التمذهب الفقهي دراسة لا ديانة: (للنقاش)
فرق بين التمذهب للدراسة وبين التمذهب للتعبد والديانة، فلا يستقيم وصف أي من المذاهب الأربعة بأنه الأصح على وجه العموم، وإنما يمكن إطلاق ذلك في بعض الجزئيات والمسائل بحسب الدليل، فنقول ـ مثلًا: إن المسألة الفلانية الأصح فيها مذهب مالك أو الشافعي... وهكذا.
يقول الطوفي في شرح مختصر الروضة: (مَنْ نَفَى التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ: لَا يَصِحُّ تَرْجِيحَ مَجْمُوعِ مَذْهَبٍ عَلَى مَجْمُوعِ مَذْهَبٍ آخَرَ لِمَا ذَكَرَ، وَمَنْ أَثْبَتَ التَّرْجِيحَ بَيْنَهُمَا، أَثْبَتَهُ بِاعْتِبَارِ مَسَائِلِهَا الْجُزْئِيَّةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الْحَدَثِ طَهُورٌ أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ طَهُورٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهَا أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ فِي أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي إِجْزَاءِ الْبَعِيرِ عَنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَنَحْوهَا مِنَ الْمَسَائِلِ أَرْجَحُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي طَهَارَةِ الْأَعْيَانِ بِالِاسْتِحَالَ ةِ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الْقَابِلَةِ لِلرُّجْحَانِ وَالْمَرْجُوحِي َّةِ). اهـ
وجاء في المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران: (فَلَا يُقَال مَذْهَب الشَّافِعِي مثلا أرجح من مَذْهَب أبي حنيفَة أَو غَيرهمَا أَو بِالْعَكْسِ لَكِن هَذَا بِاعْتِبَار مَجْمُوع مَذْهَب على مَجْمُوع مَذْهَب آخر وَأما من حَيْثُ الْأَدِلَّة على الْمسَائِل فالترجيح ثَابت). اهـ
وكلام الأئمة في ذم التعصب المباعد عن الدليل لا يحصى ولا ينحصر، وقد ظهرت نبتة تدعوا للعودة للتدين بالمذهب دون الحيد عنه، بل وتذم من فعل غير ذلك حتى وصل الحال ببعضهم بوصفه آراء الشيخ الألباني: (شذوذات الألباني)، فما قولكم بارك الله فيكم؟
رد: التمذهب الفقهي دراسة لا ديانة: (للنقاش)
قال الكمال بن الهمام: (لو التزم مذهبًا معينًا كأبي حنيفة أو الشافعي؛ فهل يلزمه الاستمرار عليه، فلا يعدل عنه في مسألة من المسائل؟
قيل: يلزم؛ لأنه بالتزامه يصير ملزما به، كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة؛ ولأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق ، فعليه الوفاء بموجب اعتقاده.
وقيل: لا يلزم، وهو الأصح كما في الرافعي وغيره؛ لأن التزامه غير ملزم، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة، فيقلده في دينه في كل ما يأتي ويذر، دون غيره ...). [التقرير والتحبير: (3/ 350)].
وجاء في "رد المحتار" (1/ 75) من كتب الحنفية: (تحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه ، مقلدا فيه غير إمامه، مستجمعا شروطه).
ويقول الإمام القرافي: (قال يحيى الزناتي: يجوز تقليد المذاهب في النوازل، والانتقال من مذهب إلى مذهب، بثلاثة شروط:
أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع، كمن تزوج بغير صداق ، ولا ولي، ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد.
وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلده رمياً في عماية.
وأن لا يتتبع رخص المذاهب.
قال: والمذاهب كلها مسالك إلى الجنة، وطرق إلى الخيرات، فمن سلك منها طريقاً وصله.
