بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار
بسم الله الرحمن الرحيم
بهجة قلوب الأبرار
وقُرة عيون الأخيار
في شرح جوامع الأخبار
تأليف الشيخ
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
رحمه الله تعالى
1307 – 1376 هـ
للحصول على نسخة من الكتاب
تفضل يا رعاك الله
PDF
المجلد التاسع
وورد
****************************** *
مقدمة المؤلف
الحمد لله المحمود على ما له من الأسماء الحسنى،
والصفات الكاملة العظيمة العليا،
وعلى آثارها الشاملة للأولى والأخرى.
وأصلي وأسلم على محمد أجمع الخلق لكل وصف حميد،
وخلق رشيد، وقول سديد،
وعلى آله وأصحابه وأتباعه من جميع العبيد.
أما بعد:
فليس بعد كلام الله أصدق ولا أنفع
ولا أجمع لخير الدنيا والآخرة
من كلام رسول وخليله
محمد صلى الله عليه وسلم ؛
إذ هو أعلم الخلق،
وأعظمهم نصحاً وإرشاداً وهداية،
وأبلغهم بياناً وتأصيلاً وتفصيلاً،
وأحسنهم تعليماً.
وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم،
واختصر له الكلام اختصاراً،
بحيث كان يتكلم بالكلام القليل لفظه،
الكثيرة معانيه،
ومع كمال الوضوح والبيان
الذي هو أعلى رتب البيان.
وقد بدا لي أن أذكر جملة صالحة من أحاديثه الجوامع
في المواضيع الكلية،
والجوامع في جنس، أو نوع،
أو باب من أبواب العلم،
مع التكلم على مقاصدها وما تدل عليه،
على وجه يحصل به الإيضاح والبيان مع الاختصار،
إذ المقام لا يقتضي البسط.
فأقول مستعيناً بالله،
سائلاً منه التيسير والتسهيل:
رد: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار
الحديث الأول
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إنما الأعمال بالنيات.
وإنما لكل امرئ ما نوى
فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله
فهجرته إلى الله ورسوله.
ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها
أو امرأة ينكحها.
فهجرته إلى ما هاجر إليه"
متفق عليه.
الحديث الثاني
عن عائشة رضي الله عنها قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه
– وفي رواية:
من عمل عملاً ليس عليه أمرنا –
فهو رَدٌّ "
متفق عليه.
هذان الحديثان العظيمان يدخل فيهما الدين كله،
أصوله وفروعه، ظاهره وباطنه.
فحديث عمر ميزان للأعمال الباطنة،
وحديث عائشة ميزان الأعمال الظاهرة.
ففيهما الإخلاص للمعبود،
والمتابعة للرسول
اللذان هما شرط لكل قول وعمل،
ظاهر وباطن.
فمن أخلص أعماله لله
متبعاً في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهذا الذي عمله مقبول.
ومن فقد الأمرين
أو أحدهما فعمله مردود،
داخل في قول الله تعالى:
{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا }[1]
والجامع للوصفين داخل في قوله تعالى:
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا
مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ }[2] الآية
{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ
وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[3].
*******************
[1] سورة الفرقان – آية 23.
[2] سورة النساء – آية 125.
[3] سورة البقرة – آية 112.
رد: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار
الحديث الثامن
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"يأتي الشيطان أحدكم فيقول:
من خلق كذا؟
من خلق كذا؟
حتى يقول:
من خلق الله؟
فإذا بلغه فليستعذ بالله، وَلْيَنْتَهِ"
. وفي لفظ
"فليقل: آمنت بالله ورسله"
متفق عليه.
وفي لفظ
"لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولون:
من خلق الله؟".
احتوى هذا الحديث
على أنه لا بد أن يلقي الشيطان هذا الإيراد الباطل:
إما وسوسة محضة،
أو على لسان شياطين الإنس وملاحدتهم.
وقد وقع كما أخبر،
فإن الأمرين وقعا،
لا يزال الشيطان يدفع إلى قلوب من ليست لهم بصيرة
هذا السؤال الباطل،
ولا يزال أهل الإلحاد يلقون هذه الشبهة
التي هي أبطل الشبه،
ويتكلمون عن العلل وعن مواد العلم
بكلام سخيف معروف.
