرغب بالاقتناع بهذا الكلام، فليس المجال مجال الحجة والبرهان والدليل، وإنما كان تخطيطاً مسبقاً لغزو العالم الإسلامي، ولن يعطل هذا التخطيط حجة أو برهان أو دليل،
فهو إنما كان فقط يبحث عن علة مناسبة لدخول الأراضي الإسلامية واحتلالها، وقد وجد في قتل التجار هذه العلة التي كان يبحث عنها.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
مقدمة ابن الأثير لحادثة التتار(11)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: ذكرنا في المحاضرة السابقة قصة نشأة دولة التتار، وحالة الضعف الشديد التي كانت تمر بها أمة الإسلام والفرقة والتشتت والترف والتمسك بالدنيا، وهذه الحالة أدت إلى اجتياح تتري لشرق الدولة الخوارزمية واحتلال مدينة بخارى المسلمة واستباحتها استباحة تامة، فقتل الرجال واغتُصبت النساء وأُسر الأطفال وأحرقت الديار والمساجد، كل هذا تم في أواخر السنة السادسة عشرة بعد الستمائة من الهجرة، وكانت هذه الأحداث المؤلمة مجرد مقدمة لأحداث أشد إيلاماً.
انتهت سنة 616 هـ باحتلال مدينة بخارى وإقليم كازاخستان المسلم، لتبدأ سنة 617 هـ بأحداثها الرهيبة.
وقد كانت 617 هـ من أبشع السنوات التي مرت على المسلمين منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى هذه اللحظة، فقد علا فيها نجم التتار، حتى اجتاحوا البلاد الإسلامية اجتياحاً لم يُسبق، وأحدثوا فيها من المجازر والفظائع والمنكرات ما لم يُسمع به مطلقاً ولا يُتخيل أصلاً.
وأرى أنه من المناسب أن نقدم لهذه الأحداث بكلام المؤرخ الإسلامي العلامة ابن الأثير رحمه الله في كتابه القيم الكامل في التاريخ، وكلامه يعتبر به في هذا المجال أكثر من غيره؛ لأنه كان معاصراً لهذه الأحداث، فقد عاش في نفس الفترة التي تمت فيها هذه الأحداث ورأى بعينه وسمع بأذنه رحمه الله، وليس من رأى كمن سمع، فهو يقدم لشرحه لقصة التتار في بلاد المسلمين بقوله: لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى.
ثم يقول كلمة غريبة جداً وعجيبة ومؤلمة، يقول: فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ والذي كان معاصراً لهذه الأحداث ظن أن هذه بداية النهاية، وأنها علامات الساعة الكبرى، وأن الأرض ستنتهي الآن وسيبدأ يوم القيامة، ولم يظن أن أمة الإسلام ستبقى بعد هذه الأحداث.
يقول رحمه الله: فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً.
ثم يقول: إلا أنه حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً.
أي: أن كتابة القصة أو عدم كتابتها لن يقدم ولن يؤخر، فلماذا لا تُكتب ليستفيد المسلمون بعد ذلك منها؟
ثم يقول مقدماً للقصة: فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكرى الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث -أي: الحوادث السابقة- ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرّب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس؟ وما بنو إسرائيل إلى من قتلوا -أي: بنو إسرائيل كلهم في ذلك الوقت ما نسبتهم إلى الذين قُتلوا من المسلمين-؟ فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم.
ثم يقول قولاً غريباً عجيباً، فيقول: ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويُهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد.
فعند ابن الأثير رحمه الله أن فتنة التتار وبأسهم وقوتهم أشد من فتنة الدجال، وفتنة الدجال أشد وأمر، ولكن من شدة المأساة وقع هذا الكلام على لسانه رحمه الله.
ثم يقول: بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة في بطون أمهاتهم.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كانت هذه مقدمة كتبها ابن الأثير رحمه الله لكلام طويل جداً يفيض ألماً وحزناً وهماً وغماً، لقد كانت كارثة على العالم الإسلامي بكل المقاييس، بمقاييس الماضي والحاضر والمستقبل، فإن هذه المصيبة تتضاءل إلى جوارها كثير من مصائب المسلمين في كل العصور.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
احتلال سمرقند (12)
بعد أن دمّر التتار مدينة بخارى العظيمة وأهلكوا أهلها وأحرقوا ديارها ومساجدها ومدارسها، انتقلوا إلى المدينة المجاورة سمرقند وهي في دولة أوزباكستان الحالية، مثل بخارى واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من أسارى المسلمين من مدينة بخارى،
وكما يقول ابن الأثير: فساروا بهم على أقبح صورة، فكل من أعيا وعجز عن المشي قُتل.
وأما لماذا يصطحبون الأسرى معهم من بخارى إلى سمرقند؟
فقد كان هناك أكثر من هدف لاصطحاب الأسرى من بخارى إلى سمرقند، وكانت هذه سنة من سنن التتار، ففي كل حرب كانوا يأخذون معهم الأسرى، لعدة أسباب.
أولاً: كانوا يعطون كل عشرة من الأسرى علماً من أعلام التتار يرفعونه، فإذا رآهم أحد من بعيد ظن أن المجموع كله من التتار، فتكثر أعداهم جداً في أعين أعدائهم بشكل رهيب فلا يعتقدون مطلقاً أنهم يقدرون على قتالهم فيستسلمون، فتبدأ الهزيمة النفسية تدب في قلوب من يواجهونه.
ثانياً: كانوا يجبرون الأسارى على أن يقاتلوا معهم ضد أعدائهم، ومن رفض القتال أو لم يظهر فيه قوة قتلوه، فكان الأسرى المسلمون يقاتلون المسلمين مع التتار كرهاً.
ثالثاً: كانوا يتترسون بهم عند لقاء المسلمين، فيضعونهم في أول الصفوف كالدروع، ويختبئون خلفهم، فإذا أطلق المسلمون السهام على جيش التتار أصابت الأسرى المسلمين، والتتار يطلقون سهامهم من خلف صفوف الأسرى المسلمين.
رابعاً: كانوا يقتلونهم على أبواب المدن لبث الرعب في قلوب أعدائهم، وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا التتار.
خامساً: كانوا يبادلون بهم الأسرى في حال أسر رجال من التتار في القتال، وإن كان هذا قليلاً؛ لقلة الهزائم في جيش التتار.
وكانت سمرقند من حواضر الإسلام العظيمة جداً، ومن أغنى مدن المسلمين في ذلك الوقت، ولها قلاع حصينة وأسوار عالية، ولهذه القيمة الاستراتيجية والاقتصادية الكبيرة ترك فيها محمد بن خوارزم شاه زعيم الدولة الخوارزمية خمسين ألف جندي خوارزمي لحمايتها فوق أهلها، فأهل سمرقند يقدرون بمئات الآلاف دون مبالغة.
ولما وصل جنكيز خان إلى مدينة سمرقند حاصرها من كل الاتجاهات، ولم يخرج الجيش الخوارزمي النظامي للدفاع عن البلد، فقد دب الرعب في قلوبهم وتعلقوا بالحياة تعلقاً مخزياً، فاجتمع أهل البلد وتباحثوا في أمرهم بعد أن فشلوا في إقناع الجيش المتخاذل بالخروج للدفاع عنهم، فقرر بعض الذين في قلوبهم حمية من عامة الناس أن يخرجوا لحرب التتار، فخرج سبعون ألفاً من أهل الجلد من سمرقند، وخرج معهم العلماء والفقهاء على أرجلهم دون خيول ولا دواب، ولم يكن لهم دراية عسكرية تمكنهم من القتال، ولكنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعله الجيش المتهاون الذي لم تستيقظ نخوته بعد، وعندما رأى التتار أهل سمرقند يخرجون لهم قاموا بخدعة خطيرة، وهي الانسحاب المتدرج من حول أسوار المدينة محاولين سحب المجاهدين المسلمين بعيداً عن مدينتهم، فبدءوا يتراجعون تدريجياً بعيداً عن سمرقند، وقد نصبوا الكمائن خلفهم، ونجحت خطة التتار، فبدأ المسلمون المفتقدون لحكمة القتال يطمعون فيهم، وتقدموا خلف الجيش التتري، حتى إذا ابتعد المسلمون عن المدينة بصورة كبيرة أحاط بهم جيش التتار، وبدءوا عملية تصفية بشعة لأفضل رجال سمرقند من المجاهدين والعلماء والفقهاء،
واستشهد في هذا اللقاء غير المتكافئ السبعون ألفاً جميعاً الذين خرجوا، وفقد المسلمون في سمرقند سبعين ألفاً من رجالهم دفعة واحدة، ولقد كانت مأساة المسلمين عظيمة عندما فقدوا 70 رجلاً في غزوة أحد، وعندما فقدوا 70 رجلاً في بئر معونة كانت المصيبة كبيرة، وظل صلى الله عليه وسلم يدعو على أولئك الذين قتلوا هؤلاء المسلمين شهراً كاملاً،
وهنا سبعون ألف مسلم في لحظات فنوا جميعاً، وقد كانوا أفضل أهل سمرقند، وليست مفاجأة أن يُقتل سبعون ألف مسلم على يد التتار، وهذا أمر متوقع، ودفع المسلمون ثمن عدم استعدادهم للقتال، وعدم اهتمامهم بالتربية العسكرية لأبنائهم، وعدم الاكتراث بالقوى الهائلة التي تحيط بدولتهم، فدولة التتار منذ 14 سنة تتوسع تدريجياً حولهم وتقترب تدريجياً من حدود بلادهم، فأين الاستعداد لمثل ذلك اليوم؟
وبعد إفناء المجاهدين المسلمين عاد التتار لحصار سمرقند، وأخذ الجيش الخوارزمي النظامي قراراً مهيناً، فقد قرر أن يطلب الأمان من التتار على أن يفتح لهم أبواب المدينة، وهم يعلمون أن التتار لا يحترمون العقود ولا العهود، ولا يرتبطون باتفاقيات، وما أحداث بخارى عنهم ببعيد، ولكنهم تمسكوا بالحياة إلى آخر درجة، مثل ما فعل الفيلق الخامس من جيش العراق مع الأمريكان في الحرب الأخيرة، فقد سلموا العراق ببساطة.
فوافق التتار على إعطاء الأمان، وقد عزموا عزماً أكيداً على النقض والمخالفة، ولم يقدر عامة الناس وجمهورهم على منع الجيش، لأنه كان كالأسد ضد شعبه وكالنعامة ضد أعدائه، ففتحوا الأبواب للتتار، وخرجوا مستسلمين، فقال لهم التتار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيّركم إلى مأمنكم،
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
مطاردة التتار لمحمد بن خوارزم وفراره منهم (13)
وأما جنكيز خان لعنه الله فقد استقر في سمرقند وأعجبته المدينة العملاقة التي لم ير مثلها قبل ذلك،
ثم إن أول شيء فكّر فيه هو قتل رأس الدولة الخوارزمية؛ لأنه لو قتل هذا الرأس فسيسهل عليه بعد ذلك احتلال البلد دون خوف من تجميع الجيوش ضده، فأرسل عشرين ألفاً من فرسانه يطلبون محمد بن خوارزم زعيم البلاد، وقال لهم: اطلبوا خوارزم شاه أينما كان ولو تعلق بالسماء، وكونه أرسل عشرين ألف جندي تتري فقط لهذه المهمة الكبيرة فيه إشارة واضحة جداً إلى استهزائه بـ محمد بن خوارزم وأمته؛ لأن هذا الرقم الهزيل لهذه الكتيبة التترية الصغيرة، ستدخل في أعماق الملايين المسلمة وهي لا تقارن بهم بأي حال.
فانطلق الفرسان التتار إلى مدينة أورجندة العاصمة مباشرة حيث يستقر محمد بن خوارزم شاه، وكانت تقع على الشاطئ الغربي من نهر جيحون -واسمه الآن نهر أموداريا- فجاء جنود التتار من الجانب الشرقي للنهر، وفصل النهر بين الفريقين، وتماسك المسلمون لعلمهم أن النهر يفصل بينهم وبين التتار، وأن التتار ليس معهم سفن.
فأخذ التتار في إعداد أحواض خشبية كبيرة ثم ألبسوها جلود البقر حتى لا يدخل فيها الماء، ثم وضعوا في هذه الأحواض سلاحهم وعتادهم ومتعلقاتهم، ثم أنزلوا الخيول إلى الماء -والخيول تجيد السباحة- وربطوا الأحواض بأذنابها، فأخذت الخيول تسبح وخلفها الأحواض الخشبية بما فيها من سلاح وغيره، وبهذه الطريقة عبر جيش التتار نهر جيحون الكبير، ولا ندري أين كانت عيون الجيش الخوارزمي المصاحب لـ محمد بن خوارزم شاه؟
وفوجئ المسلمون في مدينة أورجندة بجيش التتار إلى جوارهم، ومع أن أعداد المسلمين كانت كبيرة جداً، إلا أنهم كانوا قد ملئوا من التتار رُعباً وخوفاً، وما تماسكوا إلا لاعتقادهم أن النهر الكبير يفصل بينهم وبين جيش التتار، أما وقد أصبح التتار على مقربة منهم فلم يُصبح أمامهم إلا طريق الفرار، وكما يقول ابن الأثير رحمه الله: ورحل خوارزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته، فقد جمّع أقاربه ومحبيه وعائلته واتجه إلى نيسابور، وهي في إيران الآن.
فانتقل من دولة إلى دولة، وأما الجند النظاميون فقد تفرق كل منهم في جهة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأما التتار فكانت لهم مهمة محددة معروفة، البحث عن محمد بن خوارزم شاه، ولذلك تركوا أورجندة ولم يدخولها وانطلقوا في اتجاه نيسابور مخترقين الأراضي الإسلامية في عمقها، وهم لا يزيدون عن العشرين ألفاً، وجنكيز خان ما زال مستقراً في سمرقند، وكان من الممكن أن تحاصر هذه المقدمة التترية في أي بقعة من بقاع العالم الإسلامي أثناء تجوالهم في أعماقه، ولكن دب الرعب في قلوب المسلمين،
وأخذوا في طريق الفرار اقتداء بزعيمهم الذي ظل يفر من بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى مدينة كما نرى، ولم يكن التتار في هذه المطاردة الشرسة يتعرضون لسكان البلاد بالسلب أو النهب أو القتل، فقد كان لهم هدف واضح، فهم لا يريدون أن يضيعوا وقتاً في القتل وجمع الغنائم، وإنما يريدون فقط اللحاق بالزعيم المسلم، ومن باب آخر فإن الناس لم يتعرضوا لهم؛ لئلا يثيروا حفيظتهم فيتعرضون لأذاهم، فكل الناس تفتح لهم الطريق، وهكذا وصل التتار إلى مسافة قريبة جداً من مدينة نيسابور العظيمة وفي فترة وجيزة جداً،
ولم يتمكن محمد بن خوارزم شاه من جمع الأنصار والجنود والتتار في أثره، فلما علم بقربهم من نيسابور ترك المدينة واتجه إلى مدينة مازندران -وهي مدينة في إيران الآن أيضاً- فلما علم التتار بذلك لم يدخلوا نيسابور بل اتجهوا خلفه مباشرة، فترك مازندران إلى مدينة الري -وهي أيضاً في إيران- ثم إلى مدينة همذان -وهي أيضاً في إيران- والتتار في أثره، ثم عاد إلى مدينة مازندران مرة أخرى في فرار مخز فاضح، ثم اتجه بعد ذلك إلى مدينة طبرستان، وهي مدينة على ساحل بحر الخزر -وهو بحر قزوين الآن- فجد هناك سفينة فركب فيها، وهربت به في عمق البحر، وجاء التتار ووقفوا على ساحل البحر ولم يجدوا ما يركبوه، فنجحت خطة فرار الزعيم المسلم الكبير محمد بن خوارزم نجاحاً مبهراً، حتى وصل في فراره الفاضح إلى جزيرة في وسط بحر قزوين، ورضي بالبقاء فيها في قلعة كانت هناك في فقر شديد وحياة صعبة، وهو الملك الذي ملك بلاداً شاسعة وأموالاً لا تُعد،
ولكنه رضي بذلك لكي يفر من الموت، والموت لا يفر منه أحد، وما هي إلا أيام ومات محمد بن خوارزم شاه في داخل القلعة في هذه الجزيرة وحيداً طريداً شريداً فقيراً، حتى أنهم لم يجدوا ما يكفنوه به، فكفنوه في فراشه الذي كان ينام عليه، واستمعوا إلى قول الله عز وجل: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، ولو كنتم في هذه القلعة في وسط البحر، وليس بأيد التتار، ولكن الموت يأتي بغتة.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
ترجمة محمد بن خوارزم وأسباب هزيمته (14)
وعندما نقرأ كلام ابن الأثير وهو يتحدث عن سيرة محمد بن خوارزم شاه تجد كلاماً غريباً وأموراً غريبة، وتجد أنك أمام إمام عظيم من عظماء المسلمين، فإذا راجعت حياة الرجل الأخيرة وخاتمته وفراره وهزيمته تبدّى لك غير ذلك،
يقول ابن الأثير رحمه الله في ذكر سيرته: وكان مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وعدة أشهر، واتسع ملكه، وعظُم محله، وأطاعه العالم بأسره، وملك من حد العراق إلى تركستان، وهي بلاد مسلمة محتلة من الصين الآن، وملك بلاد غزنة -وهي في أفغانستان- وبعض الهند، وملك سجستان وكرمان -وهما في باكستان- وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس -وكل هذه المناطق في إيران- فكل هذه المناطق ملكها هذا الزعيم الذي فر من التتار.
ومن هذه الفقرة يتبين لنا أنه كان عظيماً في ملكه، وقد استقر له الوضع في بلاد واسعة لفترة طويلة، وهذا يظهر حسن إدارته لبلاده، حتى أن ابن الأثير يقول في فقرة أخرى: وكان صبوراً على التعب وإدمان السير، غير متنعم ولا مقبل على اللذات، وإنما همه في الملك وتدبيره وحفظه وحفظ رعاياه.
وعندما تحدث ابن الأثير عن حياته العلمية الشخصية قال: وكان فاضلاً، عالماً بالفقه والحديث وغيرهما، وكان مكرماً للعلماء، محباً لهم، محسناً إليهم، وكان معظماً لأهل الدين، مقبلاً عليهم، متبركاً بهم.
وهذا الوصف لـ محمد بن خوارزم شاه يمثل لغزاً كبيراً، فكيف يكون على هذه الصفة النبيلة، ثم تحدث له هذه الهزائم المنكرة؟ وكيف لا يجد جيشاً من كل أطراف مملكته الواسعة يصبر على حرب التتار حتى ينتهي هذه النهاية المؤسفة ويفر هذا الفرار الفاضح؟ كنت في حيرة من أمري وأنا أحلل هذا الموقف، ثم وجدت نصاً في مكان آخر في كتاب ابن الأثير يفسر كثيراً من الألغاز في حياة هذا الرجل.
يقول ابن الأثير رحمه الله: وكان محمد بن خوارزم قد استولى على البلاد، وقتل ملوكها وأفناهم، وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها، فلما انهزم من التتار لم يبق في البلاد من يمنعهم، ولا من يحميها.
وهذا النص تفسير واضح لمدى المأساة التي كان يعيشها المسلمون في ذلك الوقت.
فقد كان محمد بن خوارزم شاه جيداً في ذاته وفي إدارته، ولكنه قطّع كل العلاقات بينه وبين من حوله من الأقطار الإسلامية، ولم يتعاون معها، بل على العكس قاتلها الواحدة تلو الأخرى، وكان يقتل ملوك هذه الأقطار ويضمها إلى مملكته، ولا شك أن هذا خلّف عليه أحقاداً كبيرة في قلوب سكان هذه البلاد، وهذا ليس من الحكمة في شيء.
والرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يفتح البلاد كان يولي زعماءها عليها؛ ليكسب بذلك ولاءهم وحب الناس له، فعلى سبيل المثال لما أسلم ملك البحرين المنذر بن ساوي رضي الله عنه أبقاه على حكم بلاده، وأبقى على حكم عمان ملكيها جيفر وعباد ممن أسلموا وتركهم على حكم البلاد، وأبقى على اليمن واليها باذان بن ساسان الفارسي.
وهذا من السياسة والحكمة، وهو جمع جميل جداً بين الحزم والحب، وأسلوب راق جداً في الإدارة.
وأما هنا فقد افتقد الزعيم محمد بن خوارزم هذا الجمع الجميل بين الحب والحزم، وأصبح حاكماً بقوته لا بحب الناس له، فلما احتاج وافتقر إلى الناس والأعوان لم يجدهم، ولم تكن خلافات الدولة الخوارزمية مع الخلافة العباسية فقط، وإنما قامت الدولة الخوارزمية نفسها على صراعات داخلية وخارجية في كل مكان، وعلى مكائد كثيرة ومؤامرات عدة، فلم تتوحد القلوب في هذه البلاد، ومن ثم لم تتوحد الصفوف، ومن المحال أن يحدث النصر والأمة على هذه الصورة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]،
هذا هو سر اللغز في حياة قائد عالم فقيه، اتسع ملكه وكثرت جيوشه ثم مات طريداً شريداً وحيداً فقيراً في عمق البحر، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول فيما رواه النسائي وأحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: «عليكم بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية»، أي: الغنم القاصية.
كانت الفرقة التترية التي قد توغّلت في أعماق الدولة الإسلامية وأصبحت المسافة بينها وبين القوى الرئيسية لـ جنكيز خان في سمرقند تزيد على ستمائة وخمسين كيلو متر، هذا في الطرق المستوية والمستقيمة، فإذا وضع في الاعتبار الطبيعة الجبلية لهذه المنطقة والأنهار الكثيرة التي تفصل بين سمرقند ومنطقة بحر قزوين، والتي تعتبر عوائق طبيعية صعبة جداً، علمت أن المسافة بين جنكيز خان وبين الفرقة التترية الصغيرة مسافة طويلة وكبيرة جداً، وإذا وضع في الاعتبار أن التتار ليسوا من سكان هذه المناطق، ولا يعرفون مسالكها ودروبها وطرقها الفرعية، وعادت الفرقة التترية الخاصة من شاطئ بحر قزوين إلى بلاد مازندران فملكوها في أسرع وقت، مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
احتلال التتار لمازندران والري وقزوين وأرمينيا والكرج (15)
عادت الفرقة التترية الخاصة من شاطئ بحر قزوين إلى بلاد مازندران فملكوها في أسرع وقت، مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها، مع أنها كانت من أشد بلاد المسلمين قوة،
حتى أن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه من أدناها إلى أقصاها ما استطاعوا أن يدخلوا مازندران، ولم يدخلوها إلا في زمان سليمان بن عبد الملك رحمه الله الخليفة الأموي المعروف، ولكن التتار دخلوها بسرعة عجيبة جداً لا لقوتهم ولكن لضعف نفسيات أهلها في ذلك الوقت،
ولما دخلوها فعلوا بها ما فعلوه في غيرها، فقتلوا وعذّبوا وسبوا ونهبوا وأحرقوا البلاد والعباد، ثم اتجهوا إلى الري، وهي أيضاً مدينة إيرانية كبيرة، وكأن الله عز وجل أراد أن يتم الذلة لـ محمد بن خوارزم شاه حتى بعد وفاته، فقد وجد التتار في طريقهم من مازندران إلى الري والدة محمد بن خوارزم وزوجاته ومعهن الأموال الغزيرة والذخائر النفيسة التي لم يسمع بمثلها قبل ذلك، فأخذوا كل ذلك سبياً وغنيمة، وأرسلوهم من فورهم إلى جنكيز خان المتمركز في سمرقند آنذاك.
ولما وصل التتار إلى الري ملكوها ونهبوها وسبوا النساء والأطفال، وفعلوا الأفعال التي لم يسمع بمثلها قبل ذلك، ثم فعلوا مثل ذلك في المدن والقرى المحيطة بها، حتى دخلوا مدينة قزوين فقتلوا من المسلمين فيها أربعين ألفاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله،
ثم اتجهوا إلى غرب بحر قزوين إلى إقليم أذربيحان المسلم، ومروا في طريقهم على مدينة تبريز، وهي مدينة من مدن أذربيحان، وهي الآن من مدن إيران، فقرر زعيمها المسلم أوزبك بن البهلوان أن يصالح التتار على الأموال والثياب والدواب، ولم يفكر مطلقاً في حربهم، فقد كان لا يفيق من شرب الخمر ليلاً أو نهاراً، وكثير من زعماء المسلمين يشربون الخمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فرضي التتار منه بذلك؛ لأن الشتاء القارص كان قد دخل على هذه المنطقة،
ثم اتجه التتار إلى الساحل الغربي لبحر قزوين، وتركوا تبريز إلى أجل، وبدءوا في اجتياح الناحية الشرقية لأذربيجان متجهين ناحية الشمال، وفي الطريق اجتاحوا وأرمينيا وجورجيا، وأرمينيا كانت مملكة يسكنها الكثير من النصارى، وأما جورجيا فقد كان يتجمع فيها قبائل الكرج، وهي قبائل نصرانية ووثنية، فقاتل التتار مملكتي أرمينيا والكرج، وانتهى القتال بهزيمة الكرج وأرمينيا، واجتاح التتار هذه البلاد وضموها في أملاكهم،
وقُتل من الكرج في هذه الموقعة ما لا يحصى من العدد، فتعدى أمر التتار المسلمين إلى النصارى في أرمينيا والكرج.
وكل هذا الذي ذكرناه من الاسترقاق والقتل والسبي فعل الفرقة التترية الصغيرة، العشرون ألفاً الذين أطلقهم جنكيز خان خلف محمد بن خوارزم شاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تدمير التتار لإقليم فرغانة ومدينة ترمذ وقلعة كلابة (16)
بعد أن اطمأن جنكيز خان إلى هروب محمد بن خوارزم زعيم البلاد باتجاه الغرب بدأ يبسط سيطرته على المناطق المحيطة بسمرقند، ووجد أن أعظم الأقاليم وأقواها في هذه المناطق هو إقليم خوارزم وإقليم خراسان.
فأما إقليم خراسان فقد كان إقليماً شاسعاً، فيه مدن عظيمة كثيرة جداً، ومن أشهرها بلخ ومرو ونيسابور وهراة وغزنة وغيرها، وهو الآن يقع في شرق إيران وشمال أفغانستان.
وأما إقليم خوارزم فقد كان نواة الدولة الخوارزمية، واشتهر بالقلاع الحصينة والثروة العددية والمهارة القتالية، فقد كان المنبع الذي قامت منه الدولة الخوارزمية، وكان يقع إلى الشمال الغربي من سمرقند، ويمر به نهر جيحون، وهو الآن في دولتي أوزبكستان وتركمانستان.
