-
حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(1)
المقدمة
الحمد لله، خَلقَ الإنسان في أحسن تقويم، وأصلي وأسلم على سيدنا ونبينا محمد بن عبدالله، كان خُلقُه القرآن الكريم، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمــا بعــد: فقد كثرت المستجدات والنوازل في هذه الأزمنة المتأخرة، التي نحتاج إلى تبصّر وتأمل، ومن أشدّها وقعًا ما يكون متصلاً بالنفس الإنسانية، فيؤثر عليها سلبًا أو إيجابًا، ومن ثمّ ينتقل هذا التأثير إلى سائر جوانب الحياة الأخرى، وقد يورث أمراضًا وأسقامًا، وضعفًا وفتورًا، وانقطاعًا للتواصل، وقلة نتاج وغيرها.
وقد شُغل الإنسان في هذه القضية حتى أوجد علومًا لها مثل علم النفس الذي أصبح علمًا يدرس وله نظرياته وتطبيقاته، وكذا الطب النفسي في الجانب العلاجي أصبح تخصصًا له قواعده ومنطلقاته.
والإسلام بمصدريه العظيمين، القرآن الكريم والسنة المطهرة، وقد أكمل الله سبحانه وتعالى بهما الدين، وأتمّ بهما النعمة على المؤمنين، قد حويا المنهجية الكاملة للمؤمن في هذه الحياة، التي إذا ما استقاها وسار عليها أوصلته إلى سعادة الدارين، من سعة الحياة والطمأنينة فيها، إلى نعيم الآخرة وسعادتها.
وقد كان التطبيق العملي لهذا الدين هو حياة النبي ﷺ، فقد جعله الله سبحانه القدوة والأسوة للمؤمنين، فقال سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا}(1)
والناظر في حياته ﷺ يجد توجيهات عظيمة، ومعالجات لكثير من الإشكالات النفسية التي تستدعي من المختصين إبرازها ودراستها وتنزيلها على الواقع، فهي مليئة بالمعالم والإشارات، بل والأسس لبناء النفس الإنسانية بناء إيجابيًا منتجًا، ولمعالجات ما يطرأ عليها من منغصات.
وقد كتب الله سبحانه وتعالى أن أشارك في شيء من هذه الأسس والمعالم في برنامج في قناة المجد الفضائية لمدة عام كامل بعنوان: (حياة السعداء) والتي كانت فكرته: استخلاص القضايا النفسية – بناء وعلاجًا – من الحديث النبوي، مدعمة بما يعضدها من القرآن الكريم. وهي فكرة لا أعرف من تطرق إليها بمثل الصورة التي عرضت إلا قليلاً من إشارات وعبارات، ومن هنا أردتها انطلاقة لئن يخوض المختصون في هذا الجانب، ليستخرجوا ما في القرآن الكريم والسنة المطهرة من كنوز تفيد علماء النفس والأطباء النفسانيين، وعامة المسلمين ليجدوا فيه ما يثرون علمهم، ويؤصلونه، وليجد كل مسلم ما يعينه على درب السعادة الحقة، وما يعالج به ما يطرأ من مشكلات.
وهذا لا يعني بأي حال – كما قد يفهمه البعض – إلغاء الطب النفسي أو إضعافه، أو عدم فعاليته، بل هو إثراء وتكامل وتأصيل. هكذا أحسب.
كما لا يعني أن ما أذكره جميعه مسلّم، بل كثير منه يحتاج إلى مزيد من البحث والتقويم، فحسبي أنها لبنة في هذا البناء الكبير الذي نحتاج إليه جميعًا.
* * *
ولأهمية هذه الفكرة أعدت النظر مرة أخرى فيما ألقيت في البرنامج لكي أصوغه في كتاب – كما طالب بذلك كثير من المستمعين والمستمعات – فيستفيد منه الجميع.
وعلى ذلك تتسطر أهداف هذا الكتاب فيما يلي:
1 – بناء الشخصية النفسية البناء الصحيح المنتج المؤسس على القرآن الكريم والسنة النبوية.
2 – ربط المسلم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ في جميع شؤون حياته.
3 – إضافة لبنة إيجابية في علم النفس وفي الطب النفسي السلوكي مستنبطة من الكتاب والسنة ومن تطبيقات النبي ﷺ.
4 – إيجاد طرق ووسائل لعلاج أمراض النفوس.
5 – تصحيح مسار كثير من المعالجين بالرقية الشرعية أو بغيرها.
6 – تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة في سلوكيات المعالجين والمرضى.
7 – محاولة تجميع العوامل المساعدة للوصول إلى السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.
وكانت خطة هذا الكتاب كما يلي:
مهدت بتمهيد وضحت فيه منهج الإسلام في التعامل مع الأمراض والقضايا النفسية.
ثم قسمت الكتاب إلى قسمين، فالقسم الأول: في الجانب البنائي، وقد أطلت فيه إذ هو الأصل فبدأتُ بالمنطلق وهو العلم وأثره على النفس، ثم في أقسام البناء، وهي أعمال القلوب، كالإخلاص والتوكل والخوف والرجاء وغيرها، وأعمال الجوارح كالصلاة والزكاة وقراءة القرآن وغيرها.
والقسم الثاني: في الجانب العلاجي، مثل: تقوية الإرادة، والرقية الشرعية، وبدأتها بذكر بعض أسباب الأمراض النفسية، وختمت بعلاقة الرؤى والأحلام بالجانب النفسي وتأثيرها، وكيفية التعامل معها.
ولخصت ما في هذا الكتاب من أفكار في الخاتمة.
وأشير هنا إلى أني أطلت بعض الشيء في كل موضوع من الموضوعات التي تطرقت إليها، لإفادة القارئ، ثم في تفصيل الرابط بين هذه الموضوعات وبين القضية النفسية بناء وعلاجًا.
هذه أهداف العمل وخطته، ولا أزعم الكمال أو مقاربته ولكن أرجو أن تكون إضافة يُنطلق منها للمواصلة والإنضاج، فهي محاولة شخصية استنتاجية وتأملية في بعض النصوص القرآنية والنبوية مستفيدًا من بعض التفاسير والشروح، وإن كان اعتمادي أكثر على التطبيقات النبوية.
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الجهد، وأن يجعله من المدخرات في الحياة وما بعد الممات، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---------
(1) الأحزاب [21].
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(2)
تمهيد
قبل التعرف على منهج الإسلام في التعامل مع الأمراض النفسية لابد من معرفة أن الهدف الذي يسعى إليه الإسلام باعتباره عقيدة وشريعة للإنسانية هو تحقيق العدالة والسعادة للناس في الأرض، والفوز بالنعيم المقيم في الآخرة، وأن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا بشرط ذكره الله تعالى في مواطن كثيرة في كتابه، يتعلق بعقيدته وعمله وحركته في الحياة الدنيا، وهو شرط ذو شقين، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فلا يحصل أحدهما من غير توافر الآخر، يقول الله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(1) وفي المقابل فإنه في حال عدم توافر الشرط وحصوله من الإنسان فإن هذا الهدف أو الغاية تنقلب على الإنسان بصورة عكسية، بمعنى أن السعادة المرتقبة تتحول إلى شقاء وتعب وعذاب، وكذلك لن ينال النعيم المنتظر في الآخرة؛ بل سينال من عذاب الله وعقابه حسب عمله في الحياة الدنيا، وهو ما عبّر عنه تبارك وتعالى بقوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(2)
والعاقل من سخّر ما أتاه الله تعالى من قوة وعلم ووقت ومال وصحة في عبادة الله وامتثال تشريعه في الأمر والنهي، من غير كسل ولا عجز ولا تماطل ولا تسويف، والخاسر من فرّط في هذه النعم واستهان بها وسخّرها في المحرمات وفي سفاسف الأمور، فإنه يخسر السعادة في الدنيا والآخرة، يقول عليه الصلاة والسلام: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني»(3)
-----------------
(1) النحل [97].
(2)طه [114].
(3) أخرجه الترمذي (ص560، رقم 3459) أبواب صفة القيامة. وأحمد (4/124، رقم 17164). والطبراني في الكبير (6/ 439، رقم 6997). قال الترمذي: هذا حديث حسن.
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(3)
منهج الإسلام في التعامل مع الأمراض النفسية:
إن منهج الإسلام في التعامل مع المرض النفسي ينبع من حقيقة هذا الدين الذي نُزّل من لدن خالق الإنسان، والذي يعالج الإنسان من جميع النواحي، فهذا الدين دستور قائم على عقيدة وشريعة، لأنه يعطي للإنسان التصور الصحيح عن الحياة والكون والإنسان، على أسس علمية رصينة، من حيث وحدانية الله تعالى في ألوهيته وربوبيته، وكذلك هو منهج تشريعي ينظم حياة الناس في الأحوال المختلفة، فهو يرسم علاقة الإنسان مع نفسه ومجتمعه في الأخلاق والآداب والمعاملات وجميع الحقوق والواجبات، كما يحدد علاقته مع ربه في اتباع كتابه وسنة نبيه ﷺ.
وبهذا فإن الطب النفسي يدخل ضمن هذا المنهج الرباني الشامل، الذي يعالج كل ما يتعلق بالإنسان من حالات وظروف.
منطلق المنهج الإسلامي:
إن المنهج الإسلامي في تعامله مع الأشياء ينبع من كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ، ولا يمكن تحديد جميع نقاط الانطلاق لهذا المنهج، لأن الله تعالى يرشد عباده في كل قضية إلى اتباع السبيل المناسب لاحتوائها والتغلب على أضرارها والاستفادة من منافعها، ولكن هناك خطوط عريضة تتكرر كثيرًا في التوجيهات الربانية والأحاديث النبوية لتكون أساسًا للانطلاقة في الحياة والتعامل مع الأحداث والنوازل، وهي بمثابة محطات تقوية وتشحين للمسلم في مسيرة الحياة، ومن هذه الخطوط ما يلي:
أ – معرفة الإنسان لذاته: من خلال التدبر والتفكر في كينونة ذاته وطبيعتها الممتزجة والمؤلفة من مادة وروح، والآيات التي أودعها الله فيه من خلايا وأعضاء وأجهزة، فضلاً عن المشاعر والأشواق التي تتوزع في النفس، لأن هذا يولد في نفس الإنسان شعورًا بعجزه أمام هذا الخَلق المعقد، وأمام عظمة الخالق سبحانه وتعالى، مما يدفع به للاستسلام والتحاكم إلى تشريع هذا الخالق ودستوره في الحياة.
يقول الله تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ . وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(1)
ب – حسن التصور عن الله سبحانه وتعالى: يمكن تحديد هذا المحور من خلال النقاط التالية:
-أنه الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، واحد في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأنه لا ند له ولا شريك له في الملك، وأنه يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ. اللَّـهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}(2)
-حسن الظن بالله تعالى ورحمته بعباده، وأنه تعالى أقرب من عباده من حبل الوريد، وأنه أرحم بهم من الناس أجمعين، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: «إن الله يقول: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني»(3)
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «قدم على النبي ﷺ سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا النبي ﷺ: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا وهي تقدر على أن لا تطرحه فقال لله أرحم بعباده من هذه بولدها»(4)
-الخوف منه سبحانه وتعالى، مقابل حسن الظن به، لاسيما إذا تُركت الفروض والواجبات، وارتُكبت الكبائر؛ لأن الله تعالى ينزل رحمته على عباده المؤمنين القائمين على أوامره وطاعته، وهو بالوقت نفسه شديد العقاب للمعاندين والعصاة، كما في قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}(5) فلا بد من التوازن بين الرجاء في رحمته والخوف من عذابه، وهي من صفات المؤمنين الصادقين لقوله تعالى: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(6).
-الاستشعار بعظمة الله تعالى وأن بيده ملكوت كل شيء، وأنه اللطيف الخبير، لا تخفى عليه خافية في الأرض والسماء، لقوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(7) وقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(8) وكثيرة هي الآيات التي تلفت انتباه الإنسان إلى عظمة خالقه وبارئه من خلال ما خلق وبرأ.
-أن المآل الأخير إلى الله، وأنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وأن الناس إليه يحشرون، ليجزي من كان على بينة ويحق الحق على الكافرين.
----------------------------
(1) الذاريات [20-21].
(2) سورة الإخلاص
(3) أخرجه مسلم (ص1169، رقم 2675) كتاب الذكر والدعاء، والترمذي (ص 544، رقم 2388) كتاب الزهد، باب ما جاء في حسن الظن.
(4) أخرجه البخاري (ص1050، رقم 5999) كتاب الأدب، باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبَّلها أو مازحها.
(5) الحجر [49-50].
(6) السجدة [16].
(7)الأنعام [59].
(8) المجادلة [7].
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(4)
منهج الإسلام في التعامل مع الأمراض النفسية:
ج – فهم الإنسان للحياة ووظيفته فيها:
إن الفهم الصحيح والتصور الصائب عن الحياة والكون والإنسان هو من أهم أركان المنهج الإسلامي في التعامل مع الأشياء، لأنه أساس سلوكه وسيرته في الحياة، وهو ما بيّنه الله تعالى في كتابه المبين، وفصّله رسول الله ﷺ في سنته وسيرته، من يوم أن خلق الله السموات والأرض، وبث فيهما من خلقه ما شاء، إلى قيام الساعة، كلها من الأمور التي حكى عنها هذا الدين بجلاء ووضوح، يقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(1)
ويقول تبارك وتعالى في نزول الإنسان على الأرض: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ}(2)
ثم يلي هذا التصور معرفة الإنسان حقيقة رسالته في الحياة، وأن الله تعالى لم يكن ليخلق هذا الإنسان من قبضة طين وروح منه ثم يأمر الملائكة بالسجود له، لم يكن الله ليخلق الإنسان بهذا الشكل عبثًا من غير غاية أو هدف في الحياة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، يقول جل ثناؤه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّـهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}(3)
بل حدّد هذا الخالق وظيفة الإنسان على ظهر هذه البسيطة بقوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(4)
وبالمقابل إذا أخطأ الإنسان في تصوره عن ذاته وحقيقة الحياة، واعتقد خلاف ما جاء به القرآن والسنة النبوية، فإنه سيقع في الشبهات والضلالات، التي تعصف به إلى المشعوذين والسحرة لأخذ العون والدراية منهم في شؤونه، وهم بالأصل لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا ولا حياة ولا نشورًا، وإنهم بهذا الفعل سيفقدون إرادتهم وقيادتهم على أنفسهم وتدبير أمورهم، وهنا يكمن الخطر الذي ينجم عنه القلق والحسد والحقد والجريمة وجميع المفاسد والمنكرات.
يقول الله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّـهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}(5)
هـ- فهم الإنسان لحقيقة الابتلاء: بحيث يدرك أن ما يتعرض له في الحياة من ألوان البلاءات إنما هو ضمن اختبارات التكليف التي وردت في شأنها نصوص
كثيرة، مثل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّـهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ}(6) وقوله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(7)
---------------------------------
(1) هود [7].
(2) البقرة [36].
(3) المؤمنون [115-116].
(4) الذاريات [56].
(5)الحج [31].
(6) البقرة [214].
(7) الملك [2].
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(5)
الموقف من الأمراض:
ينظر الإسلام إلى المرض على أنه ابتلاء واختبار للإنسان، يقف حينها أمام موقفين: إيجابي وسلبي:
أولاً: الموقف الإيجابي
ويتمثل في:
-الرضى بأمر الله تعالى وقدره، مع اليقين بأن المرض من الله تعالى، يصيبه من يشاء من عباده، وهو نوع من الاختبار لهم فينظر هل يصبرون؟ {وَلَنَبْلُوَنَّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(1)
-عدم التحسر والتأسف على قضاء الله تعالى، لأن الإنسان لا يعرف مكامن الخير والشر، فهي خافية عليه، فربما أريد له بهذا المرض العفو والمغفرة والجنة وهو لا يدري، يقول تبارك وتعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(2)
-التداوي بالطرق المشروعة والابتعاد عن المحرم منها، كالذهاب إلى السحرة والمشعوذين، أو التداوي بالخمر وغيره من المحرمات.
-أن يتعبد الله تعالى بالعبادات أثناء المرض مثل: قوة المحاسبة لنفسه، والتفكر في ملكوت الله، وفي أسمائه وصفاته، وكثرة الذكر والاسترجاع، واستغلال الوقت بما يفيد، والدعاء.
-أن يعتقد أن الشافي هو الله سبحانه وتعالى وسائر الأشياء ما هي إلا أسباب إن أذن الله تعالى تحقق الشفاء وإن لم يأن فلحكمة يعلمها، فيورثه هذا قوة التوكل على الله.
آثار هذا الموقف:
1– تكفير السيئات ودخول الجنة: لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها»(3)
2– رفعة الدرجات: لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(4)
4– عبودية الله في السراء والضراء: وهي غاية وجود الإنسان في الأرض، وقد أشار رسول الله ﷺ إلى هذه العبودية بقوله: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»(5)
5– تذكير بنعمة الله على العبد: حيث أن الابتلاء نعمة من الله تعالى وفضل منه، وأن أشد الناس بلاء هم أقربهم إليه سبحانه وتعالى، كما أخبر بذلك رسول الله ﷺ ، حين سئل أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه»(6)
6– الرضى والطمأنينة: لأن المريض حين يدرك أن المرض من الله تعالى تطمئن نفسه ويهدأ باله، ويسلم أمره إليه، وبذلك لا يدع مجالاً لوساوس الشيطان أن تلج قلبه أو تخترق إيمانه وعقيدته. والله تعالى يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(7)
7– التعامل الإيجابي في الحياة: إن الرضى لأمر الله تعالى والاستسلام لقدره يجعل الإنسان متفائلاً في الحياة ويسعى فيها من غير كسل أو عجز، بل إنه يساهم في بناء المجتمع وحمايته حسب الطاقة الموجودة لديه، والإمكانية التي تساعده على ذلك، الأمر الذي يجعله عنصرًا إيجابيًا وفاعلاً في الحياة.
8– المحاسبة والرجوع عن السلبيات: إن المرض وجميع الابتلاءات تجعل الإنسان يراجع صفحات حياته الماضية، ويحاسب نفسه على ما اقترف فيها من
أخطاء وسيئات، ويبدلها بالأعمال الصالحة وفعل الخيرات. وذلك بالاجتهاد في الطاعات وتقديم القربات بين يدي الله تعالى، وإيصال الحقوق إلى
أصحابها، والإصلاح بين الناس وغيرها.
-----------------------------------
(1) البقرة [155-157].
(2) البقرة [216]
(3)أخرجه البخاري (ص1003، رقم 5667) كتاب المرضى، باب رخص للمريض أن يقولإني وجع. ومسلم (ص1126، رقم 2571) كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من المرض.
(4) الزمر [10]
(5)أخرجه مسلم (ص 1295، رقم 999) كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير.
(6)أخرجه الترمذي (ص547، رقم 2398) كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء. وابن ماجه (ص580، رقم 4023) كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء. وأحمد (1/172، رقم 1481). وهو حديث صحيح صححه الترمذي وغيره.
(7) البقرة [155-157].
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(6)
الموقف السلبي من الأمراض
ثانيًا: الموقف السلبي
ويتمثل في:
1 – التحسر على الماضي: وذلك بالجزع والتضجر من مرضه وبلائه، وعدم الصبر عليه، والإكثار من الشكوى والنجوى للناس من غير أن يحيل الأمر إلى الله تعالى.
2 – لوم النفس: من خلال التأسف على أمور مقدرة عليه كأن يقول لو أني فعلت كذا ما صار كذا، فيعيش طول مرضه ومعظم أوقاته في حالة التأنيب النفسي، وهذا يولد قلقًا واضطرابًا نفسيًا ربما يحدث خللاً في تصرفاته وسلوكه مع الناس.
3 – التعلق بالمخلوقين: من المشعوذين والسحرة ليجدوا لمرضه علاجًا أو دواء، دون أن يلجأ إلى الله تعالى، وهذا خدش في العقيدة والإيمان، لأن المشعوذين لا يملكون من أمرهم شيئًا فكيف بهم أن يشفى الناس على أيديهم وهم الذين يتعاملون بالكفر والشرك مع شياطين الجن، وقد نهى رسول الله ﷺ الذهاب إليهم قائلاً: «من أتى عرّافًا فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة»(1).
آثار هذا الموقف:
1– إن قدر الله تعالى واقع لا محال، وأن الجزع والتضجر لا يغير من الأمر شيئًا.
2– إن السخط لقدر الله وأمره، دليل على ضعف الإيمان بالله تعالى، وألوهيته وربوبيته.
3– إن الله تعالى يسخط من عباده المتضجرين من قدره، لقوله ﷺ: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط»(2)
4– إن الحسرة والسخط والندامة ينتج عنها أمراض نفسية خطيرة، مثل الاكتئاب والقلق وعدم الإنتاج، وغيرها. مما يهيئ الجسم لاستقبال أمراض عضوية أخرى.
5– التعامل السلبي في الحياة، سواء في الأمور الدينية من تقصير في أداء الواجبات والفروض، أو في الأمور الدنيوية من إساءة الخلق والحسد والحقد مع المجتمع من حوله.
----------------------
(1)أخرجه مسلم (ص 990، رقم 2230) كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان. وأحمد (2/429، رقم 9532).
(2) أخرجه الترمذي (ص546، رقم 2396) كتاب الزهد، باب الصبر على البلاء. وابن ماجه (ص582، رقم 4031) كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء. وهو حديث صحيح.
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(7)
وسائل التعامل مع المرض:
وهناك بعض الوسائل يمكن استخدامها لتخفيف وطأة المرض والشفاء منه، وهي:
1 – معرفة طبيعة الحياة الدنيا، وأنها دار ابتلاء واختبار، وأنها معبر للآخرة، وأن الاستقرار الحقيقي في الآخرة.
2 – معرفة الإنسان لنفسه، كما سبق الإشارة إليها، من خلال التفكر والتدبر في حقيقة الوجود الإنساني في الأرض ومعرفة المهام المكلف بها.
3 – اليقين بحسن الجزاء، لقوله تعالى: {فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}(1)
4 – الإيمان بقرب الفرج والشفاء، لقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}(2)
وفي قصة يعقوب عليه السلام الدروس والعبر في الأمل بقرب الفرج وزوال الهم، حين انتظر السنين على غياب ولده يوسف عليه السلام، وهو على يقين بأن الله تعالى سيبدل همه وحزنه فرحًا وفرجًا، وقد حقق الله له هذا الآمل فالتقى بيوسف عليه السلام على أحسن حال وأفضل مقام.
5 – استغلال الحياة بالإنتاج والعمل والطاعة وكل ما هو مفيد، وعدم ضياع الوقت بالتأسف والتحسر وجميع سفاسف الأمور، يقول عليه الصلاة
والسلام: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو
تفتح عمل الشيطان»(3)
------------------------------------------
(1) هود [49].
(2) الشرح [5-6].
(3)أخرجه مسلم (ص1161، رقم 6774) كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير إلى الله. وابن ماجه (ص13، رقم 79) المقدمة.
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(8)
الموقف من التداوي
لا يعارض المنهج الإسلامي التداوي والعلاج عند الأطباء المختصين، بل يحض عليه ويحرص على ذلك، ما دام الأمر ضمن الضوابط الشرعية، بحيث لا يكون العلاج بالمحرم، وترك التداوي بالحلال مخالفة شرعية صريحة لقول النبي ﷺ الذي أمر بالتداوي فقال: «يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء»(1)
أي لا بد من التوفيق بين القراءة والدعاء وتناول الأدوية والعقاقير عند الأطباء الموثوقين.
---------------------
(1) أخرجه الترمذي (ص 469، رقم 2038) كتاب الطب، باب ما جاء في التداوي والحث عليه. وابن ماجه (ص494، رقم 3436) كتاب الطب، باب ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء. وأبو داود (ص549، رقم 3855) كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى بلفظ: «قالوا يا رسول الله أنتداوى؟ قال: تداووا، فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد، وهو الهرم». وهو حديث صحيح.
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(9)
تعريف مختصر للقسم الأول: البناء
القسم الأول: البنـاء
والـمراد بهذا القسم: أن يذكر أسس البناء للشخصية السوية جسميًا ونفسيًا وسلوكيًا وعلميًا، فتستثمر حياتها وفق منهج الله سبحانه وتعالى، مستفيدة مما منحها سبحانه من قدرات ومواهب، وصفات وسمات، ومما حولها من معطيات، فتعمر الكون، وتحقق الحكمة التي من أجلها خلق الإنسان، فتسعد في الدنيا والآخرة، وتستطيع تذليل ما يمر بها من عقبات، وتعالج ما يعترضها من مشكلات. وقد اخترت مجموعة من هذه الأسس التي اعتبرها المنطلق الحق للشخصية السوية.
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(10)
العلم هو المنطلق
مدخل البناء في الأعمال هو العلم بالله تعالى وبرسوله ﷺ وبشريعته، فهو مفتاح كل خير، والدال لكل فضيلة، يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة، ويزكي النفس ويطهرها، ويعلو بهمة الإنسان، ويكسوه السكينة والوقار، خير ميراث الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
ولأثره العظيم نفصّل فيه بعض التفصيل في بيان أهميته وأثره على النفس والمجتمع في الدنيا والآخرة، مفتتحين بما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيره، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر»(1).
