-
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (1)
المقدمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله وكرمه ورحمته يقبل اليسير من العمل ويغفر الكثير من الزلات، والصلاة والسلام على من اكتملت برسالته الرسالات، وختمت بنبوته النبوات سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد...
فإنه مما لا شك فيه أن تاريخ العلوم يشابه إلى حد كبير تاريخ الإنسان، فكما أن لكل إنسان تاريخه الذي يبدأ من لحظة ميلاده ثم يمر بأطوار مختلفة من طفولة وغلامية وشباب ورجولة وهكذا.
كذلك العلوم، فإن لكل علم مراحله التي يمر بها: ميلادًا ونشأةً ونموًا وكمالاً.
والسنة النبوية وعلومها، ومنزلتها، وأهميتها، وشرفها، ومكانتها، تلي منزلة القرآن الكريم، وقد امتحن الله خلقه بالانقياد لها، والتسليم لأحكامها، حيث فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء لحكمه، فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبفرض الله قبل.
كما جعل طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعته تعالى، وحكمه حكمه، ومبايعته مبايعته، فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قبل، لما افترض الله من طاعته، كما أنّ من قبل عن الله فرائضه في كتابه قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سننه، بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه.
لأنه تعالى وضعه من دينه وفرضه وكتابه، الموضع الذي أبان جل شأنه أنه جعله علمًا لدينه، بما افترض من طاعته، وحرم من معصيته، وأبان من فضيلته.
قال تعالى: ((مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء:80].
وقال تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر:7].
وقال تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [النساء:65].
وقال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا)) [الأحزاب:36].
لهذه الآيات وغيرها أدركت الأمة المسلمة- سلفًا وخلفًا- قيمة السنة النبوية، وضرورتها في معرفة أحكام دينها، لذلك أولوها جلّ اهتمامهم، حفظًا لها، وتطبيقًا لأحكامها، ووضع القواعد والضوابط التي تضمن سلامتها من الدس والتغيير، وصيانتها من التحريف والتبديل، وقد تنوعت هذه الجهود المباركة حتى أثمرت علومًا شتى، وقواعد متعددةً، منها ما يتعلق بالمتون، ومنها ما يتعلق بالأسانيد، ومنها ما يتعلق بهما معًا، حتى قال بعض المستشرقين: " ليهنأ المسلمون بعلم حديثهم".
وفي هذه الزاوية سنقف على الجهود الخلاقة المبدعة التي قدّمها علماؤنا – عبر القرون المتتابعة – من أجل أن تكون السنة نقيةً للمسلمين، كي ينهلوا من وردها العذب، ومعينها الصافي، وأن أبرز أن المسلمين لا يمكن أن يكون لهم غناء عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فهي جزء من دينهم الذي أرسل الله سبحانه وتعالى به محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم، وهو صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله وسلوكه وأخلاقه، وكل ما صدر عنه أساس متين من أسس هذا الدين، وباب من أبواب الرحمة المتمثلة في شرع الله ودينه، وصدق الله عز وجل، إذ يقول: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107].
نسأل الله أن يوفقنا لصدق القول وحسن العمل، وأن نكون من المتبعين غير المبتدعين، لنكون ممن قال الله فيهم: ((وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [الزمر:61].
المبحث الأول
تعريف السنة
جرت سنة العلماء والباحثين أن يصدروا مؤلفاتهم وبحوثهم بالتعريفات اللغوية والاصطلاحية لعلومهم، فإن التعريف يضع شمعةً أمام القارئ تظهر له ملامح هذا العلم، ويفتح نافذةً تطل على خصائصه ومضمونه وأهميته، وعلى هذا السنن أسير، فأقول وبالله تعالى التوفيق.
السنة لغةً:
السنة في اللغة مشتقة من الفعل " سنّ " بفتح السين المهملة وتشديد النون، ولهذا الفعل عدة معانٍ لغوية(1)، منها:
الصقل: يقال: سنّ فلان السكين إذا حدّها وصقلها.
الابتداء: يقال: سنّ فلان العمل بكذا، أي: ابتدأ به، وبهذا الإطلاق اللغوي جاءت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم كفل من دمها؛ ذلك أنه أول من سنّ القتل"(2).
وهكذا فإن العرب تطلق على كل من ابتدأ أمرًا عمل به قوم من بعده، بأنه هو الذي سنّه، ومن هذا المعنى قول نصيب:
كأني سننت الحب أول عاشق من الناس إذ أحببت من بينهم وحدي
العناية بالشيء ورعايته: يقال: سنّ الإبل إذا أحسن رعايتها والعناية بها، والفعل الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم سمي سنة بمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم أحسن رعايته وإدامته(3).
السيرة المستمرة والطريقة المتبعة سواء كانت حسنةً أو سيئةً: وأصلها اللغوي مأخوذ من قولك: سننت الماء إذا واليت صبه، فشبهت العرب الطريقة المتبعة والسيرة المستمرة بالشيء المصبوب لتوالي أجزائه على نهج واحد، ومن هذا المعنى قول خالد بن عتبة الهذلي:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها
وبهذا الإطلاق اللغوي جاءت كلمة السنة في القرآن الكريم، قال تعالى: ((وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)) [فاطر:43].
وقال تعالى: ((وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُو ا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ)) [الكهف:55].
كما جاءت في السنة النبوية بهذا المعنى، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"(4).
وقوله صلى الله عليه وسلم: " لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ..."(5)
وخصها بعض أهل اللغة بالطريقة المستقيمة الحسنة دون غيرها، ولذلك قيل: فلان من أهل السنة(6).
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تحمل هذه المعاني اللغوية لما فيها من جريان الأحكام واطرادها، وصقل الحياة الإنسانية بها، فيكون وجه المجتمع السائر على هديها ناضرًا بخيرها وبركتها، ويستفاد من المعاني اللغوية أن السنة فيها معنى التكرار والاعتياد، وفيها معنى التقويم، وإمرار الشيء على الشيء من أجل إحداده وصقله(7).
يقول الدكتور طه الدسوقي: (وجماع القول في معنى هذه الكلمة اللغوية: أنها تدل على الطريقة المسلوكة راجعة إلى أصلها، إذ هي من قولهم: سننت الشيء بالمسن، إذا واليت تكراره عليه، وإمراره به حتى صنع له سنًا أي طريقًا.
وقريب منه أن نقول: إن هذا اللفظ إنما يفيد الاستمرار والدوام والأمر بهما، وهو ظاهر في قولك: سننت الماء، أي واليت صبه بأسلوب منتظم ودائم.
وإذا ما جمعنا المعنيين معًا يتضح لنا: أن السنة إنما تفيد الأمر باتباع طريقة معينة والتزامها، والسير عليها حتى تكون هي الطريق والمسار الذي لا يجوز خلافه في مراد من أمر بالتزامه(8).
الهوامش:
(1) ينظر: تاج العروس (9:243، 244)، لسان العرب (3:2121)، المعجم الوسيط (1:455، 456)، كلها مادة: سنن.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، رقم: (3335)، ومسلم، كتاب القسامة، باب بيان إثم من سنّ القتل، رقم: (1677).
(3) تفسير الرازي (3:54).
(4) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، رقم: (1017).
(5) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم" ، رقم: (7320)، ومسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، رقم: (2669).
(6) إرشاد الفحول (1:155)، ولسان العرب (13/225)، والمعجم الوسيط (1:455).
(7) الفكر المنهجي عند المحدثين، ص: 27.
(8) السنة في مواجهة أعدائها، ص: 38.
يتبع
-
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (2)
تعريف السنة اصطلاحاً 1-4
السنة اصطلاحًا
يختلف تعريف السنة في الاصطلاح تبعًا لاختلاف أغراض العلماء من بحوثهم حسب تخصصاتهم المختلفة، وفيما يلي تعريفها عند المحدثين، والأصوليين، والفقهاء.
السنة في اصطلاح المحدثين:
للمحدثين تعريفات متعددة للسنة، من هذه التعريفات:
هي أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخَلقية والخُلقية، وسائر أخباره سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها.
هذا هو المشهور عند جمهور المحدثين، وكأن السنة عندهم خاصة بالحديث المرفوع فقط، أما الموقوف والمقطوع فلا.
ولعل سند هؤلاء فيما ذهبوا إليه هو: تسمية النبي صلى الله عليه وسلم لكل ما جاء به في مقابلة القرآن بالسنة مثل قوله في خطبته في حجة الوداع: " يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا: كتاب الله وسنتي"(1).
وعلى هذا القول يحمل تسمية كثير من المحدثين لكتبهم في الحديث باسم السنن مثل: سنن أبي عيسى الترمذي المتوفى سنة 279هـ، وسنن الإمام أبي داود السجستاني المتوفى سنة 275هـ، وسنن النسائي المتوفى سنة 303هـ، وسنن ابن ماجه القزويني المتوفى سنة 373هـ، أو سنة 275هـ.
وقيل: هي - أي السنة- أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخَلقية والخُلقية، وسائر أخباره سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها، وكذلك أقوال الصحابة وأفعالهم.
وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه المتوفى سنة 150هـ، فقد ورد عنه أنه قال: " ما جاءنا عن الصحابة اتبعناهم وما جاءنا عن التابعين زاحمناهم".
وقال: " إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم"(2).
وكأن السنة عند أبي حنيفة مخصوصة بالمرفوع والموقوف فقط، أما ما عداهما من المقطوع فلا، ولعل سنده فيما ذهب إليه قوله صلى الله عليه وسلم: " فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ"(3).
وقيل: هي - أي السنة- أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته الخَلقية والخُلقية وسائر أخباره سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها، وكذلك أقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم.
وممن ذهب إلى هذا القول الحافظ أبوبكر أحمد بن الحسين المعروف بالبيهقي المتوفى سنة 458هـ، حيث أسمى كتابه - الذي جمع فيه ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وفتاوى الصحابة والتابعين وأفعالهم - بالسنن الكبرى، وكأن السنة عنده تشمل: المرفوع، والموقوف، والمقطوع.
ولعله استند فيما ذهب إليه إلى: أن الصحابة خالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا الوحي والتنزيل، وكذلك خالط التابعون الصحابة وجالسوهم، وسمعوا منهم، فكان قولهم وفعلهم أولى بالقبول من غيرهم، وأصبح داخلاً في مفهوم السنة.
السنة في اصطلاح الأصوليين:
عرف الأصوليون السنة بأنها: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن، وأفعاله وتقريراته التي يمكن أن تكون دليلاً لحكم شرعي(4).
كأن ما صدر عنه من الأقوال والأفعال والتقريرات التي تعد من خصائصه صلى الله عليه وسلم ليست داخلة في تعريف السنة عند الأصوليين، وكذلك صفاته صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لا تفيد حكمًا شرعيًا يتعبد الناس به.
لذلك ترى الأصوليين غالبًا ما يغفلون الكلام عن الأمور التي هي من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ومن تكلم منهم عنها فمن باب بيان أنها ليست ملزمة للناس.
السنة في اصطلاح الفقهاء:
هي كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن مفروضًا ولا واجبًا مثل تثليث الوضوء، ومثل المضمضة، والاستنشاق عند بعضهم، ومثل تقديم اليمنى على اليسرى، ومثل الركعتين قبل فرض الصبح ونحو ذلك.
وقد يطلقها الفقهاء ويعنون بها، ما يقابل البدعة كقولهم فيمن طلق زوجته في غير حيض وفي غير طهر التقيا فيه - هذا طلاق سني - في مقابلة الطلاق البدعي، وهو الذي يحدث في طهر التقيا فيه، أو يحدث في حيض، حيث يأبى الإسلام بنظامه العام أن يشق على المطلقات بإطالة العدة(5).
ومرد هذا الاختلاف في الاصطلاح إلى اختلاف الأغراض التي تعنى بها كل فئة من أهل العلم.
فعلماء الحديث: إنما بحثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام الهادي الذي أخبر الله عنه أنه أسوة لنا وقدوة، فنقلوا كل ما يتصل به من سيرة وخلق، وشمائل وأخبار، وأقوال وأفعال، سواء أثبت ذلك حكمًا شرعيًا أم لا.
وعلماء الأصول: إنما بحثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المشرع الذي يضع القواعد للمجتهدين من بعده، ويبين للناس دستور الحياة، فعنوا بأقواله وأفعاله وتقريراته التي تثبت الأحكام وتقررها.
وعلماء الفقه: إنما بحثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا تخرج أفعاله عن الدلالة على حكم شرعي، وهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوبًا أو حرمةً أو إباحةً، أو غير ذلك(6).
والذي نعنيه بالسنة هنا: هو اصطلاح المحدثين؛ لأننا سنعالج جهودهم في خدمتها، وعطاءهم في حفظها وصيانتها.
شرح التعريف:
انتهينا فيما سبق إلى أن السنة عند المحدثين: "هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخَلقية والخُلقية، وسائر أخباره، سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها". وإليك شرح هذا التعريف.
يقصد بأقواله صلى الله عليه وسلم: كل ما تلفظ به في مختلف الظروف والمناسبات، ويسميه العلماء أيضًا بالسنة القولية، ويجمع فيقال: سنن الأقوال، ومثاله:
قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"(7).
وقوله - صلى الله عليه وسلم-: "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه، قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلكِ وأقطع من قطعكِ؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لكِ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم"(8).
وقوله - صلى الله عليه وسلم-: " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده"(9)، وغير ذلك.
ويقصد بأفعاله صلى الله عليه وسلم: سلوكه وتطبيقه العملي لوحي الله تعالى المنزل عليه، ومثاله:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: " سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: " ربنا ولك الحمد" ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس"(10).
ما رواه أنس بن مالك قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وأنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه"(11).
ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما: "كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف، ويمشي أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة"(12) وغير ذلك.
الهوامش:
(1) الحديث أخرجه مالك في الموطأ بلاغًا، كتاب القدر، ص: 561، ط: الشعب، قال الزرقاني في شرحه للموطأ (4/246): " إن بلاغه صحيح كما قال ابن عيينة" وقد أسنده ابن عبد البر في التمهيد من حديث أبي هريرة وحديث عمرو بن عوف، وقال: " هذا حديث مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ينظر: (فتح المالك بترتيب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك (9/282-283) وأخرجه الحاكم في المستدرك ( رقم 931) وصححه، ووافقه الذهبي".
(2) أصول السرخسي (1/313).
(3) الحديث أخرجه الترمذي في السنن، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع( 5/44، 45) وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود في السنن، كتاب السنة، باب لزوم السنة، (2/506)، وابن ماجه في السنن، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين( 1/15-16)، والإمام أحمد في المسند(4/126، 127) كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
(4) ينظر: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت ( 2/96)، بهامش المستصفى للغزالي، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ( 1/127)، التحرير في أصول الفقه لابن الهمام ( 3/19- 20)، إرشاد الفحول للشوكاني، ص: 33.
(5) إرشاد الفحول للشوكاني، ص: 33.
(6) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص: 47-49.
(7) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، 1/1، ومسلم في الصحيح، كتاب الإمارة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية"، 2/157، 158، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(8) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأدب، باب من وصل وصله الله، رقم: (5987)، ومسلم في الصحيح، كتاب البر، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها, 2/421، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الوصايا، باب الوصايا, 2/124، ومسلم في الصحيح، كتاب الوصية، 2/11.
(10) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود 1/199، 200، ومسلم في الصحيح، كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، 1/166.
(11) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الاستسقاء، باب رفع الإمام يده في الاستسقاء 1/182، ومسلم في الصحيح، كتاب صلاة الاستسقاء، باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء 1/354.
(12) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته 1/280، ومسلم في الصحيح، كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة وفي الطواف الأول في الحج 1/529، ومعنى: خب: أي يرمل، والرمل: الهرولة ، يسعى: يسرع، بطن المسيل: أي الوادي الذي بين الصفا والمروة، وهو قبل الوصول إلى الميل الأخضر المعلق بركن المسجد إلى أن يحاذي الميلين الأخضرين المتقابلين اللذين أحدهما بفناء المسجد والآخر بدار العباس.
-
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (3)
تعريف السنة اصطلاحاً 1-4
ويقصد بتقريراته صلى الله عليه وسلم
كل ما صدر عن بعض أصحابه من قول أو فعل, وأقره صلى الله عليه وسلم إما بسكوت منه وعدم إنكار، وإما بموافقة وإظهار استحسان.
وقد يسأل سائل: كيف يكون الإقرار من السنة وهي واجبة الاتباع مع أنه ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا من فعله؟
والجواب: أن الإقرار صار من السنة الشريفة بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم, فهو عليه السلام لا يقر باطلاً ولا يسكت على منكر, فما أقره دلّ على أنه لا حرج فيه, - وذلك كما قال ابن حزم -: لأن الله – عز وجل – افترض عليه التبليغ وأخبره أنه يعصمه من الناس، وأوجب عليه أن يبين للناس ما نزّل إليهم؛ فمن ادعى أنه عليه السلام علم منكرًا فلم ينكره فقد كفر؛ لأنه جحد أن يكون عليه السلام بلّغ كما أمر، ووصفه بغير ما وصفه ربه تعالى، وكذّبه في قوله عليه السلام: " اللهم هل بلغت"؟ فقال الناس: نعم. فقال: " اللهم اشهد". قال ذلك في حجة الوداع(1)
ومن أمثلة الإقرار:
1. إقراره صلى الله عليه وسلم لأصحابه على اجتهادهم في شأن صلاة العصر في غزوة بني قريظة:
حين قال لهم: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"(2)
فقد فهم بعضهم من هذا النهي أنه على حقيقته وأنه تحرم صلاة العصر إلا في بني قريظة، فأخرها إلى هناك حتى خرج وقتها، وفهم البعض الآخر من هذا النهي: أنه ليس على حقيقته وأن المقصود منه الحث على الإسراع، فصلاها في وقتها، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بما صنع الفريقان لم يعنف واحدًا منهما ولم ينكره عليه، فكان ذلك منه صلى الله عليه وسلم إقرارًا بصواب صنيعهما، وصار ذلك سنة تقريرية عنه صلى الله عليه وسلم.
2. ما رواه عمرو بن العاص- رضي الله عنه- قال: " احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا))، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا(3).
3. ما رواه عروة بن الزبير أن عائشة قالت: " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم"(4).
وقد علق الأستاذ الدكتور أديب صالح على ذلك قائلاً: " فهذا إقرار منه لا يجوز لأحد بعده أن يعتبر اللعب في المسجد بالسلاح – تمرينًا على الحرب واستعدادًا للقتال إن احتيج إلى ذلك – أمرًا مخالفًا للسنة"(5).
ويقصد بصفاته – صلى الله عليه وسلم – الخَلقية: ما يتعلق بذاته وتكوينه، ومن أمثلة ذلك:
1. حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خلقًا، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير"(6).
2. حديث البراء أيضًا، قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعًا، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئًا قط أحسن منه"(7).
3. حديث أنس رضي الله عنه، قال: " ما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شممت ريحًا قط أو عرفًا قط أطيب من ريح أو عرف النبي صلى الله عليه وسلم"(8).
ويطرح أستاذنا الدكتور مروان شاهين سؤالاً له وجاهته، ويجيب عنه فيقول – حفظه الله-: " قد يسأل سائل: كيف نعتبر الصفات الخَلقية له صلى الله عليه وسلم من السنة مع أنه لا يمكن الاقتداء بها؛ لأنها من قدر الله تعالى, ونحن لا نتعلم السنة إلا لكي نقتدي برسولنا صلى الله عليه وسلم ونتبعه في هديه كله؟
والجواب من عدة وجوه:
أولاً: لكي نعلم الصفاتِ الخَلقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعقل أن يكون هو رسولنا الذي هدانا الله تعالى به، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور ثم لا نعلم ما هي الهيئة الخَلقية التي أوجده الله تعالى عليها.
ثانيًا: حتى يتأكد لنا أن الله تعالى قد خلقه على أحسن هيئة وأكمل صورة بشرية – كما خلقه أيضًا بريئًا من العيوب الخلقية – حتى تجتمع القلوب حوله، وهذا يعتبر من الأدلة على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى قد برأ الأنبياء جميعًا من أيِّ عيب خَلقي.
ثالثًا: لكي يتأكد لنا أن الله تعالى قد أوجده على نفس الهيئة وبنفس الصفات التي ذكرت في الكتب السابقة، وفي هذا دليل واضح على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم، ولعل ما ورد في كتب السيرة من قصة بحيرا الراهب الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم في صباه في الثانية عشرة من عمره أثناء رحلته إلى الشام مع عمه أبي طالب، وعرف بحيرا الراهب أنه النبي المنتظر بجملة من العلامات ذكرت له في الكتب السابقة، من بينها خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، والخاتم هذا أمر خَلقي عرف به بحيرا أنه صلى الله عليه وسلم هو النبي المنتظر.
وقد ذكر القرآن الكريم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مكتوبًا في التوراة والإنجيل، فقال عزّ من قائل: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [سورة الأعراف: 157].
وقد نعى الله تعالى على أهل الكتاب عدم اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم مع تأكدهم من صدق رسالته، بل ومعرفتهم به كما يعرفون أبناءهم, ومع ذلك كتموا الحق الواضح الصريح وهم يعلمون، قال تعالى: ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))[سورة البقرة: 46].
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يخبر تعالى أن أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم أولاده، ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقيق والإتقان العلمي ((لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ))، أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم " وهم يعلمون"(9).
رابعًا: ومن الأسباب التي تجعلنا نعتبر الصفات الخَلقية له صلى الله عليه وسلم من السنة أيضًا، ما حاوله بعض أعداء الإسلام من إلصاق بعض الصفات غير الحقيقية به صلى الله عليه وسلم.
ومعرفتنا بصفاته الخَلقية تجعلنا ندافع عنه ونحن في موقف القوة والثبات لأنه ثبت بكل الأدلة كمال خلقته صلى الله عليه وسلم.
خامسًا: نتعلم صفاتِه الخَلقية ونعتبرها من السنة حتى نقتدي بكل ما يمكن الاقتداء به منها، مثل صفة لحيته صلى الله عليه وسلم"(10).
ويقصد بصفاته الخُلقية: ما يتعلق بأخلاقه الشريفة صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك:
1. قول السيدة عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت للسائل: " ألست تقرأ القرآن؟ فقال: بلى، قالت: فإن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن"(11).
2. ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها"(12).
3. ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا"(13).
هذه بعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ولقد وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى درجة الكمال البشري فاتصف بكل صفات هذا الكمال البشري، ووجدت فيه كل صفة على أعلى درجاتها وكمال هيئتها.
وامتدحه رب العزة قائلاً: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [سورة القلم: 4].
ولله در القائل:
يا مصطفى من قبل نشأة آدم والكون لم تفتح له أغلاق
أيروم مخلوق ثناءك بعدهـا أثنى على أخلاقك الخلاق
الهوامش:
(1) الإحكام في أصول الأحكام 1/ 146.
(2) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماءً 1/ 168، ومسلم في الصحيح، كتاب الجهاد، باب من لزمه أمر فدخل عليه أمر آخر 2/ 88.
(3) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح تعليقًا، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت 1/ 95، وأبو داود في السنن، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟ 1/ 81.
(4) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الصلاة، باب أصحاب الحراب في المسجد 1/ 90، ومسلم في الصحيح، كتاب العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه أيام العيد 1/ 353.
(5) لمحات في أصول الحديث، ص: 29، 30.
(6) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 271، ومسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان أحسن الناس وجهًا 2 / 330.
(7) المرجع السابق.
(8) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 273، ومسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب طيب رائحة النبي صلى الله عليه وسلم ولين مسه والتبرك بمسحه 2/ 328.
(9) تفسير ابن كثير 1/ 194.
(10) تيسير اللطيف الخبير في علوم حديث البشير النذير 1/ 21، 22.
(11) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، وهو جزء من حديث طويل، 1/ 399.
(12) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 273، ومسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم 2/ 326.
(13) المرجع السابق .
-
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (4)
تعريف السنة اصطلاحاً 2-4
ويقصد بسائر أخباره
ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم في كل أحواله حركةً وسكونًا ويقظةً ومنامًا سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها.
أما حركاته: فهي وسائل تربوية: يقصد من ورائها شدّ انتباه المتلقي ولفت نظره إلى أهمية ما يلقى عليه، ومن الأمثلة على ذلك:
1. قوله - صلى الله عليه وسلم - " التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ثلاثًا"(1).
فهذه الحركة المتمثلة في الإشارة أفادتنا أن محل التقوى هو القلب.
2. قوله - صلى الله عليه وسلم-: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، قال الراوي: وكان متكئًا فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور ثلاثًا, حتى قلنا: ليته سكت"(2). فتغيير النبي صلى الله عليه وسلم من وضعه وحركته أفادت خطورة ما جاء بعدها حتى يحذره القوم ويقدرونه قدره.
3. قول عبد الله بن مسعود: خطّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- خطًا مستقيمًا، ثم قال: " هذا سبيل الله مستقيمًا, وخطّ عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل ليس منها إلا عليه شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: ((وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله))(3)[الأنعام:153].
4. وعن ابن مسعود أيضًا قال: "خطّ النبي - صلى الله عليه وسلم- خطاً مربعًا، وخطّ خطاً في الوسط خارجًا منه، وخطّ خطوطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به - أو قد أحاط به -، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا"(4).
ففي هذين الحديثين استخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الرسم كوسيلة إيضاح لإيصال ما يريده إلى ذهن أصحابه، وهذا ما يأخذ به علماء التربية اليوم في التعليم والتلقي، وقد سبقهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- منذ خمسةَ عشرَ قرنًا من الزمان.
وأما سكوته: فإننا نستفيد منه أحكامًا شرعيةً، ومثال ذلك:
ما رواه البراء بن عازب - رضي الله عنه- قال: " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فانتهينا إلى القبر، فجلس كأن على رءوسنا الطير"(5).
ففي هذا الحديث مشروعية السكون والسكوت عند دفن الموتى من أجل العظة والاعتبار.
وأما ما كان في يقظته فلا إشكال فيه - كما يقول أستاذنا الدكتور موسى شاهين - لأن أمر النبوة واضح أثناء اليقظة.
لكن الذي يستشكل على البعض فهو ما يراه - صلى الله عليه وسلم - في نومه، وكيف هو من الوحي؟ بل كيف هو من السنة الواجبة الاتباع؟ خصوصًا وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علمنا أن النائم غير مكلف في ما ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم-: " رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يصِح، وعن الصبي حتى يحتلم"(6).
وإليك الجواب:
قامت الأدلة من القرآن والسنة - على أن ما يراه الأنبياء في نومهم هو من وحي الله تعالى إليهم، ففي القرآن الكريم نجد غلامًا حليمًا في أوائل العقد الثاني من عمره، قد فقه بالبداهة والفطرة: أن الرسول رسول حتى في نومه، فالنوم لا يمكن أن يخرج الرسول عن رسالته ولو قال الرسول: إني أرى منامًا، فقل له: هذا أمر من الله واجب التنفيذ والطاعة والتسليم، كما قال الغلام الحليم إسماعيل لأبيه الخليل إبراهيم عليهما السلام وعلى جميع المرسلين الصلوات والتسليم حين قال له كما حكى القرآن: ((يا بنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)) [الصافات:102].
ومما يختص برسولنا - صلى الله عليه وسلم- مما جاء في القرآن الكريم، قول الله تعالى في سورة الأنفال: (( إذ يريكهم الله في منامك قليلاً....)) الآية. [لأنفال:43].
فالآية واضحة الدلالة في أنّ ما يراه النبي - صلى الله عليه وسلم- في نومه من رؤيا إنما هو من عند الله تعالى وليس من أي جهة أخرى، (إذ يريكهم الله).
ومن الأدلة على ذلك أيضًا قول الله تعالى في سورة الفتح:
((لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)) [الفتح:27].
فإذا انتقلنا إلى السنة المطهرة فسنجد أدلةً كثيرةً على ذلك.
من بينها ما جاء في صحيح البخاري رحمه الله تعالى بسنده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح"(7).
فالحديث ينص صراحةً على أن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي وأنه كان لا يرى شيئًا إلا جاء واضحًا جليًا مثل ضوء النهار.
ولقد لفت نظري وأنا أتتبع ما أراه الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - في نومه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبدأ حديثه غالبًا عن الرؤيا في نومه بقوله: " أُريت كذا" أو " أُريتكم..." فالفعل في أول الحديث يأتي بالبناء للمجهول ليدلنا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى من قبل نفسه، وإنما هناك من يريه وهو الله تعالى.
فمن أمثلة ذلك ما روته السيدة عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- مخاطبًا السيدة عائشة -: " أُريتك في المنام مرتين: إذ رجل يحملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشفها فإذا هي أنتِ، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه"(8).
ولقد كانت هذه الرؤيا- وغيرها - من عند الله تعالى فأمضاها سبحانه، وكانت السيدة عائشة من أزواجه أمهات المؤمنين.
ومن أمثلة ذلك أيضًا ما خاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قائلاً فيما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر: " أُريتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد" وزاد مسلم من حديث جابر " أن ذلك كان قبل موته - صلى الله عليه وسلم - بشهر"(9).
فالحديث كما نلاحظ قد بدأ بقوله: " أُريتكم" بالبناء للمجهول، ولأن علماء الحديث - وكل علماء الإسلام - يعلمون أن ما يراه الرسول - صلى الله عليه وسلم- في نومه هو من وحي الله تعالى، فقد أخذوا من الحديث المذكور درسًا عظيمًا، وهو أن من بين الأدلة على إثبات الصحبة أن يكون الصحابي قد عاش قبل عشرة ومائة للهجرة، فمن جاء بعدها وزعم أنه صحابي فإننا نردّ قوله أخذًا من هذا الحديث الشريف.
على أنه صلى الله عليه وسلم قد يبدأ حديثه مما يراه في نومه بقوله: " رأيت" وذلك في القليل النادر.
ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم- في رؤيته عن هجرته إلى المدينة "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر؛ فإذا هي المدينة يثرب"(10). ووهلي أي: ظني.
ورغم التعبير بقوله: "رأيت" إلا أن ذلك أيضًا من الله تعالى؛ بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم- ما كان له أن يحيد عن المدينة (كدار) للهجرة ويهاجر إلى غيرها؛ لأن المدينة هي المكان الذي اختاره الله تعالى له، فلا يتركه أبدًا إلى غيره.
وقد وردت هذه الرواية عند البيهقي مبتدئة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أُريت دار هجرتكم" وهي بذلك تتلقى مع الأمثلة التي ذكرناها سابقًا.
إن كل ما سبق يعطينا الدليل الأكيد على أن ما يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء جميعًا أثناء النوم هو من الوحي الذي نلتزم به.
ومن الأدلة العقلية على ذلك: أن ما يراه الناس في نومهم إما أن يكون من الله تعالى أو من الشيطان؛ كما ورد بذلك الحديث الصحيح الذي رواه أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه: " الرؤيا الحسنة من الله والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئًا يكرهه، فلينفث عن شماله ثلاثًا وليتعوذ من الشيطان، فإنها لا تضره"(11).
والشيطان - كما نعلم- ليس له سلطان على الأنبياء؛ لأن الله تعالى قد عصمهم من كيده فلن يأتيهم في نومهم، ولقد نزع الله تعالى حظ الشيطان من نبينا - صلى الله عليه وسلم - في مرحلة مبكرة من عمره- وهو طفل رضيع في بادية بني سعد، فحفظه بذلك من وسوسة الشيطان.
فقد روى مسلم بسنده إلى أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان, فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره(12).
فنحن نرى أن الله تعالى قد طهر قلب نبيه - صلى الله عليه وسلم - منذ صغره, فلم يكن للشيطان عليه سبيل، وما دام الأمر كذلك فإن ما يراه في نومه ليس من قبيل الشيطان أبدًا، وإنما هو وحي من الله تعالى(13).
الهوامش:
(1) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الآداب والصلة، باب تحريم ظلم المسلم من حديث طويل 2/ 424.
(2) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها 1/ 50.
(3) الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/ 465، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير ( 2/ 318 )، وقال: صحيح ولم يخرجاه .
(4) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله 11/ 239.
(5) الحديث أخرجه النسائي في سننه، كتاب الجنائز، باب الوقوف للجنائز 4/78، وابن ماجه في سننه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الجلوس في المقابر 1/ 494.
(6) الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الحدود 4/ 389، وقال: صحيح الإسناد .
(7) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي 1/ 6، ومسلم في الصحيح، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/ 79.
(8) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة 2/ 329.
(9) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في الصحيح، كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 309.
(10) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 331، ومسلم، في الصحيح، كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 309.
(11) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم في الصحيح،كتاب الرؤيا، أول الكتاب دون ترجمة 2/ 304.
(12) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض الصلوات1/82.
(13) تيسير اللطيف الخبير، ص:25-27.
-
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (5)
تعريف السنة اصطلاحاً 4-4
بقي من جزئيات التعريف قولنا:
" سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها".
أي: أن ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة أم بعدها داخل في إطار السنة، وقد لا يستشكل الأمر بالنسبة لما كان بعد البعثة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - صار بعدها رسولاً، وصرنا مأمورين بالاقتداء به امتثالاً لقوله تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)) [الأحزاب:21]. أما قبل البعثة، فلم يكن الوحي ينزل عليه، ولم نكن مأمورين بالاقتداء به، فكيف تعد أحواله قبل البعثة من السنة؟
والجواب:
أن أحواله وصفاتِه وأخلاقه قبل البعثة دليل أكيد على نبوته وأمارة صدق على رسالته فهي داخلة في مفهوم السنة، فقد كان يتحنّث (يتعبد) في الجاهلية في غار حراء، وكانت الأحجار والأشجار تسلم عليه، واشتهر بالصدق والأمانة.
وهذه الصفات وتلك الأخلاق كانت الركائز الأساسية التي اعتمد عليها وهو يدعو قومه.
فمثلاً شهرته بالصدق والأمانة قبل بعثته كان دليلاً قويًا على صدق رسالته، وجعل الكفار يعجزون عن اتهامه بضد هذه الصفات، ولقد قالوا عنه: إنه ساحر، أو كاهن، ولكنهم لم يجرءوا أبدًا على اتهامه بعكس الصدق والأمانة، وهذا ما اعتمد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في إثبات صدق نبوته حينما نزل عليه الأمر الإلهي: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ))[الشعراء:214].
فقد صعد على الصفا ونادى قبائل قريش جميعًا- حتى إذا اجتمعوا - بدأ حديثه معهم قائلاً: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد...."(1).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ حديثه معهم بالإنذار مباشرةً، وإنما أخذ منهم إقرارًا بصدقه - صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته، إذن فهو صادق اليوم في رسالته.
وهذا - أيضًا - هو الذي اعتمد عليه هرقل ملك الروم في إثباته لصدق نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم- في قصة طويلة ذكرها البخاري وغيره - أثناء حديث هرقل مع أبي سفيان - حينما سأل أبا سفيان الذي كان لا يزال حتى وقت سؤال هرقل له مشركًا(2).
لقد جاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام - فأراد أن يعرف بعض أحوال هذا النبي الجديد - فجاءوا له بأبي سفيان فسأله هرقل عن كثير من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، وأيضًا سأل عمّا يدعو إليه بعد البعثة، وفي نهاية اللقاء قال هرقل لأبي سفيان: "فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظنّ أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه"(3).
ولقد صدقت توقعات هرقل، فبعد مضي ما لا يزيد على سبع سنوات فتح الله بلاد الشام للمسلمين بعد أن كان يحكمها الروم، وخرج هرقل من حمص التي كان يقيم بها.
والمهم في ذلك كله أن كثيرًا من أحواله - صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة تعطي الأدلة الواضحة على صدق رسالته بعد البعثة، وهذا ما جعل العلماء يعتبرونها جزءًا من السنة.
وإذ قد انتهينا من تعريف السنة وشرح متعلقاتها، فإننا - بعون الله وتوفيقه- ننتقل إلى التعريف ببقية المصطلحات الأخرى التي تشترك معها لنكشف عن معناها، ونوضح علاقتها بالسنة اتفاقًا واختلافًا، وتلك المصطلحات هي: الحديث - الخبر - الأثر.
أ*- معنى الحديث(4):
الحديث في اللغة له معان ثلاثة:
الأول: الحديث بمعنى الجديد الذي هو ضد القديم، تقول: لبستُ ثوبًا حديثًا، أي: جديدًا، وركبتُ سيارةً حديثةً، تعني: سيارةً جديدةً.
الثاني: الحديث بمعنى الكلام، ومنه قوله تعالى: ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا)) [الزمر:23]، أي: نزل أحسن الكلام، وقوله تعالى: ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)) [المرسلات:50]، أي: إن لم يؤمنوا بالقرآن الكريم، فبأي كلام بعده يؤمنون.
الثالث: الحديث بمعنى الخبر والنبأ، ومنه قوله تعالى: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى)) [النازعات:15]، وقوله تعالى: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)) [الغاشية:1].
الحديث اصطلاحًا: للعلماء في تعريفه أقوال:
1. قال جمهور المحدثين: هو: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى القرآن، وأفعاله وتقريراته، وصفاته الخَلقية، والخُلقية، وسائر أخباره سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها، وكذلك أقوال الصحابة والتابعين، وأفعالهم(5).
وعليه يكون الحديث شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفًا للسنة على القول الثالث.
2. وقيل هو: أقواله صلى الله عليه وسلم خاصةً(6).
فيكون مقابلاً لتعريف السنة على رأي من يعرفها بأنها: الطريقة العملية المتواترة التي بين بها النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن(7). وكأن صاحب هذا التعريف استند في تقريره إلى المعنى اللغوي الثاني.
وهو: أن الحديث يطلق على الكلام قلّ أم كثر.
3. وقيل هو: أقواله - صلى الله عليه وسلم- سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصةً(8).
وعليه يكون مقصورًا على المرفوع فقط، ويكون مرادفًا للسنة على القول الأول، لكن جرى اصطلاح المحدثين على أن الحديث إذا أطلق ينصرف إلى ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم-، ولا يستعمل في غيره إلا مقيدًا.
ب- معنى الخبر:
الخبر لغةً: مأخوذ من الفعل " خبر" بفتح الخاء المعجمة والباء المنقوطة بواحدة من تحت، ومعناه علم الشيء على حقيقته.
وقيل: هو مشتق من " الخبار"، وهي الأرض الرخوة، لأن الخبر يثير الفائدة كما أن الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الحافر ونحوه، وهو عند أهل اللغة: اسم لما ينقل ويتحدث به، والجمع أخبار، مثل: سبب وأسباب(9).
الخبر اصطلاحًا: للعلماء في تعريفه أقوال:
1. قال جمهور المحدثين: هو: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم - سوى القرآن -، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته، وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم(10).
وعليه يكون شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفًا للسنة على القول الثالث، وللحديث على القول الأول.
2. وقيل هو: أقواله - صلى الله عليه وسلم- سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصة(11).
وعليه يكون مقصورًا على المرفوع، ويكون مرادفًا للسنة على القول الأول، وللحديث على القول الثالث.
3. وقيل هو: ما جاء عن غير النبي - صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين من هذه الأمة أو غيرها من الأمم السابقة، كأن الخبر في هذا الحال خاص بالتاريخ، وليس من الألفاظ المستعملة في اصطلاح المحدثين.
ومن هنا شاع إطلاق "الإخباري" على المشتغل بالتواريخ، بينما شاع إطلاق اسم "المحدث" على المشتغل بالسنة النبوية(12).
وعلى هذا المعنى الأخير تكون العلاقة بين الخبر، والسنة، والحديث هي التباين والتضاد.
4. وقيل هو: ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم-، وعن غيره من الصحابة والتابعين فمن بعدهم(13).
وعليه يكون شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، وسائر أنواع الحديث الأخرى، ويكون أعم من السنة والحديث.
ج- معنى الأثر:
الأثر لغةً: مأخوذ من أثرت الشيء - بفتح الهمزة والثاء المثلثة- أي: نقلته أو تتبعته، ومعناه عند أهل اللغة: ما بقي من رسم الشيء وضربة السيف، ويجمع على آثار، مثل: سبب وأسباب(14).
الأثر: اصطلاحًا: للعلماء في تعريفه أقوال:
1. قال جمهور المحدثين: هو أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم- سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته، وأقوال الصحابة، والتابعين، وأفعالهم(15).
وعليه يكون شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفًا للسنة على القول الثالث، وللحديث وللخبر على القول الأول.
وبهذا المعنى سمى الحافظ الطحاوي كتابه: " شرح معاني الآثار المختلفة المأثورة".
2. وقال فقهاء خراسان: يطلق الأثر على أقوال الصحابة، والتابعين وأفعالهم فقط(16).
وعليه يكون مقصورًا على الموقوف والمقطوع فقط، ويكون أخص من السنة على القول الثالث، ومن الحديث، والخبر، على القول الأول.
وبهذا المعنى سمى الإمام محمد بن حسن الشيباني كتابه الذي ذكر فيه الآثار الموقوفة بكتاب: "الآثار".
3. وقيل هو: أقواله - صلى الله عليه وسلم- سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصة(17).
وعليه يكون مقصورًا على المرفوع، ويكون مساويًا للسنة وللحديث وللخبر على بعض الأقوال.
والخلاصة:
أن المحدثين تارةً يستعملون الألفاظ الأربعة ويريدون منها: المرفوع فقط.
وتارةً يستعملونها ويريدون منها: المرفوع، والموقوف، والمقطوع.
وتارةً يخصصون السنة: بطريقته - صلى الله عليه وسلم - العملية المتواترة التي بيّن بها القرآن الكريم.
والحديث: بأقواله صلى الله عليه وسلم فقط.
والخبر: بالحوادث أو بالوقائع التاريخية.
والأثر: بأقوال وفتاوى الصحابة والتابعين وأفعالهم.
والقرينة هي التي تحدد المراد في كل هذه الاستعمالات.
الهوامش:
(1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب التفسير، تفسير سورة الشعراء 3/171، ومسلم، في الصحيح، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} 1/108.
(2) كان سؤال هرقل في السنة السابعة للهجرة وأسلم أبو سفيان بعد ذلك في السنة الثامنة عند فتح مكة.
(3) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي.
(4) ينظر: الصحاح للجوهري، مادة (حدث) 1/278، ولسان العرب، نفس المادة 2/796، والقاموس المحيط، نفس المادة 1/170.
(5) ينظر: الخلاصة للطيبي، ص: 30، وشرح شرح النخبة لملا على القاري، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي، ص: 24، وظفر الأماني، ص: 32.
(6) ينظر: تحقيق معنى السنة وبيان وجه الحاجة إليها، ص: 12- 23 بتصرف كثير.
(7) في ضوء هذا التعريف نستطيع فهم كلام عبد الرحمن بن مهدي حينما سئل عن مالك بن أنس والأوزاعي وسفيان بن عيينة فقال: " الأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، وسفيان إمام في الحديث وليس بإمام في السنة، ومالك إمام فيهما. وإجابة عبد الرحمن بن مهدي واضحة الدلالة على أن السنة- في مثل هذا الاستعمال - إنما يراد بها الجانب العملي في الإسلام، أما الحديث فهو الاشتغال بما نقل لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته. (ينظر: تنوير الحوالك شرح موطأ مالك 1/3).
(8) ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، تدريب الراوي، 1/42، ظفر الأماني، ص: 32.
(9) ينظر: لسان العرب، مادة: خبر، المصباح المنير 1/ ، وعنها نقل الشوكاني في إرشاد الفحول، ص: 42.
(10) ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، وشرح النخبة، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42.
(11) ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، وشرح النخبة، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42، وظفر الأماني، ص: 32.
(12) ينظر: المصادر السابقة.
(13) ينظر: المصادر السابقة.
(14) ينظر: لسان العرب، مادة: " أثر" 1/25، الصحاح للجوهري 2/574، المعجم الوسيط 1/5.
(15) ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، تدريب الراوي 1/42، ظفر الأماني، ص: 33، قواعد في علوم الحديث، ص: 25.
(16) ينظر: نفس المصادر السابقة.
(17) ينظر: نفس المصادر السابقة.
-
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (6)
أهمية السنة ووجه الحاجة إليها (1-3)
إن أهمية السنة النبوية ووجه الحاجة إليها تبرز من خلال دورها في خدمة التشريع الإسلامي، ويتجلى هذا الدور في أمرين:
الأمر الأول:
أن القرآن الكريم – وهو المصدر الأول في التشريع – لا يمكن أن يستغني عنها، ولا يستطيع أن يؤدي دوره كاملاً بدونها، فهما أصلان في التشريع، ودعامتان يرتكز عليهما صرح الشريعة الغراء، إنهما بمنزلة " الروح" و " الجسد" إن ضاع أحدهما ضاع الآخر، والاستمساك بهما جميعًا فيه النجاة والسلامة للإنسان، كما وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا: كتاب الله وسنتي" (1)، وهاكم بعض الصور التي تثبت أن القرآن لا يستغني في فهمه عنها.
الصورة الأولى:
أن في القرآن الكريم آيات لا يمكن فهم المراد منها إلا بعد معرفة سبب نزولها، ولا طريق لمعرفة سبب النزول إلا السنة.
· من هذه الآيات قوله تعالى: { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرًا فإن الله شاكر عليم}[سورة البقرة: 158].
فهذه الآية بحسب الظاهر تنفي الجناح عمن لا يطوف بالصفا والمروة، وهذا ما فهمه عروة بن الزبير، لكن سبب النزول أوضح المعنى المراد.
روى البخاري ومسلم عن عروة، عن عائشة، قال: قلت لها: إني لأظن رجلاً لو لم يطف بين الصفا والمروة، ما ضرّه، قالت: لم؟ قلت: لأن الله تعالى يقول: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} إلى آخر الآية، فقالت: ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة، ولو كان كما تقول لكان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، وهل تدري فيما كان ذلك؟ إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر، يقال لهما: إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما، للذي كانوا يصنعون في الجاهلية، قالت: فأنزل الله عز وجل: { إن الصفا والمروة من شعائر الله} إلى آخرها، قالت: فطافوا. (2)
· ومنها أيضًا قوله تعالى: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} [سورة المائدة: 93].
فقد حكي عن قدامة بن مظعون أنه كان يقول: الخمر مباح لمن آمن وعمل صالحًا، ويحتج بالآية المذكورة، وخفي عليه سبب نزولها (3)مع أن سبب النزول يمنع ذلك.
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: " مات ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر، فلما نزل تحريم الخمر، قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيكف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ قال: فنزلت: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا .....} (4).
فأنت ترى أن سبب نزول الآيتين – وهو من السنة – قد أزال الإشكال عن الآيتين، وأعان على فهم المراد منهما، وأمثال هاتين الآيتين في القرآن الكريم كثير.
الصورة الثانية:
أن في القرآن الكريم آيات مجملة، ولا سبيل إلى تفصيلها وبيان المراد منها إلا السنة، من ذلك قوله تعالى في شأن الصلاة: {وأقيموا الصلاة .....}[سورة البقرة: 43]، وقوله تعالى: { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا}[سورة النساء: 103].
فلو أخذ هذا الكلام على ظاهره لاكتفى من كل إنسان بأدنى ما يقع عليه اسم الصلاة وهي ركعة واحدة مثلاً، وتؤدى بأية كيفية كانت، مع أن هذا خلاف مراد الله تعالى.
لذلك جاءت السنة مبينة: أوقات الصلاة، وعدد ركعاتها، وكيفية أدائها، وأركانها، وشروطها، وسننها، وهيئاتها، وآدابها، ومبطلاتها، ونحو ذلك من كل ما يتعلق بها.
وكذلك الشأن في سائر الأحكام التي وردت في القرآن مجملةً غير مفصلة ولا مبينة، كالزكاة، والصيام، والحج، والنكاح، والجهاد، والطلاق وغيرها.
قال محمد بن نصر المروزي ( 294هـ ) في هذا الصدد: " وجدت أصول الفرائض كلها لا يعرف تفسيرها ولا تنكر تأديتها ولا العمل بها إلا بترجمة من النبي صلى الله عليه وسلم وتفسير منه، من ذلك: الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد.
قال الله عز وجل: { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} [سورة النساء: 103]. فأجمل فرضها في كتابه ولم يفسرها، ولم يخبر بعددها وأوقاتها، فجعل رسوله هو المفسر لها، والمبين عن خصوصها وعمومها وعددها وأوقاتها وحدودها، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الصلاة التي افترضها الله هي خمس صلوات في اليوم والليلة، في الأوقات التي بينها وحددها، فجعل صلاة الغداة ركعتين، والظهر والعصر والعشاء أربعًا أربعًا، والمغرب ثلاثًا، وأخبر أنها على العقلاء البالغين من الأحرار والعبيد، ذكورهم وإناثهم، إلا الحيض فإنه لا صلاة عليهن، وفرق بين صلاة الحضر والسفر، وفسر عدد الركوع والسجود والقراءة وما يعمل فيها من التحريم بها، وهو: التكبير، إلى التحليل منها، وهو التسليم.
وهكذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة بسنته، فأخبر أن الزكاة إنما تجب في بعض الأموال دون بعض على الأوقات والحدود التي حدّها وبيّنها، فأوجب الزكاة في العين من الذهب والفضة والمواشي من الإبل والغنم والبقر السائمة، وفي بعض ما أخرجت الأرض دون بعض، وعفا عن سائر الأموال، فلم يوجب فيها الزكاة.
ولم يوجب الزكاة فيما أوجبها فيه من الأموال ما لم تبلغ الحدود التي حدها، فقال: " ليس في أقل من خمس أواق من الورق صدقة، ولا في أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا في أقل من خمس ذود صدقة" (5). " ولا في أقل من أربعين من الغنم صدقة" (6) " ولا في أقل من ثلاثين من البقر" (7).
وبين أن الزكاة إنما تجب على من وجبت عليه إذا حال عليه الحول من يوم يملك ما تجب فيه الزكاة، ثم تجب عليه في المستقبل من حول إلى حول، إلا ما أخرجت الأرض، فإن الزكاة تؤخذ مما وجب فيه الزكاة منه عند الحصاد والجداد- صرام النخل -، وإن لم يكن الحول حال عليه، ثم إن بقي بعد ذلك سنين لم يجب عليه غير الزكاة الأولى. كل ذلك مأخوذ عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير موجود في كتاب الله بهذا التفسير.
وكذلك الصيام، قال الله تبارك وتعالى: { كتب عليكم الصيام }[سورة البقرة: 183]. فجعل صلى الله عليه وسلم فرض الصيام على البالغين من الأحرار والعبيد، ذكورهم وإناثهم إلا الحيض، فإنهن رفع عنهن الصيام، فسوى بين الصيام والصلاة في رفعها عن الحائض، وفرق بينهما في القضاء، فأوجب عليهن قضاء الصيام، ورفع عنهن قضاء الصلاة، وبين أن الصيام هو الإمساك بالعزم على الإمساك عما أمر بالإمساك عنه من طلوع الفجر إلى دخول الليل، فقال صلى الله عليه وسلم: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له" (8)....
وكذلك الحج، افترض الله الحج في كتابه، فقال: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً}[ سورة آل عمران: 97].
فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله مراده أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة..., كما بين النبي صلى الله عليه وسلم بسنته أن فرض الحج هو: الإهلال، وفسر الإهلال ومواقيت الحج والعمرة جميعًا، وبين ما يلبس المحرم مما لا يلبسه، وغير ذلك من أمور الحج مما ليس بيانه في كتاب الله.
وذكر الجهاد وما يتعلق به، ثم قال: " فهذه الفرائض كلها متفقة في أنها مفروضة ومختلفة في الخصوص والعموم، والعدة والأوقات والحدود، بين ذلك رسول الله صلى اله عليه وسلم بسنته"(9).