فأراد جنكيز خان القيام بحرب معنوية تؤثر في نفسيات المسلمين قبل اجتياح هذين الإقليمين العملاقين، فقرر البدء بعمليات إبادة وتدمير تبث الرعب في قلوب المسلمين في هذين الإقليمين الكبيرين، فأخرج من جيشه ثلاث فرق: فرقة لتدمير إقليم سرغانة، وهو في أوزبكستان الآن على بعد حوالي 500 كيلو متر شرق سمرقند،
وأرسل فرقة لتدمير مدينة ترمذ، وهي في تركمانستان الآن، وهي مدينة الإمام الترمذي صاحب السنن رحمه الله، وهو على بعد حوالي 100 كيلو متر جنوب سمرقند، وأرسل فرقة لتدمير قلعة كلابة، وهي من أحصن قلاع المسلمين على نهر جيحون، فقامت الفرق الثلاث بدورها التدميري كما أراد جنكيز خان،
واستولت على كل هذه المناطق، وقامت فيها بالقتل والأسر والسبي والنهب والتخريب والحرب مثلما اعتاد التتار أن يفعلوا، ووصلت الرسالة التترية إلى كل الشعوب المحيطة، وكانت الرسالة تقول: التتار لا يرتوون إلا بالدماء، لا يسعدون إلا بالخراب والتدمير، التتار لا يهزمون، فعمّت الرهبة في أرجاء المعمورة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تدمير التتار لنيسابور وهراة وإبادة أهلها
ثم جاوز التتار مرو إلى نيسابور، وكانت هي الأخرى مدينة كبيرة جداً من إقليم خراسان، وهي تقع الآن في الشمال الغربي لدولة إيران، وحاصروها خمسة أيام، ومع أنه كان في المدينة جمع كبير من الجنود المسلمين إلا أن أخبار مرو كانت قد وصلت إليهم فدب الرعب والهلع في أوساط المسلمين،
ولم يستطيعوا أن يقاوموا التتار، فدخل التتار المدينة وأخرجوا كل أهلها إلى الصحراء وجاء من أخبر ابن جنكيز خان بأن بعضاً من سكان مرو قد سلم من القتل، فقد ضربوا بالسيف ضربات غير قاتلة، فظنهم التتار قد ماتوا فتركوهم فهربوا، فأمر ابن جنكيز خان في نيسابور أن يُقتل كل رجال البلد بلا استثناء، وأن تقطّع رءوسهم لكي يتأكدوا من قتلهم، ثم قام بسبي كل نساء نيسابور،
وأقاموا في المدينة 15 يوماً يفتشون الديار عن الأموال والنفائس، ثم تركوا نيسابور كما يقول ابن الأثير أثراً بعد عين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم اتجهوا إلى هراة شمال غرب أفغانستان، ولم تسلم المدينة من مصير مدينتي مرو ونيسابور،
فقد قُتل كل من فيها من الرجال وسُبيت كل النساء، وخُرّبت المدينة كلها وأُحرقت، لكن أمير هذه المدينة واسمه ملك خان استطاع الهروب بفرقة من جيشه باتجاه غزنة في جنوب أفغانستان بعيداً عن أرض القتال، وهكذا في ذلك الزمن كان الملوك والرؤساء يوفقون دائماً إلى الهرب،
بينما تسقط شعوبهم في براكين التتار، وفي التاريخ عبرة، وبسقوط هراة يكون إقليم خراسان قد سقط بكامله في أيدي التتار، ولم يبق فيه مدينة واحدة.
وتمت كل هذه الأحداث التي ذكرناها في العام 617 هـ، وهذا من أعجب الأمور التي مرت في تاريخ الأرض مطلقاً.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
احتلال التتار لمرو وإبادة أهلها (18)
عاد جنكيز خان مع مرور الأيام إلى بلخ وأمر أهلها أن يأتوا معه ليعاونوه في فتح مدينة المسلمة، فجاءوا معه لمحاربة أهل مرو، والجميع من المسلمين، ولكن الهزيمة النفسية الرهيبة التي كان يعاني منها أهل بلخ نتيجة الأعمال البشعة التي تمت في مدينة ترمذ المجاورة جعلتهم ينصاعون لأوامر جنكيز خان، حتى وإن كانوا سيقتلون إخوانهم، وبذلك يكون جنكيز خان قد وفّر قواته لمعارك أخرى، وضرب المسلمين بعضهم ببعض.
وهذا نراه في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي الآن، فقد استخدم الأمريكان أهل الشمال في أفغانستان -نفس منطقة بلخ- لحرب المسلمين في كابل سنة 2002م، واستخدموا أيضاً أكراد الشمال العراقي في حرب بقية العراق، وهذا كما استخدم التتار أكراد الشمال العراقي في حرب بغداد.
فهناك تطابق غريب في الأحداث، وهذه سنة من سنن رب العالمين سبحانه وتعالى، والتاريخ يتكرر بحذافيره، ولذلك نقص القصص للعبرة.
أتى الجيش المسلم من بلخ مع الجيش التتري لفتح مرو، وكانت مرو مدينة كبيرة جداً في ذلك الوقت، وهي تقع الآن في دولة تركمانستان المسلمة على بعد حوالي 250 كيلو متر شرق مدينة بلخ الأفغانية، وكان على رأس جيش التتار بعض أولاد جنكيز خان،
ولم تذكر الروايات عدد جيش التتار، ولكنه كان جيشاً هائلاً يقدر بمئات الألوف، غير من معه من المسلمين الذين أتوا معه من بلخ، وعلى أبواب مرو وجد التتار أن المسلمين في مرو قد جمعوا لهم خارج المدينة جيشاً يزيد على مائتي ألف رجل مسلم، وكان جيشاً كبيراً جداً بقياسات ذلك الزمن، وكانت موقعة رهيبة بين الطرفين على أبواب مرو،
وحدثت المأساة العظيمة، ودارت الدائرة على المسلمين، وانطلق التتار يذبحون في الجيش المسلم حتى قتلوا معظمهم وأسروا الباقين، ولم يسلم إلا أقل القليل، ونهبت الأموال والأسلحة والدواب من الجيش، وقد علق ابن الأثير في أسى وإحباط شديدين على هذه الموقعة بقوله: فلما وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا، فصبر المسلمون ولكن التتار لا يعرفون الهزيمة.
وتخيل جنداً يقاتلون عدواً يعتقدون أنه لا يهزم! كيف تكون نفسياتهم ومعنوياتهم؟ في الحضيض، فوقعت الهزيمة المرة بالجيش المسلم، وفتح الطريق إلى مدينة مرو ذات الأسوار العظيمة، وكان سكانها أكثر من سبعمائة ألف مسلم من الرجال والنساء والأطفال،
ولما حاصر التتار المدينة الكبيرة دب الرعب في قلوب أهلها بعد أن فني جيشهم أمام أعينهم، فلم يفتحوا الأبواب للتتار مدة أربعة أيام، ثم في اليوم الخامس أرسل قائد التتار رسالة إلى حاكم مدينة مرو يقول فيها: لا تهلك نفسك وأهل البلد، واخرج إلينا نجعلك أمير هذه البلدة ونرحل عنك، فصدّق أمير البلاد ما قاله زعيم التتار، أو أوهم نفسه بالتصديق وخرج إليه فاستقبله قائد التتار استقبالاً حافلاً واحترمه وقربه، ثم قال له في خبث: أخرج إلينا أصحابك ومقربيك ورؤساء القوم حتى ننظر من يصلح لخدمتنا فنعطيه العطايا ونقطع له الاقطاعات ويكون معنا،
فأرسل الأمير المخدوع إلى معاونيه وكبار وزرائه وجنده لحضور الاجتماع الهام مع ابن جنكيز خان شخصياً، وخرج الوفد الكبير إلى التتار، ولما تمكن منهم التتار قبضوا عليهم جميعاً وقيدوهم بالحبال، ثم طلبوا منهم أن يكتبوا قائمتين طويلتين، الأولى بأسماء كبار التجار وأصحاب الأموال في المدينة، والثانية بأصحاب الحرف والصناع المهرة، ثم أمر ابن جنكيز خان بأن يخرج أهل البلد أجمعين خارج البلد، فخرجوا جميعاً من البلد حتى لم يبق فيها أحد، ثم جاءوا بكرسي من الذهب جلس عليه ابن جنكيز خان ثم بدأ يصدر الأوامر:
الأمر الأول: أن يأتوا بأمير البلاد وبكبار القادة والرؤساء فيُقتلون جميعاً أمام عامة أهل البلد، فقتلوا جميعاً.
الأمر الثاني: إخراج أصحاب الحرف والصُنّاع المهرة وإرسالهم إلى منغوليا للاستفادة من خبراتهم الصناعية هناك.
الأمر الثالث: إخراج أصحاب الأموال وتعذيبهم حتى يخبروا عن كل أموالهم، ففعلوا ذلك، ومنهم من كان يموت من شدة الضرب ولا يجد ما يكفي لافتداء نفسه.
الأمر الرابع: دخول المدينة وتفتيش البيوت بحثاً عن المال والمتاع والذهب والفضة، حتى إنهم نبشوا قبر السلطان سنجر -وهو من سلاطين خوارزم القدماء- بحثاً عن الأموال والذهب، واستمر هذا البحث ثلاثة أيام.
الأمر الخامس: أن يُقتل أهل البلد أجمعون، فبدأ التتار يقتلون كل سكان مرو من الرجال والنساء والأطفال، وقالوا: إن المدينة عصت علينا وقاومت، ومن قاوم فهذا مصيره.
يقول ابن الأثير رحمه الله: وأمر ابن جنكيز خان بعد أن قُتلوا جميعاً أن يقوم التتار بإحصاء القتلى، فكانوا نحواً من سبعمائة ألف قتيل.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قتل من مرو سبعمائة ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما لا يتخيل، وحقاً إنه لم تمر على البشرية منذ خلق آدم ما يشبه هذه الأفعال مطلقاً من قريب ولا بعيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
اجتياح التتار لإقليم خوارزم (19)
وأما إقليم خوارزم فقد كانت أشهر مدنه هي مدينة خوارزم، فقد كانت مركز عائلة خوارزم شاه، وكان بها تجمع ضخم جداً من المسلمين، وكانت حصون مدينة خوارزم من أشد حصون المسلمين بأساً وقوة،
وهي تقع الآن على الحدود بين أوزبكستان وتركمانستان على نهر جيحون، وكانت تمثل للمسلمين قيمة اقتصادية واستراتيجية وسياسية كبيرة جداً،
ولأهمية هذه البلدة وجه إليها جنكيز خان أعظم جيوشه وأكبرها، فقام هذا الجيش بحصار المدينة لمدة خمسة أشهر كاملة، ولم يتم له الفتح، فطلبوا المدد من جنكيز خان فأمدهم بخلق كثير فزحفوا على البلد زحفاً متتابعاً وضغطوا عليه من كل موضع، حتى استطاعوا أن يحدثوا ثغرة في الأسوار، فدخلوا المدينة، ودار قتال رهيب بين التتار والمسلمين وفني من الفريقين عدد كبير جداً إلا أن السيطرة الميدانية كانت للتتار،
ثم تدفقت جموع جديدة من التتار على المدينة، وحلت الهزيمة الساحقة بالمسلمين، ودار القتل على أشده فيهم وبدأ المسلمون في الهروب والاختفاء في السراديب والخنادق والديار، فقام التتار بهدم سد ضخم كان مبنياً على نهر جيحون، يمنع الماء من دخول المدينة، فتدفق الماء الغزير طوفاناً على خوارزم، فأُغرقت المدينة بكاملها،
ودخل الماء في كل السراديب والخنادق والديار، فتهدمت الديار بفعل الطوفان الهائل، ولم يسلم من مدينة خوارزم أحد البتة، فمن نجا من القتل قُتل تحت الهدم أو أُغرق بالماء، وأصبحت المدينة العظيمة خراباً، ولم يتركها التتار إلا وقد اختفت من على وجه الأرض، وأصبح مكانها ماء نهر جيحون، فكان من يمر على المدينة الضخمة بعد ذلك لا يستطيع أن يرى أثر لأي حياة سابقة.
وهذا كما يقول ابن الأثير: ما لم يُسمع بمثله في قديم الزمان وحديثه، اللهم ما حدث مع قوم نوح عليه السلام، ونعوذ بالله من الخذلان بعد النصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كانت هذه الأحداث الدامية أيضاً في سنة 617 هـ، وبتدمير إقليمي خراسان وخوارزم سيطر التتار على المناطق الشمالية والوسطى من دولة خوارزم الكبرى، ووصلوا في تقدمهم ناحية الغرب إلى قريب من نهاية الدولة الخوارزمية على حدود العراق، ولكنهم لم يقتربوا بعد من جنوب دولة خوارزم.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
معركة كابل (20)
اطمأن جلال الدين إلى جيشه، وأرسل رسالة إلى جنكيز خان في الطالقان يدعوه إلى قتال جديد،
ولأول مرة يشعر جنكيز خان بالألم، فجهّز جيشاً أكبر، وأرسله مع أحد أبنائه لقتال المسلمين، وتجهّز الجيش المسلم، والتقى الجيشان في مدينة كابل الأفغانية،
وهي مدينة حصينة جداً، فهي تُحاط من كل جهاتها تقريباً بالجبال، ففي شمالها جبال هندكوش الشاهقة، وفي غربها جبال باروبا ميزوس، وفي جنوبها وشرقها جبال سليمان، ودارت موقعة كابل الكبيرة،
وكان القتال عنيفاً جداً وأشد ضراوة من موقعة غزنة، وثبت المسلمون وحققوا نصراً غالياً ثانياً على التتار، وأنقذوا عشرات الآلاف من الأسرى المسلمين من يد التتار،
فارتفعت معنويات المسلمين جداً، وفرح المسلمون جداً وفرحنا، وقلنا: إن هاتين الموقعتين كانتا نهاية لأحزان وآلام المسلمين، لكن بقيت في القصة مفاجأة عجيبة وقاسية،
يعدها البعض نعمة وهي في الحقيقة نقمة، فقد حدث شيء أعاد الكرة للتتار وأضاع النصر من المسلمين، فيا ترى ما هو هذا الشيء؟
وما هذه المفاجأة؟ وما هو مصير جلال الدين بن محمد بن خوارزم؟ وما هو مصير أفغانستان؟ وما هو رد فعل العالم الإسلامي لسقوط دولة خوارزم الكبرى بكاملها؟
هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في المحاضرة القادمة.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُون مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-
رد: - التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
هروب جلال الدين من جيش التتار (21)
نسي المسلمون امتحان ربهم ولم يستعدوا له، وبينما هم كذلك جاء جنكيز خان بنفسه على رأس جيوشه؛ ليرى ذلك المسلم الذي انتصر عليه مرتين في غزنة وفي كابل، وكان المسلمون منذ قليل في انتصار، وأما الآن فقد دب الرعب والهلع في جيشهم، وقلّت أعدادهم، وتحطمت معنوياتهم.
فلما رأى جلال الدين أن جيشه أصبح ضعيفاً جداً، أخذه وبدأ يتجه جنوباً للهروب من جيش جنكيز خان، أو ليتجنب الحرب في هذه الظروف، ولكن جنكيز خان كان مصراً على الحرب، وفعل جلال الدين مثل ما فعل أبوه من قبل، فبدأ ينتقل من مدينة إلى مدينة، ومن بلد إلى بلد، حتى وصل إلى حدود باكستان، فاخترقها واخترق كل باكستان حتى وصل إلى نهر السند الذي يفصل بين باكستان وبين الهند،
وهناك قرر عبور نهر السند ودخول الهند مع أن علاقته بأهلها كانت سيئة جداً، ولكنهم كانوا عنده أرحم من لقاء جنكيز خان، فلم يجد سفناً فانتظر، ثم فوجئ بجيش جنكيز خان من خلفه، فلم يكن هناك بد من القتال، فنهر السند من خلفه والسفن على مسافة بعيدة، ولن تأتي إلا بعد أيام، فدارت موقعة رهيبة بين الطرفين، وكل من شاهدها قال:
إن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال، واستمر اللقاء الدامي ثلاثة أيام متصلة، واستحر القتل في الفريقين، وكان ممن قتل في صفوف المسلمين الأمير ملك خان الذي كان في المعركة السابقة يخاصم على الغنيمة مع سيف الدين بغراق، فقتل ولم ينل من الدنيا شيئاً، ولم يتجاوز لحظة موته بدقيقة واحدة، ولكن شتان بين من يموت مناصراً للمسلمين بكل قوته، وبين من يموت وقد تسبب مصرعه في فتنة أدت إلى هزيمة مرة.
وفي اليوم الرابع انفصل الجيشان لكثرة القتل، وبدأ كل طرف يعيد حساباته، وبينما هما في هذه الهدنة المؤقتة جاءت السفن إلى نهر السند، فاتخذ جلال الدين قراره السريع بالهروب كما اتخذه أبوه من قبل، فركب السفينة مع خاصته ومقربيه وعبروا نهر السند إلى بلاد الهند، وتركوا التتار على الناحية الغربية لنهر السند مع بلاد المسلمين ومدنهم وقراهم، ومع المدنيين دون حماية عسكرية، وجيوش التتار لا تفرق بين مدني وعسكري، هذا بالإضافة إلى الحقد الشديد في قلب جنكيز خان نتيجة الهزيمتين السابقتين.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
احتلال التتار لأفغانستان (22)
انقلب جنكيز خان على بلاد المسلمين يصب عليها جام غضبه، ويفعل بها ما اعتاد التتار أن يفعلوه وأكثر، وكانت أشد المدن معاناة مدينة غزنة عاصمة جلال الدين بن خوارزم، المدينة التي هزم عندها قبل ذلك جنكيز خان، فقتل كل رجالها، وسبى كل نسائها، وأحرق كل ديارها بلا استثناء، وتركها كما يقول ابن الأثير: خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس.
والذي يجدر ذكره أن من جملة من أمسك بهم جنكيز خان من أهل المدن أطفال جلال الدين بن خوارزم، فأمر جنكيز خان بذبحهم جميعاً، وهكذا ذاق جلال الدين من نفس المرارة التي ذاقها الملايين من شعبه.
روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كن كما شئت، كما تدين تدان».
والحديث مرسل.
وحقق جنكيز خان بذلك حلماً غالياً جداً، لم يكن يتوقع أن يحققه بهذه السهولة، وهذا الحلم هو احتلال أفغانستان، فاحتلال أفغانستان كان حلماً لـ جنكيز خان ولغيره من الغزاة، فاحتلالها خطوة مؤثرة جداً في طريق سقوط الأمة الإسلامية، وسقوطها نذير خطر شديد للأمة بأسرها، لعدة أسباب، منها:
أولاً: طبيعتها الجبلية التي تجعل غزوها شبه مستحيل، وهي بذلك تمثل حاجزاً طبيعياً قوياً في وجه الغزاة، وتخفف الوطء على البلاد المجاورة لها، فإن سقطت كان سقوط البلاد المجاورة لها مثل: باكستان وإيران ثم العراق سهلاً جداً.
ثانياً: موقعها الإستراتيجي الهام، فهي تقع في موقع متوسط في آسيا، والذي يسيطر عليها يستطيع النظر من زاوية درجتها (360) درجة على المنطقة بأسرها، فيستطيع مراقبة باكستان وإيران وروسيا والهند، ويكون قريباً نسبياً من الصين، فالسيطرة على كامل آسيا بعد احتلال أفغانستان أمر ممكن.
ثالثاً: الطبيعة الجبلية لأفغانستان أكسبت شعبها صلابة وقوة لا تتوافر في غيرها من البلاد، فإن سقطوا فسيكون سقوط غيرهم سهلاً بلا شك.
رابعاً: يتمتع سكانها بنزعة إسلامية عالية جداً، وبروح جهادية بارزة مميزة، وليس من السهل أن يقبلوا الاحتلال، وقد ظهر ذلك واضحاً في انتصارين متتالين على التتار، فكل الجيوش الإسلامية قبل ذلك فشلت في حربها مع التتار، وأول مرة غلب التتار فيها كانت في أفغانستان، فقد غلبوا مرتين، فلو سقط الأفغان فسيعد ذلك نجاحاً هائلاً للقوى المعادية للمسلمين.
خامساً: أن الأثر المعنوي السلبي على الأمة الإسلامية سيكون رهيباً، والأثر المعنوي الإيجابي على التتار سيكون كبيراً جداً كذلك، والأثر السلبي على المسلمين والإيجابي على التتار سيكون مؤثراً جداً في الأحداث.
وأنى لأمة محبطة أن تفكر في القيام؟! وأنى لجيش كجيش التتار حقق نصراً صعباً أن يفرط في الانتصارات السهلة؟! هذا عادة لا يكون، فأفغانستان كانت محطة خطيرة جداً، ومؤثرة تأثيراً سلبياً كبيراً جداً على أمة الإسلام بصفة عامة، وليس على أهل أفغانستان فقط.
وبذلك يكون التتار الذين وصلوا من الصين قد دخلوا كازاخستان، ثم أوزباكستان، ثم تركمانستان، ثم أفغانستان، ثم إيران، ثم أذربيجان، ثم أرمينيا، ثم جورجيا، في سنة (617هـ)، وهذا الكلام مثبت في كل كتب التاريخ، ففي سنة واحدة اجتاحوا هذا الجانب الشرقي الضخم المهول من العالم الإسلامي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
احتلال التتار لمراغة (23)
لما دخلت سنة (618هـ)، في أول هذه السنة دخل التتار مدينة مراغة المسلمة، وهي في إقليم أذربيجان، ومن عجيب الأمور أن رأس المدينة كان امرأة مسلمة، ولا أدري لماذا أعطى المسلمون زمامهم لامرأة في هذا الوقت الحساس؟
فهل البلاد قد عدمت من الرجال الذين يصلحون للقيادة؟! فحاصر التتار مراغة ونصبوا حولها المجانيق، وبدأ التتار القتال بواسطة الأسرى المسلمين، فالأسرى المسلمون الذين مع التتار، هم الذين بدءوا يفتحون مراغة، ويقتلون إخوانهم المسلمين فيها طمعاً في قليل من الحياة، أي حياة كانت، ولو انقلب هؤلاء الأسرى على التتار حمية لإخوانهم في مراغة، لكان هناك فرصة لنجاة بعض المسلمين على الأقل، ولكن ضاعت المفاهيم، وعميت الأبصار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
دخل التتار مدينة مراغة المسلمة في (4) صفر (618هـ) ووضعوا السيف في أهلها، فقتل منهم كما يقول ابن الأثير ما يخرج عن الحد والإحصاء، ونهبوا كل ما صلح لهم واستطاعوا حمله، والذي لم يستطيعوا حمله جمعوه وأحرقوه، وكانوا يأتون بالحرير الثمين كأمثال التلال فيحرقونه بالنار.
يقول ابن الأثير رحمه الله: إن المرأة من التتار كانت تدخل الدار فتقتل جماعة من أهلها رجالاً ونساء وأطفالاً، ما يتحرك لها أحد.
وذكر أيضاً: أنه سمع بنفسه من بعض أهل مراغة أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه (100) رجل مسلم، فما زال يقتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم جميعاً، ولم يمد إليه رجل واحد يده بسوء، فقد وضعت الذلة على الناس، فكانوا لا يدفعون عن أنفسهم قليلاً ولا كثيراً، ونعوذ بالله من الخذلان.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
أسباب تراجع التتار عن غزو تبريز وكنجة (24)
انسحب التتار إلى مدينة تبريز الإيرانية، وقد عزموا على نقض العهد الذي عقدوه قبل ذلك مع أزبك بن البهلوان، ولكنهم فوجئوا بتغيير الحكم في تبريز، فقد تولى قيادة البلاد شمس الدين الطغرائي رحمه الله، وقد كان رجلاً مجاهداً يفقه دينه ودنياه، فقام رحمه الله يحمس الناس على الجهاد وعلى إعداد القوة، وقوى قلوبهم على الامتناع،
وحذرهم عاقبة التخاذل والتواني، وعلمهم ما عرفوه نظريًا قبل ذلك ولم يطبقوه أبداً بصورة عملية في حياتهم، فعلمهم أن الإنسان لا يموت قبل ميعاده أبداً، وأن رزقه وأجله قد كتب له قبل أن يولد، وأنهم مهما فعلوا للتتار ومهما ركعوا أمامهم، فلن يتركوهم، إلا إذا احتمى المسلمون وراء سيوفهم ودروعهم، وأما بغير قوة فلن يحمى حق على وجه الأرض.
فتحركت الحمية في قلوب أهل تبريز نتيجة تحميس شمس الدين لهم، فقاموا مع قائدهم البار يحصنون بلدهم، ويصلحون الأسوار، ويوسعون في الخنادق، ويجهزون السلاح، ويضعون المتاريس، ويرتبون الصفوف، وتجهز القوم للجهاد في سبيل الله،
فلما سمع التتار بأمر المدينة وحالة العصيان المدني فيها والنفير العام، والتجهز للقتال في سبيل الله، أخذوا قراراً عجيباً، وهو عدم دخول تبريز، وعدم قتال قوم رفعوا راية الجهاد في سبيل الله، فقد ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب التتار على كثرتهم من أهل تبريز على قلتهم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم نصر بالرعب مسيرة شهر، وكذلك ينصر بالرعب كل من سار على طريقه صلى الله عليه وسلم، فالجهاد فعل فعله المتوقع، وعلى الرغم من أن القوم لم يجاهدوا ولم يصلوا إلى مرحلة الجهاد، إلا أنهم لما عقدوا النية الصادقة، وأعدوا الإعداد المستطاع، تحقق الوعد الرباني الذي لا يخلف، وهو وقوع الرهبة في قلوب الأعداء عند إعداد المسلمين، وهذا درس لا ينسى، واسمعوا إلى قول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال: 60]، أي: على قدر الاستطاعة، وكم هي تبريز مقارنة إلى جيوش التتار، أو مقارنة بالمدن والدول الإسلامية التي سقطت؟
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
فكانت هذه صورة مشرقة في وسط هذا الركام المظلم، ورحم الله شمس الدين الطغرائي الذي جدد الدين في هذه المدينة المسلمة تبريز.
ونفس هذا الحدث تكرر مع مدينة كنجة، فقد أعلنت الجهاد في سبيل الله وأعدت العدة، فلم يدخل تتري واحد إلى مدينة كنجة، وهذا الكلام ليس من قبيل المصادفة، فالبلاد التي رفعت راية الجهاد وأعدت له العدة لم يجرؤ التتار على غزوها.
وهذه سنة من سنن الله عز وجل.
ولو أن كل مدن المسلمين فعلت ذلك لما استطاع التتار ولا غيرهم أن يطئوا بأقدامهم النجسة أرض المسلمين.
فحافظ المسلمون على هذه البلاد سنوات وسنوات، لا بكثرة الأعداد والاتفاقيات والمعاهدات والسلام وغيرها، ولكن بجهاد صادق، ودماء زكية، وقلوب طاهرة مخلصة.
أما الذين يخالفون من العباد، فالله عز وجل لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
احتلال التتار لداغستان والشيشان وجنوب غرب روسيا (25)
ترك التتار تبريز وكنجة، واتجهوا إلى داغستان والشيشان الواقعتين شمال أذربيجان على ساحل بحر قزوين، فقاموا كعادتهم بتدمير كل شيء في هذه البلاد، وقتلوا معظم من وجدوه في طريقهم، وكانت أشد المدن معاناة من التتار هي مدينة شماخي المسلمة، وهي الآن في داغستان محتلة من روسيا.
ثم ترك التتار هذه المنطقة وجاوزوها إلى روسيا، فدخلوها، وكان يعيش فيها النصارى في ذلك الوقت، ثم استمر التتار في صعودهم حتى وصلوا إلى حوض نهر الفولجا في روسيا، فقاتلوا أهل هذه البلاد من النصارى وأثخنوا فيهم القتل، وارتكبوا معهم من الجرائم ما ارتكبوه مع المسلمين، وظلوا بقية سنة (618هـ) داخل الأراضي الروسية، وهي أرض واسعة جداً، وسيطروا في هذه السنة على الجنوب الغربي من روسيا.
وفي سنة (619هـ) حافظ التتار على أملاكهم، ووطدوا ملكهم في هذه المناطق، والدول التي سقطت تحت سيطرة التتار هي: كازاخستان، وقرغيزستان، وطاجاكستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وباكستان، باستثناء المناطق الجنوبية منها المعروفة باسم إقليم كرمان لم يصل إليه التتار، وأفغانستان بكاملها، ومعظم إيران ما عدا الجزء الغربي منها الذي كان تحت سيطرة طائفة الإسماعيلية، وأذربيجان، وأرمينيا النصرانية، وجورجيا النصرانية، والجنوب الغربي لروسيا النصرانية.
والتتار خلال سنتين وبضعة أشهر احتلوا هذه المساحة من العالم.