العلم في اللغة:
العِلْم: إدراك الشيء على حقيقته، وهو اليقين والمعرفة، وقيل: العلم يقال لإدراك الكلّيّ والمركَّب، والمعرفة تقال لإدراك الجزئيّ والبسيط.
ويطلق العِلْم على مجموع مسائل وأصول كلية تجمعها جهة واحدة، كعلم الكلام، وعلم النحو، وعلم الأرض، وعلم الكونيات وعلم الآثار. وجمعه: علوم(2).
في الاصطلاح:
(المقصود به هنا هو العلم الشرعي)، أي: العلم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، وكل ما يتعلق بالعقيدة والتشريع والأخلاق.
* * *
حكم العلم الشرعي:
العلم الشرعي منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، أما ما هو فرض عين فهو العلم بما يجب على الإنسان فعله ولا يسعه جهله، مثل ما علم من الدين بالضرورة، مثل أركان الإيمان (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) وكذلك أركان الإسلام (من الصلاة والزكاة والصيام الحج) ومعرفة أدائها على الوجه الشرعي المطلوب، يقول عليه الصلاة والسلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»(3).
وما هو واجب على شخص معين، كمن لديه مال عليه تعلّم أحكام الزكاة، ومن يبيع ويشتري عليه أن يتعلم أحكام البيع والشراء، والمرأة عليها أن تتعلم أحكام الحيض والنفاس وغير ذلك.
أما ما هو فرض كفاية فإذا قام به من يكفى من الأمة يسقط الإثم عن الجميع، وهو التخصص في العلم الشرعي ومعرفة فنونه وفروعه، كعلوم العقيدة،
وعلوم القرآن، وعلم الحديث، وعلم أصول الفقه، وغيرها من التخصصات الشرعية، وهي غير واجبة على جميع الأمة تعلمها في حال وجود من يتعلمها،
وما ورد من فضل العلم هو لهؤلاء الذين يقومون بهذا العلم.
----------------------------
(1)أخرجه أبو داود (ص522، رقم 364) كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم. والترمذي (ص608، رقم 2682) كتاب العلم، باب فضل الفقه على العبادة. وابن ماجه (ص34، رقم 223) المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم. وأحمد (5/196، رقم 21763). وهو حديث صحيح لغيره.
(2)المعجم الوسيط 2/ 624 مادة (عَلِمَ).
(3) أخرجه ابن ماجه (ص34، رقم 224) المقدمة، باب فضل العلم. والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 193، رقم 1543). يقول الألباني رحمه الله: إن السيوطي قد جمع طرق الحديث حتى أوصلها إلى الخمسين، وحكم من أجلها بالصحة، وحكى العراقي صحته عن بعض الأئمة، وحسنه غير وحد، والله أعلم (ينظر: مشكاة المصابيح للتبريزي بتحقيق الألباني 1/ 76).
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(11)
أهمية العلم وفضله:
تعددت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة حول العلم وفرضيته وأهميته في حياة الناس والأمم، سواء كان العلم الشرعي أو العلم التجريبي المدعّم بالإيمان
بالله تعالى وتوحيده، لأنه في النهاية يوصل الإنسان إلى حقيقة وجوده وحقيقة الكون والحياة، ويقرب صاحبه من الله تعالى ويبعده عن مخالفة أمره، يقول
تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(1).
ولفضل هذا العلم وأهميته كانت أولى الآيات التي نزلت على رسول الله ﷺ تحض على العلم وتحث عليه، لأن هذه الرسالة الجديدة والتي كانت خاتمة
الرسالات لا بد أن ترتكز على دعامة العلم وركنه الشديد؛ لأنه السبيل الصحيح للإيمان بالله تعالى، يقول تبارك وتعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(2).
وكأن الله تعالى أراد – أيضًا – أن يخبر هذه الأمة أن العصور القادمة ستشهد تطورات علمية وتحولات فكرية واسعة، فعليكم بالعلم والإيمان حتى تتمكنوا
من مواكبة تلك العصور ومواجهة التحديات الجديدة بقوة وثبات.
ثم جاءت الآيات تترى في فضل العلم وأهله وعلو مكانتهم وشأنهم عند الله تعالى وعند الناس، يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ
تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّـهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(3).
كما جعل الله تعالى أهل العلم مرجعية الناس وملاذهم حين تلتبس عليهم الأمور أو تحل بهم الأزمات أو تكاد نار الخلاف تنشب بينهم، فيقول جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(4).
لأن أهل العلم عندهم من العلوم الشرعية من الكتاب والسنة، ومن أخبار الأمم وقصصهم ومن حِكَم العقلاء والمصلحين وتجاربهم، ما تجعلهم أكثر صوابًا
وقربًا من الحق والعدل، بخلاف الذين يجهلون ذلك كله ثم يخوضون في الأحداث فما يزيدونها إلا نارًا وفتنة وخرابًا، وهو ما أشار إليه النبي عليه الصلاة
والسلام بقوله: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا»(5).
كما أشار عليه الصلاة والسلام إلى فضل أهل العلم ومكانتهم وأنهم ورثة الأنبياء فقال: «وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر»(6).
------------------------
(1) فاطر [ 28].
(2) العلق [1-5].
(3) المجادلة [11].
(4) النحل [43].
(5) أخرجه البخاري (ص22، رقم 100) كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم. ومسلم (ص1264، رقم 6796) كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه.
(6) أخرجه الترمذي (ص608، رقم 2682) كتاب العلم، باب ما جاء في فضل العبادة.
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(12)
حاجة الإنسان إلى العلم الشرعي
1 – معرفة الله تعالى والإيمان به وتوحيده وعبادته وحده لا شريك له، وترك ما سواه من الآلهة، سواء المصنوعة من الأحجار والأشجار، أو من النظريات والمذاهب والأفكار.
2 – تحرير العقل من الأساطير والخرافات، لأن مثل هذه الأمور لا يجد لها مكانًا في المجتمعات المتعلمة للعلوم الشرعية الصحيحة، بل إنها تزداد وتتكاثر في
المجتمعات المتخلفة والجاهلة التي لا تقيم للعلم وزنًا ومكانة.
3 – يحتاج الإنسان إلى العلم الشرعي لمعرفة أحكام دينه، من الحلال والحرام، من خلال كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ، فعليه أن يكون على دراية كافية
باللغة العربية حتى يفهم الخطاب الإلهي في القرآن والهدي النبوي من السنة المطهرة.
4 – العلم ضرورة لبلوغ المعالي وتحقيق الأهداف في الحياة، فلا يمكن أن يصل الإنسان إلى غايته المنشودة من غير أن يركب سفينة العلم ويجلس مع أهل
العلم ويأخذ منهم العلوم والفنون والأخبار، لأنها تكوّن له زادًا وعتادًا لمواجهة التحديات التي تقف دون تحقيق الأهداف والغايات.
5 – العلم ضرورة عصرية لمواجهة التحديات التي تواجه الأمة وتهدد مصالحها وثرواتها وخيراتها، فإذا تسلحت الأمة بالعلم وسخّرت إمكاناتها وطاقاتها من
أجل تعليم أبنائها، فإنها بذلك تؤسس قواعد متينة وتبني حصونًا منيعة أمام أطماع الأعداء وسياساتهم اتجاه هذه الأمة وبلادها.
6 – بالعلم الشرعي والعمل به يمكن نشر رسالة الإسلام بين شعوب العالم بجميع أطيافهم وأعراقهم ولغاتهم وعاداتهم، فلا يمكن نشر هذا الدين من قبل
أناس لا يعرفون شيئًا عن حقيقة التوحيد والعبودية لله وحده، ولا يعرفون عن القرآن أو السنة أو السيرة النبوية وسيرة الصحابة إلا النزر اليسير، ولكن بالعلم
يمكن أن يهدي الله تعالى الناس إلى هذا الدين، لأن العلم يخاطب العقل والفطرة، وهما المحركان الأساسيان للتحوّل الفكري والعقدي عند الإنسان.
7 – بالعلم الشرعي الصحيح يمكن الوقوف في وجه التيارات الفكرية المعادية، سواء القادمة من الخارج عبر المستشرقين أو من الداخل عبر أزلامهم، وقد
أثبت أهل العلم من هذه الأمة هذه الحقيقة حين دحضوا افتراءات المستشرقين وأباطيلهم حول مصادر التشريع الإسلامي وغيرها.
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(13)
علاقة العلم بالعمل
إن العلم الشرعي والعمل بمقتضاه أمران لا ينفصمان عن بعضهما، فالعلم الشرعي المجرد عن العمل به يتحوّل إلى عبء على صاحبه وحساب شديد في الآخرة، كما أنه يصنع نفورًا لدى الناس، إذا رأوا أن عمل هذا العالم الشرعي يخالف أقواله وما يدعوا إليه، وقد ورد عن الزهري رضي الله عنه قوله: «لا يرضين الناس قول عالم لا يعمل ولا عامل لا يعلم»(1).
ومن أجل ذلك كان العمل ملازمًا وواجبًا للعلم الشرعي، لأنه الصورة العملية له على الواقع، وقد كان عليه الصلاة والسلام قدوة عملية للإسلام الذي جاء به، كما أخبرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها: «كان خلقه القرآن»، وقد وصفه الله تعالى في محكم التنزيل: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}(2).
وقد أمر الله تعالى عباده باتخاذ الرسول ﷺ قدوة وأسوة لأنه يجسّد هذا الدين وتعاليمه على أرض الواقع فقال: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}(3).
فالعلم الشرعي يفرض على صاحبه الالتزام به وترجمته في سلوكه ومعاملته وأخلاقه وجميع شؤون حياته، فإذا فرّق العالم الشرعي بين علمه في الحلال والحرام والدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين عمله الذي يخالف كل ذلك فإن الله تعالى توعّد على ذلك الوعيد الشديد، وقد كثرت النصوص الشرعية في هؤلاء.
يقول تبارك وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(4)، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(5).
ويقول عليه الصلاة والسلام في حال الذين كانوا يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر ويأتونه: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه»(6).
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «يا حملة العلم اعملوا به فإنما العالم من عمل، وسيكون قوم يحملون العلم يباهي بعضهم بعضًا حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره أولئك لا تصعد أعمالهم إلى السماء»(7).
كما ورد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قوله: «إني لأحسب العبد ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها»(8).
ويقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: «لقيت مشايخ يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه وإن كان غيره أعلم منه»(9).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي، ص25
(2) [القلم: 4]
(3) [الأحزاب: 21]
(4) [البقرة: 44]
(5) [الصف: 2-3]
(6) أخرجه البخاري (ص1223، رقم 7097)
(7) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي، ص22
(8) المرجع السابق، ص37
(9) صيد الخاطر لابن الجوزي ص173
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(14)
أحوال السلف في طلب العلم
بما أن العلم من مقتضيات فهم الدين وبه يتقرب الإنسان إلى الله تعالى، حتى يصبح أكثر إيمانًا بالله وأكبر خشية منه جل وعلا، لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(1)، فإن أهل العلم من السلف قضوا أعمارهم وأزمانهم في طلب العلم الشرعي وفهمه وتوثيقه ومن ثم نشره، وسافروا شرقًا وغربًا، وتنقلوا بين الأمصار من أجل طلب العلم، وقد ذكر القرآن الكريم قصة موسى عليه السلام حين رافق الخضر، وما لقي في رحلته من التعب والنصب من أجل أن يتعلم منه بعض العلوم قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا}(2).
كما أن كثيرًا من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ضربوا أمثالاً رائعة في رحلاتهم الطويلة والشاقة من أجل العلم الشرعي، لا سيما أهل الحديث الذين سخّروا كل إمكاناتهم من أجل أن تصل السنة النبوية إلى الأمة من بعدهم نقية من الشوائب والزيادات، فقد سافر أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه من المدينة المنورة إلى مصر ليتأكد من صحة حديث يحفظه عن رسول الله ﷺ، يقول عطاء بن أبي رباح: خرج أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله ﷺ ولم يبق أحد سمعه من رسول الله ﷺ غيره وغير عقبة، فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري - وهو أمير مصر - فأخبره فعجل عليه، فخرج إليه فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله ﷺ لم يبق أحد سمعه من رسول الله ﷺ غيري وغير عقبة، فابعث من يدلني على منزله، قال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فأخبر عقبة، فعجل فخرج إليه فعانقه، فقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله ﷺ لم يبق أحد سمعه من رسول الله ﷺ غيري وغيرك في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من ستر مؤمنًا في الدنيا على خزية، ستره الله يوم القيامة» فقال له أبو أيوب صدقت. ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعًا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر(3).
وكان علي بن المديني من العراق يرحل إلى سفيان بن عيينة بمكة، للمذاكرة في الحديث(4).
وقال سعيد بن المسيب رضي الله عنه وهو من كبار التابعين: إني كنت لأسافر مسيرة الأيام والليالي في الحديث الواحد(5).
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه، رحل إلى اليمن وإلى مصر وإلى الشام والبصرة، والكوفة، وكان من رواة العلم وأهل ذلك، كتب عن الصغار والكبار(6).
وإن كتب السير والتراجم حافلة بأخبار علماء السلف وطلبهم للعلم، والظروف القاسية التي كانوا يمرون بها عبر رحلاتهم وأسفارهم، ولعل كتاب «الرحلة في طلب الحديث» للإمام أبي بكر الخطيب يعبّر عن شيء من تلك الأسفار، حيث يورد قصصًا وتحفًا نادرة عن الرحلات من أجل طلب العلم لا سيما أهل الحديث.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ
(1) [ فاطر: 28]
(2) [الكهف: 62]
(3) معرفة علوم الحديث، للحاكم، ص117
(4) الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي ص 23
(5) معرفة علوم الحديث، للحاكم، ص118
(6) الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي ص 91
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(15)
وسائل معينة لتحصيل العلم الشرعي
إن الوسائل والطرق التي يحصل الإنسان من خلالها على العلم الشرعي كثيرة ومتنوعة، ويمكن الإشارة إلى بعضها:
1- الإخلاص لله وابتغاء وجهه تعالى في رحلة طلب العلم، حتى يؤتي ثماره وآثاره الإيجابية على النفس والمجتمع، يقول عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى»(1).
فإذا خلا العلم من النية الصادقة أو الإخلاص في طلب العلم تحوّل إلى آفة على صاحبه ومجتمعه، بل إن ما بذله من أجل هذا العلم يذهب هباء منثورًا، لأنه كان من أجل مآرب دنيوية بحتة، كالشهرة أو المنصب أو المال أو غيرها.
2- الدعاء والتضرع إلى الله تعالى طلبًا الحصول على العلم الشرعي، لأنه من أوتيه وعمل به فقد نال خيرًا كثيرًا، وقد أمر الله تعالى رسوله بهذا الدعاء في قوله: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(2)، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»(3).
3- تقوى الله تعالى ومراقبته في السرّ والعلن، في الالتزام بأمر الله وطاعته، والانتهاء عن نواهيه ومعاصيه، يقول تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(4).
ويقول الإمام الشافعي في أثر المعصية على التحصيل العلمي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** وأخبرني بأن العلم نور
فأرشدني إلى ترك المعاصي *** ونور الله لا يُهدى لعاص
4- القراءة والمطالعة في الكتب الشرعية والاعتكاف عليها في التخصصات المختلفة، في العقيدة والتفسير والحديث والفقه واللغة والسيرة وغيرها، لأنها الأساس في البناء العلمي عند الإنسان، ويمكن بعد ذلك التخصص في أحد هذه العلوم والبحث في أغواره وكشف أسراره والاجتهاد فيه.
5- التتلمذ على أهل العلم كل في تخصصه، والتواصل معهم مباشرة أو عبر وسائل الاتصال الأخرى، وحضور دروسهم العلمية وندواتهم ولقاءاتهم، لا سيما إذا وجد لقاء دوري معهم في دراسة كتاب شرعي أو مناقشة مسائل علمية، وكذلك الاستفادة من تجاربهم وخبراتهم الطويلة في التحصيل العلمي.
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله ﷺ ونحن في الصفة، فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كَوْمَاويْن في غير إثم ولا قطع رحم»؟ فقلنا: يا رسول الله! نحب ذلك. قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل»(5).
6- الصبر في رحلة طلب العلم، وتحمّل المشقات المترتبة فيها، من تعب وسهر وسفر وإنفاق وبعد عن الأهل، والحرمان من بعض الملذات والطيبات، وهي سنّة كونية لمن يريد بلوغ المعالي وتحقيق الأهداف المنشودة، وكما قال الشاعر:
لا تحسبن المجد تمرًا أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتى تَلْعَقَ الصَّبِرا
7- ترجمة العلم الشرعي إلى واقع عملي، والاقتداء بالرسول ﷺ في هذا المجال، فإنه عليه الصلاة والسلام كان خلقه القرآن، وحياته العملية كانت تطبيقًا حقيقيًا لما جاء به من عند الله، حتى وصفه الله تعالى بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}(6).
9- محاولة الكتابة في الموضوعات العلمية الشرعية في التخصصات المختلفة، لأنها تدفع صاحبها للبحث في بطون الكتب والمصادر الأساسية حتى يأخذ الموضوع حقه من جميع الجوانب المتعلقة به، وهذه وسيلة عملية من وسائل التحصيل العلمي عند الإنسان
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ
(1) أخرجه البخاري (ص1، رقم 1) كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي.
(2) [طه: 114]
(3) أخرجه البخاري (ص17، رقم 71)
(4) [البقرة: 282]
(5) أخرجه مسلم (ص324-325، رقم 1873)
(6) [القلم: 4]
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(16)
ثمرات العلم الشرعي وآثاره (1-2)
للعلم الشرعي ثمرات يانعة وآثار إيجابية على حياة الإنسان ومجتمعه، ومن أهم تلك الثمرات:
1- أن العلم يزيد من إيمان صاحبه، ويوصله إلى حقيقة التوحيد والربوبية، ويمنعه من الوقوع في الشرك الذي هو أكبر المعاصي، يقول تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيز}(1)، حيث استشهد الله تعالى الملائكة والعلماء على توحيده.
ويقول تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(2)، ويقول: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}(3)، وهذه إشارات واضحة على أثر العلم في تقوية الإيمان بالله تعالى في نفس صاحبه وبالتالي على جوارحه وأفعاله.
2-إن العلم الشرعي يمنح صاحبه تقوى الله تعالى وخشيته في السر والعلن، لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(4)، وقوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا}(5).
3- العلم الشرعي والعمل به يرفع من درجات صاحبه عند الله تعالى كما أخبر جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(6).
4-الفوز بالجنة والنجاة من النار، يقول عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله به طريقًا إلى الجنة«(7).
5- الأجر العظيم المترتب على طلب العلم يماثل أجر الخروج في سبيل الله، لقوله ﷺ: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع»(8)، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو يعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله»(9).
6- دوام الأجر لطالب العلم في الحياة وبعد الممات، لقوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}(10)، والحكمة هي العلم النافع.
ويقول عليه الصلاة والسلام: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(11).
7- إن العلم الشرعي سبب لدعاء الملائكة لصاحبه، لقوله ﷺ: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء»(12).
8- العلم الشرعي والعمل به يكسب صاحبه المنازل الرفيعة والسمعة الطيبة بين الناس، وقصة يوسف عليه السلام خير شاهد على ذلك، إذ جعله الله تعالى على خزائن الأرض بعد محنة الجب وظلمة السجن، لأنه كان عالمًا عاملاً بعلمه يقول الله تعالى على لسانه حين طلب من ملك مصر: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(13)، وجعله الملك على خزائن مصر، وأصبح ذا شأن عظيم ومكانة عالية بين الناس جميعًا.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: «من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم»(14).
9- إن العلم الشرعي والعمل به، يمنح صاحبه صفات القيادة والريادة، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك من خلال قصة طالوت الذي أتاه الله تعالى العلم وقوة في الجسم، فتسلم قيادة الجيش، رغم قلة المال والمتاع عنده، يقول تبارك وتعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(15).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1)
[آل عمران: 18]
(2)
[سبأ: 6]
(3)
[المدثر: 31]
(4)
[فاطر: 28]
(5)
[الإسراء: 107]
(6)
[المجادلة: 11]
(7)
أخرجه الترمذي (609، رقم 268)
(8)
أخرجه الترمذي (ص601، رقم 2647)
(9)
أخرجه أحمد (2/350، رقم 8587).
(10)
[البقرة: 269]
(11)
أخرجه مسلم (ص716، رقم 4223)
(12)
أخرجه الترمذي (ص609، رقم 2682)
(13)
[ يوسف: 55]
(14)
المجموع للنووي 1/ 40]
(15)
[البقرة: 247]
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(17)
ثمرات العلم الشرعي وآثاره (2-2)
10- العلم الشرعي والعمل به يقضي على الجهل في المجتمع، ويزيل من الأذهان الخرافة والأسطورة، لأن هذا العلم لا يقبل إلا ما هو ثابت وفق الضوابط المحكمة التي وضعها العلماء لأخذ أية معلومة أو رفضها.
11- الذكر الحسن بين الناس، فلا يموت عالم عامل بعلمه إلا ويترحم عليه الناس جميعًا، ويأخذون بعلمه بعد مماته، ويستشهدون بكلامه وأفعاله، ولعل من الوفاء الإشارة إلى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى، الذي أصبح مضرب المثل في العلم والعمل، حتى بعد مماته، فلا يخلو الكلام في مسألة شرعية أو البحث عن حكم شرعي إلا ويُستشهد بكلام الشيخ رحمه الله، الأمر الذي يزيد من حسناته وأجره من كثرة دعاء الناس له.
12- الراحة النفسية للعالم الذي عرف الله تعالى، وعرف شرعه، وعرف حقيقة الحياة والكون والإنسان، وأن مآل هذا الكون كله إلى الله تعالى، وأن الحياة الدنيا إنما هي معبر للوصول إلى الدار الأبدية، وأن كل ما يجده الإنسان في هذه الحياة إنما هو اختبار وابتلاء، حيث يجزى عليه الإنسان في تلك الدار الأبدية، وهذا الإيمان والعلم يشرح صدر العالم ويهدأ من روعه في الشدائد والمصائب، فلا تتمكن من نفسه الوساوس ولا الهمزات، ويعيش عمره في العلم ومن أجل العلم، وهي سعادة لا يشعر بها إلا أصحابها.
13- إن العلم الشرعي يمنع الإنسان من الوقوع في دوامة الأهواء والشهوات التي تقود النفس إلى الهاوية، أثناء الفتن والأزمات، يقول تبارك وتعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَه ُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}(1)، حيث يصور الله تعالى حال المنافقين حين حدوث الأمن للمسلمين وحصول الخير لهم، أو حين يتمكن الرعب والخوف من نفوسهم، سارعوا إلى إفشاء ذلك بين الناس ونشره من غير علم أو دليل، ولو ردّ هؤلاء ما جاءهم إلى الرسول ﷺ وإلى أهل العلم وذوي الألباب لكان خيرًا لهم في الحالتين.
14- العلم الشرعي يحث صاحبه الإكثار من الطاعة والاجتهاد في العبادات، كأداء الفرائض على أفضل وجه، وتلاوة القرآن والتدبر في آياته، وقيام الليل والتضرع بين يدي الله تعالى وبث شكواه إليه، والمواظبة على قراءة الأذكار اليومية، وغيرها من الأعمال الصالحة.
15- إن العلم الشرعي الصحيح يقود إلى التوازن والاعتدال في كل شيء ويمنع دخول الغلو والتطرف إلى المجتمع، كما يبعد عنه التميع في تفسير النصوص وفي أداء الفرائض والعبادات، أو التهاون في المحظورات والمحرمات، بل إن هذا العلم يهدي المجتمع إلى الوسطية التي تميّز هذه الأمة عن غيرها، قال تعالى: {وكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(2).
16- العلم الشرعي يحمي المجتمع من الوقوع في كبائر الإثم وما ينتج عنها من المفاسد والدمار على الأخلاق وعلى الناس في الميادين المختلفة، فالعلم الشرعي يحذر الناس من وبال المعاصي كالربا والزنا والخمور والمخدرات والسرقة وغيرها من الكبائر، لأنها جميعًا تفتك بالمجتمع وتفرّق أبناءه وتحلّ فيهم العداوات والأحقاد والضغائن.
17- العلم الشرعي يسهم في استقرار المجتمعات والأمم، لأنه يستند إلى الإيمان بالله تعالى والالتزام بشرعه الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويمنع الظلم والاعتداء بين الناس، فيسود الأمن والاستقامة، وتقل الجريمة والانحراف، ويعيش الناس مطمئنين على أموالهم وأنفسهم ومصالحهم.
18- إن العلم الشرعي يحل كثيرًا من مشكلات الناس، لأن أهل العلم الشرعي – إضافة إلى علمهم – هم أهل الحكمة والاستقامة والخبرة، فلا يجاملون أحدًا على حساب حقوق الآخرين، لذا أمر الله تعالى عباده الرجوع إليهم لحلّ مشكلاتهم وفضّ نزاعاتهم بقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(3).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ
(1)
[النساء: 83]
(2)
[البقرة: 143]
(3)
[النحل: 43]
-
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(18)
العلم الشرعي والبناء النفسي
وبعد: فالعلم – مع هذا كله بفضائله وآثاره – له أهميته العظمى في البناء للنفس السوية، ومعالجة ما يطرأ عليها من تغيرات ويتجلى هذا البناء – إضافة إلى ما ذكر سابقًا- :
1- يبني معرفة الإنسان تجاه ربه، فيزداد تعظيمًا وخشية له.