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم
في هذا الحديث العظيم
إلى دفع هذا السؤال بأمور ثلاثة:
بالانتهاء،
والتعوذ من الشيطان،
وبالإيمان.
رد: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار
الحديث الثاني عشر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله
من المؤمن الضعيف.
وفي كلٍّ خير.
احرص على ما ينفعك،
واستعن بالله ولا تَعْجَز ..
وإن أصابك شيء فلا تقل:
لو أني فعلت كذا،
كان كذا وكذا،
ولكن قل:
قدَّر الله، وما شاء فعل،
فإن لَوْ تفتح عمل الشيطان"
رواه مسلم.
هذا الحديث اشتمل على أصول عظيمة وكلمات جامعة.
فمنها:
إثبات المحبة صفة لله،
وأنها متعلقة بمحبوباته وبمن قام بها
ودلّ على أنها تتعلق بإرادته ومشيئته،
وأيضاً تتفاضل.
فمحبته للمؤمن القوي أعظم
من محبته للمؤمن الضعيف.
ودلّ الحديث على أن الإيمان يشمل العقائد القلبية
والأقوال والأفعال،
كما هو مذهب أهل السنة والجماعة
فإن الإيمان بضع وسبعون شعبة،
أعلاها: قول: "لا إله إلا الله"
وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق.
والحياء شعبة منه.
وهذه الشعب التي ترجع إلى الأعمال الباطنة والظاهرة
كلها من الإيمان.
فمن قام بها حق القيام،
وكَمَّل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح،
وكمَّل غيره بالتواصي بالحق،
والتواصي بالصبر:
فهو المؤمن القوي
الذي حاز أعلى مراتب الإيمان.
ومن لم يصل إلى هذه المرتبة:
فهو المؤمن الضعيف.
رد: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار
الحديث الثالث عشر
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضاً
– وشبَّك بين أصابعه"
متفق عليه.
هذا حديث عظيم،
فيه الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم
عن المؤمنين أنهم على هذا الوصف.
ويتضمن
الحثّ منه على مراعاة هذا الأصل.
وأن يكونوا إخواناً متراحمين متحابين متعاطفين،
يحب كل منهم للآخر ما يحب لنفسه،
ويسعى في ذلك،
وأن عليهم مراعاة المصالح الكلية الجامعة
لمصالحهم كلهم،
وأن يكونوا على هذا الوصف
فإن البنيان المجموع من أساسات وحيطان محيطة كلية
وحيطان تحيط بالمنازل المختصة،
وما تتضمنه من سقوف وأبواب ومصالح ومنافع.
كل نوع من ذلك لا يقوم بمفرده
حتى ينضم بعضها إلى بعض.
كذلك المسلمون يجب أن يكونوا كذلك.
فيراعوا قيام دينهم وشرائعه
وما يقوِّم ذلك ويقويه،
ويزيل موانعه وعوارضه.
رد: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار
الحديث الرابع عشر
عن أبي موسى رضي الله عنه
"أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا أتاه سائل أو طالب حاجة،
قال:
"اشفعوا فلتؤجروا،
ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء"
متفق عليه.
وهذا الحديث متضمن لأصل كبير،
وفائدة عظيمة،
وهو أنه ينبغي للعبد أن يسعى في أمور الخير
سواء أثمرت مقاصدها ونتائجها
أو حصل بعضها،
أو لم يتم منها شيء.
وذلك كالشفاعة لأصحاب الحاجات
عند الملوك والكبراء،
ومن تعلقت حاجاتهم بهم
فإن كثيراً من الناس يمتنع من السعي فيها
إذا لم يعلم قبول شفاعته.
فيفوّت على نفسه خيراً كثيراً من الله،
ومعروفاً عند أخيه المسلم.
فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه
أن يساعدوا أصحاب الحاجة بالشفاعة لهم عنده
ليتعجلوا الأجر عند الله،
لقوله:
"اشفعوا تؤجروا"
فإن الشفاعة الحسنة محبوبة لله،
ومرضية له.
قال تعالى:
{ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً
يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا }[1]
ومع تعجله للأجر الحاضر
فإنه أيضاً يتعجل الإحسان
وفعل المعروف مع أخيه،
ويكون له بذلك عنده يد.