وفي سنة (620هـ) بسط جنكيز خان سطوته على الدولة الخوارزمية وما حولها، واستمرت الحملات التترية على روسيا، وانشغل التتار في حرب روسيا في هذه السنة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تقليد هولاكو إمارة حلب للأشرف الأيوبي (26)
استقر الوضع لـ هولاكو في حلب، وخمدت كل مقاومة، وهدمت كل الأسوار والقلاع، فأراد الانتقال إلى مكان آخر في الشام، فاستقدم الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو ممن والى هولاكو قبل ذلك، فأظهر له هولاكو كرماً غير عادي، وأعطاه إمارة مدينة حلب إلى جوار مدينة حمص؛ وذلك ليضمن ولاءه التام له،
ولكنه وضع عليه إشرافاً تترياً دقيقاً من بعض قادة الجند التتر، فأصبح الأمير الأشرف الأيوبي وكأنه الحاكم الإداري للمدينة، يعني: أصبح صورة حاكم أمام الشعب، بينما كان الحاكم الفعلي هو الحاكم العسكري التتري لحلب، فهو الذي بيده كل مقاليد السلطة والحكم والقوة.
بعد إسقاط مدينة حلب اتجه هولاكو إلى الغرب، وذهب إلى حصن حارم المسلم والذي يقع على بعد حوالي (50) كيلو متر من حلب، وحاصره ثم اقتحمه وذبح كل من فيه.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
سقوط ميافارقين أثناء حصار هولاكو لحلب ومقتل الكامل أمير ميافارقين (27)
في أثناء حصار حلب، والشعب يحاول رد بأس التتار، وصل خبر أليم مفجع إلى المسلمين في حلب، وهو أنه قد سقطت مدينة ميافارقين، ودخلت جيوش التتار الهائلة داخل المدينة بعد حصار بشع استمر عاماً ونصف عام متصلاً بالنضال والكفاح والجهاد، دون أن تتحرك نخوة في قلب أمير من الأمراء أو ملك من الملوك، مدة (18) شهراً والناصر والأشرف والمغيث وغيرهم من الأسماء الضخمة يراقبون الموقف ولا يتحركون،
ولما سقطت المدينة الباسلة استبيحت حرماتها تماماً، وجعلها أشموط بن هولاكو عبرة لكل بلد تقاوم في هذه المنطقة، فقد قتل أشموط كل سكان ميافارقين، واحتفظ منهم بالأمير الكامل محمد رحمه الله حياً؛ ليزيد من عذابه، وذهب به إلى أبيه السفاح هولاكو وهو في حصار مدينة حلب وسلمه إياه.
فاستجمع هولاكو كل شره في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي رحمه الله، فقيده وصلبه، ثم بدأ يقطع أطرافه وهو حي رحمه الله، ثم أجبره على أن يأكل لحمه، فكان يدس لحمه في فمه رغماً عن أنفه، فكان يقطع من جسمه ويضعه في فمه، وظل على هذا التعذيب البشع إلى أن أذن الله عز وجل للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها، {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
قتل الكامل محمد الذي قاوم كما قتل الخليفة المستعصم بالله الذي سلم دون مقاومة، ولكن شتان بين من مات رافعاً رأسه ممسكاً بسيفه، ومن مات ذليلاً منكسراً مطأطأ رأسه رافعاً يده بالتسليم، وشتان بين من مات بسهم في صدره مقبلاً، ومن مات بسهم في ظهره مدبراً.
والكامل محمد رحمه الله مات في الموعد الذي حدده له رب العالمين، لم يتقدم أو يتأخر لحظة، وكذلك مات المستعصم بالله في الموعد الذي حدده له رب العالمين، لم يتقدم أو يتأخر لحظة، وكذلك سيموت الناصر يوسف الأيوبي الذي خان الأمة بكل أنواع الخيانة في الموعد الذي حدده له رب العالمين، لن يتأخر أو يتقدم لحظة، ولن يطيل الجبن عمراً، ولن تقصره الشجاعة،
ولكن أين اليقين؟ استشهد البطل الأمير الكامل محمد الأيوبي، والذي كان بمثابة شمعة مضيئة في عالم كبير جداً من الظلام، وقطع السفاح هولاكو رأسه ووضعه على رمح، وأمر أن يطاف برأسه في كل بلاد الشام، وذلك ليكون رعباً لكل المسلمين، وانتهى المطاف بالرأس بعد ذلك إلى دمشق، وعلِّقَت رأسه فترةً على أحد أبواب دمشق وهو باب الفراديس، ثم انتهى به المقام أن دفن في أحد المساجد، والذي عرف بعد ذلك بمسجد الرأس.
ونسأل الله أن يكون من أهل الجنة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تنصر ابن حاكم الأناضول طمعاً في حكم مملكة الكرج (28)
الحدث الثالث:
ذكر ابن الأثير في كتابه القيم (الكامل في التاريخ) تحت عنوان: حادثة غريبة لم يوجد مثلها.
وهي فعلاً غريبة ومأساوية إلى أقصى درجة ممكنة، فمملكة الكرج النصرانية بعد أن أتمت صلحها مع المسلمين بعد المعركة التي ذكرناها سابقاً، وصل إلى قمة الحكم فيها امرأة، ولم تكن متزوجة، فطلب منها الوزراء والأمراء أن تتزوج رجلاً يدير عنها البلاد، فوافقت، وأرادت أن تتزوج من بيت ملك وشرف، فلم تلق بيتاً في الكرج بهذه الصفة، فسمع بذلك أحد ملوك المسلمين واسمه مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان، وكان من ملوك السلاجقة، ويحكم منطقة الأناضول -تركيا الآن-، وكان له ابن كبير،
فأرسل إلى ملكة الكرج يخطبها لابنه، فرفضت الملكة وقالت: إنها لن تتزوج من رجل مسلم، ولن يملك الكرج رجل مسلم، فقال الملك مغيث الدين بن قلج أرسلان: إن ابنه سيتنصر ويتزوجها، فوافقت على ذلك، وتنصر الولد بالفعل، وتزوج من ملكة الكرج، وانتقل إلى مملكتهم ليكون حاكماً عليهم، وبقي على نصرانيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لقد وصل المسلمون في هذه الآونة إلى درجة من التردي يستحيل معها النصر، إذ كيف تأتي فكرة التنصر في ذهن الملك وابنه أصلاً ولو كان سيحكم الأرض كلها بعد هذا التنصر؟! وكيف يأتي ذلك من ملك عظيم يحكم الأناضول؟!
ولو أتى ذلك الكلام من ضعيف مستعبد، لقلنا: لعله استكره على ذلك، أما أن يأتي ذلك العرض من الملوك ويطلبونه هم، فهذا مما لا يتخيله العقل، ولا أدري من الذي أطلق على هذا الملك لقب مغيث الدين! فأي دين هذا الذي يغيثه؟! أيغيث الدين النصراني أو الدين الإسلامي؟ {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
ثم إن هذا الولد الذي تزوج ملكة الكرج مات على نصرانيته محبوساً في مملكة الكرج، فقد عاش عدة أشهر في الملك، ثم إن الكرج غضبوا عليه وحبسوه، وبقي نصرانياً ومات على نصرانيته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
سيطرة جلال الدين على إيران وسعيه لإسقاط الخلافة العباسية وما رافق ذلك من أحداث عام 621هـ (29)
كانت قد بدأت قصة التتار سنة (616هـ)، وكل هذا الذي ذكرناه حدث في ست سنوات فقط، ثم في عامي (622هـ) و (623هـ) خفت القبضة التترية على غرب الدولة الخوارزمية غرب وشمال إيران، واكتفوا ببعض الحملات المتباعدة، واهتموا بتوطيد الملك في أركان الدولة الخوارزمية الشاسعة التي وقعت في أيديهم،
ولكن حدث أمر جديد في هاتين السنتين، فقد ظهر على مسرح الأحداث فجأة جلال الدين بن محمد بن خوارزم، فقد ضاق من عيشه في الهند، ورأى أن الوضع هناك ليس مريحاً، وعلاقته مقطعة وسيئة مع ملوك الهند الغوريين المسلمين، ورأى الوضع مستقراً نسبياً في إيران، فالتتار قد اكتفوا بتوطيد الملك في أركان الدولة الخوارزمية الشرقية، فوجد الفرصة مناسبة، فدخل أرض إيران يبحث عن الملك الضائع، فهو ملك وابن ملك، ويريد أن يأتي بالملك، وقد كان أخوه غياث الدين يحكم شمال إيران وسعد الدين بن دكلا الذي تقاسم البلد مع غياث الدين يحكم الجنوب، فتحالف جلال الدين بن محمد بن خوارزم مع سعد الدين بن دكلا لحرب أخيه غياث الدين بن محمد بن خوارزم، وبدأ جلال الدين في غزو إقليم فارس من جنوبه إلى الشمال ووصل إلى غرب إيران، وسيطر على المنطقة الغربية من إيران.
ووجد جلال الدين نفسه قريباً من الخلافة العباسية في العراق، وتذكر الخلافات القديمة بينه وبين الخلافة العباسية، فقرر غزو الخلافة العباسية.
فقد كان الزعماء في ذلك الوقت مصابون بالحول السياسي، فحاصر البصرة لمدة شهرين ولم يستطع فتحها، فتركها واتجه إلى الشمال، وقرب من بغداد وحاصرها، فخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه وعلى مدينته، فحصن المدينة وجهز الجيوش، ولكنه لم يكن صاحب حرب ولا يستطيع الحرب، ففعل فعلاً شنيعاً بشعاً مقززاً لا يتخيل، يقول ابن الأثير تعليقاً على هذا الفعل: فعل الذنب الذي يتصاغر إلى جواره كل الذنوب، فقد أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين، وهو يعلم تاريخهم وحروبهم مع المسلمين.
ولو كان الظلم كل الظلم مع جلال الدين والحق كل الحق مع الخليفة أفيأتي بالتتار لنجدته؟! أما علم أن التتار إذا قضوا على جلال الدين فإن الخطوة التالية مباشرة هي القضاء على الخلافة العباسية؟! فقد أراد خليفة المسلمين أن يطيل فترة ملكه أعواماً قليلة، وأن يموت عبداً للتتار بدلاً أن يكون عبداً لـ جلال الدين؟!
وأنا لا أدافع عن جلال الدين، بل ألومه أشد اللوم على تفريق طاقة المسلمين وجعل بأسهم بينهم، وإنني أشبه جلال الدين بـ صدام حسين، فالدنيا كانت مشتعلة في كل مكان بسبب التتار، وهو يريد محاربة الخلافة العباسية، وصدام حسين كانت الدنيا كانت مشتعلة في أفغانستان وفلسطين والشيشان وكشمير، وهو ذاهب لمحاربة الكويت.
ومع أن جلال الدين كان معتدياً إلا أن الحل لم يكن بأن نأتي بقوة كافرة مهولة مروعة لنزرعها في داخل بلاد المسلمين، لكي تحل لهم مشاكلهم، وتعالج أمراضهم.
فكان الخليفة العباسي كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكمن دخل عليه لص في بيته فاستجار بأكبر زعماء العصابات في المنطقة، فإنه سيخرج اللص الصغير ويحتل البيت، بل ويحتل العمارة كلها، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
لكن التتار في ذلك الوقت كانوا مشغولين عن حرب جلال الدين، فلم يأتوا ليساعدوه، ولم يستطع جلال الدين أن يدخل بغداد، فتركها وانتقل إلى غيرها من البلاد.
وكانت حروب جلال الدين ومن معه من الجنود الخوارزمية حروباً شرسة مفسدة، مع أن كل البلاد المغنومة بلاد إسلامية، فكان يفعل بهم الأفاعيل من قتل وسبي ونهب وتخريب، وكأنه تعلم من التتار قسوة القلب، فبدلاً من أن يرحم الناس الذين تعذبوا على أيدي التتار سنوات، بدأ هو كذلك يشترك في التعذيب، حتى بلغ سلطانه من جنوب فارس إلى الشمال الغربي لبحر قزوين من إيران، وهي وإن كانت منطقة كبيرة إلا أنها كلها كانت مليئة بالقلاقل والاضطرابات والارتباكات، بالإضافة إلى العداءات الكثيرة التي أورثها جلال الدين في قلوب كل سكان المنطقة، وسياسة العداءات والمكائد والاضطرابات ورثها جلال الدين بن خوارزم عن أبيه محمد بن خوارزم، ولم تأت هذه السياسة إلا بالويلات الشديدة على الأمة، وليت المسلمين يفقهون.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تولي الظاهر بأمر الله الخلافة العباسية وتحسن الأوضاع في عهده (30)
في آخر سنة (622هـ) توفي الخليفة الظالم الفاسد المستبد الناصر لدين الله، بعد أن حكم البلاد (47) سنة، وتولى الحكم بعده ابنه الظاهر بأمر الله،
وكان على النقيض تماماً من أبيه، فقد كان رجلاً صالحاً تقياً، أظهر من العدل والإحسان ما لم يُسبق إلا عند القليل.
حتى قال ابن الأثير: لو قال قائل: إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقاً، فقد رفع الضرائب الباهظة، وأعاد للناس حقوقهم، وأخرج المظلومين من السجون، وتصدق على الفقراء، حتى قيل في حقه: إنه كان غريباً تماماً على هذا الزمان الفاسد.
ثم قال ابن الأثير فيه كلمة في منتهى العجب، فقال: إني أخاف أن تقصر مدة خلافته؛ لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته، فقد كان المجتمع فاسدًا إلى هذا الحد.
وصدق ظن ابن الأثير، فقد مات الظاهر بأمر الله بعد تسعة أشهر، ومع ذلك فكما يذكر الرواة: رخصت الأسعار جداً في فترة حكمه, فتحسن الاقتصاد في العراق في تسعة شهور، وهي إشارات لا تخفى على عاقل، فالحمد لله الذي وضع في الأرض سنناً لا تتبدل ولا تتغير.
ثم تولى الحكم بعد الظاهر بأمر الله المستنصر بالله.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
وفاة جنكيز خان (31)
في سنة (624هـ) حدث أمر هام ومحوري، فقد توفي القائد التتري المجرم السفاح جنكيز خان عليه لعنة الله، وكان عمره (72) سنة، ملأها بالدماء والسفك والقتل والسلب والنهب، وأقام مملكة واسعة جداً من كوريا في الشرق إلى فارس في الغرب، وبناها على جماجم البشر، ومعظمهم من المسلمين.
ولكن اللوم كل اللوم على الذي أوصل المسلمين إلى هذه الحالة من الضعف، التي مكنت هذا الفاسد من أن يفعل في بلاد المسلمين ما يشاء.
وبموت جنكيز خان هدأت الأمور نسبياً في هذه المنطقة، واحتفظ التتار بما ملكوه من بلاد المسلمين إلى وسط إيران تقريباً، وكان جلال الدين يبسط سيطرته على المناطق الغربية من إيران ومن بحر قزوين، ووقف القتال، وكأن كل فريق قد رضي بما يملك، وكأن التتار في دولتهم وجلال الدين في دولته.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تسليم المسلمين بيت المقدس للصليبيين (32)
استقرت الأمور، وهدأت نسبياً في الفترة من سنة (624هـ) إلى سنة (627هـ)، أي: ثلاث سنوات.
وكان المسلمون خلال هذه الفترة على ما عهدوه من الخلاف والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ولم يستغلوا مصيبة التتار في زعيمهم الكبير جنكيز خان لجمع صفوفهم وتحرير بلادهم، ولكن شغلوا بأنفسهم، وبمحاربة بعضهم لبعض.
وهذه الحالة لم تكن فقط في أرض العراق وغرب إيران فقط، ولا بين جلال الدين والخليفة العباسي فقط، بل كانت عامة في عموم العالم الإسلامي، فكل المنطقة كان تموج بالاضطربات والفتن، وكانت الحروب مستمرة بين أمراء المسلمين في الشام ومصر، ولم تتحد كلمتهم أبداً، مع أن معظم الحكام في هذه المنطقة كانوا من الأيوبيين، وبينهم صلة رحم قوية، وكانت تقوم الحرب أحياناً بين الإخوة الأشقاء.
في سنة (626هـ) حدث أمر مريع،
وهو تسليم بيت المقدس الذي حرره صلاح الدين الأيوبي رحمه الله قبل ذلك بـ (40) سنة إلى الصليبيين صلحاً، فقد اتفق أمراء الشام على إعطاء بيت المقدس للنصارى الصليبيين؛ ليساعدوهم على غزو مصر، وتخيلوا كيف كانت المأساة في ذلك الوقت؟ نعوذ بالله من الضعف بعد القوة، ومن الذلة بعد العزة، ومن الخذلان بعد النصر.
وعند رؤية هذه الأحداث في كل بلاد المسلمين نعلم سبب تمكن التتار من هذه البلاد مع ضخامتها وأعدادها وثرواتها، فهذه سنة ثابتة في الكون، ومن كانت هذه حالته فلابد أن يسلط عليه طواغيت الأرض، فالله عز وجل لا ينصر إلا من نصره، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160]، لا أحد.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
احتلال التتار لأذربيجان وتوقفهم بعد ذلك عن الحروب (33)
دخلت سنة (628هـ) تحمل هجمة تترية بشعة جديدة على الأمة الإسلامية، فقد استقر ملك التتار في منغوليا، وتولى القيادة بعد جنكيز خان زعيم جديد اسمه أوكيتاي، فكان هو الخاقان الجديد للدولة التترية، وكلمة خاقان تعني: الزعيم أو الرئيس للبلاد، فهو لقب مثل: قيصر بالنسبة للدولة الرومانية، أو كسرى بالنسبة للدولة الفارسية وغيرهما.
نظم أوكيتاي أمور دولته في الأربع السنوات الماضية في منطقة منغوليا والصين، وبدأ يفكر من جديد في اجتياح العالم الإسلامي، بل وفكر في استكمال الحروب في داخل روسيا، والخروج منها على أوروبا.
في سنة (629هـ) بعد موت جلال الدين بشهور أكمل شورماجان الحروب واحتل إقليم أذربيجان من جديد، يعني: أنه مر من إيران ودخل أذربيجان.
ثم قرر أن يوقف الحروب؛ لكي يرسخ أقدام التتار في هذه المناطق الواسعة، فأوقف الحروب 5 سنوات كاملة، من عام (629هـ) إلى عام (634هـ)، وأثناء هذه السنوات الخمس لم تخرج عليه ثورة مسلمة واحدة، ولم يتحرك له جيش مسلم من أي بلد، مع أن جيوش المسلمين كانت تملأ المناطق المجاورة لفارس وأذربيجان في كل مكان، في العراق والموصل ومصر والحجاز والشام وغيرها، ولكن الكل كان يشعر أن هذا أمر يهم أهل فارس وأذربيجان، وأنه ليس يهم جميع المسلمين، فلم يشعر المسلمون في الأقطار التي لم تصب بعد بويلات التتار أن عليهم واجباً تجاه هذه البلاد المنكوبة، ولم يشعروا أبداً أن الدائرة حتماً ستدور عليهم في يوم من الأيام.
أضف إلى ذلك أن المسلمين في العراق والشام ومصر والحجاز كان غالبيتهم من العرب، بينما غالب المسلمين في إقليم فارس وأذربيجان وشرق الدولة الخوارزمية كانوا من غير العرب، ومع غياب الفهم الإسلامي الصحيح، والاستيعاب الكامل للأسس الحقيقية التي يبنى عليها الدين، لم يعد العربي يشعر بأخيه غير العربي ولا العكس، بل كانوا يشعرون أنهم غرباء عن بعضهم البعض، وهم في الحقيقة إخوة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} } [الحجرات: 10].
أمر شنيع حقاً ألا يشعر المسلم العربي بأخيه المسلم التركي أو الأفغاني أو الشيشاني أو الهندي أو الفارسي، فهذا أمر قاصم لظهر الأمة الإسلامية، فالإسلام دين لا يرتبط بعرق ولا عنصر ولا لون ولا جنس، ولا يرتبط إلا بالإيمان بالله وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فالإسلام لا يرتبط إلا برباط العقيدة، ولا شيء غيرها.
وقد روى الإمام أحمد بسند مرسل عن أبي نضرة رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأيها الناس! ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى».
فالقاعدة واضحة، فلا مكان لعرق أو لون في الإسلام، وإنما المكان للتقوى فقط، فالمسلم الصادق حقاً هو الذي يتحمس لمن اشترك معه في العقيدة ولو اختلف أصله أو لونه أو نسبه.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
الأسباب التي أدت إلى هزيمة المسلمين أمام التتار (34)
من المواقف التي مرت، ومن الروايات السابقة والتحليلات والدراسة تتبين لنا أمراض هامة، كانت سبباً في هذه المأساة التي مر بها المسلمون في هذه الفترة العصيبة من تاريخ أمتنا، وقد ذكرناها مفصلة في الدرس، ونعيد ذكرها على سبيل التلخيص والإيجاز، وهي خمسة أمراض:
أولاً: تمكن الدنيا من قلوب المسلمين، وإذا أُشرب القلب حب الدنيا خرج منه حب الآخرة والشرع والمثل والأخلاق، وحب كل فضيلة.
ثانياً: التشاحن والتصارع والبغضاء التي تفشت بين المسلمين، ووصلت إلى الصراع بين ذوي الأرحام والأشقاء.
ثالثاً: ترك الجهاد، وعدم الاستعداد له، وعدم تربية الناس على الروح القتالية، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا.
رابعاً: عدم الاستعداد المادي للقتال، وعدم الرؤية الواضحة، والخطة السياسية، والرأي الحكيم، وعدم التدرب على القتال وإعداد السلاح له، فلم يكن يوجد أي نوع من الإعداد في الأمة الإسلامية في ذلك الوقت.
خامساً: القبلية، والاعتداد بالعنصر والعرق، وعدم اعتراف المسلمين بإخوانهم المسلمين المنتمين إلى أعراق مختلفة.
والمرض الواحد من هذه الأمراض الخمسة يهلك أمة، فكيف لو اجتمعت هذه الأمراض وغيرها في الأمة الإسلامية في ذلك الوقت؟ هذا كله يفسر ما حدث من اجتياح تتري رهيب للأمة الإسلامية.
ثبّت شورماجان قدمه في المنطقة خمس سنوات، إلى سنة (634هـ)، ثم في هذه السنة عاد الجيش التتري إلى اجتياح العالم من جديد، ولقد اختلف هذا الاجتياح اختلافات كثيرة عما سبق، ليس في طريقة القتال أو أسلوب الحرب، فدموية التتار لم تتغير أبداً، ولكن في المناطق المفتوحة، فقد دخل جيش التتار مناطق جديدة لم يدخلوها قبل ذلك، ولقد اختلف الأمر حتى في طرق الإعداد، وفي السياسة التترية بصفة عامة، ولقد عانى أهل الأرض جميعاً معاناة شديدة من هذا الغزو التتري الجديد.
ترى ما هي تفاصيل هذا الغزو؟ وما هو رد العالم الإسلامي؟ وهل سيفكر التتار في غزو العراق أم لا؟ وما هو موقف الصليبيين في أوربا من هذه الحملات التترية البشعة؟ هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في المحاضرة القادمة.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، {فَسَتَذْكُرُون مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
خطة غزو العراق (احتلال التتار لأرمينيا وجورجيا والشيشان وداغستان) (35)
احتل التتار الأجزاء الشرقية للدولة الإسلامية حتى وصلوا إلى حدود العراق، ثم بدءوا في التفكير والتخطيط والعمل الدءوب لإسقاط بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وأعدوا خطة الغزو حتى تمكنوا من إسقاط الخلافة العباسية، والمسلمون في غفلتهم سادرون.
اما بعد: هذه المحاضرة الرابعة من محاضرات قصة التتار من البداية إلى عين جالوت، وفي المحاضرات السابقة رأينا انهيار العالم الإسلامي أمام الضربات التترية المتوالية، وكيف وقع المسلمون في أخطاء قاتلة أدت إلى هذه المأساة المركبة التي مرت بالأمة بصفة عامة،
ورأينا كيف فتن المسلمون بالدنيا وتركوا الجهاد واختلفوا وتفرقوا ولم يعدوا أي عدة مناسبة أو غير مناسبة لقتال التتار، وبالتالي لم يكن هذا السقوط المزري مفاجأة بل كان أمراً متوقعاً جداً، وهو يتوافق تماماً مع سنن الله عز وجل في الأرض.
وقفنا في المحاضرة السابقة على ابتداء شورماجان القائد التتري الكبير في المنطقة الفارسية وأذربيجان بالتخطيط لغزو جديد واجتياح قادم لمناطق جديدة، وكان ذلك في سنة 634 هجرية، وفي هذه السنة ألتف شورماجان حول بحر قزوين من ناحية الغرب وانطلق شمالاً لاستكمال السيطرة على المنطقة، وبسرعة كبيرة جداً استطاع أن يعيد بسط سيطرة التتار على أقاليم أرمينيا وجورجيا والشيشان وداغستان، وأرسل جيشاً آخر لاستكمال بسط النفوذ على شمال هذه المناطق.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
احتلال التتار لروسيا (36)
ثم بدأ باتو بن جاجي وكان من أكبر قواد التتار مطلقاً بقيادة الحملات التترية شمال بحر قزوين في سنة 634، فقمع القبائل التي تسكن في نهر الفولجا الروسي، ثم زحف بعد ذلك على البلاد الروسية الواسعة، وبدأ هذا الزحف على روسيا في سنة 635هـ، وقام بمذابح بشعة شنيعة في روسيا النصرانية من حين دخلها إلى أن انتهى منها،
واستولى على العديد من المدن الروسية، فقد سقطت مدينة ريدان، ثم بعدها بقليل سقطت مدينة كولومونا، ثم سقطت مدينة فلاديمير، وكانت مدينة كبيرة جداً جداً، حيث صمدت ستة أيام فقط في وجه التتار ثم سقطت سقوطاً كاملاً، وذبح غالب سكانها، ثم سقطت مدينة سوذال،
ثم توجهت الجيوش التترية إلى أعظم مدن روسيا موسكو واجتاحوها ودمروها في أيام معدودات، ثم سقطت بعد ذلك مدن يورييف وجاليش وبريسلاف وروستوف وغيرها إلى أن احتل التتار دولة روسيا بكاملها في سنتين، من سنة 635 إلى 636، ومساحة روسيا 17 مليون كيلو متر مربع، وليست المشكلة في هذه المساحة الهائلة، بل إنها يسكنها أعداد هائلة من البشر، إضافة إلى أن طقسها شديد البرودة وأجواءها صعبة جداً،
ومع ذلك فإن التتار انتهوا من روسيا كلها في سنتين، ولم يستطع أحد أن يقف أمام التتار، ثم بعد هذا الاجتياح توقفوا سنتين ينظمون صفوفهم ويعيدون ترتيب أمورهم.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
نظرة على أحوال التتار والمسلمين والنصارى عام 639هـ (37)
ولا بد لنا أن نراجع الموقف في سنة 639هـ، ونقيم أوضاع العالم ككل في هذه السنة، وبإلقاء نظرة على كل أرجاء العالم في ذلك الوقت يتبين الآتي:
أولاً: وصلت حدود دولة التتار في هذه السنة من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً ومن سيبيريا شمالاً إلى بحر الصين جنوباً، فقد اتسعت دولتهم اتساعاً رهيباً جداً في وقت محدود، وأصبحت قوتهم في ذلك الوقت هي القوة الأولى في العالم بلا منازع.
ثانياً: تولى قيادة التتار بعد أوكيتاي ابنه كيوك بن أوكيتاي، وكان رأي هذا الخاقان الجديد تثبيت أقدام التتار في البلاد المفتوحة، ولم يكن عنده سياسة توسعية كأبيه أوكيتاي أو كـ جنكيز خان، فأوقف الفتوحات التترية في أوروبا والعالم الإسلامي.
ثالثاً: ابتلع التتار في فتوحاتهم السابقة النصف الشرقي للأمة الإسلامية، وضموا معظم أقاليمها في آسيا إلى دولتهم، وقضوا على كل مظاهر الحضارة في هذه المناطق، كما قضوا تماماً على أي نوع من المقاومة في هذه المناطق الواسعة.
رابعاً: ظل القسم الأوسط من العالم الإسلامي العراق إلى مصر، يعني: العراق والشام والحجاز ومصر واليمن مفرقاً مشتتاً، ولم يكتف المسلمون فيه فقط بالفرجة على الجيوش التترية وهي تسقط معظم ممالك العالم في وقتهم، وإنما انشغلوا بالصراعات الداخلية بينهم وازداد تفككهم بصورة كبيرة.