2- يبني معرفة الإنسان تجاه الكون واتجاه الأشياء، فتزداد عبوديته لله سبحانه.
3- يبني ثقة الإنسان بربه، فتزداد قوة وتماسكًا وشجاعة.
4- يبني حسن الظن بالله سبحانه، فيزداد تفاؤلاً نحو المستقبل، فيتجه للنماء والإنتاج.
5- يبني حسن التوازن في النظر إلى الأشياء، فلا يغلو بشيء على حساب شيء آخر، ولا يميّع الأمور ويتساهل في الأحكام.
6- يعرف الأحكام الشرعية، فلا يزلّ نحو الخرافة والشعوذة التي ترديه المهالك.
7- يعرف حسن الاقتداء، فيورثه الاعتدال في السلوك والأخلاق، فيعامل ربه بالإحسان، وخَلقَه بالإحسان.
8- يعلم الإنسان الطريق الصحيح للتعامل مع الأزمات الشخصية، كالأمراض أو المصائب، ومع الأزمات العامة، فلا يضل ولا يُضل.
هكذا يبني العلم الشخصية السوية ويعالج ما يعترضها من العقبات.
ومن هنا كان من الغبن الفاحش أن يترك المسلم سبيل التعلم والتفقه ويتجه إلى أشياء جانبية، فحري لبناء أنفسنا ومعالجة أوضاعنا أن نتجه إلى العلم الشرعي ونعتزّ به، ونعظّمه في نفوسنا وتعتز به.
وأخيرًا:
فإن العلم الشرعي، يشكل لبنة أساسية لبناء المجتمع الإسلامي السليم، القائم على الحب والوئام، والعدالة والمساواة، والأمن والاستقرار، لأنه يبصّر هذا المجتمع بتوحيد الله تعالى ووجوب عبوديته وحده دون سواه، كما أنه يعرّفهم بالحقوق والواجبات في المجتمع الذي ينتمي إليه، فلا يتجاوز حدوده المرسومة له، كما لا يتعدى على حقوق الآخرين.
كما أن هذا العلم يحذّر الناس من وبال المعاصي والمنكرات التي تهوي بالنفس إلى الهاوية وتعرضها للآفات والوساوس في الدنيا، ومن ثم خسرانها الأكبر في الآخرة.
وفي الحالتين فإن العلم الشرعي يحقق السعادة النفسية داخل الإنسان كما يحقق العدالة الاجتماعية في مجتمعه، وهي الصورة المثلى للسعادة الحقيقية التي يسعى الإنسان بشتى الوسائل لتحقيقها في هذه الحياة.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(19)
الاستقامة - مفهوم الاستقامة
روى مسلم في صحيحه بسنده عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك وفي حديث أبي أسامة غيرك قال: «قل آمنت بالله فاستقم«(1).
مفهوم الاستقامة:
الاستقامة في اللغة: استقامَ الشيء: اعتدل واستوى(2).
وفي الاصطلاح: يمكن تعريف مفهوم الاستقامة في الاصطلاح من عدة وجوه، منها:
1- سلوك الصراط المستقيم.
2- لزوم الشريعة في التوحيد والعبادة والأخلاق.
3-لزوم أوامر الله واجتناب نواهيه ومعرفة أثر ذلك.
4- السير على هدي النبي ﷺ وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، لقوله: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة«(3).
ومنطلق هذا البحث هو التوجيه النبوي في قوله ﷺ: «قل آمنت بالله ثم استقم«(4).
ويؤيده قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(5)
.
وقوله جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(6).
وقوله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(7).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــ
(1)
أخرجه مسلم (ص39، رقم 159)
(2)
المعجم الوسيط 2/ 768 مادة (قَوَمَ)
(3)
أخرجه أبو داود (ص151، رقم 4607)
(4)
سبق تخريجه
(5)
[هود: 112]
(6)
[فصلت: 30]
(7)
[الفاتحة: 6]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(20)
مجالات الاستقامة
الاستقامة مفهوم عام تدل على التمسك بهذا الدين عقديًا وعمليًا، لذا فإن هذا المفهوم يدخل في جميع أصول الإسلام وفروعه، ومن أهم المجالات التي تقتضي الاستقامة فيها ما يلي:
أولاً: الاستقامة في العقيدة:
وهي التصور الصحيح عن الله سبحانه وتعالى وعلاقته بمخلوقاته وكونه، وذلك بالإيمان المطلق بالله تعالى وتوحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان بسائر أركان الإيمان، وهو الإيمان بملائكة الله وكتبه رسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، التي جاء ذكرها في كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ، يقول تبارك وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}(1).
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل عليه السلام: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره«
فإن اعتقد الإنسان بهذه الأركان اعتقادًا صحيحًا، وتمثلت آثارها في جميع مناحي الحياة، فإنه قد حصل على الاستقامة العقدية إن شاء الله تعالى، أما إذا اختلطت مع إيمانه بتلك الأركان تصورات أخرى، وظن في غير الله تعالى النفع والضر، أو قدّم وسائط من البشر أو الشجر أو الكواكب لتقربه إلى الله تعالى، أو يخبره عن الغيب، فإنه يسير في ظلمات الضلال، ويدخل في قضية الشرك والندية مع الله تعالى، وبذلك فإن الاستقامة بعيدة عن واقعه العقدي.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ
(1)
[البقرة: 285]
(2)
[مسند أحمد: 1/106]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(21)
ثانيًا: الاستقامة في العبادة
إذا استقام الإنسان عقديًا، وصار لديه يقينًا بأركان الإيمان الستة، فإن هذه الاستقامة وهذا اليقين الصحيح يؤثر على سلوكه العملي، وينعكس على واقعه، في عباداته وعلاقاته مع الناس، فالاستقامة في العقيدة هي التصور الصحيح والاستقامة في العبادة هي ترجمة هذا التصور إلى واقع ملموس، من خلال وظيفة الإنسان التي كلفه الله بها في الأرض وهي استخلافه وعبادته، لقوله جل ذكره: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1)، وأجلى صور الاستقامة في العبادة هي أداء أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، لأنها تعدّ سنام العبادات جميعها، وهي الثمرة الأولى لاستقامة العقيدة، لأن من أهم مقتضيات استقامة العقيدة أن هذا الإله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه، وبعث مع كل مخلوق رزقه، وبيده مقاليد أمور الكون، وإليه معادها، إن هذا الإله هو الوحيد الذي يستحق العبودية، ويستحق أن توجه إليه الأعمال، فثمَّة علاقة وطيدة بين استقامتي العقيدة والعبادة، يقول تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(2).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
(1)
[الذاريات: 56]
(2)
[الأنعام: 162]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(22)
ثالثًا: الاستقامة في التشريع
أما الاستقامة في التشريع فتعني التحاكم إلى منهج الله تعالى في جميع العلاقات والمعاملات، ابتداء من علاقة الإنسان مع أسرته في بيته وانتهاء بعلاقته مع القضايا المصيرية الكبرى، وإن الحياد عن هذا المنهج والتحاكم إلى غيره يعدّ خرقًا عقديًا خطيرًا يجلب غضب الله تعالى وسخطه على الناس، لأن التحاكم إلى غير منهج الله تعالى يدل على وجود منهج وقانون أفضل وأصلح منه، وإن الاعتقاد بهذا يعد كفرًا واضحًا، لذا جاء التحذير الإلهي للأمة من مغبة اللجوء إلى تشريع آخر، أو التحاكم إلى قوانين بشرية ظالمة، وأنه لا سبيل لهم ولا اختيار إلا التحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، يقول تبارك وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(1).
ويقول أيضًا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}(2)
ففي ظل هذا التشريع الرباني تتحقق العدالة والمساواة بأجلى صورها، لأن الناس سواسية أمام حكم الله، فلا يستثني هذا الحكم أحدًا مهما بلغ من الجاه والمكانة والنسب بين قومه، فيجلس في الخصومات الغني مع الفقير، والسيد مع عبده، والأمير مع مأموره، والتاريخ الإسلامي حافل بأحداث وصور رائعة تعبر عن قوة هذا التشريع الرباني وقوة قضاته وكيف أن أكابر الناس وساداتهم كانوا يرضخون ويضعفون أمام حكمه وقضائه.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ
(1)
[النساء: 65]
(2)
[الأحزاب: 36]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(23)
رابعًا: الاستقامة في الأخلاق
إن الاستقامة الخُلقية تعني تلك الخوالج والمشاعر الوجدانية الطيبة التي تدغدغ النفس الإنسانية، وتزكيها وتملؤها بكل معاني الخير من حب وإيثار وعفة وتعاون وإحسان وغيرها، ثم تتحول تلك الوجدانيات إلى ترجمة واقعية يعبّر عنها سلوك الإنسان مع ربه ومع نفسه ومع الناس من حوله.
وعلى نقيض الاستقامة الخلقية يوجد الانحراف الخُلقي، الذي هو نتاج الوسوسة الشيطانية التي تغذي النفس الإنسانية بالخبائث والشرور، فتتحول هذه النفس إلى مرتع خصب للمعاصي والمنكرات التي تترجم إلى واقع عملي تتجسد في سلوك الإنسان وحركة جوارحه.
من أجل ذلك كان من أهم المبادئ التي جاء الرسول ﷺ لإرسائها في الأرض هو تثبيت دعائم الأخلاق في واقع الناس، حيث يقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(1)، كما جاء الثناء الإلهي لرسوله عليه الصلاة والسلام في الآية الكريمة {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}(2).
وهذا يدل على أن الاستقامة الخُلقية لها شأن عظيم في حياة الناس، وأنها مقياس أساس لمعرفة حضارة أية أمة أو انحطاطها، وهو ما عبّر عنه الشاعر بقوله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإن من أهم العوامل التي تمرن النفس على اكتساب الاستقامة الخلقية، هي العبادات التي تمثل حبل التواصل مع الخالق جلّ وعلا، فالصلوات الخمس التي يقف الإنسان فيها بين يدي الله تعالى، ويبدأ بالتحميد والثناء، والاستعانة به في الحياة، ومن ثم الدعاء بالاستقامة العامة في الدنيا والآخرة، استقامة في العقيدة واستقامة في العبادة والأخلاق بقوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(3)، فضلاً عن الأذكار الأخرى من تسبيح وتكبير وتعظيم، وكذلك العبادات التي تزكي النفوس وتقوّم الجوارح على صنوف الخير، كالصيام والزكاة والحج، والإنفاق في سبيل الله وغيرها، كلها تعين المسلم على تأسيس الدعامات الخلقية لديه.
لذا جاء في شأن الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}(4)، وجاء في شأن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(5)، وجاء في شأن الصيام: «وإذا كان يوم صوم يوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم»(6)، وجاء في شأن الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}(7)، وغيرها من النصوص كثير.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ
(1)
أخرجه مالك في الموطأ (2/904، رقم 1609)
(2)
[القلم: 4]
(3)
[الفاتحة: 6]
(4)
[العنكبوت: 45]
(5)
[التوبة: 103]
(6)
أخرجه البخاري (ص306، رقم 1904)
(7)
[البقرة: 197]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(24)
خامسًا: الاستقامة في التعامل مع الناس بالعدل والإحسان
تظهر حقيقة الاستقامة وصدقها من خلال التعامل مع الناس والاختلاط معهم، وذلك بالاستناد على ركيزتين أساسيتين هما العدل والإحسان، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(1).
أما العدل: فيكون في الرؤية الشاملة لأصناف الناس وأجناسهم، بحيث لا يتفاضل أحد على أحد إلا بما يتميزون به من الدين والأخلاق، وأما بالنسبة للحقوق والواجبات فإن جميع الناس مشتركون فيها، المسلم وغيره لقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).
أما الإحسان: فهو مراقبة الإنسان نفسه في كل صغيرة وكبيرة، وهو قمة الأدب مع الله تعالى وأوامره، وهو ما عبّر عنه رسول الله ﷺ في حديث جبريل حين سأله عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك«(3).
وبناء على ذلك يتحدد سلوك الإنسان وانطلاقته في الحياة مع شرائح المجتمع جميعًا، مع الأسرة في البيت سواء كان بين الزوجين أنفسهما، أو بين الوالدين والأبناء، وكذلك العلاقات القائمة مع الأقارب والجيران، وسائر طيوف المجتمع المسلمين منهم وغير المسلمين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
(1)
[النحل: 90]
(2)
[المائدة: 8]
(3)
أخرجه البخاري (ص12، رقم 50)
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(25)
خامسًا: الاستقامة في التعامل مع الناس بالعدل والإحسان
تظهر حقيقة الاستقامة وصدقها من خلال التعامل مع الناس والاختلاط معهم، وذلك بالاستناد على ركيزتين أساسيتين هما العدل والإحسان، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(1).
أما العدل: فيكون في الرؤية الشاملة لأصناف الناس وأجناسهم، بحيث لا يتفاضل أحد على أحد إلا بما يتميزون به من الدين والأخلاق، وأما بالنسبة للحقوق والواجبات فإن جميع الناس مشتركون فيها، المسلم وغيره لقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).
أما الإحسان: فهو مراقبة الإنسان نفسه في كل صغيرة وكبيرة، وهو قمة الأدب مع الله تعالى وأوامره، وهو ما عبّر عنه رسول الله ﷺ في حديث جبريل حين سأله عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك«(3).
وبناء على ذلك يتحدد سلوك الإنسان وانطلاقته في الحياة مع شرائح المجتمع جميعًا، مع الأسرة في البيت سواء كان بين الزوجين أنفسهما، أو بين الوالدين والأبناء، وكذلك العلاقات القائمة مع الأقارب والجيران، وسائر طيوف المجتمع المسلمين منهم وغير المسلمين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
(1)
[النحل: 90]
(2)
[المائدة: 8]
(3)
أخرجه البخاري (ص12، رقم 50)
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(25)
سادسًا: الاستقامة في الدعوة إلى الله
الاستقامة ضرورة دعوية، يتوقف عليها نجاح الدعوة وفشلها، فإن أي انحراف أو خروج عن مسار الاستقامة بالنسبة للدعاة والمؤسسات الدعوية، يحدث خللاً وزعزعة في المسيرة الدعوية وحال المدعوين، لأن غالب الناس يظنون في دعاتهم ومصلحيهم الخير والاستقامة، ويعدّونهم القدوة العملية لهم في الحياة، فإذا أحسوا خلاف ذلك، ووجدوا تناقض الأعمال مع الأقوال عندهم، فإن تلك الصورة الحسنة والقدوة المثلى ستنقلب إلى عكسها، وإن قنوات الاستقبال عند المدعويين ستتجه إلى مصادر أخرى، وعندها تكون الطامة والوبال على الطرفين، الدعاة والمدعويين.
من أجل ذلك أمر الله تعالى دعاة دينه وأتباعه باتخاذ أسلم الوسائل وأحكمها والتحدث إلى الناس بأجمل العبارات وألطفها، وتطبيق ذلك على أنفسهم قبل إلزام الآخرين بها، يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(1).
وبالمقابل حذّرهم من الزلل في دروب الغواية والهوى، في التعاطي مع مبادئ هذا الدين التي يدعون الناس إليها، من مخالفة العمل للقول أو الدعوة إلى أشياء تناقضها أفعالهم وسلوكياتهم اليومية، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(2).
وبناء على هذا، فالاستقامة في الدعوة تعني استقامة الداعية على منهج الله في سلوكه الخاص، وفي منهاج دعوته وطريقته فيها.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
(1)
[فصلت: 33]
(2)
[الصف: 2-3]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(26)
آثار الاستقامة (1-2)
للاستقامة آثار عظيمة ونتائج جمة، يلمسها الإنسان المستقيم قبل أي شخص، ويعيش عمره كله في ظلال معانيها السامية التي تجاوزه لتشمل المجتمع والأمة بأسرها، ومن أهم تلك النتائج والآثار ما يلي:
1- الاطمئنان القلبي:
إذا استقام الإنسان مع الله تعالى وسار على دينه ونهجه في الأوامر والنواهي، فإنه يكسب سعادة روحية واطمئنانًا نفسيًا في جميع الأوقات، لإحساسه بأنه في ميدان العمل وأداء المهمة التي أوكلها الله إليه، فهو يسير بنور الله تعالى لا يخشى الظلمات التي قد تعتريه في الطريق، ولا يخشى وساوس الشيطان وهمزاته بتخويفه من الفقر أو المرض أو المخاطر الأخرى التي يُبتلى بها الإنسان، يقول تبارك وتعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(1).{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ}(2).
بل يشعر الإنسان حينها أن رحمة الله قريبة منه تلقي في روعه السكينة والرضى، في الشدة والرخاء، يقول عليه الصلاة والسلام: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له«
(3)
2- تحقيق عبودية الله في الأرض:
ومن أعظم آثار الاستقامة أن الله تعالى يحفظ هذا الدين لأهله إلى يوم القيامة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(4)، كما يسهل عليهم أداء فرائضه وإقامة أحكامه وتشريعاته، ودعوة الناس إليه، وبذلك يتحقق مبدأ العبودية لله تعالى في أرضه، يقول تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(5).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
(1)
[الزمر: 22]
(2)
[الفتح: 4]
(3)
أخرجه مسلم (ص1295، رقم 2999)
(4)
[الحجر: 9]
(5)
[النور: 55]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(26)
آثار الاستقامة (2-2)
3- الاستقرار والإنتاج:
ومن آثار الاستقامة على واقع الناس ومعايشهم أنها سبب في نزول الخير والبركة، وأنه جل وعلا يغدق على الأمة المستقيمة القائمة على شرع الله تعالى النعم المتوالية في كل شيء، في الأمن والاستقرار وسعة الأرزاق، وبركة الأوقات، وكذلك تقدم الأمة في شتى المجالات والميادين، يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(1).
وقد ربط الله تعالى صراحة بين الاستقامة وحصول الخير في الآية الكريمة: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُ م مَّاءً غَدَقًا}(2).
وكما يربط جل ذكره بين الاستقامة وحصول الخير فإنه يربط بينها وبين تكفير الخطايا والذنوب ودخول الجنة، كما في قوله جل ثناؤه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَا هُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ . وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}(3).
ثم إن الاستقامة تدفع صاحبها للعمل بجد وإخلاص في أي مكان كان، في البيت أو المدرسة أو الشارع أو المصنع أو المتجر، وهذا يؤثر بصورة إيجابية على نوعية الإنتاج المتعلق بطبيعة العمل، سواء كان نتاجًا فكريًا أو صناعيًا أو زراعيًا أو تقنيًا، لأن جميعها يصب في صالح الأمة وتفوقها المادي والمعيشي.
4- تحقيق الخيرية:
إن مفهوم الخير مفهوم واسع يشمل خصالاً كثيرة، وقد حددها الله تعالى في كل ما أمر به ونهى عنه، فأي إنسان أو أية أمة أخذت بهذه الخصال تدخل ضمن هذا المفهوم، ومن تلك الخصال الاستقامة، فإذا ما وجدت هذه الخصلة في أي واقع فإنها تضفي عليه صفة الخيرية، لذا وصف الله تعالى المؤمنين الصادقين بهذه الصفة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(4).
ومن أجل ذلك عدّ الله تعالى هذه الأمة بأنها خير الأمم لأنها عرفت دين ربها وسارت عليه، وبذلت في سبيله الأموال والدماء، يقول تبارك وتعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}(5).
5- العزة والنصر والقوة والغلبة:
إن صدق التعامل مع الله تعالى في السراء والضراء، وفي السر والعلن، وصدق التوكل عليه والاستعانة به لا من غير سواه، وأداء الفرائض والواجبات كما يريدها الله تعالى، يمنح الأمة النصر والتمكين والغلبة والقوة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(6).
وبالمقابل فإن الحياد عن الصراط المستقيم، واللجوء إلى غير الله تعالى، واتباع الهوى وترك الفروض والواجبات، والتكالب على الدنيا، سبب في هوان الأمة وذلها وضعفها وتحكم الأعداء بها، يقول عليه الصلاة والسلام: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم«(7).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1)
[الأعراف: 96]
(2)
[الجن: 16]
(3)
[المائدة: 65-66]
(4)
[البينة: 7]
(5)
[آل عمران: 110]
(6)
[ محمد: 7]
(7)
أخرجه أبو داود (ص501، رقم 3462)
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(28)
الاستقامة والمرض النفسي
من فضل الله تعالى أن أهم ما يشرح صدر المؤمن، ويضفي عليه السكينة – كما سبق – استقامته الحقة على شرع الله تعالى، واتباعه لهدي نبيه ﷺ، فهذا من أهم العناصر للطمأنينة والسكينة، وعدم القلق والاضطراب والشكوك والأوهام.
وحتى تؤتي الاستقامة أكلها مع شرائح المجتمع عامة والمريض النفسي خاصة، لا بد من بعض الإجراءات أو اتباع بعض التوجيهات، للتغلب على الأمراض النفسية وتخفيف وطأتها على الإنسان المريض، ومن تلك التوجيهات – وهي جزئيات الاستقامة – لكن ينص عليها بخصوصها:
1- الثقة بالله تعالى:
وذلك باللجوء إليه وحده بالدعاء وتقديم الطاعات بين يديه، والثقة المطلقة أنه هو الشافي الأول والأخير، وأنه الذي بيده مقاليد الأمور، فلا يتحرك ساكن، ولا يسكن متحرك إلا بأمره، والكون كله بقضبته، وأنه على كل شيء قدير، ثم أنه هو الذي ابتلى عبده بالمرض وهو الذي يشفيه، لقوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}(1).
والله تعالى عند حسن ظن عبده به، فلا يسيء العبد الظن بربه فيتعب ويشفى، ومن ثم يطول المرض أو ربما لا يبرأ منه أبدًا.
2-التفاؤل وتقوية الإرادة:
إن المرض ابتلاء من الله تعالى، وهو حالة ضعف يصيب الإنسان، وبالتالي فإن هذه الحالة تحتاج إلى الصبر وقوة في الإرادة، والابتعاد عن كل ما يحدث اليأس أو القنوط من رحمة الله تعالى بالشفاء، فإن الصبر على المرض يعدّ نصف العلاج، وإن الصابرين والمتفائلين لديهم قابلية الشفاء أكثر من غيرهم، يقول تبارك وتعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(2).
3- التداوي:
ولا بد للمريض النفسي وغير النفسي، أن يأخذ بالعلاج ويتناول الدواء الذي يصفه الطبيب المختص إلى جانب قراءة القرآن والدعاء، ما دام هذا الدواء مباحًا وغير محرم، ويعدّ هذا من باب الأخذ بالأسباب، ولكي يتحقق مفهوم التوكل بالمعنى الصحيح، ثم إن النبي ﷺ يقول بصريح العبارة: «يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو قال دواء إلا داء واحدا قالوا يا رسول الله وما هو قال الهرم«(3).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
(1)
[الشعراء: 80]
(2)
[يوسف: 87]
(3)
أخرجه الترمذي (ص 469-470، رقم 2038)
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(29)
مناهج وسلوكيات خاطئة
وأخيرًا لا بد من الإشارة إلى بعض السلوكيات التي تخل بالاستقامة مع الله تعالى، فتخرجها عن مسارها الصحيح، وتأخذ بصاحبها إلى دروب مظلمة ومستنقعات آسنة، وتزيد من شقائه ومرضه في الحياة فضلاً عن سخط الله تعالى وعذابه يوم القيامة، ومن تلك الانحرافات:
1- اللجوء إلى السحرة والمشعوذين والكهّان والدجّالين:
ربما يصيب مفهوم الاستقامة عند الإنسان في عقيدته التي هي سنام أمره ومناط قبول عمله من عبادات وطاعات، لأن الخلل الذي يصيب العقيدة يفسد جميع ما يترتب عليه من أعمال، ومن الأمور التي تفسد العقيدة وتخل بها هو التخلي عن الله تعالى وكتابه وسنة نبيه ﷺ في الأمراض لا سيما النفسية منها، ومن ثم اللجوء إلى المشعوذين والسحرة ليبرأهم ويشفيهم مما هم فيه، وهو تحوّل خطير في عقيدة الإنسان، حين يستبدل ما عند الله تعالى وهو الذي يُمرض ويشفي وهو القوي العزيز، إلى ما عند غيره من العبيد الضعفاء الذين لا يستطيعون ضرًا ولا نفعًا، ومن أجل ذلك جاءت التحذيرات الكثيرة من تجنب هذا المسلك الذي يؤدي بصاحبه إلى الهلاك والخسران، يقول عليه الصلاة والسلام: «من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ«(1).
وتصور – أخي القارئ – أن هذا الكاهن أو الساحر لو كان صادقًا لنفع نفسه، فهل يتجه إلى نفع غيره وهو لم يستطع أن يقدم لنفسه سوى الذلة والهوان لمستخدميه من الجن.
2- الاعتراض على حكم الله تعالى:
من السلوكيات التي تحيد بالاستقامة عن مسارها، اعتراض الإنسان على حكم ربه وقدره حين ابتلاه بحال معينة، من مرض أو فقر أو عجز أو أية مصيبة أخرى، فيتضجر من الحال ويتأفف منها بصورة دائمة، ويكثر من الشكوى إلى العباد، وربما يتلفظ بألفاظ تخدش عقيدته، متجاهلاً حقيقة الابتلاء الذي هو جزء من سنة الله تعالى في كونه، يقول تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(2).