قاعدة: انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء، بغير حجر، وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أن من استفتى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، أو قلدهما، فله أن يستفتي أبا هريرة، ومعاذ بن جبل، وغيرهما، ويعمل بقولهم من غير نكير، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل). [شرح تنقيح الفصول: (صـ 432)، وانظر "الفواكه الدواني" (1 /24)].
ويقول العز ابن عبد السلام: (له أن يقلد في كل مسألة من شاء من الأئمة، ولا يتعين عليه إذا قلد إماماً في مسألة، أن يقلده في سائر مسائل الخلاف، لأن الناس من لدن الصحابة رضي الله عنهم، إلى أن ظهرت المذاهب: يسألون فيما يسنح لهم ، العلماءَ المختلفين، من غير نكير من أحد). [فتاوى العز ابن عبد السلام: (صـ 25)].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – ناقلًا عن ابن حمدان ومقررًا له -: (من التزم مذهبا معينا ، ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه؛ ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله؛ فإنه يكون متبعا لهواه، وعاملًا بغير اجتهاد ولا تقليد، فاعلًا للمحرم بغير عذر شرعي؛ فهذا منكر.
وهذا المعنى هو الذي أورده الشيخ نجم الدين .
وقد نص الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبًا أو حرامًا، ثم يعتقده غير واجب ولا حرام؛ بمجرد هواه). [مجموع الفتاوى: (20 /220)].
وينظر أيضًا: الفتاوى الفقهية الكبرى، لابن حجر الهيتمي: (4 /325)، شرح الكوكب المنير: (4/ 577).
رد: التمذهب الفقهي دراسة لا ديانة: (للنقاش)
لفضيلة الشيخ الدكتور يوسف الغفيص حفظه الله، كلام محرر مرتب حول مقاصد هذه المسألة، في محاضرته النافعة: (المنهجية في دراسة الفقه): (لقد تكونت في الأمة عدة مذاهب، ولكن الذي انضبط في ما بعد هي المذاهب الخمسة التي أشرت إليها سابقاً، ثم جاء -ولاسيما بعد القرن العاشر- من صرح بنقد التمذهب، ونحن نقول: هل التمذهب نوع من التدين أم أنه نوع من الترتيب العلمي؟
لقد كان التمذهب في أصله ترتيبًا علميًا، بمعنى: أنك إذا قلت: إن فلانًا من الشافعية، أو الحنفية، أو إن ابن عبد البر مالكي، فإن معنى ذلك: أنه على أصول الإمام مالك في الاستدلال؛ لأنه سبق معنا أن الأدلة: الكتاب والسنة والإجماع، ثم ما يسمى بالأدلة المختلف فيها .
فهذا معنى التمذهب بصورته العلمية السائغة الذي هو من باب التراتيب العلمية، أي: أن جماعةً من أهل العلم اختاروا أصول فقه الشافعي، وجماعةً أخرى اختاروا أصول فقه أحمد أو أهل الحديث من البغداديين ونحوهم، وجماعةً أخرى اختاروا أصول فقه الإمام مالك .. وهكذا.
فإذا فهم التمذهب على هذا الوجه فهو من باب التراتيب العلمية .
وهل هذا هو الذي وقع في التاريخ أم أن الذي وقع هو التعصب؟
نقول: لقد وقع في التاريخ هذا وذاك، فكما أن ثمة محققين من أصحاب الأئمة الأربعة يسمون مذهبيين، على هذا المعنى السابق الذي ليس هو من باب التدين والتعصب، وإنما من باب التراتيب العلمية والاختيار في الاجتهاد، فكذلك وُجد المتمذهبون المتعصبون.