وكذلك كان القسم الغربي من العالم الإسلامي -ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وغرب أفريقيا- مفككاً تماماً بعد سقوط دولة الموحدين.
فكان القسم الشرقي قد أخذه التتار، والغربي والأوسط مفككين.
خامساً: ذاق الأوربيون النصارى من ويلات التتار كما ذاق المسلمون، وذبح منهم مئات الآلاف أو الملايين، ودمرت كنائسهم وأحرقت مدنهم وهددوا تهديداً بشعاً، ووصل التتار إلى روما عقر دار الكاثوليكية النصرانية في أوروبا.
سادساً: مع أن النصارى رأوا أفعال التتار إلا أن ملوك النصارى في أوروبا الغربية -في فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا- التي لم يدخلها التتار بعد كانوا يرون أن هذه المرحلة مؤقتة وسوف تقف، يعني: لابد أن يقف التتار عن القتال في يوم من الأيام.
أما حروب النصارى الصليبيين ضد المسلمين فكانت في رأي زعماء أوروبا وملوكهم حروباً دائمة لا تنتهي، وكان هذا الرأي له مردود على ملوك أوروبا، ومن ثم اعتقد ملوك الصليبيين اعتقاداً جازماً أنهم لابد أن يتعاونوا تعاوناً كاملاً مع التتار ضد المسلمين، بالرغم من كل الأعداد الهائلة من النصارى التي ذبحت على أيدي التتار.
وأما لماذا يعتقد الصليبيون أن حربهم مع المسلمين دائمة وحربهم مع التتار مؤقتة فلأن حربهم حرب عقيدة، والعداء بينهم وبين المسلمين قائم على أساس ديني، فالصراع بينهما أبدي، والنصارى لن ينهوا القتال إلا بدخول إحدى الطائفتين في الأخرى، كما يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، وأما حروب التتار فلم تكن حروب عقيدة أبداً، فعقيدة التتار كانت عقيدة مشوهة وباهتة جداً، وهي مجموعة من أديان شتى، ولم نسمع عن قائد تتري واحد أنه حاول نشر هذه العقيدة في البلاد المغنومة، وإنما كان كل هدف التتار هو الإبادة والتشريد وجمع المال وسبي النساء والأطفال وغير ذلك من أمور التخريب، ومن كانت هذه صفته فلا يكتب له الاستمرار أبداً.
فلذلك وعلى الرغم من الصدمات التي تلقتها أوروبا على يد التتار إلا أن أوروبا استمرت في تجهيز حملاتها لغزو بلاد المسلمين، واستمرت في تكثيف الجهود لإنشاء العلاقات والمعاملات الدبلوماسية مع التتار.
سابعاً: بدأ يحدث تغير عقائدي في الجيش التتري بعد حملات التتار في أوروبا، وهذا سيكون له مردود مهم بعد وقت، وسبب هذا التغير العقائدي الذي حصل في جيش التتار كان بسبب زواج عدد كبير من قادة المغول من فتيات نصرانيات أوروبيات، وبذلك بدأت الديانة النصرانية تتغلغل نسبياً في البلاط المغولي، وقد ساعد هذا على إمكانية أن يتعاون التتار بعد ذلك مع الصليبيين، وأن يجتمع الحقدان الصليبي والتتري على إسقاط الخلافة العباسية وبلاد الشام، وعلى غيرها من الخطوات.
ثامناً: استمرت الحروب الصليبية الأوروبية على المسلمين في مصر والشام ولم تنقطع، فمع كل هذه المجازر التترية في أوروبا إلا أن المجازر الصليبية في بلاد الشام ومصر لم تنقطع في ذلك الوقت، وقد كانت تحت حكم الأيوبيين في آخر أيامهم، وكان الصراع دائراً بين بعضهم بعضاً، فكان المسلمون واقعون في مثلث خطير، الصليبيون من ناحية والتتار من ناحية، وزعماء المسلمين من ناحية ثالثة.
تاسعاً: في سنة 640 هجرية توفي المستنصر بالله الخليفة العباسي، وتولى الخلافة العباسية في ذلك الوقت ابنه المستعصم بالله، وكان عمره 30 سنة في ذلك الوقت، وهو الذي سقطت الخلافة العباسية في زمانه، وكان مشهوراً بكثرة تلاوة القرآن والنظر في التفسير والفقه.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تولي منكو خان قيادة التتار (38)
وخلال هذه الأحداث لم يكن الوضع في منغوليا مستقراً، فالتتار لم يستطيعوا قبول امرأة كيوك ملكة عليهم، ومن ثم اجتمع المجلس الوطني للتتار، واختار في سنة 649هـ منكو خان خاقاناً جديداً للتتار، وقد أدى هذا الاختيار إلى تحول كبير جداً في سياسة التتار وتغيير جذري في المناطق المحيطة بالتتار، فقد كان لـ منكو خان سياسة توسعية شديدة الشبه بسياسة جنكيز خان المؤسس الأول لدولة التتار، وبسياسة أوكيتاي الذي فتحت أوروبا في عهده.
ولذلك فأول ما فكر فيه منكو خان بعدما استلم الحكم هو إسقاط الخلافة العباسية واجتياح الشام ومصر وإفريقيا، وكانت أحلامه التوسعية تشمل كل مكان على الأرض.
وللأسف الشديد فإن أمراء المسلمين وشعوبهم في ذلك الوقت لم تكن أبداً على مستوى الحدث الكبير، حدث تولية منكو خان وبداية الأحلام التوسعية في الأراضي المسلمة، فالناس مكثوا عشر سنين بدون قتال من سنة 639 إلى سنة 649، توقفت فيها الفتوحات التترية، وهي فترة حكم كيوك ثم أوغول قيميش، والغريب جداً في هذه الفترة أن الحكام والشعوب بل والعلماء كانوا قد نسوا تماماً أن النصف الشرقي من الأمة الإسلامية واقع تحت الاحتلال التتري، وأنهم أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الخلافة العباسية والشام ومصر والحجاز، حتى إن المؤرخين الذين أرخوا لهذه الفترة لم يذكروا البتة شيئاً عن التتار.
فعلى سبيل المثال لو فتحنا البداية والنهاية لـ ابن كثير -وهو لم يعش في تلك الفترة وإنما نقل عن المؤرخين الذين عاصروها وكتبوا عنها- من سنة 639هـ إلى سنة 649هـ لن تجد ولا كلمة على التتار، وكأن القضية التترية قد حلت تماماً.
وسنجد ابن كثير رحمه الله يصف لنا في هذه الفترة حياة طبيعية جداً في العراق والشام ومصر، وأموراً في منتهى البساطة، فالخليفة يعالج بعض المشاكل الاقتصادية ويتصدق على بعض الفقراء، فقد يحدث وباء فيعالج، أو غلاء يشق على الناس فيأتي الخليفة يتصدق ببعض الأموال لمقاومة الغلاء، وأحدهم يفتح مدرسة، وآخر يفتح داراً للضيافة، وثالث داراً للطب، ويذكر من أحوال هذه السنوات أنه مات فلان من الأدباء، وفلان من الشعراء، وفلان من الوزراء، وأما العلماء الذين يخطبون على المنابر وفي حلقات العلم ويشرحون للناس خطر التتار، ويذكرونهم بمصيبة المسلمين في البلاد المنكوبة بالتتار، والحكام الذين يجهزون الشعوب ليوم لا محالة هو آت فلا وجود لهم في ذلك الزمان. فخبر التتار وأحداثهم لم تكن مشتهرة في ذلك الوقت، ولذلك اختفى ذكرها من كتب التاريخ.
وهكذا كانت أحداث ذلك الزمان تشير جميعها إلى أن اجتياحاً تترياً جديداً سوف يحدث قريباً جداً على غرار الاجتياح التتري الأول الذي حدث في زمان جنكيز خان أو الاجتياح التتري الثاني الذي حدث في زمان أوكيتاي، ولعله يكون أشد وأنكى؛ لأنه كلما ازداد خنوع المسلمين ازداد طمع التتار وغيرهم فيهم، وكلما فرط المسلمون في شيء طمع أعداء الأمة في هذا الشيء وفي الذي يليه، وهذه سنة ثابتة لأهل الباطل
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
أعوان منكو خان في حكم دولة التتار (39)
منذ تولى منكو خان زعامة دولة التتار بدأ يفكر في إسقاط الخلافة العباسية، وقد كان قائداً قوياً حازماً، وكان له ثلاثة من الإخوة على قدر كبير جداً من القوة والقدرة على القيادة، فساعده ذلك على التملك والحكم بصورة أكبر،
فأما أخوه أريق بوقا فقعد معه في قراقورم يساعده في إدارة المملكة الواسعة.
وأما الأخ الثاني واسمه قبيلاي فقد أوكل إليه إدارة المنطقة الشرقية من الدولة التترية يعني: منطقة الصين وما حولها من أقطار.
وأما الأخ الثالث هولاكو فقد أوكل إليه فارس وما حولها، وكان واقفاً في مواجهة الخلافة العباسية الإسلامية في ذلك الوقت وكلنا نسمع عن اسم هولاكو، فهو الزعيم التتري السفاح الذي لا يمتلك أي نزعة إنسانية من أي نوع، فقد كان لا يرتوي إلا بدماء البشر،
وكان تماماً كسلفه جنكيز خان لعنهما الله، فهو شخصية من أبشع الشخصيات في التاريخ قاطبة.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
إعداد هولاكو لغزو الدولة العباسية (40)
كان هولاكو واقفاً أمام الدولة الإسلامية، ولذلك كان مجال العمل الرئيسي له البلاد الإسلامية، ومعظم الدماء التي أسالها كانت دماء إسلامية، ومعظم الآلام التي زرعها في قلوب البشر كانت آلاماً في قلوب المسلمين، وكأن الحقد الذي كان في قلبه لم يكن كافياً على الأمة الإسلامية، فتزوج هولاكو من امرأة اسمها طقز خاتون، وكانت نصرانية شديدة الحقد على المسلمين، فاجتمع الحقد التتري مع الحقد الصليبي في مواجهة الخلافة العباسية والشام وما بعدها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومنذ تسلم هولاكو قيادة القطاع الغربي من الدولة التترية وتمركز في فارس بدأ يعد العدة لإسقاط الخلافة العباسية، وبكل أمانة فقد كان إعداده لإسقاط الخلافة العباسية إعداداً مبهراً وعظيماً، وكان رد فعل المسلمين لهذا الإعداد المبهر والعظيم تافهاً وحقيراً جداً، والله عز وجل له سنن لا تتبدل ولا تتغير،
منها: أن الذي يأخذ بأسباب النصر من أهل الدنيا يعطيه الله عز وجل إياه وإن كان كافراً، والذي يتخلى عن أسبابه لابد أن ينهزم وإن كان مسلماً، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود: 15].
فـ هولاكو أعد إعداداً جيداً فلم يبخس أبداً، فمنذ استلم القيادة في غرب الدولة التترية سنة 649 ومع حقده الشديد ورغبته الملحة في تدمير الخلافة الإسلامية واشتياقه الكامل لكنوز العباسيين وكثرة جنوده وتفوقه العسكري الظاهر إلا أنه برغم كل هذا لم يتسرع، ولم يدخل مباشرة، وبدأ يعد العدة في صبر مدة خمس سنوات كاملة من سنة 649 إلى سنة 654 في نشاط، مع أنه سيقابل خصماً ضعيفاً جداً في ذلك الوقت.
وهذا الإعداد في معظمه كان يتم علناً على مرأى ومسمع من المسلمين وغيرهم، والتاريخ يتكرر، ودول المسلمين الآن تحتل على مرأى ومسمع العالم، ويكتب عنها على صفحات الجرائد والانترنت، وتنشر عبر القنوات عن خطواته في الإعداد للغزو، ومع ذلك لا يتحرك أحد.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
سعي التتار لعقد تحالفات مع ملوك النصارى ونتائج ذلك (41)
كل هذا الذي حدث في هذا الوقت كان على المحورين الدبلوماسي والسياسي لدولة التتار، وذلك لإسقاط الخلافة العباسية، فالسفارة الصليبية الأولى في عهد منكو خان فشلت، وأما سفارة ملك أرمينيا فقد نجحت نجاحاً كبيراً سواء بالنسبة لملك أرمينيا أو ملك التتار.
وكان من رغبات منكو خان أيضاً أن يعقد تحالفات مع أمراء الممالك الصليبية في الشام، فالنصارى الكاثوليك كان لهم أكثر من مملكة أو إمارة في منطقة الشام وتركيا، فقد كان لهم إمارات في أنطاكية وطرابلس وصيدا وحيفا وعكا وغيرها، فأراد منكو خان أن يتحالف مع هؤلاء الأمراء؛ وذلك لشغل المسلمين في منطقة الشام وتركيا عن الخلافة العباسية؛ حتى لا يدافعون عنها، ولتشجيع هؤلاء الأمراء الصليبيين أرسل لهم ملك التتار طالباً التحالف معهم مع هيثوم ملك أرمينيا، فقد أصبح مجرد رسول وسفير لدولة التتار، وذلك مثل الرحلات الم****ة لوزير خارجية إنجلترا في إيران وباكستان وأفغانستان وتركيا وغيرها، والتاريخ يتكرر، ووعد ملك التتار أمراء الإمارات الصليبية في الشام بإعطائهم بيت المقدس هدية إذا ساعدوه في إسقاط الخلافة العباسية، وكأنه يملك بيت المقدس.
وبيت المقدس كان قد أعطي هدية من قبل المسلمين في الشام إلى نصارى الإمارات الصليبية سنة 626 كما قلنا قبل ذلك، ثم حرر في سنة 643هـ على يد الملك الصالح نجم الدين أيوب ملك مصر في ذلك الوقت.
ومع كل هذا التشجيع فقد تردد أمراء الإمارات الصليبية في الشام في مساعدته باستثناء بوهمند أمير أنطاكية، فقد استحسن هذا الأمر جداً، وانضم مباشرة إلى ملك التتار، وأما بقية الأمراء الصليبيين في الشام فقد رفضوا هذه الفكرة ولم يستحسنوها، لسببين:
أولاً: أنهم يعلمون أن التتار لا عهد لهم، وقد يبيعونهم دون ثمن، ويضحون بهم في مقابل أي شيء أو بلا مقابل.
ثانياً: أنهم يعيشون في قلب العالم الإسلامي، وخطورة المسلمين عليهم كخطورة التتار بل لعلها أقرب، ومن ثم لم يتحمس هؤلاء للتحالف المعلن مع التتار، وآثروا الانتظار إلى أن تتم الحرب بين التتار وبين المسلمين، ومن انتصر منهم سارعوا إليه ويسمون هذا سياسة.
وقد سعى منكو خان أيضاً إلى عقد بعض الاتفاقيات مع نصارى الشام والعراق من عامة النصارى الذين ليسوا بأمراء، الذين كانوا يعيشوا في كنف الدولة الإسلامية في الشام والعراق، ولم تكن هذه اتفاقات رسمية أو معلنة، بل كانت اتفاقات سرية مع بعض رءوس النصارى والقساوسة؛ حتى يسهلوا مهمة دخول التتار إلى البلاد وينقلوا الأخبار من وإلى التتار، وقد نجح منكو خان في الوصول إلى بعض الرءوس الكبيرة في الشام والعراق وعلى رأسهم ماكيكا بطريرك بغداد، فكان عاملاً مساعداً هاماً في دخول بغداد.
ثم عقد منكو خان معاهدات مع مملكة الكرج النصرانية بعد أن دمرها التتار ثلاث مرات على حرب المسلمين، وإذا كان تاريخ التتار مع مملكة الكرج أسود فكذلك تاريخ المسلمين مع مملكة الكرج أسود، فقد كانت بينهم حروب طويلة جداً وقديمة.
وحروبهم مع المسلمين كانت حروباً عقائدية، كما قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، فتعاونوا مع التتار للمصلحة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
الإعداد السياسي والدبلوماسي (42)
المحور الثاني: الاستعداد السياسي والدبلوماسي، فبدأ في محاولة عقد بعض الأحلاف السياسية مع بعض الأطراف والقوى الموجودة على الأرض؛ لضمان نجاح المهمة الكبيرة وإسقاط الخلافة العباسية، وهذا تغير كبير جداً في السياسة التترية، ويحتاج إلى وقت ومجهود، والتتار طول عمرهم لم يعرفوا التحالفات ولا الدبلوماسية، فقد كانوا دائماً محاربين للأطراف الأخرى، لأن هذه الخطوة جديدة على السياسة التترية الآن فقد تولاها منكو خان شخصياً خاقان التتار الجديد سنة 651 من الهجرة،
يعني: بعد سنتين من حكمه، فقد استقبل سفارة صليبية أرسلت من قبل لويس التاسع ملك فرنسا، الذي نزل سنة 647 في دمياط، ثم هزم في سنة 648 في موقعتين شهيرتين جداً، أولاهما: موقعة المنصورة، والثانية: موقعة فارسكور وأسر فيها ثم فدي بالمال، وكان عنده حقد كبير جداً على الشام ومصر،
ويريد أن يعيد الكرة في حربه من جديد، ففي سنة 651هـ أرسل سفارة جديدة إلى منكو خان يريد التعاون معه ضد المسلمين، وبدأت المفاوضات ولكنها فشلت، فـ منكو خان كان رجلاً في منتهى الصراحة، فهو لم يكن متعوداً على الأحلاف كما قلنا، ولم يكن يعرف السياسة من وجهة نظر الغرب، فالغرب عنده طرق ملتوية من تنميق الألفاظ واختيار العبارات للحصول على ما يريد دون أن يشعر الطرف الآخر أنه فرط في شيء، فـ منكو خان لم يكن يعرف أي شيء عن النفاق الأوروبي المعروف، ولا يعرف الابتسامة الأوروبية التي تخفي وراءها كل الحقد، بل كان رجلاً في منتهى البساطة والوضوح جداً، ويحدد رغباته مباشرة، فقال في بداية المفاوضات في أول كلامه:
إنني لا أقبل أن يكون في العالم سيد سواي، أنا لا أعرف كلمة صديق إنما أعرف كلمة سادة، أصدقائي هم من يتبعونني ويعلنون الولاء والطاعة الكاملة لي، وأعدائي هم الذين يحاربونني ولا يقبلون طاعتي سياسة بسيطة جداً، وهي سياسة القطب الواحد في العالم، فهو يقسم العالم إلى دول صديقة، أي: تابعة، ودول مارقة، أي: معادية، وبالطبع رفض ملك فرنسا لويس التاسع أن يتحالف على أساس هذا الشرط، ومن ثم فشلت المفاوضات الأولى بين التتار وبين نصارى غرب أوروبا.
وهذه أول مفاوضة عملها منكو خان ولم تتم.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تحالف التتار مع هيثوم ملك أرمينية والأسباب الدافعة لذلك (43)
وإذا كان نصارى غرب أوروبا وملوكها القدماء يرفضون التعاون مع منكو خان على أساس التبعية فهناك من الملوك الآخرين من يقبل بذلك، ويعتبر هذا نوعاً من الواقعية، وعلى سبيل المثال هيثوم ملك أرمينيا النصرانية فكر في التحالف مع التتار على أساس التبعية وكما يريد منكو خان، فملك أرمينيا يعلم قوة التتار، بل قد دمرت بلاده قبل ذلك مرتين على يد التتار، مرة في عهد جنكيز خان ثم في عهد أوكيتاي، وكذلك يعلم أن دولته ضعيفة هزيلة لا تقارن بأي حال من الأحوال بدولة التتار القوية، فمساحة أرمينيا كلها لا تزيد على 30 ألف كيلو متر مربع، يعني: مثل مساحة محافظتين من محافظات مصر، وفوق ذلك فملك أرمينيا يعلم أنه محصور بين قوات التتار من جهة وقوات المسلمين من جهة أخرى، والعداء قديم جداً بينه وبين المسلمين، فهو يتحرق شوقاً لغزو بلاد المسلمين وإسقاط الخلافة العباسية، وإن لم يقبل الآن بالتبعية للتتار فسيرغم عليها غداً، فسيدخل التتار العراق وأرمينيا وساعتها سيفقد كل شيء بلا ثمن.
كل هذا دفع هيثوم إلى أن يذهب بنفسه لمقابلة منكو خان في قراقورم عاصمة المغول، فلم يبعث سفارة مثل ملوك أوروبا، ومنكو خان كان غضبان نتيجة فشل السفارة الصليبية الأولى، فبدأ يتعلم طرق السياسة والاعتماد على المظاهر والكلمات المنمقة المختارة، فأقام احتفالاً كبيراً واستقبالاً رسمياً مهيباً لـ هيثوم ملك أرمينيا، وعامله كملك لا كتابع وإن كانت كل بنود الاتفاق لا تقوم إلا بين سيد وتابع لا ملك وملك، وإنما كان كل واحد منها يمثل على الثاني تمثيلية مكشوفة لغرض السياسة، وبعد الاستقبال الحافل الكبير لملك أرمينيا قدم ملك أرمينيا نفسه على أنه من رعايا منكو خان، فأعطاه منكو خان وعوداً كبيرة وهدايا عظيمة؛ يشتري بذلك ولاءه وتبعيته، ولم يقل له: افعل كذا وكذا، ولكن فخمه وعظمه وأعطاه، وكان مما أعطاه:
أولاً: ضمان سلامة ممتلكات الملك هيثوم الشخصية، وهذه أهم شيء عند هيثوم.
ثانياً: إعفاء كل الكنائس المسيحية والأديرة من الضرائب، فالتتار كان يفرضون الضرائب على كل شيء.
ثالثاً: مساعدة الأرمن في استرداد المدن التي أخذها السلاجقة المسلمون من الأرمن في حروبهم معهم، وقد كان بين الأرمن وبين السلاجقة في تركيا تاريخ طويل من الحروب، فوعده منكو خان هذه المدن إليه.
رابعاً: اعتبار ملك أرمينيا كبير مستشاري الخاقان الكبير منكو خان فيما يختص بشئون غرب آسيا، وأعطاه مركزاً ومكانة.
وكان هذا العطف التتري على ملك أرمينيا النصراني الضعيف الذي لا تقارن قوته بأي صورة من الصور بقوة التتار لعدة أسباب، وهي:
أولاً: للاستفادة من خبرة ملك أرمينيا في حرب المسلمين، فالعلاقة بين الأرمن والمسلمين قديمة جداً، وقد خبر الأرمن بلاد المسلمين وطبائعهم، فلاشك أن المعلومات التي سيحملها ملك أرمينيا إلى ملك التتار سيكون لها أبلغ الأثر في احتلال بلاد المسلمين، وتذكر ما حدث بين أمريكا وإنجلترا من تحالف، فأمريكا تحالفت مع إنجلترا الضعيفة جداً مقارنة بأمريكا، ولكنها عندها خبرة كبيرة جداً في أرض المسلمين، وبالذات في أرض العراق وأفغانستان، فإنجلترا قبل ذلك احتلت أفغانستان والعراق.
ثانياً: حاجة التتار إلى أعوان لإدارة هذه الأملاك الواسعة، وإذا كان هؤلاء الأعوان من أهل البلد أو مجاورين له فهذا يعطيه قدرة أكبر على إدارة هذه البلاد وعلى تهدئة الشعوب في هذه المناطق.
ثالثاً: بهذه الخطوة يفتح ملك التتار باب المعاملات من جديد مع النصارى، فهو خسر قبل ذلك معاهداته مع النصارى في غرب أوروبا، والآن قام بمعاهدات مع ملك أرمينيا، والأرمن كاثوليك مثل غرب أوروبا، فمن الممكن أن يكون ملك أرمينيا رسولاً بين التتار وبين ملوك غرب أوروبا، فتاريخ التتار مع النصارى في أوروبا تاريخ أسود، فآلاف وملايين النصارى ذبحوا على يد التتار، ومنكو خان يريد إصلاح العلاقات من جديد من أجل أن يسقط الخلافة العباسية إسقاطاً كاملاً.
رابعاً: إن الاتحاد مع مملكة أرمينيا سيكون له عامل نفسي كبير عند المسلمين، فالحرب مع التتار شيء ومع قوات التحالف شيء آخر، ومع أن القوات المتحالفة مع التتار لا تمثل شيئاً بالمرة بالنسبة إلى التتار، إلا أن كلمة التحالف لها وقع خاص جداً على قلوب الناس، ومن أجل ذلك تجد الدول الكبيرة تتحالف مع دول لا قيمة لها؛ حتى يسموا جيشهم جيش التحالف.
خامساً وأخيراً: قد توكل إلى القوات الأرمينية المتحالفة مع التتار بعض المهام الخطرة في المناطق الملتهبة، فيحارب فيها الأرمن ويكون ضحاياها من الأرمن وليس من التتار، وهذا كما بدأت إنجلترا تسيطر على منطقة البصرة وما حولها، والناظر إلى هذه المفاوضات بين التتار وبين الأرمن يجد أن التتار لم يخسروا شيئاً.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
إصلاح البنية التحتية (44)
وقد اشتغل هولاكو في أربعة محاور رئيسة:
المحور الأول: الاهتمام بالبنية التحتية، وتجهيز مسرح العمليات الذي سيتم فيه القتال؛ ليضمن بذلك استمرارية وسيولة الإمداد والتموين من الصين إلى بغداد، ومن أجل ذلك عمل الآتي:
1 - بدأ في إصلاح كافة الطرق من الصين إلى العراق وتهيئتها لاستيعاب الأعداد الهائلة من الجيوش التترية، مع المسافات الرهيبة الطويلة والطبيعة الجبلية القاسية لمنطقة طاجاكستان وأفغانستان وفارس والموانع الطبيعية الكثيرة في هذه المنطقة.
2 - أقام الجسور الكثيرة والكبيرة على كل الأنهار في المنطقة وبالذات نهري سيحون وجيحون، ووضع قوات تترية كافية لحماية هذه الجسور، وضمان استمرار عمليات الإمداد والتموين.
3 - جهز مجموعة ضخمة جداً من الناقلات العملاقة لنقل أدوات الحصار الضخمة من الصين إلى بغداد.
4 - كل مدينة أو مركز يتحكم في محاور الطرق من الصين إلى بغداد وضع عليه قوات إضافية؛ حتى لا تباغت ظهور القوات التترية المتجهة من الصين إلى العراق.
5 - قام بشيء عجيب وفيه ذكاء شديد، فقد أخلى كل الطرق من الصين إلى بغداد من الماشية، سواء كانت ماشية برية أو مملوكة للسكان؛ وذلك حتى تنمو الحشائش والأعشاب؛ لتكون طعاماً كافياً للأعداد الهائلة جداً من الخيول الخاصة بالفرسان والدواب المكلفة بحمل العتاد الحربي والغذاء والخيام وما إلى ذلك، وبذلك لم يكن بحاجة لأن يحمل معه طعاماً للحيوانات، ولو تعرض لمفاجأة غياب طعام الحيوانات فقد تتعطل الحرب كلها، فالطعام بالنسبة للحيوانات مثل الوقود بالنسبة للسيارات، بل أشد، فالسيارة بإمكانها انتظار الوقود وأما الحيوان فلا يستطيع الصبر على الجوع، وبهذا الإعداد استطاع هولاكو أن يجعل الأرض ممهدة تماماً لاستقبال الأعداد الهائلة من الجيوش التترية من كل مكان من أجل تجميعها لغزو العراق.