3- التشكيك في شرع الله تعالى:
إن مداخل الشيطان على النفس كثيرة ومتنوعة، وأحد هذه المداخل عندما يصيب الإنسان بلاء أو مرض، ثم تطول الفترة دون جدوى للخلاص والشفاء، فحينها يجد الشيطان فرصة مناسبة للولوج إلى نفس المبتلى لينفث فيها من همزاته ونزغاته، لا سيما إذا أخذ المبتلى ببعض الأسباب للخروج من أزمته، فيوسوس إليه الشيطان أين نتيجة دعواتك الطويلة وقراءتك للقرآن وأنت لا تزال تعاني المشكلة نفسها، فيثير هذا النفث في نفس المبتلى ريبًا وتشكيكًا في شرع الله تعالى، لا سيما أولئك الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، فيتأثرون بأضعف المؤثرات الشيطانية، وينقادون بكل سهولة وراء ما يملي عليهم شياطينهم من الشبهات.
فإن الأولى لهؤلاء الناس أن يلجؤوا إلى الله تعالى في بداية الأمر ويسدوا وساوس الشيطان من كل منفذ، لقوله تبارك وتعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(3). لأن المصيبة لن تنتهي بهذا التشكيك وإن الشيطان لن يزيدهم إلا بلاء وهلاكًا، ثم ما يلبث أن ينفر منهم حين تأتي الطامة فيتنكر لأتباعه وأوليائه، يقول الله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(4).
4- اليأس والقنوط:
عندما يعتقد الإنسان أن منافذ الخلاص من المصيبة قد سدّت في وجهه، فيخبره الطبيب أنه لا يوجد دواء لمرضه، أو تقع عليه خسارة مالية، ونحو ذلك فيجد نفسه – فيما يظن – مضطرًا إلى اللجوء إلى الأساليب الشيطانية من سحر ودجل وخرافة، فيحيد عن منهج الله تعالى الذي أمره جل وعلا بالاستقامة عليه، فيسرع الهرولة إليهم، فلا يجد إلا الشقاء والخسارة المالية، ومن ثم يقع في اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى، فيفتح بابًا عظيمًا للشيطان فيزيده يأسًا وقنوطًا، حتى يشك في قدرة المولى جل وعلا على حل مشكلته، فتتوالى الأسئلة على ذهنه لِمَ يُقدر عليّ ذلك؟ وما بال غيري في حالة أخرى؟ إلى آخر تلك الأسئلة التي قد يخرج بها من الملة والعياذ بالله.
وبناء على ذلك من أهم خطوات الاستقامة ومعالمها: عدم اليأس والقنوط، واستشعار أن فرج الله قريب، يتذكر دائمًا قول الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}(5)، وقوله عليه الصلاة والسلام في وصيته لابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما: «واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا»(6)، وقول الشاعر:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ***فرجت وكنت أظنها لا تفرج
وليعلم أنه مع اليأس لا ينفع الدواء، إذ أن المناعة النفسية تكون ضعيفة، فلنجدد استقامتنا الحقيقية حتى لا تخدش فتتأثر أهم أسس النفسية السوية.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ
(1)
أخرجه أحمد (2/ 429، رقم 9532)
(2)
[الملك: 2]
(3)
[الأعراف: 200]
(4)
[إبراهيم: 22]
(5)
[الشرح: 5-6]
(6)
أخرجه أحمد (1/307، رقم 2804)
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(30)
إخلاص الأعمال لله تعالى
من أهم أسس النفسية السوية، وبنائها المتماسك: الإخلاص في التعامل مع الله سبحانه، وصدق التوجه إليه، ولذا؛ نبسط الكلام هنا عن الإخلاص من هذا الوجه.
مفهوم الإخلاص:
الإخلاص في اللغة: كلمة الإخلاص: كلمة التوحيد، وسورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(1).
وفي الاصطلاح: أن يقصد العبد بقوله وفعله مرضاة الله تعالى تنفيذًا لأوامره واجتنابًا لنواهيه، دون النظر في ذلك إلى مغنم أو سمعة أو جاه أو لقب. وهو أمر خفي تكتنفه النفس الإنسانية لا يطلع عليه غير الله تعالى، الذي خلق هذه النفس ويعلم ما توسوس بها وما تجول فيها من خير أو شر.
أما النية فهو تمييز العمل، والقصد به وجه الله تعالى.
وبذلك يكون الإخلاص هو الشطر الثاني من النية، أي أنه جزء منها.
يقول عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى«(2).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــ
(1)
المعجم الوسيط 1/249
(2)
سبق تخريجه
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(31)
مدار قبول الأعمال على الإخلاص
إذا كان المقصد والدافع إلى أي قول أو عمل أو اتخاذ أي نمط من الحركة في الحياة يبتغي به صاحبه وجه الله تعالى فإن ذلك يحقق معنى الإخلاص ويعدّ صاحبه من المخلصين لله تعالى، وهو الأمر الذي أشار إليه الله تعالى في كتابه المبين في مواطن كثيرة، منها:
قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(1) وقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}(2) وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(3).
وقوله جل ذكره: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا . إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(4).
وكذلك فإن رسول الله ﷺ كان يعلّم الصحابة حقيقة الإخلاص والعمل لله تعالى في كثير من المواقف والأحداث، ليتجنبوا الاغترار بالشكل والصورة التي لا تعبر عن حقيقة الشيء وكنهه، وأولى هذه التوجيهات يتمثل في الحديث المشهور بين المسلمين: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى«(5).
وفي هذا الحديث القول الفصل بين ما يكون لله وما يكون لغيره.
ويقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم«(6).
عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله«(7).
* * *
ثم إنه عليه الصلاة والسلام علّق الإخلاص لله وحده دون سواه وجعله من معالم الإيمان وتمامه، لأنه يعبّر عن اليقين المطلق بالله سبحانه وتعالى وأنه المعبود الذي يستحق أن توجه إليه الأعمال والأقوال، من أمر ونهي، وحب وبغض، يقول عليه الصلاة والسلام: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان«(8).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــ
(1)
[البينة: 5]
(2)
[الزمر: 2]
(3)
[الأنعام: 162]
(4)
[النساء: 145-146]
(5)
سبق تخريجه
(6)
أخرجه مسلم (ص1124، رقم 6542)
(7)
أخرجه البخاري (ص1285، رقم 7458)
(8)
أخرجه أبو داود (ص661، رقم 4681)
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(32)
منطلق البحث في هذه الشعيرة (الإخلاص)
وأما منطلق هذا البحث فهو الحديث الطويل الذي يتحدث فيه النبي ﷺ عن أهمية الإخلاص في الأعمال والأقوال في الحياة الدنيا، فضلاً عن جزائه الأوفى عند الله تعالى يوم تقوم الأشهاد، وهو حديث الرهط الثلاثة الذين آواهم الغار:
قال عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُول:ُ «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ فَقَالُوا إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا الله بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَ ا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ الْآخَرُ اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنْ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ فَتَحَرَّجْتُ مِنْ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُم ْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ يَا عَبْدَ الله أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي فَقُلْتُ لَهُ كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ فَقَالَ يَا عَبْدَ الله لَا تَسْتَهْزِئُ بِي فَقُلْتُ إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ«(1).
في هذا الحديث بيان وتذكير للأمة عن أصل العلاقة التي تربط العبد بربه وخالقه، وأنها تدخل في كثير من الأحيان في عملية المد والجزر، بين قوة في الإيمان وضعف فيه، بين الصفاء الذي يسدل على النفس السكينة والهدوء وبين الغبش الذي يغيم النفس فيجعلها مرتعًا للوساوس والاضطرابات، إن هذا الأصل يبقى حقيقة في نفس الإنسان ما دامت العلاقة قائمة بينه وبين ربه، وإن غشيها فتور أو ضعف، وهذا الأصل هو الإقرار بتوحيد الله تعالى وأنه لا معبود سواه، وأنه الفرد الأحد الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه الصمد الذي لا يُقصد في الكون سواه.
حتى المشركين في الجاهليات الأولى قبل الإسلام، كان عندهم هذا الاعتقاد في النوازل والمخاطر التي تحدق بهم، وكانت دعواتهم إلى الله وحده من غير وسيط أو صنم، لكنهم سرعان ما كان الشيطان يغشيهم وينسيهم تلك الصعاب بعد نزوحها، فيرجعون إلى أصنامهم وأحجارهم، قال الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}(2).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
(1)
أخرجه البخاري (ص362، رقم 2272)
(2)
[العنكبوت: 65]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(33)
الأعمال المنقذة بسبب الإخلاص:
وفي هذا الحديث يقدم الرهط الثلاثة: ثلاثة أعمال كانت خالصة لله تعالى، أنقذتهم في ساعة العسرة وأفرجت الصخرة عن الغار الذي آواهم، وهي:
أولاً: بر الوالدين:
وهو من الأعمال الصالحة التي أمر الله عباده بها، ورفع من شأن صاحبها، حيث جاء الأمر الإلهي باقتران هذا العمل بتوحيده سبحانه وتعالى بالعبودية، قائلاً: {وَاعْبُدُوا اللَّـهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا}(1). وأيضًا قوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا}(2).
وبالمقابل جاء التحذير والوعيد لمن لم يحسن إلى والديه، بل وصل الأمر بهذا التحذير إلى أن إظهار أي علامة أو تلميح يدل على التضجر منهما يدخل في دائرة الإساءة لهما، لقوله تبارك وتعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}(3).
فضلاً عن الأحاديث الكثيرة التي وردت بهذا الشأن، فقد سئل النبي ﷺ: «أي العمل أحب إلى الله: قال الصلاة على وقتها قال ثم أي قال ثم بر الوالدين قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله» (4).
وقد تقرب أحد هؤلاء الرهط إلى الله تعالى ببره إلى والديه وذكر موقفًا من مواقفه الكثيرة مع والديه، والذي كان فيه من المخلصين مع الله تعالى، والله أعلم بإخلاصه، من أجل ذلك أفرج الله تعالى بإزاحة جزء من الصخرة عن غارهم.
ثانيًا: ترك الزنا:
الزنا من الكبائر التي نهى الله عنها في كتابه المبين، وعدّها من الفواحش الكبيرة التي تفسد الناس وتفسد المجتمعات، لما له من آثار على أخلاقيات الأمة ومقوماتها واختلاط أنسابها والآثار السلبية المتنامية التي لا تنتهي من جرّائها، فضلاً عن العقوبة الربانية المترتبة عليها في الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}(5).
وجاءت السنة النبوية لتؤكد عظم فعل الفاحشة وعقوبته، وكذلك الأجر المترتب على تركه واجتنابه، يقول عليه الصلاة والسلام: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ... ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله..» (6).
فكان العمل الثاني الذي تقرب به أحد الرهط الثلاثة إلى الله تعالى، هو الامتناع عن فعل الزنا، بعد أن تهيأت له أسبابه، وسهل عليه الوقوع فيه، ولكن لم يمنعه من ذلك إلا خوف الله تعالى، واستشعاره بمراقبته له، وكان مخلصًا في تلك الوقفة مع الله تعالى، فأزاح الله تعالى بسبب ذلك الإخلاص جزءًا آخر من الصخرة عن باب الغار.
ثالثًا: إعطاء حقوق الأجير:
قال عليه الصلاة والسلام: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعط أجره» (7). وقال في حديث آخر: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (8).
وهذا يعني أن أكل مال العامل أو الخادم أو الأجير يعد من الأفعال المذمومة التي نهى عنها الرسول عليه الصلاة والسلام، وتوعد من يفعل ذلك بالخصومة والجفاء يوم القيامة، وهذا يدل على أنه سيحاسب حسابًا عسيرًا أمام الله تعالى وسيخاصمه النبي ﷺ؛ لانتزاع حقوق الناس منه إما بإلقاء سيئاتهم عليه، أو أخذ حسناته لهم.
ولأهمية هذا الحق وعلو شأنه عند الله تعالى، تقرّب الأخير من الرهط الثلاثة إلى الله تعالى، بورعه وخوفه من الاقتراب من المال الحرام الذي كان تحت يده وهو لأجير، بل لم يكتف أنه حفظ هذا المال وقام برده إلى صاحبه، بل قام باستثماره حتى ازداد أضعافًا مضاعفة، فذكر هذا الفعل لربه وهو في ذلك الموقف العصيب مع أخويه الآخرَين، حيث لم يدفعه هذا الورع وهذا الفعل إلا خوفه وخشيته من ربه ومحاسبته، والله أعلم به من ذلك، فأزاح الله تعالى عنهم الصخرة كاملة، فخرجوا جميعًا من ظلمة الغار إلى نور الدنيا وسعتها.
لقد قدّم كل نفر من هؤلاء الرهط عملاً واحدًا من الأعمال الصالحة التي كانت خالصة لله تعالى، وهي لا تعبر عن جميع الأعمال الصالحة، فالعمل الصالح الذي يدفعه الإخلاص، لا يتمثل في مجموعة محددة من الأعمال والأقوال، وإنما هو كل عمل أو قول يُبتغى به وجه الله تعالى، صغيرًا كان أو كبيرًا.
------------------------------------
(1) النساء [36].
(2) الإسراء [23].
(3) الإسراء [23-24].
(4) أخرجه البخاري (ص89-90، رقم 527) كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها. ومسلم (ص52، رقم 85) كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال.
(5) الإسراء [32].
(6) أخرجه البخاري (ص230، رقم 1423) كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين. ومسلم (ص415، رقم 1031) كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بالقليل.
(7) أخرجه البخاري (ص361-362، رقم 2270) كتاب الإجارة، باب الإجارة إلى صلاة العصر.
(8) أخرجه ابن ماجه (ص350، رقم 2443) كتاب الرهون، باب أجر الأجراء.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(34)
الأعمال الصالحة النابعة من الإخلاص (الأعمال القلبية)
ومن هذه الأعمال الصالحة النابعة من الإخلاص ما يلي:
1- الأعمال القلبية:
وهي أحاسيس القلب وأحاديثه وتصوراته نحو خالقه جل شأنه، بصورة تنعكس على واقع الإنسان في حركاته وسلوكه، ومن الأعمال القلبية التي تربط الإنسان بربه:
- التوكل على الله تعالى: وهو الاعتماد على الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب، ويجازى الإنسان عليه، بل سبب في حفظه من المكاره والشرور، لقول الله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(1).
- الرجاء والطمع في رضى الله تعالى ورحمته وجنته، وهو يدخل في باب حسن ظن الإنسان بربه وهو عمل قلبي، يقول الله تعالى: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(2).
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: «إن الله يقول: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني»(3).
ويقول ﷺ في الحديث القدسي: «قال الله عز وجل: إذا همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا همّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرا»(4).
- الخوف منه جل وعلا، فلا يغطى جانب الرجاء على جانب الخوف في الإنسان، بل لا بد من توازن بينهما لقوله تبارك وتعالى في الآية السابقة: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}(5) وهو من الأعمال القلبية التي يرتبط العبد بربه ويحدد مدى إخلاصه له جلّ وعلا.
- الشكر على نعم الله وآلائه التي لا تعد ولا تحصى، شكرًا قلبيًا صادقًا لله تعالى، حيث يقول الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(6).
- الصبر على الابتلاءات المختلفة التي يُبتلى بها الإنسان في حياته، من فقر أو مرض، أو ظلم، أو حبس، أو غير ذلك؛ فالعمل الصالح القلبي يكمن في مدى تصبر هذا الإنسان لقضاء الله تعالى وقدره، ومدى تقبله وترضيه لأمر الله تعالى، والآيات القرآنية ملئية بالجزاء الكبير للصابرين في هذه الحياة، منها قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(7).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»(8).
كل هذه الأعمال القلبية وغيرها كثيرة ومتفرعة تدخل ضمن العمل الصالح الخالص لله تعالى.
------------------------
(1) الطلاق [3].
(2) السجدة [16].
(3) أخرجه مسلم (ص1169، رقم 2675) كتاب الذكر، باب فضل الذكر والدعاء. والبخاري (ص1272، رقم 7405) كتاب التوحيد.
(4) خرج مسلم (ص68، رقم 128) كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب.
(5) السجدة [16].
(6) إبراهيم [7].
(7) البقرة [177].
(8) أخرجه مسلم (ص1295، رقم 7500) كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(35)
الأعمال الصالحة النابعة من الإخلاص (الأعمال اللسانية)
ومن هذه الأعمال الصالحة النابعة من الإخلاص ما يلي:
2- الأعمال اللسانية (القول):
وهي كل ذكر لله تعالى، في أي موقف كان، فلا ينحصر العمل اللساني في الصلاة فحسب، بل هناك مواطن ومواقف يجب على الإنسان ألا يغفل أو
يتهاون فيها عن العمل اللساني، ومن ذلك:
- قراءة القرآن:
وقراءة القرآن من أهم الأعمال اللسانية الواجب على الإنسان فعلها، لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}(1). وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ
هَـٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ}(2).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «من استمع إلى آية من كتاب الله تعالى كتب له حسنة مضاعفة ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة»(3).
ويقول أيضًا: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه»(4).
- ذكر الله جل وعلا:
وهو من الأعمال اللسانية الذي يشمل كل العبادات القولية، من قراءة القرآن والاستغفار والدعاء وغيرها، وقد أمر الله تعالى بهذه العبادة القولية، وأثنى على أصحابها، وبيّن أهميتها، يقول جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(5). ويقول عليه الصلاة والسلام: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربَّه مثل الحيّ والميّت»(6).
- الدعاء:
وهو من الأعمال اللسانية التي تعين الإنسان على مخاطبة ربه جل وعلا، وطلبه العفو منه والغفران والرضى والجنة، وباللسان يرفع الإنسان إلى خالقه حوائجه ويبث إليه شكاويه ومعاناته، يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(7).
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وباللسان يؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، وقد ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الأداة في مسألة الحسبة بقوله: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»(8).
- الدعوة إلى الله تعالى بالنصيحة والحكمة:
واللسان أداة مهم في دعوة الناس إلى دين الله تعالى وهدايتهم، فإذا أخلص المسلم في هذه الدعوة، وأحسن استخدام هذه الأداة كما كان عليه الصلاة والسلام يستعملها مع صحابته، فإن الله تعالى سيبارك في مسعاه وإنه سيرى ثمار دعوته يانعة ونافعة، يقول الله تعالى: { ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(9) وهذه الدعوة كانت باللسان، ويقول أيضًا في قصة موسى عليه السلام مع فرعون: {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ}(10) أي تحدثا معه بأسلوب لطيف ولين لعله يرجع عما هو عليه من الكفر والضلال، لأن الإنسان إذا أحسن في الكلام مع خصمه وأجزل في البيان، وتأدب معه أثناء الخطاب، فإنه يملك قلبه، ويستولي على مشاعره وأحاسيسه، فإنه ويكسبه دون شك، إلا من خُتم على قلبه وسمعه، وهو الأمر الذي عبر عنه الله تعالى بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(11).
وبالمقابل فإن استخدام اللسان بغير هذا النمط بالقسوة أو الشدة أو الإساءة وغيرها، فإن المخاطَب سيزيد في عصيانه وتمرده، ويشتد في عدائه ومعاندته، وهو ما عبر عنه الله تعالى إتمامًا للآية السابقة: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}(12).
وهنا لفتة مهمة للدعاة والمربين والمصلحين لا بد من الانتباه إليها، لمدى أهميتها وضرورتها في المسيرة الدعوية وهداية الناس، والقدوة في ذلك الرسول الهادي عليه الصلاة والسلام، فقد كان أحسن الناس بيانًا، وألطفهم قولاً، وأقلهم كلامًا، حتى إن الأعرابي الذي يأتيه من البادية بجفائه وقسوته، ما يلبث لحظات إلا وقد تغيرت حاله وتحسنت أخلاقه وأطباعه، ومعلوم قصة الأعرابي الذي بال في المسجد وكاد الصحابة أن ينالوا منه، ولكن النبي ﷺ بحسن خلقه ولطف كلامه، جعل هذا الأعرابي يلين إليه وإلى دعوته، حتى قال: «اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا»(13).
- التدريس:
والتدريس رسالة عظيمة وأمانة كبيرة في أعناق المدرسين والمعلمين، أمام الناس الدنيا، وأمام الله تعالى في الآخرة، وهذه الرسالة بحاجة إلى إتقان وإخلاص لتوصيلها إلى الطلبة، وهي كسائر العبادات، يُجازى الذي يؤديها على وجهها المطلوب، ويُعاقب المتكاسل والمتهاون فيها، وليس من الضروري أن يكون التدريس بمادة شرعية أو دينية، بل تشمل جميع المواد العلمية والدينية.
ولا بد أن يكون المدرس على قدر من الوعي في استخدام أداة اللسان لإيصال المعلومة إلى أذهان المستمعين من الطلبة باختيار أفضل الأساليب وأحسن الكلام.
وعلى مدرسي المواد العلمية ألا يألوا من جهودهم في المزج بين المادة العلمية والأخلاق، لأنهما متلازمان، لا تصلح الحياة بواحدة منها دون الأخرى.
-------------------------------------------
(1) المزمل [4].
(2) النمل [91-92].
(3) أخرجه أحمد (2/ 342، رقم 8475).
(4) أخرجه مسلم (ص325، رقم 804) كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.
(5) الرعد [28].
(6) أخرجه البخاري (ص1112، رقم 6407) كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله تعالى.
(7) البقرة [186].
(8) أخرجه مسلم (ص42، رقم 47) كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار.
(9) النحل [125].
(10) طه [43-44].
(11) إبراهيم [24-25].
(12) إبراهيم [26].
(13) أخرجه البخاري (ص1051، 6010) كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(36)
الأعمال الصالحة النابعة من الإخلاص (الأعمال العبادية المباشرة)
ومن هذه الأعمال الصالحة النابعة من الإخلاص ما يلي:
3- الأعمال العبادية المباشرة:
ويقصد بها، الأعمال التي أمر الشرع بوجوبها، والتي تحمل الصفة الخيرية والجزاء من الله تعالى، فهي كل ما يقوم به الإنسان من عبادة أُمر بها من كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ، وعلى رأسها:
1- الصلاة:
وهي من أركان الإسلام الخمسة، وهي أقوال وحركات يؤديها الله تعالى خمس مرات في اليوم والليلة، في أوقات محددة، بالهيئة نفسها التي كان يؤديها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي عمود الدين، من أنكرها فقد كفر، وهي أول ما يُسأل عنها الإنسان يوم القيامة، يقول تبارك وتعالى:
{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}(1). ويقول عليه الصلاة والسلام: « بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»(2).
فإذا أخلص المسلم أداء هذه الفريضة كما يريده الله تعالى، فإنه يعد من المؤمنون الصادقين الذين حكى عنهم الله تعالى في آيات كثيرة من كتابه المبين،
كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}(3). ويكون بعد ذلك أثرها النفسي كثيرًا.
2- الصيام:
وهذا الركن الإسلامي هو من أكثر الأركان بيانًا لمدى إخلاص الإنسان فيه؛ لأنها عبادة قائمة بين الإنسان وربه بحيث لا يقبل الرياء أو الجزاء
في الدنيا من جاه أو مال أو شهرة وغيرها، ومن أجل ذلك تكفل الله تعالى، بمجازاة الصائم مباشرة، لقول النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه في الحديث
القدسي: « قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة»(4).
3- الحج:
والحج ركن من أركان الإسلام، وهو عبادة، يمزج بين الذكر والفعل، إلا أن الجانب الفعلي والحركي أكبر من الجانب القولي، لذا أعدّه كثير من أهل العلم
بأنه عبادة بدنية؛ لكثرة التنقلات والأسفار فيه، ما بين المشاعر وأداء المناسك، يقول الله تعالى: {وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}(5)، والمسلم الذي يخلص في أداء هذا الركن بأركانه، يرجع كيوم ولدته أمه خاليًا من الذنوب والخطايا، لقوله ﷺ: «من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق
رجع كيوم ولدته أمه»(6).
4- الإحسان إلى الآخرين:
والإحسان باب واسع من أبواب العمل الصالح، ويترتب على الإخلاص فيه أجر من الله تعالى؛ لأنه يشمل كل أنواع الخير والرحمة زيادة عما افترضه الله
تعالى، فهو لا يتوقف عند عمل معين أو ذكر محدد، ولا يتوقف هذا الإحسان إلى البشر فحسب، بل يتعداهم إلى الدواب والطيور وجميع الكائنات
الأخرى، والتوجهيات الإسلامية واضحة وصريحة في هذا الباب، يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه «أن امرأة بغيا رأت كلبا في
يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها»(7).
وينصح عليه الصلاة والسلام الأمة بالرحمة إلى الدواب قائلاً: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح
وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته»(8).
------------------------
(1) النساء [103].
(2) أخرجه مسلم (ص51، رقم 82) كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة.
(3) الأنفال [103-104].
(4) أخرجه البخاري (ص306، رقم 1904) كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم. ومسلم (ص468، رقم 1151) كتاب الصيام، باب صفة اللسان للصائم.