الهوامش
(1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب القدر، رقم: (3) بلاغًا، والحاكم في المستدرك (1/ 93) متصلاً، وابن عبد البر في جامع بيان العلم، رقم: (1866)، وصححه الحاكم, والألباني في الصحيحة (1761).
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{ إن الصفا والمروة ...}، رقم: (4495)، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به، رقم: (3079).
(3) انظر: إعلام الموقعين لابن القيم، 2/ 44.
(4) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ...}، رقم: (4620)، وصحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر...، رقم: (5131)، والترمذي، كتاب التفسير، باب من سورة المائدة، رقم: (3050- 3051)، وقال: حسن صحيح، واللفظ له.
(5) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب ما أدى زكاته فليس بكنز، رقم: (1405)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، رقم: (2263).
(6) أخرجه البخاري بمعناه، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، رقم: (1454).
(7) أخرجه أبو داود بمعناه، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، رقم: (1576).
(8) أخرجه أبو داود، كتاب الصيام، باب النية في الصوم، رقم: (2454). والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء لاصيام لمن لم يعزم من الليل، رقم: (730)، وقال: حديث حفصة لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وصحّحه الألباني في الإرواء، (4/ 25).
(9) السنة للمروزي، ص: 36- 45، بتصرف.
-
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (7)
أهمية السنة ووجه الحاجة إليها (2-3)
الصورة الثالثة:
أن في القرآن الكريم آيات عامة، مع أن المراد منها خاص، ولا سبيل إلى تخصيصها وبيان مراد الله منها سوى السنة النبوية.
والعام هو لفظ وضع للدلالة على أفراد غير محصورين على سبيل الاستغراق والشمول، سواءٌ أكانت دلالته على ذلك بلفظه ومعناه، بأن كان بصيغة الجمع، كالمسلمين والمسلمات والرجال والنساء، أم كانت بمعناه فقط: كالرهط والقوم والجن والإنس.
والخاص لفظ وضع للدلالة على فرد واحد أو أفراد محصورين.
بعد هذا البيان لدلالة العام والخاص، نأتي على ذكر أمثلة لتخصيص السنة لعموم القرآن الكريم، فمن ذلك:
1. قول الله عز وجل: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ...) [سورة المائدة: 3].
فهذه الآية تفيد أن كل ميتة وكل دم حرام، لكن جاءت السنة فخصصت من هذا التحريم نوعين من الميتة، ونوعين من الدماء يباح أكلهما.
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال" (1).
2. قول الله عز وجل: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [ الأنعام: 82].
فقد فهم بعض الصحابة من هذه الآية: أن المراد بالظلم: الجور أو مجاوزة الحد، لذلك جاءوا شاكين للنبي صلى الله عليه وسلم قائلين: وأينا لم يظلم نفسه؟ فطمأنهم النبي صلى الله عليه وسلم: بأن المراد في الآية: هو الشرك، وبذلك صارت السنة مخصصة للعموم الواقع في لفظ الظلم.
عن علقمة، عن عبد الله – أي ابن مسعود – رضي الله عنه قال: " لما نزلت: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لاَ تُشْركْ باْلله إنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيْمٌ)"(2).
3. قول الله عز وجل: (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ.....)[النساء: 11].
فهذه الآية أفادت: أن كل والد يرث ولده، وكل مولود يرث والده من غير تخصيص، حتى جاءت السنة فخصصت المورث بغير الأنبياء، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركناه صدقة" (3).
وخصصت السنة الوارث أيضًا بغير القاتل، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل" (4).
كما خصصت السنة الاثنين معًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المؤمن الكافر, ولا الكافر المؤمن" (5).
فكأن معنى الآية بعد التخصيص هو أن كل مورث من أب وأم يرثه أبناؤه إلا أن يكون المورث نبيًا، فإن الأنبياء لا يورثون، وإلا أن يكون الوارث قاتلاً لأصله المورث فإنه لا يرثه، وإلا أن يختلف الدين بين المورث والوارث فإنه لا توارث عند اختلاف الدين.
الصورة الرابعة:
إن في القرآن الكريم آيات مطلقة مع أن المراد منها مقيد، ولا سبيل لتقييدها، وبيان وجه الحق فيها غير السنة النبوية.
والمطلق: هو ما دل على فرد شائع غير مقيد لفظًا بأي قيد، كحيوان وطائر وتلميذ، فهذه ألفاظ وضع كل منها للدلالة على فرد واحد شائع في جنسه.
والمقيد: هو ما دل على فرد مقيد لفظًا بقيد ما، ومن أمثلة تقييد السنة لمطلق القرآن:
1. قول الله عز وجل: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[ المائدة: 38].
فقطع اليد في الآية لم يقيد بموضع خاص، وعليه فيجوز القطع إلى المفصل، أو إلى المرفق، أو إلى المنكب لإطلاق اليد على كل ذلك, ولكن السنة جاءت فقيدت القطع بأن يكون إلى الرسغ أو إلى المفصل - أي: مفصل الكوع.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقطعون السارق من المفصل" (6).
وفي البيهقي عن عمر: "أنه كان يقطع السارق من المفصل" (7).
2. قول الله عز وجل: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَْ)[البقرة: 180]. وقوله في آية النساء: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍْ)[النساء: 11].
فالوصية هنا مطلقة لا يقيدها قيد، فجاءت السنة فقيدتها بما لا يزيد عن الثلث، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص عند ما أراد أن يوصي بالكثير من ماله: "الثلث، والثلث كثير" (8).
3. قول الله عز وجل: (وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِِ)[سورة الحج: 29].
فهذا الأمر من الله تعالى يوجب الطواف مطلقًا، سواءٌ أكان الطائف على طهارة، أم على غير طهارة، وقيدته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطهارة، فلا يطوف بالبيت الحرام إلا من كان طاهرًا.
روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آخر حجته: "لتأخذوا عني مناسككم" (9).
وقد جاء في حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت" (10).
فقوله: "لتأخذوا عني مناسككم" يقتضي وجوب كل ما فعله – ومنها الطهارة للطواف – إلا ما قام دليل على عدم وجوبه.
ويؤكد حكم الطهارة حديث عائشة لما حاضت وهي محرمة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي حتى تغتسلي" (11).
الصورة الخامسة:
أن في القرآن الكريم آيات مشكلة مع غيرها أو مع سنن أخرى صحيحة أو مع العقل، ولو أخذت هذه الآيات على ظاهرها لأوقعت الإنسان في شيء من القلق أو الحيرة أو الاضطراب، ولا سبيل لرفع مثل هذه الإشكالات وإزالتها إلا السنة، ومن أمثلة ذلك:
1. قوله سبحانه: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً....) [ سورة البقرة: 143].
فإنها مشكلة مع واقع أمته صلى الله عليه وسلم، إذ هي متأخرة زمانًا، فكيف تكون شهيدة على الأمم السابقة؟ وكيف يكون الرسول شهيدًا على سائر الرسل السابقين أيضًا مع أنه آخرهم زمانًا؟.
فجاءت السنة فأزالت هذه الإشكالات، فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك وأقل، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: لا. فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فتدعى أمة محمد، فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم. فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك: أن الرسل قد بلغوا، فصدقناه. قال: فذلك قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)[سورة البقرة: 143] (12).
2. قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِْ....) [سورة البقرة: 187].
فقد فهم بعض الصحابة من الخيط الأبيض والخيط الأسود حقيقتهما وأنه يباح الأكل للصائم حتى تتبين له رؤيتهما.
فجاءت السنة فرفعت هذا الإشكال، وبينت أن الخيط الأبيض والخيط الأسود: مجازان عن بياض النهار وسواد الليل.
فعن عدي بن حاتم قال: "لما نزلت هذه الآية: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ِ) عمدت إلى عقالين: أحدهما أسود، والآخر أبيض، قال: فجعلتهما تحت وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت، فقال: إن وسادك لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل" (13).
3. ما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "من حوسب يوم القيامة عذب، فقلت: أليس قد قال الله عز وجل: ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً)؟ فقال: ليس ذاك الحساب وإنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب" (14).
فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ظنت أن الحساب في قوله صلى الله عليه وسلم : "من حوسب يوم القيامة عذب" هو بعينه: الحساب المذكور في الآية، ومن هنا نشأ الإشكال عندها، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم مستوضحة الأمر، فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم المراد: بأن الحساب في الحديث يراد منه المناقشة، وفي الآية يراد منه العرض على الله تعالى.
وبالتالي فلا تعارض ولا إشكال لانفكاك الجهة، إذا التعارض أو الإشكال إنما يكون إذا اتحدت الجهة، ولا اتحاد هنا.
(1) سنن ابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب الكبد والطحال ،رقم: (3218)، ومسند أحمد، 2/ 97.
(2) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب ظلم دون ظلم، رقم: (32)، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، رقم: (327).
(3) صحيح البخاري، كتاب الفرائض، باب قوله: " لا نورث "، رقم: (6727)، وصحيح مسلم ،كتاب الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا نورث"، رقم: (4577).
(4) المسند للإمام أحمد، 1/ 49.
(5) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب توريث دور مكة، رقم: ( 4283)، وصحيح مسلم، كتاب الفرائض، رقم: (4140).
(6) الحديث أخرجه أبو الشيخ في كتاب الحدود من طرق عن ابن عمر. انظر: تلخيص الحبير، 4/ 71.
(7) السنن الكبرى، كتاب السرقة، باب السارق يسرق أولاً فتقطع يده اليمنى من مفصل الكف، 8/ 270- 271.
(8) صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، رقم: (2742)، وصحيح مسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، رقم: (4209).
(9) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، رقم: (3137).
(10) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع بيته، رقم: (1614).
(11) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز أداء الحج، والتمتع والقران..، رقم: (2918).
(12) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: { إنا أرسلنا نوحًا إلى قومه}، رقم: (3339)، وكتاب التفسير، سورة البقرة، رقم: (4487)، والترمذي في السنن، كتاب التفسير، سورة البقرة، رقم: (2961)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في السنن، كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، رقم: (4284)، واللفظ له.
(13) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}، رقم: (4509)، وصحيح مسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، رقم: (2533).
(14) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من سمع شيئًا فراجع حتى يعرفه، رقم: (103)، وصحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إثبات الحساب، رقم: (7225).
-
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (8)
أهمية السنة ووجه الحاجة إليها (3-3)
الصورة السادسة:
أن في القرآن الكريم آيات منسوخة – أي: رفع حكمها – نسختها السنة المطهرة، وهذا ما ذهب إليه الجمهور من العلماء، ومن أمثلة ذلك:
قول الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين َ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)[سورة البقرة: 180].
فهذه الآية توجب الوصية للوالدين والأقربين، لكن هذا الحكم منسوخ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)(1).
فإن قيل: ثبت النسخ بآية المواريث، لا بالحديث، فإنها نزلت بعد آية الوصية باتفاق؟
أجيب: بأن الناسخ للوصية الحديث وليست آية المواريث، ذلك أن آية المواريث بينت أن لهم حقًا هو الإرث، ولم تنف وجوب الوصية لهم، فقد تدل الأولى على الوصية للوالدين والأقارب، والثانية على إعطاء الإرث المقدر لهم شرعًا، فيكون الوالدان والأقارب يجمعون حقين: الوصية والإرث، فجاءت السنة ونسخت الوصية لهم واكتفت بالإرث المقدر لهم شرعًا، وقالت: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه) فليس له بعد ذلك في الوصية حق ما دام أخذ الميراث(2).
وهكذا يتبين بهذه الصور وغيرها عدم استغناء القرآن الكريم عن السنة النبوية، وإلا تعطلت أكثر آياته، وبطلت أحكامها، وبالتالي يتعطل الإسلام ويبطل العمل به.
وقد يسأل البعض: لِمَ لم يحتو كتاب الله عز وجل على تفصيلات هذه الأمور التي تركها لبيان الرسول صلى الله عليه وسلم؟
والجواب من وجوه:
الأول: أن ذلك يعد آية من آيات إعجاز القرآن الكريم حيث تضمن الأصول العامة والقواعد الكلية للأحكام الشرعية، تاركًا التعرض إلى تفاصيلها والتفريع عليها للسنة ليحقق بذلك النهضة الإنسانية الشاملة، والرقي الاجتماعي والفكري في كل أمة مهما كانت بيئتها وأعرافها، وفي كل زمان.
الثاني: أن القرآن الكريم لو اهتم بهذه التفصيلات لطال إطالة تجعل من الحرج على المؤمنين أن يستقصوه، ويحفظوه، ويرتلوه، وكل هذا واجب عليهم، هذا بالإضافة إلى أنه كتاب هداية يضم كل ما يهدي المؤمنين في كل وقت، ومثل هذه التفصيلات لا أعتقد أن التالي لها - لو كانت في كتاب الله – تشع في نفسه تلك الهداية التي يستشعرها المؤمن في كل آية يتلوها من كتاب الله الكريم.
الثالث: أن القدوة بالرسول صلى الله عليه وسلم حتى تتحقق، فلا بد من الاقتناع العقلي، وهذا يتمثل في أن يرى المسلمون أن هذا الرسول ليس شخصًا فقط، وإنما هو جزء من دينهم الذي جاء به من عند الله، ولن يتحقق هذا الجزء إلا باتباع نبيهم في الصلوات وغيرها، وإلا فكيف يصلي المؤمن دون تنفيذ ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجال؟ إن هذا مستحيل عقلاً. والله عز وجل أعلم(3).
الأمر الثاني الذي يبرز دور السنة في التشريع وأهميتها:
أن هناك أحكامًا كثيرةً استقلت السنة النبوية بتشريعها، وقد تلقت الأمة هذه الأحكام بالقبول، وإن كانت زائدةً على ما جاء في القرآن الكريم.
من هذه الأحكام: مشروعية الشفعة، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وأنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، وأنه لا يقتل مسلم بكافر، وحد الرجم، وحد الردة، والنهي عن زواج المتعة، وغير ذلك كثير وكثير حتى إن ابن القيم يقول: (أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها)(4).
وهذا النوع – السنة المستقلة- مختلف فيه بين العلماء، إلا أن الخلاف ليس في الاعتداد بالأحكام الثابتة في السنة زيادة عن الأحكام الثابتة في القرآن الكريم، وإنما الخلاف في مخرجه وملحظه.
1.فالجمهور يسمون الأحكام الزائدة على ما في القرآن الكريم استقلالاً, ويقولون: قد ثبت لها الاستقلال من الأدلة التي وردت في القرآن الكريم الدالة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة، تدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب ومما ليس فيه مما هو من سنته.
قال الشوكاني معبرًا عن هذا الاتجاه: " قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام، وإنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)(5).
أي: أوتيت القرآن، وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن" (6).
وقال ابن القيم معبرًا ومنتصرًا لرأي الجمهور: " والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.
الثاني: أن تكون بيانًا لما أريد بالقرآن وتفسيرًا له.
الثالث: أن تكون موجبةً لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمةً لما سكت عن تحريمه.
ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تعارض القرآن بوجه ما، فما كان منها زائدًا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديمًا لها على كتاب الله، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به، وإنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به(7). وقد قال الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) [سورة النساء: 80].
كما يفيده أيضًا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ....)[سورة النساء: 59].
فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأن طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقًا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه...
" والذي فرض علينا طاعة رسوله وقبول قوله في تلك الزيادة هو الذي فرض علينا طاعته وقبول قوله في هذه – أي الموافقة والمبينة – والذي قال لنا: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [سورة الحشر: 7]. هو الذي شرع لنا هذه الزيادة على لسانه، والله سبحانه ولاه منصب التشريع عنه ابتداء، كما ولاه منصب البيان لما أراد بكلامه، بل كلامه بيان عن الله، والزيادة بجميع وجوهها لا تخرج عن البيان بوجه من الوجوه، بل كان السلف الصالح الطيب إذا سمعوا الحديث عنه وجدوا تصديقه في القرآن، ولم يقل أحد منهم قط في حديث واحد أبدًا: إن هذا زيادة على القرآن فلا نقبله ولا نسمعه ولا نعمل به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في صدورهم، وسنته أعظم عندهم من ذلك وأكبر.
ولا فرق أصلاً بين مجيء السنة بعدد الطواف وعدد ركعات الصلاة ومجيئها بفرض الطمأنينة وتعيين الفاتحة والنية، فإن الجميع بيان لمراد الله أنه أوجب هذه العبادات على عباده على هذا الوجه، فهذا الوجه هو المراد، فجاءت السنة بيانًا للمراد في جميع وجوهها حتى في التشريع المبتدأ، فإنها بيان لمراد الله من عموم الأمر بطاعته وطاعة رسوله، فلا فرق بين بيان هذا المراد وبين بيان المراد من الصلاة والزكاة والحج والطواف وغيرها، بل هذا بيان المراد من شيء وذاك بيان المراد من أعم منه"(8).
2.وذهب الشاطبي ومن نحا نحوه إلى أن الزيادة التي وردت في السنة لم يثبت بها استقلالاً، وإنما تفرعت على أصل القرآن الكريم، فما من حكم ثبت في السنة إلا هو قائم على أصل وجد في الكتاب الكريم، وأن ما في السنة يرجع إلى نصوصه وإشاراته، أو عمومه، أو قواعده الكلية التي هي أساس ما فيه من الأحكام الجزئية.
فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم حرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها لأن مثله قد حرمه الله – وهو الجمع بين الأختين – في كتاب الله عز وجل، فالمصلحة فيها جميعًا واحدة، وهي قطع صلة الرحم، وبث عوامل التفكك في الأسر التي يريد الإسلام لها أن تتماسك وتتراحم، ولهذا نص عليه الصلاة والسلام على هذه المصلحة عندما نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، فقال: (فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)(9).
ولكل واحد من الفريقين أدلته وحججه فيما ذهب إليه(10)، ولكن الذي يهمنا هنا أمران:
الأمر الأول:
أن ما جاءت به السنة من هذا القبيل واجب الاتباع، وهو ما يعترف به الفريقان مع اختلاف وجهة نظرهما في كونه مندرجًا تحت ما جاء في كتاب الله عز وجل أو جديدًا لم ينص عليه فيه.
الأمر الثاني:
أن السنة على كلتا الوجهتين أضافت شيئًا نحن في حاجة إليه سواءٌ أسميناه بيانًا أم جديدًا، ولن نستطيع أن نهتدي إليه من عند أنفسنا، ومن غير هدي من نبينا صلى الله عليه وسلم(11).
ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية: لماذا يحب علينا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعًا مطلقًا، فيقول: (الحديث النبوي هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النبوة من قوله وفعله وإقراره، فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة، فما قاله إن كان خبرًا وجب تصديقه به، وإن كان تشريعًا إيجابًا أو تحريمًا وجب اتباعه فيه، فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل، فلا يكون خبرهم إلا حقًا، وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب، وأنه ينبئ بالغيب، والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه)(12).
وهكذا يتبين لنا من خلال ما عرضناه في الصفحات السابقة: أهمية السنة، ووجه الحاجة الشديدة إليها، وضرورة العناية بها، والمحافظة عليها.
وقد فهم سلف الأمة هذا المعنى جيدًا، فعملوا على تثبيته وإقراره في النفوس.
فقد روى أبو داود من حديث حبيب المالكي قال: قال رجل لعمران بن حصين:يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران، وقال للرجل: أوجدتم في كل أربعين درهمًا درهماً، ومن كل كذا وكذا شاة شاة، ومن كل كذا وكذا بعيرًا كذا وكذا؟ أوجدتم هذا في القرآن؟ قال: لا. قال: فعمَّن أخذتم هذا؟ أخذتموه عنا، وأخذناه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أشياء نحو هذا(13).
وجاء في رواية أخرى عن الحسن: أن عمران بن حصين كان جالسًا ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: "ادنه، فدنا فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعًا، وصلاة العصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعًا، والطواف بالصفا والمروة؟ ثم قال: أي قوم، خذوا عنا، فإنكم والله إلا تفعلوا لتضلن"(14).
وروى الخطيب عن إسماعيل بن عبيد الله قال: " ينبغي لنا أن نحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نحفظ القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [سورة الحشر: 7]"(15).
(1) سنن أبي داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث، رقم: ( )، والترمذي، كتاب الوصايا، باب ما جاء: " لا وصية لوارث"، رقم: ( )، وقال: حسن صحيح، وأخرجه غيرهما.
(2) أصول الفقه وابن تيمية، ص: 546.
(3) انظر: المدخل إلى توثيق السنة، ص: 16- 17.
(4) إعلام الموقعين، (2/ 290).
(5) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة، رقم: (4604)، والترمذي، كتاب العلم، باب ما نهي عنه أنه يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (2663)، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وأخرجه غيرهما، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما.
(6) إرشاد الفحول، ص: 68.
(7) إعلام الموقعين (2/ 307، 308).
(8) إعلام الموقعين، (2/ 313).
(9) أصول التشريع الإسلامي، ص: 40، والحديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، (6/ 263).
(10) انظر: استقلال السنة بالتشريع بين المثبتين والمنكرين، ص: 93 – 122.
(11) انظر: المدخل إلى توثيق السنة، ص: 15- 16.
(12) مجموع الفتاوى، (18/ 6، 7، 10).
(13) سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة، رقم: (1561).
(14) أخرجه الخطيب في الكفاية، رقم: (24)، وله طرق عن الحسن، أخرجها ابن حبان في الثقات، (7/ 247)، والحاكم في المستدرك (1/ 109)، والطبراني في الكبير، (18/ 165 رقم: 369)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" رقم: (238)، وهو بمجموع طرقه: حسن.
(15) الكفاية، رقم: (17).
-
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (9)
شرف أهل الحديث
(1-2)
عرّفنا فيما سبق بالسنة وأبنا عن أهميتها ووجه الحاجة إليها، وفي هذا المبحث نتحدث عن شرف أهل الحديث وخدمة السنة المطهرة، يدفعنا إلى إبراز ذلك أمور :
أولها : ما نلمحه في الأفق من إحياء فكر الفرق المختلفة من : خوارج ومعتزلة ورافضة، رغم ما واجهه الإسلام من عنتهم، وما كان لآرائهم في الصحابة وأئمة المسلمين – خاصة المحدثين – من جموح ، فقد رموهم بحمل الكذب ورواية المتناقض، وأسهبوا في ذمهم ، وبالغوا في انتقاصهم، الأمر الذي يدعونا إلى إنصاف المحدثين ، والانتصار لهم ببيان شرفهم وعلو قدرهم ورفعة منزلهم وإبراز جهودهم عبر العصور المختلفة في خدمة السنة النبوية والذب عنها .
ثانيها : تهيئة القارئ لما سيهوله فيما بعد من جهد مضن قد بلغ بأصحابه مبلغا بوأهم الصدارة فبزوا أقرانهم من أرباب العلوم الأخرى شرفا وسموا .
وإذا كان الأمر كذلك فأقول وبالله تعالى التوفيق :
شرف العلم من شرف المعلوم , وكذا يتشرف العالمون به ، فلما كان المعلوم أقوال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأفعاله وتقريراته، فإن العلم بها يسمو بأهله، فينالون من الشرف أعظمه، ومن العزة أعلاها، وقد دل على ذلك أحاديث وآثار، وأقوال للعلماء وأخبار، إليك طرفا منها :
1- روى الترمذي بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (نضر الله امرأ سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع)(1).
قال القارى : (خص مبلغ الحديث كما سمعه بهذا الدعاء لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة فجازاه بالدعاء بما يناسب حاله، وهذا يدل على شرف الحديث وفضله ودرجة طلابه، حيث خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بدعاء لم يشرك فيه أحداً من الأمة، ولو لم يكن في طلب الحديث وحفظه وتبليغه فائدة، سوى أن يستفيد بركة هذه الدعوة المباركة، لكفى ذلك فائدة وغنما، وجل في الدارين حظا وقسما)(2).
وقال أبو بكر بن العربي : (قال علماء الحديث ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) الحديث. قال: وهذا دعاء منه عليه السلام لحملة علمه، ولابد بفضل الله من نيل بركته )(3).
وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس العزفي بقوله:
أهل الحديث عصابة الحـق فازوا بدعوة سيد الخلــق
فوجوههم زهر منضــرة لألاؤها كتألق البــــرق
يا ليتني معهم فيدركــني ما أدركوه بها من السبــق
2- روى البيهقي وابن عبدالبر وغيرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)(4).
وفي هذا الحديث تخصيص حملة السنة بهذه المنقبة العلية وتعظيم لهذه الأمة المحمدية، وبيان لجلالة قدر المحدثين وعلو مرتبتهم في العالمين ، لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها .
قال النووي : (هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة هذا العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وإن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد، وهو من أعلام النبوة، ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئاً من علم الحديث، فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف شيئاً منه)(5).
وقال الحاكم: (لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد، لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد)(6).
3- روى الترمذي بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)(7).
قال أبو اليمن بن عساكر (ليهن أهل الحديث هذه البشرى، فقد أتم الله نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى، فإنهم أولى الناس بنبيهم، وأقربهم إن شاء الله تعالى وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم يخلدون ذكره في دروسهم، ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات، في مجالس مذاكرا تهم ودروسهم، فهم إن شاء الله تعالى الفرقة الناجية، جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم)(8).
4- روى الترمذي بسنده عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)(9).
قال البخاري : قال علي بن المديني: (هم أصحاب الحديث)(10) .
وقال الإمام أحمد لما سئل عن الطائفة المنصورة المذكورة في الحديث: (إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث، فلا أدري من هم).
قال الحاكم معقباً: (فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر، أن الطائفة المنصورة التي يدفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث، ومن أحق بهذا التأويل من قوم سلكوا محجة الصالحين ، واتبعوا آثار السلف من الماضين، ودفعوا أهل البدع والمخالفين، بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين)(11) .
لقد تشرف أصحاب الحديث، وهم نقلته ورواته، بنقله وروايته، ولم يكتفوا بل محصوا صحيحه من سقيمه، فعرفوا مرفوعه من موقوفه، وموصوله من مقطوعه، فأظهروا للصحيح حجته، وأبانوا للضعيف علته ، فوضعوا أسسا لعلومه، حددت الخبر من حقيره وعظيمه، فاشترطوا لذلك الأسانيد، وشدوا الرحال، ويمموا صوب المشرق والمغرب طلبا للعلو، وميلا للسماع، ودرءا للتدليس،وقطعاً للوهم،ونقبوا في عدالة الرواة، وغاية جهدهم الذب عن سنة نبيهم، فقعدوا لذلك القواعد وأصلوا الأصول، فكان ما أنتجته قرائح عقولهم ضربا من الإبداع لم يسبقوا إليه في تاريخ الملل منذ غور الزمان حتى يومنا هذا . ومن كان ذلك شأنه فهو حسبه.
روى القاضي عياض بسنده إلى الأعمش أنه قال: (لا أعلم قوما أفضل من قوم يطلبون هذا الحديث، ويحيون هذه السنة ، وكم أنتم في الناس؟ والله لأنتم أقل من الذهب )(12).
قال الإمام النووي: (... ومن أهم أنواع العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات أعني معرفة متونها؛ صحيحها وحسنها، وضعيفها ومتصلها, ومرسلها ومنقطعها, ومعضلها ومقلوبها, ومشهورها وغريبها, وعزيزها ومتواترها, وآحادها وأفرادها، معروفها وشاذها, ومنكرها ومعللها , وموضوعها ومدرجها, وناسخها ومنسوخها, وخاصها وعامها, ومجملها ومبينها, ومختلفها وغير ذلك من أنواعها المعروفات .
ودليل ما ذكرته : أن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات، وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهية، فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات، وبيانها في السنن المحكمات، وقد اتفق العلماء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالما بالأحاديث الحكميات، فثبت بما ذكرناه أن الاشتغال بالحديث من أجل العلوم الراجحات، وأفضل أنواع الخير، وآكد القربات، وكيف لا يكون كذلك وهو مشتمل على ما ذكرناه على بيان حال أفضل المخلوقات)(13).
(1) سنن الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع ، رقم ( 2657) وقال : حديث حسن صحيح .وأخرجه غيره من أصحاب السنن .
(2) مقدمة تحفة الأحوذى ص 13.
(3) مقدمة تحفة الأحوذى ص 13.
(4) أخرجه البيهقي في المدخل من طريق إبراهيم بن عبدالرحمن العذري وهو تابعي مقل، وهذا السند معل بالإرسال، لكن الحديث قد روى موصولاً من طريق جماعة من الصحابة، وصحح بعض طرقه الحافظ العلائي في ( بغية الملتمس ص 424) ، وساق ابن عبدالبر بعض أسانيده في ( التمهيد 1/59) وجمع جملة من طرقه ابن القيم في ( مفتاح دار السعادة 1/163-164) وكلامه يشعر بثبوت الحديث عنده ،وذكر الدوسري في ( الروض البسام 1/142-146)جملة من أسانيده ومواضعها في كتب الحديث ورجاله،وأشعر بضعف الحديث عنده، والذي يظهر ليحسن الحديث بمجموع طرقه، والله أعلم .
(5) الحطة في ذكر الصحاح الستة ص 39.
(6) الحطة ص 39، مقدمة تحفة الأحوذي ص 15.
(7) سنن الترمذي ، كتاب الصلاة ، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، رقم ( 484) وقال : حديث حسن غريب، وصححه ابن حبان في صححيه، وفيه موسى بن يعقوب الزمعي. قال النسائي :ليس بالقوي، وقال أبو داود : هو صالح ووثقه ابن معين، وساق له ابن عدي عدة أحاديث استنكرها وعد هذا منها . انظر: فيض القدير ( 2/442) .
(8) مقدمة تحفة الأحوذي ص 12-13.
(9) سنن الترمذي ،كتاب الفتن ،باب ما جاء في أهل الشام ، رقم ( 2192) ، وقال : حديث حسن صحيح.
(10) سنن الترمذي عقب الحديث السابق .
(11) معرفة علوم الحديث للحاكم ص 107-108.
(12) الإلماع للقاضي عياض ص 27.
(13) مقدمة شرح النووي على مسلم ص 113-114.
-
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (10)
شرف أهل الحديث
(2-2)
وقال الخطيب البغدادي: (ولولا عناية أصحاب الحديث بضبط السنن وجمعها، واستنباطها من معادنها، والنظر في طرقها لبطلت الشريعة، وتعطلت أحكامها، إذ كانت مستخرجة من الآثار المحفوظة، ومستفادة من السنن المنقولة، فمن عرف للإسلام حقه، وأوجب للدين حرمته، أكبر أن يحتقر من عظم الله شأنه، وأعلى مكانه، وأظهر حجته، وأبان فضيلته، ولم يرتق بطعنه إلى حزب الرسول وأتباع الوحي وأوعية الدين، وخزنة العلم، الذين ذكرهم الله في كتابه فقال: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [ التوبة/100]. وكفى المحدث شرفا أن يكون اسمه مقروناً باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكره متصلاً بذكره (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) [ الحديد/21] والواجب على من خصه الله بهذه الرتبة، وبلغه هذه المنزلة، أن يبذل مجهوده في تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه، وطلبها من مظانها، وحملها عن أهلها، والتفقه بها ، والنظر في أحكامها، والبحث عن معانيها، والتأدب بآدابها، ويصدف – يعرض – عما يقل نفعه وتبعد فائدته، من طلب الشواذ والمنكرات، وتتبع الأباطيل والموضوعات، ويؤتي الحديث حقه من الدراسة والحفظ ، والتهذيب والضبط...)(1).
وقال صديق حسن خان: (فهي – أي علوم الأحاديث – مصابيح الدجى، ومعالم الهدى، وبمنزلة البدر المنير ، من انقاد لها فقد رشد واهتدى، وأوتي الخير الكثير، ومن أعرض عنها وتولى فقد غوى وهوى وما زاد نفسه إلا التخسير ، فإنه صلى الله عليه وسلم نهى وأمر، وأنذر وبشر ، وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل القرآن، بل هي أكثر- يعني في تفصيل ما تقدم بيانه – وقد ارتبط بها اتباعه صلى الله عليه وسلم الذي هو ملاك سعادة الدارين، والحياة الأبدية بلا مين.
كيف ؟ وما الحق إلا فيما قاله صلى الله عليه وسلم أو عمل به، أو قرره، أو أشار إليه،أو تفكر فيه ، أو خطر بباله، أو هجس في خلده واستقام عليه، فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب، والعمل العمل بهما في كل إياب وذهاب، ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء، ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء و (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)[ الحديد/21]. فياله من علم سيط بدمه الحق والهدى، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى.
وقد كان الإمام محمد بن علي بن حسين رضي الله عنه يقول: (إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث). ولقد صدق فإنه لو تأمل المتأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق، لعلم أن لكل علم خاصية تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية كيفية من الكيفيات الحسنة أو السيئة. وهذا علم تعطي مزاولته صاحب هذا العلم معنى الصحابية، لأنها في الحقيقة هي الاطلاع على جزئيات أحواله صلى الله عليه وسلم ، ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها، وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول،ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان، وإليه أشار القائل بقوله:
أهل الحديث همُ أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
ويروى عن بعض العلماء أنه قال: أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالحاصل أن أهل الحديث كثر الله تعالى سوادهم ورفع عمادهم، لهم نسبة خاصة ومعرفة مخصوصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لا يشاركهم فيها أحد من العالمين، فضلا عن الناس أجمعين، لأنهم الذين لا يزال يجري ذكر صفاته العليا، وأحواله الكريمة، وشمائله الشريفة على لسانهم، ولم يبرح تمثال جماله الكريم، وخيال وجهه الوسيم، ونور حديثه المستبين يتردد في حلق وسط جنانهم ، فعلاقة باطنهم بباطنه العلي متصلة ، ونسبة ظاهرهم بظاهره النقي مسلسلة، وقال الله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) [ الإسراء /71] قال بعض السلف: (هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث، لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم)(2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال،ويمتازون عنهم بما ليس عندهم، فإن المنازع لهم لابد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقاً أخرى مثل: المعقول والقياس، والرأي والكلام، والنظر والاستدلال، والمحاجة والمجادلة، والمكاشفة والمخاطبة ، والوجد والذوق ونحو ذلك.
وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها، فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأيا، وأسدهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسة، وأصدقهم إلهاماً، وأحدهم بصراً ومكاشفة، وأصوبهم سمعاً ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقاً.
وهذا هو للمسلمين دون سائر الأمم ، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل، فهم قد شاركوا غيرهم وزادوا عليهم)(3).
هم أمة واحدة، ونسيج واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، مهما نأت بهم البلاد، وتباعدت الأقطار ، يجرون على طريقة واحدة لا يحيدون ولا يميلون ، حتى قال أبو المظفر: لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم نقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا ؟(4).
أين من هذا – أهل الأهواء والبدع ومن جعلوا الدين غرضا للخصومات والفتن؟ إنك لا تكاد تظفر باثنين منهم على طريقة واحدة، هم أبدا في تنازع وتباغض، يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا.
أو ما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين، والبصريون منهم البغداديين، ويكفر أصحاب أبي على الجبائي(5) ابنه أبا هاشم(6) ، وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي ، وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم ؟(7).
فتأمل هذا وتدبر كيف أن الله صان أهل الحديث مما وقع فيه غيرهم، وبهذا يظهر فضلهم وشرفهم، وما هم عليه من حق لا يختلفون فيه، لذا نرى غيرهم يفر إليهم، ولا يفرون هم إليه ، بل يوصي غيرهم خاصته بما عليه الأثر أهل لأنه الحق. ولم لا يرجع الناس إليهم وهم الممكن لهم ، بقبول الأخبار منهم ؟.
وحسبك أن إمام الحرمين وهو من هو(8)؟ يقول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام)(9).
ويقول: (اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة)(10).
وأخرج الخطيب عن أحمد بن سنان (11)قال: (كان الوليد الكرابيسي – أحد أئمة الكلام – خالي ، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحداً أعلم بالكلام مني ؟ قالوا: لا ، قال: فتتهموني؟ قالوا: لا ، قال: فإني أوصيكم، أتقبلون ؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم) (12).
ولعلنا بعد هذا نعلم أن شرف أصحاب الحديث مرده الأمور الآتيات:
1- اعتبار الحديث مصدراً شرعياً، ومن ثم ارتباط أصحاب الحديث بالأحكام الشرعية، وهذه الأصل فيها الصحة،ولا يتأتى ذلك إلا من قبل جهابذة هذا العلم الشريف.
2- معرفة ناسخ الحديث من منسوخه وهذه الأصل فيها أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ، أي أن يكون الدليل الدال على ارتفاع الحكم الشرعي متراخيا عن الخطاب المنسوخ حكمه، وإذ لم يع المحدث أي الخبرين متقدم عن الآخر فمن غيره يجرؤ على ذلك.
3- اكتساب أهل الحديث معنى (الصحابية) لأنها في الحقيقة الإطلاع على جزئيات أحواله صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها، وقد أشار إلى ذلك القائل:
أهل الحديث همُ أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
4- ولعل أصحاب الحديث هم أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم على صلاة) ، قال ابن حبان في صححيه: في هذا الحديث بيان صحيح على أن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في القيامة أصحاب الحديث، إذ ليس في هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم.
5- وكون أصحاب الحديث أول سلسلة آخرها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فذلك غاية الشرف ومنتهاه ، فأئمة الحديث جعل الله غذاءهم ولذتهم قراءة الحديث وكتابته، ودراسته وروايته ، ورزقهم حفظا يبهر العقول، ويكاد ألا يصدقه من يسمع ما حكي عنهم في ذلك من المنقول. حفظ الله تعالى بهم السنة، وبهم يتم الله على عباده كل منة، وفي مثلهم يقال:
إن علم الحديث علم رجال تركوا الابتداع للاتبـاع
فإذا جن الليل كتبــوه وإذا أصبحوا غدوا للسماع(13)
ولعل بعد هذا الكلام يتهيأ القارئ-كما قلنا سابقا –لما سيهوله فيما بعد من جهد مضن قد بلغ بأصحابه مبلغاً بوأهم الصدارة فبزوا أقرانهم من أرباب العلوم الأخرى شرفا وسموا.
(1) الكفاية للخطيب البغدادي (1/ 51-52).
(2) الحطة ص 36-37 ، مقدمة تحفة الأحوذي ص 11-12.
(3) نقض المنطق ص 827.
(4) صون المنطق ص 167.
(5) أبو علي الجبائي: بضم الجيم وتشديد الياء،قرية من قرى البصرة. ينسب إليها محمد بن عبدالوهاب صاحب مقالات المعتزلة (235-303هـ). اللباب 1/255.
(6) أبو هاشم: عبد السلام بن محمد بن عبدالوهاب، شيخ المعتزلة وابن شيخهم (277-321هـ). تاريخ بغداد (11/55).
(7) صون المنطق ص 167. وانظر: الاستقامة لابن تيمية ص 49 وما بعدها ترى كثيرا من هجوم علماء الكلام على الفقه والفقهاء.
(8) إمام الحرمين: عبدالملك بن عبدالله بن يوسف بن عبدالله بن يوسف (419-478هـ) له ترجمة في: سير أعلام النبلاء (18-468).
(9) صون المنطق ص 183.
(10) سير أعلام النبلاء (18-474).
(11) أحمد بن سنان بن أسد بن حبان القطان (ت 256هـ) كان إماما بارعا صنف المسند، وكان يقول: (ليس في الدنيا مبتدع إلا ويبغض أصحاب الحديث، وإذا ابتدع الرجل بدعة نزعت حلاوة الحديث من قلبه) له ترجمة في: السير (2/244) ، التهذيب (1/34).
(12) شرف أصحاب الحديث ص 56، وانظر: اختلافات المحدثين والفقهاء في الحكم على الحديث ص 15-17.
(13) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد للصنعاني. ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/9.وانظر: ضوابط الرواية عند المحدثين ص 21-23.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (11)
التعريف بتاريخ السنة ومناهج المحدثين
أولا : معنى تاريخ السنة :
التاريخ لغة : مأخوذ من الفعل (أرخ) يقال : أرخ الكتاب :حدد تاريخه، وأرخ الحادث ونحوه : فصل تاريخه وحدد وقته(1).
والتاريخ اصطلاحا : فن يبحث فيه عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيت،بل عما كان في العالم، وموضوعه : الإنسان والزمان(2).
ومن خلال هذا التعريف للتاريخ، يمكننا تعريف (تاريخ السنة) بأنه : (الأدوار التي تقلبت فيها السنة أو المراحل التي مرت بها من لدن صدورها عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم إلى أن وصلت إلينا : من حفظ في الصدور، وتدوين في الصحف، وجمع لمنثورها، وتهذيب لكتبها، ونفي لما اندس فيها، واستنباط من عيونها، وتأليف بين كتبها، وشرح لغامضها... إلى غير ذلك مما يعرفه القائمون على خدمتها، والعاملون على نشر رايتها)(3).
ثانيا : معنى مناهج المحدثين.
في اللغة : المناهج جمع منهج،والمنهج – كما يقول أهل اللغة – هو الطريق أو السبيل الواضحة البينة، والمناهج والنهج : كالمنهج(4).
قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) [ المائدة /48 ]. أي سبيلا وسنة.
في الاصطلاح : الطرق أو السبل التي سلكها المحدثون في رواية الأحاديث وتصنيفها بحسب شروط معينة، والتعليق عليها.
ويدخل في قولنا : (رواية الأحاديث) طرق التحمل والأداء الشفوية والكتابية، وزدنا (تصنيفها) في التعريف على قولنا (رواية الأحاديث) لأن الرواية قد لا تكون تصنيفا، كرواية الصحابة والتابعين رضي الله عنهم قبل بدء التصنيف.
ثم إن قولنا (تصنيفه) يشمل مناهج التصنيف العامة، أي أنواع المصنفات في الحديث النبوي كالجوامع والسنن والمسانيد والمعاجم.
وقلنا (بحسب شروط معينة) لتدخل الصفات التي يلتزمها كل محدث في رواة الأحاديث التي يختارها لكتابة، وفي الوجه الذي يروي به كل راو عن الآخر.
وقلنا و (التعليق عليها) لتدخل الفوائد الفقهية والإسنادية التي يبرزها أو يشير إليها كل واحد من المحدثين. (أي المنهج الخاص الذي يختص به كل محدث عن أمثاله).
وهذا الشمول في التعريف أليق بمناهج المحدثين،كما أنه أوفى بالغرض من الاقتصار على المناهج في التأليف، سواء المناهج العامة في ترتيب الأحاديث،أو الخاصة الفقهية والفنية، لأن الشمول الذي ذكرناه يسلط الضوء على مناهج الرواية، وقد غفل عنها كثيرون،مع أنها ركن في معرفة انتقال الحديث عبر حلقات الإسناد انتقالا محكما محكوما بقواعد وضوابط دقيقة، تكفل سلامة النص في هذا الانتقال، وتحقق اتصال السند، كما تبين حال الراوي من مقابلة طريقته في الأداء للحديث بطريقة تلقيه لهذا الحديث،من حيث العدالة أو اختلالها،ومن حيث التوافق الصريح بينهما، أو التدليس في الأداء بما يوهم طريقة عالية في تلقي الحديث سوى التي أخذ بها الحديث، وغير ذلك(5).
(1) المعجم الوسيط (1/13).
(2) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 7.
(3) انظر : مفتاح السنة للخولي ص 5-6.
(4) انظر : النهاية في غريب الحديث (4/185)، مختار الصحاح ص 681.
(5) انظر : مناهج المحدثين العامة للدكتور نور الدين عتر ص 9-10، مناهج المحدثين العامة والخاصة للدكتور علي بقاعي ص 20.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (12)
مناهج المحدثين العامة والخاصة:
ومن هذا يتبين للقارئ أن مناهج المحدثين قسمان: مناهج عامة، ومناهج خاصة.
أما المناهج العامة: فهي الطرق التي يسير على كل منها جماعة من المحدثين، مثل كتب: المسانيد، والجوامع، والسنن، والمعاجم، وغير ذلك.
وأما المناهج الخاصة: فهي كل طريقة يختص بها المحدث عن غيره مما هو على طريقته العامة.
مثال ذلك: صحيحا البخاري ومسلم، يشتركان في المنهج العام للتصنيف، لأن كلا منهما مرتب على الموضوعات. ثم يستقل البخاري بمنهجه الخاص في الاعتناء بفقه الحديث،وإفادته هذا الفقه بواسطة التراجم، أي عناوين الأبواب،وما تفرع على ذلك من تقطيع للأحاديث وتفريقها في مواضع متعددة.
ويستقل مسلم بالاعتناء بصنعة الإسناد، وما ترتب عليه من فوائد، فيصدر الباب برواية الحديث عن الثقات المتقنين، ثم يرويه عمن دونهم، ويجمع طرق الحديث وشواهده في موضع واحد، يشير بذلك إلى فوائد في السند والمتن كما ذكر في مقدمة صحيحه.وهكذا نجد لكل كتاب من الأصول الستة، أو المصادر المشهورة منهجا خاصا تفيد معرفته الكثير(1).
علاقة مناهج المحدثين بتاريخ السنة:
مناهج المحدثين شيء ملازم ومقارن ومصاحب للسنة النبوية في كل أدوارها وجميع مراحلها، فقد كان لأهل كل عصر من عصور السنة، وكل دور من أدوارها مناهجهم الخاصة في خدمة السنة والذب عنها حسبما أملته طبيعة العصر، واقتضته ظروف المرحلة، كما ستقف على ذلك لاحقا بمشيئة الله تعالى.
فوائد دراسة تاريخ السنة ومناهج المحدثين
لدراسة تاريخ السنة ومناهج المحدثين فوائد عديدة،نذكر منها:
1- معرفة المراحل والأدوار التي مرت بها السنة منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم وإلى وقتنا هذا.
2- معرفة الدقة المنهجية التي أحاطت بها هذه الأمة رواية أحاديث نبيها صلى الله عليه وسلم، لتأمن عليه الخطأ والتحريف في أثناء تناقله بين الرواة، الأمر الذي يورثنا الثقة بالسنة، ويجعلنا نطمئن إلى حفظ هذا الدين، تصديقا لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [سورة الحجر /9].
3- إمكان الرد على دعاة الغزو الفكري من المستشرقين والمبشرين وكل من قلدهم،وسار في فلكهم ممن غرهم بريق الثقافة الغربية، في زعمهم: أن السنة النبوية لا يوثق بها،ولا يعتمد عليها في التشريع الإسلامي بسبب ما طرأ عليها من التحريف والوضع، وذلك ببيان الجهود التي بذلها المحدثون لحماية وصيانة السنة من هذا التحريف والوضع.
4- الإطلاع على منهج المحدثين في التأليف، والتصنيف، والنقد، ومكانة هذا المنهج بين المناهج الحديثة التي يدل بها دعاة المدنية الحاضرة الآن.
5- الوقوف على دقة المنهجية العلمية التي اتبعها علماء الحديث، في الانتقاء والتصنيف، وأنهم لم يوردوا الأحاديث في كتبهم الأصول كيفما اتفق لأحدهم،بل كانوا يضعون نصب أعينهم هدفا، وقواعد يراعونها، فيما عرف بشروط الأئمة.
6- التمييز بين المناهج المقبولة في الرواية وغير المقبولة، وشروط القبول للمقبولة، ولذلك أهميته في مراتب الرواة في الجرح والتعديل، وفي الأسانيد اتصالا وانقطاعا، وفي الأحاديث قبولا أو رداً.
7- التعرف على مناهج المحدثين في اختيار الأحاديث وترتيبها بالنسبة إلى بعضها يفيدنا كثيرا في معرفة الناسخ من المنسوخ،والراجح من المرجوح، وطرق الجمع بين الأحاديث المختلفة، وشرح الغريب، وتمييز المدرج من الحديث وذلك بمقارنة الروايات ببعضها، كما يفيد فوائد فقهية كبيرة تؤخذ من تراجم الأبواب.
8- التعرف على أشهر المحدثين المصنفين، وما لهم من فضل في خدمة الحديث النبوي، وسيرتهم التي هي قدوة للمقتدين.
9- دفع التوهم للقدح في بعض الأئمة، وخصوصا البخاري ومسلما شيخي المحدثين رضي الله عنهم، وهذا يطرح بالتالي قضايا يجب على أهل الاختصاص بالحديث أن يعالجوها ويحلوا مشكلاتها، فقد وقع أناس في الشبهة في أحاديث صححها أئمة الحديث، بسبب البعد عن مناهج المحدثين الفنية في إيراد الحديث وسياق أسانيده وشروطهم، فضلا عن ضعف نفوس البعض، وفضلا عن أغراض العداوة للإسلام وللحديث النبوي، التي تستغل جهل المثقف المسلم، بل جهل كثيرين من طلبة العلم وحملته بمناهج المحدثين وشروطهم ومقاصدهم الدقيقة في كتبهم.
10- دراسة مناهج المحدثين تساعد على تنمية التفكير العلمي والمنهج لدى الدرس، وتكسب الدرس مهارة في البحث، وتوجد عنده روح الإبداع والرغبة في التطوير وفق أسس علمية مدروسة ومناهج دقيقة(2).
(1) انظر: مناهج المحدثين العامة ص 10،40.
(2) انظر: مناهج المحدثين العامة للدكتور نور الدين عتر ص 22-23، شفاء الصدور للدكتور السيد نوح ص 30، مناهج المحدثين العامة والخاصة للدكتور علي بقاعي ص 20-23.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (13)
أهم المصنفات في تاريخ السنة ومناهج المحدثين
لا يوجد في المصنفات القديمة مصنف يجمع بين دفتيه جميع المسائل المتصلة بتاريخ السنة ومناهج المحدثين، وإنما توجد مسائل متفرقة ومتناثرة لهذا العلم عولجت من خلال:
1- حديث المؤلف عن منهجه في كتابه في مقدمة كتابه كما في صحيح مسلم، أو ختامه كما في علل الترمذي الصغير الموجود في آخر سننه، أو في بحث مفرد كما في رسالة أبي داود لأهل مكة.
2- الكتابة عن شروط الأئمة في كتبهم، ككتاب " شروط الأئمة " لابن منده(395 هـ) وكتاب " شروط الأئمة الستة " للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي(507هـ) وكتاب " شروط الأئمة الخمسة " للإمام أبي بكر محمد بن موسى الحازمي(584هـ).
3- الكتابة عن خصائص بعض الكتب وختمها، ككتاب(خصائص المسند) للحافظ أبي موسى المديني(581 هـ) وكتاب(المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد) للإمام الجزري(832 هـ) وكتاب (عمدة القارئ والسامع في ختم الصحيح الجامع) للإمام السخاوي (902هـ) وكتاب (بغية الراغب المتمني في ختم النسائي رواية ابن السني) للسخاوي أيضا.
4- مقدمات الشروح التي كتبت على كتب الحديث، مثل: (هدي الساري مقدمة فتح الباري) للحافظ ابن حجر العسقلاني، ومقدمة (فتح الملهم شرح صحيح مسلم) للشيخ شبير أحمد العثماني، ومقدمة (تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي) للمباركفوري، وهي مقدمات فياضة.
5- بحوث في مصادر علوم الحديث، لمناسبة التعريف بكتاب من كتب الحديث المهمة الستة أو غيرها، حين يأتي ذكره في هذا المؤلف، كما في (علوم الحديث) لابن الصلاح، والنكت عليه للحافظ ابن حجر، وكتاب (فتح المغيث) للسخاوي، و (تدريب الراوي) للسيوطي.