وهذا الكلام الذي نقوله بسهولة وبسرعة يأخذ عدة سنين، فإصلاح الطرق وإقامة الكباري وإخلاء الطرق من الماشية مجهود ضخم جداً.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
إضعاف جيش الخلافة العباسية (45)
والمحور الرابع والأخير: هو إضعاف جيوش الخلافة العباسية، فطلب هولاكو من الوزير الفاسد مؤيد الدين العلقمي الشيعي أن يقنع الخليفة العباسي المستعصم بالله بأن يخفض من ميزانية الجيش، وأن يقلل من أعداد الجنود، وألا يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح والحرب، وأن يحول الجيش إلى الأعمال المدنية والزراعية والصناعية وغيرها، حتى يصبح الجيش مشغولاً بزراعة الطماطم والخيار وبناء الكباري وعمل المخابز والأطعمة، ولا داعي للتدريب والقتال والسلاح والجهاد، حتى لا تثار حفيظة التتار، ونقول لهم: نحن قوم سلام ولسنا قوم حرب، وانظروا إلى جيشنا ماذا يعمل، فلما قال مؤيد الدين العلقمي الشيعي هذا الكلام للخليفة المستعصم بالله وافقه على ذلك،
فخفض ميزانية التسليح وقلل أعداد الجنود، حتى أصبح الجيش العباسي المسلم الذي كان يبلغ عدده مائة ألف فارس في آخر أيام المستنصر بالله والد المستعصم بالله سنة 640 من الهجرة لا يزيد على 10 آلاف فارس فقط في سنة 654 هجرية، وكان هذا هبوطاً مروعاً في إمكانيات الخلافة العسكرية، وليس هذا فقط، بل أصبح الجنود في حالة مزرية من الفقر والضياع، فكان الجندي لا يجد ما يأكل أصلاً، حتى أنهم كانوا يسألون الناس في الأسواق، وأهملت التدريبات العسكرية، وفقد قواد الجيش مكانتهم، حتى لم يوجد بينهم من له القدرة على التخطيط أو الإدارة أو القيادة، ونسي المسلمون فنون القتال والنزال، وغابت عن أذهانهم تماماً معاني الجهاد.
وهذه هي الخيانة الكبرى والجريمة العظمى، وابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية يلقي باللوم الكامل على مؤيد الدين العلقمي في نصائحه للخليفة، ولكني أنا ألقي باللوم على الخليفة ذاته، فهو الذي قبل بهذا الهوان ورضي بهذا الذل، وغاب عن ذهنه أن من أهم واجباته كحاكم أن يضمن لشعبه الأمن والأمان، وأن يدافع عن ترابه وأرضه ضد أي غزو أو احتلال، وأن يبذل قصارى جهده لتقوية جيشه وتسليح جنده، وأن يربي الشعب بكامله لا الجيش فقط على حب الجهاد والموت في سبيل الله، ولم يفعل الخليفة المستعصم ذلك، ولا عذر له عندي؛
فإنه كان يملك من السلطان ما يجعله قادراً على أخذ القرار، ولكن النفوس الضعيفة لا تقوى على أخذ القرارات الحاسمة.
كان هذا هو إعداد هولاكو ومنكو خان، وقد كان إعداداً مبهراً عظيماً كبيراً حقاً.
وفي المقابل لم يكن هناك أي رد فعل مناسب أو غير مناسب من المسلمين استعداداً للغزو التتري القريب عما قليل للخلافة العباسية، فما هي خطوات هولاكو في تجميع الجيوش وغزو العاصمة الإسلامية التليدة العتيدة بغداد؟ وما هو الذي فعله التتار داخل بغداد؟ وما هو رد فعل المسلمين في بغداد وما حولها من بلاد المسلمين؟ وما هي النتائج الخطيرة التي ترتبت على سقوط بغداد بعد ذلك؟ هذا ما سنعرفه وغيره بإذن الله في الدرس القادم.
وأسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، {فَسَتَذْكُرُون مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
الحرب النفسية ضد المسلمين (46)
والمحور الثالث الخطير: الحرب النفسية على المسلمين، فـ هولاكو كانت له أكثر من طريقة لشن حرب مهولة نفسية على المسلمين قبل اللقاء والحرب وإسقاط بغداد، ومن هذه الوسائل مثلاً:
القيام بحملات إرهابية استنزافية في المناطق المحيطة بالعراق؛ لتذكير المسلمين بالذكريات الأليمة الرهيبة في عهد جنكيز خان وأوكيتاي، فقد مضى إلى الآن 10 سنين من سنة 639هـ إلى سنة 649هـ، ولم يكن فيها مجازر، فأراد تذكيرهم بذلك، فقام بمجازر بشعة في شمال العراق وما حولها فقتل ونهب وسلب، كما كان يفعل التتار قبل ذلك، وفوق ذلك سيطر على القوافل التجارية، وذلك لعمل ضربة اقتصادية كبيرة للعراق قبل غزوها، فعلى سبيل المثال استولى على قافلة تجارية بلغت الأموال فيها 600 ألف دينار، وكان هذا ضربة اقتصادية في منتهى القوة للخلافة العباسية، وعلى هذه الشاكلة كانت هناك حروب كثيرة لإضعاف الروح المعنوية للمسلمين.
وأيضاً من الوسائل الخطيرة التي استخدمها التتار لإضعاف الروح المعنوية: الوصول إلى بعض الأدباء والشعراء المسلمين؛ ليقوموا بحرب إعلامية قذرة داخل البلاد الإسلامية، يعظمون فيها جداً من إمكانيات التتار ويقللون جداً من إمكانيات المسلمين؛ حتى لا يتخيل مسلم أنه يحارب تترياً، فتجد أن الكتب في ذلك ملأت بكلمات غريبة، مثل: التتار تصل إليهم أخبار الأمم ولا تصل أخبارهم إلى الأمم، وأن نساءهم يقاتلن كرجالهم، فبدأ رجال المسلمين يخافون من نساء التتار، وأن خيول التتار تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات ولا تحتاج إلى الشعير، وأن التتار لا يحتاجون إلى الإمداد والتموين، وأنهم يأكلون جميع اللحوم ويأكلون بني آدم.
وهذه الكلمات موجودة في الكتب، وكانت ترعب العوام وتؤثر في نفوس الخواص.
وهذا إعلام إسلامي عميل في داخل البلاد الإسلامية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأيضاً من وسائل الحرب النفسية الخطيرة التي استخدمها التتار: كتابة الرسائل التهديدية الخطيرة، وأعد التتار العدة المناسبة لذلك الأمر، ووصلوا إلى بعض الأوباء المنافقين من المسلمين الذين لهم حس أدبي وفن في كتابة الرسائل ليكتبوا لهم الرسائل، وبدلاً من كتابة الرسالة باللغة المنغولية ثم ترجمتها إلى لغة قد لا تصل بالمعنى المطلوب كانوا يأتون بشاعر أو أديب عربي يكتب الرسالة بالسجع المشهور في ذلك الوقت، وكانت رسالاتهم في منتهى القوة والخطورة، وكانت تدب الرعب في قلوب المسلمين.
وسنعرض في الدروس القادمة أمثلة من هذه الرسالات.
ومن وسائل الحرب النفسية التي استخدمها التتار أيضاً: إعلان التحالفات مع أمراء المسلمين وغيرهم، فالقوات التي ستحارب المسلمين الآن ليست قوات التتار وإنما قوات التحالف من التتار والأرمن والكرج وأنطاكية وغيرها، وهذا يدخل الرعب في قلوب المسلمين.
وكل هذا كان معلناً أمام الناس كلهم، وعندما يرى الشعب أميره يتحالف مع التتار تنعدم المقاومة تماماً في قلبه، وبهذه الوسائل وبغيرها استطاع التتار أن يبثوا الرعب والهلع في قلوب المسلمين، وبذلك أصبح الجو مناسباً جداً لدخول القوات التترية الغازية إلى بغداد.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
عقد التتار تحالفات مع بعض الإمارات الإسلامية(47)
ثم عقد التتار معاهدات مع بعض أمراء المسلمين لضرب بلاد المسمين، ولم يعقد منكو خان هذه المعاهدات بنفسه، فقد استهان جداً بهؤلاء الأمراء، ووكل هولاكو بعقد هذه المعاهدات مع هؤلاء الملوك والزعماء، وكان كل منهم يحمل لقباً أكبر من حجمه مليون مرة، فمنهم من يلقب بالمعظم، ومنهم من يلقب بالأشرف، ومنهم من يلقب بالعزيز، ومنهم من يلقب بالسعيد، فكل منهم يحمل لقباً.
فجاء أمراء المسلمين الضعفاء يسارعون في التتار الأقوياء، {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]، فجاء إلى هولاكو بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل ليتحالف معه، وأصبحت منطقة الشمال العراقي التي يعيش فيها الأكراد متحالفة مع التتار؛ لدخول بغداد من الشمال، وجاء سلطان السلاجقة كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع ليتحالفا مع هولاكو، وقد كان سلطانهما في تركيا في شمال العراق، فهو مكان في منتهى الحساسية، فهم سيفتحون المجال الأرضي التركي لدخول القوات التترية من شمال العراق إلى بغداد.
وجاء الناصر يوسف أمير حلب ودمشق، حفيد الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ولكن لم يكن يشبهه في أخلاقه ولا في روحه ولا في فروسيته ولا من أي شيء، فقد كان مهيناً إلى درجة أن أرسل ابنه العزيز ليقود فرقة إسلامية تنضم إلى جيش التتار لغزو العراق.
وكذلك جاء الأشرف الأيوبي أمير حمص ليقدم ولاءه لزعيم التتار الجديد، وكانت هذه التحالفات بالإضافة إلى مهانتها وحقارتها في منتهى الخطورة، فقد زادت جداً من قوة التتار حتى أنهم حاصروا العراق من كل مكان، من الناحية الشمالية والغربية والشرقية، هذا بالإضافة إلى أن هذه التحالفات أدت إلى هبوط معنويات الأمة الإسلامية بشكل مريع، فلما شاهد المسلمون أمراءهم على هذه الصورة المخزية ضعفت هممهم وفترت عزائمهم وانعدمت ثقتهم تماماً في قوادهم، ومن ثم لم يعد لهم طاقة للوقوف في وجه التتار، فكانت هذه الاتفاقيات جريمة بكل المقاييس:
ثم وصل التتار إلى شخصية خطيرة جداً في البلاط العباسي نفسه، فوصلوا إلى كبير الوزراء في الخلافة العباسية، والشخصية الثانية في الدولة بعد المستعصم بالله، وهو الوزير مؤيد الدين العلقمي الشيعي، ولا يغرك اسمه، فقد كان رجلاً فاسداً خبيثاً جداً، وكان رافضياً، يرفض خلافتي الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكان شديد التشيع كارهاً للسنة وأهلها، ومن العجب أن يصل إلى هذا المنصب المرموق في دولة سنية تحمل اسم الخلافة وهو على هذه الصفة، ولا شك أن هذا كان قلة رأي وضحالة فكر وسوء تخطيط من الخليفة المستعصم بالله، الذي ترك هذا الوزير المفسد في هذا المكان الخطير.
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما استخلف الله خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله».
وأسوأ من ذلك أن هذا الوزير المفسد لم يتول الوزارة شهراً أو شهرين أو سنة أو سنتين، وإنما بقي فيها 14 سنة كاملة من سنة 642 هجرية إلى سنة 656 هجرية عندما سقطت بغداد، فقد تولى المستعصم بالله خلافة المسلمين سنة 640هـ، وبعد سنتين جاء بهذا الوزير المفسد إلى مركز كبير وزراء الخلافة العباسية.
فاتصل هولاكو بـ مؤيد الدين العلقمي الشيعي، واستغل فساده وتشيعه واتفق معه على تسهيل دخول الجيوش التترية إلى بغداد بالآراء الفاسدة الاقتراحات المضللة على قدر ما يستطيع، في مقابل أن يكون له شأن في مجلس الحكم الذي سيدير بغداد بعد سقوط الخلافة، فقام الوزير الفاسد بدوره على أكمل وجه، كما سنرى.
هذه هي الجهود الدبلوماسية التي قام بها منكو خان وهولاكو، ومن خلالها يتبين أنهما بذلا جهداً كبيراً وضخماً للإعداد لهذه الحملة الرهيبة، وقد أخذت هذه الجهود منهما 5 سنوات كاملة، فقد تعاونا تعاوناً قوياً مهماً مع ملوك أرمينيا والكرج وأنطاكية النصارى، وحيداً إلى حد كبير أمراء الإمارات الصليبية في الشام، وأقاما تحالفات سرية مع نصارى الشام والعراق، وتحالفا مع بعض أمراء المسلمين، ومع الوزير الفاسد مؤيد الدين العلقمي الشيعي.
ويجدر القول هنا أن المسلمين بصفة عامة كانوا يراقبون الموقف عن بعد وكأنه لا يعنيهم، أو أنهم كانوا يشعرون بإحباط قاتل يمنع أي متحمس من القيام أو الحرك
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تجهيزات الجيش التتري لغزو العراق (48)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
في المحاضرة السابقة تحدثنا باستفاضة عن الإعداد المبهر لـ هولاكو لغزو الخلافة العباسية وإسقاط بغداد، وتحدثنا عن إعداده لمسرح العمليات، وعن تحالفاته ومعاهداته، وعن حربه النفسية ضد المسلمين، وعن جهوده في إضعاف جيش الخلافة العباسية ذاته، وذكرنا أنه على قدر براعة هذا الإعداد فإن رد فعل المسلمين كان هزيلاً جداً، بل وصل المسلمون في هذه الآونة إلى درجة غير معقولة من العمالة أو الخيانة.
بعد خمس سنوات كاملة من الإعداد وفي سنة (654هـ) شعر هولاكو أن الظروف أصبحت ملائمة للهجوم المباشر على الخلافة العباسية، فبدأ في عملية حشد هائلة للجنود التتار، فجمع أكبر جيوش التتار على الإطلاق منذ قامت دولة جنكيز جان، وكان الذين كلفهم بحصار بغداد فقط أكثر من مائتي ألف جندي، هذا بخلاف الأعداد الهائلة من الجنود المنتشرة في شمال العراق وشرقه وجنوبه، وغير القوات المكلفة بحماية الطرق وتأمين عمليات الإمداد والتموين، وغير الفرق المساعدة للجيوش، سواء فرق الإمداد والتموين، أو فرق الاستطلاع والمراقبة.
ونتبين تركيبة الجيش التتري في عشر نقاط:
النقطة الأولى: الجيش التتري الأصلي كان متمركزاً منذ سنوات طويلة في منطقة فارس وأذربيجان في شرق العراق.
النقطة الثانية: استدعى هولاكو فرقة كبيرة من جيش التتار الذي فتح روسيا، والتي كانت متمركزة في حوض نهر الفولجا الروسي، وكان على رأس هذا الجيش ثلاثة من أبناء أخي باتو، القائد الشهير الذي فتح أجزاء من أوروبا.
النقطة الثالثة: أرسل هولاكو أيضاً في طلب فرقة من جيش التتار الذي فتح أوروبا، والذي كان متمركزاً في ذلك الوقت على أطراف الأناضول في شمال تركيا، فجاءت الفرقة الكبيرة وعلى رأسها القائد المغولي الكبير جداً بيجو الذي تكلمنا عنه من قبل.
النقطة الرابعة: أرسل هولاكو إلى صديقه ملك أرمينيا يطلب المساعدة، فجاءه هيثوم ملك أرمينيا بنفسه على رأس فرقة من الجيش الأرميني.
النقطة الخامسة: طلب هولاكو أيضاً من ملك الكرج أن يرسل فرقة للمساعدة في حصار العراق فاستجاب فوراً.
النقطة السادسة: استدعى هولاكو ألفاً من الرماة الصينيين المهرة، الذين اشتهروا بتسديد السهام المحملة بالنيران.
النقطة السابعة: وضع هولاكو على رأس الجيوش أفضل قواد التتار في ذلك الوقت واسمه كتبغانوين، وفوق إمكانيات هذا القائد القيادية والمهارية، فإنه كان نصرانياً، وكان هذا اختياراً مناسباً من هولاكو؛ لأن كتبغانوين النصراني سيستطيع التعامل مع الأعداد الكبيرة النصرانية المشاركة في الجيش من أرمينيا والكرج وأنطاكيا.
وقد ضم الجيش التتري بين صفوفه ثلاثة من أمهر القادة العسكريين في تاريخ التتار قاطبة، وهم هولاكو وكتبغانوين وبيجو.
النقطة الثامنة: راسل هولاكو أمير أنطاكيا بوهمند، فتعذر عليه أن يخترق الشام كله، إلا أنه كان على استعداد تام للحرب، ومجهزاً كل جيوشه، وعلى استعداد -حال سقوط العراق- للمشاركة في إسقاط الشام.
النقطة التاسعة: كان هناك فرقة إسلامية في داخل الجيش التتري، على رأسها ولي عهد دمشق العزيز بن الناصر يوسف الأيوبي حفيد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، تشارك في جيش التتار لإسقاط العراق.
النقطة العاشرة: كانت هناك فرقة إسلامية أخرى أرسلها بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل؛ لتساعد أيضاً جيش التتار في إسقاط العراق.
وهاتان الفرقتان الأخيرتان كانتا هزيلتين، وليس لهما أي قيمة، ولكنهما كانتا تحملان معان كثيرة، فهناك مسلمون في جيش التتار يشتركون مع التتار في حرب المسلمين، بل اشترك في عملية إخلاء العراق من الخلافة العباسية عراقيون متحالفون مع التتار، باعوا كل شيء في مقابل شيء حقير أو إمارة تافهة أو دراهم معدودة، أو مجرد حياة أي حياة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
بدء تحرك جيش التتار نحو بغداد وسحقهم للإسماعيلية الشيعة على طريقهم (49)
للنصر أسباب ينبغي الأخذ بها، ولا يجوز إغفالها بأي حال من الأحوال، ومن الوهم اكتفاؤنا باعتقاد أننا أصحاب الدين الحق مع عدم إعداد العدة، فللهزيمة أسباب ينبغي تجنبها، وأخطر هذه الأسباب وأشدها التفرق والتناحر والتشرذم، كما كان الحال عند اجتياح التتار لبغداد.
بهذا الإعداد العالي المستوى للتتار اكتمل جيش التتار، وبدأ في الزحف من فارس في اتجاه الغرب إلى العراق، وبدأ هولاكو يضع خطة المعركة، وبدراسة مسرح العمليات وجد هولاكو أن طائفة الإسماعيلية الشيعية التي تتمركز في الجبال في غرب فارس وشرق العراق، يعني: بين الجيش التتري وبين الخلافة العباسية، سوف تمثل خطورة كبيرة على الجيش التتري، فهي مشهورة بقوة القتال والحصون المنيعة، وهي طائفة لا عهد لها ولا أمان، ومع أن التتار يعلمون أن الإسماعيلية على خلاف شديد مع الخلافة العباسية، وأنها من المنافقين الذين يتزلفون إلى الأقوياء، إلا أن التتار لم يطمئنوا لهم أبداً، فآثروا ألا يتركوا شيئاً للمفاجآت، وقرروا عدم دخول بغداد إلا بعد استئصال شأفة الإسماعيلية تماماً، ومع أن هذا سيأخذ منهم وقتاً إلا أنه لابد أن يعمل لكل شيء حسابه.
فتحركت الجيوش الهائلة صوب معاقل الإسماعيلية وحاصرتها حصاراً محكماً، ودارت حروب شرسة بين التتار والإسماعيلية انتهت بسحق كامل للإسماعيلية وخلو المنطقة تماماً منهم، وأصبح الطريق مفتوحاً إلى بغداد.
وقد استغرقت هذه الحروب سنة (655) للهجرة بكاملها.
وهذا الإسهاب النسبي في شرح إعداد هولاكو للحرب مع الخلافة لم نقصد منه إظهار الانبهار بـ هولاكو أو الاحتقار للمسلمين، وإنما هو محاولة للبحث عن مبرر واضح للنتائج الرهيبة التي حدثت عند سقوط بغداد، فالناظر للأحداث دون تعمق، أو الدارس للأمر بسطحية قد يتساءل:
لماذا يسمح الله عز وجل للتتار وهم أخس أهل الأرض بسفك دماء المسلمين، واستباحة الحرمات بهذه الصورة، مع أن المسلمين مهما وقع منهم من قصور إلا أنهم موحدون، ومقيمون للصلاة، وقارئون لكتاب الله عز وجل؟ أقول: أحببت أن أتابع معكم هذا الإعداد الطويل المرتب، الذي لم يقابل بأقل درجات الاهتمام من جانب المسلمين، لتحدث بذلك المأساة الكبرى والبلية العظمى، والذي يعتمد فقط على كونه من الموحدين المسلمين، ولا يعد العدة للقتال، ولا يأخذ بالأسباب، فهو واهم في إمكانية تحقيق النصر.
وكثيراً ما رأينا في التاريخ وفي الواقع اليهود أو النصارى أو البوذيين أو الهندوس أو الشيوعيين الملاحدة ينتصرون على المسلمين، بل ويكثرون من إهانتهم، عندما يأخذ هؤلاء الأقوام بالأسباب المادية ويتركها المسلمون، وسنة الله عز وجل لا تبديل لها ولا تغيير.
ثم اجتمع هولاكو مع كبار مستشاريه في مجلس حرب يعد من أهم مجالس الحرب في تاريخ التتار، فالقرار فيه هو غزو العاصمة بغداد وإسقاط الخلافة الإسلامية، وعقد مجلس الحرب هذا في مدينة همذان الفارسية، وأخذ القرار فعلاً بالحرب، واهتم هولاكو بوضع مراقبة لصيقة على الفرق الإسلامية، فقد كان خائفاً من الخيانة، ولكن هذا الخوف لم يكن حقيقياً، فالأمراء المسلمون الذين انضموا إلى هولاكو لم يكن في نيتهم أبداً الغدر بـ هولاكو، وإنما كانت نيتهم وعزمهم أن يغدروا ببغداد، ثم انطلقت الجيوش من همذان في اتجاه العراق، وبينهما (450) كيلو متر.
قسم هولاكو جيشه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: القلب، وهو القسم الرئيسي من الجيش، وقاده هولاكو بنفسه، ثم لحقت به أكثر من فرقة من الفرق الهامة في الجيش التتري، فلحقت به الفرقة التي أتت من روسيا، والفرق المساعدة من مملكتي أرمينيا والكرج، واخترق الجبال الواقعة في غرب فارس صوب بغداد، ومر بمدينة كرمان شاه، بعد أن نقيت هذه المنطقة تماماً من الإسماعيلية، ليحاصر بغداد من الجهة الشرقية.
القسم الثاني: الجناح الأيسر لجيش التتار، وقاده كتبغانوين أفضل قواد هولاكو، وقد تحرك هذا الجيش بمفرده في اتجاه بغداد إلى الجنوب من الجيش الأول.
وتم فصل الجيشين حتى لا تستطيع المخابرات الإسلامية -إن كان هناك مخابرات- أن تقدر العدد الصحيح للجيش التتري، بالإضافة إلى أن الطرق لا تستوعب هذه الأعداد الهائلة من الجنود، فضلاً أنه كان على جيش كتبغانوين اختراق سهول العراق والتوجه لحصار بغداد من جنوبها.
ومع أن المسافة من همذان إلى بغداد (450) كيلو متر إلا أن هولاكو كان يتميز بالحذر، الذي استطاع معه أن يخفي هذا الجيش بكامله عن عيون العباسيين، ولم يكتشف العباسيون جيش التتار إلا وهو على بعد أقل من (50) كيلو متر من بغداد.
القسم الثالث: الجيش التتري الرابض على أطراف الأناضول شمال تركيا الآن، وهو الذي فتح أوروبا، وكان على رأسه الزعيم التتري الكبير بيجو، وقد جاء هذا الجيش من المناطق الشمالية في اتجاه الجنوب، حتى وصل إلى بغداد؛ ليحاصرها من الشمال، ثم التف أيضاً ليحاصرها من الغرب، وبذلك حوصرت بغداد بين هولاكو شرقاً وكتبغانوين من الجنوب وبيجو من الغرب والشمال.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
حصار هولاكو لبغداد (50)
كانت بغداد في ذلك الوقت من أشد مدن الأرض حصانة، وكانت أسوارها من أقوى الأسوار، فهي عاصمة الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، فقد أنفق على تحصينها أموال طائلة وجهود هائلة، وكانت هذه الجهود جهود سنين وقرون، ولكن وا أسفاه على المدينة الحصينة، فالحصون تحتاج إلى رجال يحمونها، ويبدو أن الرجال قد ندروا في ذلك الزمان.
في يوم (12) محرم سنة (656هـ) ظهر جيش هولاكو فجأة أمام الأسوار الشرقية للمدينة العظيمة بغداد، وبدأ ينصب معدات الحصار الثقيلة جداً حول المدينة، وجاء كذلك كتبغا بالجناح الأيسر من الجيش ليحيط بالمدينة من الناحية الجنوبية.
ارتاع خليفة المسلمين، وعمل اجتماعاً عاجلاً طارئاً جمع فيه كبار المستشارين، وكان على رأسهم الوزير الخائن مؤيد الدين العلقمي، فكان رأي مؤيد الدين العلقمي مهادنة التتار وإقامة مباحثات سلام، ولا مانع عنده من كثير من التنازلات، وكان يقول: ليس هناك أمل، والحل الوحيد هو السلام غير المشروط، ولكن الخير لا يعدم في هذه الأمة، فقام رجلان من الوزراء، وهما مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه يشيران على الخليفة بحتمية الجهاد، وهذه الكلمة كانت جديدة تماماً على هذا الجيل من الدولة العباسية، وجاءت الإشارة إليها متأخرة جداً، فقد انتهى زمن الإعداد ووقت الاختبار، ولكن لعله يحرك جيشاً، وكان الخليفة محتاراً، فهواه مع كلام مؤيد الدين العلقمي، فهو ليس قادراً على الحرب، وعقله مع كلام مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه؛ لأن تاريخ التتار كله لا يبشر بأي فرصة للسلام،
كما أنه كان يسمع من أجداد أجداده أن الحقوق لا توهب إنما تؤخذ، فكان الخليفة محتاراً متردداً هيناً ليناً ضعيفاً، والجهاد لا ينفع أبداً مع هذه الصفات، فالجهاد ليس قراراً عشوائياً، ولا يوجد مجاهد بالصدفة أبداً، فالجهاد إعداد وتربية وتضحية مع الإيمان، فهو ارتقاء إلى الأعلى، حتى الوصول إلى ذروة سنام الإسلام، فهو ليس على سبيل التجربة نجرب لنجاهد، ما ينفع هذا الكلام.
فسمح الخليفة للمرة الأولى تقريباً في حياته باستخدام الجيش، فكانت هذه هي المرة الأولى التي يحارب فيها هذا الجيل من الجنود، وأول مرة ينتقل إلى الأعمال العسكرية، فقد انتقل من الأعمال المدنية في الزراعة والصناعة وزراعة الخيار والطماطم إلى الأعمال العسكرية، فخرجت فرقة هزيلة من الجيش العباسي على رأسها مجاهد الدين أيبك لتلاقي جيش هولاكو المهول، فخرجوا من أسوار بغداد في اتجاه الشرق لمقابلة جيش هولاكو، ثم سمعوا بقدوم جيش بيجو من الشمال، وحتى لا تحاصر بغداد أيضاً من الشمال والغرب فتصبح مطوقة تماماً، عدل مجاهد الدين أيبك إلى محاربة جيش بيجو بدلاً من محاربة جيش هولاكو؛ لكي لا تحاصر بغداد من كل الجهات، فانتقل بجيشه الضعيف الهزيل لملاقاة جيش بيجو في الشمال، والتقى معه في منطقة الأنبار، التي شهدت انتصاراً خالداً قبل أكثر من (600) سنة على يد البطل الخالد خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وأما في هذه المرة للأسف لم يوجد خالد ولا جيشه، فاستدرج الجيش المسلم في أرض الأنبار وسحق فيها، واستطاع مجاهد الدين أيبك بأعجوبة أن يهرب بفرقة ضعيفة جداً من الجيش الضعيف أصلاً ويعود إلى داخل بغداد، وهلك الجيش العباسي أو معظمه.
وكانت هذه الموقعة الأليمة غير المتكافئة في (19) محرم، يعني: بعد أسبوع من ظهور هولاكو أمام الأسوار الشرقية لبغداد.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
المفاوضات بين التتار والخلافة العباسية (51)
لم يضيع بيجو الوقت، فانتقل بجيشه من الأنبار مباشرةً إلى شمال بغداد وحاصرها، فطوقت بغداد بين هولاكو وبيجو وكتبغا.