(5) آل عمران [97].
(6) أخرجه البخاري (ص568، رقم 1350) كتاب المحصر.
(7) أخرج مسلم (ص996، رقم 2245) كتاب السلام، باب فضل سقي البهائم.
(8) أخرجه مسلم (ص873، رقم 1955) كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بالإحسان في الذبح.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(37)
ومن هذه الأعمال الصالحة النابعة من الإخلاص ما يلي:
4- الأعمال المالية:
الزكاة: والزكاة من أهم الأعمال المالية التي تدخل في دائرة العمل الصالح، فإذا أخلص الإنسان في إخراج مال الزكاة، فإنه يحصل على مكسبين عظيمين،
وهما: امتثال أمر الله تعالى، والآخر تزكية النفس من حب الدنيا والتفريج عن الشرائح الفقيرة في المجتمع، يقول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِم بِهَا}(1).
وهناك أبواب أخرى لإخراج المال عبرها وإيصالها إلى مستحقيها، وهي الصدقات الطوعية التي حث الله تعالى عباده عليها في آيات كثيرة وبين الجزاء
المترتب عليها، وكذلك الأحاديث النبوية، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ}(2).
ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(3).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقًا خلفًا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكًا تلفا» (4).
----------------------------
(1) التوبة [103].
(2) البقرة [274].
(3) البقرة [254].
(4) أخرجه البخاري (ص233، رقم 1442) كتاب الزكاة.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(38)
ومن هذه الأعمال الصالحة النابعة من الإخلاص ما يلي:
5- الأعمال المباحة:
ويدخل في دائرة العمل الصالح والإخلاص فيه، جميع الأعمال المباحة والاعتيادية النابعة من الفطرة والحاجة الإنسانية، إذا قصد الإنسان من ورائها رضى الله
تعالى، والأخذ بالحلال الذي أمر به الله تعالى، ومثال بعض هذه المباحات:
1- النكاح: رغم أنه سنة كونية وفطرة إنسانية، إلا أنه يتحول إلى طاعة وعبادة إذا تم عقده بين الزوجين وفق شرع الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام:
«وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا
وضعها في الحلال كان له أجرا» (1).
وهو رحمة ونعمة من الله تعالى لعباده في الحياة، يقول جل شأنه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ
فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(2).
2- الأكل والشرب: حتى الأكل والشرب وتناول جميع الطيبات التي أودعها الله تعالى في الأرض لعباده، إذا اكتسبت بالحلال، فإنها تتحول إلى عبادة
وعمل صالح للإنسان، إذا ابتغى وجه الله تعالى، من أجل أن يتقوى على الكسب أو وأداء الفرائض والعبادات المختلفة، بل إن الإنسان ليكسب الأجر
على اللقمة البسيطة حينما يناولها في فم زوجته، يقول عليه الصلاة والسلام لأحد الصحابة: «وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت، حتى اللقمة ترفعها إلى فيّ امرأتك»(3).
3- النوم: ومن الأعمال الاعتيادية المباحة التي يشملها العمل الصالح، النوم الذي يعدّ راحة جسدية للإنسان من نصب العمل في النهار، ليقوم بعده
وينطلق من جديد ويباشر أعماله وعباداته، يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} (4).
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال لي رسول الله ﷺ: «يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول الله.
قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقا»(5).
والنوم هو إعطاء الجسد حقه من الراحة، فيكون ذلك أجرًا لصاحبه.
4- السعي في طلب الرزق: وهو من العمل الصالح المنصوص عليه في التشريع الإسلامي صراحة، يقول تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(6).
والذي يسعى وراء رزقه في الحياة بالطرق المشروعة فإنما هو في جهاد وعبادة ما دام خروجه من بيته وجهده المتواصل من أجل أن يأتي بهذا الرزق الطيب إلى
أسرته فيطعمهم منه، وهو من الأعمال العظيمة التي أشاد بها الرسول ﷺ بقوله: «أفضل الدينار دينار ينفقه الرجل على عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته
في سبيل الله ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله» (7).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» (8).
5- الإنس والأحاديث في المجالس: ومعلوم أن الإنس والكلام مع الآخرين من الأمور المباحة للإنسان، لأنه بحاجة إلى من يؤنسه في الحياة، ومعلوم أن
الإنسان اجتماعي بفطرته، ولكن يجب ألا يتجاوز هذا الأنس والحديث فيه الحدود المباحة ليتحول إلى لغو وغيبة ونميمة، من أجل هذا جاء النهي من النبي
ﷺ بقوله: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» (9) وإذا دخل في الأنس المزح فيجب أن يكون مشروعًا، فلا يكون كذبًا وافتراء،
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يمزح ولا يقول إلا صدقًا.
بل على المؤمن الواعي أن يستغل مجالس الأنس لأداء رسالته، ويحوّر أحاديثها لصالح دعوته ودينه، ويسعى لتحويلها إلى مجالس العلم والمعرفة ومواجهة
الواقع، بدل اللهو واللعب والسخرية، لأن كثيرًا من رواد هذه المجالس يهربون من هموم الواقع وضغوط الحياة المختلفة، فيكون المدخل عليهم من الأبواب
التي يعانون منها.
----------------------
(1) أخرجه مسلم (ص406-407، رقم 1006) كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
(2) الروم[ 21].
(3) أخرجه البخاري (ص1162-1163، رقم 6733) كتاب الفرائض، باب ميراث البنات. ومسلم (ص714، رقم 1628) كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث.
(4) النبأ [9].
(5) أخرجه البخاري (ص317، رقم 1975) كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم. ومسلم (ص472، رقم 1159) كتاب الصوم، باب النهي عن صوم الدهر.
(6) سورة الملك، الآية 15.
(7) أخرجه مسلم (ص403، رقم 994) كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على العيال. والترمذي (ص456، رقم 1966) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في النفقة على الأهل. قال: حديث حسن صحيح.
(8) أخرجه الترمذي (ص536، رقم 2344) كتاب الزهد، باب في التوكل على الله. وابن ماجه (ص607، رقم 4162) كتاب الزهد، باب التوكل واليقين. قال الترمذي: حسن صحيح.
(9) أخرجه البخاري (ص1052، رقم 6018) كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره. ومسلم (ص41، رقم 47) كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(39)
آثار الإخلاص (1-3)
آثار الإخلاص:
إذا أخلص الإنسان في أعماله القلبية واللسانية والمالية وفي كل حركاته وسكناته، فإن الله تعالى سيجازيه على ذلك في الدنيا والآخرة، بالثمرات اليانعة والنتائج الإيجابية كما يلي:
1 – الإخلاص يجرد النفس من العوالق الدنيوية:
الإخلاص يرفع نفس الإنسان ويسمو بها إلى المعالي، ويطهرها من العوالق والأدران الدنيوية الزائلة، فيحل فيها حب الله تعالى، وحب رسوله ﷺ، ويحل
التجرد لله وحده، فيسعى بكل ما أوتي من جهد وقوة أن ينال رضا الله تعالى، وذلك بتقديم الأعمال الصالحة خالصة له جلّ وعلا.
والمتأمل في حال المصلي والمزكي والمتصدق والصائم والمجاهد في سبيل الله تعالى، سيجد أن الذي يدفعه إلى هذا العمل هو استجابته لأمر الله تعالى، إلا ما
رحم الله، وهناك بعض العبادات التي قد يخفيها الإنسان عن الآخرين، وتبقى بينه وبين الله تعالى فحسب، فلا يشوبها رياء ولا مجاملة ولا خداع، مثل الصيام
الذي لا يفيد صاحبه الرياء، ولا يحس من حوله إن أفطر، ومن أجل ذلك جاء الجزاء الإلهي للصائم، بقوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: «الصوم لي
وأنا أجز به» دليل على أن الصائم مخلص في صيامه لله تعالى وليس فيه حظ أو جزاء دنيوي.
وكذلك الحال بالنسبة للذي يبيع روحه في سبيل الله استجابة لداعي الجهاد، فيترك الدنيا بزخرفها وبهارجها، ويترك القصر المشيد، والمركب الفاره، والعيش
الرغيد، ويترك الأهل والولد، امتثالاً لأمر الله، ونصرة للمسلمين، رغم طول المسافة ومشقة الطريق، وما يدفعه إلى ذلك إلا إخلاصه لله تعالى، ومن أجل
ذلك يكتب الله تعالى له الأجر العظيم في الآخرة، والعزة والنصر في الآخرة، وإن قُتِل فيكون شهيدًا، ويُغسل من الذنوب، ويدخل الجنة بغير حساب،
ويحشر مع الأنبياء والرسل، يقول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}(1).
ذلك دلالة على أن النفس قد تحررت من أصفاد الدنيا وزخرفها، وانطلقت نحو الله تعالى، وقد وضعت الدنيا في يديها وتحت إرادتها، وليس العكس كما هي حال الكثيرين الذين ملكت نفوسهم الدنيا واستولت عليها من كل جانب.
2 – النجاة لما يتعرض له من المصائب:
ومن أثر الإخلاص لله تعالى في الأعمال، أنه يحفظ صاحبه من المصائب ويقيه شر الإنس والجن، ويدفع عنه ذلّ الأعداء وظلمهم، وحديث الرهط الثلاثة
شاهد على هذا الأمر، وكيف أن الصخرة انفرجت عنهم كاملة عندما كان لديهم رصيدًا من الإخلاص لله تعالى.
ليس هذا فحسب؛ بل إن الإخلاص لله تعالى يبعد عن صاحبه المصائب النفسية وآفاتها، لأنه يَحُول دون وصول الشيطان إلى النفس، ما دام صادقًا في قوله
وعمله وسلوكه مع ربه ومع الناس من حوله.
فالصلوات الخمس المفروضة في أوقات متفرقة في الليل والنهار، وصيام شهر رمضان، والزكاة والحج، والنوافل الأخرى من صلاة وصيام وصدقات، وذكر،
ودعوة وإحسان، كلها تدخل في العمل الذي يقي الإنسان من الشرور والمخاطر في الدنيا، ومن أجل سلامة المؤمن في دينه وعلاقته مع ربه، ومن أجل
سلامة جسمه وماله وأهله، حثّ الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام على بعض الأذكار والدعوات، في ليله ونهاره، كقراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص
والمعوذتان، في كل صباح ومساء ثلاث مرات، وكذلك بعض الدعوات يقول عليه الصلاة والسلام: «من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في
الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي»(2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي ﷺ يعوّذ الحسن والحسين ويقول: «إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة
من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» (3).
وغيرها من الأوراد والأذكار التي حث النبي ﷺ المسلمين عليها، لتكون وقاية وحماية لهم في حياتهم وشؤونهم المختلفة.
-------------------------------
(1) آل عمران [169-170].
(2) أخرجه أبو داود (ص716، رقم 5088) كتاب الأدب، باب ما يقول: إذا أصبح. والترمذي (ص773، رقم 3388) كتاب الدعوات. وكذلك أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه.
(3) أخرجه البخاري (ص565، رقم 3371) كتاب الأنبياء، باب (10).
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(40)
آثار الإخلاص (2-3)
3 – سبب في تطهير النفس من النفاق والكذب:
إن الإخلاص مع الله تعالى، يطهر النفس من الكذب والنفاق والمجاملات الخادعة، لأن الله تعالى مطلع على سرائر الناس، والدوافع التي تجعلهم يقبلون على
أعمالهم وأقوالهم، أو تركهم لها، وبذلك لا يجتمع الإخلاص مع الكذب والنفاق، لأنهما متضادان، وهو ما عبّر عنه الرسول ﷺ بقوله: «لا يزني الزاني حين
يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو
مؤمن» (1). وإذا تخلص العبد من النفاق والكذب سلِم من كثير من الآفات النفسية.
4 – الإخلاص سبب للنصر والتمكين في الأرض:
وهذه حقيقة أشار إليها القرآن الكريم في مواطن كثيرة، وكذلك هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام، يقول تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ
الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(2). ويقول أيضًا: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ
وَلِلَّـهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» (4).
والتاريخ الإسلامي في عصوره الأولى، لا سيما في عصر النبوة خير شاهد حدوث هذا الأثر في واقع المسلمين، فقد حدث تحوّل كبير في حياة الصحابة
رضي الله عنهم، اقترانًا بما كانوا عليه في الجاهلية، فقد انتقلوا من بيئة مليئة بالمظالم والحروب والضعف والتمزق، إلى أمة رصينة واحدة، يقودهم قائد واحد
عليه الصلاة والسلام في ظل شريعة ربانية واحدة، فأخلصوا نياتهم لهذا الدين ولهذا الرسول، فتذللت لهم الخطوب، وتوسع سلطانهم شرقًا وغربًا، وخضعت
لهم القياصرة والملوك، رغم قلة العدد، وبساطة العتاد.
وما أحوج الأمة في هذا الزمن العصيب الذي تداعت فيه الأمم عليها من كل حدب وصوب، ما أحوجها أن تراجع نياتها وأعمالها، وتوجهها خالصة لله
تعالى، لعل الله يبدل ذلها عزًّا، وهوانها كرامة، وضعفها قوة.
------------------------------
(1) أخرجه البخاري (ص565، رقم 3371) كتاب الأنبياء، باب (10).
(2) أخرجه البخاري (ص400، رقم 2475) كتاب المظالم، باب النهي عن النهبة. ومسلم (ص45، رقم 57) كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي.
(3) الأنبياء[ 105].
(4) الحج [41].
(5) أخرجه النسائي (ص439، رقم 3180) كتاب الجهاد، باب الاستنصار بالضعيف. والبيهقي (3/ 345، رقم 6616). وهو حديث صحيح.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(41)
آثار الإخلاص (3-3)
5 – الإخلاص سبب في سعة الرزق والحياة الطيبة:
إن الله تعالى توعّد هذه الأمة، ووعده الحق، أن إذا أخلصت له وتحاكمت إلى حكمه في أحوالها وشؤونها، ولا يقصد غير سواه، وتؤتى أوامره، وتجتنب نواهيه، وعدها بالخير الوافر والرزق الواسع، والعيش الرغيد، فضلاً عن كرمه ونعيمه يوم القيامة، يقول جل ذكره: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(1).
يقول أبو ذر رضي الله عنه: كان رسول الله ﷺ يتلو هذه الآية: {وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}(2) ثم قال: «يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم» (3). وهذا الرزق على مستوى الأمة وعلى مستوى الأفراد.
6 – يكسب الفرد والمجتمع النجاح في الحياة:
لقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً}(4)، فترى المخلصين في الحياة الدنيا، من أسعد الناس، وأكثرهم تفوقًا ونجاحًا، لأنهم يعملون بخطى ثابتة ومنهج مستقيم، ويَصْدقون مع الله تعالى، ولا يريدون من أحد جزاء ولا شكورًا، فجزاؤهم وأجرهم على الله تعالى، لقوله جلّ وعلا: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}(5).
كما ترى المخلصين أقلّ الناس قلقًا واضطرابًا في الحياة، بل تكتنفهم السكينة والراحة، في كل أحوالهم، بخلاف الرائين الذين ينتظرون الجزاء من الناس، فلا يعملون إلا بقدر هذا الجزاء، فيفشلون ويقلقون ويضطربون، وهذا هو الفيصل بين العمل لله والعمل لغيره.
7 – الإخلاص يقيم العلاقات الاجتماعية على منهج رفيع:
تتحدد العلاقات بين الناس في ظل الإخلاص على أسس متينة، وأهداف سامية، لأنها قائمة على حب الله تعالى، وعلى الخير والمودة والرحمة، التي أمر الله أن تكون الأصل في العلاقات بين الناس، يقول عليه الصلاة والسلام: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (6). وجاءت الآيات والأحاديث الكثيرة في هذا الصدد.
فتذوب في ظل الإخلاص المصالح الشخصية، والأنانيات الفردية، لأن مصير أي علاقة تقوم على غير الإخلاص مرتبط بانتهاء المصلحة أو المنفعة، أما إذا كانت في الله فتبقى أبد الدهر، بل تبقى إلى يوم القيامة، يقول تبارك وتعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}(7) وقوله ﷺ: «سبعة يظلهم الله في ظله.. ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه..» (8).
8 – بالإخلاص يُكتب للإنسان العمل الصالح ولو لم يقم به:
إذا وجدت النية ولكن منعه العذر مثل حال الصحابة في قصة غزوة تبوك، لقوله ﷺ: «إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم المرض» (9)، وقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّـهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} (10).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» (11).
--------------------------------------
(1) الأعراف [96].
(2) الطلاق [2].
(3) أخرجه ابن ماجه (ص614، رقم 4220) كتاب الزهد، باب الورع والتقوى. وأحمد (5/178، رقم 21591). وابن حبان (15/53، رقم 6669). والنسائي في الكبرى (10/35، رقم 11539) ورجاله ثقات لكنه منقطع.
(4) النحل [97].
(5) النساء [124].
(6) أخرجه أبو داود (ص661، رقم 4681) كتاب السنة، باب في رد الإرجاء. والحاكم في المستدرك (2/ 178، رقم 2694) وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي.
(7) الزخرف [67].
(8) أخرجه البخاري (320، رقم 1423) كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين. ومسلم (ص415، رقم 1031) كتاب الزكاة، باب إخفاء الصدقة.
(9) أخرجه البخاري (ص753، رقم 4423) كتاب المغازي، باب (82). ومسلم (ص854، رقم 1911) كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض.
(10) التوبة [96-97].
(11) سبق تخريجه.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(42)
الوسائل المعينة على الإخلاص(1-2)
هناك بعض العوامل التي تنشئ عند الإنسان دافع الإخلاص في الحياة، في العبادات وغيرها، ومن أبرز هذه العوامل والوسائل ما يلي:
1 – التأمل في كتاب الله تعالى ولو في آية واحدة:
إن التأمل في كتاب الله تعالى وآياته التي يخاطب الله تعالى من خلالها عباده على الأرض، يولد في النفس تعلقًا بالله تعالى وشعورًا برحمته بعباده، وهو يقرأ
خطاب ربه الموجه إليه بأسلوب رائع جميل، ويصفه بالمؤمن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فيه لطف وعطف وحنان، ثم يرشده من خلال هذه الآيات الكريمات إلى
طريق الهدى والنجاة، ويحذره من طرق الغواية والضلال، ويهيأ له أسباب الهداية من إرسال الرسل والأنبياء وحدوث المعجزات.
يجد القارئ كل هذه الحقائق والرحمات ويلمسها في كتاب الله المبين، فيتولد لديه إخلاص حقيقي نحو خالقه وبارئه، فيوجه كل ما لديه من فعل أو قول لإرضاء الرحمن الرحيم.
2 – التأمل في الكون وفي عظمة الله وقدرته:
إن التأمل في الكون وما فيه من عجائب خلق الله تعالى، والتفكر في عوالمه المختلفة وأنماط الأمم التي تعيش في هذه العوالم، في البحر والبر والسماء، وكذلك
الكواكب المحيطة بنا من شمس وقمر وغيرها، والنظام الدقيق الذي يسير وفق هذه المخلوقات جميعًا، إن هذا التأمل يولد إقرارًا ويقينًا بتوحيد الله تعالى، وقناعة ثابتة بالحق والعدالة التي بنيت عليها هذه الأشياء، من أجل ذلك يريد الله تعالى من عباده أن يكثروا من التأمل والتدبر فيما حولهم من الآيات
الكونية، حتى يرتبطوا بحق مع خالقهم، ويخلصوا الأعمال والأقوال له وحده، يقول تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(1).
ويقول أيضًا: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(2).
3 – إقناع النفس أن النفع والضر بيد الله تعالى:
إذا علم الإنسان أن الله تعالى خالق الكون، بيده ملكوت السموات والأرض، وأنه لا يجري في الكون من نفع وخير أو ضرر وشر إلا بإذنه، يزداد وثاقه مع
خالقه، فلا يلجأ إلا إليه، ولا يقصد أحدًا غيره، ولا يقدم الطاعة والولاء إلا له جل شأنه، فيعيش لله ويعمل لله، ويجاهد في سبيل الله، وينفق في سبيل الله،
ولا يخشى في ذلك أحدًا، لأن النفع والضر من عند الله، يقول عليه الصلاة والسلام: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا
بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» (3).
-----------------------------
(1) سورة آل عمران، الآية 191.
(2) سورة يس، الآيات 37-40 .
(3) أخرجه الترمذي (ص576، رقم 2516) كتاب صفة القيامة، باب حديث حنظلة. وأحمد (1/ 307، رقم 2804). قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(43)
الوسائل المعينة على الإخلاص(2-2)
4 – مصاحبة المخلصين:
إن من أهم عوامل تكوين الإخلاص في النفس وتقويته وتصفيته لله تعالى، مصاحبة المخلصين والصالحين، لأن الإيمان يزداد وينقص، وبرفقة هؤلاء المخلصين
يزداد الإيمان وتصلح الأعمال، وفي مجالسة أهل الخير والصلاح ومصاحبتهم ذكر متواصل لله تعالى، وصلوات وقيام وإنفاق في سبيل الله، وكذلك فيها تذكير
بالعذاب والوعيد لمن يخالفه عن أمره تعالى، أي أن هناك تبادلاً في اكتساب الصفات والخصال في المصاحبة الطيبة، لذا يقول عليه الصلاة والسلام: «المرء
على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (1).
5 – القراءة في السيرة النبوية وسير المخلصين:
حتى يكتسب الإنسان الإخلاص في العمل، ويسلك في ذلك السبيل الصحيح، لا بد أن يبحث في سيرة القدوة الأولى والمخلص الأول عليه الصلاة
والسلام، فهو أخلص الناس فعلاً وقولاً، فهو رسول الله إلى الله بهذا الدين وأحكامه وتشريعه، وهو الذي يحثهم على الأعمال الصالحة والإخلاص فيها،
وسيرته العطرة كلها دروس في كيفية التعامل بالإخلاص مع الله تعالى، من أجل ذلك كان لزامًا معرفة سيرته عليه الصلاة والسلام، حتى نتعبد الله تعالى
بالإخلاص كما كان عليه النبي ﷺ.
ثم لا بد من دراسة سير المخلصين من العلماء والقادة والعامة من المسلمين في التاريخ، ومعرفة ما كان عليه سلف الأمة من الاستقامة والصلاح
والإخلاص، حيث أثر هذه العوامل في نبوغهم العلمي، وتقدمهم المعرفي، وفي تكوين القوة والمنعة لهم في الحياة.
6 – الدعــــاء:
والدعاء من المنافذ المباشرة التي يلبي الله تعالى لعباده ما يطلبونه ويرغبون فيه، ومن أهم الأمور التي تعين على كسب الإخلاص في العمل لله تعالى، هو سؤاله جل وعلا هذا الأمر، بالدعاء المستمر والملح، بكورًا وعشيًا، ودبر كل صلاة، وفي أي وقت شاؤوا، وفي أية حال، فإنه قريب من عباده، سميع بدعواتهم، ومجيب لها، لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(2) ويقول
تبارك وتعالى أيضًا: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(3).
ويقول جلّ ذكره في آية أخرى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(4).
7 – أن يقبل العبد على عمل صالح بصورة سرية ودائمة، لا يطلع عليه أحد من الناس، لأن ذلك يكون عنده الإخلاص لله تعالى، لأنه بعيد عن أنظار
الناس ومدحهم وثنائهم، وربما يشفع هذا العمل لهذا العبد يوم القيامة، ويدخله الجنة والنعيم، وليس من الضروري أن يكون عملاً كبيرًا وشاقًا، فرب عمل
صالح صغير يدوم عليه العبد، يربيه الله تعالى له، فيصبح كالجبال في الأجر والمثوبة، تقول عائشة رضي الله عنها عن حال النبي ﷺ: «وكان أحب الدِّين
إليه ما داوم صاحبه عليه» (5).
--------------------------
(1) أخرجه أحمد (2/ 334، رقم 8398). والحاكم (4/ 188).
(2) سورة البقرة، [186].
(3) سورة الأعراف، [ 55].
(4) سورة الزمر [53].
(5) أخرجه البخاري (ص10، رقم 43) كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله أدومه. ومسلم (ص318-319، رقم 785) كتاب صلاة المسافرين، باب فصل العمل الدائم.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(44)
الرياء (1-3)
آثار عدم الإخلاص (الرياء):
إذا كان الإخلاص لله تعالى يجلب للإنسان تلك الثمرات الخيرة في الدنيا، من راحة نفسية، وسعادة وسعة في الرزق والمأكل والمشرب، ويمنحه النصر
والتمكين في الأرض، والنجاح والتفوق في الحياة، فإن خلاف هذا الإخلاص وهو الرياء والعمل لغير الله تعالى، من أجل مصلحة دنيوية أو شهرة بين
الناس، أو جاه أو منصب ووظيفة، فإن ذلك يكسب الإنسان عكس تلك الثمرات والنتائج لصاحبه، وهي كالآتي:
1 – التعلق بالمخلوقين:
إذا قصد الإنسان من وراء عمله في الحياة - أيًا كان نوعه – رضا الناس وثناءهم وجزاءهم، فإن علاقته بربه تضعف، فتتوجه كل مشاعره وأحساسيه نحو
الجهة التي تكافئه في الدنيا، فيعمل كل ما بوسعه لإكساب رضى هذه الجهة وإن خالف عمله أمر الله تعالى والأخلاق والآداب، وبالتالي فإنه في هذه
الحال يستبدل الذي أدنى بالذي هو خير، فيستبدل علاقته بالقوي الذي بيده ملكوت السموات والأرض، بالإنسان الضعيف الذي لا يستطيع دفع الضر
عن نفسه، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ
شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}(1).