ولذلك إذا قيل: هل ينكر التمذهب أو لا ينكر؟
قيل: بحسب المقصود: أما من ينكر التمذهب جملةً وتفصيلاً فيقول: إنه لا يجوز لعالم أن يقول: إنه حنبلي أو شافعي، حتى وإن قصد أنه يختار أصول الاستدلال عند الشافعي، ويقدمها على أصول الاستدلال عند مالك، بمعنى: أنه مثلاً لا يستعمل إجماع أهل المدينة، خلافاً للمالكي الذي يستعمل إجماع أهل المدينة، فيبني فقهه على أصول الإمام الشافعي ، فإن هذا التمذهب بهذا المفهوم بدعة أو ضلالة. فهذا تقحم في المسائل ..؛ لأنه يخالف إجماع الأمة في قرون مضت؛ لأنك وإن قلت: إنه وجد من العلماء من لم يتمذهب، فإنه لم ينقل عن عالم في جملة من قرون الأمة أنه صرح بإنكار التمذهب على هذا المفهوم.
ثم إن التمذهب بهذه الصورة، والذي هو اقتفاء بعض أصول الفقه عند فلان أو فلان، لم ينشأ مع المذاهب الأربعة، بل نص الشافعي في رسالته، وقال: كان كثير من المكيين أو أكثرهم لا يخرجون عن قول عطاء، وكان كثير من أهل المدينة لا يخرجون عن قول سعيد بن المسيب، ثم لما ظهر فيهم مالك واشتهر علمه، بدؤوا يتبعون الإمام مالك، قال: وكان أهل العراق يأخذون بقول النخعي.
فكان هذا أمرًا معروفًا عند العلماء، ولذلك إذا قرأت في كتب العلم المطولة، أو ما يتعلق ببعض الفقهيات؛ تجد أن مالكاً في الموطأ، أو في جواباته في المدونة ربما علل كثيراً من جوابه بقوله: أدركنا العلماء على ذلك..
أما إذا تحول التمذهب إلى أن هذا المذهب هو الراجح وما عداه يكون مرجوحًا، أو تقديم قول الحنابلة على الشافعية مطلقًا، أو التعصب، أو هجر السنن النبوية تقديماً للمذاهب الفقهية؛ فلا شك أن هذا تمذهب مذموم في شريعة الله، وبإجماع أئمة المسلمين المتقدمين).
انتهى باختصار من : https://al-maktaba.org/book/33674/48
رد: التمذهب الفقهي دراسة لا ديانة: (للنقاش)
جوابًا على من تشدق بقول: (الراجح بدعة اصطناعية):
[مسألة من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر آخر]
1044 - 20 مسألة:
وردت هذه المسألة من أصبهان على الشيخ الإمام العالم شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية، وسئل أن يشرح ما ذكره نجم الدين بن حمدان في آخر كتاب الرعاية وهو قوله: " من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر آخر ".
ويبين لنا ما أشكل علينا من كون بعض المسائل يذكر فيها في الكافي والمحرر والمقنع والرعاية والخلاصة والهداية روايتان أو وجهان ولم يذكر الأصح والأرجح، فلا ندري بأيهما نأخذ، وإن سألونا عنه أشكل علينا؟ .
أجاب: الحمد لله.
أما هذه الكتب التي يذكر فيها روايتان أو وجهان ولا يذكر فيها الصحيح فطالب العلم يمكنه معرفة ذلك من كتب أخرى، مثل: كتاب التعليق للقاضي أبي يعلى، والانتصار لأبي الخطاب، وعمدة الأدلة لابن عقيل؛ وتعليق القاضي يعقوب البرزيني وأبي الحسن الزاغوني، وغير ذلك من الكتب الكبار التي يذكر فيها مسائل الخلاف ويذكر فيها الراجح.
وقد اختصرت رءوس مسائل هذه الكتب في كتب مختصرة مثل: رءوس المسائل للقاضي أبي يعلى، ورءوس المسائل للشريف أبي جعفر، ورءوس المسائل لأبي الخطاب، ورءوس المسائل للقاضي أبي الحسين، وقد نقل عن الشيخ أبي البركات صاحب المحرر أنه كان يقول لمن يسأله عن ظاهر مذهب أحمد أنه ما رجحه أبو الخطاب في رءوس مسائله.