*******************
[1] سورة النساء – آية 85.
رد: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار
الحديث الخامس عشر
عن عائشة رضي الله عنها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أنزلوا الناس منازلهم"
رواه أبو داود.
يا له من حديث حكيم.
فيه الحث لأمته على مراعاة الحكمة.
فإن الحكمةوضع الأشياء مواضعها،
وتنـزيلها منازلها.
والله تعالى حكيم في خلقه وتقديره،
وحكيم في شرعه وأمره ونهيه
وقد أمر عباده بالحكمة
ومراعاتها في كل شيء
وأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاداته
كلها تدور على الحكمة.
فمنها:
هذا الحديث الجامع،
إذ أمر أن ننـزل الناس منازلهم.
وذلك في جميع المعاملات،
وجميع المخاطبات.
والتعلم والتعليم.
رد: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار
الحديث السادس عشر
عن أبي صِرْمَةَ [1] رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من ضارَّ ضار الله به.
ومن شاقَّ شَقَّ [2] الله عليه"
رواه الترمذي وابن ماجه.
هذا الحديث دلّ على
أصلين من أصول الشريعة:
أحدهما:
أن الجزاء من جنس العمل
في الخير والشر.
وهذا من حكمة الله
التي يحمد عليها.
فكما أن من عمل ما يحبه الله أحبه الله.
ومن عمل ما يبغضه أبغضه الله،
ومن يسَّر على مسلم يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة.
ومن فرّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا
فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.
والله في حاجة العبد
ما كان العبد في حاجة أخيه،
كذلك من ضار مسلماً
ضره الله،
ومن مَكَر به
مكر الله به،
ومن شق عليه
شق الله عليه،
إلى غير ذلك من الأمثلة الداخلة في هذا الأصل.
*******************
[1] في الأصل "حرمة" والصحيح ما أثبتناه "الناشر".
[2] في الأصل "شاق" والصحيح ما أثبتناه من رواية الترمذي "الناشر".
رد: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار
الحديث السابع عشر
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"اتق الله حيثما كنت.
وأتبع السيئة الحسنة تمحها،
وخالق الناس بخلق حسن"
رواه الإمام أحمد والترمذي.
هذا حديث عظيم
جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين حق الله وحقوق العباد.
فحقّ الله على عباده:
أن يتقوه حقّ تُقاته.
فيتّقوا سخطه وعذابه
باجتناب المنهيات وأداء الواجبات.
وهذه الوصية هي وصية الله للأولين والآخرين،
ووصية كل رسول لقومه
أن يقول:
"اعبدوا الله واتقوه".
رد: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار
الحديث الثامن عشر
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"الظلم ظلمات يوم القيامة"
متفق عليه.
هذا الحديث فيه التحذير من الظلم،
والحث على ضده وهو العدل.
والشريعة كلها عدل،
آمرة بالعدل،
ناهية عن الظلم.
قال تعالى:
{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } [1]،
{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } [2]،
{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ
أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
وَهُم مُّهْتَدُونَ } [3]
فإن الإيمان
– أصوله وفروعه، باطنه وظاهره –
كله عدل،
وضده ظلم.
فأعدل العدل وأصله:
الاعتراف وإخلاص التوحيد لله،
والإيمان بصفاته وأسمائه الحسنى،
وإخلاص الدين والعبادة له.
وأعظم الظلم،
وأشده الشرك بالله،
كما قال تعالى:
{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [4]
وذلك أن العدل وضع الشيء في موضعه،
والقيام بالحقوق الواجبة.
والظلم عكسه
فأعظم الحقوق.
وأوجبها:
حق الله على عباده:
أن يعرفوه ويعبدوه،
ولا يشركوا به شيئاً،
ثم القيام بأصول الإيمان،
وشرائع الإسلام من إقام الصلاة
وإيتاء الزكاة وصيام رمضان،
وحج البيت الحرام،
والجهاد في سبيل الله قولاً وفعلاً،
والتواصي بالحق،
والتواصي بالصبر.
ومن الظلم:
الإخلال بشيء من ذلك،
*******************
[1] سورة الأعراف – آية 29.
[2] سورة النحل – آية 90.
[3] سورة الأنعام – آية 82.
[4] سورة لقمان – آية 13.