2 – الاضطراب النفسي والقلق:
إذا تعلق الإنسان بالعباد وترك رب العباد، فإنه يبقى في حالة من القلق والتوتر النفسي الدائم والتفكير المستمر لينال إعجاب هذا المخلوق بعمله أو علمه،
ويصبح ذلك هاجسًا له، لا يتركه أبدًا، حتى أثناء نومه ربما يحلم به وبتلك العلاقة، الأمر الذي يهدد النفس ويسهل الطريق أمام الوساوس الأخرى للولوج
فيها.
------------------------
(1) سورة الحج [7].
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(45)
الرياء (2-3)
آثار عدم الإخلاص (الرياء):
3 – عدم الإنتاج إلا بحوافز دنيوية:
إن الذي يعمل من أجل جزاء دنيوي من مكسب مادي أو شهرة أو أي شيء آخر، ربما يعمل بجد وإخلاص في ميدان عمله، ولكن هذا النشاط سرعان
ما ينتهي إلى خمول وفتور وقلة في الإنتاج، بعد أن يصل إلى غايته، والواقع المعاصر يشهد على هذه الحقيقة، حيث لا يتناسب إنتاج المؤسسات والشركات
والوزرات المختلفة أبدًا مع العدد الهائل من العاملين فيها، وذلك بسبب ضعف الوازع الديني لدى الكثيرين من هؤلاء العاملين والموظفين الذين انحسر
الإنتاج لديهم، لمعرفتهم أن جزاءهم مضمون في نهاية كل شهر، سواء عملوا أم لم يعملوا، إلا ما رحم الله من بعض عباده المخلصين.
وربما يسأل بعضهم عن حال الكافرين المعاصرين في الدول الأخرى، الذين يعملون وينتجون ويبدعون، فكيف نوفق بين هذا وذلك؟
إن قاعدة ارتباط العمل بالجزاء عامة تنطبق على كل البشر، وأن كل فرد أينما كان بلده وزمانه يسير وفق هذه القاعد في عمله وحركته في الحياة، وإن
الآفات التي تنتج عن الإخلاص لغير الله تعالى تتواجد في تلك المجتمعات غير المسلمة، ولكنها بنسب أقل من مجتمعاتنا، ويرجع ذلك لسببين:
أ – إنهم يخضعون لقوانين عمل شديدة لا تستثني أحدًا من الموظفين والعمال، من التزام أو مخالفة، وفي الوقت نفسه تضمن لهم هذه القوانين مكافآت
شهرية مغرية جدًا إضافة إلى المكافآت التشجيعية على الإنتاج وحسن الأداء.
ب – الحرية البحثية والآليات المتوافرة لذلك تدفعهم للإبداعات والاكتشافات المتتالية، بخلاف واقع بلاد المسلمين، الذي يعاني قلة الحريات البحثية، وندرة
الأجهزة الكشفية والبحثية.
وفي كل الأحوال ينطبق على المخلصين وغيرهم الحديث النبوي الشريف: «إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا وأما المؤمن فإن الله يدخر
له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته» (1).
4 – تفشي الآفات الاجتماعية:
مثل الرشوة، والتزوير، والمجاملات الكاذبة، ووضع الفرد غير المناسب في المكان المناسب، مما يسبب انهيار المجتمع ومؤسساته، ويقضي على التكافل
والتعاون بين أبنائه، لأن جميع المعاملات والعلاقات ستأخذ طرقًا ملتوية ومسارات منحرفة، حتى تنقلب الموازين، بسوء الإدارات المسؤولة عن شؤون الناس
وأحوالهم، بمعنى أن المجتمع يتحول إلى مفرزة للمشكلات والآفات النفسية والاجتماعية بصورة لا حدود لها، ذلك أن الغاية أصبحت لدى الناس تبرر
الوسيلة، من جراء المجاملات الكاذبة والمظاهر الكاذبة التي تزيف الحقيقة في الواقع.
--------------------------------------
(1) أخرجه مسلم (ص1222، رقم 2808) كتاب صفات المنافقين، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل سيئات الكافر في الدنيا.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(46)
الرياء (3-3)
آثار عدم الإخلاص (الرياء):
5 – عدم قبول العمل عند الله:
إن الإخلاص لله تعالى يصفي العمل الذي يقوم به الإنسان، ويغسله من الشوائب والمتعلقات الأخرى التي تتوجه لغير الله تعالى، فإذا نوى الإنسان من وراء أعماله وأقواله جزاء دنيويًا غير رضا الله تعالى، فإن ذلك حسبه، ولن ينال إلا ما تمنى، فقبول العمل ورفضه من الله تعالى يتوقف على النية التي من أجلها
حدث الفعل أو القول، لذا إذا قدم أحدهم عمره كله في الأعمال الحسنة والجليلة، ولكنه لم يجعل لله فيها نصيب، فإن الله تعالى لن يدخر له شيئًا منها يوم
القيامة، يقول تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}(1).
ويقول تبارك وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(2).
وهو أمر دقيق يجب ملاحظته في واقع الحياة، وتذكير الناس به، في علاقاتهم وأعمالهم، لأنه يحدد المصير والمآل للإنسان يوم القيامة.
وهناك لفتة لا بد من التنبيه إليها، ربما يقف عندها الكثيرون، ويتخوفوا من وضعهم في بعض الحالات التي يمرون بها، وهي مدح الناس للخصال المتوافرة في
بعض الأشخاص، أو ثنائهم على بعض أعمالهم، مما يسبب لهم إشكالاً في الإقدام على الخير والإحسان إلى الناس، فإن مثل هذا الثناء والمدح لا يناقض
الإخلاص في شيء ما دام صاحبه واثقًا من صلاح نيته لله تعالى؛ بل قد يكون ذلك من الشهادة لله على خيرية هذا الإنسان.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله ﷺ: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» (3).
عن أنس بن مالك قال: «مرّ على النبي ﷺ بجنازة فأثني عليها خيرًا. فقال: وجبت. ثم مرَّ عليه بجنازة فأثني عليها شرًّا فقال: وجبت فقيل يا رسول الله
قلتَ لهذه وجبت ولهذه وجبت، فقال: شهادة القوم والمؤمنون شهود الله في الأرض» (4).
------------------------------------
(1) الفرقان [23].
(2) البقرة [264].
(3) أخرجه مسلم (ص1151، رقم 2642) كتاب البر والصلة، باب إذا أثنى على العمل الصالح، فهي بشرى لا تضر.
(4) أخرجه البخاري (ص428، رقم 2642) كتاب الشهادات، باب تعديل كم يجوز.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(47)
وفي الختام لابد من توضيح بعض النقاط المتعلقة بالإخلاص، لفئتين من الناس، هما:
أولاً: المريض النفسي:
حيث ينبغي عليه معرفة بعض الواجبات المهمة ليخلص عمله، ويدخل بإذن الله تعالى في مرحلة الشفاء، ومن هذه الواجبات:
1 – التعلق بالله الذي خلق الكون كله وإليه مآله، فلا يتنفس كائن ولا يتحرك حركة إلا بإرادته جلت قدرته، فلا يُقصد أحد سواء بالأعمال والأقوال، ولا يُرجى غيره للعلاج أو طلب الشفاء. فعليه أن يقوي إخلاصه بأعماله ويلح على الله بطلب الشفاء.
2 – التدبر في كتاب الله المبين وتلاوة آياته، بصورة دائمة وغير منقطعة، لما فيها من التعليمات والتوجيهات التي تنير الدروب وتجلي عنها الظلمات.
3 – لا بد من مجالسة النفس والخلو معها في ساعات معينة، لمراجعة شريط الأعمال والأقوال، وتصحيح ما فيه من أخطاء وذنوب ومعاصي.
4 – الاجتهاد في العبادات، من صلاة، وصيام، ودعاء وذكر، وإحسان، وإنفاق لأنها جميعًا مربط الجزاء في الدنيا والآخرة.
ثانيًا: الداعية:
فعليه معرفة بعض الأمور المهمة لنجاح دعوته، وإثمارها بثمر طيب وحسن، ومن هنا عليه أن يتذكر عظم عمله ويقوي إخلاصه فيه، ومن هذه الأمور:
1 – أن الدعوة عمل عظيم وهي من أجلّ الأعمال؛ بل أحسنها، فهي مهمة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبها يهتدي الناس ويستنيرون،
وبسببها يكلل الله الأمة بالنصر والتمكين.
2 – أن الدعوة من غير إخلاص، لا قيمة لها ولا ثمرة في الحياة الدنيا، فضلاً عن الوبال الذي يرهق كاهل الداعية يوم القيامة.
3 – ضرورة تجرد النفس من حظوظ الدنيا وزخارفها، والتوجه الصادق إلى الله تعالى بكل ما يقوم به الداعية، لأن ما يكون لله يبقى ويثمر، وما يكون لغيره، يفنى ويفسد.
4 – فَهْمُ الدعوة بأصولها الصحيحة، وأساليبها المبينة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ، حيث إن أهم أصل لها هو الإخلاص لله تعالى.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(48)
أهمية التوكل على الله:
تتجلى أهمية التوكل على الله تعالى في شؤون الإنسان جميعها؛ لأن كل فعل أو حركة لا يخرج عن دائرة الإرادة الربانية وتدبيره الشامل في هذا الكون،
والإنسان ضعيف لا حول له ولا قوة من غير أن يعتمد على الله؛ لأنه هو الذي يعطي القوة والدفع للإنسان ليتحرك في الأرض ويسعى فيها بما أمره الله به،
انطلاقًا من حركة الحواس إلى أصغر عضو في الجسم، كلها تسير وفق إرادة الله وسنته، فالعين لا تنام لولا عناية الله بها، والعقل لا يستطيع أن يفكر ويتأمل
من غير أمر خالقه، والأطراف لا تعمل ولا تسعى في طلب الرزق إذا لم يمنحها الله قوة الحركة والتنقل، والمريض لا يُشفى من دون الله، وهكذا في جميع
الأحوال.
فالتوكل على الله تعالى يمنح الإنسان الاستمرارية في العمل والعبادة بالوجه الذي يريده الله تعالى، أما إذا خالف الإنسان هذه السنة، وأوكل شؤونه إلى
نفسه، أو إلى غيره من البشر، من غير التوكل على الله، فإنه بذلك يجلب على نفسه الضرر والأذى بسخط الله عليه، وقد أشار الله تعالى إلى هذه الصورة
في قصة قارون بقوله: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ
اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّـهَ
لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ}(1).
هكذا اغتر قارون بما عنده من الأموال والأملاك، وظن أنه بعلمه وحده استطاع أن يجمع هذه الثروة الهائلة، من غير أن يوكل الأمر إلى الله تعالى، واستند في
هذا الموقف إلى نفسه الضعيفة التي لا تملك من الأمر شيئًا، وجحد فضل الله تعالى وكرمه عليه بهذه الأموال، فوكَّله الله إلى ذلك، فخسف بتلك الثروات
والأموال الأرض حتى لا يبق منها شيء، يقول تبارك وتعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُنتَصِرِينَ}(2).
فلا غنى عن التوكل على الله تعالى، وليحذر الذين يغفلون عن هذه الحقيقة من غضب الله تعالى وعقابه، كما حدث لقارون ومُلكه وماله.
-------------------------
(1) القصص [76-78].
(2) القصص [81].
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(49)
مكانة التوكل على الله:
يعدُّ التوكل على الله تعالى من أهم مقتضيات العقيدة؛ لأن طلب العون والقوة والنفع من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى شرك به جلّ وعلا، ومن
أجل ذلك تعددت النصوص القرآنية والنبوية من أجل ترسيخ عقيدة التوكل على الله في نفوس المسلمين. ويمكن بيان هذه المكانة والمنزلة للتوكل من خلال النقاط الآتية:
1- إن الله تعالى أمر بالتوكل عليه صراحة، ولا ينبغي لأحد أن يلجأ بعدها لغيره سبحانه وتعالى في الاستعانة وطلب القوة وتحقيق الآمال، لقوله جل وعلا:
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}(1).
2- إن المسلم يردد في كل ركعة من صلواته هذا المنهج ويتعهد الله تعالى عليه بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).
3- إن التوكل على الله تعالى يجلب للمتوكل محبة الله تعالى ورحمته وإعانته، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ}(3).
4- جعل الله تعالى التوكل عليه من صفات المؤمنين وثمرة من ثمرات الإيمان به جل وعلا، لقوله: {وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(4). وقوله تعالى: {وَعَلَى
اللَّـهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(5).
5- بيّن الله تعالى أن التوكل عليه هو منهج الأنبياء والرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام، يقول تبارك وتعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّـهِ وَقَدْ هَدَانَا
سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُو نَ}(6). وهي إشارة للمسلمين أن يحتذوا حذو أولئك الرسل باعتبارهم قدوة لهم في عقائدهم
وتصوراتهم.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: {حَسْبُنَا اللَّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(7) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قالوا {إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(8)(9).
6- إن الله تعالى أمر عباده المؤمنين عند الخروج من البيوت بالتوكل عليه وحده، حتى يكونوا في حمايته ورعايته إلى أن يعودوا إلى إليها، لقول النبي ﷺ:
«إذا خرج الرجل من بيته فقال بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله قال يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت فتتنحى له الشياطين فيقول له
شيطان آخر كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي» (10).
---------------------------------------
(1) الفرقان [58].
(2) الفاتحة [5].
(3) آل عمران [159].
(4) آل عمران [122].
(5) المائدة [23].
(6) إبراهيم [12].
(7) آل عمران [173].
(8) آل عمران [173].
(9) أخرجه البخاري (ص777، رقم 4563) كتاب التفسير.
(10) أخرجه أبو داود (ص717، رقم 5095) كتاب الأدب، باب ما يقول إذا خرج من بيته. والحديث صحيح.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(50)
التوكل وفعل الأسباب:
إن التوكل الصحيح هو طلب العون من الله تعالى للوصول إلى هدف أو تحقيق غاية، والأخذ بالأسباب المشروعة المؤدية إليها، فإذا تُرك أحد هذين
العنصرين فإن التوكل يفقد مضمونه ومفعوله، رغم أن الله تعالى قادر على تأمين كل شيء وإحقاق كل مصلحة وظفر لعباده من غير علة أو سبب، ولا
يعني هذا أن فعل السبب ينافي حقيقة التوكل؛ بل يؤكد عليها ما دام المتوكل يعتقد أن حصول الأشياء تتم بأمر الله تعالى وليس من فعل السبب نفسه،
ولكن الله جعل الربط بينهما سنة كونية لحكمة هو يعلمها، والمتأمل في منهج القرآن والسنة النبوية وقصص الأنبياء والرسل عليهم السلام في دعواتهم سيجد
هذه السنة واضحة وصريحة، ويمكن الإشارة إلى بعضها من خلال الآتي:
1- في طلب الرزق، أمر الله عباده بالسعي والعمل من أجل أرزاقهم فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ}(1).
2- في الحرب، يطلب الله تعالى من المؤمنين الأخذ بأسباب المواجهة مع الأعداء من العتاد والتجهيزات العسكرية وغيرها، رغم أنه تعالى قادر على هزيمتهم
ودحرهم، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّـهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا
مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}(2).
3- وفي قصص الأنبياء، أمر الله تعالى نبيه لوط عليه السلام قبل أن يحل بقومه العذاب أن يخرج بأتباعه بالليل حتى لا يلحق بهم العذاب،
رغم أن الله تعالى قادر على أن ينجيهم من غير هذا الخروج، فقال: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ}(3).
4- وفي هجرة الرسول ﷺ إلى المدينة، حيث خرج خفية مع أبي بكر رضي الله عنه، رغم أنه عليه الصلاة والسلام كان يستطيع أن يخرج على مرآى من
قريش، من غير أن يلحق به أذى، ولكنه أخذ بسبب الحماية والحيطة في ذلك، وجعل هجرته سرًا، وكذلك في سائر أعماله عليه الصلاة والسلام، فكان
يلبس في الغزوات الدرع ويحمل السيف والترس، وكان يخطط قبل المواجهة كما حدث في غزوة بدر حين استشار صحابته وأشاروا عليه بردم الآبار، وكلها
أفعال أسباب لتحقيق الغاية والهدف.
5- في الشفاء من الأمراض، أمر النبي ﷺ بالتداوي والعلاج لحصول الشفاء، رغم أن الله تعالى قادر على أن يشفي عباده من غير ذلك، فقال عليه
الصلاة والسلام: «يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو قال دواء إلا داء واحدا قالوا يا رسول الله وما هو قال الهرم» (4). وأيضًا جعل
الله تعالى تحقيق الشفاء في مادة العسل.
--------------------------------------
(1) سورة الملك، الآية 15.
(2) سورة الأنفال، الآية 60.
(3) سورة هود، الآية 81.
(4) سبق تخريجه.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(51)
آثار التوكل على الله:
إن التوكل على الله تعالى بالمنهج الصحيح يعطي نتائج وآثارًا إيجابية، تعود بالنفع والفوز للمتوكل في الدنيا والآخرة، ومن أبرز هذه الآثار ما يلي:
1 – دخول الجنة:
إن التوكل على الله تعالى من خلال مفهومه الصحيح سبب في دخول الجنة والفوز برضى الله تعالى والقرب منه، وقد سبق الإشارة إلى الآيات القرآنية الدالة على ذلك، إلا أن رسول الله ﷺ أكدّ هذه الحقيقة بقوله: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب. قالوا: ومن هم يا رسول الله قال: هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون» (1).
2 – النجاة من المهالك والشرور:
ومن آثار التوكل على الله تعالى في الدنيا أنه ينجي صاحبه من شرور الأعداء ومكائدهم، وقد تكفّل الله تعالى بهذه الحماية في قوله جل ثناؤه: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(2)، وقد ظهرت هذه الحقيقة، مع نبي الله إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار، وحين قيل لرسول الله ﷺ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، بل إن نتيجة تلك المعاناة والصعاب التي لقيها الرسول ﷺ مع صحابته أثمرت وأينعت حين توكلوا على الله تعالى، حيث تحولت تلك المعاناة بفضل عقيدة التوكل إلى فتح وظفر ونشر للإسلام في الجزيرة العربية، ومن ثم في أرجاء المعمورة.
3 – الطمأنينة النفسية:
بالتوكل على الله تعالى تهدأ النفس وتطمئن بالسكينة المنزلة عليها من بارئها، حين فوّضت أمورها وشؤونها إليه، يقول تبارك وتعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(3) أي أن الله تعالى يكفي عبده المتوكل عليه الهمّ والحزن والقلق والاضطراب، كما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّـهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}(4)، ليس هذا فحسب؛ بل يجعله يعيش في ذروة السعادة النفسية في جميع أحواله، في السراء والضراء، وفي المنشط والمكره، وفي السر والعلن، لأنه على قناعة تامة أن الذي خلقه تكفل بكل حاجاته، وأنه أرحم به من الخلق جميعًا، ومن هذا المنطلق تعجب الرسول عليه الصلاة والسلام لأمر المؤمن الذي إذا أصابه سرّاء شكر الله تعالى وإن أصابته ضرّاء صبر عليها.
4 – الوقاية من شرور الشياطين وهمزاتهم:
إن شرور الشياطين لا تدع الناس في راحة وهناء، ولكن المؤمن المتوكل على الله تعالى يتغلب عليها حين يسلم أمره لله تعالى ويستعين به، يقول عليه الصلاة والسلام: «إذا خرج الرجل من بيته فقال بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله قال يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت فتتنحى له الشياطين فيقول له شيطان آخر كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي»(5). فالتوكل على الله تعالى يقهر الشياطين ويدحرهم ويرد عليهم نزغاتهم وهمزاتهم.
5 – الإيجابية والإنتاج:
ومن آثار التوكل على الله تعالى تكوين الإنسان الإيجابي في الحياة، من خلال جانبين مهمين هما: الجانب السلوكي الذي يتعامل فيه مع الآخرين بأخلاقه الإسلامية العالية، باللين والتسامح وحب الهداية والخير لهم، وهو الجانب الذي حث عليه رسول الله ﷺ بقوله: «حرم على النار كل هيّن ليّن سهل قريب من الناس» (6). وقوله: «إن خياركم أحسنكم أخلاقًا» (7).
والجانب الثاني هو الجانب الإنتاجي الذي يبرز فيه أثر التوكل على الله تعالى في الالتزام بحقوق العمل وقوانينه، من حيث الدوام والقيام بالأعمال الموكلة على أتم وجه من غير كسل أو تهاون، وكذلك العمل على الإبداع والابتكار في المجال الذي يعمل فيه هذا الإنسان، بحيث لا يتوقف اجتهاده عند حد معين، بل يبذل ما لديه من مهارات ذهنية وعقلية وخبرات ومعارف في سبيل تحسين المجالات التي يعمل ضمنها وتطويرها بشكل مستمر، وذلك بالتوكل على الله تعالى وطلب العون والقدرة منه جل شأنه، وهو شأن المؤمن المتوكل على الله حق التوكل في كل حال وزمان ومكان.
6 – الرزق:
ومن أهم آثار التوكل على الله تعالى بالنهج الذي رسمه رسول الله ﷺ حصول المتوكل على رزقه وحاجاته المعيشية، كما ورد في حديث البحث: «كالطير يغدو خماصًا ويروح بطانًا» لأن الله تعالى الذي خلق هذا الإنسان خلق معه رزقه ومعاشه من يوم ميلاده إلى يوم أجله، لقوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(8). إلا أنه جل وعلا يريد من عباده أن يسعوا في طلب ذلك الرزق ويعملوا له ويأخذوا بأسبابه، ومن ثم يطلبوا منه جل ثناؤه التيسير في ذلك السعي ودوامه والبركة فيه، يقول تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(9) حيث طلب من عباده السعي وتكفل هو بتأمين الرزق لهم.
وفي موضع آخر في كتاب الله جاء الربط واضحًا بين التوكل على الله والرزق، في قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّـهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}(10).
----------------------
(1) أخرجه البخاري ص1015، رقم 5752) كتاب الطب، باب من لم يرق. ومسلم (ص111، رقم 218) كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب.
(2) سورة الطلاق، الآية 3.
(3) سورة الطلاق، الآية 3.
(4) سورة الزمر، الآية 36.
(5) سبق تخريجه.
(6) أخرجه الترمذي (ص566، رقم 2488) كتاب صفة القيامة، باب فضل كل قريب هين سهل. وأحمد (1/ 415، رقم 3938). والطبراني في الكبير (19/ 346، رقم 10410). وابن حبان في صحيحه (2/216، رقم 470). وهو صحيح بشواهده.
(7) أخرجه البخاري (ص1054، رقم 6035).
(8) سورة هود، الآية 6.
(9) سورة الملك، الآية 15.
(10) سورة الطلاق، الآيتان 2-3.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(52)
ما يناقض التوكل على الله:
توجد أمور كثيرة تنافي حقيقة التوكل على الله تعالى وتناقضها، يقترفها كثير من الناس، بعلم أو جهل أو غير قصد، ولكنها جميعًا مخالفات شرعية كبيرة،
يترتب عليها آثام وعقوبات، ومن هذه الأمور:
1- إظهار الجزع والسخط وعدم الرضا بما قدره الله تبارك وتعالى، وهذا من الأمور الخطيرة التي تهدد النفس قبل أي شيء، من خطر اليأس والقنوط من
رحمة الله، وهذا ما يناقض حقيقة التوكل على الله، لأن هناك كثيرًا من الأمور الظاهرة التي يظنها الإنسان ضررًا وهي في الحقيقة تحمل الخير والثواب له،
وكذلك العكس، وهو معنى قوله تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}(1).
2- الذهاب للسحرة والمشعوذين والدجالين، أو التداوي بالحرام، أو التطير، وغيرها من الأمور التي تنافي التوكل على الله وتناقضه، بل إن ذلك يدخل
صاحبه في دائرة الشرك مع الله تعالى، من حيث لا يشعر، فقد يطلب المشعوذ أو الساحر من زائره أن يطأ المصحف أو يجعله في دورة المياه أو شتمه، وغير
ذلك من الوسائل الشركية والكفرية التي يجعلها شرطًا لشفائه أو إخراجه من مأزقه أو مما يعاني منه.
يقول عليه الصلاة والسلام: «من أتى عرّافًا فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة» (2).
3- عدم بذل الأسباب لتحقيق المراد، وهو ينافي حقيقة التوكل القائمة على العمل والسعي في الأرض، كالذي يطلب الرزق من غير أن يعمل، أو يطلب
الشفاء من غير أن يتداوى، فهذه الأمور تناقض سنة الله تعالى في الكون، وهذا ما دفع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينهر المتكاسل عن العمل ويأمره
بالسعي والحركة، ثم يدعو الله بالرزق الحلال، وقد قال له مقولته المشهورة: إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة.
4- الشك في اليقينات القرآنية أو النصوص النبوية الواردة في حقيقة التوكل وآثاره على حياة الإنسان، وهذا لا يناقض التوكل فحسب، بل يخرج صاحبه
من الملة، ويحل به ما حلّ بقارون وأمثاله.
