-
القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد فهذه بعض القواعد التي استخلصتها من الشرح الممتع للعلامة ابن عثيمين رحمه الله.
أسأل الله تعالى أن ينفع بها.
القاعدة الأولى: ((الاستثناء معيار العُمُوم([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((يعني: لو أنَّ أحداً استثنى من كلام عام فإِن ما سوى هذه الصُّورة داخل في الحكم؛ وعلى هذا فكلُّ شيء يُباحُ اتِّخاذه إِلا آنيةَ الذَّهب والفضَّة([2])))اهـ.
وقال – أيضًا - رحمه الله: ((أي: إِذا جاء شيء عام ثم استُثني منه، فكلُّ الأفراد يتضمَّنه العموم، إلا ما اسْتُثْنِيَ([3])))اهـ.
وقال – أيضًا - رحمه الله: ((قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ، إِلَّا الْمَقْبَرَةَ، وَالْحَمَّامَ([4])»، وهذا استثناء، والاستثناء معيار العموم([5])))اهـ.
وقال – أيضًا - رحمه الله: ((كرجل أوقف داره على أولاده فانهدمت الدار، فيجوز أن تباع.
وقوله: «ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه» ظاهره أنه لا يباع بأي حال من الأحوال إلا في هذه الصورة؛ لأن من القواعد المقررة (أن الاستثناء معيار العموم) يعني يدل على العموم فيما عدا الصورة المستثناة؛ فعلى هذا لا يباع بأي حال من الأحوال إلا في هذه الحال، وهي إذا تعطلت منافعه([6])))اهـ.
وقال – أيضًا - رحمه الله: ((الاستثناء معيار العموم؛ يعني أنك إذا استثنيت شيئاً دل ذلك على أن الحكم عام فيما عدا المستثنى([7])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ رحمه الله (1/ 72)، (1/ 330)، (2/ 238)، (11/ 59)، (11/ 87)، (13/ 188).
[2])) (1/ 72).
[3])) (1/ 330).
[4])) أخرجه أحمد (11784)، وأبو داود (492)، والترمذي (317)، وابن ماجه (745)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2767).
[5])) (2/ 238).
[6])) (11/ 59).
[7])) (13/ 188).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة الثانية: ((لا يلزم من التَّحريم النَّجاسة([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((ولهذا فالسُّمُ حرام، وليس بنجس، والخمر حرام وليس بنجس، على القول الرَّاجح([2])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ رحمه الله (1/ 86)، (1/ 431).
[2])) (1/ 86).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة الثالثة: ((كُلُّ حلال طاهر([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((السَّمك وغيره من حيوان البحر بدون استثناء، فإن ميتته طاهرة حلال لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]([2])))اهـ.
[1])) (1/ 94).
[2])) (1/ 94).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة الرابعة: ((كُلُّ نجس حرام([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((لأن المتنجِّس متأثر بالنجاسة، مختلط بها، فالنجاسة لم تزل فيه، فإذا أكَلْتَهُ أو شَرِبْتَه، فقد باشرت النجاسة، أكلت النجاسة وشربتها؛ ولهذا نقول: المتنجس محرَّم؛ لأنه ليس بطاهر، وإذا كان الشرع يأمرنا بإزالة النجاسة من ظاهر أجسامنا، فكيف نُدخل النجاسة باطن أجسامنا؟!([2])))اهـ.
[1])) (1/ 94)، (15/ 9).[2])) (15/ 9).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة الخامسة: ((النَّفي يكون أولًا لنفي الوجود، ثم لنفي الصِّحة، ثم لنفي الكمال([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((فإِذا جاء نصٌّ في الكتاب أو السُّنَّة فيه نفيٌ لشيء؛ فالأصل أن هذا النفيَ لنفي وجود ذلك الشيء، فإن كان موجودًا فهو نفي الصِّحَّة، ونفيُ الصِّحَّة نفيٌ للوجود الشَّرعي، فإنْ لم يمكن ذلك بأن صحَّت العبادة مع وجود ذلك الشيء، صار النَّفيُ لنفي الكمال لا لنفي الصِّحَّة.
مثالُ نفي الوجود: (لا خالق للكون إلا الله).
مثال نفي الصِّحة: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ([2])».
ومثال نفي الكمال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ([3])»([4])))اهـ.