ثم جاء العصر الحديث فرأى العلماء مسيس الحاجة إلى التعريف بأئمة الحديث ومناهجهم في مؤلفاتهم تعريفا للعالمَ بعظمة الجهود التي بذلها العلماء الأئمة لحفظ الحديث النبوي، وصيانة السنة، وتمييز صحيحها من سقيمها، فكانت الكتابات المتعددة في هذا المجال، منها ما يتعلق بمناهج المحدثين على وجه العموم، ومنها ما يتعلق بمنهج بعض كتب السنة، ومنها ما يتعلق بمنهج المحدثين في فترة زمنية معينة وهكذا ومن أهم هذه الكتب:
1- الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة، للشيخ الكتاني.
2- الحطة في ذكر الصحاح الستة للقنوجي.
3- الحديث والمحدثون، للشيخ محمد أبو زهرة.
4- أعلام المحدثين. للشيخ محمد أبي شهبة.
5- البخاري محدثا وفقيها، للدكتور الحسيني هاشم.
6- أئمة الحديث النبوي، للدكتور الحسيني هاشم.
7- جامع الترمذي والموازنة بينه وبين الصحيحين، للدكتور نور الدين عتر.
8- سنن أبي داود السجستاني، للدكتور عبدالمنعم نجم.
9- سنن الدارمي، للدكتور محمد عويضة.
10- مصنف عبدالرزاق، للدكتور إسماعيل الدفتار.
11- الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين للدكتور أحمد محرم الشيخ ناجي.
12- مكانة الصحيحين، للدكتور خليل ملا خاطر.
13- السنة قبل التدوين، للدكتور محمد عجاج الخطيب.
14- تدوين الحديث، للعلامة السيد مناظر أحسن الكيلاني.
15- الإمام مسلم ومنهجه في صحيحه، للدكتور محمد عبدالرحمن طوالبة.
16- توثيق السنة في القرن الثاني الهجري، أسسه واتجاهاته، للدكتور رفعت فوزي.
17- السنة النبوية وعلومها، دراسة تحليلية للسنة النبوية وعلومها في أعظم عصور التدوين، للدكتور أحمد عمر هاشم.
18- صحائف الصحابة وتدوين السنة النبوية المشرفة، لأحمد عبدالرحمن الصويان.
19- السنة النبوية، مكانتها، عوامل بقائها، تدوينها. للدكتور عبدالمهدي عبدالهادي.
20- شفاء الصدور في تاريخ السنة ومناهج المحدثين للدكتور السيد نوح.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (14)
أطوار تاريخ السنة (1-7)
عاشت السنة النبوية منذ صدرت عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم إلى أن وصلت إلينا – نحن المتأخرين – عدة عصور مختلفة، وهاك تأريخاً دقيقا لكل عصر من هذه العصور المختلفة وذلك على النحو التالي:
السنة في عصر النبوة:
لقيت السنة النبوية في عصر النبوة عناية تامة،واهتماما كبيرا،بحيث أثمر ذلك أموراً ثلاثة:
الأول: الصيانة والحفظ: على معنى أن السنة جمعت في عهده صلى الله عليه وسلم وحوفظ عليها، بحيث لم يضع منها شيء أبدا.
الثاني: الذيوع والانتشار: على معنى أنها لم تنحصر في مكان بعينه كالمدينة أو مكة مثلا،وإنما انتشرت في سائر أنحاء شبه الجزيرة العربية بل تعدت شبه الجزيرة العربية إلى سائر الأقطار الأخرى المجاورة.
الثالث: تأسيس المنهج العلمي للرواية.
وقد كانت هناك عوامل ساعدت على تحقيق هذه الأمور،وهذا ما سنتناوله بشيء من التحليل والتفصيل.
أولا:عوامل صيانة السنة وحفظها:
إن عوامل صيانة السنة وحفظها هي بعينها تلك العوامل اللازمة لنجاح أية تجربة علمية، فنجاح أية تجربة علمية يحتاج – كما يقرر التربويون،وعلما ء النفس –فضلا عن الإمكانيات المادية: إلى ثمانية عوامل، أربعة منها في المعلم وهي:
1- أن يكون على درجة عالية من الأخلاق بحيث يقترب الطلاب منه فيتمكن من غرس الفضيلة في نفوسهم بفعله وسلوكه قبل أن يغرسها فيهم بقوله وكلامه.
2- وأن يكون متمكنا من مادته العلمية، بحيث يستطيع أن يعطي الطلاب التصور الصحيح لها، وإلا ففاقد الشيء لا يعطيه.
3- وأن يكون محبا لمادته العلمية، مخلصا لها،بحيث يضحي- في سبيلها –بوقته وراحته.
4- وأن يكون ذا منهج صحيح في التربية والتعليم، كيلا يضيع الوقت سدى.
وواحدة منها في المادة العلمية، وهي:
5- أن تكون مثمرة، ومفيدة، ومهمة في حياة الفرد والجماعة.
وثلاثة منها في الطالب، وهي:
6- أن يدرك أهمية، وفائدة، وثمرة ما يتعلمه،ليقبل عليه بهمة ونشاط.
7- وأن تكون هناك مشاركة عامة من جميع أبناء المجتمع – رجالا، ونساء، صغاراً وكباراً – في طلب العلم.
8- وأن يكون هذا الطالب صاحب منهج صحيح في التلقي، والسماع، ليعي، ويحفظ كل ما يصل إلى سمعه.
هذه العوامل بعينها توافرت للسنة في عصر النبوة،وبالتالي ساعدت على حفظها وصيانتها.(1)
(1) شفاء الصدور في تاريخ السنة ومناهج المحدثين ص 159-161.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (15)
أطوار تاريخ السنة (2-7)
* أما العامل الأول: وهو أن يكون المعلم على درجة عالية من الأخلاق، بحيث يقترب الطلاب منه،فيتمكن من غرس الفضيلة في نفوسهم بفعله وسلوكه قبل أن يغرسها فيهم بقوله وكلامه – فقد تمثل بصورة واضحة، وجلية في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحسبنا في ذلك ثناء الله عليه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [ سورة القلم/ 4 ]. وقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [ سورة آل عمران / 159 ].
وقد وصفه المحيطون به من أصحابه وغيرهم:بأنه – صلى الله عليه وسلم – كان على درجة عالية من الأخلاق.
* سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: (لم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا صخابا(1) في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو، ويصفح)(2).
* وقال سعد بن هشام بن عامر: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين: أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن ؟ قلت: بلى، قالت: (فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن)(3).
وعن أبي الدرداء قال: سألت عائشة – رضي الله عنها – عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه)(4).
وعن عروة، عن عائشة أنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها)(5).
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا، ولا متفحشا، وكان يقول: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقا))(6).
وقال أنس بن مالك: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، فربما تحضره الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينضح،ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقوم خلفه، فيصلي بنا، وكان بساطهم من جريد النخل)(7).
وهكذا دفعت هذه الأخلاق الكريمة الصحابة أن يقتربوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظوا كل ما يصدر عنه ليقتدوا وليتأسوا به.
(1) الصخاب: بالصاد المهملة، وفي بعض الروايات، بالسين المهملة هو: كثير الصياح والضجيج، انظر النهاية 2/152، 354.
(2) الحديث أخرجه الترمذي في السنن: كتاب البر والصلة رقم (2016) (هذا حديث حسن صحيح). وأحمد في المسند 6/174، 236، 246.
(3) الحديث أخرجه مسلم في: الصحيح، كتاب الصلاة المسافرين وقصرها: باب جامع صلاة الليل، ومن نام أو مرض رقم (139). وأبو داود في السنن: كتاب الصلاة: باب في صلاة الليل 1/308-309.والنسائي في السنن: كتاب قيام الليل: باب قيام الليل 3/162-163.
(4) الحديث أورده ابن كثير في: البداية والنهاية: باب ذكر أخلاقه، وشمائله الطاهرة صلى الله عليه وسلم 6/35 قائلا: (وقال يعقوب بن سفيان، ثنا سليمان، ثنا عبدالرحمن،ثنا الحسن بن يحيى، ثنا زيد بن واقد، عن بشر بن عبيدالله، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء، عن عائشة... الحديث).
(5) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب المناقب: باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 4/230، وكتاب الأدب: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا وكان يحب التخفيف،واليسر على الناس 8/36-37، وكتاب الحدود: باب إقامة الحدود، والانتقام لحرمات الله 8/198 -199 من وجهين عن مالك ومن وجه عن عقيل،كلاهما عن ابن شهاب، عن عروة ابن الزبير، عن عائشة به.
ومسلم في الصحيح: كتاب الفضائل: باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته رقم (77-78).
(6) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب المناقب: باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 4/230، وكتاب فضائل الصحابة: باب مناقب عبدالله بن مسعود 5/34-35 وكتاب الأدب: باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا، ولا متفحشا، وباب حسن الخلق والسخاء 8/15، 16 من عدة أوجه عن مسروق، عن عبدالله بن عمرو به، وبنحوه.
ومسلم في الصحيح: كتاب الفضائل: باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم رقم (68).
(7) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الأدب: باب الكنية للصبي وقبل أن يولد للرجل 8/55 من حديث أنس به، ولكن بزيادة: (وكان لي أخ يقال له أبو عمير – قال أحسبه فطيما- وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير، ما فعل النغير ؟) قبل قوله: (فربما تحضره الصلاة... إلخ. ومسلم في الصحيح: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب جواز الجماعة في النافلة رقم (267).
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (16)
أطوار تاريخ السنة(3-7)
* وأما العامل الثاني:
وهو أن يكون المعلم متمكنا من مادته العلمية بحيث يستطيع أن يعطي الطلاب التصور الصحيح لها، وإلا ففاقد الشيء لا يعطيه، فقد تمثل بجلاء ووضوح أيضا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان المرجع الأول للمسلمين في أحكام القرآن، وفي سائر تعاليم الإسلام، وفي تاريخ الأمم الغابرة، بل وفي معارف أهل الكتاب.
وكيف لا يكون كذلك، والله عز وجل هو الذي صنعه على عينه، وهو الذي علمه، فقال: (.... وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). [ سورة النساء /113 ].
* وأما العامل الثالث:
وهو أن يكون المعلم محبا لمادته العلمية، مخلصا لها، بحيث يضحي في سبيل نشرها بوقته وراحته، فقد تمثل فيه صلى الله عليه وسلم أيضا على نحو لا نظير له في دنيا الناس ولا مثيل، إذ كان صلى الله عليه وسلم محبا لرسالته، متفانيا في سبيل نشرها إلى حد أنه عرضت عليه كل وسائل الإغراء من ملك، وسيادة، ومال، على أن يترك هذه الدعوة فأبى، وإلى حد أن عمه أبا طالب طلب منه تحت ضغوط أهل مكة أن يترك هذا الأمر، وإلا تخلى عن حمايته ونصرته، فلم يستجب لهذا الطلب، وقال قولته المشهورة: (والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار)(1).
وهكذا ظل صلى الله عليه وسلم مواظبا على الجد، والاجتهاد في نشر هذه الدعوة، وتبليغها للناس، حتى تمت كلمة ربه الحسنى، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
* وأما العامل الرابع:
وهو أن يكون المعلم ذا منهج سليم في التربية والتعليم، كيلا يضيع الوقت هباء (أو سدى) فقد تحقق فيه صلى الله عليه وسلم بصورة جعلت التربويين في العصر الحديث يحاكونها، وينسجون على منوالها.
وقد قام هذا المنهج على الأسس التالية:
1- الترغيب في العلم، والحث عليه: ببيان فضله، وفضل العلماء والمتعلمين.
إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)(2).
ويقول: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)(31).
وفي رواية أخرى: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده)(4).
(لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)(5)... إلى آخر ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن.
(1) الحديث أورده الهيثمي في: مجمع الزوائد 6/15 قائلا:رواه أبو يعلى باختصار يسير من أوله، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.
(2) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب العلم: باب من يرد الله به خيرا يفقه في الدين 1/27-28.
(3) الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم 2/285 من حديث داود بن جميل، عن كثير بن قيس قال: كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل، فقال: يا أبا الدرداء،إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جئت لحاجة، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقا يطلب فيه علما.... الحديث).
والترمذي في السنن: كتاب العلم: باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة رقم 2682 من حديث محمود بن خداش البغدادي، عن محمد بن يزيد الواسطي عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق... ثم ساق الحديث وعقب عليه بقوله: " ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل، هكذا حدثنا محمود بن خداش بهذا الإسناد وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن الوليد ابن جميل، عن كثير بن قيس، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح من حديث محمود بن خداش.
(4) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر رقم 38، 39 من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وأبو داود في السنن: كتاب الصلاة: باب في ثواب قراءة القرآن 1/336 من حديث أبي هريرة
والترمذي في السنن: كتاب القراءات: 2945 من حديث أبي هريرة مطولا.
وابن ماجه في السنن: المقدمة: باب فضل العلماء، والحث على طلب العلم رقم 225.
(5) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح:كتاب العلم: باب الاغتباط في العلم والحكمة 1/28.
ومسلم في الصحيح: كتاب صلاة المسافرين وقصرها: باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، رقم 266، 267، 268 من حديث ابن عمر، وابن مسعود.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (17)
أطوار تاريخ السنة(4-7)
1- تعهدهم بالعلم والموعظة بين الحين والحين مخافة أن يسأموا أو يملوا.
يقول عبدالله بن مسعود – رضي الله تعالى عنه -: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا(1) بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا)(2).
2- مخاطبة كل قوم بلهجتهم حتى يفهموا ويعوا عنه صلى الله عليه وسلم:
يقول كعب بن عاصم الأشعري – رضي الله تعالى عنه – سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس من امبر امصيام في امسفر)(3) يريد ليس من البر الصيام في السفر، فأبدل اللام ميما على لغة الأشعريين من أهل اليمن.
3- إعادة كل كلمة ثلاثا حتى تفهم عنه – صلى الله عليه وسلم – وتحفظ:
يقول أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه -: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم: سلم عليهم ثلاثاً)(4).
4- الفصل بين كلمة وأخرى كيلا يقع تحريف أو تغيير في المنقول عنه – صلى الله عليه وسلم –.
تقول عائشة رضي الله عنها – وقد سمعت أبا هريرة لا يفصل في كلامه بين كل جملة وأخرى -: (إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه، وفي رواية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم)(5).
(1) معنى يتخولنا بالموعظة أي: يتعهدنا من قولهم فلان خائل مال، وهو الذي يصلحه ويقوم به، ويتعهده، انظر النهاية 2/6، وفتح الباري لابن حجر 1/162-163.
(2) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب العلم: باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كيلا ينفروا، وباب من جعل لأهل العلم أياما معلومة 1/27.
ومسلم في الصحيح: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: باب الاقتصاد في الموعظة رقم 82، 83 من حديث عبدالله بن مسعود.
(3) الحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد في المسند 5/434 قال ثنا عبدالرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن صفوان بن عبدالله، عن أم الدرداء، عن كعب ابن عاصم الأشعري – وكان من أصحاب السقيفة – قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.. وساق الحديث.
(4) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح:كتاب العلم: باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه 1/34-35.
وأبو داود في السنن: كتاب العلم: باب تكرير الحديث (2/287) من حديث أبي سلام، عن رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث حديثا أعاده ثلاث مرات.
والترمذي في السنن: كتاب الاستئذان: باب ما جاء في كراهية أن يقول عليك السلام مبتدئا رقم 2723 من حديث أنس بن مالك، وعقب عليه بقوله: (هذا حديث حسن صحيح غريب).
(5) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب فضائل الصحابة: (باب من فضائل أبي هريرة رضي الله عنه 4/1940 رقم 160 من حديث ابن شهاب: أن عروة بن الزبير حدثه: أن عائشة قالت: ألا يعجبك أبو هريرة ؟ جاء فجلس إلى جنب حجرتي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم يسمعني ذلك، وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم. وكتاب الزهد: باب التثبت في الحديث 4/2298 رقم 71 من حديث هشام بن عروة عن أبيه قال: كان أبو هريرة يحدث ويقول: اسمعي يا ربة الحجرة، اسمعي يا ربة الهجرة وعائشة تصلي، فلما قضت صلاتها قالت لعروة: ألا تسمع إلى هذا ومقالته آنفا: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه).
وأبو داود في السنن:كتاب العلم: باب في سرد الحديث 2/287-288 من حديث ابن شهاب، عن عروة باللفظين المذكورين عند مسلم.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (18)
أطوار تاريخ السنة(5-7)
1- إقناع السائل: أحيانا بالقياس، وأحيانا بضرب المثل.
فمن الأول: قصة الرجل الفزاري الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن امرأتي ولدت غلاما أسود، وإني أنكرته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل! قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟(1) قال: إن فيها لورقا، قال: فأنى ترى ذلك جاءها، قال: يا رسول الله: عرق نزعها، قال: ولعل هذا عرق نزعه)(2).
ومن الثاني: قصة الرهط الذين سألوه صلى الله عليه وسلم قائلين:(ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعونه، قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم، القائم، القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى)(3).
2- الرفق والرحمة بالطلاب، والتيسير عليهم:
وقصته صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد مشهورة، إذ لما زجره الناس، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه، وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين،ولم تبعثوا معسرين)، فلما انتهى الرجل من بوله دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه في رفق قائلا له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول،ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل ،والصلاة، وقراءة القرآن)(4).
3- استعمال العبارات الرقيقة التي تستميل القلوب وتؤلفها، وترغبها في التعلم والتنفيذ والتطبيق.
يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه – وهو يعلمهم آداب البول والغائط -: (إنما أنا لكم مثل الوالد، أعلمكم، إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء،فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستنج بيمينه....)(5).
(1) الأورق: هو الأسمر أو هو الأسود الذي ليس بصاف،انظر النهاية لابن الأثير 4/205. وزهر الربى على المجتبى للسيوطي 6/146.
(2) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح:كتاب الطلاق: باب إذا عرض بنفي الولد 7/68-69، وكتاب الحدود:باب ما جاء في التعريض 8/215، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمها ليفهم السائل 9/125. ٍ
ومسلم في الصحيح: كتاب اللعان:باب منه 2/1137-1138 رقم 18، 20.
(3) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد والسير 4/18 من حديث أبي هريرة بلفظ: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد،قال: لا أجده، قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك).
ومسلم في الصحيح: كتاب الإمارة: باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى 3/1498 -1499 رقم 110.
(4) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الوضوء:باب صب الماء على البول في المسجد،وباب يهريق الماء على البول 1/65، وكتاب الأدب: باب الرفق في الأمر كله، وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم يسروا ولا تعسروا 8/14،37 من حديث أبي هريرة، وأنس بن مالك.
ومسلم في الصحيح: كتاب الطهارة: باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد 1/236-237 رقم 98، 99، 100 من حديث أنس بن مالك.
(5) الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الطهارة: باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة 1/2-3.
* والنسائي في السنن: كتاب الطهارة: باب النهي عن الاستطابة بالروث 1/35-36.
* وابن ماجه في السنن: كتاب الطهارة: باب الاستنجاء بالحجارة، والنهي عن الروث والرمة 1/114رقم 313.
وأحمد في المسند 2/247، 250 كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (19)
أطوار تاريخ السنة(6-7)
1- التوقف عن الفتوى فيما لا يعلم جوابه – صلى الله عليه وسلم – من المسائل:
فقد جاء في حديث جبريل: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن موعد الساعة قائلا متى الساعة؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟)(1).
2- طرح بعض المسائل على السامعين بغية استثارة قرائحهم، وشحذ أذهانهم.
إذ جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني: ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي – قال عبدالله بن عمر راوي الحديث – ووقع في نفسي: أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة)(2).
3- تخصيص بعض الناس بمسائل من العلم دون الآخرين، لما يرى فيهم من النبوغ، والتقدم، والفهم مع منعهم من أن يحدثوا العامة بذلك خشية ألا يفهموا فيفتتنوا.
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاذ رديفه على الرحل: قال: يا معاذ بن جبل، قال: لبيك يا رسول الله، وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا، قال: (ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله، أفلا أخبر به الناس فيستبشروا، قال: إذن يتكلوا " وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً)(3).
(1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الإيمان: باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة 1/19-20، وكتاب التفسير: سورة لقمان 6/144، من حديث أبي هريرة. ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب بيان الإيمان، والإسلام، والإحسان 1/37-40 رقم 1،2، 3، 4، 5، 6، 7، من حديث عمر ابن الخطاب، وأبي هريرة.
(2) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب العلم: باب قول المحدث حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا، وباب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم 1/23-24، وكتاب البيوع: باب بيع الجمار وأكله 3/103، وكتاب الأطعمة: باب أكل الجمار، وباب بركة النخل 7/103-104، وكتاب الأدب: باب مالا يستحيا من الحق للتفقه في الدين 8/36 من حديث عبدالله بن عمر. ومسلم في الصحيح: كتاب صفات المنافقين 4/2164-2166 رقم 63، 64 من حديث عبدالله بن عمر.
(3) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب العلم: باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا 1/44. ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب الدليل على أن من مات على التوحيد داخل الجنة قطعا 1/61 رقم 53، كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (20)
أطوار تاريخ السنة(7-7)
1- إرشاد السائل إلى ما ينبغي أن يسأل عنه، بجوابه بما لا يتفق مع السؤال.
عن أنس – رضي الله تعالى عنه – (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فحذر الناس، فقام رجل، فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ فبسر(1) رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه،فقلنا له: اقعد، فإنك قد سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما يكره، قال: ثم قام الثانية، فقال: يا رسول الله: متى الساعة؟ قال: فبسر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه أشد من الأولى، فأجلسناه، قال: ثم قام الثالثة، فقال يا رسول الله: متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك: ما أعددت لها؟ قال: أعددت لها حب الله ورسوله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس فإنك مع من أحببت)(1).
فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا لم يجبه عن موعد الساعة، لأن ذلك غيب، وإنما لفت نظره إلى أنه ينبغي أن يسأل عما ينجي من أهوال الساعة، فذلك هو ما يجب أن يهتم به العقلاء جميعا.
2- إجابة السائل عما سأل، وزيادة أمور أخرى لها صلة بسؤاله، يستعرض له في المستقبل وربما تعطله، فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كله توفيرا لجهده ووقته.
فقد جاء عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً سأله ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويل ولا البرنس(3)، ولا ثوبا مسه الورس(4) أو الزعفران فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين(5).
3- دوام الجلوس مع أصحابه – صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم – لاسيما الفقراء والمساكين، وهذا وحده كاف في التربية والتعليم.
فقد قال الله عز وجل لنبيه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...) [ سورة الكهف /28 ] .
ذلكم هو منهجه صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم،وقد أثمر ذلك حفظا وصيانة لكل ما يتصل بحياته صلى الله عليه وسلم من الأقوال، والأفعال، والتقريرات، والصفات ونحوها.
(1) فبسر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه أي: قطب، وعبس في وجهه انظر النهاية في غريب الحديث 1/78.
(2) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب مناقب عمر بن الخطاب 5/14-15، وكتاب الأدب : باب علامة حب الله عز وجل 8/49، وكتاب الأحكام: باب القضاء والفتيا في الطريق 9/80-81. ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة والآداب: باب المرء مع من أحب 4/2032-2033 رقم 161-163.
(3) البرنس: هو كل ثوب رأسه منه ملتصق به من دراعة أو جبة أو غيرهما وقيل هو: قلنسوة أو طاقية طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/75.
(4) الورس : هو نبت أصفر يصبغ به، انظر: النهاية 4/204.
(5) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب العلم: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله 1/45، وكتاب الصلاة: باب الصلاة في القميص، والسراويل،والتب ان، والقباء 1/102، وكتاب الحج: باب ما لا يلبس المحرم من الثياب 2/168-169، وكتاب اللباس: باب لبس القميص، وباب البرانس، وباب السراويل، وباب العمائم 7/184، 186-187. ومسلم في الصحيح: كتاب الحج: باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح 2/834-835 رقم 1، 2.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (21)
عوامل صيانة السنة وحفظها(1-3)
العامل الخامس:
وهو أن تكون المادة العلمية نافعة ومفيدة في حياة الفرد والجماعة، كي يكون هناك حماس يدفع إلى التضحية وتحمل المشاق في سبيل تحصيلها – فقد انطبق على السنة النبوية تمام الانطباق:
· إذ هي مثل القرآن، وصنوه في التشريع، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)(1).
· وهي أيضا المفسرة، والمبينة، والشارحة للقرآن مصداقا لقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [سورة النحل /44-64].
· وهي كذلك تستقل بتشريع أحكام زائدة على القرآن، مصداقا لقوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [سورة النساء / 59].
وقوله: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). [سورة الحشر /7].
ومصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: (...ألا يوشك رجل ينثنى شبعان على أريكته، يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ألا ولا لقطة من مال معاهد إلا أن يستغنى عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروهم(2)، فإن لم يقروهم فلهم أن يعقبوهم بمثل قراهم)(3).
وأما العامل السادس:
وهو أن يدرك الطالب أهمية، وفائدة ما يتعلمه ليقبل على التعليم بهمة ونشاط، مستعذبا التعب، ومستسهلا الصعب – فقد تحقق بجلاء، ووضوح في الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
· إذا كانت تقع لهم حوادث خاصة في أنفسهم، أو في أهليهم، وذويهم ويبحثون عن المخرج،فلا يجدون سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
· وأيضا فالحق تبارك وتعالى أمرهم بالرجوع إليه في كل شيء، وحذر من معصيته ومخالفته قائلا: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [سورة آل عمران /31]. (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة النور: 63].
(1) الحديث أخرجه أبو داود في السنن، كتاب السنة، باب لزوم السنة (رقم 4604)، والترمذي في السنن، كتاب العلم،باب ما نهى عنه أنه يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم (رقم 2663)، وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجه في السنن، المقدمة،باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه (رقم 13)، وابن حبان في صحيحه، رقم (12 الإحسان)، وصححه الحاكم (1/109) وأقره الذهبي.
(2) معنى يقروهم أي: يحسنوا إليهم بأن يقدموا لهم حق الضيافة المشروع، انظر: مختار الصحاح للرازي ص 533.
(3) الحديث سبق تخريجه.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (22)
عوامل صيانة السنة وحفظها(2-3)
عوامل صيانة السنة وحفظها
العامل السابع:
وهو أن تكون هناك مشاركة عامة من الجميع رجالا ونساءاً، صغارا، وكباراً في طلب العلم – فقد تجلى بوضوح في مشاركة النساء للرجال في هذا الأمر .
إذ كانت المرأة تأتي فتسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمور التي تتصل بحياتها، فيجيبها، فإذا لم تفهم أحالها إلى واحدة من أمهات المؤمنين،لتتولى تفهيمها .
كما حدث في قصة المرأة التي سألته – صلى الله عليه وسلم: كيف تتطهر من الحيض، فقال لها: (خذي فرصة(1) ممسكة، فتتبعي بها أثر الدم، فلما لم تفهم، قال: يا عائشة خذيها فعلميها)(2) .
بل لقد طلبت جماعة النساء منه صلى الله عليه وسلم:أن يجعل لهن يوما خاصا بهن في الموعظة، فأجابهن إلى ذلك:
ففي الحديث:أنه جاء نسوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن يا رسول الله ما نقدر عليك في مجلسك من الرجال؟ فواعدنا منك يوما نأتيك فيه، فقال:موعدكن بيت فلان،وأتاهن في ذلك اليوم، ولذلك الموعد . قال – أبو هريرة راوي الحديث –فكان مما قال لهن: ما من امرأة تقدم ثلاثا من الولد تحتسبهن إلا دخلت الجنة، فقالت المرأة منهن أو اثنتان؟ قال أو اثنتان)(3).
(1) الفرصة:قطعة من صوف، أو قطن،أو خرقة ونحوها . انظر: النهاية 3/193.
(2) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الحيض: باب دلك نفسها إذا تطهرت، وباب غسل المحيض 1/85-86، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب الأحكام التي تعرف بالدلائل 9/134-135.
ومسلم في الصحيح: كتاب الحيض: باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم 1/260-261 رقم 60-61.
(3) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح:كتاب العلم: بل هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم 1/36-37، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل 9/124، من حديث أبي سعيد الخدري .
ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة والآداب: باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه 4/2028-2029 رقم 152، 153، من حديث أبي سعيد الخدري .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (23)
عوامل صيانة السنة وحفظها(3-3)
وأما العامل الثامن:
وهو أن يكون الطالب ذا منهج صحيح في التلقي والسماع – فقد تحقق كذلك في الصحابة – رضي الله عنهم – بشكل لا نظير له.
وقام هذا المنهج على الأسس التالية:
1- الحرص الشديد على حضور مجلسه صلى الله عليه وسلم إلى جانب قيامهم بأعمالهم المعاشية من الرعي، أو التجارة، أو الزراعة، أو نحوها، فإن تعذر على بعضهم الحضور تناوبوا فيما بينهم مجلسه صلى الله عليه وسلم.
كما كان يفعل عمر –رضي الله تعالى عنه – مع جاره الأنصاري إذ يقول: (كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم.ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي، وغيره،وإذا نزل فعل مثل ذلك، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته، فضرب بابي ضربا شديدا، فقال: أثم هو؟ ففزعت، فخرجت إليه فقال: قد حدث أمر عظيم، قال: فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقلت: طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري... الحديث)(1).
2- تعليم الشاهد الغائب ما فاته من العلم امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليبلغ الشاهد الغائب)، (نضر أمرءاً سمع منى حديثا، فأداه كما سمعه...الحديث)(2).
ويقول البراء بن عازب – رضي الله تعالى عنه -: (ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدثنا أصحابنا عنه، كانت تشغلنا عنه رعية الإبل)(3).
3- الإنصات التام له صلى الله عليه وسلم كيلا يفوتهم شيء مما يقول: فقد جاء في الخبر: (أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا... الحديث)(4).
4- السؤال عما لم يفهموا، فإذا استحيا بعضهم أمر غيره بالسؤال، كما جاء في حديث على رضي الله تعالى عنه قال: (كنت رجلا مذاء(5)، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال: فيه الوضوء)(6).
5- عدم تنازع الحديث عنده صلى الله عليه وسلم، وإنما حديثهم عنده حديث أولهم، ومن تكلم منهم أنصتوا له، ولم يقاطعوه حتى يفرغ.
فقد جاء الخبر: (أنهم كانوا لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم)(7).
(1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب العلم: باب التناوب في العلم 1/33، وكتاب المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها 3/174-177، وكتاب النكاح: باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها 7/36-38 من حديث عبدالله بن عباس عن عمر بن الخطاب مختصرا أو مطولاً.
ومسلم في الصحيح: كتاب الطلاق: باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: (وإن تظاهرا عليه)2/1108-1110 رقم 31 بمعناه مطولا من حديث ابن عباس عن عمر.
(2) الحديث سبق تخريجه.
(3) الحديث أخرجه أحمد في المسند 4/283 من حديث البراء بن عازب بلفظه، والحاكم في معرفة علوم الحديث: النوع الثالث ص 14، ولفظه عنده (ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحدثنا أصحابنا، وكنا مشتغلين في رعاية الإبل، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعونه من أقرانهم، وممن هو أحفظ منهم، وكانوا يشددون على من يسمعون منه).
(4) الخبر أخرجه الترمذي في الشمايل المحمدية ص 375 بهامش الاتحافات الربانية للشيخ أحمد عبدالجواد الدومي ط التجارية بمصر الأولى 1381هـ، من حيث الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، وابن الأثير في أسد الغابة، باب ذكر صفته وشيء من أخلاقه صلى الله عليه وسلم 1/33 من حديث الحسين بن علي، عن أبيه به.
(5) مذاء أي كثير المذى، والمذى: هو البلل اللزج الذي يخرج من الذكر عند ملاعبة النساء، ولا يجب فيه الغسل، وهو نجس يجب غسله، وينقض الوضوء.
وأما الودي فهو: البلل اللزج الذي يخرج من الذكر بعد البول، وحكمه حكم المذى.
انظر: النهاية في غريب الحديث 4/86، 202-203، والمصباح المنير 3/874-875، 1014.
(6) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب العلم: باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال 1/45، وكتاب الوضوء: باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر 1/55-56، وكتاب الغسل: باب غسل المذى والوضوء منه 1/76.
(7) الخبر أخرجه الترمذي في الشمايل المحمدية ص 375 بهامش الاتحافات الربانية للدومي، وابن الأثير في أسد الغابة 1/33 كلاهما من حديث الحسين بن علي، عن أبيه به.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (24)
عوامل انتشار السنة وذيوعها(1-3)
وكما توافرت عوامل ساعدت على صيانة السنة وحفظها فقد توافرت عوامل كذلك أدت إلى ذيوع السنة وانتشارها، وتتخلص هذه العوامل فيما يلي:
* العامل الأول:
نشاطه صلى الله عليه وسلم، وحده في تبليغ الدعوة ونشر الإسلام: فمنذ اللحظة التي بعث فيها صلى الله عليه وسلم حتى لقي ربه لم يسترح ساعة واحدة بل قضى جميع أوقاته في نشر الدعوة، وتبليغها:
لقد مكث يدعو سرا ً ثلاث سنين، ثم جهر بالدعوة فلما عورض أكثر من مرة توجه إلى الطائف، ولما لم يجد آذانا صاغية بدأ يعرض نفسه على القبائل الوافدة إلى مكة في موسم الحج، حتى قيض الله – عز وجل – له رجالا من أهل المدينة، فحملوه إليها بعد بيعات ثلاثة.
وفي المدينة بدأ مرحلة الجهاد والغزوات حتى دانت الجزيرة كلها، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فكان هذا التحرك المستمر الذي قام به – صلى الله عليه وسلم – عاملا مهما في ذيوع السنة وانتشارها.
* العامل الثاني:
طبيعة الإسلام، ونظامه الجديد: فقد دفعت طبيعة الإسلام ونظامه الجديد الناس إلى البحث والسؤال عنه، وعن أحكامه، وعن أهدافه، وعن رسوله، فإذا ما وقفوا على حقيقة ذلك كله: أسلموا، وانطلقوا إلى قومهم يبلغونهم ما رأوا، ويخبرونهم بما سمعوا.
* العامل الثالث:
نشاط الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم – رجالا ونساء في طلب العلم، وحفظه، وتبليغه، بحيث لم يهدأ لهم بال حتى صارت السنة في كل قلب، وعلى كل لسان، وقد حملهم على هذا النشاط:
أ- تنفيذ أمره – صلى الله عليه وسلم – إذ قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج… الحديث)(1). وقال: (ليبلغ الشاهد الغائب)(2).
ب- الظفر بالثواب الذي ربطه الله عز وجل بتحصيل العلم، وتبلغيه، إذا قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)(3).
ج- الخروج من إثم كتمان العلم: قال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [ سورة البقرة /159-160 ].
(1) الحديث أخرجه البخاري في: الصحيح: كتاب الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل 4/207 من حديث عبد الله بن عمرو، وزاد في آخره: (ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)، والترمذي في السنن: كتاب العلم: باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل 5/40 رقم 6 من 269 حديث عبد الله بن عمرو، وقال عقبه: (هذا حديث حسن صحيح).
(2) الحديث سبق تخريجه.
(3) الحديث سبق تخريجه.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (25)
عوامل انتشار السنة وذيوعها(2-3)
العامل الرابع:
نشاط أمهات المؤمنين في حفظ السنة، وتبليغها، لاسيما ما يتصل بأمر النساء، وقد اشتهرت عائشة – رضي الله تعالى عنها – من بين أمهات المؤمنين بعلمها الغزير، وحرصها على فهم الأحكام، حتى كانت – بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى – محط أنظار طلاب العلم، ومرجعهم في كثير من أمور دينهم.
* العامل الخامس:
ولاته وبعوثه إلى القبائل المسلمة لتبليغها الدعوة، وتعليمها إياها: فقد كانت القبيلة إذا أسلمت تطلب منه صلى الله عليه وسلم من يعلمها ويفقهها، ويقضي بينها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث واحداً أو أكثر من الصحابة يتوسم فيه الفقه، والحكمة ليقوم بهذا الدور، وكان كثيرا ما يوصى هؤلاء بالتيسير، والتبشير، والرفق بالناس.
جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وصاهما قائلا: (ادعوا الناس، وبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا)(1).
وكذلك كان يعلمهم كيفية الدعوة، إذ يقول لمعاذ – لما أرسله إلى اليمن -: (إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم:أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم: أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك: فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)(2).
وكان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يشجع هؤلاء، ويدعو لهم بالتثبيت، والنجاح في مهمتهم.
جاء عن علي – رضي الله تعالى عنه – قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، إنك تبعثني إلى قوم هم أسن مني لأقضى بينهم، قال: إذهب، فإن الله تعالى سيثبت لسانك، ويهدي قلبك)(3).
* العامل السادس:
رسله وكتبه إلى الملوك، والأمراء، ورؤساء القبائل المجاورين يدعوهم إلى الإسلام، إذ بعد صلح الحديبية بدأ صلى الله عليه وسلم يوجه رسله، يحملون كتبه إلى الملوك، والأمراء، ورؤساء القبائل المجاورين يطالبهم فيها بالدخول في الإسلام، حتى انطلق في يوم واحد ستة نفر إلى جهات مختلفة، كل منهم يتكلم بلغة ولهجة القوم الذي بعث إليهم، لقد أرسل صلى الله عليه وسلم رسله إلى قيصر الروم، وإلى أمير بصري، وإلى الحارث ابن أبي شمر أمين دمشق من قبل هرقل، وإلى المقوقس أمير مصر من قبل هرقل، وإلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى المنذر بن ساوي ملك البحرين، كما أرسل رسله وكتبه إلى عمان، واليمامة وغيرها.
وكان هؤلاء الرسل يجيبون عما يسألهم عنه الملوك، والأمراء، ورؤساء القبائل، ويبينون لهم الإسلام، وأهدافه، وغاياته على ضوء ما زودهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوجيه والإرشاد. وكانت هذه الإجابة يسمعها الحاضرون، ويخرجون فينشروها في الناس. فتذاع وتشتهر.
(1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب المغازي: باب بعث أبي موسى، ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع 5/204 -206، وكتاب الأحكام: باب أمر الوالي إذا وجه أميرين 9/87-88. ومسلم في الصحيح:كتاب الأشربة: باب بيان أن كل مسكر خمر 3/1568-1587 رقم 70-71، وكتاب الجهاد والسير: باب في الأمر بالتيسير وترك النفير 3/1358-1359 رقم 6، 7، 8.
(2) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة، وباب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة 2/130، 147، وكتاب التوحيد: باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى 9/140، وكتاب المغازي: باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع 5/205-206.
ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب الدعاء إلى الشهادتين، وشرائع الإسلام 1/50-51 رقم 29، 30، 31.
(3) الحديث أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الأقضية: باب كيف القضاء 2/270. وابن ماجه في السنن: كتاب الأحكام: باب ذكر القضاة 2/774 رقم 2310. وأحمد في المسند 1/88، 136، 149، 156 كلهم من حديث على مرفوعا به.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (26)
عوامل انتشار السنة وذيوعها(3-3)
* العامل السابع:
غزوة الفتح الأعظم: ففي العام الثامن من الهجرة النبوية نقضت قريش صلح الحديبية، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن سار بجيشه إلى مكة،فقوض دعائم الشرك، والوثنية، وهدم الأصنام التي كانت حول الكعبة، ثم قام في الناس خطيبا، فعفا عن أعدائه الذين آذوه واضطهدوه،ثم أعلن كثيرا من أحكام الإسلام: منها:
ألا يقتل مسلم بكافر، وإلا يتوارث أهل ملتين، وألا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها... ألخ، ثم أقبل الناس بعد ذلك يبابعونه، وحمل كل ما سمع إلى أهله وذويه في مكة، وفي غيرها.
* العامل الثامن:
حجة الوداع، فقد خرج صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة من العام العاشر للهجرة إلى مكة المكرمة حاجا ومعتمرا بالناس، وخرجت معه جموع غفيرة جدا من المسلمين بلغت أربعين ألفا، أو تسعين ألفا على خلاف في ذلك.
وعلى جبل عرفات وقف صلى الله عليه وسلم يخطب فيهم، ويرشدهم، ويبين لهم معالم الحلال والحرام، كحرمة دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم، وضرورة أداء الأمانات، ووضع ربا الجاهلية، وإبطاله، ومنع العادات الجاهلية الباطلة... ألخ ما جاء في هذه الخطبة.
ثم تفرق المسلمون كل إلى موطنه، وقد حملوا معهم علما غزيرا إلى أهليهم وذويهم، فبلغوهم إياه تحقيقا وتطبيقا لقوله صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة: (ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فليبلغ الشاهد منكم الغائب).
* العامل التاسع:
الوفود بعد فتح مكة، وحجة الوداع:
إذ بعد فتح مكة أقبلت الوفود من كل أنحاء الجزيرة العربية تبايع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنضوي تحت لواء الإسلام، وكثرت هذه الوفود كثرة عجيبة عقب الفراغ من حجة الوداع.
وكان صلى الله عليه وسلم يرحب بهذه الوفود، ويكرمها، ويعلمها الإسلام، ويزودها بنصائحه وتوجيهاته، بل ربما أقامت عنده هذه الوفود أياما تتعلم منه الإسلام، ثم تعود إلى قبائلها فتبلغها إياه، وقد مضت قصة مالك بن الحويرث في هذا الشأن.
ومن أشهر هذه الوفود: وفد بني سعد بن بكر، وكان وافدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ضمام بن ثعلبة سنة تسع من الهجرة، وكذلك وفد عبد القيس، وأيضا وفد تجيب، وكانوا ثلاثة عشر رجلا ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عز وجل عليهم، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بهم، وأكرم مثواهم... وغير هؤلاء كثير(1).
وهكذا ساعدت العوامل التي ذكرنا على ذيوع السنة وانتشارها بحيث وصلت إلى كل قلب، وجرت على كل لسان.
(1) انظر السنة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب ص 68-74 بتصرف كثير.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (27)
من عوامل العناية بالسنة في عصر النبوة (1-2)
ثالثا: تأسيس المنهج العلمي للرواية:
لم تقتصر العناية بالسنة في العصر النبوي علي الصيانة والحفظ، ولا علي الذيوع والانتشار، بل أسس المنهج العلمي للرواية: تحملا وأداء، وقد وضع أسس هذا المنهج ورسخ معالمه القرآن الكريم والسنة المطهرة، وتتلخص هذه الأسس في الآتي:
أولا:تحريم الكذب.
إن تحريم الكذب يعني فرض الأمانة العلمية من ناحية، وتحريم الخيانة العلمية من ناحية أخري
، ولخطورة الكذب في الرواية جاءت النصوص ظاهرة في الزجر عنه وتغليظ حرمته، حتي إنه جعل من صفات الكافرين والمنافقين، قال الله تعالي: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ....)(1)، وقال تعالي: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِسُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(2).
وروي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)(3).
وحذر رسول الله صلي عليه وسلم من الكذب عليه خاصة، وتوعد الكاذب عليه بمقعد من النار، فقال صلي الله عليه وسلم: (إن كذبا علي ليس ككذب علي أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)(4).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (مـن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)(5).
فهذه الأحاديث تقرر تحـريم الكذب علي النبي صلي الله عليه وسلم، وأنه فاحشـة عظيمة، وموبقة كبيرة، وذلك لعظم مفسدته، فإنه يصير شرعا مستمرا إلي يوم القيامة، بخلاف الكذب علي غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة، ولذا ناسب أن تكون عقوبة الكاذب فيه أغلظ وأبلغ، حماية لحياض الشريعة واحتياطا لسنة صاحبها عليه الصلاة والسلام.
والمقصود من هذا: أن تغليظ الكذب علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وتشديد عقوبته يعد الأساس الأول والعامل القوي الذي كان يدفع المسلمين إلي تحري الصدق فـي رواية الحديث وتحاشي الكذب علي رسول الله صلي الله عليه وسلم خوفا من الوقوع في هذا الوعيد، ولذا كانوا يجتهدون في حفظ الحديث وضبط ألفاظه، ولا يقدمون علي روايته إلا إذا كانوا متأكدين من صحة ما يقولون، وكان كثير منهم يتحاشي كثرة الرواية خوفا من ذلك.
روي البخاري ومسلم في صحيحيهما عن انس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار)(6).
وروي البخاري عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان، قال: أما إني لم أفارقه ولكن سمعته يقول: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)(7).
وبناء علي هذا قرر كثير من العلماء أن من كذب علي رسول الله صلي الله عليه وسلم عمدا في حديث واحد فسق وردت رواياته كلها، وبطل الاحتجاج بها جميعها، حتي لو تاب وحسنت توبته، لا فرق في ذلك بين ما يتعلق منها بالأحكام وما لا يتعلق بها كالترغيب والترهيب والمواعظ.
هذا هو الأصل الأول من الأصول العديدة التـي هيأها الإسلام لحماية السنة ونقلها نقلا صحيحا دونما زيادة أو تحريف.
(1) سورة النحل / 105.
(2) سورة الأعراف / 33.
(3) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب علامات المنافق (33)، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب خصال المنافق (211).
(4) أخرجه مسلم، المقدمة (5) ط: دار السلام.
(5) أخرجه مسلم، المقدمة (4).
(6) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب إثم من كذب علي النبي صلي الله عليه وسلم (108)، وصحيح مسلم، المقدمة (3).
(7) صحيح البخاري، الكتاب والباب السابقين (107).
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (28)
من عوامل العناية بالسنة في عصر النبوة (2-2)
ثانيا: رفض رواية الفاسق.
لقد أمر الله سبحانه وتعالي برد رواية الفاسق وحذر من قبولها ، فقال تعالي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(1).
والمراد بالنبأ الخبر ، وهو نكرة في سياق الشرط فيعم كل خبر سواء أخبر به عن رسول الله صلي الله عليه وسلم او عن غيره ، بل يدخل فيه الخبر المتعلق برسول الله صلي الله عليه وسلم قبل الخبر المتعلق بغيره ، لما يترتب علي الكذب عليه صلي الله عليه وسلم من المفاسد الدينية وطمس معالم الإسلام ، ولذا كان الكذب علي رسول الله صلي الله عليه وسلم من أفحش الذنوب وأعظمها جرما وأشدها عقابا كما سبق.
قال ابن العربي مستنبطا من الآية السابقة: (من ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا ، لأن الخبر أمانة ، والفسق قرينة تبطلها)(2).
وقال السيوطي: (في -الآية- رد خبر الفاسق ، واشتراط العدالة في المخبر ، راويا كان أو شاهدا أو مفتيا)(3).
وقال السعدي: (الواجب عند خبر الفاسق ، التثبت والتبين ، فإن دلت الدلائل والقرائن علي
صدقه ، عمل به وصدق ، وإن دلت علي كذبه ، كذب ولم يعمل به ، ففيه دليل علي أن خبر الصادق مقبول ، وخبر الكاذب مردود ، وخبر الفاسق متوقف فيه)(4).
ومما جاء في التحذير من قبول رواية الفاسق قول النبي صلي الله عليه وسلم: (من حدث عني بحديث يري أنه كذب فهو أحد الكاذبين)(5).
فالحديث يفيد التحذير عن أن يحدث احد عن رسول الله صلي الله عليه وسلم إلا بما تحقق صدقه علما أو ظنا ، إلا أن يحدث بذلك علي جهة إظهار الكذب ، فإنه لا يتناوله الحديث(6).
(1) سورة الحجرات / 6.
(2) أحام القرآن 4 / 147.
(3) الإكليل في استنباط التنزيل 3 / 1195.
(4) تيسير الكريم الرحمن ص 800.
(5) أخرجه مسلم ، المقدمة (!).
(6) انظر: المفهم للقرطبي 1 / 112.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (29)
من أسس المنهج العلمي للرواية (1-2)
رابعا: التثبت من كل قضية.
لقد ربى القرآن الأمة ـ وعلى رأسها جيل الصحابة ـ على التثبت في الأمور ، قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)(1)، فقد أوجبت هذه الآية التأكد من صحة العلم النقلي، وذلك لما كان عليه حال المجتمع في عصره صلي الله عليه وسلم ، حيث كان فيه الكفار والمنافقون الذين حاولوا الدس والكذب على رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه وزوجاته.
وكان من تلك الأكاذيب: واقعة الإفك التي نزل فيها القرآن الكريم تبرئة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما قال فيها أهل الإفك(2).
وكان من تربية الله لهم قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنـون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين)(3)، وقوله: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم. ولـولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم)(4).
وبما أننا نتحدث هنا عـن علم الرواية وهي من العلم النقلي ، فمعنى ذلك أنه لا يقبل شئ من الراوي فيما ينقله إلا بعد أن يتثبت من صحته ، ومطابقته للأصل الذي صدر عن صاحبه.
كما أنها أوجبت علي كل من سمع حديثا أن يتوثق ولا يروي حتي يتثبت ويأخذ بالاحتياط ، وهذا
ما أخذ به الصحابة ومن بعدهم كما سيأتي(5).
قال قتادة: لا تقل: رأيت ، ولم تر ، وسمعت ، ولم تسمع ، وعلمت ، ولم تعلم ، فإن الله سائلك عن ذلك كله(6).
وقال السعدي: (ولا تتبع ما ليس لك به علم ، بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله ، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسؤول عما قاله وفعله...أن يعد للسؤال جوابا)(7).
خامسا: النهي عن التحديث بكل ما سمع الإنسان.
الإنسان في العادة يسمع الصدق والكذب ، فإذا حدث بكل ما سمع فقد وقع في الكذب لإخباره بما لم يكن ، وقد ورد في النهي عـن التحديث بكل ما يسمعه المرء قول النبي صلي الله عليه وسلم: (كفي بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)(8).
قال القرطبي: (ومعنى الحديث: أن من حدث بكل ما سمع حصل له الحظ الكافي من الكذب ، فإن الإنسان يسمع الغث والسمين ، والصحيح والسقيم ، فإذا حدث بكل ذلك حدث بالسقيم وبالكذب ، ثم يحمل عنه فيكذب في نفسه ، أو يكذب بسببه)(9).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع)(10).
وبمثل ما قال عمر قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وقد تأصل هذا المنهج
في الأجيال التالية.
فقال مالك: (اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع ، ولا يكون إماما أبدا وهو يحدث بكل ما سمع)(11).
فقول مالك (ولا يكون إماما أبدا) أي: إذا وجد الكذب في روايته لم يوثق بحديثه ، وكان ذلك جرحا فلا يصلح ليقتدي به أحد ـ ولو كان عالما ـ فلو بين الصحيح من السقيم ، والصادق من الكاذب ، سلم من ذلك ، وتقصي عن عهدة ما يجب عليه من النصيحة الدينية(12).
وقال عبد الرحمن بن مهدي: (لا يكـون الرجل إماما يقتدي به حتي يمسك عـن بعض ما سمع)(13).
وعن سفيان بن حسين قال: سألني إياس بن معاوية فقال: إني أراك قد كلفت بعلم القرآن فاقرأ علي سورة ، وفسر حتي انظر فيما علمت ـ قال ـ ففعلت ، فقال لي: احفظ علي ما أقول لك: إياك والشناعة في الحديث ، فإنه قلما حملها أحد إلا ذل في نفسه وكذب في حديثه(14).
فهذه الآثار وغيرها كثير تفيد أن هذا الأصل كان باعثا علي الاحتياط في الرواية ، وعدم الإقدام عليها إلا بعد التأكد من صحة المروي ، والتثبت من صحة ما يسمعه المرء لاسيما ما يسمعه من الأحاديث.
(1) سورة الإسراء / 36.
(2) نظر القصة في صحيح البخاري ، كتاب التفسير (تفسير سورة النور) ، باب: لولا إذ سمعتموه (4750).
(3) سورة النور / 12.
(4) سورة النور / 15- 16.