5 – التملق الزائد الذي يخرج عن حدود الآداب العامة والعادات المألوفة، كالذي يجعل جلّ تفكيره وهمّه في الحياة إرضاء مسؤوله في العمل أو الوزير أو
صاحب الجاه، أو غيره من أجل أن يغدق عليه ببعض المتاع أو المال، وكأن هذا الوزير أو الغني هو المتكفل برزقه وبقائه، وهذا يناقض حقيقة التوكل التي
تربط الإنسان بملك الملوك وأغنى الأغنياء الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجعون.
-----------------------
(1) سورة البقرة، الآية 216.
(2) أخرجه مسلم (ص990، رقم 2230) كتاب السلام، باب الكهانة.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(53)
توصيــــات:
وأخيرًا فهذه بعض الوصايا لأولئك القوم الذين ابتلاهم الله تعالى بالعجز أو المرض أو الفقر أو غيرها من الابتلاءات، من أجل أن يصبحوا عناصر إيجابية فاعلة في أنفسهم وأهليهم ومجتمعهم، وهي في الوقت نفسه عوامل معينة على تقوية التوكل على الله تعالى:
1 – تجديد الشعور مع الله تعالى: وذلك بالتواصل المستمر مع الله، وتقوية العلاقة معه في التقرب إليه بالطاعات والدعاء والذكر، وقراءة القرآن وغيرها من العبادات، حتى تستقر النفس، لتنطلق بعدها للحياة بوجه آخر مختلف عما كانت عليه في السابق.
2 – ترك الأسباب المحرمة: وذلك بتبديلها بالأسباب المباحة والمشروعة، التي بيّنها الشرع وأقرّها العلماء، مثل ترك التداوي بالحرام والمعاصي من شرب
للخمور أو تناول للمخدرات، أو الوقوف على أبواب المشعوذين والسحرة، وإبدال ذلك باللجوء إلى الله تعالى والوقوف على بابه، فهو أرحم بعباده من
أنفسهم وذويهم وجميع الخلق، فلا يرد دعوة عبده المنيب إليه بصدق وإخلاص.
3 – الاعتقاد أن الخير فيما قدره الله وإن كان ظاهره غير ذلك، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
4 – اتباع سبل الخير وملازمة أهل الخير، وذلك بتقوية الإرادة وإخراجها من دائرة العجز والكسل إلى ميدان الحركة والنشاط، لأن الحياة قائمة على السعي
من أجل إحقاق الحق ونشره وإبطال الباطل ودحره.
6 – القيام بالأعمال المقدور عليها وعدم تركها، وإن كانت يسيرة، أو كانت ثمرتها بعيدة المنال، يقول عليه الصلاة والسلام: «إن قامت الساعة وبيد
أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها، فليفعل» (1).
* * *
بهذه الصورة يتمكن الإنسان أن يؤدي دوره الحقيقي في الحياة، من خلال التوكل على الله تعالى وفق المنهج الذي رسمه رسول الله ﷺ في حديث البحث، وينتقل من مرحلة الكسل والعجر والاتكال على الأماني والأوهام إلى مرحلة العمل والجد والإبداع في واقع الحياة.
---------------------------------
(1) أخرجه أحمد (3/191، رقم 13004). والبخاري في الأدب المفرد (ص168، رقم 479).
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(54)
محبة الله تعالى
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ الله وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لله، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» (1).
مفهوم المحبة:
في اللغة: أشار ابن القيم رحمه الله تعالى إلى عدة معان لمفهوم المحبة في اللغة فقال:
«وهذه المادة تدور في اللغة على خمسة أشياء:
أحدها: الصفاء والبياض، ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حَبَبُ الأسنان.
الثاني: العلو والظهور، ومنه حَبَبَ الماء وحبابه، وهو ما يعلوه عند المطر الشديد، وحَبَبَ الكأس منه.
الثالث: اللزوم والثبات، ومنه: حَبَّ البعير وأحبَّ إذا برك ولم يقم.
الرابع: اللب، ومنه: حبة القلب، للُبّه وداخله، ومنه: الحبّة، لواحدة الحبوب، إذ هي أصل الشيء ومادته وقوامه.
الخامس: الحفظ والإمساك، ومنه: حِبُّ الماء: للوعاء الذي يُحفظ فيه ويمسكه، وفيه معنى الثبوت أيضًا» (2).
وأما في الاصطلاح فإن المحبة: هي ميل القلب نحو شيء معين، وظهور أثر ذلك في سلوك المحب.
-----------------------
(1) أخرجه البخاري (ص6، رقم 16) كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان. ومسلم (ص40، رقم 43) كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بها وجد حلاوة الإيمان.
(2) مدارج السالكين، للإمام ابن القيم، 3/ 9.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(55)
أقسام المحبة - محبة الله تعالى لعبده
أقسام المحبة:
تنقسم المحبة إلى عدة أقسام:
1 – محبة الله تعالى:
ويمكن تقسيم هذه المحبة إلى قسمين:
- محبة الله تعالى لعبده:
إن محبة الله تعالى لعبده صفة من صفات الله تعالى لا تحتاج إلى تأويل أو تعطيل، كتأويل بعضهم على أنها الإحسان إليه، وهو مخالف للأدلة الصريحة من
الكتاب والسنة، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّـهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(1). وقوله تعالى: {وَاللَّـهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}(2)،
وقوله جل ثناؤه: { وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(3)، والآيات القرآنية كثيرة في إثبات هذه المحبة.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرّب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه،
ولا يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته» (4).
------------------------------------------------------
(1) المائدة [54].
(2) آل عمران [146].
(3) البقرة [195].
(4) أخرجه البخاري (ص1127، رقم 6502) كتاب الرقاق، باب التواضع.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(56)
- محبة العبد لربه:
وهي من المحاب الواجبة على العبد، ومن دونها لا يتحقق الإيمان الحق، وقد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة على وجود هذه المحبة ووجوبها، كقوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا وَأَنَّ
اللَّـهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}(1)، وقوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2).
وعن أنس رضي الله عنه: أن رجلاً سأل النبي ﷺ عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: «وماذا أعددت لها؟» قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله،
فقال: «أنت مع من أحببت» قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي ﷺ: «أنت مع من أحببت» (3).
وفي حديث آخر، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً على عهد النبي ﷺ كان اسمه عبدالله، وكان يلقِّب حِمَارًا، وكان يضحك رسول الله ﷺ،
وكان النبي ﷺ قد جلده في الشراب، فأُتيَ به يومًا، فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي ﷺ: «لا تلعنوه،
فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله» (4).
-----------------------------------
(1) البقرة [165].
(2) آل عمران [31].
(3) أخرجه البخاري (ص619-620، رقم 3688) كتاب فضائل أصحاب النبي ﷺ، باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ومسلم (ص1149، رقم 2639) كتاب البر والصلة.
(4) أخرجه البخاري (ص1169، رقم 678) كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(57)
2 – محبة الرسول ﷺ:
إن محبة الرسول ﷺ من المحاب الواجبة التابعة لمحبة الله تعالى، لقوله جل ثناؤه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1) .
وبهذا فإن هذه المحبة من مقتضيات الإيمان، فلا معنى لإيمان العبد من غير هذه المحبة، كما قال ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده
وولده والناس أجمعين» (2). وفي حديث آخر رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب
إليه من والده وولده» (3).
فتدل هذه الأحاديث دلالة صريحة على وجوب محبة الرسول ﷺ وأنها من مستلزمات الإيمان.
وقد جاءت الأدلة من كتاب الله تعالى على وجوب هذه المحبة وتفضيلها على المحاب الدنيوية الأخرى، كما في قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ
اللَّـهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(4) .
فمن فضّل محبة هذه الأشياء المذكورة في الآية على محبة الله ورسوله ﷺ فإن الله تعالى توعّده بأمرين: تربص العذاب والعقاب، وكذلك تصنيفهم من الفاسقين.
كما يقول تبارك وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِين َ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(5) .
وهذا يعني أن الرسول ﷺ يجب أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه، وقد بيّن ابن القيم رحمه الله من خلال هذه الآية أنه من لم يكن الرسول عليه الصلاة
والسلام أحب إليه من نفسه فقد عرض نفسه للوعيد الشديد، موضحًا في هذه الأولوية أمرين مهمين:
1- «أن يكون – الرسول ﷺ – أحب إلى العبد من نفسه، لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره ومع هذا يجب أن يكون الرسول
أولى به منها، وأحب إليه منها، فبذلك يحصل له اسم الإيمان.
ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه.
2- ألا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً، بل الحكم على نفسه للرسول ﷺ يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له
في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها» (6).
------------------------------
( 1) آل عمران، الآية 31.
( 2) أخرجه البخاري (ص6، رقم 15) كتاب الإيمان، باب حب الرسول ﷺ من الإيمان. ومسلم (ص41، رقم 44) كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله أكثر من الأهل.
( 3) أخرجه البخاري (ص6، رقم 14) كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله أكثر من الأهل.
(4 ) التوبة، الآية 24.
( 5) الأحزاب، الآية 6.
( 6) الرسالة التبوكية، لابن القيم. مراجعة الشيخ عبدالظاهر أبي السمح، ط1، المطبعة السلفية، مكة المكرمة، 1347هـ، ص 21-22.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(58)
3 – محبة سائر الخلق:
وهذه من المحاب المستحبة التي يأنس بها الإنسان ويفرح بوجودها، حيث يجد فيها كثيرًا من عوامل القوة والثبات في الحياة وهي في مجملها محاب فطرية خلق
الإنسان عليها، أو أنها وُجدت حين خلق الإنسان على هذه الأرض، ومن الأمثلة على هذه المحبة:
- محبة النفس التي هي من الفطرة، والنفس قد صانها الإسلام وحفظها وجعل لها مكانة عالية، فلا تزهق ولا يعتدى عليها إلا بحق، ومن بذلها في سبيل الله نال درجة الشهداء.
- محبة الولد والأهل والقرابة، لأنها السبيل إلى تكوين مجتمع قوي متماسك.
- محبة الزوجة، وهي التي تنشأ بعد الزواج حين يتآلف قلباهما وتتقارب مشاعرهما، فيؤثر ذلك على حال الأسرة وسلوكها، وهي آية من آيات الله لقوله جل
ثناؤه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(1) .
- محبة الصديق أو الصاحب، وهي ناتجة عن تآلف الأرواح كما قال عليه الصلاة والسلام: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (2).
- محبة الحيوانات أحيانًا، وهي من الفطرة ومن الرحمة التي أودعها الله تعالى في نفوس عباده نحو هذه الكائنات المسخرة للإنسان، حيث تتحقق الألفة بينهم
كما هي الحال مع بعض الخيول والطيور وغيرها.
4 – محبة الأشياء:
وهي كثيرة، كمحبة الخضرة والماء، أو النظر إلى مكونات الكون والتأمل فيها، أو حب الهوايات المتنوعة كالقراءة أو الرسم أو الخط أو ممارسة بعض أنواع
الرياضة والنشاطات الأخرى.
---------------------------------------
(1) سورة الروم، الآية 21.
(2) أخرجه البخاري (ص554، رقم 3336) كتاب أحاديث الأنبياء، باب الأرواح جنود مجندة. ومسلم (ص1149، رقم 2138) كتاب البر والصلة، باب الأرواح جنود مجندة.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(59)
المحاب الممنوعة:
ويمكن تقسيم هذا النوع من المحاب إلى قسمين:
1 – محبة المعصية:
وهي محبة ما نهى الله عنه من الأقوال والأفعال، وتفضيلها على ما أمر بها من المحاب، وذلك مثل محبة الزنا والربا وشرب الخمر والسرقة والظلم وغيرها من
المعاصي وتفضيلها على الفضيلة والاستقامة والعدل، وهذا اللون من المحبة ممنوع، لأنها مدخل إلى دائرة الفعل والعمل الذي يستوجب بعدها العقوبة في
الدنيا والعذاب في الآخرة.
وقد ذكر الله تعالى هذه المحبة في مواطن كثيرة من كتابه المبين على أنها محبة حقيقية حين تظهر آثارها الواقعية على الأرض، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(1)، وقوله تعالى عن ثمود لمّا فضّلوا حب
الضلال على الهدى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(2)، وقوله تعالى: {الَّذِينَ
يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَـٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}(3) .
2 – محبة ما هو أدنى على ما هو أعلى:
وهذا لا يعني أن محبة الأدنى محرمة، بل ربما تكون جائزة ومستحبة، ولكنها حين يجعل لها الأفضلية على ما هي أعلى تنقلب إلى محبة ممنوعة، وذلك مثل
الذي يحب نفسه، فهذه محبة فطرية كامنة في كل نفس إنسانية، ولكن تتحول هذه المحبة إلى معصية حين تُفضل على محبة الله ورسوله ﷺ، وكذلك مثل
محبة المال والأولاد والدنيا حين تسبق محبة الله ورسوله صلى الله عليه ومحبة الآخرة فإنها محبة ممنوعة يترتب عليها الحساب والعقاب، لقوله تعالى: {قُلْ إِن
كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي
سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(4).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (5).
------------------------------------
(1) التوبة [23].
(2) فصلت [17].
(3) إبراهيم [3].
(4) التوبة [24].
(5) سبق تخريجه.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(60)
المراد بالمحبة في هذا البحث:
هو محبة الله تعالى، فهي أعلى أنواع المحبة، وهي كالرأس بالنسبة للطائر يقوده في مسيره ومسبحه في الهواء.
وهذه المحبة هي مصدر التعبد لله تعالى وهي محرك مسيرة الحياة، وهي أعلى درجات الإيمان لقوله ﷺ: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون
الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحبّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (1).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «كان من دعاء داود يقول: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب
إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد» (2).
وهذه المحبة ليست اختيارية، بل هي واجبة ومن أوجب الواجبات، توعد الله على تركها فقال: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ}(3) .
ويستشعر المسلم هذه المحبة من خلال الأمور التالية:
أ – يتمثل عظمة الله تعالى من خلال الكون وما فيه من الآيات الباهرة، والسنن المنظمة، والكائنات المتكاملة في البر والبحر والسماء، وفوق كل ذلك
القوة التي تديرها والحكمة التي تكتنفها، كل ذلك من دواعي محبة الله تعالى وعبادته والتقرب إليه، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(4) .
ب – يتمثل نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى ابتداء بخلقه وسجود الملائكة له وانتهاء بإرسال الرسل إليه وهدايته إلى سواء السبيل، وما بين هذا وذاك
من النعم والنجاحات والنصر والتمكين صور من إحسان الله تعالى بعبده ورحمته عليه، فهو القائل: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ لَا
تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(5)، فكل ذلك من عوامل المحبة لله تعالى.
ويقول عليه الصلاة والسلام: «أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله إياي» (6).
يقول ابن القيم رحمه الله: «تنشأ المحبة من الإحسان، ومطالعة الآلاء والنعم، فإن القلوب جُبلت على حب من تحسن إليها، وبغض من أساء إليها، ولا أحد أعظم إحسانًا من الله سبحانه» (7).
----------------------------
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه الترمذي (ص796، رقم 3490) كتاب الدعوات، باب اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك. والحاكم (2/433، رقم 3621) وقال صحيح الإسناد.
(3) سورة التوبة، الآية 24.
(4) سورة آل عمران، الآيتين 190-191.
(5) سورة إبراهيم، الآية 34.
(6) أخرجه الترمذي (ص859، رقم 3789) كتاب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي ﷺ. وقال: هذا حديث حسن غريب.
(7) تقريب طريق الهجرتين، ص 444.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(61)
المراد بالمحبة في هذا البحث:
الجزء الثانى
ج – كما يستشعر المؤمن هذه المحبة حين يتلمس رحمة الله تعالى بعباده المذنبين، فهو الرحمن الرحيم، وهو العفو الغفور، وباب التوبة والاستغفار عنده لا
يُغلق ولا يسد، ومتى شعر الإنسان بخطئه وأناب إلى الله تعالى فإن رحمته قريبة منه، ولا ينقص ذلك من ملكه شيء، فهو القائل في محكم التنزيل: {وَمَن
يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّـهَ يَجِدِ اللَّـهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}(8).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» (9).
د – إن معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، من الأسباب التي تولد المحبة عند العبد، كالعلم والرحمة والمغفرة والقدرة والكرم، كلها عوامل تزيد من قرب الإنسان
بربه ومحبته له وتقديم العمل الصالح بين يديه، فعلى سبيل المثال حين يتقرب المؤمن إلى الله تعالى بطاعة أو عمل صالح، فإنه يجازيه أضعافًا مضاعفة، كرمًا
وتفضلاً منه جل وعلا، فهو القائل: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}(10)، وهو القائل: {مَن جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(11).
فهذه المعرفة بالله تعالى وصفاته تصنع المحبة وتزيدها، يقول ابن تيمية رحمه الله: «وأصل المحبة هو معرفة الله سبحانه وتعالى، ولها أصلان: أحدهما، وهو الذي
يقال له محبة العامة لأجل إحسانه إلى عباده، والثاني: هو محبته لما هو له أهل، وهذا حب من عرف من الله ما يستحق أن يحبه لأجله» (12).
-------------------------------------------
(8) سورة النساء، الآية 110.
(9) أخرجه مسلم (ص1196، رقم 2759) كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن كثرت الذنوب والتوبة.
(10) سورة النساء، الآية 40.
(11) سورة الأنعام، الآية 160.
(12) مجموع الفتاوى 10/ 84-85.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(62)
مقتضيات محبة الله تعالى:
إن محبة الله تعالى ليست مجرد ادّعاء بالقول، أو بعض العواطف والعبرات، وإنما مجموعة من الالتزامات والواجبات العملية تدل على صدق هذه المحبة وقوتها،
ومن أهم المقتضيات التي تلازم هذه المحبة ما يلي:
1- تقتضي هذه المحبة اتّباع شرع الله تعالى فيما أمر به وما نهى عنه، فإذا لم تترجم هذه المحبة على الواقع في المحافظة على الفروض والطاعات، والسلوك
والأخلاق، فإنها تبقى مجرد ادّعاء، وصدق الشاعر حين قال:
هذا محال في القياس بديع *** إن المحب لمن يحب مطيع
تعصي الإله وأنت تزعم حبه *** لو كان حبك صادقًا لأطعته
2- تقتضي محبة الله تعالى، حبَّ رسوله ﷺ، وحبّ سنته والعمل بها، لقوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).
كما تقتضي هذه المحبة الذود عن النبي صلى الله عليه ومناصرته بكل الإمكانات والوسائل، لا سيما في هذه الفترة التي كثرت فيها حملات الإساءة إلى
شخصه الطاهر عبر بعض الوسائل الإعلامية الغربية، الأمر الذي يفرض على الأمة بذل الجهود والأوقات لصدّ مثل هذه الهجمات المغرضة، حتى يتحقق
معنى المحبة له ﷺ، فهو القائل: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (2).
3- تقتضي محبة الله تعالى، حب القرآن الكريم، بحفظه في الصدور، وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، والعمل به وإقامة حدوده، يقول عثمان بن عفان
رضي الله عنه: «لو سلمت منا القلوب ما شبعت من كلام الله، وكيف يشبع المحب من كلام محبوبه وهو غاية مطلوبة».
وأما إهمال القرآن ووضعه على الرف وعدم تلاوته إلا في المناسبات، وعدم التحاكم إليه في أمور الحياة والخصومات، فإنه يناقض محبة الله تعالى ومقتضياتها،
بل يعدّ ذلك من الهجران الذي أخبر عنه الله في قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}(3).
4- تقتضي محبة الله تعالى، إدامة ذكره وذكر آلائه ونعمه، وكذلك شكره والثناء عليه، لأن المحبّ الصادق ينشغل جلّ أوقاته بمحبوبه، فكيف إذا كان هذا
المحبوب هو الله تعالى، خالق الكون والإنسان، الرحمن الرحيم؟!! وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين المحبين له فقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(4) .
5- تقتضي محبة الله تعالى محبةَ عباده الصالحين، وبغض العصاة والفاسدين والظالمين، لقوله ﷺ: «أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله».
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من أسباب النجاة والتظلل في ظل الله تعالى في ذلك الموقف العصيب هو الحب في الله تعالى، فقال: «سبعة يظلهم الله
في ظله يوم لا ظل إلا ظله... ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه» (5).
ولا تنافي محبة الله تعالى محبة الآخرين، بل هي تقتضيها وتحث عليها ما دامت على المنهج السليم ووفق الضوابط الشرعية، بحيث لا تكون في معصية أو
فساد أو ظلم أو غير ذلك من المحرمات.
6 – كما تقتضي محبة الله العمل الصالح، الذي أمر به والمسارعة بقيامه، وعدم التكاسل أو الفتور عنه.
--------------------------------
(1) سورة آل عمران، الآية 31.
(2) سبق تخريجه.
(3) سورة الفرقان، الآية 30.
(4) سورة آل عمران، الآية 191.
(5) أخرجه البخاري (ص107، رقم 659) كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد بعد الصلاة. ومسلم (ص415، رقم 1031) كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(63)
من يحبّهم الله تعالى؟
إن الله تعالى يحب عباده المؤمنين الصادقين، الذين يأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه، كل حسب مستوى إيمانه وما يقدمه بين يديه من الطاعة والعمل
الصالح، ولا يمكن بحال الإشارة إلى جميع الأصناف التي يتحلون بهذه التعاليم والصفات، ولكن يمكن الإشارة إلى بعضهم الذين ذكرهم الله تعالى بشأنهم
التعبير الصريح في الدلالة على محبته لهم، وكذلك ما أشار إليهم الرسول صلى الله عليه في بعض أحاديثه، وهؤلاء هم:
1- التوّابون الصادقون الذين ينيبون إلى الله تعالى بعد الغفلة والعصيان، وكذلك المتطهرون من جميع الأدران والأنجاس النفسية والجسدية والفكرية، لقوله
تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ}(1) .
2- المتبعون لهدي النبي ﷺ، لقوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2) .
3- الصابرون في البأساء والضراء، لقوله تعالى: {وَاللَّـهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}(3).
4 – المحسنون إلى الناس في الأفعال والأقوال، لقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(4).
5 – المتوكلون على الله حق توكله، لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ}(5).
6 – المتّقون الله تعالى في السر والعلن، لقوله تعالى: {بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(6).
7 – المقسطون والعادلون في الحكم بين الناس، لقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(7)، وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ
لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّـهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(8) .
8 – المجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، لقوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّـهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(9).
9 – الشاكرون لنعم الله وآلائه التي لا تعد ولا تحصى، لقوله ﷺ: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» (10).
10 – الكرماء من الناس، والطيبون والنظيفون، ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله جميل يحب الجمال» (11)، وفي
حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ رأى رجلاً وسخة ثيابه فقال: «أما وجد هذا ما ينقي ثيابه» (12).
11 – الحامدون المثنون على الله تعالى، لقوله ﷺ: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها» (13).
12 – المتْقنون لأعمالهم التعبدية والدنيوية، لقوله ﷺ: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» (14).
13 – الرفقاء مع الناس وجميع الأشياء، لقوله ﷺ لعائشة رضي الله عنها: «يا عائشة، إن الله عز وجل يحبّ الرفق في الأمر كله» (15).
14- المتسامحون في البيع والشراء، لقوله ﷺ: «إن الله يحب سمح البيع سمح الشراء سمح القضاء » (16).
---------------------------
(1) البقرة [ 222].
(2) آل عمران [31].
(3) آل عمران [ 146]
(4) البقرة [195].
(5) آل عمران [159].
(6) آل عمران [76].
(7) المائدة [42].
(8) الحجرات [9].
(9) الصف [4].
(10) أخرجه البخاري (ص856، رقم 4836) كتاب التفسير. ومسلم (ص1227، رقم 2819) كتاب صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال.
(11) أخرجه مسلم (ص54، رقم 91) كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه.
(12) أخرجه أبو يعلى (4/23، رقم 2026) وهو حديث صحيح.
(13) أخرجه الترمذي (ص428-429، رقم 1816) كتاب الأطعمة، باب ما جاء في أكل الجراد. وقال: هذا حديث حسن.
(14) أخرجه أبو يعلى في مسنده (7/349، رقم 4386).
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(64)
من يبغضهم الله؟
إن الله تعالى يبغض جميع الذين لا يأتمرون بأمره ولا ينتهون عما نهى عنه، ويتفاوت هذا البغض حسب المعصية والمخالفة التي يرتكبها العبد، ولكنه جلّ وعلا أشار في كتابه العزيز إلى بعض الأصناف إشارة صريحة في بغضهم وعدم الرضى عنهم، وبعض هؤلاء هم:
1– الكفار والمشركون، وهم الذين كفروا بالإسلام واتخذوا من دون الله أندادًا من البشر أو الحجر أو الشجر أو المذاهب والأفكار، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}(1).
2– الظالمون المتجبرون، لقوله تعالى: {وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(2).
3– الذين يجهرون بالسوء من القول، لقوله تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّـهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}(3).
4– المعتدون على حرمات الله تعالى وحرمات الناس، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(4).
6– الخائنون للعهود والمواثيق لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}(5).