ومما يعرف منه ذلك: كتاب المغني للشيخ أبي محمد، وكتاب شرح الهداية لجدنا أبي البركات.
وقد شرح الهداية غير واحد كأبي حليم النهرواني، وأبي عبد الله بن تيمية صاحب التفسير الخطيب عم أبي البركات وأبي المعالي بن المنجا، وأبي البقاء النحوي، لكن لم يكمل ذلك.
وقد اختلف الأصحاب فيما يصححونه فمنهم من يصحح رواية ويصحح آخرون رواية فمن عرف ذلك نقله ومن ترجح عنده قول واحد على قول آخر اتبع القول الراجح، ومن كان مقصوده نقل مذهب أحمد نقل ما ذكروه من اختلاف الروايات والوجوه والطرق.
كما ينقل أصحاب الشافعي وأبي حنيفة ومالك مذاهب الأئمة فإنه في كل مذهب من اختلاف الأقوال عن الأئمة واختلاف أصحابهم في معرفة مذهبهم ومعرفة الراجح شرعا ما هو معروف.
ومن كان خبيرًا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل وإن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع وأحمد كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا كما وجد لغيره، ولا يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه قول يوافق القول الأقوى وأكثر مفاريده التي لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحًا كقوله بجواز فسخ الإفراد والقران إلى التمتع، وقبوله شهادة أهل الذمة على المسلمين عند الحاجة كالوصية في السفر، وقوله بتحريم نكاح الزانية حتى تتوب، وقوله بجواز شهادة العبد وقوله بأن السنة للمتيمم أن يمسح الكوعين بضربة واحدة، وقوله: في المستحاضة بأنها تارة ترجع إلى العادة وتارة ترجع إلى التمييز وتارة ترجع إلى غالب عادات النساء، فإنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها ثلاث سنن عمل بالثلاثة أحمد دون غيره.
وقوله: بجواز المساقاة والمزارعة على الأرض البيضاء والتي فيها شجر وسواء كان البذر منهما أو من أحدهما وجواز ما يشبه ذلك وإن كان من باب المشاركة ليس من باب الإجارة ولا هو على خلاف القياس ونظير هذا كثير.
وأما ما يسميه بعض الناس مفردة لكونه انفرد بها عن أبي حنيفة والشافعي مع أن قول مالك فيها موافق لقول أحمد أو قريب منه وهي التي صنف لها الهراسي ردا عليها وانتصر لها جماعة، كابن عقيل، والقاضي أبي يعلى الصغير، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي محمد بن المثنى، فهذه غالبها يكون قول مالك وأحمد أرجح من القول الآخر وما يترجح فيها القول الآخر يكون مما اختلف فيه قول أحمد وهذا كإبطال الحيل المسقطة للزكاة والشفعة. ونحو ذلك الحيل المبيحة للربا والفواحش ونحو ذلك.
وكاعتبار المقاصد والنيات في العقود والرجوع في الأيمان إلى سبب اليمين وما هيجها مع نية الحالف وكإقامة الحدود على أهل الجنايات كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون يقيمونها كما كانوا يقيمون الحد على الشارب برائحة والقيء ونحو ذلك، وكاعتبار العرف في الشروط وجعل الشرط العرفي كالشرط اللفظي والاكتفاء في العقود المطلقة بما يعرفه الناس وأن ما عده الناس بيعا فهو بيع وما عدوه إجارة فهو إجارة وما عدوه هبة فهو هبة وما عدوه وقفا فهو وقف لا يعتبر فيه لفظ معين ومثل هذا كثير). [الفتاوى الكبرى: (5/ 92 - 94)].
رد: التمذهب الفقهي دراسة لا ديانة: (للنقاش)
[فصل من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل، أو تقليد، أو عذر آخر فهذا يراد به شيئان]
فصل: وأما قول الشيخ نجم الدين بن حمدان: من التزم مذهبًا أنكر عليه مخالفته بغير دليل، أو تقليد، أو عذر آخر فهذا يراد به شيئان:
أحدهما: أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له فعله.