(5) انظر: المنهج العلمي للتعامل مع السنة ص 9.
(6) عمدة التفسير 2 / 432.
(7) تيسير الكريم الرحمن ص 457.
(8) أخرجه مسلم ، المقدمة (7).
(9) المفهم 1 / 117.
(10) أخرجه مسلم ، المقدمة (9).
(11) أخرجه مسلم ، المقدمة (10).
(12) انظر: المفهم 1 /117.
(13) أخرجه مسلم ، المقدمة (12).
(14) أخرجه مسلم ، المقدمة (13).
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (30)
من أسس المنهج العلمي للرواية (2-2)
سادسا: التحذير من قبول رواية الضعفاء وأهل البدع والأهواء.
لقد حذر رسول الله صلي الله عليه وسلم من قبول رواية الضعفاء والوضاعين ، فقال: (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم)(1).
فهذا الحديث إخبار من النبي صلي الله عليه وسلم بأنه سيوجد بعده كذابون عليه ، يضلون الناس بما يضعونه ويختلقونه ، وقد وجد ذلك علي نحو ما قاله ، ومن ثم كان التحذير النبوي لتحصين الأمة: (فإياكم وإياهم ، لا يضلونكم ، ولا يفتنونكم).
وقد بوب النووي لهذا الحديث ولغيره من الآثار بقوله: (باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها).
وقد وعي الصحابة ومن بعدهم هذا الأمر فاحتاطوا في الرواية ، وأمروا غيرهم بالاحتياط.
قال أبو هريرة وابن عباس وابن سيرين رضي الله عنهم: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)(2).
قال القرطبي معلقا علي هذا: (لما كان مرجع الدين إلي الكتاب والسنة ، والسنة لا تؤخذ عن كل أحد ، تعين النظر في حال النقلة واتصال روايتهم ، ولولا ذلك لاختلط الصادق بالكاذب ، والحق بالباطل ، ولما وجب الفرق بينهما وجب النظر في الأسانيد... وهو أمر واضح الوجوب لا يختلف فيه ، وقال عقبة بن نافع لبنيه: يا بني ! لا تقبلوا الحديث إلا من ثقة ، وقال ابن معين: كان فيما أوصي به صهيب بنيه أن قال: يا بني ! لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم إلا من ثقة... وقال سليمان بن موسي: قلت لطاووس: إن فلانا حدثني بكذا وكذا ، فقال: إن كان مثبتا فخذ عنه)(3).
وهذا بشير العدوي يأتي إلي ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه ، فقال: يا ابن عباس ! ما لي لا أراك تسمع لحديثي ؟ أحدثك عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ولا تسمع ، فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا ، وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعبة والذلول ن لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف(4).
فابن عباس يقرر أنه كان في أول الأمر يحدث عن الصحابة - لأنهم عدول - ويأخذ عنهم ، لأن سماعه من رسول الله صلي الله عليه وسلم كان قليلا لصغر سنه ، فكان حاله مع الصحابة كما قال ، فلما تلاحق التابعون وحدثوا ، وظهر له ما يوجب الريبة لم يأخذ عنهم ، كما فعل مع بشير العدوي.
وقوله: (فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف) هذا مثل ، وأصله في الإبل ، ومعناه: أن الناس تسامحوا في الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم واجترؤوا عليه ، فتحدثوا بالمرضي عنه ، الذي مثله بالذلول من الإبل ، وبالمنكر منه الممثل بالصعب من الإبل(5).
سابعا: رد ما يتنازع فيه إلي الكتاب والسنة الصحيحة.
لقد أمر الله سبحانه وتعالى برد ما يتردد فيه ، وما يقع فيه تنازع لعدم تصديق النقل أو العقل له
إلي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم الثابتة حتي لو ظن صحة روايته ، ويدل علي هذا قول الله تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول)(6).
- إذ المراد بالرد إلي الله الرجوع إلي كتابه القرآن الكريم.
- وبالرد إلي الرسول الرجوع إليه صلي الله عليه وسلم حال حياته ، وإلي سنته بعد مماته.
- وبالشئ الذي يتنازع فيه كل شئ من أمور الدين والدنيا لأنه نكرة في سياق الشرط فيعم كل ما يتنازع فيه المسلمون ، ويدخل في ذلك ما يتنازعون في قبوله من الأحاديث ، بل هو أولي بذلك من غيره لخطر ما يترتب عليه ، وعلي هذا وضع العلماء قاعدة مشهورة للحكم علي الحديث ، وهي قولهم: (إذا رأيت الحديث يباين المعقول ، أو يخالف المنقول ، أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع)(7).
هذه أبرز الأسس العلمية التي وضعت في عصر النبي صلي الله عليه وسلم للرواية ، وقد أخذ بهذه الأسس - في خدمة السنة - الصحابة الكرام والأجيال اللاحقة ، إذ حكمتهم هذه التعاليم ، وحددت سيرهم ، وبعثت فيهم النشاط لحفظها ، وألهبت في صدورهم الغيرة عليها ، والدفاع عنها ، والذود عن حياضها.
وتأتي أهمية هذه الأصول التي صانت السنة وكانت سياجا قويا لحفظها ، وخطا منيعا للدفاع عنها من أن الذي رسخها وعمقها في نفوس الأمة جيلا بعد جيل هو القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وبهذا يتضح أن قواعد المحدثين التي وضعوها ، وضوابطهم التي احتكموا إليها في تدوين السنة والمحافظة عليها لم تأت من فراغ ، ولم تبن علي غير أساس ، وإنما أسسها القرآن وبنتها السنة ، ومع هذه الدلالة الظاهرة الواضحة بنصوصها فقد غفل كثير من الباحثين عنها وعن أهميتها ودورها في تأصيل قواعد الرواية والنقل الصحيحين.
(1) أخرجه مسلم ، المقدمة (15 - 16).
(2) الأثر أخرجه عن أبي هريرة وابن عباس ابن حبان في كتابه المجروحين (1 / 21 ، 22) وأخرجه عن ابن سيرين مسلم في مقدمة صحيحه رقم (26).
(3) المفهم 1 / 121 - 122.
(4) مقدمة صحيح مسلم ، رقم (21)
(5) انظر: المفهم 1 / 124.
(6) سورة النساء / 59.
(7) انظر: تيسير علوم الحديث ص 20.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (31)
لقد قام صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم بدور عظيم في خدمة السنة المطهرة، حيث تمثل في تلقيهم للسنة أروع صور التحمل، وتجسد في تبليغهم أعظم صور الأداء، وما كان ذلك منهم إلا لاعتقادهم أنها دين، يثبت به تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن ثم شاعت منذ ذلك العصر المبارك هذه الكلمة : (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم)(1).
وقد كانت جهودهم - بكل ملامحها - هي الأساس الذي بني عليه كل من جاء بعدهم، وإذا كان للاحقين فضل الكمال والإتمام، فللسابقين فضل التأسيس والإنشاء، ولكل درجات مما عملوا، وقبل إبراز جهود الصحابة في خدمة السنة أود أن أعرض لبعض النقاط أراها هامة وضرورية في هذا الباب.
من هو الصحابي؟
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : (الصحابي : من لقي النبي صلي الله عليه وسلم مؤمنا به ومات علي الإسلام).
4ثم قال موضحا التعريف وشارحا : (فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روي عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمي، ويخرج بقيد الإيمان من لقيه كافرا ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخري، وقولنا - به - يخرج من لقيه مؤمنا بغيره كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة.... ويدخل في قولن- مؤمنا به - كل مكلف من الجن والإنس، وخرج بقولنا - ومات علي الإسلام - من لقيه مؤمنا ثم ارتد ومات علي ردته والعياذ بالله، ويدخل فيه من ارتد وعاد إلي الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به صلي الله عليه وسلم مرة أخري أم لا، وهذا هو الصحيح المعتمد )(2).
عدالة الصحابة :
عدالة الصحابة مسألة عظيمة الجدوي - كما يقول الإمام العلائي - لأن الصحابة نقلة الشريعة ولم تصل إلي الأمة إلا من جميعهم، فمتي تطرق الطعن إلي أحد منهم حصل التشويش في أصول الشريعة، ولم يبق بأيدينا - والعياذ بالله - متمسك بشئ منها، وتوجهت المطاعن لأهل الزيغ والشبه في الدين، وأدي ذلك إلي الانحلال بالكلية، ولا محذور أصعب من ذلك(3).
ومن هنا فقد اتفق جماهير العلماء وأهل السنة والجماعة علي القول بعدالة الصحابة ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة،
(1) روي ذلك أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما. انظر : المجروحين لابن حبان ( 1 / 21 - 22 ).
(2) الإصابة ( 1 / 7 ).
(3) انظر : تحقيق منيف الرتبة ص 60.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (32)
الأدلة من الكتاب والسنة على عدالة الصحابي
وقد أثبت العلماء عدالة الصحابة بالنصوص من الكتاب والسنة والآثار المشتملة علي دلالة العقل ثم دلالة واقع جهادهم وتضحياتهم وروايتهم الثابتة .
أما الاستدلال بالقرآن : فيقررها أهل السنة بأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم في نص القرآن ، فمن ذلك قوله تعالي : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )(1) وقوله تعالي : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )(2) وهذا اللفظ كان عاما ، فالمراد به الخاص ، وقيل هو وارد في الصحابة دون غيرهم . وقوله تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ )(3). وقوله تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً )(4)
أما السنة : فقد استدلوا بأحاديث منها
1 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته )(5)
2 - عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه ، قال : صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قلنا : لو جلسنا حتي نصلي معه العشاء ، قال : فجلسنا ، فخرج علينا فقال : ( ما زلتم ههنا ؟ ) قلنا يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا : نجلس حتي نصلي معك العشاء ، قال : ( أحسنتم وأصبتم ) قال : فرفع رأسه إلي السماء ، وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلي السماء ، فقال : ( النجوم أمنة للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتي السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتي أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتي أمتي ما يوعدون )(6)
ففي هذين الحديثين دلالة واضحة علي أن الصحابة عدول علي الإطلاق حيث شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية المطلقة ، كما أخبر بأنهم أمان للأمة من ظهور البدع والحوادث في الدين ، ولا يخبر صلى الله عليه وسلم بهذا إلا لمن كانوا عدولا مستقيمين علي الصراط المستقيم .
3 - عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ......ألا ليبلغ الشاهد الغائب ) (7)
وجه دلالة الحديث على عدالة الصحابة رضي الله عنهم : أن هذا القول صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم جمع من الصحابة في حجة الوداع ، وهذا من أعظم الأدلة علي ثبوت عدالتهم ، حيث طلب منهم أن يبلغوا ما سمعوه منه من لم يحضر ذلك الجمع دون أن يستثني منهم أحدا .
قال ابن حبان : ( وفي قوله صلى الله عليه وسلم " ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب " أعظم دليل علي أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ولا ضعيف ، إذ لو كان فيهم أحد غير عدل لاستثني في قوله صلى الله عليه وسلم وقال : " ألا ليبلغ فلان منكم الغائب " فلما أجملهم في الذكر بالأمر بالتبليغ من بعدهم دل ذلك علي أنهم كلهم عدول ، وكفي بمن عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفا )(8)
والأحاديث غير ذلك كثيرة .
قال الإمام الخطيب البغدادي : ( والأخبار في هذا المعني تتسع ، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن ، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة ، والقطع علي تعديلهم ونزاهتهم ، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالي لهم المطلع علي بواطنهم إلي تعديل أحد من الخلق لهم ، فهم علي هذه الصفة إلي أن يثبت علي أحدهم ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية، والخروج من باب التأويل ، فيحكم بسقوط عدالته ، وقد برأهم الله تعاليــ الكفاية من ذلك ، ورفع أقدارهم عنه )(9)
وأما دلالة العقل والآثار : فيقول فيها الخطيب :
( على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها - من الهجرة والجهاد والنصرة ، وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والأولاد ، والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين - القطع علي عدالتهم ، والاعتقاد بنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين ، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقولهم من الفقهاء )
ثم عقب بقول أبي زرعة الرازي : ( إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق ، والقرآن حق ، وإنما أدي إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولي وهم زنادقة )(10)
وكلها استدلالات صريحة ناطقة بعدالة الصحابة يضاف إليها الاستشهاد بدلالة الواقع في مرويات الصحابة كما دل عليه أسلوب هو في البحث العلمي من وسائل المعرفة القاطعة ، وهو ما يسمي في مناهج البحث وعلم المنطق ( الاستقراء التام )
يقول العلامة المعلمي اليماني : ( إن أئمة الحديث اعتمدوا فيمن يمكن التشكك في عدالته من الصحابة اعتبار ما ثبت أنهم حدثوا به عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي آخر عنه وعرضوها علي الكتاب والسنة ، وعلي رواية غيرهم ، مع ملاحظة أحوالهم وأهوائهم (11)، فلم يجدوا من ذلك ما يوجب التهمة ، بل وجدوا عامة ما رووه قد رواه غيرهم من الصحابة ، ممن لا تتجه إليه تهمة ، أو جاء في الشريعة ما في معناه أو ما يشهد له )(12)
ويضيف الدكتور نور الدين عتر قائلا : ( وأشهد أنه من خلال استقرائي لألوف تراجم الرواة والمرويات الضعيفة التي ذكرت في كتب الضعفاء فإنه لم يوجد حديث قط يحكم فيه بما يخل بهذا المبدأ عن الصحابة بصورة ما )(13)
(1) سورة آل عمران / 110 .
(2) سورة البقرة / 143 .
(3) سورة الفتح / 18 .
(4) سورة الفتح / 29 .
(5) أخرجه الخاري ، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ( 3651 ) ومسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ( 6469 ) .
(6) أخرجه مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم أمان لأصحابه ... ( 6466 ) .
(7) أخرجه البخاري ، كتاب العلم ، باب ليبلغ الشاهد الغائب ( 105 ) ومسلم ، كتاب القسامة ، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض ( 4383 ) .
(8) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ( 1 / 91 ) .
(9) الكفاية ( 1 / 186 ) .
(10) الكفاية ( 1 / 186 ــ 188 ) .
(11) أي نزعاتهم السياسية في الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما .
(12) الأنوار الكاشفة 271 .
(13) مناهج المحدثين العامة 58 .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (33)
بواعث الصحابة في خدمة السنة
هناك بواعث عديدة حفزت الصحابة – رضي الله عنهم - إلى خدمة السنة، وحفظها من كل دخيل، وصيانتها من كل عليل، ومن هذه البواعث:
1- علم الصحابة – رضي الله عنهم – بمكانة السنة: لقد أدرك الصحابة – رضي الله عنهم – أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جزء من الدين الذي يدينون به، يجب اتباعه وتحرم مخالفته، لاسيما وقد أوجب القرآن الكريم طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها بجوار طاعة الله تعالى.
فقال عز من قائل:( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)(1).
وجعل طاعته طاعة لله تعالى، فقال:( من يطع الرسول فقد أطاع الله) (2).
وجعل ثمرة طاعته الاهتداء، فقال:( وإن تطيعوه تهتدوا)(3) ، كما جعل ذلك في اتباعه، فقال:( واتبعوه لعلكم تهتدون) (4).
وجعل اتباعه دليلاً على محبة الله ومغفرته، فقال:( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)(5).
وأمرهم بالانقياد له فيما يأمر به وينهى عنه، فقال:( وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا...)(6).
وأمرهم بالاستجابة لدعوته، واعتبر ما يدعوهم إليه هو الحياة، فقال:( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (7).
وحذر من مخالفة أمره، فقال:( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)(8).
وأوجب الرجوع إليه عند التنازع، فقال:( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)(9).
ولم يجعل للمؤمن ولا للمؤمنة خياراً في قبول حكمه، فقال:( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا)(10).
وأقسم على نفي الإيمان عمن أعرض عن تحكيمه، أو لم يقبل حكمه راضياً مسلماً، فقال:( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما)(11).
وجعل قبول حكمه أو التولي عنه المحك الذي يميز المؤمنين من المنافقين فقال:( ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين، وإذ دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون.... إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون)(12).
ورغب سبحانه وتعالى في الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، فقال:( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)(13).
وجعل من أدب المؤمنين معه أنهم لا يذهبون مذهباً إلا بإذنه، فقال:( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله...) (14).
فإذا كان من لوازم الإيمان: أنهم لا يذهبون مذهباً إذا كانوا معه إلا باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه ألا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي بعد استئذانه، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه. (15)
هذا بالإضافة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد حذر أصحابه من ترك سنته، وذلك حين قال لهم:(.... فمن رغب عن سنتي فليس مني).(16)
وحين قال لهم يوم أن حرم عليهم أشياء يوم خيبر:( يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي، فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإنما حرم رسول الله كما حرم الله). (17)
كل هذه النصوص وغيرها جعلت الصحابة يدركون مكانة السنة النبوية، ويستشعرون خطورة الإعراض عنها أو التفريط فيها أو تضييع شيء منها.
وكيف يقعون في شيء من هذا، والسنة بنص القرآن الكريم هي المبينة له قال تعالى:( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)(18) ، لقد بينت السنة لهم كيفية الصلاة، ومقادير الزكاة، وأعمال الحج، وكيفية المعاملات الشخصية والاقتصادية والاجتماعية، ولولا هذا البيان ما استطاعوا أن ينفذوا أمر الله تعالى بذلك.
لذا كان الحفاظ على السنة حفاظاً على الدين، والتفريط فيها تفريط في الدين، وهذا ما بعثهم على خدمتها، وبذل الجهود في نقلها والحفاظ عليها.
(1) - سورة النساء /159
(2) - سورة النساء /80
(3) - سورة النور /54
(4) - سورة الأعراف 158
(5) - سورة آل عمران /31
(6) - سورة الحشر /7
(7) - سورة الأنفال /24.
(8) - سورة النور/ 64.
(9) - سورة النساء /59.
(10) - سورة الأحزاب/ 36.
(11) - سورة النساء /65.
(12) - سورة النور /47-48-51.
(13) - سورة الأحزاب / 21 .
(14) - سورة النور /62
(15) - انظر: أعلام الموقعين( 1/58).
(16) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم( 5063)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب لمن تاقت نفسه إليه، رقم( 3403).
(17) - الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك( 1/109،110) وقال: إسناده صحيح.
(18) - سورة النحل /44
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (34)
من بواعث الصحابة في خدمة السنة
2- ترغيب الكتاب والسنة في تحمل العلم وتبليغه:
لم يكن حفظ السنة ونشرها أمراً موكولاً إلى اختيار الصحابة – رضي الله عنهم – بل كان تكليفاً دينياً لازماً لهم، كي يترسموا خطاها في حياتهم أولاً، ثم يقوموا بتبليغها للأجيال اللاحقة ثانياً، ذلك أن التعليم إلزام للمتعلم، وتحميله مسئولية التبليغ، قال تعالى:( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(1).
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبدالله بن عبيد بن عمير، قال: كان المؤمنون يحرضهم على الجهاد إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية خرجوا فيها وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في رقة من الناس، فأنزل الله تعالى:( وما كان المؤمنون لينفروا كافة...) أمروا إذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية أن تخرج طائفة وتقيم طائفة، فيحفظ المقيمون على الذين خرجوا ما أنزل الله من القرآن، وما يسن من السنن، فإذا رجع إخوانهم أخبروهم بذلك وعلموهم.(2)
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال:( كنا نغزو وندع الرجل والرجلين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجئ من غزاتنا، فيحدثونا بما حدث به رسول الله فنحدث به...)(3)
وقد حضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلقي الحديث وتبليغه، فقال:( تسمعون، ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم). (4)
وإذا كان الحديث قد ورد بصيغة الخبر فمعناه الإنشاء، أي لتسمعوا منى الحديث، ولتبلغوه عني، وليسمعه منكم من بعدي، وهكذا أداء للأمانة.
وقال صلى الله عليه وسلم:( بلغوا عني ولو آية... ). (5) .
وقال صلى الله عليه وسلم:( حدثوا عني ما تسمعون مني، ولا تقولوا إلا حقا، ومن قال علي ما لم أقل بني له في جهنم بيت يوقع فيه). (6)
وقال صلى الله عليه وسلم:( إني أحدثكم بالحديث، فليحدث الحاضر منكم الغائب).(7)
وكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم عقب بعض خطبة:( ليبلغ الشاهد منكم الغائب).(8)
وإذا كانت هذه النصوص توضح إلى أي مدى استحوذت قضية التلقي والتبليغ على اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فهناك نصوص أخرى ترمى إلى ذات الهدف.
منها: ما يتعلق بالترغيب في ذلك عن طريق الدعاء لهم، ووعدهم بعظيم الأجر وجزيل المثوبة، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:( نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). (9)
وقوله صلى الله عليه وسلم:( من دل على خير فله مثل فاعله).(10)
وقوله صلى الله عليه وسلم:( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).(11)
ومنها: ما يتعلق بالترهيب من كتمان العلم، والتقصير في تبليغه، ذلك أن العلم الديني ليس لحامله، بل لكل من يمكن أن يصل إليه، وكتمانه شر وظلم قال تعالى:( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا...) [ سورة البقرة /159-160].
وقال تعالى:( وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس ولا تكتمونه)(12) .
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار".(13)
من أجل كل هذا أصبح واجباً على الصحابة – رضوان الله عليهم – تلقي الحديث وحفظه، ثم القيام بتبليغه إلى من بعدهم، كي يخرجوا من مسئولية التبليغ الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) - سورة التوبة/ 122.
(2) - الدر المنثور للسيوطي( 3/522).
(3) - عزاه صاحب كنز العمال( 10/296رقم 29493)، إلى ابن شيبة وابن عساكر.
(4) - الحديث أخرجه أبو داود بإسناد صحيح، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم، رقم( 3659)، والرامهرمزي في المحدث الفاصل ص 207رقم( 92)، وصححه ابن حبان، انظر: الإحسان( 1/263) رقم( 62)، والحاكم في المستدرك( 1/95) ووافقه الذهبي.
(5) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم( 3461).
(6) - أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل ص 172 رقم( 16)، وعز الهيثمي نحوه في المجمع( 1/148) للطبراني، وقال: إسناده لم أر من ترجمهم.
(7) - أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل ص 171 رقم( 14)، وعزاه الهيثمي في المجمع( 1/139) إلى الطبراني في الكبير، ورجاله موثوق بهم.
(8) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب ليبلغ الشاهد الغائب، رقم( 105)، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، رقم( 4383).
(9) - أخرجه أبو داود في سننه، كتاب العلم، فضل نشر العلم، رقم( 3660)، والترمذي في سننه، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، رقم( 2656) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في سننه، المقدمة، باب من بلغ علماً، رقم( 233-234-235)، وقد خص الشيخ عبدالمحسن العباد هذا الحديث بدراسة مستقلة في كتابه" دراسة حديث( نضر الله امرءاً سمع مقالتي) رواية ودراية" وخلص إلى أنه حديث متواتر، رواه أربعة وعشرون صحابياً.
(10) - أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، رقم( 1893)، والترمذي في سننه، كتاب العلم، باب ما جاء في الدال على الخير كفاعله، رقم( 2671) وقال: حسن صحيح.
(11) - أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة.. رقم( 6804).
(12) - سورة آل عمران / 187.
(13) - أخرجه ابن حبان في صحيحه، انظر: الإحسان( 1/298 رقم 96)، والحاكم في المستدرك( 1/102) وقال إسناده صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وعزاه الهيثمي في المجمع( 1/163) للطبراني في الكبير والأوسط، وقال: رجاله موثقون.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (35)
حب الصحابة – رجالاً ونساءً – للنبي صلى الله عليه وسلم وأسلوب الحديث النبوي
3-حب الصحابة – رجالاً ونساءً – للنبي صلى الله عليه وسلم :
لقد أحب الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حباً يعلو على حبهم للآباء والأبناء، الأمر الذي جعلهم يقبلون عليه بمشاعرهم، ويحرصون على كل شيء يتصل به ويصدر عنه صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو تقرير.
روى البخاري بسنده: أن عروة بن مسعود الثقفي – وافد قريش في صلح الحديبية – قال عنه وعن أصحابه:" والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له...". (1)
وقد كان هذا الحب باعثاً لهم على التنافس في حضور مجالسه، وسماع دروسه ومواعظه، حتى إن النساء جئنه يوماً وقلن له:" يا رسول الله غلبنا عليك الرجال، فأجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهم فيه فوعظهن وأمرهن".(2)
4- أسلوب الحديث النبوي:
فقد أوتى صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم وقوة البيان التي يندر مثلها في البشر، ومن هنا نجد القرآن الكريم يسمى السنة" حكمة"، ولا شك أن البيان البليغ يأخذ بمجامع القلوب، ويسرى في كيان الإنسان الذهني والعاطفي، الأمر الذي جعل الصحابة يقبلون على سماع حديثه، ويعملون على حفظه وصيانته، ويتلذذون بتكريره في مجالسهم، وتبليغه إلى من لم يسمعه منه صلى الله عليه وسلم.
(1) - صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم( 2731-2732).
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب هل يجعل للنساء يوماً على حده في العلم، رقم( 101).
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (36)
وسائل الصحابة في خدمة السنة
كان للصحابة رضي الله عنهم وسائل وضوابطهم التي أخذوا بها في خدمة السنة النبوية وصيانتها والمحافظة عليها، وتتمثل هذه الوسائل في:
1- تلقي الحديث.
2- تبليغه.
3- كتابته.
4- وضع قواعد الرواية.
5- مدارسة الحديث.
أولاً: تلقي الحديث:
لقد تلقى الصحابة – رضي الله عنهم – الحديث وتحملوه بكل صور التحمل الممكنة في ذلك العصر، ومن تلك الصور:
أ) السماع:
كان الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصين كل الحرص على حضور مجلسه صلى الله عليه وسلم لسماع الأحاديث منه، والتزود من توجيهاته السديدة، ونصائحه الكريمة، وبيانه الرشيد للقرآن المجيد، وفي السنة أحاديث لا تكاد تحصى صرح فيها الصحابة بسماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم، منها على سبيل المثال:
ما رواه البخاري وغيره عن علقمة بن وقاص قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول:( يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).(1)
ولما كانت عندهم أعمال تشغلهم في بعض الأوقات عن حضور مجلسه صلى الله عليه وسلم، تناوبوا الذهاب إليه صلى الله عليه وسلم، كي يبلغ الشاهد منهم الغائب، فلا يفوت أحداً منهم أمراً من الأمور التي يجب أن يحفظوها عنه، وينفذوا ما فيها من تعاليم.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:( كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالى المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوماً، وأنزل يوماً، فإذا نزلت جثته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك...) الحديث.(2)
وفي رواية:( وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آتاني بالخبر، وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر).(3)
وفي رواية:( وكان رجل من الأنصار إذا غاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدته أتيته بما يكون، وإذا غبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد أتاني بما يكون من ر سول الله صلى الله عليه وسلم) (4).
ولما لم يكن من الممكن أن يكون كل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأحوال، إذ لم يكونوا جميعا ًمن سكان المدينة المنورة، والذين كانوا من المدينة كانت لهم أعمالهم وتجارتهم وزراعتهم، من ثم كان لابد أن يطلبوا ما فاتهم سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعونه من أقرانهم، وأن يحمل بعضهم عن بعض.
قال الحاكم:( وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسمعونه من أقرانهم، وممن هو أحفظ منهم، وكانوا يشددون على ما يسمعون منه).(5)
وعن البراء بن عازب – رضي الله عنهما – قال:( ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحدثنا أصحابنا عنه، وكانت تشغلنا عنه رعية الإبل).(6)
وفي رواية:( ليس كلنا كان يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة(7) وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث الشاهد الغائب).(8)
وعن حميد الطويل، أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدث بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فغضب غضباً شديداً، وقال:( والله ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان يحدث بعضنا بعضاً، ولا يتهم بعضنا بعضاً). (9)
وفي رواية: كنا مع أنس بن مالك رضي الله عنه، فقال:( والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضا).(10)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث صحابته الكرام، إذا سمعوا الحديث منه، على أن يبلغ بعضهم بعضا، وليحدث الحاضر منهم الغائب.(11)
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:( إني محدثكم الحديث، فليحدث الحاضر منكم الغائب).
ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يلتزمون بذكر إسنادهم عن الصحابة الذين أخذوا عنهم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانوا ينسبون الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة.
قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:( كنا نغزو وندع الرجل والرجلين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجئ من غزاتنا، فيحدثونا بما حدث به رسول الله، فنحدث به، نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم). (12)
وكان بعضهم إذا سئل أو روجع ذكر الصحابة الذي سمع الحديث منه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
روى مسلم في صحيحه بسنده عن أبي بكر بن عبدالرحمن قال: سمعت أبا هريرة – رضي الله عنه – يقص، يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنبا فلا يصوم، فذكرت ذلك لعبدالرحمن بن الحارث – لأبيه – فأنكر ذلك.
فانطلق عبدالرحمن وانطلقت معه، حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، فسألهما عبدالرحمن عن ذلك – قال: فكلتاهما قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من غير حلم ثم يصوم، قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبدالرحمن، فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة، فرددت عليه ما يقول، قال: فجئنا أبا هريرة، وأبو بكر حاضر ذلك كله، قال: فذكر له عبدالرحمن، فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك ؟ قال: نعم، قال: هما أعلم.
ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس، فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل، ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك الحديث. (13)
قال ابن حبان:( وإنما قبلنا أخبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رووها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يبينوا السماع في كل ما رووا، وبيقين نعلم أن أحدهم ربما سمع الخبر عن صحابي آخر، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذلك الذي سمعه منه، لأنهم رضي الله عنهم أجمعين – كلهم أئمة سادة قادة عدول، نزه الله عز وجل أقدار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يلزق بهم الوهن.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم:( ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب) أعظم الدليل على أن الصحابة كلهم عدول، ليس فيهم مجروح ولا ضعيف، إذ لو كان فيهم مجروح أو ضعيف أو كان فيهم أحد غير عدل لا ستثنى في قوله صلى الله عليه وسلم، وقال: ألا ليبلغ فلان وفلان منكم الغائب، فلما أجملهم في الذكر بالأمر بالتبليغ من بعدهم، دل ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفاً. (14)
(1) الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحيل، باب في ترك الحيل...، رقم( 6953) ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:" إنما الأعمال بالنية"، رقم( 4927).
(2) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب التناوب في العلم، رقم( 89)، ومسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، رقم( 3692).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة التحريم، رقم( 4913)، ومسلم في الموضع السابق.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب اللباس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجوز من اللباس والبسط، رقم( 5843)، وفي كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خير الواحد الصدوق، رقم( 7256).
(5) معرفة علوم الحديث ص 14.
(6) أخرجه أحمد في المسند( 4/283) وقال الهيثمي في المجمع( 1/54):" ورجاله رجال الصحيح"، والحاكم في المستدرك( 1/95)وقال:" صحيح على شرط الشيخين وليس له علة ولم يخرجاه".
(7) الضيعة: العقار والأرض المغلة. القاموس المحيط ص 960.
(8) أخرجه الرامهرمزي في" المحدث الفاصل" ص 235 رقم( 133)، والخطيب في" الجامع"( 1/74) رقم( 102).
(9) أخرجه الحاكم في المستدرك( 3/575) وسكت عليه هو والذهبي، وابن سعد في الطبقات( 7/21)، والخطيب في الجامع( 1/174، 175)رقم( 103).
(10) أخرجه الطبراني في الكبير( 1/246) رقم( 699) وقال الهيثمي في المجمع( 1/153):" رجاله رجال الصحيح".
(11) عزاه الهيثمي في المجمع( 1/139) للطبراني في الكبير، وقال:" رجاله موثقون"، وأخرجه الرامهرمزي في" المحدث الفاصل" ص 171 رقم( 14).
(12) عزاه في كنز العمال( 10/296 رقم 29493) لابن أبي شيبة وابن عساكر.
(13) صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، رقم(2589).
(14) مقدمة الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان( 1/161-162).
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (37)
من وسائل الصحابة في خدمة السنة
تلقي الحديث
ب- العرض:
نشأت طريقة القراءة على الشيخ – العرض – مع طريقة السماع في تلقي الحديث في هذا العهد المبارك، وقد عقد الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه بابا عنون له بقوله:" باب القراءة والعرض على المحدث"، أورد فيه حديث ضمام بن ثعلبة حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد على في نفسك، فقال:" سل عما بدا لك"، فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، الله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال:" اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله، الله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال:" اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله، الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة ؟ قال:" اللهم نعم".
قال: أنشدك بالله، الله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم نعم"، فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.(1)
قال البخاري: واحتج بعضهم في القراءة على العالم بحديث ضمام بن ثعلبة، وقال: فهذه قراءة على النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر ضمام قومه بذلك فأجازوه.(2)
وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في العلم بحراً ينشق له عن الأمر الأمور، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:( اللهم ألهمه الحكمة وعلمه التأويل)، فلما عمى أتاه ناس من أهل الطائف، ومعهم علم من علمه، أو كتب من كتبه فجعلوا يستقرئونه، وجعل يقدم ويؤخر، فلما رأى ذلك، قال: إني قد تلهت (3)من مصيبتي هذه" فمن كان عنده علم من علمي أو كتب من كتبي فليقرأ علي، فإن إقراري له به كقراءتي عليه".(4)
هذه روايات استنبط العلماء منها طريقة من طرق التحمل وهي العرض والقراءة على الشيخ ، وتلك رواية أخرى تفيد حكم القراءة على الشيخ، فعن علي كرم الله وجهه، قال:" القراءة على العالم بمنزلة السماع". (5)
ج- المذاكرة:
كانت المذاكرة بابا من أبواب تحمل الصحابة للسنة، فيسمع أحدهم في مجلس المذاكرة ما غاب عنه سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك: ما رواه أبو وائل شقيق بن سلمة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:( أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة)؟.
فقال حذيفة: أنا أحفظ كما قال، قال: هات، إنك لجرئ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر").
قال – يعني عمر – ليست هذه، ولكن التي تموج كموج البحر، قال: يا أمير المؤمنين، لا بأس عليك منها، إن بينك وبينها بابا مغلقاً، قال: يفتح أو يكسر ؟ قال: لا، بل يكسر، قال: ذلك أحرى أن لا يغلق، قلنا: علم الباب؟ قال: نعم، كما أن دون غد الليلة، إني حدثته بحديث ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله، وأمرنا مسروقا فسأله، فقال: من الباب؟ قال: عمر.(6)
ومن ذلك: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: جلسنا مع عمر رضي الله عنه، فقال: هل سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أمر به المرء المسلم إذا سها في صلاته، كيف يصنع؟ فقلت: لا والله، أو ما سمعت أنت يا أمير المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئاً؟ فقال: لا والله.
فبينا نحن في ذلك أتى عبدالرحمن بن عوف، فقال: فيم أنتما؟ فقال عمر: سألته، فأخبره، فقال له عبدالرحمن: لكني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في ذلك، فقال له عمر: فأنت عندنا عدل، فماذا سمعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( إذا سها أحدكم في صلاته، حتى لا يدري أزاد أم نقص، فإن كان شك في الواحدة والاثنتين فليجعلها واحدة، وإذا شك في الاثنتين أو الثلاث فليجعلها ثنتين، وإذا شك في الثلاث أو الأربع فليجعها ثلاثا، حتى يكون الوهم في الزيادة، ثم يسجد سجدتين وهو جالس، قبل أن يسلم، ثم يسلم). (7)
ومن ذلك: ما روى أبو محمد البجلي، قال:" التقي علي بن أبي طالب وكعب الأحبار، فقال كعب: يا علي، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في المنجيات؟ قال: ولكن سمعته يقول في الموبقات، فقال كعب لعلي: حدثني بالموبقات حتى أحدثك بالمنجيات، فقال علي رضي الله عنه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الموبقات: ترك السنة، ونكث البيعة، وفراق الجماعة، فقال كعب لعلي: المنجيات: كف لسانك، وجلوس في بيتك، وبكاؤك على خطيئتك". (8)
وهكذا كانت المدارسة والمذاكرة للحديث سببا من أسباب تحمل الصحابة بعضهم عن بعض، بل وسبب من أسباب حفظ الحديث وضبطه.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:( كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه بيننا حتى نحفظه).(9)
وفي رواية:( كنا قعودا مع النبي صلى الله عليه وسلم – فعسى أن يكون قال: ستين رجلا – فيحدثنا الحديث، ثم يدخل، فنتراجعه بيننا، هذا ثم هذا، فنقوم كأنما زرع في قلوبنا). (10)
ومن ثم وجه الصحابة رضي الله عنهم طلاب العلم إلى ذلك، وحرضوهم عليه، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:" تذاكروا هذا الحديث وتزاوروا، فإنكم إن لم تفعلوا يدرس".(11)
(1)- صحيح البخاري، كتاب العلم، باب القراءة والعرض على المحدث، رقم( 63).
(2) - المصدر السابق.
(3) - تله الرجل إذا تحير، والأصل: وله إلا أن العرب قد تقلب الواو تاء، النهاية( 5/227).
(4) - الكفاية ص 263.
(5) - المحدث الفاصل ص 428-249.
(6) - الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة كفارة، رقم( 525)، وكتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، رقم( 7096) ومواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب في الفتنة التي تموج كموج البحر، رقم( 7268).
(7) - أخرجه الذهبي بتمامه بسنده في السير( 1/71،72) وقال:" حديث حسن، صححه الترمذي والحاكم في مستدركه( 1/324، 325) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأخرجه بلفظ قريب الإمام أحمد في مسنده"( 1/190)، وأخرجه من غير قصة المذاكرة: الترمذي في سننه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان، رقم( 398)، وقال:" حسن غريب صحيح"، وابن ماجه في سننه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن شك في صلاته، رقم( 1209).
(8) - أخرجه الرامهرمزي في" المحدث الفاصل" ص 592رقم( 845).
(9) - أخرجه الخطيب في الجامع( 1/363،364رقم 466) وفيه يزيد الرقاشي، وهو ضعيف كما قال الذهبي في الميزان( 4/418).
(10) - أخرجه أبو يعلى في مسنده( 7/131رقم 4091)، وقال الهيثمي في المجمع( 1/161):" فيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف".
(11) - أخرجه الدارمي في سننه، المقدمة، باب مذاكرة العلم، رقم( 626)، وابن أبي شيبة في المصنف( 8/545 رقم 6185)، والرامهرمزى في" المحدث الفاصل" ص 545 رقم( 721)، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص 141، وإسناده صحيح.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (38)
من وسائل الصحابة في خدمة السنة تلقي الحديث
د- المكاتبة:
لقد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمصار المختلفة، ولم يكن بإمكان البعض منهم الرحلة لسماع الحديث من إخوانهم من الصحابة، فكاتب بعضهم بعضا في شأن تلقي حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك: ما رواه وراد كاتب المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: اكتب إلى بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر صلاته، فكتب إليه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر صلاته إذا قضاها:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".(1)
وفي رواية أخرى قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أن اكتب إلي بشيء سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:( إن الله كره لكم ثلاثا، قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال). (2)
ومن ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه من طريق المهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة، مع غلامي نافع: أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكتب إلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة، عشية رجم الأسلمى، فقال:"لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش" وسمعته يقول:" عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض، بيتكسرى، أو آل كسرى" وسمعته يقول:" إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم" وسمعته يقول:" إذا أعطى الله تعالى أحدكم خيرا فليبدأ بنفسه وأهل بيته" وسمعته يقول:" أنا الفرط على الحوض". (3)
وقد استمرت هذه السنة فيما بعد بين الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فكتب بعضهم إلى بعض يطلب بعض الأحاديث، ويرويها.
هـ - الرحلة لتلقي الحديث والتثبت منه:
في عهد الصحابة بدأت الرحلة لطلب الحديث، فكان بعضهم يقطع المسافات الطويلة في طلب الواحد من الحديث والتثبت من قائله والفوز بسنده العالي.
فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال:( بلغني عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيرا، ثم شددت رحلي، فسرت إليه شهرا، حتى قدمت الشام، فإذا عبدالله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبدالله ؟ قلت: نعم، فخرج عبدالله بن أنيس فاعتنقني، فقلت: حديث بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يحشر الله الناس يوم القيامة عراة غرلا بهما"، قلنا: ما بهما ؟ قال: "ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة"، قلت: وكيف ؟ وإنما نأتي الله عراة بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات، يعني: القصاص يكون بالحسنات والسيئات).(4)
وعن عطاء بن أبي رباح قال: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر – وهو بمصر – يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره، وغير عقبة، فلما أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري – وهو أمير مصر – فأخبر به، فعجل، فخرج إليه فعانقه، ثم قال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه غيري وغيرك في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:( من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية، ستره الله يوم القيامة) فقال له أبو أيوب: صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعاً إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر).
(5)
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، رقم( 844)، ومسلم في صحيحه – واللفظ له – كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، رقم( 1338).
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى:" لا يسألون الناس إلحافاً" رقم( 1477).
(3) -صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش، رقم( 4711).
(4) - الحديث أخرجه أحمد في المسند( 3/495)، والبخاري في الأدب المفرد( رقم 970)، والحاكم في المستدرك( 2/437) وصححه ووافقه الذهبي، والخطيب في الرحلة في طلب الحديث ص 109، وقال ابن حجر في الفتح( 1/174):" إسناده حسن وقد اعتضد"، وقال الهيثمي في المجمع( 10/345-346):" رواه أحمد ورجاله وثقوا، ورواه الطبراني في الأوسط بنحوه إلا أنه قال: بمصر، وقال المنذري في الترغيب( 4/202):" رواه أحمد بإسناد حسن".
(5) - أخرجه الحميدي في المسند( 1/189، 190رقم 384)، وأحمد في المسند( 4/153)، والخطيب في الرحلة ص 118-120، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص 7-8، وابن عبدالبر في الجامع رقم( 567)، وإسناده ضعيف، فيه أبو سعد الأعمى، وقيل أبو سعيد، تفرد بالرواية عن ابن جريج، فهو مجهول، وقال ابن حجر في الفتح( 1/175):" سنده منقطع"، وللحديث طرق كثيرة لا تخلو أسانيدها من مقال، ولكن مجموع هذه الطرق ترتقي به إلى درجة الحسن، والله أعلم، وانظر: المسند( 4/62، 159)والرحلة ص 120، والعلم لأبي خيثمة رقم 33، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند مسلم، رقم( 2590)، وشاهد من حديث ابن عمر عند البخاري، رقم( 2442)و عند مسلم رقم( 2580).
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (39)
من وسائل الصحابة في خدمة السنة
تلقي الحديث:
د- المكاتبة:
لقد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمصار المختلفة، ولم يكن بإمكان البعض منهم الرحلة لسماع الحديث من إخوانهم من الصحابة، فكاتب بعضهم بعضا في شأن تلقي حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك: ما رواه وراد كاتب المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: اكتب إلى بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر صلاته، فكتب إليه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر صلاته إذا قضاها:" لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".(1)
وفي رواية أخرى قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أن اكتب إلي بشيء سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:( إن الله كره لكم ثلاثا، قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال). (2)
ومن ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه من طريق المهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة، مع غلامي نافع: أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكتب إلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة، عشية رجم الأسلمى، فقال:" لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش" وسمعته يقول:" عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض، بيت كسرى، أو آل كسرى" وسمعته يقول:" إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم" وسمعته يقول:" إذا أعطى الله تعالى أحدكم خيرا فليبدأ بنفسه وأهل بيته" وسمعته يقول:" أنا الفرط على الحوض".(3)
وقد استمرت هذه السنة فيما بعد بين الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فكتب بعضهم إلى بعض يطلب بعض الأحاديث، ويرويها.
هـ - الرحلة لتلقي الحديث والتثبت منه:
في عهد الصحابة بدأت الرحلة لطلب الحديث، فكان بعضهم يقطع المسافات الطويلة في طلب الواحد من الحديث والتثبت من قائله والفوز بسنده العالي.
فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال:( بلغني عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيرا، ثم شددت رحلي، فسرت إليه شهرا، حتى قدمت الشام، فإذا عبدالله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبدالله ؟ قلت: نعم، فخرج عبدالله بن أنيس فاعتنقني، فقلت: حديث بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يحشر الله الناس يوم القيامة عراة غرلا بهما"، قلنا: ما بهما ؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة"، قلت: وكيف ؟ وإنما نأتي الله عراة بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات، يعني: القصاص يكون بالحسنات والسيئات). (4)
وعن عطاء بن أبي رباح قال: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر – وهو بمصر – يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره، وغير عقبة، فلما أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري – وهو أمير مصر – فأخبر به، فعجل، فخرج إليه فعانقه، ثم قال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه غيري وغيرك في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:( من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية، ستره الله يوم القيامة، فقال له أبو أيوب: صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعاً إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر).(5)
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، رقم( 844)، ومسلم في صحيحه – واللفظ له – كتاب المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، رقم( 1338).
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى:" لا يسألون الناس إلحافاً" رقم( 1477).
(3) - صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش، رقم( 4711).
(4) - الحديث أخرجه أحمد في المسند( 3/495)، والبخاري في الأدب المفرد( رقم 970)، والحاكم في المستدرك( 2/437) وصححه ووافقه الذهبي، والخطيب في الرحلة في طلب الحديث ص 109، وقال ابن حجر في الفتح( 1/174):" إسناده حسن وقد اعتضد"، وقال الهيثمي في المجمع( 10/345-346):" رواه أحمد ورجاله وثقوا، ورواه الطبراني في الأوسط بنحوه إلا أنه قال: بمصر، وقال المنذري في الترغيب( 4/202):" رواه أحمد بإسناد حسن".
(5) - أخرجه الحميدي في المسند( 1/189، 190رقم 384)، وأحمد في المسند( 4/153)، والخطيب في الرحلة ص 118-120، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص 7-8، وابن عبدالبر في الجامع رقم( 567)، وإسناده ضعيف، فيه أبو سعد الأعمى، وقيل أبو سعيد، تفرد بالرواية عن ابن جريج، فهو مجهول، وقال ابن حجر في الفتح( 1/175):" سنده منقطع"، وللحديث طرق كثيرة لا تخلو أسانيدها من مقال، ولكن مجموع هذه الطرق ترتقي به إلى درجة الحسن، والله أعلم، وانظر: المسند( 4/62، 159)والرحلة ص 120، والعلم لأبي خيثمة رقم 33، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند مسلم، رقم( 2590)، وشاهد من حديث ابن عمر عند البخاري، رقم( 2442)و عند مسلم رقم( 2580).
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (40)
من وسائل الصحابة في خدمة السنة
ثانيا: تبليغ الحديث:
كما جدّ الصحابة في تلقي الحديث بكل الصور الممكنة والتي عرضنا لها فيما سبق، كذلك جدّوا في التبليغ، لاسيما وقد حضهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم على ذلك حضا شديدا في مواقف مختلفة، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم_عقب بعض خطبه:" اللهم هل بلغت... اللهم اشهد، يا أيها الناس: ليبلغ الشاهد منكم الغائب".(1)
وقد أخذ التبليغ صوراً مختلفة منها:
أ) مجالس التحديث:
من الوسائل التي اتخذها أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_لتبليغ السنة وتعليم الحديث عقد مجالس للرواية، فكان بعضهم يعقد مجلساً لرواية الحديث عن النبي _صلى الله عليه وسلم_، ويتواعد مع تلامذته على ذلك، فيفدون إليه متهيئين للسماع والحفظ،ومن هؤلاء:
1- عثمان بن عفان _رضي الله عنه_:
فعن عروة عن حمران أنه قال يوماً:" فلما توضأ عثمان قال: والله لأحدثنكم حديثاً، لولا آية في كتاب الله _عز وجل_ ما حدثتكموه، إني سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: لا يتوضأ رجل فيحسن الوضوء ثم يصلي الصلاة إلا غُفِر له، ما بينه وبين الصلاة التي يصليها.
قال عروة الآية:" إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس، في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون". (2)
2- أبو هريرة _رضي الله عنه_.
فعن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم، أنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_ بضعة عشر رجلاً، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبي _صلى الله عليه وسلم _فلا يعرفه بعضهم، ثم يتراجعون فيه، فيعرفه بعضهم، ثم يحدثهم، فلا يعرفه بعضهم، ثم يعرفه بعض، حتى فعل ذلك مراراً، فعرفت يومئذ أنه أحفظ الناس عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_. (3)
وعن مكحول قال:" تواعد الناس ليلة إلى قبة من قباب معاوية فاجتمعوا فيها فقام أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_حتى أصبح".(4)
وعن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب قال:" رأيت أبا هريرة يخرج يوم الجمعة، فيقبض على رمانتي المنبر قائماً، ويقول: حدثنا أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم_ الصادق المصدوق، فلا يزال يحدث حتى يسمع فتح باب المقصورة لخروج الإمام فيجلس".(5)
وعن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، أنه كان يقوم كل خميس فيحدثهم.(6)
3- عبدالله بن مسعود _رضي الله عنه_:
فعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال:" كان عبدالله يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال:" أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتخولنا بها، مخافة السآمة علينا". (7)
4- عمران بن حصين _رضي الله عنه_:
فعن هلال بن يساف قال:" قدمت البصرة، فدخلت المسجد، فإذا أنا بشيخ أبيض الرأس واللحية، مستند إلى اسطوانة في حلقة يحدثهم، فسألت: من هذا ؟ قالوا: عمران بن حصين _ رضي الله عنهما_". (8)
5- أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه-:
فعن مكحول قال: دخلت أنا وابن أبي زكريا، وسليمان بن حبيب، على أبي أمامة -رضي الله عنه- بحمص، فسلمنا عليه، فقال:" إن مجلسكم هذا من إبلاغ الله لكم، واحتجاجه عليكم، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ، فبلغوا". (9)
وعن سليم بن عامر قال:" كنا نجلس إلى أبي أمامة فيحدثنا كثيراً ويقول للناس:" اسمعوا واعقلوا، وبلغوا عنا ما تسمعون – وفي رواية – بلغوا عنا فقد بلغناكم، يرى أن حقا عليه أن يحدث بكل ما سمع".(10)
6- عبدالله بن سلام -رضي الله عنه-:
فعن خرشة بن الحر، قال:" كنت جالساً في حلقة في مسجد المدينة، قال: وفيها شيخ حسن الهيئة، وهو عبدالله بن سلام، قال: فجعل يحدثهم حديثا حسنا، قال: فلما قام قال القوم: من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا...." فذكر الحديث في سؤاله عن قولهم، ورؤيا عبدالله بن سلام -رضي الله عنه-، وتأويل النبي -صلى الله عليه وسلم- إياها. (11)
ولم يكن أمر التبليغ قاصراً على هؤلاء، بل انتشرت المدارس الحديثية في جميع الأقطار، وجلس فيها كبار الصحابة يعلمون الناس، ويبلغونهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. قال الحاكم: فمن مشاهير الصحابة بمكة: عبدالله بن السائب، وعثمان ابن طلحة، وابن عباس....، وكان بالكوفة علي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر،وسلمان الفارسي، والنعمان بن بشير.....، وكان بمصر عبدالله بن عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر الجهني...،وكان بالبصرة أنس بن مالك، وعمران بن حصين، وأبو برزة الأسلمي...،وكان بالشام معاذ بن جبل، وعبادة ابن الصامت، وشرحبيل بن حسنة – رضي الله عنهم أجمعين- (12).
هذا وكانت المدينة مجمع الصحابة في عهد عمر بن الخطاب وما تلاه، واشتهر بها: عبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، وأم المؤمنين عائشة-رضي الله عنهم أجمعين- (13).