وقال أيضًا رحمه الله: ((لأنَّ النَّفْيَ إذا وَقَعَ فله ثلاثُ مراتبٍ:
المرتبةُ الأولى والثانية: أن يكون نفيًا للوجود الحِسِّي، فإنْ لم يمكن فهو نَفْيٌ للوجودِ الشَّرعي، أي: نفيٌ للصِّحَّةِ، فالحديثُ الذي معنا لا يمكن أن يكون نفيًا للوجود؛ لأنَّه مِن الممكن أنْ يصلِّيَ الإِنسانُ خلفَ الصَّفِّ منفردًا، فيكون نفيًا للصِّحَّةُ، والصِّحَّةُ هي الوجودُ الشَّرعيُّ؛ لأنه ليس هناك مانعٌ يمنعُ نَفْيَ الصِّحَّةِ، فهاتان مرتبتان.
المرتبة الثالثة: إذا لم يمكن نَفْيُ الصِّحَّةِ؛ بأن يوجد دليلٌ على صِحَّةِ المنفيِّ فهو نَفْيٌ للكمالِ، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» لأنَّ مَن لا يُحِبُّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسِه لا يكون كافرًا، لكن ينتفي عنه كمالُ الإِيمان فقط([5])))اهـ.
وقال أيضًا رحمه الله: ((فلو قال قائل: لِمَ لا نقول: لا نكاح كامل، ونحمل النفي على نفي الكمال لا على نفي الصحة؟
قلنا: هذا غير صحيح؛ لأنه متى أمكن حمله على نفي الصحة كان هو الواجب؛ لأنه ظاهر اللفظ، ونحن لا نرجع إلى تفسير النفي بنفي الكمال، إلا إذا دل دليل على الصحة، ولأن الأصل في النفي انتفاء الحقيقة واقعًا أو شرعًا([6])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ رحمه الله: (1/ 158)، (3/ 295)، (4/ 110)، (4/ 270)، (12/ 70)،
[2])) متفق عليه: أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394).
[3])) متفق عليه: أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45).
[4])) (1/ 159).
[5])) (4/ 270، 271).
[6])) (12/ 70).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة السادسة: ((قَطْعُ نيَّةِ العبادة بعد فعلها لا يؤثِّر([1])))
[1])) ذكرها الشيخ رحمه الله: (1/ 206).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة السابعة: ((الشَّكُّ بعد الفعل لا يؤثِّرُ([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((سواء شككتَ في النيَّة، أو في أجزاء العبادة، فلا يؤثِّر إِلا مع اليقين.
فلو أن رجلًا بعد أن صَلَّى الظُّهر قال: لا أدري هل نويتُها ظُهرًا أو عصرًا، شكًّا منه؟ فلا عبرة بهذا الشكِّ ما دام أنَّه داخل على أنها الظُّهر فهي الظُّهر، ولا يؤثِّر الشَّكُّ بعد ذلك، ومما أُنشِدَ في هذا:
والشَّكُّ بعد الفعل لا يؤثِّر * * * وهكذا؛ إِذ الشُّكوكُ تكثُر([2])))اهـ.
قلت: لأنه قد يمر زمان على العبادة فينسى المكلف، ويدخله الشك؛ وهذا يكثر؛ فلو اعتُبِرَ الشك بعد الفراغ من العبادة لكان تكليفًا بما لا يطاق.
[1])) ذكرها الشيخ رحمه الله: (1/ 206).
[2])) (1/ 207).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة: الثامنة: ((ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((فلا يزول اليقين بشيءٍ مظنون أو مشكوكٍ فيه([2])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ: (1/ 50)، (2/ 28)، (2/ 231)، (13/ 170).
[2])) (2/ 231).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة التاسعة: ((ما أتى ولم يُحدَّدْ بالشَّرع فمرجعُه إلى العُرف([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((العرف مقدم على كل شيء ما لم يناقض الشرع، فإن ناقض الشرع فلا حكم له، فلو فرض أنه شاع في الناس أن بيع المحرم المعيَّن حلال، وهو حرام شرعًا فلا يرجع إلى العرف، فالعرف إذا خالف الشرع يجب إلغاؤه؛ لأن الأمة الإسلامية يجب أن يكون المتعارف بينها ما دل عليه الشرع، فإذا وجد عرف يخالف الشرع وجب تعديله، ولا يجوز أن يحول الشرع إلى العرف.
فإن قال قائل: ألستم تقولون: إن المرجع في النفقة على الزوجة - مثلًا - إلى العرف؟ الجواب: بلى، لكننا لم ننقض القاعدة؛ لأن الله أحالنا في الإنفاق على الزوجة إلى العرف، فإذا عملنا بالعرف في الإنفاق فقد عملنا بالشرع([2])))اهـ.
وقال الشيخ رحمه الله: ((فالكثير: بحسب عُرف النَّاس؛ فإن قالوا: هذا كثيرٌ، صار كثيرًا، وإن قالوا: هذا قليلٌ، صار قليلًا([3])))اهـ.