فإنه يكون متبعا لهواه وعاملًا بغير اجتهاد ولا تقليد فاعلًا للتحريم بغير عذر شرعي وهذا منكر.
وهذا المعنى هو الذي أراد الشيخ نجم الدين.
وقد نص الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبًا، أو حرامًا ثم يعتقده غير واجب، أو محرم بمجرد هواه مثل أن يكون طالبًا لشفعة الجوار فيعتقدها أنها حق له ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقدها أنها ليست ثابتة، أو مثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد فإذا صار جدا مع أخ اعتقد أن الجد لا يقاسم الإخوة، أو إذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها، كشرب النبيذ المختلف فيه، ولعب الشطرنج، وحضور السماع اعتقد أن هذا ينبغي أن يهجر وينكر عليه فإذا فعل ذلك صديقه اعتقد ذلك أن هذا من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر فمثل هذا ممن يكون في اعتقاده حل الشيء وحرمته ووجوبه وسقوطه بسبب هواه هو مذموم مجروح خارج عن العدالة وقد نص أحمد وغيره على أن هذا لا يجوز.
وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها وإما بأن ترى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر، أو هو أتقى لله فيما يقول فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا فهذا يجوز بل يجب.
وقد نص الإمام أحمد على ذلك، وما ذكره ابن حمدان المراد به القسم الأول.
ولهذا قال من التزم مذهبًا أنكر عليه مخالفته بغير دليل، أو تقليد يسوغ له أن يقلد في خلافه أو عذر شرعي أباح المحظور الذي يباح بمثل ذلك العذر لم ينكر عليه.
وهنا مسألة ثانية قد يظن أنه أرادها ولم يردها لكنا نتكلم على تقدير إرادتها وهو أن من التزم مذهبًا لم يكن له أن ينتقل عنه، قاله بعض أصحاب أحمد وكذلك غير هذا ما يذكره ابن حمدان وغيره يكون مما قاله بعض أصحابه وإن لم يكن منصوصًا عنه، وكذلك ما يوجد في كتب أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة كثير منه يكون مما ذكره بعض أصحابهم وليس منصوصا عنهم، بل قد يكون خلاف ذلك.
وأصل هذه المسألة أن العامي هل عليه أن يلتزم مذهبًا معينًا يأخذ بعزائمه ورخصه.
فيه وجهان لأصحاب أحمد، وهما وجهان لأصحاب الشافعي، والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لا يوجبون ذلك، والذين أوجبوه يقولون إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزمًا له، أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه.
ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني مثل أن يلتزم مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك فهذا مما لا يحمد عليه بل يذم عليه في نفس الأمر ولو كان ما انتقل إليه خيرًا مما انتقل عنه وهو بمنزلة من يسلم لا يسلم إلا لغرض دنيوي أو يهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها.
وقد كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل هاجر إلى امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له مهاجر أم قيس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر في الحديث الصحيح: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني، مثل أن يتبين له رجحان قول على قول فرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله فهو مثاب على ذلك، بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل ولا يتبع أحدا في مخالفة حكم الله ورسوله، فإن الله فرض طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على كل أحد في كل حال، فقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65] وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} [آل عمران: 31] وقال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36] .
وقد صنف الإمام أحمد كتابًا في طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين.
فطاعة الله ورسوله، وتحليل ما أحله الله ورسوله، وتحريم ما حرمه الله ورسوله، وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله واجب على جميع الثقلين الإنس والجن واجب على كل أحد في كل حال سرا وعلانية، لكن لما كان من الأحكام ما لا يعرفه كثير من الناس رجع الناس في ذلك إلى من يعلمهم ذلك، لأنه أعلم بما قال الرسول وأعلم بمراده.
فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول يبلغونهم ما قاله ويفهمونهم مراده بحسب اجتهادهم واستطاعتهم وقد يخص الله هذا العالم من العلم والفهم ما ليس عند الآخر.