وقد كان التابعون – رحمهم الله – إذا سمعوا برجل من الصحابة نزل ببلدهم اجتمعوا إليه، وسألوه أن يحدثهم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.
فعن أبي السليل القيسي قال:" قدم علينا رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم-، فكانوا يجتمعون عليه، فإذا كثروا صعد أعلى ظهر بيت، فحدثهم"(14).
(1) - سبق تخريجه.
(2) - سورة البقرة /159، والحديث أخرجه أبو خيثمة في كتاب" العلم" رقم( 122) وإسناده صحيح على شرط الشيخين كما ذكر الشيخ الألباني.
(3) - أخرجه البخاري في التاريخ الكبير( 1/186، 187) وعزاه ابن حجر في الفتح( 1/214) للبيهقي في المدخل.
(4) - أخرجه أبو خيثمة في كتاب( العلم) ومن طريقة الخطيب في الجامع( 2/67 رقم 1190) ورجال الإسناد ثقات إلا أن رواية مكحول عن أبي هريرة مرسلة، فإنه لم يسمع منه، وذكره الذهبي في السير( 2/599).
(5) -أخرجه الحاكم في المستدرك( 3/512) وصححه، ووافقه الذهبي، وأورده الذهبي في السير( 2/623).
(6) - أخرجه الخطيب في الجامع( 2/64 رقم 181).
(7) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة، رقم( 70)، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة المنافقين، باب الاقتصاد في الموعظة، رقم( 7129).
(8) - أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى( 4/218).
(9) -أخرجه الطبراني في الكبير( 8/135رقم 7614) وقال الهيثمي في المجمع( 1/140):" سنده حسن".
(10) - أخرجه الدارمي في سننه، المقدمة، باب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم السنن، رقم( 544)، والطبراني في الكبير( 8/160رقم( 7673))، وابن عبدالبر في الجامع( 1/495) رقم( 786)، وقال الهيثمي في المجمع( 1/140):" سنده حسن".
(11) - أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبدالله بن سلام، رقم( 6383).
(12) - معرفة علوم الحديث ص 190-194.
(13) - انظر: السنة قبل التدوين ص 164-175 فقد ذكر المدارس الحديثية وأثرها في خدمة السنة، وأبرز شيوخها، وأبرز تلاميذها.
(14) -أخرجه السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء ص 50، وأبوخيثمة في كتاب العلم، رقم( 117).
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (41)
من وسائل الصحابة في خدمة السنة
تبليغ الحديث ومن صوره:
ب/ مجالس الإملاء:
كما اتخذ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مجالس للتحديث، اتخذوا كذلك مجالس للإملاء يملون فيها على تلاميذهم أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم-.
فعن هشام بن عمار حدثنا معروف الخياط، قال:" رأيت واثلة بن الأسقع يملى على الناس الأحاديث، وهم يكتبونها بين يديه" (1).
ج/ الخطب:
لقد كانت خطب الجمعة والعيدين وأنواع شتى من الخطب في مناسبات أخرى، وسيلة من وسائل تبليغ السنة، إذ من البديهي أن يستدل الصحابي في خطبته بالقرآن والحديث، ويسمع منه الجمع الكثير الذي يحضر للصلاة.
فمن ذلك: ما رواه أوسط بن إسماعيل – ويقال ابن عامر – البجلي، قال: خطبنا أبو بكر -رضي الله عنه-، في رواية بعدما قُبِض النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنة – فقال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقامي هذا عام الأول، وبكى أبو بكر فقال:" سلوا الله المعافاة، عليكم بالصدق، فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب، فإنه مع الفجور، وهما في النار، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا ،ولا تدابروا، وكونا إخواناً كما أمركم الله".(2)
وعن علقمة بن وقاص الليثي قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-على المنبر، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". (3)
وعن سعيد بن المسيب قال: سمعت عثمان يخطب على المنبر، وهو يقول: كنت أبتاع التمر من بطن من اليهود يقال لهم بنو قينقاع، فأبيعه بربح فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:" يا عثمان، إذا اشتريت فاكتل، وإذا بعت فكل".(4)
وعن ربعى بن حراش، أنه سمع عليا -رضي الله عنه- يخطب يقول، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" لا تكذبوا عليّ، فإنه من يكذب عليّ يلج النار".(5)
وخطب الصحابة -رضوان الله عليهم- التي ضمنوها رواياتهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرة جداً.
وهكذا كانت الخطب وسيلة مهمة من وسائل تبليغ السنة، وأدائها للأجيال التالية.
(1) - أخرجه الخطيب في الجامع( 2/56 رقم 1167)، وعزاه السيوطي في التدريب( 2/105) لابن عدي والبيهقي في المدخل، وذكره في السير( 3/386).
(2) - أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، رقم( 3849)، وأحمد في المسند( 1/3-7)، والحميدي في المسند( 1/3-6 رقم 2-7)، والبخاري في الأدب المفرد رقم
( 724)، وابن حيان في صحيحه، انظر: الإحسان( 13/43 رقم 5734). وأخرجه مختصراً: الترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب سلوا الله العفو والعافية، رقم( 3558) وقال: حسن غريب من هذا الوجه عن ابي بكر، والحاكم في المستدرك( 1/529)، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(3) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، رقم( 1) وفي مواضع متعددة، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم" إنما الأعمال بالنيات" رقم( 4927).
(4) - أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب بيع المجازفة، رقم( 2230)، وأحمد في المسند( 1/62، 75)، والبيهقي في السنن الكبرى( 5/315).
(5) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب إثم من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم( 106)، ومسلم في صحيحه، المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم( 2).
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (42)
من وسائل الصحابة في خدمة السنة
تبليغ الحديث ومن صوره:
د/ الفتيا:
لقد كانت فتاوى الصحابة وإجاباتهم على أسئلة سائليهم وسيلة من وسائل تبليغ السنة وأدائها ونشرها، ذلك أنهم كانوا إذا سُئِلوا أو استفتوا حرصوا على أن يبينوا مأخذ فتواهم، وأن يذكروا دليل إجابتهم، بل ربما كان الجواب على السؤال مجرد رواية الحديث فقط.
وقد حرص الصحابة على غرس ذلك المنهج في نفوس تلاميذهم، فعن الضحاك الضبي قال: لقى ابن عمر جابر بن زيد في الطواف، فقال: يا جابر: إنك من فقهاء أهل البصرة، وإنك ستستفتي، فلا تفتين إلا بقرآن ناطق، أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت.(1)
وهاك بعض الأمثلة من إجابات بعض الصحابة وفتاواهم بذكر مروياتهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسألة المطروحة أو القضية محل الفتوى.
عن أنس بن سيرين قال: سألت ابن عمر، قلت: أرأيت الركعتين قبل صلاة الغداة، أأطيل فيهما بالقراءة ؟ قال:" كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة" قال: قلت: إني لست عن هذا أسألك، قال:" إنك لضخم، ألا تدعني استقرئ لك الحديث ؟ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة، ويصلي ركعتين قبل الغداة كأن الأذان بأذنيه" (2).
والوصف بالضخامة إشارة إلى الغباوة والبلادة وسوء الأدب، قالوا: لأن هذا الوصف يكون للضخم، وإنما قال ابن عمر له ذلك لأنه قطع عليه الكلام، وأعجله قبل تمام حديثه، وقوله:" كأن الأذان بأذنيه" إشارة إلى تخفيفها بالنسبة لسائر صلاته، والمراد بالأذان: الإقامة (3).
وعن زيد بن جبير قال: سمعت رجلاً سأل ابن عمر عن بيع الثمرة ؟ فقال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها"(4).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، أنه سُئِل عن كسب الحجام، فلم يقل فيه حلالاً ولا حراماً.
قال:" قد احتجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم– يعني أهله – فخففوا عنه من غلته، أو من ضريبته، وقال: خير ما تداويتم به الحجامة، والقسط البحري (5)، ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز" (6).
وعن سعيد بن أبي الحسن البصري قال: كنت عند ابن عباس -رضي الله عنهما-، إذ أتاه رجل، فقال يا ابن عباس، إنما أنا رجل معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير ؟ فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سمعته يقول:" من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً"، قال: فربا الرجل ربوة (7)، شديدة، واصفر وجهه، فقال له ابن عباس:" ويحك ! إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر وكل شيئاً ليس فيه روح" (8).
وعن زهدم بن مضرب الجرمي قال: كنا عند أبي موسى، فأتى بلحم دجاج، وعنده رجل من بني تيم الله أحمر، كأنه من الموالى، فدعاه الطعام، فقال: إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته، فحلفت ألا آكل، فقال: هلم فلأحدثكم عن ذلك: إني أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفر من الأشعريين، نستحمله، فقال:" والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم"، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بنهب إبل(9) فسأل عنا، فقال:" أين النفر الأشعريون ؟" فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى (10)، فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا ؟ لا يبارك لنا، فرجعنا إليه، فقلنا: إنا سألناك أن تحملنا، فحلفت ألا تحملنا، أفنسيت؟ قال:" لست أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني – والله – لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" (11).
هذا وقد كان هذا الصنيع من الصحابة- تحملا أداء - هو الأساس الذي سار عليه معظم علماء الأحاديث بعد ذلك في وضع قواعد التحمل والأداء التي اصطلحوا عليها فيما بعد.
(1) - أخرجه أبو نعيم في الحلية( 4/142) وسنده ضعيف لأن الضحاك الضبي مجهول، روى عنه الكوفيون، انظر: الجرح والتعديل( 4/462)،وميزان الاعتدال( 2/327). وجابر بن زيد الأزدي البصري، روى عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وغيرهم، قال فيه ابن عباس: لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علما من كتاب الله. انظر: تهذيب التهذيب
( 2/38)، حلية الأولياء( 3/86).
(2) - أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى، رقم( 1761) وأخرجه بدون المراجعة البخاري في صحيحه، كتاب الوتر، باب ساعات الوتر، رقم( 995).
(3) - انظر: شرح النووي على مسلم( 6/32-33).
(4) - أخرجه أبو يعلى بإسناد صحيح( 10/82 رقم 5719).
(5) - القسط: بضم القاف: عود هندي، وعربي، معروف في الأدوية، طيب الريح، تبخر به النفساء والأطفال، وهو مدر نافع للكبد والمغص والدود وحمى الربع شربا، وللزكام والنزلات والوباء بخوراً، وللبهق والكلف طلاء. انظر: النهاية( 4/60)، القاموس المحيط ص 881.
(6) - الغمز: العصر والكبس باليد. النهاية( 3/385)، والحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده( 6/403، 404 رقم 3758) بإسناد صحيح.
(7) - ربا الرجل: أصابه نفس في جوفه، وهو الربو والربوة، وقيل معناه: ذعر وامتلأ خوفا.( فتح الباري 4/416).
(8) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب بيع التصاوير التي ليس بها روح، رقم( 2225)، ومسلم في صحيحه، كتاب اللباس، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، رقم( 5540).
(9) - نهب الإبل: أي غنيمة إبل، والنهب: الغنيمة. انظر: القاموس المحيط( ص 179).
(10) - الذود من الإبل، ما بين السنتين إلى التسع، وقيل ما بين الثلاث إلى العشر، واللفظة مؤنثة، ولا واحد لها من لفظها كالنعم، النهاية( 2/171).
(11) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، رقم( 3133).
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (43)
مراتب الصحابة في الرواية والفتيا
ذكرنا فيما مضى كيف أن وسائل الصحابة في تبليغ السنة قد تعددت، وأنهم قد بذلوا جهودا مشكورة في هذا الباب، ومع ذلك نجدهم يتفاوتون في الرواية والفتيا، فليسوا فيهما على مرتبة واحدة، بل مراتب مختلفة، فمنهم المقل، ومنهم المكثر.
روى أبو خيثمة عن مسروق قال:"جالست أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانوا كالإخاذ (1)، يروى الراكب، والإخاذ يروى الراكبين، والإخاذ يروى العشرة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، وإن عبدالله من تلك الإخاذ" (2).
وروى أيضا عن عبدالله قال:" لو أن علم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وضع في كفة الميزان، ووضع علم أهل الأرض في كفة، لرجح علم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-"(3).
المكثرون من الصحابة في الرواية:
المكثر في الرواية من بلغت مروياته ألف حديث فأكثر، والصحابة المكثرين في الرواية سبعة هم على النحو التالي:
1- أبو هريرة -رضي الله عنه-، روى عنه( 5374) خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثا، حسب مسند بقى من مخلد، وله في مسند أحمد( 3848)،واتفق الشيخان له على( 326) وانفرد البخاري برواية( 93) ومسلم برواية( 98) حديثا.
2- عبدالله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، روى عنه( 2630) ألفا حديث وستمائة وثلاثون حديثاً، وله في مسند أحمد( 2019) واتفق الشيخان له على( 168) وانفرد البخاري برواية( 81) ومسلم برواية( 31) حديثاً.
3- أنس بن مالك -رضي الله عنه-، روى عنه( 2286) ألفان ومئتان وستة وثمانون حديثاً، وله في مسند أحمد( 2192)، واتفق الشيخان له على( 180) وانفرد البخاري برواية( 80) ومسلم برواية( 90) حديثاً.
4- أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، روى عنها( 2210) ألفان ومئتان وعشرة أحاديث ولها في مسند أحمد( 1340) واتفق الشيخان لها على( 174) وانفرد البخاري برواية( 54) ومسلم برواية( 69) حديثاً.
5- عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب -رضي الله عنهما-، روى عنه
6- ( 1660) ألف وستمائة وستون حديثاً، وله في مسند أحمد( 1696) واتفق الشيخان له على( 75) وانفرد البخاري برواية( 120) ومسلم برواية( 9) أحاديث.
7- جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-، روى عنه( 1540) ألف وخمسمائة وأربعون حديثاً، وله في مسند أحمد( 1206) واتفق الشيخان له على( 58) وانفرد البخاري برواية( 26) ومسلم برواية( 126) حديثاً.
8- أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري -رضي الله عنهما-، روى عنه( 1170) ألف ومائة وسبعون حديثاً، وله في مسند أحمد( 958) واتفق الشيخان له على( 43) وانفرد البخاري برواية( 16) ومسلم برواية( 52) حديثاً (4).
وقد نظم هؤلاء السبعة بعضهم بقوله:
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا
من الحديث عن المختار خير مضــر
أبو هريرة سعــد جابــر أنس
صديقة وابن عباس كذا ابن عمــر
وأما الذين لم تبلغ مروياتهم ألف حديث، فهم متفاوتون في ذلك، فمنهم من روى له مئات الأحاديث، ومن هؤلاء:
· عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-، وله ثمانمائة وثمانية وأربعون حديثاً( 848).
· عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، وله سبعمائة حديث( 700).
· أم سلمة -رضي الله عنها-، ولها ثمانية وسبعون وثلاثمائة( 378).
· البراء بن عازب رضي الله عنهما، وله خمسة وثلاثمائة( 305).
· أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه-، وله واحد وثمانون ومئتا حديث( 281). (5)
ومن الصحابة من روى له عشرات الأحاديث، منهم:
- زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، له خمسة وتسعون حديثاً( 95).
- وأم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها-، لها ستة وسبعون حديثا(76).
- وزيد بن أرقم -رضي الله عنه-، له سبعون حديثا( 70).
- وأم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها-، لها ستون حديثاً( 60).
- وعمرو بن العاص -رضي الله عنها-، له تسعة وثلاثون حديثا ( 39).(6)
ومن الصحابة من لم ترو عنه إلا آحاد الأحاديث، منهم:
- سعيد بن يربوع بن عنكثة المخزومي -رضي الله عنه-، له ثلاثة أحاديث.
- وعبدالله بن حذافة السهمي -رضي الله عنه-، له ثلاثة أحاديث أيضاً.
- وعبدالله بن حنظلة الغسيل -رضي الله عنه-، له حديثان.
- وحارثة بن النعمان -رضي الله عنه-، له حديثان أيضاً.
- وحسان بن ثابت -رضي الله عنه-، له حديث واحد (7).
(1) - الإخاذ – بوزن كتاب – مجتمع الماء.
(2) - العلم لأبي خيثمة ص 123 رقم( 59)، والمقصود بعبدالله هو ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) - العلم لأبي خيثمة ص 123 رقم( 60) وقال الألباني عنه وعن سابقه: إسناده صحيح.
(4) - انظر: تلقيح فهوم أهل الأثر ص 363، جوامع السيرة ص 275، 276، مناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم ص 161، 162، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ص 139-140.
(5) - انظر: تلقيح فهوم أهل الأثر ص 363-364.
(6) - انظر: تلقيح فهوم أهل الأثر ص 365-367.
(7) - انظر: تلقيح فهوم أهل الأثر ص 370-379.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (44)
أسباب تفاوت الصحابة في الرواية
يرجع التفاوت الكبير بين الصحابة في عدد ما أثر من الرواية عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى جملة من الأسباب أوجزها فيما يلي:
1- التفاوت الطبيعي في قوة الذاكرة والحفظ، فطبيعة الناس أن يكون فيهم الحافظ وغير الحافظ، فإذا حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم حفظ البعض ونسى البعض.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:" قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقاماً، فأخبرنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه" (1).
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال:" قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه لا يكون منه الشيء قد نسيته، فأراه، فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه" (2).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:" صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة العصر بنهار، ثم قام خطيبا، فلم يدع شيئاً إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه...." إلخ(3).
فهذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فيهم مقامات متعددة، يذكر فيها الفتن وما هو كائن، وأن منهم من حفظ، ومنهم من نسى، ولا شك أن المكثرين كانوا أحفظ من غيرهم وأوعى لما سمعوا، فكثرت مروياتهم.
2- تفرغ الصحابي لمجالسة النبي صلى الله عليه وسلم وملازمته أو عدم تفرغه لذلك، فالذي تفرغ لهذا الأمر لابد أنه حمل علماً أكثر وحديثاً أوفر ممن شغلته تجارته أو زراعته أو حرفته أو غير ذلك، وقد ذكر أبو هريرة رضي الله عنه أن فراغه وملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم كانت سبباً مباشراً لكثرة حفظه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً، ثم يتلو:( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات – إلى قوله – الرحيم ) (4)، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون (5).
وقد شهد له بذلك كبار الصحابة، رضي الله عنهم، فهذا ابن عمر رضي الله عنه يقول له: يا أبا هريرة، كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه" (6).
وعن مالك بن أبي عامر الأصبحي، قال: جاء رجل إلى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، فقال: يا أبا محمد أرأيت هذا اليمانى – يعني أبا هريرة – هو أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم؟ نسمع منه ما لا نسمع منكم ؟ قال:" أما أن يكون سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع فلا أشك إلا أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وذاك أنه كان مسكيناً لا شيء له، ضيفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا نحن أهل بيوتات وغنى، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، فلا نشك إلا أنه سمع ما لا نسمع، ولا تجد أحداً فيه خير يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل"(7).
وهكذا ترى أن التفرغ لملازمة النبي صلى الله عليه وسلم كان له أثر كبير في تحمل الملازم عمن سواه.
3- تقدم وفاة الصحابى أو تأخرها، ومدى حاجة الناس إلى ما عنده من العلم فمن تقدمت وفاتهم كانوا – غالبا – أقل رواية ممن تأخرت وفاتهم، واحتاج الناس إلى سؤالهم ومعرفة ما عندهم من العلم، في الحوادث التي تكثر وتتجدد وبخاصة مع اتساع نطاق الفتوح الإسلامية، وكثرة الداخلين في الإسلام، ولذلك نجد أن المكثرين جميعا كانوا من أحداث الصحابة، فأبو هريرة وجابر كانا في نحو السابعة والعشرين عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمر كان في نحو الحادية والعشرين، وأنس وأبو سعيد الخدري كانا في نحو العشرين، وأم المؤمنين عائشة كانت في نحو الثماني عشرة، وابن عباس كان في نحو الثالثة عشرة، فتهيأ لهم أن يحملوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أكابر الصحابة، وتأخرت وفاتهم حتى احتاج الناس إلى ما جمعوا من العلم، فكثرت مروياتهم(8).
قال محمد بن عمر الأسلمي:" إنما قلت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم، وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس، وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عليهم ما كانوا يفعلون، ويستفتون فيفتون، وسمعوا أحاديث فأدوها، فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل حديثا عنه من غيرهم مثل أبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبي بن كعب وسعد بن عبادة وعبادة بن الصامت وأسيد بن حضير ومعاذ بن جبل ونظرائهم، فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل جابر بن عبدالله وأبى سعيد الخدري وأبي هريرة وعبدالله بن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عمرو بن العاص وعبدالله بن العباس ورافع بن خديج وأنس بن مالك والبراء بن عازب ونظرائهم، وكل هؤلاء كان يعد من فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يلزمون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيرهم من نظرائهم، وأحدث منهم مثل عقبة بن عامر الجهني وزيد بن خالد الجهني وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير ومعاوية بن أبي سفيان وسهل بن سعد الساعدي وعبدالله بن يزيد الخطمي ومسلمة بن مخلد الزرقي وربيعة بن كعب الأسلمي وهند وأسماء ابنى حارثة الأسلميين، كان يخدمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزمانه، فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم، ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه شيء، ولم يحتج إليه، لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (9).
4- تحرج بعض الصحابة وتهيبهم من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حذراً من الخطأ أو الزيادة أو النقصان، ونحو ذلك.
قال محمد بن عمر الواقدي:" ومنهم – أي الصحابة – من تأخر موته بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أكثر، فمنهم من حفظ عنه ما حدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أفتى برأيه، ومنهم من لم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ولعله أكثر صحبة ومجالسة وسماعا من الذي حدث عنه، ولكنا حملنا الأمر في ذلك منهم على التوقي في الحديث، أو على أنه لم يحتج إليه، لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (10).
5- وقوع الفتنة وظهور الكذب والوضع من الفرق التي انحرفت عن جادة الصواب، كالخوارج والشيعة، جعل المرويات التي ينقلونها عن بعض الصحابة مردودة مرفوضة من الصحابة والتابعين، فأفسدوا بذلك مرويات كثيرة.
فعن طاووس قال:" أتى ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي رضي الله عنه، فمحاه إلا قدر" وأشار سفيان بن عيينة بذراعه.
وعن أبي إسحاق السبيعي قال:" لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي رضي الله عنه قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم الله، أي علم أفسدوا".
وقال المغيرة بن مقسم الضبي:" لم يكن يُصدَّق على علي رضي الله عنه في الحديث عنه إلا من أصحاب عبدالله بن مسعود" (11).
فكان من أثر رواية الكذابين من الشيعة عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أن أهملت كثير من مروياته، والله أعلم.
6- اشتغال عدد كبير من الصحابة بالعبادة أو الجهاد في سبيل الله وفتوح الأمصار، شغلهم عن التحديث بكل ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت مروياتهم، بينما كان لغيرهم من المكثرين مجالس للتحديث يجتمع فيها طلبة العلم، فيحدثونهم، ويؤدون إليهم كل ما سمعوه من الحديث، ومن ثم كثرت الروايات عنهم.
تلك كانت باختصار أهم أسباب تفاوت الصحابة في الرواية رضي الله عنهم(12).
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى:( وهو الذي يبدء الخلق ثم يعيده ) رقم( 3192).
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب القدر، باب: وكان أمر الله قدراً مقدوراً، رقم( 6604)، ومسلم في صحيحه، واللفظ له، كتاب الفتن، باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة، رقم( 7263).
(3) - أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن، رقم( 2191)، والحاكم في المستدرك( 4/505) وصححه، ووافقه الذهبي.
(4) - سورة البقرة /159-160.
(5) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب حفظ العلم، رقم( 118) وابن عبدالبر في جامع بيان العلم( 1/409رقم 593).
(6) - أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب مناقب لأبي هريرة، رقم( 3836)، وقال: حديث حسن، والحاكم في المستدرك( 3/510-511) وصححه، وابن سعد في الطبقات الكبرى( 2/363).
(7) - أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب مناقب لأبي هريرة، رقم( 3837) وقال: حديث حسن غريب، والحاكم في المستدرك( 3/511-512) وصححه، ووافقه الذهبي.
(8) - انظر: مناهج وآداب الصحابة ص 166.
(9) - الطبقات الكبرى لابن سعد( 2/376-377).
(10) - الطبقات الكبرى( 2/337).
(11) - أخرج هذه الآثار مسلم في مقدمة صحيحه، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها ص 10.
(12) - انظر: محاضرات في علوم الحديث( 1/158-159)، السنة ومكانتها في التشريع ص 75-77، الحديث والمحدثون ص 147-148، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ص 135-137، مناهج وآداب الصحابة ص 164-168.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (45)
أكثر الصحابة فتيا
قام بالفتوى بعد النبي صلى الله عليه وسلم الجم الغفير من أصحابه رضوان الله عليهم، كل أفتى عما سئل عنه، ما دام عنده من ذلك علم تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنهم يختلفون في الفتيا ما بين مقل ومكثر منها حسب سؤال الناس لهم، أو بحسب ما عندهم من علم بذلك.
والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – مائة ونيف وثلاثون نفسا ما بين رجل وامرأة، وقد قسمهم ابن حزم في الإفتاء إلى ثلاثة أقسام: مكثرين، ومتوسطين، ومقلين.
أما المكثرين في الإفتاء منهم، فسبعة، هم:
1- عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
2- علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
3- عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
4- عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
5- زيد بن ثابت رضي الله عنه.
6- عبدالله بن عباس رضي الله عنه.
7- عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
قال: يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر ضخم.
وأما المتوسطون فهم عنده: ثلاثة عشر وهم:
1- أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها.
2- أنس بن مالك رضي الله عنه.
3- أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.
4- أبو هريرة رضي الله عنه.
5- عثمان بن عفان رضي الله عنه.
6- عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
7- عبدالله بن الزبير رضي الله عنه.
8- أبو موسى الأشعري رضي الله عنه.
9- سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
10- سلمان الفارسي رضي الله عنه.
11- جابر بن عبدالله رضي الله عنه.
12- معاذ بن جبل رضي الله عنه.
13- أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال ابن حزم: يمكن أن يجمع من كل امرئ منهم جزء صغير، قال: ويضاف إليهم أيضاً، طلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وعمران بن الحصين وأبو بكرة وعبادة بن الصامت ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعاً.
وأما المقلون للفتيا من الصحابة عند ابن حزم، فهم الباقون – رضي الله عنهم – منهم: أبو الدرداء، وأبو سلمة، وأبو عبيد بن الجراح وغيرهم.
قال ابن حزم: يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث، وذكر أنه لا يروى الواحد من هؤلاء المقلين إلا المسألة والمسألتين والزيادة اليسيرة فقط.(1)
(1) - انظر: إحكام الأحكام( 5/869-871).
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (46)
من وسائل الصحابة في خدمة السنة
ثالثا/ كتابة الحديث:
كان من الوسائل التي أخذ بها الصحابة في خدمة السنة، كتابتها وتدوينها، ومن المعروف عند العلماء أن آخر الآمرين منه صلى الله عليه وسلم الإذن بكتابة الحديث وذلك بعد أن أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم في الكتابة عنه، وانتفت موانع الكتابة للبعض الآخر(1).
وقد أثبتت المصادر الموثوق بها والمعتبرة عند أئمة الحديث نسبة( أحاديث) و( صحف) و( نسخ) مكتوبة لبعض الصحابة – رضوان الله عليهم – كتبوها لأنفسهم أو كانت تكتب لهم بصريح رغبتهم، أو وجدت عند بعضهم من ذلك:
1- نسخة أبي بكر الصديق رضي الله عنه – وكانت فيها فرائض الصدقة (2).
2- نسخة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وهي من كتاب صدقات النبي صلى الله عليه وسلم (3).
3- الصحيفة الصادقة لعلى ابن أبي طالب – رضي الله عنه (4).
4- كتاب قضاء علي (5)،كتبه عبدالله بن عباس – رضي الله عنهم – وكانت له صحيفة في التفسير(6).
5- صحيفة السيدة فاطمة الزهراء – رضي الله عنها – وكانت تشتمل على بعض الأحاديث النبوية (7).
6- كتب سعد بن عبادة الأنصاري – رضي الله عنه (8).
7- نسخة في التفسير لأبي بن كعب – رضي الله عنه(9).
8- كتاب عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه(10).
9- كتاب الفرائض لزيد بن ثابت الأنصاري – رضي الله عنه(11).
10- صحيفة سمرة بن جندب – رضي الله عنه(12).
11- الصحيفة الصادقة لعبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنه(13).
12- كتاب المغيرة بن شعبة الذي أملاه على وراد كاتب معاوية (14).
13- أحاديث أنس بن مالك، كتبها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يمليها على تلامذته (15).
هذه الصحف والكتب التي دونت في هذا العصر المبكر مثلت باكورة التأليف في السنة، وهي إن ذابت مستقبلا – في بطون كتب الأمهات، نظراً لتعدد الرواة وتطور التأليف إلا أنها – ونظائرها – كانت حجر الزاوية عند جمع السنة وتدوينها(16).
وإذا كانت السنة قد حظيت بالكتابة في عصر الصحابة فإنه قد برزت بعض الضوابط لكتابة الأحاديث عند الصحابة، والتي نمت وظهرت واضحة بعد ذلك، من هذه الضوابط:
حفظ الكتاب: فكان الإمام علي – رضي الله عنه – يحفظ الصحيفة التي كتبها في الديات في قراب سيفه(17).
كما أن تلاميذ أبي هريرة كتبوا أحاديثهم فأخذ أبو هريرة هذه الكتب وحفظها عنده حتى لا يغير في أحاديثه أو يبدل فيه، حتى يكون مقياساً عنده لما ينسب إليه من الأحاديث الكثيرة التي بثها في التابعين (18).
وهكذا كانت الكتابة – كتابة السنة – وسيلة من الوسائل التي أخذ بها الصحابة في خدمة السنة النبوية.
(1) - انظر: تفصيل ذلك في السنة قبل التدوين ص 303-321- دراسات في الحديث للدكتور الأعظمي 1/71-142- الحديث والمحدثون ص 122-125، توثيق السنة ص 43-54.
(2) - أخرجها البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة( 3/312) باب لا يجمع بين متفرق( 3/314) باب ما كان من خليطين( 3/315) باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاص( 3/316) باب زكاة الغنم( 3/317) وأخرجها الحاكم في المستدرك، كتاب الزكاة، باب من تصدق من مال حرام( 1/390) وأبو داود، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، باب في زكاة السائمة( 2/214)، لكن يلاحظ أن كتاب الصدقة الذي لأبي بكر – رضي الله عنه – هو كتاب الصدقة الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، راجع ذلك في: سنن الدارمي، كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل( 1/382) عن ابن عمر، لكن الذي يهمنا هو أنه كانت لديه نسخة منها.
(3) - الأموال لأبي عبيد ص 370: دار الكتب العلمية، وفيه عرض نافع على ابن عمر هذه الصحيفة مرات.
(4) - أخرجها البخاري في صحيحه، كتاب العلم( 1/204) وأخرجها مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل المدينة( 2/995).
(5) - صحيح مسلم، المقدمة، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء( 1/13) سنة الرسول للشيخ التيجاني ص 54، الطبقات الكبرى لابن سعد( 5/216) وقال ابن سعد: إنه كانت له كتب حمل بعير.
(6) - تقييد العلم للخطيب ص 91-92، مفتاح السعادة 2/64-65.
(7) - مسند أحمد 6/283، مكارم الأخلاق للخرائطي ص 37ط: السلفية القاهرة.
(8) - مسند أحمد 5/285.
(9) - مفتاح السعادة 2/69، وقال: فعنده نسخة كبيرة، يرويها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عنه، وهذا إسناد صحيح، انظر: كشف اللثام 1/113.
(10) - جامع بيان العلم وفضائله 1/42.
(11) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة 2/325، كتاب الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة 11/133.
(12) - راجع صحيفته في الاستيعاب 2/653، تهذيب التهذيب 4/236، الأعلام 3/204.
(13) - أخرجها الدارمي في سننه، باب من رخص في كتابة العلم 1/127، طبقات ابن سعد 2/373، 4/262، 7/494، المحدث الفاصل ص 367.
(14) - انظر: أسد الغابة 3/117- الإصابة 4/236- كتاب العلم لأبي خيثمة ص 117.
(15) - تاريخ بغداد للخطيب 8/258.
(16) - انظر: كشف اللثام 1/117-118.
(17) - صحيح مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة 2/995، فتح الباري 1/182-183.
(18) - جامع بيان العلم وفضله 1/89.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (47)
من وسائل الصحابة في خدمة السنة
رابعاً/ وضع قواعد الرواية:
لم تقتصر وسائل الصحابة في خدمة السنة على التلقي والأداء وكتابة الحديث، وإنما تجاوزت ذلك إلى وضع الضوابط وإنشاء القواعد التي تضمن سلامة الرواية وضبط السنة، وكان من هذه القواعد:
1- التقلل من الرواية:
كان منهج الصحابة هو التقلل من الرواية بغرض إيجاد حصانة في النفس لكي لا تتجرأ على رواية الحديث حتى تتأكد من صحته.
روى البخاري بسنده عن عامر بن عبدالله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان فلان، قال:أما إني لم أفارقه، ولكن سمعته يقول:" من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"(1).
وكذلك كان أنس رضي الله عنه(2)، وكان عمر وابن مسعود، رضي الله عنهما، يقولان:" بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع" (3).
وأخرج البخاري في صحيحه عن مجاهد قال:" صحبت ابن عمر إلى المدينة فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً واحداً" (4).
وعن الشعبي قال:" قعدت مع ابن عمر سنتين أو سنة ونصفا فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا إلا هذا الحديث" (5).
وقال إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف:" بعث عمر بن الخطاب إلى عبدالله بن مسعود، وإلى أبي الدرداء، وإلى أبي مسعود الأنصاري، وإلى أبي ذر، قال: ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فحبسهم بالمدينة حتى استشهد" (6).
قال ابن حبان:" لم يكن عمر بن الخطاب فيما قد فعل – يتهم الصحابة بالتقول على النبي صلى الله عليه وسلم ولا ردهم عن تبليغ ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ليبلغ الشاهد منكم الغائب" وأنه لا يحل لهم كتمان ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه علم ما يكون بعده من التقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه عليه السلام قال:" إن الله –تبارك وتعالى – نزل الحق على لسان عمر وقلبه " (7)، وقال:" إن يكن في هذه الأمة محدثون فعمر منهم(8)"، فعمد عمر إلى الثقات المتقنين، الذين شهدوا الوحي والتنزيل، فأنكر عليهم كثرة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يجترئ من بعدهم ممن ليس في الإسلام محله كمحلهم، فيكثر الرواية، فيزل فيها، أو يقول متعمداً عليه صلى الله عليه وسلم لنوال الدنيا.... (9)". ولم يؤدهم ذلك إلى كتما العلم، وإنما هو الحرص على السنة والدين.
روى الدارمي بسنده عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال:" لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار، وما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث"(10).
وأخرج عبد بن حميد بسنده عن أبي هريرة قال:" لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم وتلا:" وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه" (11).
2- التثبت في الرواية عند أدائها:
قال الإمام الذهبي في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:" وكان أول من احتاط في قبول الأخبار...(12)" وقال في ترجمة عمر بن الخطاب:" هو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل"(13) يعني: أنه حرص على إشاعة هذه السنة وتعليمها، وأخذ الرعية على التزامها والتشديد في ذلك، وهي سنة التوثق والتحري للسنة، ولذلك وجدنا عمر رضي الله عنه يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب، فعن أبي سعيد الخدري قال:" كنا في مجلس عند أبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مغضباً- وفي رواية: فزعا مذعورا- حتى وقف، فقال: أنشدكم الله ! هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك، وإلا فارجع"، قال أبي: وما ذاك ؟ قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات فلم يؤذن لي، فرجعت، ثم جئته اليوم، فدخلت عليه، فأخبرته أني جئت أمس، فسلمت ثلاثا، ثم انصرفت، قال: قد سمعناك، ونحن حينئذ في شغل فلو استأذنت حتى يؤذن لك ؟ قال: استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك، أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا، فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا! قم يا أبا سعيد، فقمت حتى أتيت عمر، فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا". (14)
وجدير بالتنبيه أن هذا لم يكن من عمر رضي الله عنه لأنه لم يكن يحتج بخير الآحاد كما زعموا!! فإنه لما قبل حديث أبي سعيد، لم يزل الخبر بعدها آحاداً، ولم يكن هذا أيضا، لأنه لم يكن يثق بأبي موسى، حاشاه، وإنما فعل ذلك للاحتياط في ضبط الحديث، وزيادة في التثبت، ويؤكده ما جاء في بعض الروايات الأخرى عن عمر قال:" إني لم أتهمك ولكن أحببت أن أتثبت" (15).
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم( 107).
(2) - صحيح مسلم،المقدمة ص 6.
(3) - صحيح مسلم، المقدمة ص 6.
(4) - صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الفهم في العلم 1/198فتح.
(5) - أخرجه الدارمي، المقدمة، باب من عاب الفتيا مخافة السقوط 2/336، والحديث رجاله ثقات ولعله يقصد بهذا الحديث، الحديث الصحيح:( إن من الشجرة شجرة لا تسقط ورقها)، انظر: الحديث وأهله لشيخنا الدكتور يحيى إسماعيل.
(6) - أخرجه ابن شيبة في المصنف 8/756، وابن سعد في الطبقات 2/336، والإمام أحمد في العلل رقم 372، وإسناده صحيح، فإبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف قد سمع من عمر رضي الله عنه على الصحيح.
(7) - أخرجه الإمام أحمد في سنده 2/401، وابن حبان في صحيحه رقم 6889.
(8) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر 7/52، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر 15/166.
(9) - المجروحين لابن حبان 1/36-37.
(10) - سنن الدارمي، المقدمة، باب من هاب الفتيا وكره التنطع، والحديث إسناده حسن لأن عطاء بن السائب الذي روى عن عبدالرحمن: صدوق اختلط، التقريب( 2/22)، وعبدالرحمن بن أبي ليلى تابعي أنصارى مدني ثقة، مات بوقعه الجماجم، وقد خرج له الجماعة، التقريب( 1/496).
(11) - الآية /187 من سورة آل عمران، والحديث عزاه السيوطي في الدر المنثور( 2/121) لعبد بن حميد.
(12) - تذكرة الحفاظ 1/2.
(13) - تذكرة الحفاظ 1/6.
(14) - الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستئذان، باب التسليم ثلاثا ( 11/28) ، ومسلم في صحيحه، كتاب الآداب، باب الاستئذان ( 14/130) .
(15) - الموطأ لمالك، كتاب الاستئذان ص 597.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (48)
من وسائل الصحابة في خدمة السنة
من قواعد الرواية:
3- عنايتهم بالإسناد:
اهتم الصحابة بإسناد الحديث واستعملوا العبارات التي تفيد مزيدا من التوثيق في الرواية كقول أبي عمرو الشيباني: حدثني صاحب هذا الدار وأشار إلى دار عبدالله بن مسعود، قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أي الأعمال أحب إلى الله تعالى، قال الصلاة على وقتها... الحديث"(1).
واشتدت هذه العناية بعد عصر الفتنة، ومن الأقوال الواردة في ذلك قول أبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهما: أن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " (2).
وبطبيعة الحال نشأت بذور الإسناد فقط، لأن الإسناد إنما هو وسيلة للكشف على الرواة لاختبار عدالتهم وضبطهم، وكلهم في ذلك الوقت عدول ضابطون (3).
وقد قدم لنا مسلم – رحمه الله ، مثالاً لهذا ، فروى بسنده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يعطي عمر بن الخطاب رضي الله عنه – العطاء، فيقول عمر : أعطه يا رسول الله أفقر إليه مني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك(4).
ففي هذا الحديث ثلاثة من الصحابة، كل منهم يروى عن الآخر وهم : السائب بن يزيد عن عبدالله بن السعدي عن عمر بن الخطاب – رضوان الله عليهم أجمعين- ورواه عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هكذا رأينا كل واحد من هؤلاء الصحابة لم يكتف بذكر من سمعه منه ولم يرفعه من بعد عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما بين كل منهم كيف وصل إليه الحديث. يقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث : " وقد جاءت جملة من الأحاديث فيها أربعة صحابيون، يروى بعضهم عن بعض وأربعة تابعيون بعضهم عن بعض"(5).
4- الرواية باللفظ ما أمكن :
كان الصحابة – رضي الله عنهم – حريصين على أداء الأحاديث بلفظها الذي سمعوه ما أمكنهم ذلك، من غير تغيير ولا تقديم ولا تأخير، وممن عظمت عنايته بذلك عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم :
فعن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم قال : " لم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يزيد فيه، ولا ينقص، ولا ، ولا ، مثل عبدالله بن عمر " .
وفي رواية : " كان ابن عمر إذا سمع الحديث لم يزد فيه ، ولم ينقص منه، ولم يجاوزه، ولم يقصر عنه " (6).
ويتضح ذلك في المثال التالي :
عن سعد بن عبيدة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بني الإسلام على خمسة : على أن يوحد الله ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج " فقال رجل : الحج وصيام رمضان ؟ قال : " لا " صيام رمضان والحج، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " (7).
وربما سمع ابن عمر الرجل يبدل لفظا بلفظ آخر في معناه، فيرد عليه روايته ويذكر له اللفظ على ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فعن أبي جعفر محمد بن علي قال : " كان عبدالله بن عمر رضي الله عنه إذا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، أو شهد معه مشهدا لم يقصر دونه أو يعدوه .
قال : فبينما هو جالس وعبيد بن عمير ( ابن قتادة الليثي ) يقص على أهله مكة إذ قال عبيد بن عمير : " مثل المنافق كمثل الشاة بين الغنمين إن أقبلت إلى هذه الغنم نطحتها، وإن أقبلت إلى هذه نطحتها " فقال عبدالله بن عمر : ليس هكذا، فغضب عبيد بن عمير، وفي المجلس عبدالله بن صفوان، فقال : يا أبا عبدالرحمن ، كيف قال ؟ رحمك الله، فقال : " مثل المنافق مثل الشاة بين الربيضين (8)، إن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها، وإن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها " فقال له : رحمك الله ، هما واحد، قال : " كذا سمعت "(9).
وممن كان يفعل ذلك أيضا : أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه :
فعن حبيب بن عبيد الرحبي قال : " إن كان أبو أمامة ليحدثنا الحديث كالرجل الذي عليه أن يؤدي ما سمع " (10).
وقد كان عمر رضي الله عنه يوصى بذلك ويحض عليه، فعنه رضي الله قال : " من سمع حديثا فأداه كما سمع فقد سلم " (11).
5- الرواية بالمعنى إذا صح المعنى :
كان الصحابي إذا استصعب الإتيان باللفظ روى الحديث بالمعنى، وهم أعلم الناس باللغة وبمقاصد الشريعة، وأعرف الناس بنبيهم ومعاني كلامه الكريم، ومواقع خطابه صلى الله عليه وسلم، والمحتمل من معانية وغير المحتمل(12)، وممن قال بذلك واثلة بن الأسقع، رضي الله عنه :
فعن مكحول قال : دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، فقلنا : يا أبا الأسقع، حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه وهم ولا زيادة ولا نقصان ، قال : " هل قرأ أحد منكم من القرآن هذه الليلة شيئا؟ " قال : فقلنا : نعم ، وما نحن له بحافظين، حتى إنا لنزيد الواو والألف وننقص، قال : " فهذا القرآن مذ كذا بين أظهركم، لا تألون حفظه، وإنكم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى أن لا نكون سمعناها منه إلا مرة واحدة، حسبكم إذا حدثتكم بالحديث على المعنى "(13).
وممن قال بذلك عائشة رضي الله عنها :
فعن عروة بن الزبير قال : قالت لي عائش رضي الله عنها : " يا بني، إنه يبلغني أنك تكتب عني الحديث، ثم تعود فتكتبه "، فقلت لها : أسمعه منك على شيء، ثم أعود فأسمعه على غيره، فقالت : " هل تسمع في المعنى خلافاً؟ قلت : لا ، قالت : " لا بأس بذلك " (14).
وكذلك فعل عدد كثير من الصحابة رضوان الله عليهم .
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " كنا نجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، عسى أن نكون عشرة نفر، نسمع الحديث، فما منا اثنان يؤديانه، غير أن المعنى واحد " (15).
وعن زرارة بن أبي أوفى قال : " لقيت عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا في اللفظ، واجتمعوا في المعنى " (16).
وعن محمد بن سيرين قال : " كنت أسمع الحديث من عشرة، اللفظ مختلف، والمعنى واحد "(17) .
(1) - صحيح مسلم، كتاب الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال 1/50.
(2) - المجروحين لابن حبان 1/21-22.
(3) - توثيق السنة للدكتور رفعت فوزي ص 36.
(4) - أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أعطى من غير مسألة 2/723.
(5) - شرح مسلم للإمام النووي 7/136.
(6) - أخرجه الخطيب في الكفاية ص 265.
(7) - أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أركان الإسلام ودعائمه العظام، رقم ( 111) .
(8) - مثنى الربيض، وهو الغنم برعاتها المجتمعة في مرابضها، القاموس ص 829.
(9) - أخرجه أحمد في مسنده بإسناد صحيح ( 7/259-260 رقم 5546) ط : شاكر ، والدارمي في المقدمة، باب من رخص في الحديث إذا أصاب المعنى ، رقم ( 318)، وصححه الحاكم ( 3/516) ، والحديث المرفوع في هذا عن ابن عمر من غير القصة، أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفات المنافقين، باب صفات المنافقين وأحكامهم، رقم ( 7043) .
(10) - أخرجه الخطيب في الكفاية ص 124.
(11) - أخرجه ابن عبدالبر في الجامع بيان العلم ( 2/1008 رقم 1919) والخطيب في الكفاية ص 267.
(12) - انظر : مناهج وآداب الصحابة ص 193.
(13) - أخرجه ابن عبدالبر في الجامع ( 1/348رقم 471)، والرامهرمزي في المحدث الفاصل ص 533، والخطيب في الكفاية ص 308، وأخرج الجزء الأخير منه " حسبكم ... " الدارمي في سننه، المقدمة، باب من رخص في الحديث إذا أصاب المعنى، رقم ( 315) .
(14) - أخرجه الخطيب في الكفاية ص 309-310.
(15) - أخرجه الخطيب في الكفاية ص 309.
(16) - أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل ص 531.
(17) - أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل ص 534، وابن عبدالبر في الجامع رقم ( 464-465) والخطيب في الكفاية ص 311، وانظر : مناهج وآداب الصحابة ص 191-194.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (49)
من قواعد الرواية:
6- وضع قواعد علم الرجال ( الجرح والتعديل ) :
بدأت بواكير القواعد في علم الرجال في عصر الصحابة، وكان هدفهم من وضع تلك القواعد رغم ثبوت العدالة لجميعهم، هو التحوط من وقوع بعضهم في الخطأ من ناحية، ولرسم الطريق لمن جاء بعدهم من ناحية أخرى، لكي يعملوا على التحري والدقة في صيانة السنة والحفاظ عليها .
سأل ابن عمر أباه عن رواية سعد بن أبي وقاص، فقال عمر : " إذا حدثكم سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تسأل غيره " (1). ولما روى عمر عن عبدالله الرحمن بن عوف قال فيه : " العدل الرضا " (2).
فلما حدثت الفتنة بمقتل عثمان رضي الله عنه افترقت الأمة، وظهرت الفرق المنحرفة وراح المبتدعة يبحثون عن مستندات من النصوص يعتمدون عليها في كسب أعوان لهم – الأمر الذي جعلهم يضعون الحديث، ويختلفون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله – عند ذلك جد الصحابة في المحافظة على الحديث، بالغوا في التشديد للرواية .
يقول ابن عباس رضي الله عنهما معلنا عن المنهج الذي بدأ يسود ذلك العصر في تلقي السنة : " إنا كنا إذا سمعنا رجلا يقول : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف " (3).
لقد كان في ذلك التثبت إنشاء لعلم جديد من علوم الحديث، وهو علم الجرح والتعديل الذي كانت قد وضعت أسسه، وأصلت قواعده في الأصلين : القرآن والسنة، فابن عباس رضي الله عنه، يعلن هنا عن بداية حقبة جديدة للرواية، تختلف عن الحقبة السابقة لها، حيث لم يكن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحقبة السابقة، إلا من زكاهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم، الذين لم يكن يستلزم قبول ما يروونه إلا سماعه منهم، أما الحقبة التي يتكلم عنها ابن عباس رضي الله عنه، فقد بدأ من لم يكن له لقي بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا صحبة، بالحديث عنه صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء لم يلقوه، فحديثهم عنه صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون لهم إليه فيه واسطة، ثم إنهم هم أنفسهم ليس لهم شرف الصحبة، ولا لهم تعديل من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد أن دبت الفتنة ( وركب الناس الصعب والذلول ) كان لابد من معرفة الواسطة المحذوفة في مرسل ذلك التابعي، للتوثق من ثقة تلك الواسطة، وذلك بالطبع – بعد التوثيق من ثقة ذلك التابعي نفسه الذي أرسل الحديث أولاً . فكان هذا أول تطبيق عملي ظاهر لعلم الجرح والتعديل، وأول السؤال عن الإسناد، ورفض المراسيل، وذلك لظهور علتين اقتضت ذلك، هما : علتا رواية المجروح، والإرسال وعدم الإسناد .
وفي الحقيقة ، فإن علة الإرسال عائدة إلى العلة الأولى، لأن عدم قبول المرسل إنما كان لاحتمال كون المحذوف مجروحاً (4).
وقد أرخ بداية نشوء هذين العلمين – على الإسناد وعلم الجرح والتعديل – من علوم الحديث، أحد أئمة التابعين، وهو محمد بن سيرين ( تـ110هـ ) . عندما قال : " لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا : سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم " (5).
وبذلك نشأ علم ميزان الرجال ( الجرح والتعديل ) الذي هو عمود أصول الحديث، فقد تكلم من الصحابة في الرجال: عبدالله بن عباس، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وأم المؤمنين عائشة، وكان كلاما قليلا، لقلة الضعف وندرته .
7- نقد المتن :
لم يقتصر اهتمام الصحابة على إسناد الحديث فقط، بل اهتموا بالمتن أيضا فنقدوه وناقشوا الصحابي فيما روى من أحاديث، إذا كانت هذه الأحاديث تبدو متعارضة مع النقل أو العقل – المحكوم بالشرع – أو مبادئ الإسلام العامة، ولم يكن نقدهم للمتن مبنيا على اعتدادهم بالعقل بل لحرصهم على توثيق السنة مما قد يوهم التعارض .
ومن الأمثلة على ذلك : ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مليكه، قال : توفيت ابنة عثمان – رضي الله عنه – بمكة، وجئنا لنشهدها وحضرها ابن عمرو وابن عباس- رضي الله عنهم – وإني لجالس بينهما أو قال : جلست إلى أحدهما، ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي، فقال عبدالله بن عمرو بن عثمان : ألا تنهى عن البكاء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه؟ فقال ابن عباس – رضي الله عنهما – قد كان عمر – رضي الله عنه – يقول بعض ذلك، ثم حدث قال : صدرت مع عمر – رضي الله عنه – من مكة، حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظل سمرة فقال : اذهب فانظر من هؤلاء الركب، قال : فنظرت فإذا صهيب، فأخبرته فقال : ادعه لي ، فرجعت إلى صهيب، فقلت ارتحل فالحق بأمير المؤمنين فلما أصيب عمر دخل صهيب يبكي، يقول : " واأخاه وا صاحباه" فقال عمر : يا صهيب أتبكي علي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه" ؟ .