وقال رحمه الله: ((يجب عليه أن يطلب الماء فيما قَرُبَ منه؛ فيبحث هل قُرْبه، أو حَوْله بئر، أو غدير؟ والقُرب ليس له حَدٌّ محدَّد، فيُرْجَع فيه إِلى العُرْف، والعُرْف يختلف باختلاف الأزمنة؛ ففي زمَننا وُجِدَت السيَّارات فالبعيد يكون قريبًا، وفي الماضي كان الموجود الإِبل فالقريب يكون بعيدًا([4])))اهـ.
وقال رحمه الله: ((فإذا قال قائل: كيف نرجع إلى العادة في أمرٍ تعبُّدي؟
فالجواب: نعم؛ نرجع إلى العادة؛ لأن الشرع لم يحدِّدْ ذلك.
فلم يقل الشَّارعُ مثلًا: مَنْ تحرَّك في صلاته ثلاث مرَّاتٍ؛ فصلاتُه باطلة، ولم يقل: مَن تحرَّك أربعًا فصلاتُه باطلة، ولم يقل: من تحرَّك اثنتين فصلاتُه باطلة؛ إذًا؛ يُرجع إلى العُرف، فإذا قال النَّاس: هذا عَمَلٌ ينافي الصَّلاة؛ بحيث مَن شاهد هذا الرَّجُل وحركاته؛ يقول: إنه لا يُصلِّي، حينئذٍ يكون مستَكْثَرًا، أما إذا قالوا: هذا يسيرٌ، فإنه لا يضرُّ([5])))اهـ.
وقال رحمه الله: ((وعلى ذلك قال الناظم:
وكل ما أتى ولم يحدد *** بالشرع كالحرز فبالعرف احدد
وقول الناظم: (كالحرز) أي حرز الأموال، فمثلًا: أودعتك وديعة، ووضعتها في مكان غير محرز، وسرقت فعليك الضمان، فإذا قال الناس: هذا الرجل مفرط في وضعه المال في هذا المكان، فهذا غير محرز فعليه الضمان، والذي يدلنا على أن المكان محرز أو غير محرز العرف([6])))اهـ.
وقال رحمه الله: ((المال الكثير يُرجَع فيه إلى العرف وإلى أحوال الناس؛ فإذا كانت الدراهم كثيرة فالمال الكثير كثير، وإذا كان الناس عندهم قلة في المال فالقليل يكون كثيرًا، حتى إن بعض الفقهاء يقول: من ملك خمسين درهمًا فهو غني لا تحل له الزكاة، وفي وقتنا الحاضر الخمسون درهمًا لا توجب أن يكون الإنسان غنيًا؛ لأنها يمكن أن تنفد في عشرة أيام، وليس في سنة كاملة.
فالحاصل أن المال الكثير يرجع فيه إلى العرف، فقد يكون القليل كثيرًا في وقت، وقد يكون الكثير قليلًا في وقت آخر([7])))اهـ.
وقال رحمه الله: ((ومعرفة كون الحجر يقتل أو لا يقتل يرجع في ذلك إلى العرف، فمتى قالوا: إن هذا الحجر يقتل لو ضرب به الإنسان ولو في غير مقتل، فيكون القتل بهذا الحجر عمدًا([8])))اهـ.
[1])) (1/ 272).
[2])) (11/ 177).
[3])) (1/ 272).
[4])) (1/ 386).
[5])) (3/ 351).
[6])) (5/ 45).
[7])) (11/ 137).
[8])) (14/ 11).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة العاشرة: ((إِذا رُبط الحُكم بعلَّة لا يمكن أن تزولَ فإن الحكم لا يمكن أن يزولَ([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((لأن الحكم يدور مع عِلَّته؛ في حديث طَلْق عِلَّة لا يمكن أن تزول؛ والعلَّة هي قوله: «إنما هو بَضْعَة منك»، ولا يمكن في يوم من الأيام أن يكون ذكرُ الإِنسان ليس بَضْعَةً منه، فلا يمكن النَّسخ([2])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ (1/ 238).