وقد يكون عند ذلك في مسألة أخرى من العلم ما ليس عند هذا، وقد قال تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} [الأنبياء: 78] {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء: 79] .
فهذان نبيان كريمان حكما في قضية واحدة فخص الله أحدهما بالفهم وأثنى على كل منهما «والعلماء ورثة الأنبياء» واجتهاد العلماء في الأحكام كاجتهاد المستدلين على جهة الكعبة، فإذا كان أربعة أنفس يصلي كل واحد بطائفة إلى أربع جهات لاعتقادهم أن الكعبة هناك، فإن صلاة الأربعة صحيحة، والذي صلى إلى جهة الكعبة واحد وهو المصيب الذي له أجران، كما في الصحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» .
وأكثر الناس إنما التزموا المذاهب بل الأديان بحكم ما تبين لهم فإن الإنسان ينشأ على دين أبيه، أو سيده، أو أهل بلده كما يتبع الطفل في الدين أبويه وسادته وأهل بلده، ثم إذا بلغ الرجل فعليه أن يلتزم طاعة الله ورسوله، حيث كانت ولا يكون ممن إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وطاعة الله ورسوله إلى عادته وعادة أبيه وقومه فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد، وكذلك من تبين له في مسألة من المسائل الحق الذي بعث الله به رسوله ثم عدل عنه إلى عادته فهو من أهل الذم والعقاب.
وأما من كان عاجزًا عن معرفة ما أمر الله به ورسوله، وقد اتبع فيها من هو من أهل العلم والدين ولم يتبين له أن قول غيره أرجح من قوله فهو محمود مثاب، لا يذم على ذلك ولا يعاقب.
وإن كان قادرًا على الاستدلال ومعرفة ما هو الراجح ولو في بعض المسائل، فعدل عن ذلك إلى التقليد، فهذا قد اختلف فيه، فمذهب أحمد المنصوص عنه الذي عليه أصحابه أن هذا آثم أيضًا، وهذا مذهب الشافعي وأصحابه، وحكي عن محمد بن الحسن وغيره: أنه يجوز له التقليد قيل مطلقًا، وقيل: يجوز تقليد الأعلم.
وحكى بعضهم هذا عن أحمد كما ذكره أبو إسحاق في اللمع وهذا غلط على أحمد، فإن أحمد إنما يقول هذا في الصحابة فقط على اختلاف عنه في ذلك.
وأما مثل مالك والشافعي وسفيان، ومثل إسحاق بن راهويه وأبي عبيد فقد نص في غير موضع على أنه لا يجوز للعالم القادر على الاستدلال أن يقلدهم وقال: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكًا ولا الشافعي ولا الثوري وكان يحب الشافعي ويثني عليه، ويحب إسحاق ويثني عليه، ويثني على مالك والثوري وغيرهما من الأئمة، ويأمر العامي بأن يستفتي إسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وأبا مصعب، وينهى العلماء من أصحابه، كأبي داود، وعثمان بن سعيد، وإبراهيم الحربي، وأبي بكر الأثرم، وأبي زرعة، وأبي حاتم السجستاني، ومسلم، وغير هؤلاء أن لا يقلدوا أحدا من العلماء ويقول عليكم بالأصل بالكتاب والسنة. [الفتاوى الكبرى: (5/ 94 - 98)].
رد: التمذهب الفقهي دراسة لا ديانة: (للنقاش)
قال ابن عبد البر رحمه الله: (لم يبلغنا عن أحد من الأئمة أنه أمر أصحابه بالتزام مذهب معين لا يرى صحة خلافه، بل المنقول عنهم تقريرهم الناس على العمل بفتوى بعضهم بعضا، لأنهم كانوا على هدى من ربهم، ولم يبلغنا في حديث صحيح ولا ضعيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من الأمة بالتزام مذهب معين لا يرى خلافه).