فاستغل مؤيد الدين العلقمي الفرصة وقال للخليفة: لابد أن نجلس مع التتار على طاولة المفاوضات، وكان الخليفة عارفاً أنه إذا جلس قوي شديد القوة مع ضعيف شديد الضعف، فإن هذا لا يعني أبداً مفاوضات، وإنما يعني استسلاماً، وفي الاستسلام عادة ما يقبل المهزوم بشروط المنتصر دون تعديل أو اعتراض،
ومع ذلك وافق الخليفة المسكين على الاستسلام، أي: على المفاوضات، فبعث وفداً رسمياً للمفاوضات مكوناً من مؤيد الدين العلقمي الشيعي الذي يكن في قلبه كل الحقد والغل والغيظ على الخلافة العباسية، وأرسل معه البطريرك النصراني ماكيكا، فكان الوفد الرسمي الممثل للخلافة الإسلامية العباسية العريقة في المفاوضات مع التتار لا يضم إلا رجلين فقط: أحدهما: شيعي، والآخر: نصراني.
فدارت المفاوضات السرية جداً بين هولاكو وبين ممثلي الخلافة العباسية الإسلامية، وأعطيت الوعود الفخمة من هولاكو لكليهما إن ساعداه على إسقاط بغداد، وكان أهم هذه الوعود أن يكونا عضوين في مجلس الحكم الجديد الذي سيحكم العراق بعد احتلالها من التتار، فعاد المبعوثان الساميان من عند هولاكو إلى الخليفة بالشروط التترية، وهذه العروض والوعود كانت:
أولاً: إنهاء حالة الحرب بين الدولتين، وإقامة علاقة سلام دائم.
ثانياً: زواج ابنة هولاكو الزعيم التتري، الذي سفك دماء مئات الآلاف من المسلمين بابن الخليفة المسلم المستعصم بالله، وكان هذا شيئاً كبيراً على المستعصم بالله.
ثالثاً: بقاء المستعصم بالله على كرسي الحكم، وكان هذا شيئاً مهماً جداً بالنسبة له.
رابعاً: إعطاء الأمان لأهل بغداد جميعاً لو فتحت أسوارها.
وأما الشروط
فأولها وأهمها: قمع حركة الجهاد التي أعلنت في بغداد؛ لأن الدعوة إلى الجهاد ستنسف كل مباحثات السلام، وعلى خليفة المسلمين أن يسلم إلى هولاكو رءوس الحركة الإسلامية ببغداد مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه.
ثانياً: تدمير الحصون العراقية، وردم الخنادق، وتسليم الأسلحة.
ثالثاً: الموافقة على أن يكون حكم بغداد تحت رعاية أو مراقبة تترية.
وختم هولاكو المباحثات مع المبعوثين الساميين بأنه جاء إلى هذه البلاد لإرساء قواعد العدل والحرية والأمان، وبمجرد أن تستقر الأمور وفق الرؤية التترية، فإنه سيعود إلى بلاده، ويترك العراقيين يضعون دستورهم، ويديرون شئون بلادهم بأنفسهم.
فقال: مؤيد الدين العلقمي الشيعي للخليفة: إن هذه المفاوضات مرضية جداً، وشروطها بسيطة سهلة، والتتار عندهم وعود وعهود، وهولاكو رجل طيب، فكان الخليفة مضطراً إلى الموافقة مع شك كبير جداً، فالشروط في قلبه قاسية جداً، فهو متردد وليس قادراً على الموافقة عليها، مع أن الموقف خطير، والوزراء يحاولون إقناعه بأنه لا أمل له في الحياة إلا إذا أطاع هولاكو، فهو يرى أنه سيعيش ذليلاً وضيعاً، وسيبيع كل شيء بثمن بخس، فهو متردد، والشعب الضخم الذي كان يعيش في بغداد كان أيضاً متردداً، ونداء الجهاد لم يعد ينبعث إلا من بعض الأفواه القليلة جداً، فعامة الناس انخلعت قلوبهم لحصار التتار، فقد عظمت الدنيا جداً في عيون أهل بغداد في ذلك الزمن، واستحال عليهم أن يضحوا بالدنيا، فقد كثر الخبث فعلاً في بغداد، وإذا كثر الخبث فالهلكة قريبة جداً.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
قصف التتار لبغداد (52)
كان الخليفة يريد القليل من الوقت ليفكر، وهولاكو ليس عنده وقت.
كان هولاكو محاصراً لبغداد بجيوش تترية ضخمة تكلفه آلاف الدنانير كل يوم، وكان هذا الحصار في شهر محرم سنة (656) هجرية الموافق لشهر يناير سنة (1258) ميلادية في جو شديد البرودة، وفوق كل هذه الصعوبات كان هولاكو ينظر إلى بغداد ويرى الحلم الجميل الذي راود أجداده من قبل، حلم اجتياح بغداد وإسقاط الخلافة العباسية الإسلامية، فهو لن ينتظر وقتاً طويلاً، فبدأ يقصف بغداد بالقذائف الحجرية والنارية، ومع أول قذيفة سقط قلب الخليفة في قدمه، واستمر القصف على بغداد أربعة أيام متتالية.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية موقفاً بسيطاً ولم يعلق على الموقف، ولكنه حمل معاني كثيرة، يقول ابن كثير: وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل مكان، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة.
فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرة الستائر على دار الخلافة.
هذا الحدث ذكره ابن كثير ولم يعلق عليه، وهو وإن كان في ظاهره أمر بسيطاً عابراً، إلا أنه يحمل معاني هائلة عندي، فقد تمكنت الدنيا تماماً من قلوب الناس في بغداد، وأولهم الخليفة، فالخليفة الموكل إليه حماية هذه الأمة في هذا الموقف الخطير يسهر هذه السهرة اللاهية.
وقد تكون الجارية ملك يمينه حلالاً له، ولكن أتحاصر عاصمة الخلافة الإسلامية، والموت على بعد خطوات منها، والمدفعية المغولية تقصف بمنتهى العنف، والسهام النارية تحرق، والناس في ضنك شديد، والخليفة يستمتع برقص الجواري! أين العقل والحكمة؟
فقد أصبح رقص الجواري في الدماء، وصار كالطعام والشراب لابد منه حتى في وقت الحروب، ولا أدري والله كيف كانت نفسه تقبل أن تنشغل بمثل هذه الأمور، والبلاد والشعب وهو شخصياً في مثل هذه الضائقة، وما أبلغ العبارة التي كتبها التتار على السهم الذي أطلق على دار الخلافة، فقد اختيرت بعناية، فقد كتب عليه: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم.
يعني: أن الله عز وجل قضى على بغداد بالهلكة في ذلك الوقت، وأذهب عقل الخليفة وعقل أعوانه وشعبه.
ولاشك أن هذه العبارات المنتقاة كانت نوعاً من الحرب النفسية المدروسة، التي يمارسها التتار بمنتهى المهارة على أهل بغداد، ويكفي دليلاً على قلة عقل الخليفة، أنه بعد قتل الجارية الراقصة لم يأمر الشعب بالتجهز للقتال، وإنما فقط أمر بزيادة الاحتراز! ولذلك كثرت الستائر حول دار الخلافة لحجب الرؤية، ولزيادة الوقاية، ولستر الراقصات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
واستمر القصف على بغداد من يوم (1) صفر إلى (4) من صفر في سنة (656) من الهجرة، وفي (4) من صفر سقطت الأسوار الشرقية لبغداد وانهارت.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
خروج الخليفة ووزرائه وكبار قومه إلى هولاكو وقتل التتار لهم (53)
مع انهيار الأسوار الشرقية انهار الخليفة تماماً، فلم يبق من عمره إلا لحظات قليلة، فأشار عليه الوزير مؤيد الدين العلقمي أن يخرج بنفسه لمقابلة هولاكو؛ فلعله يقتنع هولاكو في مباحثات السلام، فذهبت الرسل من عند الخليفة إلى هولاكو تخبره بقدوم الخليفة، فأمر هولاكو أن يأتي الخليفة ومعه كبار رجال الدولة من الوزراء والفقهاء والعلماء وأمراء الناس وأعيانهم؛ حتى يحضروا جميعاً المفاوضات، وتصبح المفاوضات ملزمة للجميع، فلم يكن عند الخليفة اختيار، فجمع كبار قومه، وخرج في وفد مهيب إلى خيمة هولاكو ومعه (700) من قادة المسلمين وعلمائهم في بغداد، وخرج وقد تحجرت الدموع في عينيه، وتجمدت الدماء في عروقه، وتسارعت ضربات قلبه، فهذه أول مرة يخرج فيها بهذه الذلة والمهانة،
فقد كان من عادته أن يستقبل في قصره وفود الأمراء والملوك، والآن يخرج بهذه الصورة، وكان ماشياً بجواره وزيره مؤيد الدين العلقمي الشيعي، فلما اقترب الوفد من خيمة هولاكو اعترضه فرقة من الحرس الملكي التتري قبل الدخول على هولاكو، ولم يسمحوا لكل الوفد بالدخول على هولاكو،
وقالوا: سيدخل الخليفة ومعه (17) رجلاً فقط، وأما الباقي فعليهم الخضوع للتفتيش الدقيق، فدخل الخليفة ومعه (17) من رجاله، وحجب عنه بقية الوفد، ولكنهم لم يخضعوا للتفتيش، بل أخذوا جميعاً للقتل، فقتل الوفد بكامله إلا الخليفة ومن كان معه في داخل الخيمة، فقتل كبراء القوم ووزراء الخلافة وأعيان البلد وأصحاب الرأي، وفقهاء وعلماء الخلافة العباسية، ولم يقتل الخليفة؛ لأن هولاكو كان يريد استخدامه في أشياء أخرى، وبدأ هولاكو يصدر الأوامر في عنف وتكبر، واكتشف الخليفة أن وفده قد قتل بكامله، واكتشف ما كان واضحاً لكل الخلق ولم يره هو إلا الآن، اكتشف أن التتار وأمثالهم لا عهد لهم ولا أمان، {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 10].
واكتشف أيضاً أن الحق لابد له من قوة تحميه، وإن تركت حقك دون حماية فلا تلومن إلا نفسك، ولكن هذا الاكتشاف جاء متأخراً للأسف، وبدأ السفاح هولاكو يصدر الأوامر الصارمة:
الأول: على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بإلقاء أي سلاح، والامتناع عن أي مقاومة، وكان هذا أمراً سهلاً؛ لأنه لا يوجد شخص في المدينة رافعاً للسلاح.
الأمر الثاني: تقييد الخليفة المسلم وسوقه إلى المدينة يرسف في أغلاله؛ لكي يدل التتار على كنوز العباسيين.
الأمر الثالث: قتل ولدي الخليفة أمام عينه: أحمد وعبد الرحمن، ما كان اسمهما: عدي وقصي، وإنما أحمد وعبد الرحمن.
الأمر الرابع: أسر أخوات الخليفة الثلاث: فاطمة، وخديجة، ومريم.
الأمر الخامس: أن يكتب ابن العلقمي أسماء علماء السنة وحملة القرآن وخطباء المساجد داخل بغداد، ثم أمر بإخراجهم مع أولادهم ونسائهم إلى مكان خارج بغداد بجوار المقابر، فكان ينام العالم على الأرض ويذبح كما تذبح الشياة، ثم تؤخذ نساؤه وأولاده سبايا أو للقتل، فكانت مأساة بكل المقاييس، وقد ذبح على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف ابن العالم الإسلامي المشهور ابن الجوزي رحمه الله، وذبح أولاده الثلاثة معه: عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وذبح المجاهد مجاهد الدين أيبك وزميله سليمان شاه، وذبح شيخ الشيوخ ومؤدب الخليفة ومربيه صدر الدين علي بن النيار، ثم ذبح بعد ذلك خطباء المساجد والأئمة وحملة القرآن، والخليفة حي يشاهد هذا، فيا ترى كم من الألم والندم والخزي والرعب الذي كان يشعر به الخليفة؟!
ولو تخيل الخليفة ولو للحظات أن العاقبة ستكون بهذه الصورة، فلا شك أن إدارته للبلاد ستختلف اختلافاً جذرياً، والأيام لا تعود، وهذه سنة الأيام، فألقى أهل المدينة السلاح وقتلت الصفوة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
استباحة التتار لبغداد (54)
بعد هذا الأمر انساب جنود هولاكو إلى شوارع بغداد ومحاورها المختلفة، وأصدر السفاح هولاكو أمره الشنيع باستباحة بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية -
يعني: أن للجيش التتري أن يفعل فيها ما يشاء، فيقتل ويأسر ويسبي ويزني ويسرق ويدمر ويحرق، وكل ما بدا له أن يفعله فليفعله، فانطلقت وحوش التتار الهمجية تنهش في أجساد المسلمين، واستبيحت مدينة بغداد العظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكم من الجيوش خرجت لتجاهد من هذه المدينة العظيمة بغداد؟ وكم من العلماء جلسوا يفقهون الناس في دينهم في هذه المدينة؟ وكم من طلاب العلم شدوا الرحال إليها؟ والآن لم يبق لها أحد.
أين خالد بن الوليد؟ وأين المثنى بن حارثة؟ وأين القعقاع؟ وأين النعمان؟ وأين سعد؟ أين الحمية في صدور الرجال؟ وأين النخوة في أبناء المسلمين؟ أين العزة والكرامة؟ أين الذين يطلبون الجنة ويقاتلون في سبيل الله؟ بل أين الذين يدافعون عن أعراضهم ونسائهم وأولادهم وديارهم وأموالهم؟ لم يوجد منهم أحد، ففتحت بغداد أبوابها على مصراعيها، فلا مقاومة لا حراك، فلم يبق في بغداد رجال، ولكن أشباه رجال، واستبيحت المدينة العظيمة، مدينة الإمام أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل، مدينة الرشيد رحمه الله والمعتصم فاتح عمورية، واستبيحت عاصمة الإسلام التي بقيت كذلك لأكثر من خمسة قرون، وفعل التتار في المدينة ما لا يتخيله عقل أبداً، فبدأ التتار يتعقبون المسلمين في كل شارع وميدان وبيت وحديقة ومسجد ومكتبة، واستحر القتل في المسلمين، والمسلمون لا حول لهم ولا قوة،
ولا هم لهم إلا الهرب إلى أي مكان، فكان المسلم يهرب إلى داره ويغلق عليه الباب، فيأتي التتري ويحرق الباب أو يقلعه ويدخل عليه، فيهرب إلى السطح ويصعد التتري وراءه ويقتله فوق السطح، حتى سالت الدماء بكثرة من ميازيب المدينة.
ولم يقتصر التتار على قتل الرجال الأقوياء فقط، بل كانوا يقتلون الكهول والشيوخ، والنساء إلا من استحسنوها منهن فكانوا يأخذونها سبياً، بل وكانوا يقتلون الأطفال والرضع، فقد وجد جندي من التتار (40) طفلاً في شارع جانبي قد قتلت أمهاتهم، فقتلهم جميعاً، فقد كانت قلوب التتار قاسية كالحجارة أو أشد قسوة، وتزايد أعداد القتلى في المدينة بشكل بشع على مر الأيام، ولم تتوقف الإبادة ولم تنته، ولم يكن هناك دفاع ولا مقاومة، ودخل في روع الناس أن التتار لا يهزمون لا يجرحون، بل إنهم لا يموتون، حدث كل هذا والخليفة حي يشاهد، وهذا هو العذاب بعينه،
ولنتخيل مدى الحسرة والألم في قلب الخليفة وهو واقف يتفرج على هذه الأحداث، وقد سيق كما يساق البعير في داخل مدينته الكبيرة، لاشك أنه قال مراراً: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، ولاشك أنه نادم يقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، ولابد أنه قد مر على ذهنه شريط حياته في لحظات، وأن لسان حاله كان يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100].
روى أبو داود وأحمد رحمهما الله تعالى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتم بالعينة -وهي نوع من أنواع الربا- وأخذتم أذناب البقر -أي: عملتم في رعي المواشي- ورضيتم بالزرع -أي: رضيتم بالاشتغال بالزراعة وأعمال الرعي في وقت الجهاد المتعين- وتركتم الجهاد» ، فإذا حدثت هذه الأمور: ( «تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا دينكم».
فقد عمل أهل بغداد في الزراعة والتجارة والكتابة والصناعة، بل في العلم والتعلم، وتركوا الجهاد في سبيل الله، فكانت النتيجة هذا الذل، ثم سيق الخليفة المستعصم بالله إلى خاتمته الشنيعة بعد أن دل على كل كنوز العباسيين، فقد انتهى دوره، وقتل الخليفة المسلم، فقد وضعه التتار في كيس، ثم أمر هولاكو أن يقتل الخليفة رفساً بالأقدام في ذل وإهانة.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لم تسقط بغداد فقط، بل سقط معها آخر خلفاء بني العباس في بغداد، وسقط معه الشعب بكامله، وكان هذا في اليوم العاشر من فتح بغداد لأبوابها، يوم (14) صفر سنة (656) من الهجرة، ولم تنته المأساة بقتل الخليفة، وإنما أمر هولاكو لعنه الله باستمرار عملية القتل في بغداد، فاستمر القتل مدة (40) يوماً متصلة، لم يكن فيها هم للجنود التتر إلا قتل المسلمين، فقتل في بغداد ألف ألف مسلم ما بين رجال ونساء وأطفال، قتلوا في (40) يوماً فقط.
أقول
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
إغراق التتار لمكتبة بغداد في نهر دجلة (55)
بينما كان فريق من التتار يقتل المسلمين ويسفك دماءهم، اتجه فريق آخر من التتار لعمل إجرامي آخر، ليس له مبرر، إلا أن التتار قد ملأ الحقد قلوبهم لكل ما هو حضاري في بلاد المسلمين، فقد شعر التتار بالفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين المسلمين، فالمسلمون لهم تاريخ طويل جداً في العلوم والدراسة والأخلاق، ولهم عشرات الآلاف من العلماء الأجلاء في كافة فروع العلم الديني منها والدنيوي، فقد أثرى هؤلاء العلماء الحضارة الإسلامية بملايين المصنفات، بينما التتار لا حضارة لهم، بل هم أصلاً أمة لقيطة، نشأت في صحراء شمال الصين، واعتمدت على شريعة الغاب في نشأتها، وقاتلت كما تقاتل الحيوانات، بل عاشت كما تعيش الحيوانات، فلم ترغب مطلقاً في إعمار الأرض أو إصلاح الدنيا كما فعل المسلمون قبل ذلك، ولكنهم عاشوا فقط للتخريب والتدمير والإبادة.
فشتان بين أمة التتار وبين أمة الإسلام، بل شتان بين أي أمة من أمم الأرض وأمة الإسلام.
وهذا الانهيار الذي رأيناه في تاريخ بغداد من المستحيل أن يمحو التاريخ العظيم لهذه الأمة، فاتجه فريق من أشقياء التتار إلى تدمير مكتبة بغداد العظيمة، أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن، فقد كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من (600) عام، جمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون، من علوم شرعية، كالتفسير والحديث والفقه والعقيدة والأخلاق، وعلوم حياتية، كالطب والفلك والهندسة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا، وعلوم إنسانية، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ والفلسفة، وكل أنواع العلوم، هذا بالإضافة إلى ملايين الأبيات من الشعر، وعشرات الآلاف من القصص والنثر، والترجمات المختلفة لكل العلوم الأجنبية اليونانية والفارسية والهندية وغيرها.
فقد كانت مكتبة بغداد مكتبة عظيمة بكل المقاييس، ولم يقترب منها في العظمة إلا مكتبة قرطبة الإسلامية في الأندلس، وقد مرت مكتبة قرطبة بنفس التجربة قبل (20) سنة فقط من سقوط بغداد -أي: عام 636 من الهجرة- فقد أحرقت مكتبة قرطبة تماماً عندما سقطت في يد نصارى أوروبا، وقام بذلك الحرق أحد قساوسة النصارى بنفسه واسمه قمبيز.
حمل التتار الكتب الثمينة والتي بلغ أعدادها ملايين الكتب الثمينة، وألقوا بها جميعاً في نهر دجلة، هكذا ببساطة، وهذا من غباء التتار، فقد كان يمكنهم أخذ هذه الكتب إلى قراقورم عاصمة المغول؛ ليستفيدوا منها، فهم لا يزالون في مرحلة الطفولة الحضارية، ولكن التتار أمة همجية لا تقرأ ولا تريد أن تتعلم، فهي لا تعيش إلا لملذاتها وشهواتها فقط.
وكان هدفهم في الدنيا هو تخريبها، فألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة، حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب، حتى قيل: إن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من الضفة إلى الضفة الأخرى.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
إتلاف الغزاة لمكتبات المسلمين في كل حروبهم(56)
إن إغراق مكتبة بغداد ليست جريمة في حق المسلمين فقط، بل في حق الإنسانية كلها، وهي جريمة متكررة في التاريخ، فقد فعلها الصليبيون النصارى في الأندلس في مكتبة قرطبة الهائلة كما ذكرنا من قبل، وفعلوها مرة ثانية في الأندلس في مكتبة غرناطة عند سقوطها،
فأحرقوا مليون كتاب في أحد الميادين العامة، وفعلوها في الأندلس مرة ثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة في مكتبات طليطلة وأشبيلية وبلنسية وسرقسطة وغيرها.
وفعلها الصليبيون النصارى أيضاً في الشام في مكتبة طرابلس اللبنانية، فقد أحرقوا ثلاثة ملايين كتاب، ومكتبة طرابلس لا تقارن بالمرة بمكتبة بغداد، فتخيل الرقم الذي أغرق في نهر دجلة من الكتب من مكتبة بغداد، وفعلها الصليبيون النصارى في فلسطين في مكتبة غزة والقدس وعسقلان،
ثم فعلها بعد ذلك المستعمرون الأوروبيون الجدد الذين نزلوا إلى بلاد العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، ولكنهم كانوا أكثر ذكاء من أجدادهم، فقد سرقوا الكتب إلى أوروبا ولم يحرقوها، ومازالت المكتبات الكبرى في أوروبا إلى الآن تحوي مجموعة من أعظم كتب العلم في الأرض، والكتب الأصلية في أوروبا أضعاف أضعاف ما يمتلكه المسلمون في بلادهم.
فقد كان هم الغزاة على طول العصور أن يحرموا هذه الأمة من اتصالها بأي نوع من أنواع العلوم، إما بحرق الكتب، أو تغريقها في الأنهار، أو سرقتها، أو بتغيير مناهج التعليم كما يعملون الآن حالياً؛ لتفريغ الأمة من أهم ما تمتلك من العلم والدين والأخلاق.
بعد أن فرغ التتار من تدمير مكتبة بغداد انتقلوا إلى الديار الجميلة والمباني الأنيقة، فتناولوها بالتدمير والحرق، وسرقوا محتوياتها الثمينة، وما عجزوا عن حمله من المسروقات أحرقوه، فتحولت المدينة الكبيرة إلى ركام وخراب، فقد كانت ألسنة النار والدخان تتصاعد من كل مكان.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تعيين هولاكو لمؤيد الدين العلقمي حاكماً على بغداد (57)
ثم أصدر أيضاً هولاكو قراراً جديداً بتعيين مؤيد الدين العلقمي الشيعي رئيساً على مجلس الحكم المعين من قبل التتار، على أن توضع عليه وصاية تترية، فلم يكن مؤيد الدين إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للتتار، بل إن الأمر تزايد بعد ذلك، حتى وصل إلى الإهانة المباشرة للرئيس الجديد مؤيد الدين العلقمي، ولم تكن هذه الإهانة تأتي من قبل هولاكو بل من صغار الجند في جيش التتار؛ لأنهم يريدون أن يحطموا نفسيته حتى لا يشعر بقوته، ولا يظن أنه رئيس فعلاً، بل يظل تابعاً للتتار في منتهى الذلة.
وهكذا من باع دينه ووطنه ونفسه، فإنه يصبح بلا ثمن حتى عند الأعداء، فالعميل عند الأعداء ليس له أي قيمة، ولم يعش الوزير الخائن بعد أن تولى الحكم إلا أياماً قليلة في ذل ومهانة، ثم مات في بيته، ولم يستمتع بحكم ولا ملك ولا خيانة؛ ليكون عبرة بعد ذلك لكل خائن، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
ثم ولى التتار ابن مؤيد الدين العلقمي على بغداد، وكان الابن قد ورث الخيانة من أبيه، ولكن هذا المنصب أصبح شؤماً على من يتولاه، فقد مات الابن الخائن الجديد الشاب الصغير في نفس السنة التي سقطت فيها بغداد سنة (656) من الهجرة.
ولا عجب فمن تمسك بهذه الدنيا أهلكته، فقد تمسك بها الخليفة فهلك، ثم الوزير الخائن فهلك، ثم ابن الوزير فهلك،
وتمسك بها شعب بغداد فهلك،
وهذه سنة ماضية.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
أثر سقوط بغداد على العالم الإسلامي (58)
وصلت أخبار سقوط بغداد إلى العالم بأسره، فأما العالم الإسلامي فكان سقوط بغداد بالنسبة له صدمة رهيبة، لم يمكنه استيعابها مطلقاً، فبغداد لم تكن مدينة عادية، فكونها أكبر مدينة على وجه الأرض في ذلك الحين،
وبها أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، وأنها من أعظم دور العلم والحضارة والمدنية في الأرض، ومن ثغور الإسلام القديمة، فهي عاصمة الخلافة الإسلامية.
وتساءل الناس سؤالاً خطيراً: ماذا يعني سقوط بغداد؟ وماذا يعني قتل الخليفة وعدم تعيين خليفة آخر؟ لم تكن تعني للمسلمين شيئاً بدون خلافة أو خليفة، فحتى مع مظاهر الضعف الواضحة في السنوات الأخيرة للخلافة العباسية، إلا أن ذلك لم يكن يلغي معنى الخلافة من أذهان الناس، فالخلافة كانت تعتبر رمزاً هاماً للمسلمين، فإذا كان هناك خلافة ولو ضعيفة، فقد يأتي زمان تتقوى فيه الخلافة، أما أن تختفي الخلافة بالمرة فهذا غير مفهوم عند المسلمين.
ثم ظهر عند المسلمين في ذلك الوقت اعتقاد غريب، فسيطر على كثير منهم اعتقاد أن ظهور التتار وهزيمة المسلمين وسقوط بغداد ما هي إلا علامات للساعة، وأن المهدي سيظهر قريباً جداً؛ ليقود جيوش المسلمين للانتصار على التتار.
وأنا أقول: سيظهر المهدي في يوم ما، وسينزل المسيح عليه السلام، وستقوم الساعة، فنحن نؤمن بذلك يقيناً، وأما متى فلا يدري أحد، {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63].
ثم لماذا تظهر مثل هذه الدعوات في أوقات الهزائم والانتكاسات؟ هذا ليس له إلا مبرر واحد، وهو أن الناس أحبطوا تماماً، وأصبحوا يشكون في إمكانية النصر على أعداء الله بمفردهم، فقد أيقن الناس أنهم لا طاقة لهم بـ هولاكو وجنوده، ولذلك بحثوا عن حل آخر أسهل، وهو انتظار خروج المهدي، وعندها سيقاتلون معه، أما الآن فلا يستطيعون، فجلسوا يراقبون الموقف عن بعد، وينتظرون المعجزة.
كان هذا هو الوضع في العالم الإسلامي.
وأما العالم النصراني فقد عمت البهجة والفرح أطرافه بكاملها، وكان هذا الشيء متوقعاً جداً منهم، فقد ذكرنا في أول هذه المحاضرات أن قوى العالم الرئيسية في هذا القرن كانت ثلاث قوى: العالم الإسلامي، والعالم النصراني، والتتار، وكانت الحروب بين المسلمين والنصارى على أشدها.
وكانت هذه الضربة التترية ضربة موجعة جداً للعالم الإسلامي، ولاشك أن أطماع الصليبيين ستتجدد في الشام ومصر، وبغض النظر عن سرور النصارى أو التتار فقد سقطت بغداد، ومع عظم المصيبة على المسلمين، والمكاسب الهائلة التي حققها التتار، والكنوز الثمينة التي نهبوها، إلا أن الذي يشرب من الدم لا يرتوي أبداً.