قال ابن عباس : فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها – فقالت : رحم الله عمر ، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه " وقالت حسبكم القرآن " ولا تزر وازرة وزر أخرى " قال ابن عباس – رضي الله عنهما – عند ذلك والله " هو أضحك وأبكى "(6) .
وأخرج الإمام مسلم من رواية عروة بن الزبير، قال : ذكر عند عائشة أن ابن عمر يرفع إلى النبي : " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " فقالت : وهل ابن عمر ( أي غلط ونسى ) إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن " وذلك مثل قوله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر وفيه قتلى من المشركين فقال لهم ما قال : " إنهم يسمعون ما أقول " وقد وهل إنما قال : " إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق " ثم قرأت : " إنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور "(7) .
يقول الدكتور همام سعيد : " هكذا ناقشت عائشة رضي الله عنها روايات عمر وعبدالله – رضي الله عنهما – بأدلة نقلية من الآيات والأحاديث والمبادئ الإسلامية العامة، وهذا المقال نوع من نقد المتن لم يغفل عنه الصحابة الكرام – رضي الله عنهم .
ولكن جمهور المحدثين يرون صحة ما روى عمر بن الخطاب وابنه عبدالله – رضي الله عنهما – وقد ترجم الإمام البخاري لهذا الباب بقوله : " باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " يعذب الميت ببكاء أهله عليه " إذا كان النوح من سنته " فيكون البخاري حمل البكاء على ما إذا كان من عادة أهل الميت قبل موته أن يسمع النواح من أهله فلا يمنعهم ولا ينهاهم ويرضى بذلك منهم، أو إذا أوصى بالبكاء عليه بعد موته، والحديث الذي يروى عن عمر – رضي الله عنه – لا يقدح فيه نقد عائشة – رضي الله عنها – ويحمل على مثل هذا التوجيه .
وعلى كل فقد وقفنا على صورة من صور الحوار النقدي الجاد بين الصحابة – رضي الله عنهم – وهذه الصورة تكشف لنا عن منهجهم في عدم التسليم لبعضهم فيما يروون، إذا كان ما يروى يعارض النقل أو العقل ولا يعني هذا قبول النقد أو صواب الناقد بل قد يقبل، أو يرد، أو يؤخذ منه، ويترك " (8).
ومن خلال هذا العرض للقوانين والقواعد التي سلكها الصحابة في الحفاظ على السنة، والتي تقوم على خدمة الإسناد والمتن، يتضح لنا أن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا هم أول من بدأ بإنشاء ما عرف بعد بـ ( علوم الحديث ومصطلحه ) .
(1) - الحديث أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين 1/365.
(2) - الإصابة 4/177، الرفع والتكمل ص 136، وهذه الأقوال صارت من ألفاظ التعديل والتوثيق المستعملة عند علماء الجرح والتعديل فيما بعد، فنجد ابن معين حين يسأل عن أبي عبيد يقول : مثلي يسأل عن أبي عبيد؟ أبو عبيد يسأل عن الناس، ويقول الخطيب معلقا على كلمة عمر : " العدل الرضا " وهذا القول كاف في التزكية لأن الوصف بالعدالة جامع للخلال التي قدمناها في باب صفة العدالة، والقول بأنه رضا تأكيده الكفاية ص 108-110.
(3) - أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه 1/12-13، والحاكم في مستدركه 1/112، والدارمي في سننه، المقدمة، باب في الحديث عن الثقات 1/125.
(4) - انظر : المنهج المقترح لفهم المصطلح ص 29-30.
(5) - أخرج هذا الأثر الإمام مسلم في مقدمة صحيحه 1/15، والإمام الترمذي في العلل الصغير بآخر السنن 5/74، والدارمي في سننه، المقدمة، باب في الحديث عن الثقات 1/123.
(6) - صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " يعذب الميت ببكاء أهله " ( 3/180، 181).
(7) - صحيح مسلم، كتاب الجنائز ، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه ( 2/641-642) .
(8) - الفكر المنهجي عند المحدثين ص 55-56.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (50)
من وسائل الصحابة في خدمة السنة
خامساً : مدارسة الحديث :
كان الصحابة بعد سماعهم للأحاديث وتثبتهم منها يتدارسونها فيما بينهم ليطبقوا ما فيها من أحكام وليزدادوا تثبتاً من حفظها .
ففي الصحيحين من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال : لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق " (1).
فهنا نجد محاورة بين الصديق والفاروق، رضي الله عنهما، في فهم الحديث، وفقهه، فأبو بكر يتجه إلى قتالهم أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم " إلا بحقه " ومن حقه أداء حق المال الواجب، وعمر ظن أن مجرد الإتيان بالشهادتين يعصم الدم في الدنيا تمسكا بعموم أول الحديث، وليس الأمر على ذلك، ثم إن عمر رجع إلى موافقة الإمام أبي بكر رضي الله عنه " (2).
وفي السنة أمثلة عديدة تكشف عن هذا الجانب من فقه الصحابة رضوان الله عليهم للسنة، واستنباطهم لأحكامها، وتطبيقهم لها، وفيما ذكرناه غنية وكفاية .
وهكذا اتضح لنا من خلال العرض السابق الجهود الضخمة التي بذلها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خدمة السنة النبوية المطهرة، فرضي الله عنهم وأرضاهم وجزاهم عن الإسلام وخدمة السنة خيرا .
(1) - أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة 3/308، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله 1/29.
(2) - جامع العلوم والحكم ص 81 ط : دار المعرفة .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (51)
السنة في عصر التابعين
أولاً : أسباب عناية التابعين بالسنة :
التابعون تلامذة الصحابة تسلموا منهم راية حمل السنة وروايتها وحفظها وتوثيقها وكانت هناك الدوافع نفسها التي دفعت الصحابة إلى العناية بالسنة وتوثيقها من ترغيب القرآن والسنة في حمل العلم وتبليغه وحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصهم على تلقي ما صدر عنه من تشريع حتى يحظوا بما وعد به من أجر ومثوبة حين قال : " نضّر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "(1) بالإضافة إلى :
1- أنهم يعلمون أن الأمر دين، أمر الله بتحقيقه والتوثق منه والتثبت فيه، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ... )(2).
يقول محمد بن الحسن : ( إن الفاسق إذا أخبر بحل أو حرمة فالسامع عليه أن يحكم رأيه فيه لأن ذلك أمر خاص لا يستقيم طلبه وتلقيه من جهة العدول دائما، فوجب التحري في خبره، فأما هنا في رواية الحديث فلا ضرورة في المصير إلى روايته، وفي العدول كثرة وبهم غنية، إذ يمكن الوقوف على معرفة الحديث بالسماع منهم فلا حاجة إلى الاعتماد على خبر الفاسق )(3) .
2- حث الصحابة للتابعين على مذاكرة السنة والعناية بها وتبلغيها للناس عملاً بقول صلى الله عليه وسلم ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب )(4) .
ومما يروي في هذا أن ابن عباس، رضي الله عنهما ، كان يحض طلابه على مذاكرة الحديث فيقول : ( تذاكروا هذا الحديث لا ينفلت منكم ، فإنه ليس بمنزلة القرآن، القرآن مجموع محفوظ، وإنكم إن لم تذاكروا هذا الحديث تفلت منكم، ولا يقل أحدكم حدثت أمس، لا أحدث اليوم، بل حدث أمس، وحدث اليوم ، وحدث غدا ) (5).
كما كان يقول رضي الله عنه ( إذا سمعتم منا شيئا فتذاكروه بينكم ) (6).
ووقف عمرو بن العاص على حلقة من قريش فقال : " ما لكم قد طرحتم هذه الأغيلمة؟ لا تفعلوا وأوسعوا لهم في المجلس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم إياه فإنهم صغار قوم أوشك أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم فأنتم اليوم كبار قوم "(7).
وكان أبو أمامة الباهلي يقول لطلابه: ( إن هذا المجلس من بلاغ الله إياكم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أرسل به، وأنتم فبلغوا عنا أحسن ما تسمعون ) .
وفي رواية : كان يحدثهم حديثا كثيرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا سكت قال : اعقلوا، بلغوا عنا كم بلغتم (8).
3- أنه قد جدت أمور في عهد التابعين دفعتهم إلى أن يزيدوا من هذه العناية وهذا التوثيق وهي ظهور الحركات المضادة لمسيرة الإسلام منذ عهد عثمان وعلي رضي الله عنهم كحركات الشيعة والخوارج وما صاحب كل فرقة من اتجاه محموم للانقضاض على الإسلام وأهله .
ولقد أدى ظهور هذه الحركات إلى إحداث الفرقة في صفوف المسلمين كما أدى إلى وضع الأحاديث التي تدعم رأى كل فريق وتقوي حزبه وتؤازر فكره ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى أمرين :
الأول : تدوين المروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدوينا رسميا عاما بحيث يكون الرجوع إليه والصدور عنه، وهذا ما أسس لعلم الحديث رواية وهو الخاص بنقل ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقيه أو خلقية ....إلخ .
الثاني : نقد الرواية وتحقيق صحة السنة وتمييز المقبول من غير المقبول، وذلك ما أسس لعلم الحديث دراية، وهو الخاص، بالقواعد والقوانين التي يعرف بها أحوال السند والمتن لتمييز المقبول من غيره (9).
4- دخول أهل البلاد المختلفة وأسئلتهم عن أمور تتعلق بالسنة أدى إلى اهتمام التابعين وتحريهم حتى تنقل السنة إلى هذه البلاد نقية .
(1) - الحديث أخرجه أبو داود في سننه، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم 2/31، وأخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع 5/33-34، وقال : أبو عيسى : حديث حسن، وأخرجه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب من بلغ علما 1/84-86، وأخرجه أحمد في مسنده 1/437.
(2) - سورة الحجرات /86.
(3) - أصول البزدوي 3/740-741.
(4) - الحديث تقدم تخريجه .
(5) - شرف أصحاب الحديث ص 95، المحدث الفاصل ص 547.
(6) - شرف أصحاب الحديث ص 95.
(7) - شرف أصحاب الحديث ص89- المحدث الفاصل ص 194.
(8) - شرف أصحاب الحديث ص 96.
(9) - انظر : شذرات من علوم السنة 1/192-193 السنة قبل التدوين ص 187-189، محاضرات في علوم الحديث ص 199.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (52)
وسائل التابعين في حفظ السنة
1- التوسع في الرحلة :
إذا كان الصحابة قد أسسوا للرحلة في طلب الحديث فإن التابعين قد توسعوا فيها حتى صارت قاعدة، فقلما نجد تابعيا لم يرحل، وحتى صار علم الرجل يقاس بكثرة رحلاته .
يقول بسر بن عبدالله : " إن كنت لأركب إلى مصر من الأمصار في الحديث الواحد لأسمعه "(1).
ويقول أبو العالية : " كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواهم " (2).
وقال سعيد بن المسيب : " إن كنت لأسير في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام "(3) .
ورحل الإمام الشعبي في طلب ثلاثة أحاديث ذكرت له وقال : ( لعلي ألقي رجلا لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ") (4).
وحدث الشعبي بحديث ثم قال لمن حدثه : ( خذها بغير شيء وقد كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة ) (5).
وروى ابن أبي خيثمة بسنده عن مكحول قال : ( كنت لعمرو بن سعيد العاص أو لسعيد بن العاص فوهبني لرجل من هذيل بمصر، فأنعم علي بها، فما خرجت من مصر حتى ظننت أنه ليس بها علم إلا وقد سمعته، ثم قدمت المدينة فما خرجت منها حتى ظننت أنه ليس بها علم إلا وقد سمعته، ثم لقيت الشعبي فلم أر مثله رحمه الله )(6).
وكان مسروق كثير الرحلة في طلب الحديث ومذاكرته، وشهد له الشعبي بذلك فقال : ( ما علمت أن أحدا من الناس كان أطلب لعلم في أفق من الآفاق من مسروق)(7) .
2- مذاكرة الحديث :
ولم يقتصر أمر التابعين على الرحلة من أجل السماع فحسب، بل كانوا يتذاكرون الحديث فيما بينهم حتى يحفظوه ويثبت في أذهانهم فلا ينفلت منهم .
فعن عطاء قال: ( كنا نأتي جابر بن عبدالله فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا وكان أبو الزبير أحفظنا لحديثه ) (8).
وعن الليث بن سعد قال : ( تذاكر ابن شهاب ليلة بعد العشاء حديثا وهو جالس متوضأ، قال فما زال ذلك مجلسه حتى أصبح ) (9).
وعن الأعمش قال : ( كان إسماعيل بن رجاء يجمع صبيان الكتاب يحدثهم يتحفظ بذاك ) (10).
بل كانوا يحثون تلامذتهم على ذلك، فعن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال : ( إحياء الحديث مذاكرته، فقال له عبدالله بن شداد: يرحمك الله، كم من حديث أحييته في صدري كان قد مات ) (11).
وعن علقمة قال : ( تذاكروا الحديث فإن حياته ذكره )(12).
3- الاحتياط في التحمل والأداء :
وإذا كان التابعون قد جدوا في سماع الحديث وتحمله ومذاكرته فإنهم بنفس الدرجة قد جدوا في الأداء فلم يجز الواحد منهم لنفسه أن يلقي الحديث قبل أن يتثبت فيه وقبل أن يتأكد من أنه لن يحرفه عن وجهه الصحيح .
يقول الإمام الشعبي مصورا عبء الرواية : ( يا ليتني أنفلت من علمي كفافا، لا علي ولا لي ) (13).
ويقول أيضا ما يدل على محاسبته لنفسه في رواية الحديث ( كره الصالحون الأولون الإكثار من الحديث، ولو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما حدثت إلا بما أجمع عليه أهل الحديث )(14).
ومن أجل هذه حفظوه في صدروهم، وكان قتادة مثلا – كما يروى الرامهرمزي- إذا سمع الحديث يأخذه العويل والزويل (15) حتى يحفظه (16) .
وقد تركت رواية الكثيرين لأنهم غير متثبتين في روايتهم وإن كانوا عدولا، فعن أبي الزناد قال : ( أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال : ليس من أهله ) (17).
(1) - سنن الدارمي 1/140.
(2) - المصدر السابق .
(3) - الرحلة للخطيب ص 127.
(4) - الرحلة للخطيب ص 196.
(5) - جامع بيان العلم وفضله 1/92-93-94.
(6) - العلم لابن أبي خيثمة ص 118.
(7) - جامع بيان العلم 1/94- العلم ص 117.
(8) - سنن الدارمي 1/149 العلم ص 127.
(9) - سنن الدارمي 1/149.
(10) - سنن الدارمي 1/148.
(11) - سنن الدارمي 1/148- العلم ص 126.
(12) - العلم ص 126.
(13) - تذكرة الحفاظ 1/88.
(14) - تذكرة الحفاظ 1/83.
(15) - عال يعول ويعيل أمره : اشتد وتفاقم والاسم العويل. القاموس ، مادة : عول . وزاوله زوالا ومزاولة : عالجة وحاول طلبه.القاموس. مادة : زول. والمعنى هنا نشط ولم يهدأ حتى يحفظه .
(16) - المحدث الفاصل ص 408.
(17) - مقدمة مسلم 1/15- المحدث الفاصل ص 407.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (53)
من وسائل التابعين في حفظ السنة
4- الاهتمام بالإسناد :
ذكرنا فيما سبق أن بذور الإسناد قد نشأت في عهد الصحابة، لكن هذا الأمر نما تطور في عهد التابعين، وأصبح التابعون يشددون في طلب الإسناد من الرواة والتزموه في الحديث، لأن السند للخبر كالنسب للمرء، وجعلوا هذا الأمر دينا، يقول ابن سيرين ، ( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم )(1) .
وقال حماد بن زيد : دخلنا على أنس بن سيرين في مرضه فقال : ( اتقو الله يا معشر الشباب، وانظروا ممن تأخذون هذه الأحاديث فإنها دينكم )(2) .
لذلك وجدناهم يسألون عن رجال الحديث حتى يلتقوا بهم أو يسألون غيرهم عنهم فيقفوا على حالهم .
روى الإمام أحمد بسنده عن عبدالله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية... ) .
قال عبدالله بن الصامت ، فلقيت رافع بن عمرو الغفاري أخا الحكم الغفاري، قلت : ما حديث سمعته من أبي ذر، كذا وكذا ،،،،، فذكرت له هذا الحديث، قال : وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
ويروى ابن عبدالبر عن الشعبي عن الربيع بن خثيم قال : ( من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات كن له عتق رقاب أو رقبة. قال الشعبي فقلت للربيع بن خثيم : من حدثك بهذا الحديث؟ فقال : عمرو بن ميمون الأودي، فلقيت عمرو بن ميمون، فقلت : من حدثك بهذا الحديث؟ فقال : عبدالرحمن بن أبي ليلى، فلقيت ابن أبي ليلى فقلت : من حدثك؟ قال : أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) (4).
قال يحيى بن سعيد : ( وهذا أول ما فتش عن الإسناد )(5).
وقال أبو العالية : ( وكنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رضينا حتى رحلنا إليهم، فسمعناها من أفواههم ) (6).
وكان التابعون واتباعهم يتواصون بطلب الإسناد، قال هشام بن عروة : ( إذا حدثك رجل بحديث فقل عمن هذا ؟ ) (7).
وكان الزهري إذا حدث أتى بالإسناد ويقول : ( لا يصلح أن يرقى السطح إلا بدرجة ) (8).
وقد أتقن التابعون الإسناد وبرزوا فيه كما برزوا في غيره من علوم الحديث وفي هذا يقول أبو داود الطيالسي : وجدنا الحديث عند أربعة : الزهري وقتادة وأبي إسحاق والأعمش فكان قتادة أعلمهم بالاختلاف، والزهري أعلمهم بالإسناد، وأبو إسحاق أعلمهم بحديث علي وابن مسعود، وكان عند الأعمش من كل هذا (9).
وبين الإمام ابن سيرين السر وراء الاهتمام بالإسناد فيقول : ( لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم )(10).
ولا يطعن فيما قررناه من التزام التابعين للإسناد المتصل بما روى عن بعض التابعين من المراسيل لأن المرسل في قول أهل العلم بالحديث ضعيف (11)ومن ناحية أخرى كانت رواية الحديث عندهم في الأصل متصلة وليست مرسلة، لأن هناك روايات تؤكد أن التابعي كان يذكر من حدثه عندما يسأل عن الإسناد، ومن هذا ما يرويه ابن عبدالبر بإسناده المتصل عن مالك ابن أنس قال : ( كنا نجلس إلى الزهري وإلى محمد بن المنكدر فيقول الزهري قال ابن عمر كذا وكذا، فإذا كان بعد ذلك جلسنا إليه فقلنا له : الذي ذكرت عن ابن عمر من أخبرك به ؟ قال : ابنه سالم (12).
يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب : ( وهكذا نرى أن الإسناد المتصل كان قد أخذ نصيبه من العناية والاهتمام في عهد التابعين حتى أصبح من واجب المحدث أن يبين نسب ما يروى وقد شبه بعضهم الحديث من غير إسناد بالبيت بلا سقف ولا دعائم ونظموه في قولهم:
والعلم إن فاته إسناد مسنده ** كالبيت ليس له سقف ولا طنب
وكان المحدث بإسناده الحديث يرفع العهدة عن نفسه ويطمئن إلى صحة ما ينقل عندما ينتهي سنده المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)(13) .
5- نقد الرجال :
إن التابعين لهم فضل وضع قواعد علم الرجال وضوابط الجرح والتعديل كقواعد اصطلاحية، فالثقة، كمصطلح حديثي عرف عندهم.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله : " كان ابن سيرين وإبراهيم النخعي وغير واحد من التابعين يذهبون إلى ألا يقبلوا الحديث إلا عن ثقة، يعرف ما يروى وما يحفظ، وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب "(14).
وكذلك الشذوذ عرف في عهدهم، يقول أيوب السخيتاني وهو من صغار التابعين ( 131هـ ) : ( إذا أردت أن تعرف خطأ معلمك فجالس غيره )(15).
وهذا معناه أن المرء يستطيع بمقارنة الروايات بعضها ببعض أن يدرك الشذوذ ويميز الصواب من الخطأ وهذا ما أسس لمصطلح الشاذ فيما بعد.
هذا بالإضافة إلى أنهم قد أحصوا أخطاء الرواة ليعرفوا حقيقة ما يروون، يقول الإمام الشعبي ( ولله لو أصبت تسعا وتسعين مرة وأخطأت مرة لعدوا على تلك الواحدة ) (16).
هكذا بين جهابذة هذا العلم أحوال الرواة المقبول منهم والمتروك حتى تكامل هذا العلم فيما بعد واستوى على سوقه وألفت فيه المؤلفات الجمة والتي تحوى شهادة هؤلاء الأعلام على الرواة ونقدهم لهم .
6- نقد متن الحديث :
اقتدى التابعون بأساتذتهم الصحابة في الاهتمام بالمتن وتوثيقه، فنقدوه إذا وجدوا معارضة بينه وبين القرآن أو بينه وبين مبادئ الإسلام العامة، وهدفهم في ذلك تمييز الصحيح من الضعيف .
ومن الأمثلة على ذلك : ( أن الإمام الشعبي سمع رجلا يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى خلق صورين، له في كل صور نفختان، نفخة الصعق، ونفخة القيامة ) .
فرده لأنه يتعارض مع القرآن الكريم ، وقال لراويه: ( يا شيخ اتق الله ولا تحدثنا بالخطأ إن الله تعالى لم يخلق إلا صورا واحدا، وإنما هي نفختان : نفخة الصعق ونفخة القيامة )(17) وقد فهم هذا من قوله تعالى : ( ونفخ في الصور، فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون )(18).
(1) - مقدمة مسلم 1/14- المجروحين لابن حبان 1/ص 21.
(2) - المجروحين 1/22.
(3) - المسند 5/31.
(4) - التمهيد لابن عبدالبر 1/55.
(5) - المحدث الفاصل ص 208 السنة قبل التدوين ص 223.
(6) - مقدمة التمهيد 1/56.
(7) - الجرح والتعديل 1/34.
(8) - الجرح والتعديل 1/16.
(9) - تذكرة الحفاظ 1/108.
(10) - مقدمة مسلم 1/15.
(11) - التقريب للنووي ص 9- قواعد التحديث للقاسمي ص 133.
(12) - مقدمة التمهيد 1/37.
(13) - السنة قبل التدوين 225-226.
(14) - المحدث الفاصل ص 405.
(15) - المحدث الفاصل ص 405.
(16) - تذكرة الحفاظ 1/82- السنة قبل التدوين ص 234.
(17) - تحذير الخواص للسيوطي ص 203-204.
(18) - سورة الزمر /68.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (54)
من وسائل التابعين في حفظ السنة
7- كتابة السنة :
لقد تلقى التابعون علومهم على يدي الصحابة وخالطوهم، وعرفوا كل شيء عنهم وحملوا الكثير الطيب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريقهم، وعرفوا متى كره هؤلاء كتابة الحديث ومتى أباحوه فتأسوا بهم، فمن الطبيعي أن تتفق آراء التابعين وآراء الصحابة حول حكم التدوين، فإن الأسباب التي حملت الخلفاء الراشدين والصحابة على الكراهة هي نفسها التي حملت التابعين عليها، فذا هم يكرهون الكتابة ما دامت أسباب الكراهة قائمة، ويجمعون على الكتابة وجوازها عند زوال تلك الأسباب ، ولن نستغرب أن نرى خبرين عن تابعيين أحدهما يمنع الكتابة والآخر يبيحها ما دمنا نوجه كل مجموعة من هذه الأخبار وجهة تلائم الأسباب التي أدت بها .
وعليه فإن كراهية بعض كبار التابعين للكتابة، كعبيدة بن عمرو السلماني المرادي ( 72هـ) والذي لم يرض أن يكتب عنده أحد ولا يقرأ عليه أحد (1).
وكإبراهيم النخعي ( 96هـ ) والذي كره أن تكتب الأحاديث في الكراريس وتشبه بالمصاحف (2)وكان يقول : ( ما كتبت شيئا قط ) (3)حتى أنه منع حماد بن سليمان من كتابة أطراف الأحاديث (4)ثم تساهل في كتابتها .
قال ابن عون : ( رأيت حمادا يكتب عن إبراهيم فقال له إبراهيم : ألم أنهك؟ قال : إنما هي أطراف ) (5).
وكقتادة الذي كان يكره الكتابة فإذا سمع وقع الكتاب أنكره والتمسه بيده (6)
ونسمع عامرا الشعبي ( 103هـ ) يردد عبارته المشهورة ( ما كتبت سوداء في بيضاء ولا سمعت من رجل حديثا فأردت أن يعيده علي ) (7).
وإنما دفعهم إلى ذلك خوفهم من اختلاط السنة بآرائهم الشخصية وفي هذا يقول أستاذنا الدكتور يوسف العش : ( وأما من ورد عنهم الامتناع عن الإكتاب من هذا الجيل فيؤول امتناعهم بما لا يخالف ما انتهينا إليه، فهم جميعا فقهاء، وليس بينهم محدث ليس بفقيه، والفقيه يجمع بين الحديث والرأي، فيخاف تقييد رأيه واجتهاده إلى جانب أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم )(8) .
ويوضح هذا بأمثله تثبت ما ذهب إليه فيقول : ( إننا نجد في الواقع أخبارا تروى كراهتهم لكتابة الرأي كاعتذار زيد بن ثابت عن أن يكتب عنه كتاب مروان .. وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب – وهو من الفقهاء والذين روى امتناعهم عن الإكتاب – فسأله عن شيء فأملاه عليه ثم سأله عن رأيه فأجابه فكتبه الرجل ، فقال رجل من جلساء سعيد أيكتب يا أبا محمد رأيك، فقال سعيد للرجل: ناولينها، فناوله الصحيفة فخرقها(9)، وقيل لجابر بن زيد إنهم يكتبون رأيك، قال : تكتبون ما عسى أرجع عنه غدا )(10) .
وكل هذه الأقوال رويت من علماء، حدث المؤرخون عنهم أنهم كرهوا إكتاب الناس وهي تدل دلالة صريحة على أن الكراهة ليست في كتابة الحديث بل في كتابة الرأي، وأن الأخبار التي وردت في النهي دون تخصيص إنما قصد بها الرأي خاصة، ويشابه هذا الأمر ما حدث في أمر كراهية الرسول والصحابة الأولين من التباس الحديث بالقرآن أو الانكباب عليه دونه، فما كانوا يخشونه من الحديث أصبح خشية التابعين الأولين من الرأي والتباسه بالحديث(11).
ويقوى هذا الرأي ما ورد عن هؤلاء التابعين من كتابتهم للحديث عن الصحابة، من أخبار يحثون فيها على الكتابة، ويسمحون لطلابهم أن يكتبوا عنهم، خاصة بعد أن فرق الطلاب بين النهي عن كتابة الرأي، والنهي عن كتابة الرأي مع الحديث، فهذا سعيد بن جبير ( 95هـ ) يكون مع ابن عباس فيستمع منه الحديث فيكتبه في واسطة الرحل فإذا نزل نسخة )(12).
وعنه قال : ( كنت أسير بين ابن عمر وابن عباس فكنت أسمع الحديث منهما، فأكتبه على واسطة الرحل حتى أنزل فاكتبه ) (13).
وهذا عامر الشعبي بعد أن كان يقول : ( ما كتبت سوداء في بيضاء ) يردد قوله : ( الكتاب قيد العلم )(14) وكان يحض على الكتابة ويقول : ( إذا سمعتم مني شيئا فاكتبوه ولو في حائط ) (15)، وكان عطاء بن أبي رباح ( 114هـ ) يكتب لنفسه، وكان طلابه يكتبون بين يديه )(16).
وقد بالغ في حض طلابه على التعلم والكتابة ، فعن أبي حكيم الهمداني، قال : ( كنت عند عطاء بن أبي رباح، ونحن غلمان، فقال : يا غلمان، تعالوا اكتبوا، فمن كان منكم لا يحسن كتبنا له، ومن لم يكن معه قرطاس أعطيناه من عندنا ) (17).
وكان نافع مولى ابن عمر يملى علمه وطلابه يكتبون بين يديه(18) .
وكان عمر بن عبدالعزيز ( 101هـ ) يكتب الحديث، روى عن أبي قلابه قال : خرج علينا عمر بن عبدالعزيز لصلاة الظهر ومعه قرطاس، ثم خرج علينا لصلاة العصر وهو معه، فقلت له : يا أمير المؤمنين، ما هذا الكتاب؟ قال : حديث حدثني به عون بن عبدالله فأعجبني فكتبته (19)، وانتشرت الكتب حتى قال الحسن البصري ( 110هـ ) : ( إن لنا كتبا كنا نتعاهدها )(20).
ونشطت الحركة العلمية وازدادت معها الكتابة ويصور لنا قتادة بن دعامة السدوسي ( 118هـ ) بإجابته لمن يسأله عن كتابة الحديث – موقف هذا الجبل من التابعين من الكتابة إذ يقول : وما يمنعك أن تكتب ، وأخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب ( قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى )(21).
وهذا يدل على أن الكتابة قد شاعت بين مختلف الطبقات ولم يعد أحد ينكرها في أواخر القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني، وقد كثرت الصحف والكتب في ذلك الوقت حتى لنرى مجاهد بن جبر ( 103هـ ) يسمح لبعض أصحابه أن يصعدوا إلى غرفته فيخرج إليهم كتبه فينسخون منها(22) ،وكان أن ظهرت المصنفات المستقلة في العلوم المختلفة ومنها السنة، ومن أبرز المؤلفات الحديثية في هذا العصر :
1- المغازي والسير، وكان أول من ألف فيها- فيما أعلم – هو عروة بن الزبير الذي صنف كتابه المغازي والسير (23).
2- كتب الأطراف – وكان أول من ألف فيها – فيما أعلم – محمد بن سيرين الذي كتب أطراف حديث عبيدة السلماني(24) .
3- السنن، وكان أول من ألف فيها – فيما أعلم – هو مكحول الشامي الذي صنف كتاب " السنن في الحديث " (25).
ويلاحظ أن كتابة السنة قد أخذت طورا أعمق في عهد التابعين منه في عهد الصحابة وأنها بدأت تأخذ طابعا خاصا ومساراً جديداً لكل مجموعة من الأحاديث، وأن التأليف المنهجي أخذ يبرز إلى ساحات العلم ولعل أول بادرة له كانت بكتاب السنن لمكحول الدمشقي، كما لا يخفى أن هذه المؤلفات هي مؤلفات لأنواع جديدة لم تكن في سلفهم من الصحابة كما أن تلك الأنواع التي كانت في عهد الصحابة قد ألف فيها التابعون (26)، ومن أشهر تلك المؤلفات ( صحيفة همام بن منبه ) والتي كتبها عن أبي هريرة، ونقلها المصنفون بعد ذلك في القرن الثاني وما بعده(27)وقد نقلها الإمام أحمد بن حنبل في مسنده في موضع واحد بسند واحد في أول الأحاديث (28).
(1) - جامع البيان العلم ص 84 – تقييد العلم ص 45-46 – العلم ص 144.
(2) - سنن الدارمي 1/121، جامع بيان العلم ص 84- تقييد العلم ص 48.
(3) - تقييد العلم ص 60.
(4) - العلم لزهير بن حرب ص 141.
(5) - سنن الدارمي 1/120- جامع بيان العلم ص 92- العلم ص 141-146.
(6) - سنن الدارمي 1/120.
(7) - جامع بيان العلم ص 85.
(8) - تقييد العلم، مقدمة المحقق ص 20.
(9) - جامع بيان العلم 2/144.
(10) - جامع بيان العلم وفضله 2/31.
(11) - مجلة الثقافة المصرية الصفحة 8-9 من العدد 352 في السنة السابعة، نقلا عن السنة قبل التدوين ص 323-325.
(12) - جامع بيان العلم ص 92.
(13) - تقييد العلم ص 98.
(14) - تقييد العلم ص 99- المحدث الفاصل ص 375.
(15) - العلم لزهير ص 144- طبقات ابن سعد 6/257.
(16) - سنن الدارمي 1/129.
(17) - السنة قبل التدوين ص 327.
(18) - سنن الدارمي 1/129.
(19) - سنن الدارمي 1/130.
(20) -جامع بيان العلم ص 95.
(21) - تقييد العلم 103، والآية 52 من سورة طه. المحدث الفاصل 372، شرح السنة 1/296.
(22) - سنن الدارمي 1/128، تقييد العلم ص 105.
(23) - كشف الظنون 2/1747.
(24) - جامع بيان العلم 2/9.
(25) - هدية العارفين 2/470- الفهرست لابن النديم 318.
(26) - كشف اللثام 1/132، وانظر أمثلة أخرى بكتاب دراسات في الحديث النبوي للدكتور محمد الأعظمي ( 1/143-167) فقد عرض لنماذج كثيرة من كتابة التابعين، والكتابة عنهم .
(27) - طبعت هذه الصحيفة بتحقيق الدكتور رفعت فوزي ونشرتها مكتبة الخانجي 1406هـ- 1985م .
(28) - المسند 2/314-319.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (55)
يتبع من وسائل التابعين في حفظ السنة
ضوابط التدوين:
وهكذا هيأ هؤلاء التابعون بتدوينهم علم الصحابة، المادة المدونة لمن تصدوا لتصنيف المؤلفات الجامعة في الحديث في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، وقد وضع التابعون مع هذا التدوين ضوابطه وأسسه التي تجعل الأحاديث تتنقل به انتقالا صحيحا فلا يعتريها تحريف أو تبديل ومن هذه الضوابط :
1- المعارضة والمقابلة : ومعنى ذلك أن التلميذ يعرض على شيخه ما أخذه عنه ليتلافى الأخطاء التي تحدث أثناء النقل، فعن بشربن نهيك قال : " أتيت أبا هريرة بكتابي الذي كتبت عنه فقرأته عليه، قلت : هذا سمعته منك؟ قال : نعم " (1).
ويقول هشام بن عروة : قال لي أبي : أكتبت؟ قلت : نعم ، قال :عارضت؟ قلت : لا ، قال : لم تكتب(2).
ويقول يحيى بن أبي كثير ( 129هـ ) من كتب ولم يعارض كان كمن خرج من المخرج ولم يستنج(3) .
بل إن الشيوخ يستحثون التلاميذ على المعارضة، قيل لنافع مولي ابن عمر: إنهم قد كتبوا حديثك، قال : فليأتوني حتى أقيمه لهم (4).
وقال الوليد بن أبي السائب : رأيت مكحولا ونافعا وعطاء تقرأ عليهم الأحاديث، وعن عبيدالله بن أبي رافع قال ، رأيت من يقرأ على الأعرج – عبدالرحمن بن هرمز ( 117هـ) حديثه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : " هذا حديثك يا أبا داود ؟ قال : نعم (5).
وعن عاصم الأحول قال عرضت على الشعبي أحاديث فأجازها لي (6).
وعن معمر قال رأيت رجلا من بني أمية يقال له إبراهيم بن الوليد جاء إلى الزهري بكتاب فعرض عليه ثم قال : أحدث بهذا عنك يا أبا بكر؟ قال إي لعمري فمن يحدثكموه غيري ؟ (7).
2- الحفظ : ونعني به حفظ الكتب، فبعضهم كان يحفظها في ذاكرته، وبعضهم يحفظها في مكان أمين ، وكان قتادة يحفظ صحيفة الصحابي الجليل جابر بن عبدالله حفظا جيدا (8)، وكان الحسن بن علي يحفظ قول أبيه المكتوب في ربعة لا يخرجه منها إلا عند الحاجة إليها (9)، وكان خالد بن معدان، الذي لقي سبعين صحابيا يتخذ لكتابه عرى وأزراراً حفظا له (10).
وكانت هذه الكتب تراجع بالسماع أو بالقراءة على الشيخ حتى لا تقرأ محرفة، قيل لابن سيرين : ما تقول في رجل يجد الكتاب يقرؤه أو ينظر فيه؟ قال : لا . حتى يسمعه من ثقة (11)، واستفتى أيوب الناس فيما آل إليه من كتب أبي قلابة وصية، هل يحدث بما فيه مع أن بعضه انتقل إليه وجادة، ولهذا توقف ابن سيرين وقال له : لا آمرك ولا أنهاك(12).
واعتنى الأئمة بهذه الناحية عناية شديدة فتناولوا هذه الكتب ونبهوا على ما انتقل منها سماعا أو عرضا وما لم ينقل كذلك فلا يعتمد عليه كثيرا وخاصة إذا كان بطريق الوجادة إلى آخر ما جاء في هذا الصدد .
وإذا كان ما قدمناه من التدوين يتعلق بالتدوين الفردي، فقد ارتقى هذا الأمر إلى مرتبة التدوين الرسمي العام الذي تشرف عليه الدولة وتندب له الأفراد وإليك بيان هذا .
(1) - تهذيب التهذيب 1/470- الكفاية ص 411 ط دار الكتب الحديثة .
(2) - جامع بيان العلم ص 100 - أدب الإملاء ص 79.
(3) - جامع بيان العلم ص 100- أدب الإملاء ص 78.
(4) - أدب الإملاء والاستملاء ص 78.
(5) - طبقات ابن سعد 5/209.
(6) - الكفاية ص 264.
(7) - الكفاية ص 266.
(8) - طبقات ابن سعد 7/2.
(9) - العلل ومعرفة الرجال 1/104.
(10) - تذكرة الحفاظ 1/78.
(11) - الكفاية ص 52 توثيق السنة ص 62.
(12) - المحدث الفاصل ص 459- توثيق السنة ص 62.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (56)
التدوين الرسمي للسنة
من المعلوم أن السنة لم تدون تدوينا رسميا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دون القرآن، عدا ما دونه بعض الصحابة في صحف خاصة بهم – كما تقدم بيانه وفي عصر الخلفاء الراشدين كانت هناك محاولات لجمعها وتدوينها فقد عزم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على كتابة السنة وتدوينها ثم تراجع عن ذلك خشية أن تلتبس بكتاب الله عز وجل .
يقول عروة بن الزبير : ( إن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار عليه عامتهم بذلك ، فلبث عمر شهرا يستخير الله في ذلك شاكا فيه، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال : إني كنت قد ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت، فإذا أناس من أهل الكتاب قبلكم، قد كتبوا مع كتاب الله كتبا، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا، فترك كتاب السنن )(1) .
وهكذا ظلت السنة في عصر الصحابة محفوظة في صدورهم، ثم نقلوها إلى التابعين مشافهة وتلقينا كما تحملوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأول من فكر في جمع السنة وتدوينها رسميا من التابعين الخليفة العادل الورع التقي أمير المؤمنين : عمر بن عبدالعزيز ( 101هـ ) والذي قوى عزمه لجمع السنة عدة أسباب نوجزها فيما يلي (2):
1- أنه قد مر على القرآن الكريم زمن طويل، وحفظه من المسلمين خلق كثير ودون في مصاحف استقرت في الأمصار، وبهذا استقر القرآن في الصدور والمصاحف، وأصبح في مأمن من اللبس والشك، فلا حرج إذا في كتابة السنة وتدوينها.
2- موت الكثير من حفظة الحديث بمرور الزمن، وقلة الضبط وضعف ملكة الحفظ كلما تقدم الزمن بالناس .
3- كثرة المذاهب الدينية والسياسية التي عبثت بالحديث وكادت تذهب بالثقة فيه، الأمر الذي جعل العلماء يقومون بالدفاع عنه، ويعملون على حفظه بوسائل مختلفة كان من أهمها جمعة وتدوينه .
يشهد لذلك قول ابن شهاب الزهري ( 124هـ ) : ( لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها ولا نعرفها ما كتبت حديثا ولا أذنني في كتابته )(3) .
من أجل هذه الأسباب قوى عزم عمر بن عبدالعزيز على جمع السنة، والمحافظة عليها من الفناء والدرس ونقلها من الصدور إلى السطور والخروج بها إلى دائرة التدوين والتصنيف والجمع والدرس ولتصبح مرجعاً محفوظاً يرجع إليه من يريد الارتشاف من نبعها الصافي ومعينها الوافي .
فأمر عمر بن عبدالعزيز من يثق به في دينه وحفظه بكتابتها وتدوينها، وبذلك حقق عمر بن عبدالعزيز رغبة جده عمر بن الخطاب التي جاشت في نفسه مدة ثم عدل عنها خوفا من أن تلتبس بالقرآن أو يصرف الناس إليها .
روى البخاري في صحيحه في باب كيف يقبض العلم ( وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى أبي بكر بن حزم عامله على المدينة – انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه – فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم – ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً )(4).
وقد علق الحافظ ابن حجر على هذا الأثر بقوله : ( ويستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي، وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ، فلما خاف عمر بن عبد العزيز، وكان على رأس المائة الأولى، من ذهاب العلم بموت العلماء، رأى في تدوينه ضبطا له وإبقاء، وقد روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان هذه القصة بلفظ : كتب عمر بن عبدالعزيز إلى الآفاق : انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه ) (5).
وروى الإمام مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن : ( إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنة أو حديث عمرة، أو نحو هذا فاكتبه لي فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ) (6).
وفي رواية أمره أن يكتب له العلم الذي عند عمرة بنت عبدالرحمن ( 98هـ ) والقاسم ابن محمد ( 107هـ ) فكتبه له (7).
كما أمر ابن شهاب الزهري ( 124هـ ) وغيره بجمع السنن (8)، وربما لم يكتف عمر بن عبدالعزيز بأمر من أمرهم بجمع الحديث، فأرسل كتبا إلى الآفاق يحث المسئولين فيها على تشجيع أهل العلم على دراسة السنة وإحيائها، ومن هذا ما يرويه عكرمة بن عمار قال : سمعت كتاب عمر بن عبدالعزيز يقول : ( أما بعد فأمروا أهل العلم أن ينتشروا في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت ) (9).
بل هناك أخبار تثبت أن عمر بن عبدالعزيز قد شارك العلماء في مناقشة بعض ما جمعوه ومن ذلك ما رواه أبو الزناد – عبدالله بن ذكوان القرشي ( 131هـ ) قال : ( رأيت عمر بن عبدالعزيز جمع الفقهاء فجمعوا له أشياء من السنن فإذا جاء الشيء الذي ليس العمل عليه، قال : هذه زيادة ليس العمل عليها ) (10).
من هنا يتبين لنا أن عمر بن عبدالعزيز قد بذل جهدا كبيرا في المحافظة على السنة مع قصر مدة خلافته، فقد طلب من أبي بكر بن حزم جمع الحديث، وأبو بكر هذا من أعلام عصره، قال فيه مالك بن أنس : ( ما رأيت مثل أبي بكر بن حزم أعظم مروءة ولا أتم حالا ... ولي المدينة والقضاء والموسم (11)وعنه قوله : " لم يكن عندنا أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر "(12)، وكان قد طلب منه أن يكتب إليه حديث عمرة بنت عبدالرحمن وهي خالته، نشأت في حجر عائشة، وكانت من أثبت التابعين في حديث عائشة رضي الله عنها )(13) .
وأما القاسم بن محمد بن أبي بكر ( 107هـ ) الذي ذكر في بعض الروايات فهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة، عالم أهل زمانه، تلقى علمه عن عمته عائشة رضي الله عنها، وعائشة أم المؤمنين معروفة بعلمها وتعمقها في السنة وهي غنية عن التعريف .
وأما ابن شهاب أحد الذين شاركوا في الجمع والكتابة فهو أحد أعلام ذلك العصر كان قد كتب السنن وما جاء عن الصحابة أثناء طلبة العلم(14)، وكان ذا مكانة رفيعة، فقد روى عن أبي الزناد أنه قال : ( كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع ، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس ) (15).
وإذا كانت المنية قد اخترمت الخليفة الراشد الخامس قبل أن يرى الكتب التي جمعها أبو بكر – كما يذكر ذلك بعض العلماء (16)فإنه لم تفته أولى ثمار جهوده التي حققها ابن شهاب الزهري الذي يقول : ( أمرنا عمر بن عبدالعزيز بجمع السنن فكتبنا دفترا دفترا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتر )(17).
وعلى هذا يحمل ما قاله المؤرخون والعلماء ( أول من دون العلم ابن شهاب )(18) وله أن يفخر بعمله هذا فيقول : ( لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني )(19) .
وقد اعتبر علماء الحديث تدوين عمر بن عبدالعزيز هذا أول تدوين للحديث ورددوا في كتبهم هذه العبارة : ( وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبدالعزيز ونحوها )(20) .
ويفهم من هذا أن التدوين الرسمي كان في عهد عمر بن عبدالعزيز ، أما تقييد الحديث وحفظه في الصحف والرقاع والعظام فقد مارسه الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقطع بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ، بل بقى جنبا إلى جنب مع الحفظ حتى قيض الله للحديث من يودعه المدونات الكبرى .
(1) - تقييد العلم ص 50- جامع بيان العلم 1/64.
(2) - عناية المسلمين بالسنة للدكتور الذهبي ص 18- دراسات في مناهج المحدثين ص 78-79.
(3) - تقييد العلم ص 108.
(4) - صحيح البخاري، كتاب العلم باب كيف يقبض العلم ( 1/234 ) فتح .
(5) - فتح الباري 1/194.
(6) - موطأ مالك، المقدمة لعبدالحي اللكنوي 13، تقييد العلم ص 105،سنن الدارمي ، المقدمة، باب من رخص في كتاب العلم 1/137.
(7) - مقدمة الجرح والتعديل ص 21، والمراد أن يكتب له حديث عمرة لأنها توفيت قبل سنة ( 99هـ) السنة التي تولى فيها عمر بن عبدالعزيز الخلافة وواضح هذا في الخبر الذي قبله .
(8) - جامع بيان العلم 1/76.
(9) - المحدث الفاصل ص 153- السنة قبل التدوين ص 330.
(10) - قبول الأخبار ص 30 نقلا عن السنة قبل التدوين ص 330.
(11) - تهذيب التهذيب 12/39.
(12) - تهذيب التهذيب 12/39.
(13) - تهذيب التهذيب 12/438، وقال سفيان بن عيينة: أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبدالرحمن. انظر مقدمة الجرح والتعديل ص 45.
(14) - جامع بيان العلم 1/76.
(15) - جامع بيان العلم 1/73.
(16) - قواعد التحديث ص 47.
(17) - جامع بيان العلم 1/76.
(18) - جامع بيان العلم 1/76- حلية الأولياء 3/363.
(19) - الرسالة المستطرفة ص 4.
(20) - قواعد التحديث ص 71- توجيه النظر ص 7 وإرشاد الساري 1/14.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (57)
الحفاظ على المدارس الحديثية وتوسيعها
لما انتشرت الفتوحات الإسلامية واتسعت رقعة بلاد الإسلام دخل كثير من أهل تلك البلاد في هذا الدين الجديد وقد احتاجوا إلى من يرشدهم ويعلمهم ويفقهم في الدين فما كان من الصحابة والتابعين إلا أن أقاموا في كل بلد دخلوها المساجد وأقاموا فيها حلقات للتعليم يعلمون الناس فيها القرآن والحديث، وهكذا أصبحت في الأقاليم والأمصار الإسلامية، مراكز علمية، ومدارس حديثية، تتواصل فيها الحلقات، ويتلقى فيها التلاميذ عن الشيوخ، ويجدر بنا أن نذكر لمحة موجزه عن هذه المدارس، فنقول وبالله التوفيق .
- مدرسة المدينة : كان فيها كثير من كبار الصحابة الذين أبوا أن يغادروها منهم عبدالله بن عمر وعائشة أم المؤمنين وجابر بن عبدالله وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم، وقد تتلمذ عليهم كثير من التابعين من أشهرهم سعيد بن المسيب وابن شهاب الزهري، وسالم بن عبدالله بن عمر، وعروة بن الزبير بن العوام، وعبدالله بن ذكران المشهور بأبى الزناد، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبو بكر عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ونافع مولى عبدالله بن عمر، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، وأبو جعفر محمد بن الحسين المعروف بالباقر، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي عبدالرحمن فروخ وسليمان بن يسار مولى السيدة ميمونة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهم )(1) .
- مدرسة مكة : كان بها كثير من الصحابة منهم عبدالله بن عباس، وعثمان بن طلحة، وعتاب بن أسيد، وعبدالله بن السائب المخزومي، وعكرمة بن أبي جهل ،وعباس بن أبي ربيعة، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وغيرهم، وقد تتلمذ عليهم كثير من التابعين من أشهرهم عطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر مولى بني مخزوم ،وعبدالملك بن عبدالعزيز بن جريح ،وعكرمة مولى بن عباس، وأبو الزبير محمد بن مسلم مولى حكيم بن حزم وغيرهم(2).
ولابد أن نذكر هنا علو منزلة مدرسة المدينة ومكة وأثرهما في تبادل الثقافة ونشر الحديث النبوي في مواسم الحج، حيث يلتقي فيها المسلمون ويجتمع أكثرهم بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتابعين ويحملون معهم الكثير الطيب من حديثة عليه الصلاة والسلام إلى بلادهم . ولا تزال لمكة والمدينة هذه المكانة إلى يومنا هذا، وستبقى ما بقى الإسلام إلى يوم الدين، وكان أشهر من تخرج في مدرسة الحجاز من أتباع التابعين الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب.
- مدرسة الكوفة : كان بها كثير من الصحابة منهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن مسعود، وخباب بن الأرت، وحذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي وأبو موسى الأشعري، والبراء بن عازب، وعمار بن ياسر، والنعمان بن بشير، وسمرة بن جندب وغيرهم . وقد تتلمذ عليهم كثير من التابعين من أشهرهم أبو محمد سليمان الأعمش، والأسود بن يزيد النخعي، وشريح بن الحارث الكندي، وأبو عمرو عامر بن شراحبيل الشعبي، وسعيد بن جبير، ومسروق بن الأجدع الهمذاني، وعلقمة بن قيس النخعي، وعبيدة بن عمر السلماني، وإبراهيم بن زيد النخعي وغيرهم . وكان أشهر من تخرج بمدرسة الكوفة من أتباع التابعين هو سفيان الثوري ووكيع بن الجرح(3).
- مدرسة البصرة : نزل بها كثير من الصحابة منهم أنس بن مالك، وعمران بن حصين، ومعقل بن يسار، وعبدالرحمن بن سمرة، وعتبه بن غزوان، وأبو برزة الأسلمي، وأبو بكرة،، وعبدالله بن مغفل المزني، وغيرهم. وقد تتلمذ عليهم كثير من التابعين من أشهرهم أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، ومحمد ابن سيرين مولى أنس بن مالك، وأبو الخطاب قتادة بن دعامة العروسي، وأبو بردة بن أبي موسى، ومطرف بن عبدالله بن الشخير، وأبو العالية ربيع بن مهران الرياحي، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، والحسن بن أبي الحسن يسار مولى زيد بن ثابت، وكان أشهر من تخرج منها من أتباع التابعين يحيى بن سعيد القطان وشعبه بن الحجاج وعبدالرحمن بن مهدي(4).
- مدرسة الشام : نزل بها كثير من الصحابة، منهم معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء الأنصاري، والفضل بن العباس، وعبدالرحمن بن غنم ،وشرحبيل بن حسنة وغيرهم، وقد تتلمذ عليهم كثير من التابعين من أشهرهم، أبو نصر رجاء بن حيوة الكندي الفلسطيني، وعائذ الله أبو إدريس الخولاني، ومكحول بن أبي مسلم مولى امرأة من هذيل، وقبيضة بن ذؤيب، وعبدالرحمن ابن غنم الأشعري، وعمر بن عبدالعزيز بن مروان، وغيرهم، وكان أشهر من تخرج فيها من أتباع التابعين عبدالرحمن الأوزاعي(5).