7– المفسدون في الأرض الذين ينشرون الشرّ والخبائث بين الناس ويمنع نشر الخير والفضيلة، لقوله تعالى: {وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(6).
8– المتكبرون الذين يتعالون على عباد الله وعلى الحق والهداية، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}(7).
9– المسرفون للأموال والطاقات في غير مواضعها، لقوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(8).
10 – الفرحون الغافلون عن ذكر الله، لقوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ
إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}(9).
----------------------------------
(1) البينة، الآية 6.
(2) آل عمران، الآية 57.
(3) النساء، الآية 148.
(4) البقرة، الآية 190.
(5) الأنفال، الآية 58.
(6) المائدة، الآية 64.
(7) النساء، الآية 36.
(8) الأنعام، الآية 141.
(9) القصص، الآية 76.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(65)
آثار محبة الله تعالى:
إنَّ لمحبة الله تعالىٰ آثارًا إيجابية كثيرة في الدنيا والآخرة، منها:
1 – البلوغ إلى أعلى المنازل وهو مصاحبة الرسول ﷺ في الجنة، لحديث أنس رضي الله عنه: «أن رجلا من أهل البادية أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله
متى الساعة قائمة؟ قال: ويلك وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله قال: إنك مع من أحببت. فقلنا: ونحن كذلك؟ قال: نعم
ففرحنا يومئذ فرحًا شديدًا» (1).
2 – بلوغ أعلى درجات الإيمان لقوله ﷺ: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (2).
3 – التوفيق والتسديد في الحياة، والنجاة والفلاح في الآخرة، لما ورد في الحديث القدسي: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما
تقرّب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به،
ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره
الموت وأنا أكره مساءته» (3).
4 – إن محبة الله تعالى من أسباب استجابة الدعاء، كما ورد في الحديث السابق: «وإن سألني لأعطينه».
5 – إن محبة الله تعالى تحفظ صاحبها من الشرور الشيطانية والنفسية، كالخوف واليأس والقنوط والهم، والوسوسة وغيرها، كما جاء في الحديث القدسي
السابق: «ولئن استعاذني لأعيذنه». وهو تصديق لقوله تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ}(4).
6 – بلوغ أعلى الصفات الخُلقية ونيل الطموحات العالية، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّـهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(5).
7 – إن محبة الله تعالى تجلب محبة أهل السماء والأرض لحديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحببه،
فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» (6).
8 – إن محبة الله تعالى تحقق لصاحبها بشارة في الدنيا، حيث توضع له إشارته في الدنيا قبل الآخرة لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: «قيل لرسول الله
ﷺ: أرأيت الرجلَ يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن» (7).
كانت تلك بعض الآثار المترتبة على محبة الله تعالى في حياة المؤمن وبعد مماته، ولكن تمتد هذه الآثار وتتعدد لتشمل جميع أنواع الحفظ والتوفيق والنجاة
لصاحبها، الأمر الذي يدفع الإنسان للاجتهاد والسعي من أجل الوصول إلى هذه المحبة بمفهومها الصحيح، والعمل بمقتضياتها.
---------------------------------------
(1) أخرجه البخاري (ص618، رقم 3688) كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر. ومسلم (ص1149، رقم 2639) كتاب فضائل الصحابة، باب المرء مع من أحب.
(2) أخرجه أبو داود (ص661، رقم 4681) كتاب السنة، باب في الدليل على زيادة الإيمان. وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه البخاري (ص1127، رقم 6502).
(4) سورة آل عمران، الآية 111.
(5) سورة المائدة، الآية 54.
(6) أخرجه البخاري (ص536، رقم 3209) كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة. ومسلم (ص1148، رقم 2637) كتاب البر والصلة، باب إذا أحب الله عبدًا أمر جبريل فأحبه وأحبه أهل السماء.
(7) أخرجه مسلم (ص1151، رقم 2642) كتاب البر والصلة، باب إذا أثني على الصالح فهي بشرى ولا تضره.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(66)
وأخيرًا المحبة وأثرها النفسي وقاية وعلاجًا:
فإن محبة الله تعالى من مقتضيات الإيمان به جلّ وعلا، حيث يزداد الإيمان وينقص بمدى قوة هذه المحبة وضعفها، ومن أجل ديمومة هذه المحبة وقوتها، لا بد
من الحصول على أسبابها، من المحافظة على الفروض والواجبات وأدائها في أوقاتها بأحسن أداء، وكذلك الإكثار من الدعاء والذكر وتلاوة القرآن
والاستغفار، إضافة إلى التأمل والتفكر في الكون وما فيه من آيات وآلاء، لأن ذلك من الأسباب التي تقرّب العبد إلى خالقه، وتقوي أواصر العلاقة به جل
شأنه، وبالتالي تنشأ محبة الله في نفس العبد بأجلى صورها وأقوى معانيها، الأمر الذي يجعل حياته كلها سعادة وحبورا، ونجاحًا وتوفيقًا، وطمأنينة وسكينة،
وهي من أسمى الغايات التي يسعى المؤمن لتحقيقها في في الدنيا.
فإذ كان ذلك كذلك تهون عند الإنسان مصائب الدنيا، بل يعلو عليها ويراها صغيرة، وكلما تذكرها زادته قوة وحيوية وسيطرة على العوارض النفسية،
أرأيت كيف يبذل المحب لمن أحب من والد وولد، وزوجة وقريب، كيف يبذل لهم الغالي والنفيس ويسترخصه، وذلك لحبهم لهم، فكيف إذا أحب العبد
ربه؟ لا شك أن الأمر أعظم وأجلّ، فلنحقق هذا في جميع شؤون حياتنا وأحوالها.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(67)
الخوف من الله تعالى
الخوف من الله وعقابه، ورجاء رحمته، عبادتان متقابلتان لا يجوز أن تنفك واحدة عن الأخرى، ولا تتم آثارهما الإيجابية إلا باجتماعهما كجناحي الطائر
حال طيرانه، فلا يستطيع الطيران إلا بهما، ومن هنا نتناولهما جميعًا، نبدأ بالخوف من الله.
ومنطلق هذا البحث هو حديثان رواهما الترمذي رحمه الله:
الأول: قَال حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ المُهَاجِر،ِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ مُوَرِّقٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله ﷺ:
«إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لله وَالله لَوْ تَعْلَمُونَ مَا
أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى الله لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ» (1).
الثاني: قَال حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر،ِ حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ فَيْرُوزَ قَال
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ الله الجَنَّةُ» (2).
حقيقة الخوف:
الخوف المقصود به هنا هو الخشية من الله تعالى وعذابه وعقابه ووعيده، وليس الخوف بمعناه العام الذي يدخل فيه الخوف الجبلي، أو الخوف من الأشخاص والأشياء.
علاقة الخوف بالرجاء:
فقد سبق أوضحنا في افتتاحية هذا العنصر، أن عمل الإنسان يجب أن يأخذ مساري الخوف والرجاء معًا، في التعامل مع الله تعالى، لأن طغيان أحدهما
على الآخر يدخل صاحبه في دوامة القلق والاضطراب وعدم الاستقرار وبالتالي الضعف والخمول في سائر أعماله، وإن الاستسلام للخوف وحده والغفلة
عن الرجاء من الله تعالى أمر في غاية الخطورة على سلامة الإنسان عقديًا، لأن الله تعالى أمر عباده بالرجاء والخوف معًا، ووصف أولئك الذين يسلكون
هذين المسلكين بقوله تعالى: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(3).
ويمثّل الخوف الجناح الآخر للطائر كما وصف ابن القيم رحمه الله الإنسان َ به بقوله: «الإنسان مثل الطائر، الرأس هو المحبة، والجناحان أحدهما الرجاء
والآخر الخوف» (4).
--------------------------------
(1) أخرجه الترمذي (ص530، رقم 2312) كتاب الزهد، باب قول النبي ﷺ: لو تعلمون ما أعلم. وأحمد (5/173، رقم 21555).
(2) أخرجه الترمذي (ص558، رقم 2450) كتاب صفة القيامة، باب في ثواب الإطعام والسقي.
(3) سورة السجدة، الآية 16.
(4) مدارج السالكين (2/ 36).
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(68)
الأدلة على الخوف من الله
أقسام الخوف:
يمكن تقسيم الخوف إلى عدة أقسام، منها:
الأول: الخوف من الله تعالى:
والخوف من عقابه وعذابه عند التقصير في العبادات والفرائض وهو مطلب ضروري للإنسان في الحياة، وهو من صفات المؤمنين الصادقين، لقوله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(1). لأن الشعور بالخوف من الخالق جل وعلا
يوصل الإنسان إلى تحقيق العبودية الصحيحة له جلّ وعلا، وبالتالي يؤثر على سلوكه وأخلاقه وقيمه فيقوّمها نحو البرّ والخير.
بل إن الخوف من الله تعالى واللجوء إليه فطرة في النفس الإنسانية، يتحرك بين الظهور والاختفاء، حسب حال الإنسان وإيمانه وعقيدته، ولكنه يظهر
بوضوح عند الشدائد والمحن والأزمات، لا سيما إذا تعرضت حياة الإنسان للخطر المحدق أو لمصيبة كبيرة، يقول تبارك وتعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا
اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}(2).
الأدلة على خوف الله:
وردت آيات كثيرة في كتاب الله تأمر الناس بالخوف من خالقهم وترك ما دون ذلك من أنواع الخوف كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ
أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(3) وقوله جلّ وعلا {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}(4) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ}(5) وغيرها من
الآيات القرآنية.
--------------------------
(1) الأنفال [2].
(2) العنكبوت [65].
(3) آل عمران [175].
(4) البقرة [40].
(5) المؤمنون [57].
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(69)
عوامل تقوية الخوف من الله:
ولعل من أهم العوامل والأسباب التي تولد الخوف من الله تعالى بالصورة التي يريدها الله تعالى هو:
1- معرفة هذا الخالق في صفاته وأسمائه واستشعار عظمته جل وعلا، وذلك من خلال التفكر في كونه وخلائقه وصنعة إبداعه في ذلك والنظام الذي
يسير كل عالَم من هذه العوالم عليه من غير خلل أو اضطراب، وهذا الاستشعار يولد في النفس رهبة هذا الخالق وعظمته، وكلما أدرك الإنسان هذه العظمة
كلما ازداد إيمانًا ويقينًا بالله تعالى وازداد قربًا وعبادة وطاعة له جل ثناؤه، ومن أجل ذلك كان العلماء أشدّ خشية لله، لأنهم عرفوا الحقائق الكونية
والإبداعية لخالقهم أكثر من غيرهم، يقول تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(1).
2 – تدبر آيات الوعيد التي توعد الله العصاة والمعتدين، لما في هذه الآيات من تقريع وتخويف للنفس، حيث تقربّها من الطاعة وتبعّدها من المعصية، كقوله
تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ}(2) .
3 – العلم بالله تعالى وبرسوله ﷺ، وبدينه وكتابه وشريعته، التي يعرف العبد من خلالها العبد الحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والطيب والخبيث، وجميعها
من الأسباب التي تزيد من خوف العبد من الله تعالى.
4– تأمل أحوال الكفار والعصاة الذين ذكرهم الله في كتابه من الأمم السابقة، كما في قوله تعالى في عاد وثمود: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ. فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ
عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ. وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ}(3) .
5– تدبّر النار وشدة عذابها، كما جاء في قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}(4)، وفي قوله تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ
جَهَنَّمَ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ. تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۖ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَىٰ قَدْ
جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّـهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ}(5).
----------------------------------------------
(1) سورة فاطر، الآية 28.
(2) سورة طه، الآية 124.
(3) سورة فصلت، الآيات 15-17.
(4) سورة الفرقان، الآية 12.
(5) سورة الملك، الآيات 6-9.
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(70)
الخوف الجبلي
وهذا النوع من الخوف مباح، لأن الإنسان مفطور عليه، وهو أمر جبلي خارج عن كسبه وإرادته، وهو ملازم لجميع البشر، كلٌّ حسب حالته النفسية والشعورية، وحسب حالة الشيء المخيف الذي يختلف أثره من إنسان لآخر، فربما يخاف إنسان من شيء ما، ويكون هذا الشيء طبيعيًا عند الآخر، ولهذا لا يمكن حصر الأشياء التي يخاف منها الإنسان جبليًا، وقد ذكر الله تعالى في كتابه المبين هذا الخوف الذي أصاب نبيه موسى عليه السلام فقال: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}(1).
وقد تعرض لهذا النوع من الخوف أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين خرج مع النبي ﷺ في الهجرة، واتبعهم المشركون إلى باب الغار، فكان يقول رضي الله عنه للنبي ﷺ: يا رسول الله والله لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لرآنا، فيقول له عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
وقد جعل الله تعالى هذا الخوف نوعًا من الابتلاء لبعض عباده ليميز الصادقين من غيرهم، وليمحص إيمانهم هل يصبرون؟ يقول تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}(2).
وإذا خرج هذا الخوف عن حدوده الجبلية والفطرية يتحول إلى مرض نفسي وحالة غير طبيعية تحتاج إلى معالجة ومتابعة، كالخوف من الفقر أو المرض أو الموت أو أو من بعض الأصوات أو من بعض المشاهد التمثيلية وغيرها.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
(1)
[القصص: 21]
(2)
[البقرة: 155]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(71)
الخوف السلبي
وهو الخوف الذي يمنع الإنسان من فعل الطاعات وعمل الخير والإحسان وغيره، أو الخوف الذي يدفع الإنسان لاقتراف المعاصي واستحقاق سخط الله تعالى وغضبه، مثل الخوف من الأصنام أو من السحرة أو من الدجالين الذين يتعاملون مع الشياطين، فيأمرون الناس بالمعاصي والكبائر كالكفر بالله أو رمي المصحف في أماكن قذرة أو غيرها من أعمالهم الكفرية.
ويعدّ هذا النوع من الخوف شركًا بالله تعالى، لأن الإنسان يعتقد من خلاله أن النفع والضر بيد هؤلاء السحرة والدجالين، فيستسلم لأفعالهم وأوامرهم، والله تعالى يقول: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}(1).
* * *
ويدخل في الخوف السلبي المجاملات المقيتة في الأمور الشرعية، كأن لم يصلِّ خوفًا من مسؤوله أو مجاملة لصديقه أن يقول عنه ملتزم أو غير متحضر، أو متشدد، وهو أمر في بالغ الخطورة حيث يقول عليه الصلاة والسلام: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكَّله الله إلى الناس«(2).
ويرجع سبب هذا الخوف إلى ضعف الإيمان عند صاحبه وقلة العبادة والذكر لديه، وكذلك الجهل بأمور الدين وأحكامه.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ
(1)
[المائدة: 4]
(2)
أخرجه الترمذي (ص550، 2414) كتاب صفة القيامة، باب عافية من التمس رضا الناس بسخط الله. وابن حبان في صحيحه (1/511، رقم 277). وهو حديث صحيح
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(72)
علاج الخوف السلبي
إذا تعرض الإنسان للخوف السلبي أو كان على وشك الإقبال عليه فإن عليه بالدواء الذي وصّى به كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ، وذلك بالأمور التالية:
1-
تقوية الإيمان بالله تعالى وقدرته وأنه قادر على كل شيء وقاهر له، وأن ليس للإنسان أمامه حول ولا قوة، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(1).
2- التوكل على الله تعالى وجعله حسيبًا في جميع الأمور والشؤون، والإكثار من قول: «حسبنا الله ونعم الوكيل»، يقول ابن عباس رضي الله عنه: «حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد ﷺ حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل»(2).
3- استشعار قضاء الله وقدره في النفس وفي الكون، واليقين التام بأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وأنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
4- دراسة سبب الخوف، فقد يكون لموقف مفاجئ، مثل لحظة حزن أو ترويع أو صدمة لخبر جلل، أو ما شابه ذلك، وكلها مداخل للشيطان إلى النفس إذا لم يستعذ الإنسان من الشيطان أثناءها، لذا؛ ينبغي أن يضع في الحسبان في عملية المعالجة لهذا الخوف أن يُبدأ بالقرآن والذكر والدعاء ومراجعة أهل العلم الشرعي وكذلك المختصين من الأطباء النفسانيين.
5- التدرب والتمرن شيئًا فشيئًا على التفاعل مع أسباب الخوف ومواقفه، وهو ما يحرر الإنسان من الخوف وأوهامه، لأن كثيرًا من الناس يجدون الخوف في بعض المواقف العادية والمألوفة لدى العامة، وهذا يحتاج إلى خوض المواجهة معها، مثل الذي يخاف ركوب الطائرة، عليه محاولة ركوبها مرات كثيرة حتى يعتاد عليها ويكسر حاجز الخوف عنده، أو مثل الذي يخاف من الموت فعليه أن يكثر من زيارة القبور وحضور الجنائز والصلاة عليها، ليتفهم حقيقة الحياة وسنة الله تعالى في هذا الكون، ليكون على استعداد مع الموت وعدم الخوف منه. وهكذا التعامل مع سائر المواقف المخيفة.
6- عدم الانزواء وهجر الحياة والناس، لأن العزلة تزيد المرض تفاقمًا وشدة، وعلى العكس فإن الاجتماع والاختلاط يخفف من وطأته وأثره على النفس.
7- الدعاء، وهو لب العبادة، وهو الحبل الذي يوصل الإنسان بربه من غير وسيط، يبث معه شكواه ومرضه إلى خالقه جلّ وعلا ويطلب منه الشفاء، وإزاحة همّ الخوف عنه، ومنحه الشجاعة والجرأة لخوض الحياة وصعابها.
وبذلك يتغلب المؤمن على كربة الخوف من الأشخاص والسحرة والأوهام وغيرها، ويتخلص من آثاره على العقل والنفس والجسد.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
(1)
[فصلت: 30].
(2)
أخرجه البخاري (ص777، 4563) كتاب التفسير، باب إن الناس قد جمعوا لكم
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(73)
آثار الخوف من الله تعالى على الإنسان
للخوف من الله تعالى آثار إيجابية كثيرة ومتعددة على الإنسان، منها:
1- إنه يبعث في النفس الشجاعة، فلا يجد الإنسان مقابل الخوف من الله تعالى خوفًا آخر من غيره، وكذلك في سائر الشؤون الحياتية، حيث يستند المؤمن إلى قوة عظيمة وركن متين، وحينها يكفيه الله تعالى أذى الشياطين وأوليائهم، وهو ما أشار إليه الرسول ﷺ بقوله: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكَّله الله إلى الناس«(1).
2- إنه يبعث في النفس روح المواجهة مع المشكلات والعقبات، فتهون لديه كل ما يعترضه في حياته الشخصية ومسيرته الحياتية والدعوية، لأنه على علم ويقين أن الحياة دار فناء وأن ما عند الله تعالى هو دار القرار، وهو التصوّر الذي تربى عليه الجيل الأول من الصحابة، حين استصغروا الدنيا واستهانوا بها جاءتهم سعيًا بين أيديهم، فخضعت الجبابرة وخارت قواهم أمام تلك الجموع الضعيفة التي خرجت من الجزيرة العربية.
3-
إنه يبعث في النفس الاعتبار والتذكر في آيات الله، وفيما يجري من أقدار الله، فتلين القلوب وتخشع لذكر الله: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ . سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ}(2).
4- إنه يمنع الإنسان من مقارفة المعاصي، والخوض في أعراض المسلمين والاعتداء عليهم وأكل الحقوق والظلم وغيره، فالإنسان الذي يخاف عاقبة الغيبة والسخرية والاستهزاء، لن يقبل على هذا الفعل أبدًا، وكذلك سائر الأعمال الممنوعة.
5- إنه يقود إلى عفو الله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ ۖ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}(3)، ويقول النبي ﷺ: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة»(4).
6-
إنه يقوي الإيمان: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(5).
7-
إنه يمنع الخوف السلبي والمذموم، لما يترتب على الخوف السلبي من عقوبة زاجرة، لا سيما إذا صار في دائرة الشرك التي سبق ذكرها، فإن الخوف من الله تعالى يردع الإنسان من ذلك ويجعل خوفه دائمًا من الله وحده دون سواه، وهو ما عبّرت عنه الآية القرآنية: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}(6).
8- إنه يقود صاحبه إلى الجنة لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}(7) وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}(8).
* * *
وأخيرًا:
على الإنسان أن يكون على دراية ويقين أنه أمام جبروت الله تعالى وقوته وعظمته، وأنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وأن الأمر في الأول والآخر يؤول إليه، فلا داعي للخوف من غيره من الإنس أو الجان، أو من أي مخلوق آخر، ثم إن استشعار هذه القوة الإلهية يجعل المرء في حالة ترقب دائمة مع نفسه، فيمنعها من اقتراف المعاصي وجلب أسباب غضب الله وسخطه، بل يدفعه أن يقدم بين يدي ربه من العبادات والطاعات وأفعال الخير المختلفة، وجميع ما تستقيم عليه حاله، ثم إن هذا الاستشعار يحرر الإنسان من القلق والاضطراب والهم والحزن، ويدفع عنه وساوس الشياطين وهمزاتهم.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
(1)
سبق تخريجه
(2)
[الأعلى: 9، 10]
(3)
[يس: 11]
(4)
سبق تخريجه
(5)
[آل عمران: 175]
(6)
[المائدة: 4]
(7)
[الرحمن: 46]
(8)
[النازعات: 40]
-
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(74)
الرجاء
سبق معنا في مبحث شعيرة الخوف أن الخوف والرجاء شعيرتان متقابلتان، يجب أن يسير معهما العبد مثل مسيرة الطائر حال طيرانه بجناحين لا يغني أحدهما عن الآخر، وقد سبق الحديث عن الخوف، وندخل في الرجاء مستفتحين بما رواه الإمام الترمذي رحمه الله بسنده – وهو من أعظم أحاديث الرجاء-:
عن أنس بن مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ:»قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِ ي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَة«(1).
مفهوم الرجاء:
في اللغة: رَجاه رَجْوًا، ورُجُوًا، ورَجاءً، ورَجاةً، ورَجاءَةً، ورَجاوَةً، ومَرْجاةً: أمَّله. فهو راج، والشيءُ مَرْجُوٌّ. وهي مَرْجوَّةٌ. وفي التنزيل: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}(2)(3).
في الاصطلاح:
هو العمل في الحياة بالمنهج الذي رسمه الشرع، والطمع في قبوله عند الله تعالى وما يترتب عليه من الجزاء الأخروي.
وهذا يعني أن الرجاء يستند إلى ركنين أساسيين: الأول: العمل، والثاني: الطمع في تحقق المطلوب.
مثل المريض حين يراجع الطبيب طلبًا للشفاء والمعافاة. وكذلك المؤمن الذي يقوم بمقتضيات توحيد الله تعالى ويعمل صالحًا لينال النجاة والجنة في الآخرة.
* * *
علاقة الرجاء بالخوف:
لا يستقيم عمل الإنسان، ولا تستقر نفسه في الحياة إلا إذا عمل ضمن مجال الرجاء والخوف معًا، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، فهما خطان متوازيان في حياة الإنسان، إذا أخذ الإنسان بأحدهما دون الآخر فإنه يضلّ عن سواء السبيل، ويهتز استقراره النفسي، لأن الإنسان حينما يترك جانب الخوف من الله تعالى ومن عذابه، ويبرر كل أعماله وسلوكياته المنحرفة برحمة الله وعفوه، بأنه الرحمن الرحيم، يتجاوز عن عباده بتلك الرحمة، فإن هذا التصور وما تنطوي عليه من المعاصي والمنكرات، يجعل حياة صاحبه ضربًا من التخبط واللاوعي مع دين الله تعالى، وإلا فلماذا أرسل الله نبيه ﷺ بهذا الدين، أليس من أجل التعبد به والسير على ما شرعه من أمر ونهي؟
وكذلك الحال بالنسبة للإنسان الذي ينتهج مسلك الخوف من الله تعالى وحده في وجوده في الحياة، فإنه أيضًا يضطرب ويصيبه الهلع الدائم من نتائج أعماله في الحياة ويتصور عذاب الله لاحق به لا محاله من جراء ما يقع فيه من الخطايا وما يقترف من منكرات، دون أن يضع في الحسبان رحمة الله وعفوه وغفرانه وتجاوزه عن عباده المؤمنين، وبهذا فإنه يضع نفسه في زاوية ضيقة ومظلمة لا يرى فيها سعادة ولا راحة سوى القلق والخوف.
أما التصور الإسلامي الصحيح نحو الرجاء والخوف، هو تلازم هذين الجانبين في حياة الإنسان، لأن الله تعالى الذي وصف نفسه بأنه شديد العقاب على الكافرين وعلى العصاة المنغمسين في محاربة دينه وأوليائه، فإنه في الوقت نفسه رؤوف رحيم بعباده المؤمنين الذين يؤدون ما فُرض عليهم من الواجبات، وينتهون عما نُهوا عنه من المعاصي والموبقات، وهو ما عبّر عنه الله تعالى بقوله: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(4).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ
(1)
أخرجه الترمذي (ص806-807، رقم 3540) كتاب الدعوات، باب الحديث القدسي: إنك ما دعوتني. وأحمد (5/ 167، رقم 21510). وحسنه الألباني.
(2)
[نوح: 13]
(3)
المعجم الوسيط 1/ 333 مادة (رَجَاهُ).
(4)
[السجدة: 16]