لذلك كان من الواضح أن بغداد لن تكون المحطة الأخيرة للمعتدين، ولابد أنهم سيبحثون عن كنز آخر وضحية جديدة.
فماذا سيفعل التتار؟
وإلى أي بقعة من بقاع العالم الإسلامي سيتجهون؟ وما هو رد فعل المسلمين؟ هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في المحاضرة القادمة.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، {فَسَتَذْكُرُون مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
موالاة أمراء المسلمين للتتار (59)
في المحاضرة السابقة تعرضنا للكارثة الكبرى التي أصابت المسلمين وهي احتلال العراق وسقوط بغداد، وقتل مليون مسلم في بغداد، وتعرضنا لاستباحة كل شيء في هذه المدينة العظيمة، وتدمير المخزون الثقافي والحضاري الهائل في مكتبة بغداد، وكان واضحاً من خطوات التتار ومن رد فعل المسلمين أن احتلال العراق لن يكون أبداً المحطة الأخيرة للتتار في بلاد المسلمين، وإنما ستعقبه ولا شك أطماع جديدة، وأحلام توسعية كبيرة جداً في أراضي المسلمين.
اجتاح التتار العراق وبلاد الشام في زمن يسير، ساعدهم على ذلك تعاون بعض أمراء المسلمين الخونة معهم، وكذلك تحالف النصارى، وتفرق المسلمين فيما بينهم، وعدم وجود روح الأخوة بين الشعوب المسلمة لمساعدة إخوانهم المحاصرين.
بعد تدمير العراق انسحب هولاكو من بغداد إلى همذان بفارس، ثم توجه إلى قلعة تسمى: قلعة شاها على شاطئ بحيرة أرمية، وبحيرة أرمية في الشمال الغربي لإيران، وفي هذه القلعة وضع الكنوز الهائلة التي نهبها من قصور العباسيين، ومن بيت مال المسلمين، ومن بيوت التجار وأصحاب رءوس الأموال وغيرهم.
وترك هولاكو حامية تترية حول بغداد، وبدأ يفكر بجدية في الخطوة التالية، لا شك أن الخطوة القادمة ستكون سوريا، فبدأ يدرس الموقف في هذا المنطقة، وبينما هو يقوم بهذه الدراسة ويحدد نقاط الضعف والقوة في هذه المناطق الإسلامية، بدأ بعض الأمراء المسلمين يؤكدون ولاءهم للتتار، وبدأت الوفود الإسلامية الرسمية تتوالى على زعيم التتار، وتطلب عقد الأحلاف والمعاهدات مع الصديق الجديد، رجل الحرب والسلام هولاكو، ومع أن دماء المليون مسلم الذين قتلوا في بغداد لم تجف بعد، إلا أن هؤلاء الأمراء لم يجدوا أي غضاضة في أن يتحالفوا مع هولاكو، فالفجوة هائلة بينهم وبين هولاكو، والأفضل في اعتباراتهم أن يفوزوا بأي شيء، وهذا أحسن من لا شيء، أو على الأقل يحيدون جانبه ويأمنون شره.
يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72]، فقد فرح هؤلاء الأمراء بعدم الاشتراك في الدفاع عن بغداد وعن العراق؛ لأن بغداد سقطت، وهكذا هم مع المنتصر، يسارعون إليه أياً كان.
وقد كان هؤلاء الأمراء يظهرون أمام شعوبهم بمظهر الحكماء، الذين جنبوا شعوبهم ويلات الحروب، وقد كان لهم خطب قوية نارية حماسية، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4]، وقد كان هناك كثير من العلماء الأصوليين يؤيدون خطوات الأمراء، ويباركون تحركاتهم، ويحضون شعوبهم على اتباع هؤلاء الأمراء، والرضا بأفعالهم مهما كانت،
ولا شك أن هؤلاء العلماء كانوا يضربون لهم الأمثال من السنة النبوية المطهرة، ويقولون لهم: لقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية المشركين، فلماذا لا نعاهد نحن التتار الآن؟ ولقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة المنورة، فلماذا لا نعاهد نحن التتار في بغداد؟ وهكذا.
ثم يقولون: إن التتار جنحوا للسلام، والله عز وجل يقول:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال:61] فالتتار جنحوا للسلم معنا، ويريدون أن يقيموا معنا معاهدات وأحلافاً، أفتريدون أن نقع في مخالفة شرعية ولا نسمع لكلام ربنا؟!
وهل تريدون سفك الدماء وتخريب الديار وتدمير الاقتصاد؟! إن الحكمة كل الحكمة ما فعله أميرنا من التصالح والتعاهد والتحالف مع التتار، ولنبدأ صفحة جديدة من الحب لكل البشرية {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78].
ذهب هؤلاء الأمراء إلى هولاكو وقلوبهم تدق وأنفاسهم تتسارع، وهم يتساءلون: هل سيقبل سيدهم هولاكو أن يتحالف معهم؟ جاء الزعماء الأشاوس يجددون العهد مع الصديق هولاكو، فقد جاء الأمير بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل، والأمير كيكاوس الثاني، والأمير قلج أرسلان الرابع من منطقة الأناضول وسط وغرب تركيا، والأمير الأشرف الأيوبي أمير حمص، والأمير الناصر يوسف حفيد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله أمير حلب ودمشق، وكان هؤلاء الأمراء يمثلون معظم شمال العراق.
ولا حوله ولا قوة إلا بالله .
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
حصار التتار لمدينة ميافارقين (60)
ظهرت مشكلة أمام هولاكو، وهي أن أحد الأمراء الأيوبيين رفض أن يرضخ له، ورفض أن يعقد معاهدات السلام مع التتار، وقرر أن يجاهدهم حتى النهاية، فاعتبر هولاكو أن هذا الرجل إرهابي، يريد زعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا شك أن هولاكو قال:
إنه يعلم أن هذا الرجل لا يمثل دين الإسلام؛ لأن الإسلام دين السماحة والرحمة والحب والسلام، وهولاكو ليس عنده أي اعتراض على الإسلام، ولكنه معترض على هذا الذي يريد زعزعة الاستقرار في المنطقة.
وهذا الأمير المسلم الذي ظل محتفظاً بمروءته وكرامته ودينه، هو الأمير الكامل محمد الأيوبي رحمه الله أمير منطقة ميافارقين وهي تقع الآن في شرق تركيا إلى الغرب من بحيرة وان، وجيوش الكامل محمد رحمه الله كانت تسيطر على شرق تركيا، بالإضافة إلى منطقة الجزيرة، وهي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات من جهة الشمال، فهذا الرجل كان يسيطر على شرق تركيا، وعلى الشمال الغربي من العراق، والشمال الشرقي من سوريا.
كان هولاكو يريد احتلال سوريا، فكان عليه أن يجتاز منطقة الجزيرة الواقعة تحت سيطرة الكامل محمد رحمه الله، وأن يمر في شمال العراق، وعلى الرغم من خنوع وخضوع معظم أمراء المنطقة، إلا أن إخضاع إمارة ميافارقين بالقوة أصبح أمراً لازماً، ومدينة ميافارقين حصينة جداً، وتقع بين سلسلة جبال الأسود، واحتلالها صعب جداً، وكان هولاكو لا يريد أن يدع أي شيء للمفاجآت،
فحتى يخرج من هذا المأزق بدأ بالطرق السهلة وغير المكلفة، فحاول إرهاب الكامل وإقناعه بالتخلي عن فكرة الجهاد الطائشة، فأرسل إليه رسولاً يدعوه فيه إلى التسليم غير المشروط، والدخول فيما دخل فيه غيره، فكل الأمراء الذين حوله قد استسلموا، وهو المعارض الوحيد؛ وقد كان هولاكو في منتهى الذكاء في اختيار الرسول، فلم يرسل رسولاً تترياً، وإنما أرسل رسولاً عربياً نصرانياً اسمه قسيس يعقوبي، فهذا الرسول من ناحية يستطيع التفاهم مع الكامل محمد بلغته، وأن ينقل إليه أخبار هولاكو وقوته وبأسه، ثم هو من ناحية أخرى نصراني فيلفت بذلك نظر الكامل محمد إلى أن النصارى متعاونون مع التتار،
وهذا الأمر خطير بالنسبة للكامل محمد جداً، وله بعد إستراتيجي في منتهى الأهمية؛ لأن إمارة ميافارقين الواقعة في شرق تركيا يحدها شرقاً مملكة أرمينيا النصرانية، وهي متحالفة مع التتار، ويحدها من الشمال الشرقي مملكة الكرج النصرانية، وهي أيضاً متحالفة مع التتار، فإذا ما اعترض الكامل محمد رحمه الله على هولاكو فإنه سيصبح كالجزيرة المحصورة في خضم هائل من المنافقين والمشركين والنصارى، وسيحاصر من كل الجهات، فمن الشرق سيحاصر بمملكة أرمينيا النصرانية، ومن الشمال الشرقي بمملكة الكرج النصرانية، التي هي جورجيا الآن، ومن الجنوب الشرقي بإمارة الموصل العميلة للتتار، فالجانب الشرقي كله محاط بعملاء وبنصارى، وفي الغرب إمارات السلاجقة العميلة للتتار أيضاً، ففي وسط وغرب تركيا كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع، وهما عميلان للتتار، ومن الجنوب الغربي إمارة حلب الخاضعة للناصر يوسف الأيوبي، وهي عملية للتتار أيضاً، فلا يوجد أي منفذ للكامل محمد من أي طريق، سواءً من بلاد المسلمين أو من بلاد النصارى، وفوق كل هذا فجيش التتار سيأتي لمحاصرة المنطقة، فالموقف في منتهى الخطورة.
ولكن الكامل محمد رحمه الله أمسك الرسول النصراني قسيس يعقوبي وقتله، وقد كانت الأعراف تقضي ألا يقتل الرسل، ولكن الكامل محمد قام بذلك؛ ليكون إعلاناً رسمياً للحرب على هولاكو، وكنوع من شفاء الصدور للمسلمين؛ انتقاماً من ذبح مليون مسلم منذ أيام؛ ولأن التتار ما احترموا أعرافاً في حياتهم، وكان قتل قسيس يعقوبي رسالة واضحة من الكامل محمد إلى هولاكو، فأدرك هولاكو فوراً أنه لن يدخل الشام إلا بعد القضاء على الكامل محمد تماماً، فاهتم هولاكو جداً بهذا الموضوع، فهذا أول صحوة في المنطقة، ولم يضيع الوقت، بل جهز بسرعة جيشاً كبيراً جداً،
ووضع على رأسه ابنه أشموط بن هولاكو مباشرة، فتوجه الجيش التتاري إلى ميافارقين مباشرة بعد أن فتح له أمير الموصل العميل بدر الدين لؤلؤ أرضه للمرور، فحاصر جيش التتار ميافارقين حصاراً شديداً، وكما هو متوقع جاءت جيوش مملكتي أرمينيا والكرج لتحاصر ميافارقين من الناحية الشرقية، وكان بداية الحصار الشرس في شهر رجب سنة (656 هـ)، أي: بعد حوالي أربعة أشهر من تدمير بغداد.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
أسباب قعود الشعوب المسلمة عن نصرة المسلمين المحاصرين في ميافارقين (61)
أنا لا أتعجب كثيراً من فعل الأمراء المسلمين؛ لكونهم خونة مطلقاً، ولكني أتعجب من رد فعل الشعوب، فأين كانت الشعوب في هذه البلاد المسلمة؟ فأين كان شعب الموصل وتركيا؟ فقد كان هناك من تربطه صلات رحم بأولئك الذين يعيشون في ميافارقين، فحتى الفطرة تقضي عليهم أن يساعدوهم، وأن يمدوهم بالطعام والسلاح والدواء، وإذا كان الحكام على هذه الصورة الوضيعة من الأخلاق، فلماذا سكتت الشعوب، ولم تتحرك لنجدة إخوانهم في الدين والعقيدة، بل وإخوانهم في الدم والنسب كما ذكرنا؟
لقد سكتت الشعوب، وسكوتها مرده إلى أمور خطيرة:
أولاً: لم تكن الشعوب تختلف كثيراً عن حكامها، فقد كانت تحب الحياة، أي حياة وبأي صورة.
ثانياً: كانت هناك عمليات غسيل مخ مستمرة لكل شعوب المنطقة، فالحكام والوزراء وعلماء الحكام، كانوا يقنعون الناس بحسن سياسة الحكام وحكمة إدارتهم، ولا شك أن هؤلاء الحكام أيضاً كانوا يلومون الكامل محمد على تهوره ودفاعه عن كرامته ودينه وكرامة شعبه، بل وعن كرامة المسلمين جميعاً، ولا شك أنهم كانوا يقولون مثلاً: أما آن للكامل محمد أن يتنحى ليجنب شعبه ويلات الحروب ودمارها؟
ومنهم من يقول: لو سلم الكامل محمد أسلحته لانتهت المشكلة، ولكنه يخفي أسلحته عن عيون الدولة الأولى في الأرض التتار، وهذا خطأ يستحق إبادة شعب ميافارقين بكامله.
ولا شك أن هولاكو كان يرسل برسائل يقول فيها: إنه ما جاء إلى هذه المدينة المسالمة ميافارقين إلا لإزاحة الكامل محمد عن الحكم، وأما شعب ميافارقين فليس بينه وبينهم عداء، ونريد أن نتعايش سلمياً إلى جوار بعضنا البعض، وعمليات غسيل المخ المستمرة تهدئ من حماسة الشعوب، وتقتل المروءة والنخوة.
ثالثاً: من لم تقنعه الكلمات والخطب والحجج والبراهين، فالإقناع له يكون بالسيف، وقد تعودت الشعوب في هذه المناطق على القهر والبطش والظلم من الولاة، وتعودوا على الكراهية المتبادلة بين الحكام والمحكومين، وعلى الظلم.
في ظل هذه الملابسات المخزية والأوضاع المقلوبة نستطيع أن نفهم كيف تم حصار إمارة ميافارقين، وتعرض شعبها المسلم للموت أحياء، ولم يتحرك لها حاكم ولا شعب من الإمارات الإسلامية المجاورة جداً لها.
ولا حولة ولا قوة إلا بالله
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تغيير العلاقة بين هولاكو والناصر يوسف الأيوبي (62)
لم يكتف الناصر يوسف بمنع المساعدة عن الكامل محمد ولا في المشاركة في حصار ميافارقين، بل أرسل رسالة إلى هولاكو مع ابنه العزيز -الذي حاصر بغداد مع جيش التتار ليساعد في إسقاطها- يطلب منه أمراً عجيباً في هذا التوقيت الغريب، فقد طلب من هولاكو أن يعينه بفرقة تترية للهجوم على مصر والاستيلاء عليها من المماليك؛ ليضمها إلى مملكته.
في هذه الظروف يطلب الناصر يوسف من التتار الهجوم على مصر! ولم ينس الناصر يوسف أن يحمل ابنه العزيز بالهدايا الثمينة والتحف النفيسة إلى صديقه الجديد هولاكو، ولكن {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]،
وعلى نفسها جنت براقش.
فقد استكبر هولاكو أن يرسل الناصر يوسف ابنه العزيز ولا يأتي بنفسه، فكل الأمراء جاءوا بأنفسهم إلا هو، وأيضاً فقد رأى هولاكو أن هناك مشكلة كبيرة جداً: فكيف يطلب مساعدة هولاكو في فتح مصر للناصر فـ هولاكو يريد كل شيء له،
فلاحظ أن الناصر يوسف بدأ يرى نفسه، وهولاكو لا يريد أحداً مطلقاً إلى جواره.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
رسالة هولاكو إلى الناصر (63)
أحضر هولاكو الأدباء المسلمين المحترفين التابعين له الذين يصوغون الرسالات، وكتب رسالة مباشرة إلى الناصر يوسف يقول له:
إنا قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى، وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنيانها، وأسرنا سكانها، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز حكاية عن ملكة سبأ: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]-بيستشهد بآيات من كتاب الله عز وجل! -
ثم يقول: واستحضرنا خليفتها، وسألناه عن كلمات فكذب، وسألناه عن الكنوز وعن الأسرار فكذب، فواقعه الندم، واستوجب منا العدم، وكان قد جمع ذخائر نفيسة، وكانت نفسه خسيسة، فجمع المال ولم يعبأ بالرجال، وكان قد نما ذكره وعظم قدره، ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال -فـ هولاكو في منتهى الورع! - ثم يقول له: إذا وقفت على كتابي هذا فسارع برجالك وأموالك وفرسانك إلى طاعة سلطان الأرض شاهنشاه رويزمين -يعني: ملك الملوك على وجه الأرض- تأمن شره وتنل خيره، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز:{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى}[النجم:39 - 41].
ثم يقول: ولا تعوق رسلنا عندك، {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، وقد بلغنا أن تجار الشام وغيرهم انهزموا بحريمهم إلى مصر.
فتجار الشام لما عرفوا أن التتار على الأبواب أخذوا الأموال والنساء وهربوا إلى مصر بعيداً عن أرض القتال، فإن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها.
أين النجاة ولا مناص لهارب ولي البسيطان الندى والماء ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت في قبضة الأمراء والوزراء وانتهت الرسالة التترية المرعبة، فسقط قلب الناصر يوسف بين قدميه، فقد وضحت نوايا هولاكو، فهو يطلب منه صراحة التسليم الكامل،
ويخبره أنه سيتتبع من فر من تجاره وشعبه، وذكره بمصير الخليفة العباسي البائس، فهل يسلم كل شيء لـ هولاكو؟ فماذا يبقى له بعد هذا؟ فحب المال والسلطان يجري في دم الناصر يوسف، وهو ما والى ملك التتار إلا ليظل ملكاً، ولكن الآن هولاكو يقول له: لا، تعال وأنا الذي سأقسّم التركة، وسأقسم الدنيا كلها، ولو لم تأت سينالك ما نال الخليفة العباسي قبل ذلك، فلو رفعه هولاكو من على كرسي الحكم فلماذا يعيش؟
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
أسباب ازدياد قوة العلاقة بين التتار والنصارى (64)
رجع هولاكو من قرية شاها إلى مدينة همذان في إيران، فقد كان فيها القيادة المركزية لإدارة شئون الحرب في منطقة الشرق الأوسط، وكانت على بعد (450) كيلو متر من بغداد، وبدأ هولاكو يعيد ترتيب الأوراق نتيجة التطورات الجديدة، ويحلل الموقف في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة، وينظر إلى الأحداث التي توالت في هذه الشهور السابقة،
فوجد الآتي:
أولاً: علاقة التتار بالنصارى تزداد قوة، ولا شك أن هولاكو بحاجة إلى أن يعمق هذه العلاقة بصورة أكبر؛ لمواجهة النماذج الإسلامية المعارضة التي ظهرت مثل: الكامل محمد أو غيره ممن سيظهر بعد هذا، وهنا سيحتاج التتار إلى قوة النصارى للمساعدة في إخماد الثورات من ناحية، ولنقل الخبرة من ناحية أخرى، ولإدارة أمور الشام بعد إسقاطها من ناحية ثالثة، لأجل هذا أراد التتار أن يشتروا ود النصارى إلى آخر درجة، فأغدق هولاكو بالهدايا والمكافآت على هيثوم ملك أرمينيا، وكذلك على ملك الكرج، وكذلك على بوهمند أمير أنطاكية.
النقطة الثانية: الحصار ما زال مضروباً على ميافارقين بقيادة أشموط بن هولاكو، ومع بسالة المقاومة وشجاعة الكامل محمد إلا أن الحصار كان شديد الإحكام، ويشترك فيه قوات أرمينيا والكرج، ولم يحاول أي أمير مسلم المساعدة في فك هذا الحصار، وهولاكو مطمئن نسبياً إلى حصار ميافارقين.
النقطة الثالثة: ظهر الموقف العدائي من الناصر يوسف الأيوبي أمير حلب ودمشق، وضرب معسكراً جهادياً شمال دمشق، وبدأ في إعداد الجيش لمقابلة التتار، وهذا الإعداد لم يقابل بأي اهتمام من هولاكو، فهو يعرف الناصر وإمكانياته ونفسيته، ولذلك كانت هذه مسألة تافهة نسبياً بالنسبة لـ هولاكو.
النقطة الرابعة: منطقة العراق الأوسط وأهمهما مدينة بغداد أعلنت تسليمها بالكامل للتتار، وأصبحت آمنة تماماً، وكذلك ظهر ولاء أمير الموصل التام للتتار، فالشمال الشرقي من العراق أيضاً أصبح آمناً تماماً.
النقطة الخامسة والأخيرة: إن أقوى المدن الآن في الشام هي مدينة حلب ودمشق، ولو سقطت هاتان المدينتان فإن ذلك يعني سقوط الشام كلية، ومدينة حلب تقع في شمال دمشق على بعد (300) كيلو متر تقريباً.
فقرر هولاكو أن يتوجه مباشرة لإسقاط إحدى المدينتين: حلب، أو دمشق، وأدرك هولاكو أنه لو أراد أن يتوجه إلى حلب، فإن عليه أن يخترق الشمال العراقي أولاً، ثم يدخل سوريا من شمالها الشرقي مخترقاً بذلك شمال سوريا، موازياً لحدود تركيا حتى يصل إلى حلب في شمال سوريا الغربي، وهذه المناطق كثيرة الأنهار، وفيها معوقات كثيرة طبيعية، وبالذات في مناورات الجيوش الضخمة، ففيها نهر دجلة والفرات، وفي نفس الوقت فهذه المناطق خضراء، ووفيرة الزرع والمياه،
يعني: أن الجيش سيمشي فيها وهو مطمئن إلى وفرة الغذاء والماء، بالإضافة إلى أنها قريبة من ميافارقين، فلو احتاج جيش أشموط أي مساعدة فسيكون جيش التتار الرئيسي بجنبه، فاحتلال مدينة حلب يحمل بعض المزايا، وهي أن الطريق إليها فيه الغذاء والماء، وهي قريبة من ميافارقين، ويمر في مناطق آمنة، فهو يمر في أرض أمير الموصل الموالي للتتار، وسيدخل بعد هذا على شمال سوريا وليس فيها الناصر يوسف، فهو معسكر في الجنوب في دمشق.
هذا الاختيار الأول.
وإذا أراد هولاكو أن يتوجه إلى دمشق أولاً فهذا سيمثل عنصر مفاجئة رهيبة للمسلمين في دمشق؛ لأن هولاكو سيأتي من حيث لا يتوقعون، فهم يتوقعون مجيئه من الشمال من ناحية حلب، فلو جاء من الشرق من ناحية الصحراء فمن الصعب جداً على أهل دمشق أن يتخيلوا مثل هذه المفاجأة، ويستطيع بهذا هولاكو أن يصل إلى الناصر يوسف في عقر داره مباشرة، ولا يتيح له فرصة للفرار، ولكن هنا مشكلة كبيرة جداً، فحتى يفعل ذلك هولاكو فإن عليه أن يخترق صحراء السماوة، التي تسمى: بادية الشام، والتي تمتد من بغداد إلى دمشق، وهي صحراء قاحلة جداً، والسير فيها بجيش كبير يعتبر مخاطرة مروعة، ولا يستطيع هولاكو أن يقدم على هذه الخطوة، مع أنه لو فعلها لفاجأ جيش الناصر يوسف من حيث لا يتوقع، ولقابل القوة الرئيسية للمسلمين، وبذلك يسقط الشام بكامله.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
جمع هولاكو لملوك وأمراء المناطق وإصدار الأوامر لهم (65)
جمع هولاكو لملوك وأمراء المناطق الموالين له في بلاد الشام وما جاورها وإصدار الأوامر لهم
أكمل هولاكو طريقه غرباً بعد ذلك حتى وصل إلى إمارة أنطاكية، وهي في جنوب تركيا، وكانت إمارة حليفه النصراني الأمير بوهمند، وهناك حول أنطاكية ضرب هولاكو معسكره خارج المدينة، ثم دعا إلى إقامة مؤتمر لبحث الأوضاع في الشرق الأوسط الجديد حسب الرؤية التترية،
فبدأ الحلفاء من كل المنطقة يتوافدون على هولاكو، فجاء هيثوم ملك أرمينيا، وجاء أمير أنطاكية بوهمند، وجاء أميرا السلاجقة المسلمان: كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع، وهذان بلادهما مجاورة لأنطاكية.
وبدأ هولاكو يصدر مجموعة من الأوامر والقرارات والجميع يستمعون:
أولاً: يكافأ ملك أرمينيا هيثوم بمكافأة كبيرة من غنائم حلب؛ وذلك تقديراً لمساعدات الجيش الأرمني في إسقاط بغداد، ثم ميافارقين، ثم حلب.
ثانياً: على سلطانَيْ السلاجقة كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع أن يعيدا المدن والقلاع التي كان المسلمون قد فتحوها قبل ذلك إلى ملك أرمينيا، وهذا لتوسيع ملك الملك الأرميني على حساب البلاد المسلمة، ولم توجد فرصة واردة للاعتراض عند السلطانين المسلمين، وبالفعل سلما المدن إلى ملك أرمينيا.
ثالثاً: يكافأ بوهمند أمير أنطاكية على تأييده لـ هولاكو، فأعطاه مدينة اللاذقية المسلمة، وكانت قد حررت من الصليبيين أيام صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وظلت مسلمة إلى هذه اللحظة، ثم أهديت بكلمة واحدة إلى النصارى.
وقرار إعطاء مدن السلاجقة إلى الملك الأرمني، وإعطاء مدينة اللاذقية إلى بوهمند أمير أنطاكية تطبيق للقاعدة الاستعمارية المجحفة المعروفة: وهي أن المحتل يعطي ما لا يملك لمن لا يستحق.
القرار الرابع: وقد كان قراراً غريباً جداً من هولاكو، ولم يكن في مصلحة أمير أنطاكية، بل كان ضده وضد ملك أرمينيا، وكان هذا القرار لإثبات أن كل شيء الآن قد أصبح بيد السيد الجديد هولاكو، وما هؤلاء الملوك إلا صورة حلفاء فقط، وحتى لا يظن ملك أرمينيا أو أمير أنطاكية أنهما حلفاء على نفس المستوى مع هولاكو كان هذا القرار الجديد: تعيين بطريرك جديد للكنيسة في أنطاكية، وهي محكومة أصلاً بالنصارى، وحاكم التتار هولاكو ليس نصرانياً، ولا يفهم شيئاً في الديانة النصرانية، ولكنه أصدر قرار تغيير البطريرك وتعيين بطريرك جديد، ليس هذا فقط، بل إن البطريرك الجديد أتى به من مكان غريب جداً، فقد أتى به من اليونان، يعني: أنه عين بطريرك أرثوذوكسي على كنيسة كاثوليكية، وهذه سابقة خطيرة جداً في تاريخ النصارى، وبالذات أن العلاقات متأزمة للغاية بين الطائفتين الأرثوذوكس والكاثوليك.
فعين هولاكو البطريرك اليوناني يومنيميوس مكان البطريرك اللاتيني الإيطالي الذي قدم من جنوة، وقد كانت الإمارات الصليبية التي في الشام كلها إمارات كاثوليكية.
وقد عين هولاكو هذا البطريرك لعدة أسباب
أولاً: لإذلال أميرا أنطاكيا وأرمينيا، حتى لا يظنا أنفسهما زعماء إلى جواره.
ثانياً: كان لا يريد أن يجعل استقراراً في هذه المناطق؛ لكي لا يتوسع أمير أو ملك على غير رغبته، بل كان يريد أن يجعلهم دائماً في التراب.
ثالثاً: كان يريد إقامة علاقات صداقة وجوار مع الإمبراطور اليوناني حاكم الدولة البيزنطية الكبيرة، وذلك إلى أجل، فقد كان تخطيط هولاكو اقتحام الإمبراطورية البيزنطية بعد الانتهاء من بلاد المسلمين.