- مدرسة مصر : نزل بها كثير من الصحابة منهم عبدالله بن عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر الجهني، وخارجة بن حذافة، وعبدالله بن سعد بن أبي السرح، وأبو بصرة الغفاري، وغيرهم، وقد تتلمذ عليهم كثير من التابعين من أشهرهم أبو رجاء يزيد بن أبي حبيب المصري مولى الأزد، وأبو الخير مرشد بن عبدالله اليزني، وعمر بن الحارث، وخير ابن نعيم الحضرمي، وعبدالله بن سليمان الطويل، وعبدالرحمن بن شريح الغافقي، وحيوة ابن شريح التجيبي ، وغيرهم. وقد كان ليزيد بن أبي حبيب أثر بعيد في نشر الحديث في مصر، فقد تتلمذ عليه الليث بن سعد، وعبدالله بن لهيعة اللذان تتلمذ عليهما خلق كثير، وكانا في عصرهما محدثي الديار المصرية(6).
والخلاصة أن هذه المدارس التي عرضنا لها كان لها دور كبير وأثر بالغ في تواصل الحلقات العلمية وانتقال الأحاديث النبوية للأجيال المتتالية حتى دونت السنة في المصنفات، الأمر الذي جعلنا نرى في الأحاديث النبوية أحاديث أسانيدها مدنيون، وأخرى أسانيدها مكيون، وأخرى أسانيدها شاميون وأخرى أسانيدها بصريون وهكذا وهذا معناه أن هذه المدارس قد حافظت على تواصل حلقات الرواية جيلا إثر جيل . (1) - السنة قبل التدوين ص 164، محاضرات في علوم الحديث ص 186.
(2) - السنة قبل التدوين ص 165- محاضرات في علوم الحديث ص 187.
(3) - السنة قبل التدوين ص 167- محاضرات في علوم الحديث ص 187.
(4) - السنة قبل التدوين ص 167- محاضرات في علوم الحديث ص 188.
(5) - السنة قبل التدوين ص 168- محاضرات في علوم الحديث ص 188.
(6) - السنة قبل التدوين ص 170-171-محاضرات في علوم الحديث ص 189.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (58)
الفرق بين منهج الصحابة ومنهج التابعين
في الصفحات الماضية وقفنا على منهج الصحابة والتابعين في حفظ السنة ولاحظنا شدة الارتباط الفكري بين الصحابة والتابعين في المنهج والمسلك حفاظا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أن بعض الظروف قد جدت في عصر التابعين جعلتهم يجتهدون في تثبيت القواعد التي تصون السنة، ويمكننا عرض ذلك في نقاط هي :
1- سلك التابعون منهج الصحابة في التثبت من الروايات لكنهم لم ينهجوا منهج الصحابة من التقليل في الرواية بل أكثروا من رواية الحديث ونشره .
2- شدة العناية بالإسناد فنجد أن الصحابة وإن نشأ في عصرهم بذور الإسناد فإنه قد نما وتطور في عصر التابعين، بل وتأصل في عصرهم التفتيش عن أحوال الرجال نتيجة للملابسات التي جدت في عصرهم ولم تكن موجودة في عصر أسلافهم الصحابة كوجود المذاهب الدينية والأحزاب السياسية والتي نتجت عن الفتنة التي حدثت في عصر عثمان رضي الله عنه .
يشهد لذلك ما جاء عن محمد بن سيرين : ( لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ عنهم ) (1).
وقال ابن سيرين أيضاً : ( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ) (2).
وروى الدرامي بسنده عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا : ( لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم ) (3).
3- التوسع في الكتابة فنجد أن كتابة السنة على مستوى الأفراد وحفظها في الصحف والرقاع والعظام قد مارسه الصحابة والتابعون، وإن كان التابعون قد أضافوا مؤلفات جديدة فوق مؤلفات الصحابة – وقد سبق بيان ذلك – غير أن الجديد في عصر التابعين هو التدوين الرسمي الذي تبنته الدولة وقامت على أمره صيانة للحديث وخوفا عليه من الضياع وذلك ما قام به خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وأرضاه .
4- تميز السنة كعلم مستقل عن العلوم الأخرى، ومن هنا وجدنا في التابعين من اشتهر بالحديث كالزهري والشعبي، ومن اشتهر بالتفسير كقتادة ومجاهد وعكرمة، ومن اشتهر بالسيرة والمغازي كعروة بن الزبير وأبان بن عثمان .
5- وجود المصنفات المستقلة بالسنة كالسنن لمكحول، والأطراف لمحمد بن سيرين.
6- التوسع في الرحلة لدرجة قياس العالم بكثرة رحلاته .
7- وضع بواكير علم الرجال وقواعد المصطلح .
8- الحفاظ على المدارس الحديثية وتوسيعها الأمر الذي أدى إلى تواصل حلقات الرواية في الأجيال .
(1) مقدمة صحيح مسلم 1/14.
(2) مقدمة صحيح مسلم 1/14.
(3) سنن الدارمي، باب اجتناب أهل الأهواء والبدع والخصومة 1/110.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (59)
أئمة الحديث من التابعين
كان للجهود التي بذلها التابعون في الحفاظ على السنة ونشرها ثماراً مباركة فقد خرجت أفذاذا من الجيل حازوا قصب السبق في هذا الميدان لاجتهادهم وإخلاصهم فيه فكان لهم من الخلف مزيد الثناء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
قال جعفر بن ربيعه : قلت لعراك بن مالك : من أفقه أهل المدينة ؟ قال : أما أعلمهم بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضايا أبي بكر وعمر وعثمان وأفقهم فقها وأعلمهم علما بما مضى من أمر الناس، فسعيد بن المسيب، وأما أغزرهم حديثا فعروه بن الزبير، ولا تشاء أن تفجر من عبيدالله بن عبدالله بحرا إلا فجرته، وأعلمهم عندي جميعا ابن شهاب، فإنه جمع علمهم جميعا إلى علمه .
وقال الزهري : العلماء أربعة : سعيد بن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن بالبصرة، ومكحول الشام .
وقال أبو الزناد : كان فقهاء أهل المدينة أربعة : سعيد بن المسيب، وقبيضة بن ذؤيب، وعروة بن الزبير، وعبدالملك بن مروان .
وقال الزهري : أربعة من قريش وجدتهم بحوراً : سعيد بن المسيب، وعروة ابن الزبير، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وعبيد الله بن عبدالله .
وقال ابن سيرين : قدمت الكوفة وبها أربعة آلاف يطلبون الحديث، وشيوخ الكوفة أربعة: عبيدة السلماني، والحارث الأعور، وعلقمة بن قيس، وشريح القاضي، وكان أحسنهم .
وقال الشعبي : كان الفقهاء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكوفة من أصحاب ابن مسعود هؤلاء : علقمة وعبيدة، وشريح، ومسروق، وكان مسروق أعلم بالفتوى من شريح، وشريح أعلم بالقضاء، وكان عبيدة يوازيه .
وقال ابن عون وقيس بن سعد : لم ير في الدنيا مثل ابن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام، وطاووس باليمن .
وقال قتادة : أعلم التابعين أربعة : عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، وسعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير، وعكرمة مولى ابن عباس أعلمهم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والحسن أعلمهم بالحلال والحرام .
وقال سليمان بن موسى : إن جاءنا العلم من ناحية الجزيرة عن ميمون بن مهران قبلناه، وإن جاءنا من البصرة عن الحسن البصري قبلناه، وإن جاءنا من الحجاز عن الزهري قبلناه، وإن جاءنا من الشام عن مكحول قبلناه، وكان هؤلاء الأربعة علماء الناس في زمن هشام .
وقال أبو داود الطيالسي: وجدنا الحديث عند أربعة : الزهري وقتادة والأعمش وأبي إسحاق، قال : وكان الزهري أعلمهم بالإسناد، وكان قتادة أعلمهم بالاختلاف، وكان أبو إسحاق أعلمهم بحديث علي وعبدالله، وكان عند الأعمش من كل هذا (1).
من خلال هذا العرض لكلام العلماء في أئمة الحديث من التابعين نجد أن عددهم قد بلغ ستة وعشرين راويا هم :
1- سعيد بن المسيب .
2- عروة بن الزبير .
3- عبدالله بن عبيدالله .
4- ابن شهاب الزهري .
5- الشعبي .
6- الحسن البصري .
7- مكحول الدمشقي .
8- قبيضة بن ذؤيب .
9- عبدالملك بن مروان .
10-أبو سلمة بن عبدالرحمن .
11-عبيدة السلماني .
12-الحارث الأعور .
13-علقمة بن قيس .
14-شريح القاضي .
15-مسروق الأجدع .
16-محمد بن سيرين .
17-القاسم بن محمد .
18-رجاء بن حيوه .
19-طاووس .
20-عطاء بن أبي رباح .
21-سعيد بن جبير .
22-عكرمة .
23-ميمون بن مهران .
24-قتادة .
25-أبو إسحاق السبيعي .
26-الأعمش .
وهؤلاء الرواة عدا قليل منهم عليهم تقوم أصح الأسانيد والتي تعرف بسلاسل الذهب منها مثلا :
1- الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن عمر .
2- محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي .
3- علي بن الحسين بن علي عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص.
4- الأعمش عن إبراهيم بن علقمة عن ابن مسعود .
5- الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة .
6- مالك عن الزهري عن أنس . (2)
(1) المنهج الحديث في علوم الحديث للدكتور – محمد السماحي ص 201-202، تدريب الراوي 2/399-401.
(2) انظر ألفية السيوطي بشرح الشيخ أحمد شاكر ص7-9.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (60)
السنة في عصر أتباع التابعين
تقدم أن وضع الحديث بدأ في عصر التابعين نتيجة للفتنة التي أدت إلى انقسام الأمة إلى أحزاب سياسية اتخذت شكلاً دينياً، وحاول كل قسم أن يدعم موقفه بوضع أحاديث على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلنا إن الصحابة والتابعين قاوموا الوضع ووقفوا في وجه أهل الأهواء والبدع وبينوا الصحيح من السقيم .
أما في عصر أتباع التابعين فقد كثر الوضع وازداد، وتفشى التحلل والكذب في الأمة، حتى اشتهرت بعض البلاد بوضع الأحاديث مثل ( العراق )(1)، التي سميت ( بدار الضرب ) تضرب فيها الأحاديث كما تضرب الدراهم، مما دعا الإمام مالك أن يقول : ( نزلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب : لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ) (2).
وكان ابن شهاب الزهري يقول : ( يخرج الحديث من عندنا شبرا فيعود لنا من العراق ذراعاً ) (3).
من هنا كانت الحاجة ماسة إلى وقفة جادة من علماء أتباع التابعين في وجه الوضاعين الذين اشتهروا بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
منهج النقد في عصر أتباع التابعين :
اتسع النقد في عصر أتباع التابعين، وظهر كثير من أئمة الحديث وجهابذته الذين كتبوا ما تحملوه، وحرروا ما حفظوه، وتكون عندهم رصيد ضخم من السنة النبوية، كما تعددت عندهم أسانيدها، واختلفت طرق روايتها، وقد أكسبهم كل ذلك خبرة تامة في نقد المتون وبصيرة ناقدة في أحوال الرواة، وقد تأسوا في ذلك بمنهج التابعين .
يقول ابن حبان : ( ثم أخذ عن هؤلاء – أي التابعين – مسلك الحديث وانتقاد الرجال، وحفظ السنن، والقدح في الضعفاء جماعة من أئمة المسلمين والفقهاء في الدين منهم : سفيان بن سعيد الثوري، ومالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، وعبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي، وحماد بن سلمة، والليث بن سعد، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة في جماعة معهم).
إلا أن من أشدهم انتقاء للسنن وأكثرهم مواظبة عليها، حتى جعلوا ذلك صناعة لهم لا يشوبها بشيء آخر ثلاثة أنفس : مالك، والثوري، وشعبة(4) .
كان أئمة الحديث في عصر أتباع التابعين على جانب عظيم من الوعي والإطلاع، فقد كانوا يتحرون في نقل الأحاديث ولا يقبلون منها إلا ما عرفوا طريقها ورواتها، واطمأنوا إلى ثقتهم وعدالتهم، يشهد لذلك ما رواه ابن حبان بسنده عن مطرف بن عبدالله قال : أشهد لسمعت مالكا يقول : ( أدركت بهذا البلد مشيخة من أهل الصلاح والعبادة محدثون ما سمعت من واحد منهم حديثا قط، قيل : ولم يا أبا عبدالله ؟ قال : لم يكونوا يعرفون ما يحدثون ) (15).
وحذر الإمام مالك من أربعة أصناف لا يؤخذ عنهم الحديث، قال : ( لا يؤخذ العلم عن أربعة : رجل معلن بالسفه وإن كان أروى الناس، ورجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا أتهمه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، وشيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به )(6).
كما أنهم تتبعوا الكذبة، وكشفوا عن نواياهم، وحذروا الناس منهم ومنعوهم من التحديث.
روى الإمام مسلم بسنده عن يحيى بن سعيد قال : ( سألت سفيان الثوري، وشعبة، ومالكا، وابن عيينة عن الرجل لا يكون ثبتا في الحديث، فيأتيني الرجل فيسألني عنه، قالوا : أخبر عنه أنه ليس بثبت )(7).
وروى مسلم عن عبدالله بن المبارك قال : قلت لسفيان الثوري: إن عباد بن كثير من تعرف حاله(8)، وإذا حدث جاء بأمر عظيم : فترى أن أقول للناس: لا تأخذوا عنه ؟ قال سفيان : بلى . قال عبدالله : فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد، أثنيت عليه في دينه، وأقول : لا تأخذوا عنه(9) .
وقال عبدالله بن المبارك : انتهيت إلى شعبة فقال : هذا عباد بن كثير فاحذروه(10).
وكان العلماء يحذرون طلاب العلم من الكتابة عن الضعفاء والمتروكين، يقول معاذ العنبري: كتبت إلى شعبة أسأله عن أبي شيبة قاضي واسط ، فكتب إلي : لا تكتب عنه شيئا، ومزق كتابي (11).
وكان الإمام شعبة بن الحجاج شديدا على الكذابين ، لا يتوانى عن إظهار عيوبهم، وفي هذا يقول غندر (12): ( رأيت شعبة راكبا على حمار، فقيل له : أين تريد يا أبا بسطام؟ فقال : أذهب فأستعدى على هذا يعني جعفر بن الزبير وضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة حديث كذب ) (13).
وكان أئمة الحديث في هذا العصر يحفظون الصحيح والضعيف والموضوع حتى لا يختلط عليهم الحديث، وليميزوا الخبيث من الطيب، وفي هذا يقول الإمام سفيان الثوري : ( إني لأروى الحديث على ثلاثة أوجه : أسمع الحديث من الرجل أتخذه دينا، وأسمع من الرجل أقف حديثه، وأسمع من الرجل لا أعبأ بحديثه وأحب معرفته ) (14).
وكثيراً ما كانوا يتذاكرون الحديث ويتدارسونه فيما بينهم، فيأخذون ما عرفوا ويتركون ما أنكروا، وفي هذا يقول الإمام الأوزاعي: ( كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما يعرض الدرهم الزيف على الصيارفة، فما عرفوا منه أخذنا، وما تركوا تركناه )(15).
(1) لوقوع أكثر الفتن فيها بعد استشهاد الإمام الحسين رضي الله عنه .
(2) المنتقى من منهاج السنة : ص88.
(3) ضحى الإسلام : ج 2 ص 152.
(4) المجروحين لابن حبان : ج 1 ص40.
(5) المصدر السابق : ج 1 ص 42.
(6) انظر الجرح والتعديل : ج 1 ص 32، والكفاية : ص116.
(7) صحيح مسلم ، المقدمة، ج1ص 17.
(8) يعني أنت عارف بضعفه .
(9) صحيح مسلم، المقدمة ، ج 1ص 17.
(10) نفس المصدر والموضع .
(11) المصدر السابق : ج 1ص 23.
(12) هو : محمد بن جعفر المدني، البصري، المعروف بـ ( غندر ) بضم فسكون ففتح .
(13) تهذيب التهذيب : ج 2 ص 91.
(14) الكفاية للخطيب : ص 402.
(15) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم : ج 1ص 21.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (61)
منهج أتباع التابعين باختصار
ونستطيع مما سبق أن نلخص منهج أتباع التابعين في أمور ثلاثة :
الأول/ أنهم نقدوا الإسناد والمتن :
كانوا يحفظون الروايات ويقارنون بعضها ببعض، وقد أكسبهم ذلك خبرة تامة في نقد المتون، وبصيرة ناقدة في أحوال الرواة .
الثاني/ أنهم كشفوا عن الكذابين وحذروا الناس منهم :
لقد تتبعوا الكذبة في كل مكان، وكشفوا عن أحوالهم، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولا منعهم عن تجريحهم والتشهير بهم ورع ولا حرج، وحذروا الناس من سمومهم حتى أصبح عند عوام الناس وعي جيد يميزون به بين المتطفلين على الحديث وأهله ورجاله الثقات، يدل على هذا ما رواه الحافظ بن حجر عن يزيد بن هارون قال : ( كان جعفر بن الزبير وعمران بن حدير في مسجد واحد مصلاهما، وكان الزحام على جعفر بن الزبير، وليس عند عمران أحد، وكان شعبة يمر بهما فيقول : يا عجبا للناس !! اجتمعوا على أكذب الناس، وتركوا أصدق الناس، قال يزيد فما أتى عليه قليل حتى رأيت ذلك الزحام على عمران، وتركوا جعفر وليس عنده أحد )(1).
الثالث/ أنهم بينوا من تقبل روايته ومن لا تقبل :
يدل على ذلك قول الإمام مالك المتقدم : لا يؤخذ العلم عن أربعة، ويؤخذ مما سوى ذلك : لا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من سفيه معلن بالسفه وإن كان من أروى الناس، ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا أتهمه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث(2).
وقيل لشعبة بن الحجاج : ( متى يترك حديث الرجل ؟ قال : إذا روى عن المعروفين مالا يعرفه المعرفون فأكثر، وإذا أكثر الغلط، وإذا اتهم بالكذب، وإذا روى حديثا غلطا مجتمعا عليه فلم يتهم نفسه فيتركه، طرح حديثه ، وما كان غير ذلك فارووا عنه )(3).
وبهذا المنهج الفريد حفظ الله السنة في عصر اتباع التابعين كما حفظها من قبل في عصر الصحابة والتابعين .
(1) تهذيب التهذيب : ج 2ص 91( ترجمة جعفر بن الزبير ) .
(2) الجرح والتعديل : ج 1ص 32.
(3) نفس المصدر والموضع .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (62)
أشهر المحدثين في هذا العصر ومنهجهم في التدوين
اشتهر كثير من أتباع التابعين برواية الحديث في الأمصار المختلفة فكان أشهرهم بالمدينة : الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب المشهور.
وبالشام : أبو عمرو عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي الدمشقي.
وبالكوفة : وكيع بن الجراح، وسفيان الثوري .
وبالبصرة : يحيى بن سعيد بن فروخ القطان، وشعبة بن الحجاج ، وعبدالرحمن بن مهدي العنبري.
وبمصر : الليث بن سعد بن عبدالرحمن المصري، والإمام الشافعي حين نزل مصر في أخريات حياته وأقام بها .
وكانت طريقتهم في تدوين الحديث أن يصنفوا كل باب على حدة بأن يجمعوا الأحاديث التي من نوع واحد ويجعلوها بابا، ثم يضمون الأبواب بعضها إلى بعض في كتاب واحد، وكانوا يمزجون الأحاديث المرفوعة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، كما كانوا كذلك يذكرون ما عليه عمل أهل المدينة، والأمر المجمع عليه عندهم، كما فعل الإمام مالك في موطئه(1)، ولذلك سنكتفي بالكلام عن الإمام مالك وموطئه فيما يلي :
الإمام مالك بن أنس :
هو الإمام الحافظ، فقيه الأئمة شيخ الإسلام إمام دار الهجرة، وعالم المدينة أمير المؤمنين في الحديث : أبو عبدالله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي(2) المدني .
ولد عام 93 وقيل 95 بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومهجره الذي هاجر إليه، وموطن الشرع، ومبعث النور، ومهد السنن ، وموطن الفتاوى المأثورة، اجتمع بها الرعيل الأول من علماء الصحابة ثم تلاميذهم من بعدهم .
والإمام مالك : حدث عن نافع ابن عمر، وابن شهاب الزهري، وأيوب السختياني، وعامر بن عبدالله بن الزبير بن العوام، وصالح بن كيسان، وأبي الزناد، وابن المنكدر، وهشام بن عروة وخلق كثير .
وحدث عنه أمة منهم: محمد بن الحسن الشيباني، والإمام الشافعي، وحماد بن سلمة، ويحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن بكير .
وحدث عنه من شيوخه : الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد بن عبدالله بن الهاد وغيرهم .
وحدث عنه من أقرانه : الأوزاعي، والثوري، وشعبة، وابن جريح والليث بن عسد، وابن عيينة وغيرهم .
ومناقب الإمام مالك كثيرة جدا، وثناء الأئمة عليه أكثر من أن يحصر، ومن ذلك :
قول الإمام الشافعي : ( إذا جاء الحديث فمالك النجم )وقال : ( من أراد الحديث فهو عيال على مالك ) وقال : ( لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز ) وقال : ( مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين ) .
وقال فيه ابن عيينة : ( ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم ) .
روى الترمذي عن سفيان بن عيينة بسنده عن أبي هريرة : ( يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدن أحد أعلم من عالم المدينة )(3) وقد روى عن ابن عيينة راوي الحديث أنه قال : هو مالك بن أنس .
وقال فيه ابن حبان : ( كان مالك أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، مع الفقه والدين والفضل والنسك، ولم يكن يروى إلا ما صح، ولا يحدث إلا عن ثقة، وبه تخرج الشافعي ) .
وقال الذهبي نفسه : ( لم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم والفقه والجلالة والحفظ ) .
وقال أيضاً : ( وقد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره ) :
أحداها : طول العمر وعلوم الرواية .
وثانيهما: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم .
وثالثهما : اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية .
ورابعتها : تجمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن .
وخامستها : تقدمه في الفقه والفتوى وصحة قواعد .
وقال البخاري : ( أصح الأسانيد : مالك عن نافع عن ابن عمر )
قال أبو مصعب : سمعت مالكا يقول : ( ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك، وكان إذا أراد أن يحدث تنظف وتطيب وسرح لحيته ولبس أحسن ثيابه، وكان يلبس حسنا، وكان نقش خاتمه : حسبي الله ونعم الوكيل، وكان إذا دخل منزلة قال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وكان منزله مبسوطا بأنواع المفارش، ولما احتضر قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، ثم جعل يقول : لله الأمر من قبل ومن بعد، ثم قبض في ربيع الأول وقيل في صفر عام ( 179هـ ) ودفن بالبقيع، فرضي الله عنه وأرضاه (4).
موطأ الإمام مالك :
ألف الإمام مالك كتابه الموطأ بناء على طلب من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور المتوفي سنة ( 158) هـ، وقد طلب المنصور من الإمام مالك أن يحمل الناس على كتابه، فلم يجبه إلى ذلك، وذلك من تمام علمه واتصافه بالإنصاف، وقال : ( إن الناس قد جمعوا وأطلعوا على أشياء لم نطلع عليها )(5) .
وقد استغرق تأليفه ( الموطأ ) أربعين سنة، قال الإمام الأوزاعي : ( عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يوما، فقال : كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوما ما أقل ما تفقهون فيه )(6) .
وقد اختلف في سبب تسميته بـ ( الموطأ ) قيل : إن مالكا قال : عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ (7).
وقيل سمي بذلك : لأنه وطأ العلم والحديث ويسرهما للناس.
طريقته في الموطأ :
صنف الإمام مالك كتابه الموطأ في الحديث على طريقة الأبواب، ولم يتقيد فيه بالأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل جمع فيه أيضا أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، فيذكر في مقدمة الباب ما ورد فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقوال الصحابة، ثم ما ورد من فتاوى التابعين، وقل أن يكونوا من غير أهل المدينة، وأحيانا يذكر ما عليه العمل المجمع عليه بالمدينة، وقد يذكر بعض الآراء الفقهية له، لأنه ممن جمعوا بين الفقه والحديث فهو من محدثي الفقهاء .
رواة الموطأ ونسخه :
روى الموطأ عن مالك رواة كثيرون ذكر القاضي عياض في ( المدارك ثمانين وستين راويا رووا الموطأ عن الإمام مالك مباشرة دون واسطة(8)، ثم قال القاضي عياض : والذي اشتهر من نسخ الموطأ مما رويته أو وقفت عليه أو كان في رواية شيوخنا رحمهم الله أو نقل منه أصحاب اختلاف الموطأ نحو عشرين نسخة وذكر بعضهم أنها ثلاثون نسخة ) (9).
وقال الغافقي(10) : ( نظرت الموطأ من اثنتى عشرة رواية رويت عن مالك، وهي : رواية ابن وهب، وابن القاسم، والقعنبي، وابن يوسف، ومعن، وابن عفير، وابن بكير، وأبي مصعب الزهري، ومصعب بن عبدالله الزبيري، ومحمد بن المبارك الصوري، وسليمان بن برد، ويحيى ابن يحيى الليثي )(11).
وقال السيوطي : ( وقد وقفت على الموطأ من روايتين أخريين سوى ما ذكر الغافقي : أحداهما رواية سويد بن سعيد، والأخرى : رواية محمد ابن الحسن صاحب أبي حنيفة )(12) .
(1) انظر محاضرات في علوم الحديث للأستاذ/ مصطفى أمين التازي : ص 197 ص 205.
(2) نسبة إلى ذي أصبح من ملوك اليمن .
(3) سنن الترمذي : أبوال العلم، باب ما جاء في عالم المدينة ، ج 4 ص 152، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .
(4) انظر ترجمته في : تذكرة الحفاظ : ج 1ص 207، تهذيب التهذيب : ج10ص 5، وفيات الأعيان لابن خلكان : ج 4 ص 135، طبقات الحفاظ للسيوطي : ص 89، البداية والنهاية، المجلد الخامس ص 684، سير أعلام النبلاء : ج 8 ص49، الكامل لابن الأثير : ج6 ص 147.
(5) اختصار علوم الحديث لابن كثير ، ص 25.
(6) كشف المغطأ لابن عساكر ، ص 54.
(7) مقدمة تنوير الحوالك على موطأ مالك : ج 1 ص 7 ط عيسى البابي الحلبي .
(8) ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض : ج 2 ص 86ط ، دار مكتبة الحياة بيروت، بتحقيق أحمد بكير .
(9) المصدر السابق، ج 2ص89.
(10) هو أبو القاسم عبدالرحمن بن عبدالله المصري المالكي الغافقي المتوفي ( 385هـ ) .
(11) تنوير الحوالك للسيوطي ، ج 1 ص 10.
(12) المصدر السابق ، وانظر الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ،ص 24.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (63)
يتبع/ موطأ الإمام مالك
عدد رجال الموطأ :
قال الحافظ صلاح الدين العلائي : ( عدة رجال مالك الذين روى عنهم في هذا المسند وسماهم خمسة وتسعون رجلا ، وعدة من روي له فيه من رجال الصحابة خمسة وثمانون رجلا، ومن نسائهم ثلاث وعشرون امرأة، ومن التابعين ثمانية وأربعون رجلا كلهم من أهل المدينة إلا ستة رجال وهم : أبو الزبير من أهل مكة، وحميد الطويل من أهل البصرة، وعطاء بن عبد الله من أهل خراسان، وعبد الكريم من أهل الجزيرة ، وإبراهيم بن أبي عبلة من أهل الشام (1).
عدد أحاديث الموطأ :
قال أبو بكر الأبهري : جملة ما في الموطأ من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثا، المسند منها ستمائة حديث، والمرسل مائتان واثنا وعشرون حديثا ، والموقوف ستمائة وثلاثة عشر، ومن أقوال التابعين مائتان وخمسة وثمانون(2) .
وقال ابن حزم : ( أحصيت ما في موطأ مالك فوجدت فيه من المسند خمسمائة ونيفا، وفيه ثلاثمائة ونيف مرسلا، وفيه نيف وسبعون حديثا قد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيه أحاديث وماما جمهور العلماء )(3).
درجة أحاديث الموطأ:
اختلف العلماء في منزلة الموطأ من كتب السنة، فمنهم من جعله مقدما على الصحيحين كالإمام أبي بكر بن العربي، قال : ( الموطأ هو الأصل الأول واللباب وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، وعليهما بني الجميع كمسلم والترمذي )(4).
ويدل على ذلك أيضا قول الشافعي : ( ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك)(5)، قال السيوطي : ( هذا قبل وجود صحيح البخاري ومسلم ) (6).
ومنهم من جعله في مرتبتهما كالإمام الدهلوي(7)، حيث قسم كتب الحديث إلى خمس طبقات وجعل الطبقة الأولى منحصرة في ثلاثة كتب : الموطأ، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم.
وممن ذهب إلى ذلك الشيخ أحمد شاكر حيث قال : إن ما في الموطأ من الأحاديث الموصولة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحاح كلها، بل هي في الصحة كأحاديث الصحيحين، وأن ما فيه من المراسيل والبلاغات وغيرها يعتبر فيها ما يعتبر في أمثالها، مما تحويه الكتب الأخرى، وإنما لم يعد في الكتب الصحاح لكثرتها وكثرة الآراء الفقهية لمالك وغيره(8).
وبعض العلماء كان يرى أن أصول الحديث سبعة، هي الكتب الستة ومعها الموطأ، ويجعل بعضهم بدلا منه سنن الدارمي .
وليست أحاديث الموطأ كلها مسندة، بل فيه المرسل، والمعضل، والمنقطع وغير ذلك، وقد ذكر العلماء أن جميع ما فيه من قوله ( بلغني ) وقوله : ( عن الثقة ) من غير أن يسنده ( 61) لكنها مسندة من طرق أخرى غير طريق مالك نفسه، ولذلك تصدى ابن عبد البر النمري إلى تأليف كتاب حاول به أن يصل ما في ( موطأ مالك ) من الأحاديث المرسلة والمنقطعة والمعضلة(9).
شروح الموطأ :
اعتنى الناس بكتاب الموطأ، وعلقوا عليه كتبا جمة، ومن أجود ذلك : كتابا ( التمهيد) و ( الاستذكار ) للشيخ أبي عمر بن عبد البر النمري القرطبي المتوفى سنة ( 463 ) هـ(10).
كذلك شرح الموطأ أبو محمد بن السعيد النحوي البلطيوسي المتوفى سنة ( 525هـ ) وسماه ( المقتبس ) ، والقاضي أبو بكر محمد بن العربي المغربي المتوفى سنة ( 546هـ ) وسماه : ( القبس ) .
وشرحه الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ( 911هـ ) وسمى شرحه : ( كشف المغطى في شرح الموطأ ) واختصره في شرحه : ( تنوير الحوالك على موطأ الإمام مالك ) وألف السيوطي في رجال : ( إسعاف المبطأ برجال الموطأ ) وقد طبع مع شرحه : ( تنوير الحوالك ) بمصر .
وممن ألف في شرح غريبه : البرقي، وأحمد بن عمران الأخفش، وأبو القاسم العثماني المصري (11).
وشرحه الإمام عبد الحي اللكنوي الهندي وسمى شرحه : ( التعليق الممجد على موطأ الإمام محمد ) .
(1) مقدمة تنوير الحوالك : ج 1ص10.
(2) مقدمة تنوير الحوالك: ج 1ص9.
(3) نفس المصدر، وانظر تدريب الراوي :ج 1ص111.
(4) مقدمة تنوير الحوالك : ج 1ص6.
(5) المصدر السابق : ج 1ص7.
(6) تدريب الراوي : ج 1ص91.
(7) في كتابه : حجة الله البالغة : ج 1ص133 ط : دار المعرفة بيروت .
(8) الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث : ص 24.
(9) علوم الحديث ومصطلحه للدكتور / صبحي الصالح : ص 387.
(10) اختصار علوم الحديث لابن كثير : ص 25.
(11) مقدمة تنوير الحوالك ص 12.
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (64)
السنة في القرن الثالث الهجري
جاء القرن الثالث الهجري فشهد قمة ما بدأه الصحابة ومن بعدهم من الأئمة من أجل المحافظة على السنة من حيث التدوين والنقد والتأليف فيهما،وكان هذا العصر، كما يقول الدكتور السباعي : " أزهى عصور السنة وأسعدها بأئمة الحديث وتآليفهم العظيمة الخالدة "(1) .
1 - ففي مجال التدوين تعددت الطرق وتنوعت ، وهي ترجع إلى الطرق التالية :
أ ـ منهج التدوين على المسانيد :
ويتحقق بجمع المؤلف ما يروى عن الصحابي في باب واحد غير تقييد بوحدة الموضوع ، واتسم هذا المنهج بإفراد الحديث وتجريده من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين ، وجمع كل ما يروى عن الصحابي وإن اختلفت موضوعات الأحاديث ، فمثلا يوجد حديث للصلاة بجانب حديث للصوم وهكذا ، مع الجمع بين الحديث الصحيح وغيره .
فيذكر صاحب المسند مثلا أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ويجمع ما رواه من الأحاديث ، ثم يذكر عمر ـ رضي الله عنه ـ وما رواه من الأحاديث وهكذا .
وكان منهم من يرتب أسماء الصحابة على القبائل فيقدم بني هاشم ثم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النسب ، ومنهم من رتبها على السبق في الإسلام فقدم العشرة المبشرين بالجنة ، ثم أهل بدر ، ثم أهل الحديبية ، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح ، ثم من أسلم يوم الفتح ، ثم أصاغر الصحابة سنا ، ثم النساء ،وممن سار على هذه الطريقة الإمام أحمد بن حنبل ، ومنهم من رتبهم على حروف المعجم كالطبراني في المعجم الكبير ، ومن طرق التصنيف على المسانيد نصنيفه معللا ، بأن يجمع في كل حديث طرقه واختلاف الرواة فيه ، فإن معرفة العلل أجل أنواع علم الحديث ، وبها يظهر إرسال ما عد متصلا ، أو وقف ما ظن مرفوعا وغير ذلك من الأمور المهمة ، وقد ألف الحافظ الكبير يعقوب بن شيبة البصري المتوفى سنة ( 262 هـ ) مسندا معللا غير أنه لم يتم ، ولو تم لكان في نحو مائتي مجلد ، والذي تم منه مسند العشرة والعباس وابن مسعود وعتبة بن غزوان وبعض الموالي وعمار.(2)
وطريقة المسانيد هذه هي التي ابتدأ التأليف عليها في القرن الثالث الهجري ، وأول من قام بذلك هو عبد الله بن موسى العبسي الكوفي ومسدد بن مسرهد البصري وأسد بن موسى الأموي ونعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر، ثم انتشر التأليف على هذه الطريقة بعد ذلك بين الأئمة والحفاظ كالإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ، وكان منهم من جمع بين طريقة المسانيد وطريقة الأبواب في مصنفه كأبي بكر بن أبي شيبة(3)
ومن أعظم المسانيد مسند الإمام أحمد بن حنبل ، وهو المراد عند المحدثين عند الإطلاق وإذا أرادوا غيره قيدوه باسم صاحبه(4).
وقد يطلق المسند على الكتاب المرتب على الأبواب أو الحروف أو الكلمات لكون أحاديثه مسندة ومرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كصحيح البخاري ، فإنه يسمى ( المسند الصحيح ) وصحيح مسلم ، وسنن الدارمي فإنها تسمى بالمسند ، وهناك مسانيد لم تصل إلينا كمسند الحارث بن الحارث بن أبي أسامة المتوفى ( 282 هـ ) ومسند عبد بن حميد المتوفى ( 249 هـ )(5).
(1) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 103 .
(2) تاريخ فنون الحديث ص 15 .
(3) هدي الساري لبن حجر ص5 .
(4) الرسالة المستطرفة ص61 .
(5) نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ص 302 .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (65)
السنة في القرن الثالث الهجري (2-4)
وكان لهذه الطريقة مزايا وعيوب :
أما مزاياها : فهي تجريد الأحاديث النبوية عن غيرها ، فقد أفردت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالتدوين ، وجردت من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين ، ففي هذه الطريقة إذا نوع استقلال الحديث عن الفقه .
وأما عيوب هذه الطريقة : فهي صعوبة الوقوف على الحديث في المسند ، لعدم جمع الأحاديث المتناسبة في موضوعاتها في باب خاص ، كما كان من عيوبها كذلك تعذر معرفة درجة الحديث من الصحة والضعف والاحتجاج به أو عدمه ، لاحتمال أن يكون كل حديث في نظر القارئ صحيحا أو ضعيفا ، لأنها جمعت بين الصحيح وغيره فلا يستطيع إدراك هذا كله إلا الحافظ المتضلع .
وكان الباعث لأصحاب هذه الطريقة على تدوين الأحاديث التي لم تبلغ مرتبة الصحة هو أن الطرق قد تتعدد فيصل الحديث إلى درجة القبول ، كما أنها أيضا صالحة للاعتبار بها ، وقد تتبين صحة الحديث لنقاده بعد ذلك . ومما هو جدير بالذكر أن العلماء في هذا العصر كانوا على درجة عالية في معرفة الصحيح من الأحاديث التي دونوها ، أو دونت لهم ، ومعرفة الضعيف منها ، ومعرفة عللها ، فكانوا على علم بحال المتون والأسانيد التي في هذه المسانيد .
ب - منهج التصنيف على الأبواب :
ويقوم على تخريج الحديث على أبواب الفقه وغير ذلك ، وتبويب الأحاديث وترتيبها ترتيبا موضوعيا وتنويعها أنواعا مختلفة ، بحيث يجمع المصنف ما ورد في كل حكم وفي كل باب على حدة ، فيجمع الأحاديث المتعلقة بالصلاة في باب والمتعلقة بالصوم في باب وهكذا .
وأهل هذه الطريقة منهم من اقتصر على إيراد ما صح فقط كالشيخين ( البخاري ومسلم ) ، ومنهم من لم يقتصر على ذلك كأبي داود والترمذي وابن ماجه والنسائي وغيرهم .
وكان من مزايا هذه الطريقة سهولة الحصول على الحكم الشرعي وغيره من الباب الخاص به ، والوقوف على درجة الحديث بيسر وسهولة بخلاف الطريقة الأولى ( طريقة المسانيد ) حيث يصعب فيها الحصول على المطلوب ، وهذا ما دعا الإمام البخاري إلى أن يتجه في كتابه إلى الاقتصار على الحديث الصحيح وتبعه الإمام مسلم سيرا على منهجه ، وكان لهما الفضل في تمهيد الطريق أمام طلاب الحديث ليصلوا إلى الصحيح من الأحاديث دون عناء ، ولعل أقدم كتاب يمثل طريقة التصنيف على الأبواب هو ( موطأ ) الإمام مالك ، غير أنه مزجه بأقوال الصحابة والتابعين ، بخلاف عمل الشيخين فقد أفردا الحديث عن تلك الأقوال والفتاوى .
وكان الداعي لهذه الطريقة هو أن تكون عونا للفقهاء وتسهيلا لهم في الوقوف على الأحاديث التي يستنبطون منها أحكامهم أو يستدلون بها أو يجتهدون على ضوئها .
ج - التأليف في مختلف الحديث ورد الطعون عن السنة .
مختلف الحديث فن من أهم الفنون التي يضطر العلماء إلى معرفتها والوقوف عليها ، ومعناه : أن يأتي حديثان ظاهرهما التناقض في المعنى فيوفق بينهما أو يرجح أحدهما على الآخر . والتوفيق بين الأحاديث قد يكون بتقييد المطلق أو تخصيص العام أو الحمل على تعدد الحادثة وما إلى ذلك من الوجوه .
وأول من تكلم في هذا الفن هو الإمام الشافعي في كتاب ( الأم ) وذكر السيوطي أن الشافعي لم يقصد استيفاءه ولا إفراده بالتأليف(1)، ولكنه في الجزء السابع ألف على هامشه كتابا خاصا باسم ( اختلاف الحديث ) ثم صنف بعد ذلك ابن قتيبة( ت 270 أو 271 أو 276 ) كتابه ( مختلف الحديث ).
وكان الباعث لابن قتيبة على تأليف هذا الكتاب : هو تنزيه ساحة السنة النبوية عن تلك الطعون الزائفة التي وجهها إلى الحديث وأهله أعداء السنة ، ذلك أن أهل الرأي عادوا أهل الحديث وحملوا عليهم حملات عنيفة وتأولوا الأحاديث تأويلا لا يقره دين ، فوقف ابن قتيبة منهم موقف المدافع عن الدين ، ففند آراءهم ، ورد أباطيلهم .
وأما أهل الكلام فكان موقفهم من الحديث موقف الشك ، لأنهم يحكمون العقل في كل شيء ولا يثقون في الحديث إلا إذا اتفق مع عقولهم ، وأحلوا العقل مكانة كبيرة ، وجعلوا له سلطانه مع ما فيه من جموح ، فكان غلوهم في تحكيم العقل وتعصبهم لبعض آرائهم هو الذي فتح سبيلا للغي فامتهنوا أهل الحديث ، وأسهبوا في ذمهم ، ورموهم بحمل الكذب ورواية المتناقض ، وهذا هو الذي حفز ابن قتيبة ليناهضهم ويتصدى للرد عليهم وعلى غيرهم من أعداء الحديث ، ويذود عن حمى الدين في إخلاص وحمية ، وذلك في كتابه الماتع ( مختلف الحديث )(2).
(1) - تدريب الراوي ص 387 .
(2) - انظر : السنة النبوية وعلمومها للدكتور أحمد عمر هاشم ص 117 ــ 119 .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (66)
مسند الإمام أحمد ( 1-5 )
وهذا تعريف بأبرز المصنفات في هذا العصر .
1 ــ مسند الإمام أحمد
التعريف بالمؤلف :
هو الإمام الجليل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي ، واشتهر بنسبته إلي جده فقيل : أحمد بن حنبل .
ولد سنة أربع وستين ومائة ( 164 هــ ) وطلب العلم في مقتبل عمره حيث قال :
( طلبت الحديث سنة تسع وسبعين ومائة ) .
روي عن : عفان بن مسلم، ووكيع بن الجراح ، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني ويحي بن سعيد القطان ، ويزيد بن هارون ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وسفيان بن عيينة وغيرهم كثير من أجلة الشيوخ ، وقد بلغ عدد شيوخ الإمام أحمد الذين روي عنهم في المسند : ( 292 ) .
وروي عنه : البخاري ، ومسلم ، وأبوداود ، وابناه عبد الله وصالح ، وعلي بن المديني ، ويحي بن معين ، وأبوزرعة وأبوحاتم الرازيان ، كما روي عنه بعض شيوخه كالشافعي ، وابن مهدي ، وعبد الرزاق ، وروي عنه كثيرون غيرهم .
ثناء العلماء عليه : أثني علي الإمام أحمد كثير من العلماء ، فقال عنه الإمام الشافعي كما في تاريخ بغداد ( 4 / 419 ) : (( خرجت من بغداد ، فما خلفت بها رجلا أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقي من أحمد بن حنبل )) .
وقال أبو زرعة كما في الجرح والتعديل ( 1 / 296 ) : (( كان أحمد صاحب حفظ
وصاحب فقه ، وصاحب معرفة ، ما رأت عيناي مثل أحمد في العلم والزهد والفقه والمعرفة وكل خير )) .
وقال ابن حبان في الثقات ( 8 / 18 ) : (( كان أحمد بن حنبل حافظا متقنا ، ورعا ، فقيها ، لازما للورع الخفي ، مواظبا علي العبادة الدائمة ، به أغاث الله أمة محمد صلي الله عليه وسلم وذلك أنه ثبت في المحنة ، وبذل نفسه لله عز وجل حتي ضرب بالسياط للقتل فعصمه الله من الكفر ، وجعله علما يقتدي به )) .
وفاته : توفي رحمه الله تعالي سنة إحدي وأربعين ومائتين للهجرة ، عن سبـع وسبعين سنة .
التعريف بالكتاب :
1 - اسم الكتاب : المسند ، وذلك لأن أحاديثه مسندة ، أي مروية بسند متصل إلي الرسول صلي الله عليه وسلم .
2 - موضوعه : مرويات الإمام أحمد مرتبة علي مسانيد الصحابة رضي الله عنهم
3 - مشتملاته : يشتمل المسند :
أ - من حيث عدد المسانيد : ذكر العلامة محمد بن جابر الوادي آشي( ت 749 هــ ) في برنامجه ( ص198 ) : أن عدد مسانيد الإمام أحمد ستة عشر مسندا ، وقال الحافظ ابن حجر في المعجم المؤسس ( 2 / 32 ) : (( مسند أحمد يشتمل علي ثمانية عشر مسندا ، وربما أضيف بعضها إلي بعض )) ، وذكر في ( إطراف المسند المعتلي 1 / 172 ) أنها سبعة عشر مسندا ، وبتوجيه ابن حجر السابق يجمع بين هذه الأقوال .
وتلك الأرقام هي لأعداد المسانيد الرئيسة التي جعلها الإمام أحمد في مسنده كالكتب وترجم بها كقوله - مثلا - : ( مسند بني هاشم ) والحقيقة أنه يدخل تحتها عدة مسانيد للصحابة ، وربما اقتصر علي مرويات صحابي واحد فيها إذا كان من المكثرين ، ويترجم له بقوله : ( حديث ابن عباس ) - مثلا -(1)
وأما عدد مسانيده من حيث التفصيل علي حسب ما أورده الحافظ علي بن الحسين ابن عساكر ( ت 571 هــ ) فهي : 1056 مسندا(2)
ب - من حيث عدد أحاديثه : ذكر أهل العلم أن المسند يشتمل علي ثلاثين ألف حديث من غير المكرر ، وبالمكرر علي أربعين ألف حديث ، كما يشتمل علي ثلاث مئة حديث ثلاثية الإسناد .
قال الحافظ أبو موسي المديني : ( فأما عدد أحاديثه فلم أزل أسمع من أفواه الناس أنها أربعون ألفا ، إلي أن قرأت علي أبي منصور بن زريق القزاز ــ بزايين ــ ببغداد قال : حدثنا أبو بكر الخطيب قال حدثنا ابن المنادي قال : لم يكن أحد في الدنيا أروي عن أبيه منه ــ يعني عبد الله بن أحمد بن حنبل ــ لأنه سمع المسند وهو ثلاثون ألفا ،
والتفسير وهو مائة وعشرون ألفا ....الخ
فلا أدري هل الذي ذكره ابن المنادي أراد به مالا مكرر فيه ، أو أراد غيره مع المكرر ، فيصلح القولان جميعا .. الخ ) (3)
هذا ما ذكره أهل العلم ، لكن عدد أحاديث المسند المطبوع أقل من ذلك ، ويحتمل ذلك عدة أمور ، منها :
1 - كون النسخة المخطوطة المعتمد عليها في الطباعة ناقصة .
2- ربما تم اعتبار مجموعة من الأحاديث حديثا واحدا ، بينما هي أكثر من ذلك كمرويات النسخ .
3- ربما لم يتم اعتبار المرويات التي يسوقها الإمام أحمد من أقوال التابعين ونحوهم في شرح الغريب ، ونحو ذلك . (4)
ج - من حيث نوع المرويات : يشتمل المسند علي المرفوع وهو الغالب، وعلي قليل من المرسل ، وقليل من الموقوف ، وعلي المقطوع ، وقد بوب الحافظ ابن حجر في كتابه إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي فقال : ( فصل في الموقوفات غير ما تقدم ) (5) يعني غير ما تقدم من المرويات الموقوفة التي ذكرها في كتابه هذا ، وبوب أيضا في موضع آخر فقال : ( ذكر ما وقع فيه من المراسيل والموقوفات بغير استيعاب ) (6) ، وأراد الحافظ ابن حجر بالموقوف عموم الأقوال التي رواها الإمام أحمد ما عدا المرفوع والمرسل
(1) انظر : طرق التخريج بحسب الراوي الأعلي للدكتور عبد العزيز اللحيدان ص31
(2) انظر : ترتيب أسماءالصحابة الذين أخرج حديثهم أحمد بن حنبل في المسند ص 171 .
(3) المصعد الأحمد ( ص 32 ــ 33 )
(4)انظر : طرق التخريج بحسب الراوي الأعلي ص 32 .
(5) ( 8 / 369 ) .
(6) ( 9 / 490 ) .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (67)
مسند الإمام أحمد ( 2-5 )
4ــ أقسام أحاديث المسند :
قال العلامة الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي : ( بتتبعي لأحاديث المسند وجدتها تنقسم إلي ستة أقسام :
1 - قسم رواه أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد ــ رحمهما الله ــ عن أبيه سماعا منه ، وهو المسمي بمسند الإمام أحمد ، وهو كبير جدا يزيد علي ثلاثة أرباع الكتاب .
2 - وقسم سمعه عبد الله من أبيه وغيره ، وهو قليل جدا .
3 - وقسم رواه عبد الله عن غير أبيه ، وهو المسمي عند المحدثين بزوائد عبد الله ، وهو كثير بالنسبة للأقسام كلها عدا القسم الأول .
4 - وقسم قرأه عبد الله علي أبيه ولم يسمعه منه وهو قليل .
5 - وقسم لم يقرأه ولم يسمعه ولكنه وجده في كتاب أبيه بخط يده وهو قليل أيضا .
6 - وقسم رواه الحافظ أبو بكر القطيعي عن غير عبد الله وأبيه -رحمهم الله - وهو أقل الجميع(1).
قال : فهذه ستة أقسام تركت الأول والثاني منها بدون رمز ، ورمزت للأقسام الباقية في أول كل حديث منها ، فرمزت للقسم الثالث بحرف ( ز ) إشارة ألي أنه من زوائد عبد الله بن الإمام - رحمهما الله - ، ورمزت للقسم الرابع هكذا ( قر ) إشارة إلي أن عبد الله قرأه علي أبيه ، ورمزت للقسم الخامس برمز ( خط ) إشارة إلي أنه وجده في كتاب أبيه بخط يده ، ورمزت للقسم السادس برمز ( قط ) إشارة إلي أنه من زوائد القطيعي .
قال :وكل هذه الأقسام من المسند إلا الثالث فإنه من زوائد عبد الله ، والسادس فإنه من زوائد القطيعي) (2)
5 - درجة أحاديث المسند : للعلماء في درجة أحاديث المسند أقوال هي :
الأول : ذهب قوم إلى أن جميع ما في المسند صحيح أو مقبول ، فمن ذلك : قال أبو موسى المديني : لم يخرج إلا عمن ثبت عنده صدقه وديانته ، دون من طعن في أمانته .
وأشار في موضع آخر : إلى أن الإمام أحمد في مسنده قد احتاط فيه إسنادا ومتنا ، ولم يورد فيه إلا ما صح عنده (3)
وقال السيوطي في مقدمة الجامع الكبير : وكل ما في المسند أحمد فهو مقبول ، فإن الضعيف الذي فيه يقترب من الحسن.
وقال الصنعاني في سبل السلام : هذا أعظم المسانيد وأحسنها وضعا وانتقاء ، فإنه لا يدخل فيه إلا ما يحتج به
وذهب جماعة من الأئمة إلى أن الإمام أحمد لا يروي إلا عمن هو ثقة عنده
2 - وذهب قوم إلى أن فيه الصحيح والضعيف والواهي ، فقد ذكر ابن الجوزي في كتابه ( الموضوعات ) تسعة وعشرين حديثا منه وحكم عليها بالوضع ، وزاد الحافظ العراقي عليه تسعة أحاديث حكم عليها بالوضع وجمعها في جزء .
3 - وذهب قوم إلى أن فيه الصحيح والحسن والضعيف ، وقد يوجد في الضعيف جدا ، ولكنه قليل .