فلم يكن لدى أمير أنطاكية القدرة على الاعتراض، وإن كان معظم أمراء الإمارات الصليبية معترضين، لكن لم يكن لكلامهم أي نوع من القيمة.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
توجه التتار إلى دمشق وهروب الناصر وجيشه (66)
استقر الوضع لـ هولاكو في شمال سوريا وجنوب تركيا، وبدأ يفكر في التوجه جنوباً لاحتلال مدينة حماة أولاً، ثم المرور بعد ذلك على مدينة حمص وهي بلد الأمير الخائن الأشرف الأيوبي والموالي له، حتى يصل بعد ذلك إلى الناصر يوسف الأيوبي وجيشه الرابض في شمال دمشق.
بدأ الجيش التتري بالتحرك إلى الجنوب، فجاء إليه وفد من أعيان حماة وكبرائها يسلمون له مفاتيح المدينة دون قتال، فقبل منهم هولاكو المفاتيح، وأعطاهم في هذه المرة أماناً حقيقياً؛ وذلك ليشجع الناس في الشام لأن يفتحوا أبواب بلادهم كما فتحت حماة.
ترك هولاكو حماة وانتقل إلى حمص بلد صديقه الأشرف الأيوبي ولم يدخلها كذلك، واتجه مباشرة إلى دمشق، وكانت المسافة بين حمص ودمشق (120) كيلومترًا فقط.
سمع الناصر يوسف بالأخبار السيئة من سقوط حصون ميافارقين، وقتل الكامل محمد الأيوبي، وسقوط مدينة حلب وحارم، وتسليم حماة وحمص، وأن الخطوة القادمة دمشق، فلم يدر الناصر يوسف الملك الجبان ماذا يفعل،
وقد أعلن حرباً لا طاقة له بها، ليس لقوة التتار فقط، بل لضعفه هو في الأساس، فعقد مجلساً استشارياً أعلى ضم معظم قادة جنده، فأخذوا في التباحث والتشاور، وطال النقاش والحوار، ووصلوا في النهاية إلى أن قرروا الفرار، فليس عندهم قدرة على الدفاع عن المدينة، ولم يفكروا أصلاً في الدفاع عنها.
قرر الأمير الناصر يوسف والأمراء والجيش الفرار وترك مدينة دمشق وشعبها الكبير دون حماية ولا دفاع، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
خلت دمشق من الأمراء والحراس، وكانت مدينة كبيرة وحصينة، وكان يتوقع لها الثبات فترة طويلة قبل أن تسقط.
والأمراء من أمثال الناصر يوسف يأمرون بالمقاومة ويحضون عليها ما دامت بعيدة عن أرضهم، فإذا اقتربت جيوش العدو من مدينتهم كانت الخطة البديلة دائماً هي خطة الفرار، حدث ذلك في دمشق، ويحدث كثيراً إذا وجد أمثال هؤلاء الأمراء الأقزام.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
تسلط النصارى في دمشق عند دخول التتار (67)
بدأ التتار في إدارة مدينة دمشق بواسطة النصارى، فوضعوا على إدارة المدينة رجلاً تترياً اسمه إبل سيان، وقد كان معظماً ومحابياً جداً للنصارى، وبدأت المدينة تعيش فترة عجيبة جداً في تاريخها.
واسمعوا إلى هذا الكلام الذي يقوله ابن كثير رحمه الله في كتابه (البداية والنهاية) تفصيلاً لهذا الأمر، يقول:
اجتمع إبل سيان لعنه الله بأساقفة النصارى وقساوستهم فعظمهم جداً، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهبت طائفة من النصارى إلى هولاكو في تبريز وأخذوا معهم هدايا، فاستقبلهم وأحسن استقبالهم، ثم قدموا بعد ذلك من عنده ومعهم أمان من جهته،
ودخلوا من باب توما -هو أحد أبواب دمشق، مسمى على اسم قديس نصراني توما - ومعهم صليب منصوب، يحملونه على رءوس الناس، وهم ينادون بشعارهم ويقولون: ظهر الدين الصحيح دين المسيح، ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أوان فيها خمر، لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عليه خمراً، وقماقم ملآنة خمراً يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق من المسلمين أن يقوم لصليبهم،
ووقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفة السوق فمدح دين النصارى، وذم دين الإسلام وأهله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم يقول ابن كثير: ثم إنهم دخلوا الجامع بخمر، -قبل ذلك كان يرشونه على الباب- فلما وقع ذلك اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء،
فدخلوا القلعة يشكون هذه الحال إلى إبل سيان زعيم التتار، فأهينوا وطردوا، وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هكذا كان الوضع في دمشق.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
دخول التتار دمشق (68)
وقع أهل دمشق في حيرة كبيرة، فجيوش التتار ستأتي إليهم في غضون أيام قليلة، والتتار لا يبقون على أخضر ولا يابس، وشعب دمشق لم يتدرب قبل ذلك على الجهاد، وليست له دراية بفنون القتال، والجند المحترفون والأمراء القواد هربوا وتركوا مواقعهم، فماذا يفعلون وهم في غاية التردي؟
هنا اجتمع أعيان دمشق وكبراؤها، واتفقوا على أن يأخذوا مفاتيح المدينة ويسلموها إلى هولاكو ثم يطلبون الأمان منه كما فعل أهل حماة، ولم يخالف هذا الرأي إلا قلة من المجاهدين، فقد تحصنوا في قلعة دمشق ودافعوا عنها حتى النهاية، فقد أتى فعل هولاكو في ترك حماة ثماره، فهذا الفعل أثر في دمشق وبدأت تسلم دون قتال، فخرج وفد من أعيان دمشق يستقبل جيش هولاكو وسلمه المفاتيح، وفتحت دمشق أبوابها.
حمل أعيان دمشق مفاتيح المدينة إلى جيش التتار، فاستقبلهم كتبغانوين القائد الجديد الذي ولاه هولاكو قبل أن يغادر الجيش، فأعطى أهلها الأمان فعلاً، وتقدم بجيشه لدخول المدينة العظيمة الكبيرة دمشق.
وها هي دمشق عاصمة الخلافة الأموية تسقط كما سقطت من قبل بغداد عاصمة الخلافة العباسية.
وكانت دمشق واحدة من أعظم مدن الإسلام قاطبة، ومن أهم ثغور الجهاد، ومن أرقى دور العلم.
زحفت الجيوش التترية على دمشق، وانسابت من أبوابها إلى داخلها دون أدنى مقاومة.
أواه يا درّة الشام، ويا قلب العالم الإسلامي! أين أبو عبيدة بن الجراح؟ وأين خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم أجمعين؟
أين الذين فتحوا هذه المدينة الحصينة منذ أكثر من ستة قرون؟ أين معاوية رضي الله عنه وأرضاه الذي حكم الدنيا بكاملها من هذا المكان؟ أين خلفاء بني أمية رحمهم الله الذين فتحوا البلاد الواسعة التي أسقطها التتار الآن؟ أين عماد الدين زنكي ونور الدين محمود رحمهما الله اللذان سطّرا بجهادهما آيات من المجد والعزة والفخار؟ أين صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي يرقد الآن في مدينة دمشق؟
مرت الأيام وشاهد المسلمون في دمشق ما لم يخطر على أذهانهم مطلقاً، شاهدوا ثلاثة أمراء من النصارى يتبخترون بخيولهم في مقدمة جيوشهم، وهم يخترقون أبواب دمشق، ويسيحون في شوارع المدينة الإسلامية العظيمة، لقد كان يتقدم جيوش التتار كتبغانوين النصراني قائد الجيش التتري، وبصحبته الملك هيثوم النصراني ملك أرمينيا، والأمير بوهمند النصراني أمير أنطاكية.
وهذه أول مرة يدخل أمراء النصارى مدينة دمشق منذ أن تركها أمراء الجيوش الرومانية أيام هرقل قيصر الروم، عند الفتح الإسلامي لها في سنة (14) هجرية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أعطى التتار الأمان فعلاً لأهل دمشق ولم يقتلوا منهم أحداً، إلا أولئك الذين تحصنوا في قلعة دمشق، وكانت سقوط دمشق في أواخر صفر سنة (658هـ)، يعني: بعد سنتين من سقوط بغداد، وهو زمن قياسي جداً، فقد اجتاح التتار في هاتين السنتين مساحات هائلة من الأراضي، وأسقطوا مدناً كثيرة في العراق وتركيا وسوريا، مع الكثافة السكانية الهائلة في هذه المناطق.
-
رد: إلى التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
موت منكوخان زعيم التتار احتلال التتار لفلسطين(69)
موت منكوخان زعيم التتار وتولي قوبيلاي الحكم بعده قبل دخول التتار دمشق
قبل أن يدخل هولاكو إلى دمشق حدث ما لم يكن في حسبانهم، فقد مات منكوخان زعيم دولة التتار، وجاءت الأخبار إلى هولاكو قبل أن يصل إلى دمشق بقليل، وكانت هذه أزمة خطيرة جداً، فـ منكوخان يحكم دولة مهولة كبيرة جداً،
اتسعت في وقت قياسي، وحدوث أي اضطراب في الحكم قد يؤدي إلى كارثة، وهولاكو هو أحد المرشحين للحكم في هذه الدولة الضخمة، فهو أخو منكوخان، وهو صاحب الانتصارات العظيمة الكثيرة، فهو الذي أسقط الخلافة العباسية لأول مرة في تاريخ المسلمين.
فكر هولاكو في قيادة دولة التتار بدلاً من قيادة الشام وما حولها، فترك الجيش التتري وسارع بالعودة إلى قراقورم، وعندما وصل إلى تبريز في إيران علم أن التتار قد عينوا قوبيلاي ملكاً على دولة التتار بكاملها، فكان هذا صدمة لـ هولاكو، فلم يكمل الطريق إلى قراقورم وآثر أن يمكث في تبريز، ولم يعد بعد ذلك إلى الشام، وظل يراقب الموقف من تبريز، ومنها كان يدير كل هذه الأملاك الواسعة التي فتحها.
وفي صعيد أخر
أرسل كتبغانوين الزعيم الجديد في دمشق، فرقة من جيشه لاحتلال فلسطين، فاحتلت، ثم نابلس، ثم اخترقت كل فلسطين واحتلت غزة، ولم تقترب الجيوش التترية من الإمارات الصليبية الأوروبية المنتشرة في فلسطين، كما لم يقتربوا من إمارات الصليبيين في سوريا ولبنان، وبذلك قسمت فلسطين بين التتار والصليبيين.
وبهذا الاحتلال الأخير لفلسطين يكون التتار قد أسقطوا العراق بكاملها، وأجزاء كبيرة من تركيا، وأسقطوا أيضاً سوريا بكاملها، وكذلك أسقطوا لبنان، ثم فلسطين، وكل هذا في سنتين فقط من (656هـ) إلى (658هـ)، واقترب التتار من سينا على بعد (35) كيلو متر فقط.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
أسباب جهل المسلمين بفترة حكم المماليك (70)
في المحاضرتين السابقتين رأينا سقوط الدولة العباسية في العراق، وسقوط بغداد، ثم اجتياح الشام بكامله، وسقوط حلب وحمص وحماه ودمشق، وكل لبنان، ثم احتلال فلسطين، ولم يبق غير خمسة وثلاثين كيلو متر فقط أمام التتار، ليدخلوا الحدود المصرية ويضموا بذلك مصر إلى أملاك الدولة التترية الرهيبة.
وذكرنا أن مصر في ذلك الوقت كانت تحت حكم المماليك.
لقد فضلت أن أجعل هذه المحاضرة محاضرة مختصرة لشرح تاريخ المماليك، والموضوع يحتاج إلى تفصيل في مجموعات أخرى، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا فيها.
كان للمماليك دور بارز في الدفاع عن مقدسات الأمة وأراضيها، ودحر الصليبيين من أجزاء من مصر وكثير من بلاد الشام، قبل أن تكون لهم دولة، ثم دحر التتار عن بلاد الشام وغيرها بعد قيام دولتهم إبان اجتياح التتار لبغداد ولبلاد الشام، الأمر الذي يؤكد أن الله تعالى ناصر دينه ومعز أوليائه من حيث لا يحتسبون.
تعتبر فترة حكم المماليك من الفترات التاريخية المجهولة عند كثير من المسلمين، بل عند كثير من مثقفي المسلمين، وهذا له أسباب كثيرة منها:
أن الأمة الإسلامية في وقت ظهور دولة المماليك وما بعدها كانت قد تفرقت تفرقاً كبيراً، وكثرت فيها جداً الإمارات والدويلات، وبالتالي فدراسة هذه الفترة تحتاج إلى مجهود ضخم جداً، لمتابعة الأحوال في العديد من الأقطار الإسلامية، فالمماليك في أعظم حكمهم لم يسيطروا إلا على خمسة أو ستة أقطار من الأقطار المعروفة في ذلك الوقت، وتزامن ظهورهم مع ظهور أكثر من دويلة وإمارة في أكثر من مكان في العالم الإسلامي، فلدراسة تاريخ المماليك لا بد أن يدرس تاريخ كل هذه المناطق في تلك الحقبة من التاريخ سوياً، وهذا شيء صعب.
أيضاً من العوامل والأسباب التي أدت إلى جهل المسلمين بفترة المماليك:
كثرة الولاة والسلاطين في دولة المماليك، فكلما ظهر وال أو سلطان في فترة، وبدأت هذه الفترة تفهم، تغير السلطان وأتى آخر ثم ثالث وهكذا.
هذه هي حال دولة المماليك الأولى؛ فدولة المماليك مرت بأكثر من مرحلة، ففي المرحلة الأولى كان اسمها دولة المماليك البحرية، وقد ظلت هذه المرحلة (144) سنة، تعاقب على الحكم فيها (29) سلطاناً، يعني: أن متوسط حكم السلطان لم يكن يتعدى الخمس السنوات فقط، وليس كل السلاطين كانت مدة حكمهم خمس سنوات، فهناك سلاطين حكموا سنين طويلة، ولكن هناك سلاطين آخرين حكموا سنة أو سنتين أو أقل من السنة، فكثرة السلاطين والولاة أدت إلى عدم دراية ومعرفة كبيرة بتاريخ المماليك، فكان من الصعب دراسة تاريخ المماليك.
وأهم الأسباب التي جعلت الكثير من المسلمين لا يدركون أو لا يفقهون تاريخ المماليك، هو: تزوير التاريخ الإسلامي، وهذا تولى كبره المستشرقون وأتباعهم من المسلمين المفتونين بهم، فقد شوهوا تاريخ المماليك تشويهاً كبيراً؛ مع ما كان للماليك من الإنجازات المشرقة والهامة جداً في تاريخ الأرض، والتي أضافت الكثير إلى أمة الإسلام، فمن أهم هذه الإنجازات:
أن دولة المماليك وقفت سداً منيعاً لصد قوتين عاتيتين من قوى الشر، حاولتا هدم صرح الإسلام، وهما: التتار، والصليبيون، فقد كان للمماليك جهاد مستمر طويل ضد هاتين القوتين، وعلى مراحل مختلفة، وقد ظلت دولة المماليك تحمل راية الإسلام في الأرض (270) سنة تماماً، إلى أن تسلمت الخلافة العثمانية القوية راية المسلمين.
ونحن لن ندخل في تفصيلات دولة المماليك في هذه المحاضرة، وسنفرد لها بإذن الله مجموعتين كاملتين من المحاضرات، سنتكلم في المجموعة الأولى: على الحروب الصليبية، وفي المجموعة الثانية على دولة المماليك من البداية إلى النهاية.
ومن أجل أن نفهم قصة المماليك سنرجع إلى الوراء قليلاً إلى ما قبل قيام دولة المماليك، وإلى الدولة التي سبقت دولة المماليك، وهي دولة الأيوبيين.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
لمحة سريعة عن الدولة الأيوبية (71)
أسس الدولة الأيوبية البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله في سنة (569) من الهجرة، وهذه الأرقام في غاية الأهمية، فهي أرقام محورية في تاريخ المسلمين وأتمنى أن نحفظها، وظل صلاح الدين الأيوبي يحكم هذه الدولة (20) سنة، حتى مات سنة (589هـ)، ووحد في هذه الفترة مصر والشام، وتزعم الجهاد ضد الممالك الصليبية باقتدار كبير جداً، وحقق انتصارات هائلة، ومن أشهر انتصاراته حطين، وكانت في ربيع الثاني سنة (583) هجرية، وهذا التاريخ من المفروض ألا ينساه أحد من المسلمين أبداً، ثم فتح بيت المقدس بعد حطين بثلاثة أشهر فقط، في رجب من نفس السنة.
ترك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله دولة قوية عظيمة، تبسط سيطرتها على مصر والشام والحجاز واليمن وأعالي العراق، وأجزاء من تركيا، وأجزاء من ليبيا والنوبة، وكون دولة في منتهى القوة, وحاصر الصليبيين في ساحل ضيق جداً على البحر الأبيض المتوسط في الشام، فـ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لم يستطع فتح كل الإمارات الصليبية الموجودة في الشام، ولكنه حرر جزءاً كبيراً جداً من الشام ومن فلسطين بقدر ما يستطيع.
ثم بوفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تقلص دور الجهاد جداً ضد الصليبيين، فقد فتن أبناء صلاح الدين الأيوبي بالدولة الكبيرة، فقد كثرت الأموال، وانفتحت الدنيا، واتسعت البلاد، وكان من جراء هذه العوامل وغيرها أن حدثت انقسامات شديدة في الدولة الأيوبية، حتى إنها تفككت تماماً بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
وليس لدينا الوقت الكافي، كي نتكلم عن هذه الصراعات والخلافات التي نشأت بعد صلاح الدين الأيوبي، وإن شاء الله سنتكلم عنها بالتفصيل في مجموعة الحروب الصليبية.
وهذا الصراع ظل (59) سنة متصلة، منذ وفاة صلاح الدين الأيوبي في سنة (589) من الهجرة إلى سنة (648) من الهجرة، ولم يكن هذا الصراع صراع كلام وسباب وشقاق فقط، بل كان يصل إلى حد التقاتل بالسيوف وإراقة الدماء المسلمة، وهذا أدى إلى فرقة شديدة في العالم الإسلامي،
وكل هذا كان أمراً متوقعاً وليس غريباً، فليس غريب أن يترك صلاح الدين الأيوبي دولة قوية، ثم تتفكك بسبب الدنيا، فالدنيا مرض قاتل، أدى إلى انهيار الكثير والكثير من الدول الإسلامية في كل مراحل التاريخ، واسمع إلى هذا الحديث، روى ابن ماجه والطبراني وابن حبان بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة».
فلما جعل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الجهاد نصب عينيه، وجعل له هدفاً واحداً، وهو قتال الصليبيين، وإعلاء كلمة الدين، جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا فعلاً وهي راغمة، وأما معظم السلاطين الذين جاءوا من بعده فقد جعلوا الدنيا أكبر همهم، ومبلغ علمهم، فتفرق عليهم الأمر تماماً، حتى أصبحوا لا يدركون الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، فهم تارة مع المسلمين، وتارة مع الصليبيين، وتارة مع التتار، فجعل الله عز وجل فقرهم بين أعينهم، فمنهم من مات ذليلاً، ومنهم من مات فقيراً، ومنهم من مات طريداً، ومنهم من مات حبيساً، وكان هذا هو واقع المسلمين في تلك الفترة التي تلت حكم البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
حروب الأيوبيين في الشام مع الملك نجم الدين أيوب (72)
استعد الأمراء الأيوبيون في الشام للتقاتل مع الملك الصالح أيوب على مصر، وحدثت بينهم مناوشات وحروب، ووصل الأمر إلى مداه في سنة (641) من الهجرة، يعني: بعد أربع سنوات من تولي الملك الصالح حكم مصر توحدت قوى الأيوبيين المتناثرة في الشام، وتحالفت مع الصليبيين من أجل حرب الملك الصالح أيوب في مصر.
فلما علم الملك الصالح بإعداد هذا الجيش الكبير من النصارى ومن الأيوبيين، بدأ يعد جيشاً لملاقاة هذه القوى المتحدة، ووضع على رأس جيشه ركن الدين بيبرس رحمه الله أكفأ قادته، واستعد للمواجهة، ولكن الجيش المصري كان قليلاً وضعيفاً جداً مقارنة بالأعداد الكبيرة لجيوش الشام والصليبيين، فاضطر الملك الصالح للاستعانة بالجنود الخوارزمية، وهم جنود محمد بن خوارزم شاه وجلال الدين بن محمد بن خوارزم وغيرهما من الملوك الخوارزمية، الذين تحدثنا عنهم في بداية هذه السلسلة،
وهم كانوا قد فروا من منطقة خوارزم بعد الاجتياح التتري لها، وكانوا جنوداً مرتزقة يتعاونون مع من يدفع أكثر، فكانوا يعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال، فاستعان بهم الملك الصالح مقابل أجرة، ودارت موقعة كبيرة في غزة في فلسطين بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وكانت هذه الموقعة في سنة (642) من الهجرة، وانتصر فيها الملك الصالح انتصاراً باهراً، وقتل من الصليبيين أعداداً كبيرة، وصلت إلى ثلاثين ألف مقاتل، وأسر مجموعة كبيرة جداً من أمراء وملوك الصليبيين والأيوبيين، واستغل الصالح أيوب الفرصة واتجه إلى بيت المقدس، بعد أن كان الأيوبيون قد تنازلوا عنه للصليبيين، وأعطوهم إياه هدية، فاقتحم الملك الصالح بيت المقدس وحصون الصليبيين، وحرر مدينة القدس المباركة نهائياً بجيشه المدعم بالخوارزمية سنة (643) من الهجرة، بعد سنة من موقعة غزة، ولم يستطع الجيش النصراني أن يدخله أبداً لمدة سبعة قرون كاملة، إلى أن دخلته الجيوش البريطانية في الحرب العالمية الأولى في يوم (16) نوفمبر سنة (1917) من الميلاد، بعد الخيانة المعروفة من مصطفى كمال أتاتورك.
ونسأل الله عز وجل أن يعيد بيت المقدس إلى المسلمين.
ثم أكمل الملك الصالح أيوب الطريق بعد ذلك إلى الشمال، ودخل دمشق ووحد من جديد مصر والشام، ثم اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحرر طبرية وعسقلان وغيرهما.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
انشقاق الجنود الخوارزمية عن جيش الملك نجم الدين أيوب (73)
حدث تطور خطير جداً في جيش الملك الصالح أيوب رحمه الله، فقد انشق عن جيشه فرقة الخوارزمية المأجورة،
فبعد أن حرر بيت المقدس وضم الشام إلى مصر، حدث هذا الانشقاق، بعد أن استمال أحد الأمراء الأيوبيين بالشام هذه الفرقة الخوارزمية، مقابل دفع أكثر للمال،
ونحن نعرف أن هذه الفرقة تعمل بالمال فقط، ولم تكتف بالخروج عن الملك الصالح، بل إنها حاربت الملك الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذا اللقاء إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه القائد المحنك ركن الدين بيبرس رحمه الله.
وبسبب هذا الحدث ضاعت مكاسب كثيرة جداً كان قد حققها الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله،
فخرج من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لا بد أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله، ويقاتل معه من أجل قضية لا من أجل أموال، فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلاً من الخوارزمية، وهذه الطائفة هي المماليك.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
قصة المماليك (74)
المماليك في اللغة العربية: هم العبيد أو الرقيق، ولفظ المماليك بهذا التعريف يعتبر عاماً على معظم الرقيق، ولكن لفظ المماليك اتخذ مفهوماً اصطلاحياً في التاريخ الإسلامي، فعندما نقول: المماليك فلا نقصد بها كل الرقيق، لا، وإنما نقصد بها طائفة معينة من الرقيق.
وإذا أردنا أن نعرف قصة المماليك فلنعد إلى الوراء قليلاً، إلى أيام الخليفة العباسي المشهور المأمون الذي حكم من سنة (198) من الهجرة إلى سنة (218) من الهجرة، يعني: (20) سنة، وإلى أيام أخيه المعتصم الذي جاء بعده، وحكم من سنة (218هـ) إلى سنة (227هـ)، يعني: تسع سنوات، ففي فترة حكم هذين الخليفتين اجتلبا أعداداً ضخمة من الرقيق، عن طريق الشراء من أسواق النخاسة، واستخدموا هؤلاء المماليك كفرق عسكرية؛ بهدف الاعتماد عليهم في تدعيهم النفوذ، ومع مرور الوقت أصبح المماليك هم الأداة العسكرية الرئيسية، وأحياناً الوحيدة في كثير من البلاد الإسلامية، وأمراء الدولة الأيوبية بالذات كانوا يعتمدون على المماليك في ترسيخ الحكم وتدعيمه في البلاد التي يحكمونها، وكانت أعداد المماليك محدودة إلى حد ما في كل فترات الدولة الأيوبية،
إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله وحدثت فتنة خروج الخوارزمية من جيشه، فاضطر رحمه الله إلى الإكثار من المماليك؛ حتى يقوي جيشه ويعتمد عليهم، وبذلك تزايدت أعداد المماليك جداً، وبالذات في مصر التي هي مقر حكم الملك الصالح أيوب رحمه الله.
وكان المصدر الرئيسي للمماليك هو إما بالأسر في الحروب، أو الشراء من أسواق النخاسة، وكان المسلمون يشترون المماليك من أسواق النخاسة المنتشرة في بلاد ما وراء النهر -نهر جيحون-، وهو نهر يجري شمال تركمانستان وأفغانستان، ويفصل بينهما وبين أوزباكستان وطاجاكستان، والأعراق التي تعيش خلف هذا النهر في الغالب أعراق تركية، وكانت هذه المنطقة مسرحاً دائماً للقتال وعدم الاستقرار، ولذلك كثر الأسرى القادمون من هذه المناطق، وكثرت أسواق الرقيق هناك، وكان من أشهر مدن الرقيق في ذلك الوقت مدينة سمرقند، وفرغانة، وخوارزم وغيرها من المدن الإسلامية، وهناك مماليك من أصول أرمينية ومغولية وأوروبية، فكان على مدار عشرات ومئات السنين يؤتى بالمماليك من هذه البلاد.
-
رد: التتار من البداية إلى عين جالوت
- التتار من البداية إلى عين جالوت
انتساب المماليك إلى سيدهم (75)
ترقية المملوك على قدر نبوغه
كان المملوك إذا أظهر نبوغاً عسكرياً ودينياً يترقى في المناصب من رتبة إلى رتبة، وبدلاً من أن يكون مملوكاً عادياً يصبح قائداً لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أعطي أكثر وأكثر، حتى يعطى ويملك بعض الإقطاعات في الدولة التي تدر عليه أرباحاً وفيرة، وقد يعطى إقطاعات كبيرة، بل قد يصل إلى درجة أمير، يعني: مثل: محافظ في هذا الزمان، أو أمير فرقة في الجيش، مثل: لواء أو عميد أو عقيد وهكذا، وكان هذا يعطي للمماليك رغبة كبيرة جداً في العمل والإنتاج.
كان المماليك في العادة ينتسبون إلى اسم السيد الذي اشتراهم، فالمماليك الذين اشتراهم الملك الصالح يعرفون بالمماليك الصالحية، والذين اشتراهم الملك الكامل يعرفون بالمماليك الكاملية وهكذا.
وقد زاد عدد المماليك الصالحية جداً الذين اشتراهم الملك الصالح أيوب، حتى بنى لنفسه قصراً على النيل، وبنى للمماليك قلعة إلى جواره تماماً، فكان يعيش معهم باستمرار، وكان القصر والقلعة في منطقة الروضة الموجودة الآن في القاهرة، وكان النيل في الماضي يعرف باسم البحر، ولذلك اشتهرت تسمية المماليك الصالحية بالمماليك البحرية؛ لأنهم كانوا يسكنون بجوار البحر.
وهكذا وطد الملك الصالح أيوب ملكه بالاستعانة بالمماليك، ووصل المماليك إلى أرقى المناصب في دولته، فقد كان معظم المحافظين وقادة الجيش من المماليك، وقد تولى قيادة الجيش في عهد الملك الصالح فارس الدين أقطاي أحد المماليك البارزين، وكان الذي وراءه مباشرة ركن الدين بيبرس.