قال عبد الله بن أحمد : هذا المسند أخرجه أبي من سبعمائة ألف حديث ، وأخرج فيه أحاديث معلولة ، بعضها ذكر عللها ، وسائرها في كتاب ( العلل ) لئلا يخرًّج في الصحيح (4)
وقال ابن تيمية : وليس كل ما رواه أحمد في المسند وغيره يكون حجة عنده ، بل يروي ما رواه أهل العلم ، وشرطه في المسند أن لا يروي عن المعروفين بالكذب عنده ، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف .
وقال أيضا : وقد يروي الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما أحاديث تكون ضعيفة عندهم ، لاتهام رواتها بسوء الحفظ ونحو ذلك ، ليعتبر بها ويستشهد بها (5).
وقال الذهبي : فيه جملة من الأحاديث الضعيفة مما يسوغ نقلها ، ولا يجب الاحتجاج بها ، وفيه أحاديث معدودة شبه موضوعة ، ولكنها قطرة في بحر (6).
وقال ابن رجب : والذي يتبين من عمل الإمام أحمد وكلامه أنه يترك الرواية عن المتهمين ، والذين كثر خطؤهم للغفلة وسوء الحفظ ، ويحدث عمن دونهم في الضعف ، مثل من في حفظه شيء ، ويختلف الناس في تضعيفه وتوثيقه (7).
وقال الحافظ ابن حجر : ومسند أحمد ادعى قوم فيه الصحة ، وكذا في شيوخه ... والحق أن أحاديثه غالبها جياد ، والضعاف منها إنما يوردها للمتابعات ، وفيه القليل من الضعاف الغرائب الأفراد ، أخرجها ، ثم صار يضرب عليها شيئا فشيئا ، وبقي منها بعده بقية (8)
وخلاصة ما تقدم أن أحاديث المسند ليست كلها صحيحة ، ولكن يوجد فيها الضعيف ، وقد يوجد الضعيف جدا ، ولكنه نادر ، كما تقدم من أقوال العلماء .
(1) وإنما يدرك التمييز بينها بالنظر في الأسانيد ، فكل حديث يقال في أول سنده : حدثنا عبد الله حدثني أبي فهو من المسند ، وكل حديث يقال في أول سنده : حدثنا عبد الله حدثنا فلان ــ بغير لفظ أبي ــ فهو من زوائد عبد الله ، وكل حديث يقال في أوله : حدثنا فلان ــ غير عبد الله وأبيه ــ فهو من زوائد القطيعي .
(2) الفتح الرباني ( 1 / 21 ، 22 ) .
(3) ــ خصائص المسند ص 16 ، 14 .
(4) ــ فهرسة ابن خير ص 140 .
(5) ــ منهاج السنة النبوية ( 4 / 15 ، 27 ) .
(6) ــ السير ( 11 / 329 ) .
(7) ــ شرح العلل ( 1 / 386 ) .
(8) ــ مقدمة تعجيل المنفعة .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (68)
مسند الإمام أحمد ( 3-5 )
ما الذي جعل الإمام أحمد يدخل في المسند أحاديث ضعيفة ؟
لعل ذلك يعود إلى عدة أسباب ، منها :
1- أن يكون هذا الحديث أورده للمتابعة والاستشهاد ، يدل على ذلك قوله : ابن لهيعة ما كان حديثه بذاك ، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال ، إنما قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشده ، لا أنه حجة إذا انفرد .
وقال : كنت لا أكتب حديث جابر الجعفي ، ثم كتبته اعتبر به (1)
وتقدم قول ابن تيمية ، والحافظ ابن حجر : والضعاف إنما يورده للمتابعات .
2 - أن يكون الحديث في فضائل الأعمال ، أو المغازي و نحوها : لما روى النوفلي عنه أنه قال : إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد ، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال ، وما لا يضع حكما أو يرفعه ، تساهلنا في الأسانيد .
وقال : الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها ، حتى يجئ فيه حكم (2)
3 - أو أن هذا الحديث الضعيف لا يوجد في الباب غيره ، ولم يرد خلافه ، لما روي عنه أنه قال : والحديث الضعيف أحب إلي من الرأي .
وفي رواية : ضعيف الحديث أحب إلينا من رأي الرجال (3)
وقال ابن القيم : وللضعيف عنده مراتب ، إذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه ، ولا قول صاحب ، ولا إجماع على خلافه ، كان العمل به عنده أولى من القياس (4).
4 - وقد يكون كتبه لينظر فيه ، وتوفي قبل أن يخرجه من المسند ، أو أمر بإخراجه ونسي ، كما قال الحافظ ابن حجر فيما سلف : وفيه القليل من الضعاف الغرائب الأفراد ، أخرجها ، ثم صار يضرب عليها شيئا فشيئا ، وبقي منها بعده بقية .
وذكر إخراجه لحديث ضعيف ، ثم قال : والاعتذار عنه أنه مما أمر أحمد بالضرب عليه ، فترك سهوا ، أو ضُرب وكُتب من تحت الضرب (5).
5 - وقد يكون هذا الضعيف ثقة عنده ، وإن كان ضعيفا عند غيره .
معنى الضعيف عند الإمام أحمد .
تقدم أن الإمام أحمد يأخذ بالحديث الضعيف أحيانا ، لكن الضعيف الذي يحتج به الإمام أحمد هو الحسن في عرف المتأخرين أو قريب منه ، وليس مراده الضعيف على ما اشتهر عند من جاء بعده
قال ابن تيمية : ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه ولكن كان في عرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين : صحيح وضعيف . والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيف متروك لا يحتج به وإلى ضعيف حسن كما أن ضعف الإنسان بالمرض ينقسم إلى مرض مخوف يمنع التبرع من رأس المال وإلى ضعيف خفيف لا يمنع من ذلك .
وأول من عرف أنه قسم الحديث ثلاثة أقسام - صحيح وحسن وضعيف - هو أبو عيسى الترمذي في جامعه . والحسن عنده ما تعددت طرقه ولم يكن في رواته متهم وليس بشاذ . فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفا ويحتج به ولهذا مثل أحمد الحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري ونحوهما . (6)
وقال ابن رجب : ومراده بالضعيف قريب من مراد الترمذي بالحسن (7).
هل في المسند أحاديث موضوعة ؟
أول من أشار إلى وجود أحاديث موضوعة في المسند الإمام ابن الجوزي ، حيث أورد في كتابه الموضوعات ( 38 ) حديثا من المسند ، وذكر أنها موضوعة .
وتقدم قول الإمام الذهبي:وفيه أحاديث شبه موضوعة ، وقال العراقي:فيه أحاديث موضوعة جمعتها في جزء (8).
وبالغ ابن دحية في ذلك ، فقال عن أحاديث المسند : أكثرها لا يحل الاحتجاج به (9).
وقد رد على هذه الدعوى غير واحد .
فأنكر أبو العلاء الهمذاني أن يكون في المسند حديث موضوع .
وعرض ابن تيمية لقول ابن الجوزي والهمذاني ، ثم قال : ولا منافاة بين القولين . فإن الموضوع في اصطلاح أبي الفرج هو الذي قام دليل على أنه باطل وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب ، بل غلط فيه ، ولهذا روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع ، وقد نازعه طائفة من العلماء في كثير مما ذكره وقالوا إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل ، بل بينوا ثبوت بعض ذلك لكن الغالب على ما ذكره في الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء .
وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع المختلق المصنوع الذي تعمد صاحبه الكذب(10)
هذا وقد ألف الحافظ ابن حجر جزءا سماه : ( القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد ) وذكر فيه الأحاديث الموضوعة والواهية التي انتقدت في مسند الإمام أحمد ، وأجاب عنها ، ولكن لا تخلو إجابته في بعض المواضع من نظر ، إذ حسن أحاديث كان قد حكم عليها بالوضع بعض الأئمة ، وليس أدل علي هذا مما قاله الحافظ ابن حجر في كتابه : ( تعجيل المنفعة ) : (( ليس في المسند حديث لا أصل له
إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة ، منها : حديث عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة حبوا ، والاعتذار عنه أنه مما أمر أحمد بالضرب عليه فترك سهوا )) ومع هذا فقد حاول الحافظ نفي الوضع عنه .
(1) ــ شرح علل الترمذي ( 1 / 385 ) .
(2) ــ الكفاية ص 213
(3) ــ القول البديع ص 255 .
(4) ــ إعلام الموقعين ( 1 / 31 ) .
(5) ــ القول المسدد ص 23 .
(6) ــ مجموع الفتاوى ( 18 / 25 ) .
(7) ــ شرح العلل ص 259 .
(8) ــ التقييد والإيضاح ص 57 .
(9) ــ النكت للزركشي ( 1 / 354 ) .
(10) ــ مجموع الفتاوى ( 1 / 248 ).
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (69)
مسند الإمام أحمد ( 4-5 )
السبب في وجود الموضوعات في المسند :
الإمام أحمد ــ رحمه الله ــ من كبار أئمة الحديث الذين جمعوا بين الرواية والدراية والفقه ، وقد شهد له بالإمامة في التعديل والتجريح ومعرفة تاريخ الرجال ، وتمييز الصحيح من السقيم ، كبار أئمة هذا الشأن ، وهذا أمر لا يكاد يختلف فيه اثنان ، وقد عنيت ــ القائل الدكتور محمد أبو شهبة ــ بالبحث عن السر في وقوع الموضوعات في المسند ، وإن كان على ندرة حتى تكشف لي بعد البحث والتنقيب أن السبب يرجع إلى ما يأتي :
1 - أن الإمام أحمد كان يرى تخريج أكبر عدد ممكن من الأحاديث المشهورة أعم من أن تكون صحيحة أو ضعيفة ، وأنه كتبه في أوراق متفرقة ، وفرقه في أجزاء منفردة على نحو ما تكون المسودات وذلك على نية أن يهذب الكتاب وينقحه ، ويحذف منه ما يطمئن إليه ، ويزيد ما عسى أن يعثر عليه من الأحاديث الصحيحة ، ثم جاء حلول المنية قبل حصول الأمنية ، وهكذا كان شأن أئمة الحديث لا ينفكون عن التنقيح والتهذيب والحذف والإثبات حتى يوافيهم الأجل ، وقد مر بك آنفا أنه كان يأمر بالضرب على بعض الأحاديث ، فلعل ما أمر بالضرب عليه قد ترك سهوا.
2 - التساهل في رواية الفضائل ، وقد روي عن الإمام أنه قال : ( نحن إذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، وإذا روينا في الفضائل تساهلنا ) ، وليس معنى هذا أن الإمام أحمد كان يخرج بعض الأحاديث الموضوعة وهو يعلم ذلك ثم يسكت عليه ، فحاشا أن يكون هذا ، وإنما هو اختلاف الأنظار ، فما هو في نظره غير موضوع قد يراه غيره موضوعا ، وأئمة الجرح والتعديل مختلفون في مناهجهم ، فمنهم المشدد ، ومنهم المتساهل ، ومنهم المتوسط .
3 - من جهة زيادات ابنه عبد الله وتلميذ ابنه أبي بكر القطيعي ، ومما ينبغي أن يعلم أن العلماء يريدون بالمسند ما يشمل الأصل وزياداته ، وللإمام ابن تيمية في هذا كلام حسن ذكره في كتابه " منهاج السنة " الذي ألفه في الرد على أحد الروافض ، قال "
وليس كل ما رواه احمد في المسند يكون حجة عنده ، بل يروي ما رواه أهل العلم و شرطه في المسند أن لا يروي عن المعروفين بالكذب عنده ، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف ، و شرطه في المسند مثل شرط أبي داود في سننه
و أما كتب الفضائل فيروي ما سمعه من شيوخه ، سواء كان صحيحا أو ضعيفا ، ثم زاد ابن احمد زيادات ، وزاد أبو بكر القطيعى زيادات ، وفي تلك الزيادات أحاديث كثيرة موضوعة ، فظن الجاهل - يريد الرافضي - أن تلك من رواية احمد ، وأنه رواها في المسند و هذا خطأ قبيح ، فإن الشيوخ المذكورين شيوخ القطيعي وكلهم متأخر عن أحمد ، وهم ممن يروى عن أحمد ، لا ممن يروي أحمد عنه"(1)
ومهما يكن من شيء فإن ما وقع فيه من الأحاديث المختلف في أنها موضوعة على قلتها لا تغض من شأن هذا الكتاب الجليل ومنزلته كديوان من دواوين السنة المعتمدة(2)
6- طريقة ترتيب المسند : رتب الإمام أحمد أحاديث كتابه علي مسانيد الصحابة ، وقسمها بضعة عشر مسندا من المسانيد أو مجامع المسانيد الرئيسة ، وقد عدها العلامة محمد بن جابر الوادي آشي ، فقال :( مسند الإمام أبي عبد الله : أحمد بن حنبل المشتمل علي ستة عشر مسندا : الأول : مسند العباس وبنيه ، الثاني : مسند أهل البيت ، وهم العشرة ، الثالث : مسند ابن عباس وحده ، الرابع : مسند أبي هريرة ، الخامس : مسند ابن مسعود ، السادس : مسند ابن عمر ، السابع : لجابر بن عبد الله ، الثامن : لأنس بن مالك ، التاسع : لعمرو بن العاص وأبي سعيد الخدري معا ، العاشر : لعائشة ، الحادي عشر : للمدنيين والمكيين ، الثاني عشر : للشاميين ، الثالث عشر : للبصريين ، الرابع عشر : للكوفيين ، الخامس عشر:للأنصار ، السادس عشر : مسند النساء ) (3)
وعدها الحافظ ابن حجر ، فقال : ( هذه أسماء المسانيد التـي اشتمل عليها أصل المسند : مسند : العشرة وما معه ، ومسند : أهل البيت ، وفيه: العباس وبنيه، ومسند : عبد اله بن عباس ، ومسند : ابن مسعود ، ومسند : أبي هريرة ، ومسند : عبد الله بن عمر ، ومسند : جابر ، ومسند : الأنصار ، ومسند : المكيين والمدنيين ، ومسند : الكوفيين ، ومسند : البصريين ، ومسند : الشاميين ، ومسند : عائشة ، ومسـند : النساء ) (4) ، وعدد ما ذكر ابن حجر هنا ( 17 ) مسندا ، وذكر الحافظ في موضع آخر أنه اشتمل علي ثمانية عشر مسندا ، وقال : ( ربما أضيف بعضها إلي بعض ) (5)، وبهذا يوجه الاختلاف في عدد المسانيد الرئيسة في الكتاب ، لكن يظهر فيه الاختلاف في ترتيب هذه المسانيد ، فالوادي آشي بدأ بمسند العباس وبنيه ، وابن حجر بدأ بالعشرة وهو يوافق المطبوع ، بينما لم يزد ذكر العشرة المبشرين بالجنة في وصف الوادي آشي إلا قوله في الثاني : ( مسند أهل البيت ، وهم العشرة ) ، والعشرة غير أهل البيت ، فلعله أضافهم هنا كما أشار ابن حجر ، ومن المعلوم أن الإمام أحمد توفي قبل تهذيبه وترتيبه ، وإنما قرأه لأهل بيته قبل ذلك خوفا من العوائق العارضة ، وقد أجاب الإمام ابن عساكر بهذا (6)
ومن خلال ما سبق يتبين :
1 - أن المسند مقسم إلي عدة مسانيد رئيسة , وهي التي ترجم لها غالبا بقوله مثلا : ( مسند العشرة وما معه ، ومسند أهل البيت ) وهي تشتمل علي مجموعة من مرويات عدد من الصحابة ، وقد بوب أيضا علي مرويات صحابي واحد بقوله : ( مسند ) ، مثل : ( مسند عبد الله بن عباس ، ومسند ابن مسعود ، ومسند أبي هريرة ) ويلحظ أن هؤلاء الذين أفردهم بهذا التبويب من المكثرين في الغالب ، وفي المسانيد التي يترجم بها ويبوب وهي جامعة كقوله : ( مسند العشرة ) ، يفصل مرويات كل صحابي علي حدة ، ويبوب عليها بقوله ( حديث أبي ، وحديث عمر بن الخطاب ) .
2 - بدأ مسند الرجال بالعشرة المبشرين بالجنة ، وقدم حديث الأربعة الخلفاء ، ثم رتب البقية بعد ذلك بحسب البلدان ، مثل قوله : مسند البصريين ، ومسند المكيين ، ومسند المدنيين ، ومسند الكوفيين ، أو بحسب القبائل ، وأهل بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم ، والأنصار وغير ذلك ، وربما كررت مرويات الصحابي في أكثر من موضع تارة باعتبار بلده ، وتارة باعتبار قبيلته ، أو أسبقيته في الإسلام ، ومن ذلك أنه أخرج مرويات ( حارث بن أقيش ) في مسند الأنصار ، ثم أخرجها في مسند الشاميين ، وكذا ( حارث بن زياد الأنصاري ) أخرج له في موضعين : مسند المكيين ، ومسند الشاميين ، وقد رتب ابنه عبد الله مسانيد المقلين ، قال الحافظ ابن حجر : ( لم يرتب - يعني الإمام أحمد - مسانيد المقلين ، فرتبها ولده عبد الله ، فوقع منه إغفال كبير من جعل المدني في الشامي ، ونحو ذلك ) (7)
وأما مرويات النساء فقد فرقت في المطبوع من المسند في عدة مواضع ، وجمعت مرويات أكثرهن في أواخر المسند متتابعة ، وقدم : حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، ثم : حديث فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم ، إلي بقية أحاديث أمهات المؤمنين ، وبقية النساء رضوان الله عليهن ، وترجم لأحاديث المبهمات من أزواج النبي صلي الله عليه وسلم في مواضع أخري ، مثل قوله : ( حديث بعض أزواج النبي صلي الله عليه وسلم ) .
3 - ترجم أيضا لمسانيد المبهمين والمبهمات من الصحابة رضوان الله عليهم ، بحسب ما جاء في الرواية ، : ( حديث رجل من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم )
4 - في آخر المسند بعد مرويات النساء ، أخرج مرويات أربعة من الصحابة ، حيث ترجم لأولهم ، فقال : ( حديث صفوان بن أمية رضي الله عنه ) ، ثم : ( حديث أبي بكر بن زهير الثقفي رضي الله عنه ) ، ثم : ( حديث والد بعجة بن عبد الله رضي الله عنه ) ، ثم : ( حديث شداد بن الهاد رضي الله عنه ) ، وبه ختم المسند المطبوع ، وأحاديث صفوان جاءت في موضع آخر ، وكذا أبو بكر بن أبي زهير ، وشداد بن الهاد . (8)
(1) ــ منهاج السنة ( 7 / 97 ).
(2) ــ أعلام المحدثين للدتور محمد أبو شهبةص 84 ، 85 .
(3) برنامجه ص 198 .
(4) إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي ( 1 /173 ).
(5) المجمع المؤسس ( 2 / 32 ) .
(6) ترتيب أسماء الصابة الذين أخرج حديثهم أحمد بن حنبل في المسند ص 33 .
(7) المعجم المؤسس ( 1 / 199 ) .
(8) انظر : تخريج الحديث بحسب الراوي الأعلي ص 37 ــ 40 .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (70)
مسند الإمام أحمد ( 5-5 )
7 - أهم مميزات المسند :
1 - يعتبر مسند الإمام أحمد من المصادر الحديثية المسندة ، ولذلك أثره في علوم الحديث إسنادا ومتنا .
2 - يعد من أنقي المسانيد ، حيث إن الإمام أحمد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث ، كما ذكر الإمام أحمد نفسه (1) ، ويقول الحافظ ابن حجر : ( لا يشك منصف أن مسنده أنقي أحاديث وأتقن رجالا من غيره وهذا يدل علي أنه انتخبه ) (2)
3 - يعتبر من الموسوعات الحديثية الجامعة المسندة ، لأنه احتوي غالب المرويات وأصولها الثابتة ، فلا يكاد يوجد حديث صحيح إلا وهو فيه بنصه ، أو أصله ، أو نظيره ، أو شاهده (3) ، ويقول ابن الجوزي : ( ما من حديث غالبا إلا وله أصل في هذا المسند ) (4) ، ويقول الحافظ ابن كثير : ( يوجد في مسند الإمام أحمد من الأسانيد والمتون شيئ كثير مما يوازي كثيرا من أحاديث مسلم بل والبخاري أيضا ، وليست عندهما ، ولا عند أحدهما ، بل لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الأربعة ) (5)
8 - رواية المسند : المسند من رواية أبي بكر : أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك بن شبيب البغدادي القطيعي ( ت 368 هــ ) عن عبد الله بن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ( 290 هــ) عن أبيه .
9 - جهود العلماء في العناية بالمسند : لقد عني العلماء بالمسند عناية كبيرة لما له من أهمية كبيرة ومنزلة عظيمة ، وقد تمحورت هذه الأهمية في الآتي :
أ - ترتيبه كترتيب كتب الأطراف :
- رتبه علي معجم الصحابة والرواة عـنهم كترتيب كتب الأطراف الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن المحب الصامت .
- ثـم أخذ الحافظ أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير كتاب المسند بترتيب ابن المحب الصامت ، وضم إليه الكتب الستة ، ومسند البزار ، ومسند أبي يعلي الموصلي ، ومعجم الطبراني الكبير ، ورتبها جميعا علـي نفس ترتيب ابن المحب للمسند وسماه ( جامع المسانيد والسنن ) .
قال ابن الجزري : ( ... وجهد نفسه كثيرا وتعب فيه تعبا عظيما ، فجاء لا نظير له في العالم ، وأكمله إلا بعض مسند أبي هريرة ، فإنه مات قبل أن يكمله لأنه عوجل بكف بصره ، وقال لي : رحمه الله تعالي ـ لا زلت أكتب فيه في الليل والسـراج ينونص ــ يعني يضعف ــ حتي ذهب بصري معه ، ولعل الله أن يقيض له مــن يكمله مع أنه سهل ، فإن معجم الطبراني الكبير لم يكن فيه شيئ من مسند أبي هريرة رضي الله عنه ) (6)
- ورتبه علـى الأطراف أيضا الحافظ ابن حجر وسماه : ( إطراف المسند ــ بكسر النون وضم الميم - المعتلي بأطراف المسند الحنبلي ) ثم ضمه أيضا مـع الكتب العشرة في كتابه ( إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة ) .
ب - ترتيبه علي الكتب والأبواب الفقهية :
- رتبه غلي الكتب والأبواب الفقهية الشيخ العلامة أحمد بن عبد الرحمن البنا ، الشهير بالساعاتي وسماه : ( الفتح الرباني بترتيب مسند الإمـام أحمد بن حنبل الشيباني ) غير أنه اقتصر علي جزء من إسناد الحديث مع تمام متنه ، ثـم عاد وشرحه وخرج أحاديثه في كتاب سماه ( بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني ) لكن المنية عاجلته قبل إتمامه ، فأتمه الشيخ الدكتور محمد عبد الوهاب البحيري ، وقد طبع الكتابان معا في أربعة وعشرين جزءا .
- ورتبه علي نفس ترتيب الفتح الرباني الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن عثمان القرعاوي غير أنه استوعب الأسانيد وطرق الحديث كلها في المسند ، وسمي كتابه ( المحصل لمسند الإمام أحمد بن حنبل ) ، قال في أوله : ( وطريقتي في ذلك هي أني أذكر الترجمة ( كباب في معرفة حق الله تبارك وتعالي ..... ) وبعدها أجعل لكل صحابي رقما مبتدئا برقم واحد ( 1 ) وبجانب الرقم أذكر اسم الصحابي ، ثم اذكر حديثه واجعل لهذا الحديث ولطرقه أرقاما من الجانب الأيمن علي التسلسل تبين عدد طرقه ، إلا إن تكرر ذكر الحديث فيما سبق فإني أشير إلي أنه قد تكرر في قولي : (( قال مقيده عفا اله عنه ... )) وقد جعلت قبل هذا الرقم رقما يشير إلي تعداد أحاديث المحصل كاملا من أوله إلي آخره مبتدأ برقم ( 1 ) ومنتهيا برقم ( 29258 ) .
ج - تحقيقه تحقيقا علميا :
- قام الشيخ العلامة أحمد محمد شاكر بتحقيق المسند ، فحقق النص ، وقابله علي نسخ خطية ، ورقم الأحاديث ، وخرجها ، وتكلم على أحوال رواتها ، وحكم عليها ، ووضع فهارس علمية دقيقة في آخر كل مجلد ، لكن المنية عاجلته قبل أن يتمه ، والمطبوع منه إلي مسند أبي هريرة رضي الله عنه في سبعة عشر مجلدا ، وقد شرع الشيخ الدكتور الحسيني هاشم في إتمام ما بدأ به الشيخ أحمد شاكر إلا أن المنية عاجلته أيضا قبل إتمامه ، لكن أتمه مــ-ن بعد الجزء الذي انتهي إليه الشيخ شاكر الأستاذ حمزة الزين وطبع كاملا في عشرين مجلدا .
- قام جملة من الباحثين في الدراسات العليا بقسم الحديث وعلومه بكلية أصول الدين بالقاهرة بتحقيق المسند كاملا ــ وذلك ضمن رسائل الماجستير والدكتوراه ــ فخرجوا أحاديثه ، وترجموا لرواته ، وشرحوا غريبه ، وعلقوا علي بعض أحاديثه ، وهذا العمل مع شموله واستيعابه لا زال قيد المخطوطات بمكتبة كلية أصول الدين بالقاهرة
ـ قام الشيخ العلامة شعيب الأرنؤوط مع مجموعة من العلماء بتحقيق المسند ، وتخريج أحاديثه ، والتعليق عليه ، وقد قامت بطباعة هذا العمل مؤسسة الرسالة ببيروت في خمسين مجلدا ، وأشرف علي إصدارها معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ، وقد تميزت هذه الطبعة بالعناية الفائقة في تحقيق النص علي عدة نسخ خطية ، وتجنبت كثيرا من التصحيفات التي وقعت في الطبعات السابقة ، كما تمم كثير من المواضع الساقطة من المسانيد في الكتاب ، مـع تخريج الأحاديث تخريجا شاملا ، وإعداد فهارس متنوعة .
د - ترتيب أطراف الأحاديث علي أوائل ألفاظ المتون بحسب حروف الهجاء :
مثل :
1 - فهرس أحاديث مسند الإمام أحمد بن حنبل ، إعداد أبي هاجر : محمـد السعيد بن بسيوني زغلول
2 - مرشد المحتار إلي ما في مسند الإمام أحمد بن حنبل من الأحاديث والآثار ، لحمدي عبد المجيد السلفي .
3- المنهج الأسعد في ترتيب أحاديث مسند الإمام أحمد ( ومعه الفتح الرباني ، وشرح العلامة أحمد شاكر علي المسند ) إعداد عبد الله ناصر رحماني .
هـ - ترتيب أسماء الصحابة المخرج حديثهم بحسب حروف الهجاء : كما في
1 - ترتيب أسماء الصحابة الذين أخرج حديثهم أحمد بن حنبل في المسند ، للحافظ أبي القاسم : علي بن الحسين بن هبة الله المعروف بابن عساكر ( ت 571 هــ ) .
2- فهرس العلامة محمد ناصر الدين الألباني ، لأسماء الصحابة الذين أخرج الإمام أحمد حديثهم .
(1) انظر : خصائص المسند لأبي موسي المديني ص 21 .
(2) النكت علي كتاب ابن الصلاح ص149 .
(3) انظر للفائدة في هذا الباب : كتاب الفروسية لابن القيم ص 69 .
(4) المصعد الأحمد ( 1 / 31 ) .
(5) اختصار علوم الحديث ص 27 .
(6) الفتح الرباني ( 1 / 8 )+
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (71)
الجامع الصحيح للإمام البخاري(1-20)
التعريف بالإمام البخاري :
هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الجعفي مولاهم ، شيخ الإسلام وإمام الحفاظ ، أمير المؤمنين في الحديث ، كان مولده في شوال سنة أربع وتسعين ومائة ، ومات سنة ست وخمسين ومائتين للهجرة.
وإذا كانت هناك صفات ينبغي أن تتوافر في أئمة الحديث ونقده ، وأهمها :
1 - حفظهم للحديث ، صحيحه وسقيمه ، وتمييز هذا من ذاك .
2- أنهم من العلماء والفقهاء بالسنن والآثار .
3 - أن لهم معرفة واسعة برواة الآثار ، معرفة تمكنهم من الحكم عليهم ومعرفة العدول منهم من المجروحين .
4 - توافر التقوى فيهم والورع والزهد وطهارة الخلق وصفاء النفس .
5 - أنهم من الذين يجهرون بالحق ، لا يخافون في الله لومة لائم عند السلطان أو المنحرفين عن الدين من ذوي البدع .
6 - أنهم أصحاب عقل سديد ، ومنطق حسن ، وبراعة في الفهم (1).
إذا كان الأمر كذلك فقد توافر بحمد الله تعالى للإمام البخاري كل هذا ، كما تترجم عنه السطور التالية من حياته :
أولا : حفظ الإمام البخاري القرآن الكريم كله ، وشيئا من الحديث النبوي الشريف ولما يتجاوز العاشرة من عمره ، وبعدها خرج إلى شيخ الحديث يكتب عنهم ويسمع منهم ، ولم يبلغ الحادية عشرة من عمره حتى كانت له معرفة بالحديث تمكنه من مراجعة الشيوخ الكبار وبيان أخطائهم . يقول الإمام البخاري مؤرخا لهذه الفترة من حياته ــ فيما يرويه عنه ــ وراقه محمد بن أبي حاتم الوراق قال : " سمعت البخاري يقول : ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب . قلت : وكم أتى عليك إذ ذاك ؟ فقال : عشر سنين أو أقل ، ثم خرجت من الكتاب فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره ، فقال يوما فيما كان يقرأ للناس : " سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم " فقلت : إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم ، فانتهرني ، فقلت له ارجع إلى الأصل إن كان عندك ، فدخل فنر فيه ، ثم رجع فقال : كيف هو يا غلام فقلت : " هو الزبير وهو ابن عدي عن إبراهيم " فأخذ القلم ، وأصلح كتابه ، وقال لي : صدقت . قال : فقال له إنسان : ابن كم حين رددت عليه فقال : ابن إحدى عشرة سنة "(2)
ثانيا : وازدادت معرفة الإمام البخاري بالحديث رواية ودراية ، يساعده على ذلك ملكته الحافظة ، ورحلاته العديدة إلى مدن العالم الإسلامي ، كي يسمع من شيوخها ويكتب عنهم بعد أن سمع من الشيوخ في موطنه وحفظ ما عندهم من الحديث .
وبدأ رحلاته بمكة المكرمة ليلتقي هناك بكثير من العلماء في موسم الحج ، ثم رحل بعد ذلك إلى بغداد ، والبصرة ، والكوفة ، والمدينة ، والشام ، وحمص ، وعسقلان ، ومصر ، وبعض هذه البلاد رحل إليه أكثر من مرة ، حتى يستقصي ما عند شيوخه من الحديث كتابة وسماعا .
يقول : " دخلت إلى الشام ، ومصر ، والجزيرة مرتين ، وإلى البصرة أربع مرات ، وأقمت بالحجاز ستة أعوام ، ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين "(3)
وكانت له همة عالية وإخلاص وافر في تحصيل العلم وتدوينه ، يؤثره على نومه وراحته ، فقد روي أنه كان يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه ويكتب الفائدة تمر بخاطره ، ثم يطفئ سراجه . وقد يفعل ذلك قريبا من عشرين مرة في الليلة الواحدة .(4)
ثالثا : وكانت نتيجة هذا كله الإلمام الواسع بالأحاديث صحيحها وسقيمها ، وبجميع الرواة العدول منهم والمجروحين ، فحفظ في سن مبكرة كتب إمامين كبيرين من أئمة الحديث ، وهما عبد الله بن المبارك و وكيع بن الجراح (5) ، وكان ذلك في السادسة عشرة من عمره ، وفي الثامنة عشرة كان قد بلغ درجة من العلم في فقه الصحابة تمكنه من التصنيف فيه . يقول : " لما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك و وكيع ، وعرفت كلام هؤلاء ، يعني أصحاب الرأي ، فلما طعنت في ثماني عشرة سنة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين(6).
ويقول مبينا مدى معرفته بأحاديث الصحابة والتابعين : " لا أجئ بحديث عن الصحابة والتابعين غلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم ، ولست أروي حديثا من حديث الصحابة والتابعين ــ يعني من الموقوفات ــ إلا وله أصل أحفظ عن كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم "(7)
رابعا : ولم يكن البخاري جماعا للعلم الكثير دون تريث ، وإنما كان ينتقي رجاله ، ويستوثق من أحاديثهم .
يقول : " لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء ، كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه ، وكنيته ، ونسبته ، وحمل الحديث إن كان الرجل فهما ، فإن لم يكن سألته أن يخرج إلىَّ أصله ، ونسخته ، أما الآخرون فلا يبالون بما يكتبون " (8)
(1) - راجع صفات أئمة الجرح والتعديل في تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم .
(2) - هدي الساري ص 478 ، 479 .
(3) - هدي الساري ص 479 .
(4) - هدي الساري ص 483 ، طبقات الشافعية ( 2 / 220 )
(5) - تذكرة الحفا ( 2/ 555 ) .
(6) - هدي الساري ص 479 .
(7) - هدي الساري ص488 .
(8)- تاريخ بغداد ( 2 / 25 ) .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (72)
الجامع الصحيح للإمام البخاري(2-20)
خامسا: كما أودع ثمرة هذا كله في كتبه المختلفة التي ألفها في علوم الحديث والفقه(1) ، ومن أهم هذه المؤلفات : الجامع الصحيح ، والمسند الكبير،والأدب المفرد،والتاريخ الصغير والكبير،والتفسي ر الكبير.
والجامع الصحيح ، والتاريخ الكبير : يدلان دلالة كبيرة على علمه الواسع بالرواية والدراية في علوم الحديث ، والأول يدل على علمه بالفقه .
أما (الجامع الصحيح ):فإنه وإن لم يحص فيه جميع الأحاديث الصحيحة ، كما سنعرف بعد قليل ، وإنما انتقى فيه بعضها ــ فقد أودع فيه مادة تدل على سعة علمه وحفظه ــ وطبيعي أنه لا يمكنه الاختيار والانتقاء ، كما فعل في هذا الكتاب إلا إذا كانت عنده مادة حديثيه كبيرة تمكنه من الاختيار والموازنة والمقارنة ، كما أثبت في هذا الكتاب اتجاها فقهيا قد يختلف كثيرا عن الاتجاهات التي سبقته أو عاصرته ، كما سنعرف إن شاء الله تعالى.
وأما كتابه ( التاريخ الكبير ):ففيه أكثر من اثنتي عشرة ألف ترجمة للرواة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى عصره.
سادسا : وشهادات أئمة الحديث له ــ وما أكثرها ــ تحمل في طياتها مقدار علم الرجل وسبقه في ميادين علوم الحديث ، سماه الإمام مسلم : " سيد المحدثين ، وطبيب الحديث في علله " ، ويقول الإمام الترمذي : " لم أر أحدا بالعراق ، ولا بخراسان في فهم العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل " ، وقال ابن خزيمه : " ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري"(2).
وقصته مع أهل بغداد تدل على سعة علمه ، كما تدل على ذكائه وقوة حافظته :
لما قدم بغداد اجتمع عليه علماؤها وأرادوا امتحانه ، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها ــ يعني جعلوا متن هذا لإسناد ذاك ، وإسناد ذاك لمتن هذا ــ ثم أعطوا كل واحد منهم عشرة أحاديث منها ، فألقى عليه الأول العشرة التي عنده ، فكان كلما ذكر حديثا قال له البخاري : لا أعرفه وهكذا حتى انتهى العشرة من سرد ما عندهم ، فصار الجهلاء من الحاضرين يحكمون على البخاري في أنفسهم بالعجز والتقصير ، وأما العلماء منهم فيقولون : فهم الرجل ، ثم التفت البخاري إلى الأول ، فقال له : أما حديثك الأول فصحته كذا ، وأما حديثك الثاني فصحته كذا ، حتى انتهى من أحاديثه العشرة ، ثم التفت إلى الثاني والثالث وهكذا إلى العاشر ، يذكر الحديث المقلوب ، ثم يذكر صحته ، فلم يجد علماء بغداد بدا من الاعتراف له بالحفظ والتبريز والإحاطة.
والعجيب ــ كما قال ابن حجر ــ هو سرده للأحاديث على الترتيب الذي سمعه من الممتحنين مرة واحدة ، إن هذا ولا شك ــ كما قدمنا ــ يدل على حافظة قوية ، وبديهة حاضرة ، وحفظ متمكن (3).
(1) ــ انظر إحصاء بتآليف البخاري عند ابن حجر في هدي الساري ص492 ــ 494 .
(2) ــ هدي الساري ص486 .
(3) ــ هدي الساري ص 487 .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (73)
الجامع الصحيح للإمام البخاري(3-20)
سابعا : ويزين علم الرجل هذا ورع وتقوى وزهد :فتنأى به كلها عن الغرور الذي يفسد بعض العلماء ، وعن الانشغال بالدنيا وتسخير العلم لمغرياتها والتكالب عليها ، فيتخلق بأخلاق لا تليق بما يحمله من العلم النبوي الشريف ، ومن مظاهر هذا في حياة الرجل :
1 ــ أنه كان لا يشتري لنفسه شيئا ولا يبيعه ، وإنما يوكل في هذا غيره ، لخوفه من أن ينزلق فيما يغضب الله تعالى ، ولو من غير قصد منه ، وللنأي بسمعه ولسانه عن السوق ، وما يحدث فيه من لغو وباطل ، يقول : " ما توليت شراء شيء قط ولا بيعه ، كنت آمر إنسانا فيشتري لي ، قيل له : ولم ؟ قال : لما فيه من الزيادة والنقصان والتخليط "(1)
2 ــ وكان له مال كثير ينفق منه سرا وجهرا على طلاب العلم وما يلزمه في طلب العلم من شراء الورق والرحلة ، يقول : كنت أستغل في كل شهر خمسمائة درهم فأنفقها في الطلب ، وما عند الله خير وأبقى (2).
3 ــ خرج يوما إلى أحد شيوخه فتأخرت نفقته ، فجعل يتناول من خضروات الأرض ، ولا يسأل أحدا شيئا ، حتى وصل إليه المال (3).
4 ــ كان يخشى الله أن يقدم إليه وقد أساء إلى أحد من عباده ، فأحسن معاملة الخلق وسار فيهم سيرة حسنة ، يقول : " لا يكون لي خصم يوم القيامة ، فقيل له : إن بعض الناس ينقمون عليك التاريخ ، يقولون فيه اغتياب الناس ، فقال : إنما روينا ذلك رواية ، ولم نقله من عند أنفسنا ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بئس أخو العشيرة ) ، وقال : ما اغتبت أحدا قط منذ علمت أن الغيبة حرام (4).
5 ــ وأحسن صلته بالله تعالى فكان يدعوه فيستجيب له دعاءه ، يقول : " دعوت ربي مرتين فاستجاب لي ، فلن أحب أن أدعو بعد ، فلعله ينقص من حسناتي "(5) .
6 ــ وكان يرى أن ينبغي أن يزكيها بالصلاة والركوع لله رب العالمين ، فعسى الموت أن يفاجئها نفس المرء عبء عليه فلا تجد ما تقدمه يوم الحساب ، فكان يقول :
اغتنم في الفراغ فضل ركوع فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيح رأيت من غير سقم ذهبت نفسه الصحيحة فلتة
ونعى إليه أحد أحبابه ، فأنشد :
إن عشت تفجع بالأحبة كلهم وبقاء نفسك لا أبا لك أفجع (6)
7 ــ ولحرصه على نظافة لسانه من أن تدنسه كلمة قد لا تكون حقا أنه كان في نقده للرجال لا يطلق على الكذابين ألفاظا صريحة تدل على كذبهم ، وإنما يطلق عليهم ــ في غالب الأحيان ــ ما يبين حالهم بشيء من الأدب ، وبالعبارات المهذبة ، فكثيرا ما يقول في الرجل الذي يعرف كذبه : " فيه نظر " ــ " تركوه " ــ " سكتوا عنه " وأصرح ما قاله في رجل " منكر الحديث " .
قال ابن حجر : " وللبخاري في كلامه على الرجال توق زائد ، وتحر بليغ ، يظهر لمن تأمل كلامه في الجرح والتعديل "(7).
ثامنا : وكان يعتز بعلمه ، ويرى أنه يجب على كل مستفيد أن يسعى إليه ، ويرد إليه كل طالب ورده ، حتى لو كان هذا سلطانا أو أميرا ، فهو لا يخشى في الله ودينه لومة لائم .
بعث إليه أمير بخارى يطلب منه أن يحمل إليه كتابي الصحيح والتاريخ ليسمعهما منه ، فقال الإمام البخاري للرسول : قل له : إني لا أذل العلم ، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين ، فإن كانت له حاجة إلى شيء منه فليحضرني في مسجدي ، أو في داري ، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس ، ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة أني لا أكتم العلم(8).
(1) ــ هدي الساري ص 480 .
(2) ــ هدي الساري ص480 .
(3) ــ هدي الساري ص440 .
(4) ــ هدي الساري ص 481 .
(5) ــ هدي الساري ص 481 .
(6) ــ هدي الساري ص 482 .
(7) ــ هدي الساري ص81 .
(8) ــ هدي الساري ص 494 .، وكتب السنة ، دراسة توثيقية ص 58 ــ 62 .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (74)
الجامع الصحيح للإمام البخاري(4-20)
والخلاصة :
أنه كان لممارسة الإمام البخاري للحديث وعلومه ، تحصيلا وتدريسا وتصنيفا وحفظا وضبطا ــ على النحو الذي ذكرنا جانبا منه ــ أثره الكبير فيه ، فتوفر له بذلك أمور منها :
1 ــ مادة علمية غزيرة بمتون الأحاديث وأسانيدها .
2 ــ إلمام واسع بتاريخ الرجال ومروياتهم ، وخبرة بثقاتهم وضعفائهم مما هيأ له أسباب الانتخاب والاختيار من مروياتهم .
فضلا عن التقائه بشيوخ عصره في مختلف الأمصار الإسلامية وإفادته منهم بالتحصيل والمراجعة والاختبار ، وتهيأ له بهذا كله بعد توفيق الله تعالى أن يقدم للأمة تراثا أصيلا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه ( الجامع الصحيح ) الذي اتفقت كلمة العلماء على أنه أصح كتاب بعد القرآن الكريم وتلقته الأمة بالقبول .
التعريف بالجامع الصحيح:
تمهيد : تبين لنا أن البخاري حين أقدم على تأليف كتابه ( الجامع الصحيح ) كان قد توفرت له وسائل النضج العلمي .
أ ــ من حيث مادة التأليف وجمعه لها من صدور الرجال في وطنه وفي أقطار العالم الإسلامي التي طوف بها شرقا وغربا .
ب ــ ومن حيث مادة الإفادة من مناهج التأليف ممن سبقه في هذا الفن بحيث لم يجئ تكرارا وإنما ابتكارا ورائدا أوفي فيه على الغاية .
ج ــ ومن حيث الانتخاب والاختيار فكانت عنايته بالكيف أكثر منها بالكم سواء فيما يتعلق بمتون الأحاديث أو بأسانيدها .
وحسبنا أن نعلم أن مجموع ما اختاره في صحيحه من المتون لا يبلغ( 3%)مما يحفظ هو من الصحيح ، وأن مجموع من روى لهم من رجال الصحيح الثقات لا يتجاوز( 5 % ) ممن أجمع العلماء على تصحيح حديثهم.
وتعتبر مؤلفاته قبل ( الجامع ) تمهيدا ووسيلة أهلته ( للجامع ) ولذلك لم يبدأ فيه إلا بعد رحلة واسعة في رحاب العلم وأقطاره والتأليف فيه تدل على ثبات قدم ومعرفة بالحديث ورجاله .
الاسم العلمي للكتاب وبيانه :
هو ( الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه ) هكذا ذكره ابن حجر في كتابه هدي الساري (1).
وأسماه ابن الصلاح ( الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه ) .
وليس بين التسميتين كبير اختلاف إلا أن الاسم على كلتا الروايتين فيه طول غير مألوف في أسماء الكتب ، ولذلك كان البخاري نفسه يجتزئ ببعض ألفاظ الاسم تحاشيا للطول ، فأحيانا يسميه ( الجامع الصحيح ) (2)، وأحيانا يسميه (الجامع ) كما جاء في قوله : " ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح ، وتركت من الصحاح مخافة الطول ) (3) ، وربما اقتصر في التسمية على كلمة (الصحيح ) .
على أن هذا الاسم وإن كان غير مألوف كعنوان لطوله ، إلا أنه جعله بهذا الطول عنوانا دقيقا شاملا لكل مزايا الكتاب وخصائصه ، وموضحا لمنهجه في تأليفه كما يتضح في السطور الآتية :
فهو ( جامع ) : لأنه جمع جميع أقسام الحديث الثمانية ، والتي اصطلح العلماء على أنها إذا وجدت في كتاب سمي جامعا ، وهي ( العقائد ، الأحكام ، الرقاق ، الفتن ، الشمائل والمناقب ، الآداب ، المغازي والسير ، التفسير ) وقد جمعها البعض في كلمة ( عارف شامت ).
وهو ( صحيح ) : في كل ما أورده من أحاديثه الأصول : وهي التي أخرجها في متون الأبواب موصولة السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأفردها بطابع يميزها وينبه إليها وهو التصريح بقوله : ( حدثنا ) وما يقوم مقامها ، والعنعنة بشرطها الذي التزمه وتشدد فيه ، فكل حديث ورد في كتابه على هذا النحو فهو صحيح عنده .
وإذا كان الكتاب قد اشتمل على أحاديث أخرى ليست من شرط صاحبه ، فإن ذلك لا يضيره ما دام قد أعطى كل نوع ما يميزه عن الآخر ، وعلى هذا يفسر قوله : ( ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح ) بأن المراد : أنه لم يدخله على هذا النحو وبهذا الطابع الخاص المشروط من وصله على الطريقة المعينة ، ومعنى ذلك : أنه لم يورده على غرار ما التزمه في أحاديثه الأصول .
وهو ( مسند ) : أي أحاديثه متصلة السند ، فما من حديث في الصحيح إلا وهو متصل ، عدا المعلقات ، فليست مذكورة فيه للاحتجاج بها ، وإنما للاستشهاد أو للاعتبار ، أو هي مروية في الصحيح مسندة وموصولة في غير الكتاب الذي أتت فيه معلقة ، فالعبرة بالمسندة لا بالمعلقة .
وهو ( مختصر ) : لأن البخاري لم يستوعب فيه كل الأحاديث التي صحت عنده على شرطه ، بل اقتصر فيه على مقدار يسير مما كان يحفظه من الصحاح التي بلغ حفظه منها مائة ألف حديث ، وذلك خشية التطويل ، فلم يبلغ ما أورده فيه إلا قرابة عشر المعاشر بالنظر إلى ما يحفظه ، ومما يدل على عدم استيعابه للصحيح ، قوله الذي سبق : ( ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح ، وتركت من الصحاح مخافة الطول ).
وقوله ( من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : أي : من أقواله وأفعاله وتقريراته ، وكل أموره مما يهم الخلق في دينهم ودنياهم ، ومن للتبعيض ، أي أنها ليست كل أموره صلى الله عليه وسلم ، وإنما هي بعض منها .
وقوله ( وسننه ) : أي : طريقته المسلوكة وشمائله المنظورة ، حتى يتحقق بهما الاقتداء والهداية .
وقوله ( وأيامه ) : أي : تواريخه ، وغزواته ، ومبعثه ، ودعوته للقبائل وللملوك في عصره إلى الإيمان والإسلام ، وكل أحواله مما لم يره الرائي أو لم يحضره القارئ .
وبذلك يتبين لنا شمول كتاب البخاري لكل ما يحتاجه المسلم في أمر دينه ودنياه،بل حياته ومماته،بل يوجد فيه ما يكون بعد الممات من بعث وغيره لذا استحق أن يسمى جامعا .
(1) ــ هدي الساري ( 1 / 5 ) .
(2) ــ انظر : هدي الساري ص 91 .
(3) ــ مقدمة ابن الصلاح ص 91 .
-
رد: تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين (متجدد)
تاريخ السنة النبوية ومناهج المحدثين
ا.د.فالح بن محمد الصغير
الحلقة (75)
الجامع الصحيح للإمام البخاري(5-20)
الباعث على تأليفه :
يعتبر صحيح البخاري مرحلة مهمة من مراحل تطور علم الحديث ، إذ كانت المؤلفات في هذا العلم قبله لا تفرد الحديث الصحيح بالتأليف ، وإنما تضم إلى جانب هذا ــ الحديث الحسن والضعيف ، وكان علماء الحديث يفعلون ذلك ثقة منهم بأنه في إمكان أي محدث أو فقيه أن يميز هذا من ذاك ، إذا لم ينص المؤلف على كل منها ، لأنهم وضعوا ــ إلى جانب المؤلفات التي تضم رواية الحديث ــ مؤلفات أخرى في علله ، وتاريخ الرجال وأحوالهم من حيث العدالة والجرح .
ولكن يبدوا أن هذا الأمر أصبح عسيرا في النصف الأول من القرن الثالث الهجري ، فقد استطال السند ، وكثر الرواة ، وكثرت طرق الحديث ، وبالتالي كثرت الأحاديث ، مما أصبح من العسير على غير الأئمة التمييز بين الحديث الصحيح والحسن ، وبين غيرهما وأصبحت الحاجة ماسة إلى كتاب مختصر يضم الحديث الصحيح فقط ، ويبعد ما لم يصح ، لعلة فيه ، أو لضعف في بعض رواته .
وقد أعلن هذه الحاجة المحدث الكبير إسحاق بن راهويه في مجلس من مجالسه العلمية ، وكان هذا المجلس يضم الإمام البخاري ، إذ كان تلميذا من تلاميذه ، فقال : لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم !
وكان أقدر الحاضرين على عمل ذلك الإمام البخاري ، لأنه ــ كما قدمنا ــ توافرت فيه صفات الأئمة القادرين على تمييز الصحيح من غيره ، والموازنة بين المرويات ، وانتقاء ما تتوافر فيه عناصر الثقة والصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول الإمام البخاري مبينا الصلة بين كلام أستاذه وتأليفه كتابه ( الصحيح ) : " فوقع في قلبي ، فأخذت في جمع الجامع الصحيح (1).
والحقيقة أنه كانت هناك رغبه نفسية بالإضافة إلى ذلك في تحقيق هذا الأمل وتمثلت فيما رآه في نومه من أنه يذب بمروحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفسرت هذه الرؤيا بأنه يدفع الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويبين الإمام البخاري أن هذه الرؤيا كانت دافعا إلى تأليف الجامع الصحيح ، إذ رأى أن تحقيق هذه الرؤيا يكون على هذا النحو ، يقول : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه ، وبيدي مروحة أذب بها عنه ، فسألت بعض المعبرين ، فقال لي : أنت تذب عنه الكذب ، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح (2).
ولهذا فقد تناول الإمام البخاري المصنفات في عصره ، وقبل عصره ، واستخرج منها ما صحت نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني : " رأى البخاري هذه التصانيف ورواها ، وانتشق ريَّاها ، واستجلى محياها ، وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين ، والكثير منها يشمله التضعيف فلا يقال لغثه سمين،فحرك همته لجمع الحديث الصحيح،الذي لا يرتاب فيه أمين"(3)
(1) ــ هدي الساري ( ص5 ).
(2) ــ هدي الساري ( ص5 ) .
(3) ــ هدي الساري ( ص5 ) .