[2])) (1/ 238).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
بارك الله فيك قواعد ذكرها الشيخ فقيه الزمان بديعة وقيمة ومفيدة وضابطة لطالب العلم رحمه الله رحمةواسعةوجزاك الله خيرا
وهناك قواعد أخرى ذكرها الشيخ أدعك تواصل مشكور أخي
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبوأحمد المالكي
بارك الله فيك قواعد ذكرها الشيخ فقيه الزمان بديعة وقيمة ومفيدة وضابطة لطالب العلم رحمه الله رحمةواسعةوجزاك الله خيرا
وهناك قواعد أخرى ذكرها الشيخ أدعك تواصل مشكور أخي
سنواصل إن شاء الله، جزاكم الله خيرًا
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة الحادية عشرة: ((النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إِذا أمر بأمرٍ وفعل خلافه، دَلَّ على أن الأمر ليس للوجوب([1])))
قال الشيخ رحمه الله: ((والغرض من حديث جابر: بيان أن الوُضُوءَ مما مسَّت النَّار ليس بواجب؛ فإِن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان قد أمر بالوُضُوء مما مَسَّت النارُ، وصحَّ عنه الأمر بذلك، فقال جابر: كان آخُر الأمرين تركَ الوُضُوء مما مسَّت النار، والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إِذا أمر بأمرٍ وفعل خلافه، دَلَّ على أن الأمر ليس للوجوب([2])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ (1/ 305).
[2])) (305).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة الثانية عشرة: ((الحُكْمُ المعلَّق بِسَبَبٍ إِذا تأخَّرَ عن سببه سقط([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((وصَحَّ عن عبد الله بنِ عُمَر رضي الله عنه أنه كان يَسْجُدُ للتِّلاوة بلا وُضُوء؛ ولا رَيْبَ أنَّ الأفضل أن يتوضَّأ، ولا سيَّما أن القارئ سوف يَتْلُو القرآن، وتِلاوَةُ القرآن يُشْرَعُ لها الوُضُوء، لأنها مِنْ ذِكْرِ الله، وكلُّ ذكر لله يُشرع له الوُضُوء.
أمَّا اشتراط الطَّهارة لِسُجُودِ الشُّكر فَضَعيف؛ لأنَّ سَبَبَهُ تَجدُّد النِّعَمِ، أو تجدُّد اندفاع النِّقَمِ، وهذا قد يَقَعُ للإِنسان وهو مُحْدِث.
فإن قلنا: لا تَسْجُدُ حتّى تَتَوَضَّأ؛ فرُبَّما يطول الفصل، والحُكْمُ المعلَّق بِسَبَبٍ إِذا تأخَّرَ عن سببه سقط، وحينئذٍ إِمّا أن يُقال: اسْجُدْ على غير وُضُوء، أو لا تسجد، لأنه قد لا يَجِدُ الإِنسانُ ماءً يتوضَّأ منه سريعاً ثمَّ يَسْجُد([2])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ (1/ 327).
[2])) (1/ 327).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة الثالثة عشرة: ((إِذا وُجِدَ الاحتمالُ بَطَلَ الاستدلالُ([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((ويَحْرُمُ على المحدِثِ مسُّ المُصْحَفِ والدَّليل على ذلك:
1- قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الواقعة: 77- 80 ].
وجه الدَّلالة: أنَّ الضَّمير في قوله: {لَا يَمَسُّهُ} يعود على القرآن؛ لأن الآيات سِيقت للتَّحدُّث عنه بدليل قوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، والمنزَّل هو هذا القرآن، والمُطَهَّر: هو الذي أتى بالوُضُوء والغُسُل من الجنابة، بدليل قوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } [المائدة: 6].
وقال داود الظَّاهري وبعض أهل العلم: "لا يحرم على المُحْدِثِ أن يَمَسَّ المصحف".
واستدلُّوا: بأن الأصل براءةُ الذِّمة، فلا نُؤَثِّم عباد الله بفعل شيء لم يَثْبُتْ به النَّص.
وأجابوا عن أدلَّة الجمهور:
أما الآية فلا دلالة فيها، لأن الضَّمير في قوله: {لَا يَمَسُّهُ} يعود إلى «الكتاب المكنون»، والكتاب المكنون يُحْتَمَلُ أن المرادَ به اللوحُ المحفوظ، ويُحْتَملُ أن المرادَ به الكتب التي بأيدي لملائكة؛ فإن الله تعالى قال: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [عبس: 11- 15]، وهذه الآية تفسير لآية الواقعة، فقوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} كقوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}.
وقوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} ، كقوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ }.
والقرآنُ يُفسِّر بعضه بعضًا، ولو كان المراد ما ذَكَرَ الجمهور لقال: «لا يمسُّه إلا المطَّهِّرون» بتشديد الطاء المفتوحة وكسر الهاء المشددة، يعني: المتطهرين، وَفَرْقٌ بين «المطهَّر» اسم مفعول، وبين «المتطهِّر» اسم فاعل، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ} [البقرة: 222] .
وقولهم: إن الخبر يأتي بمعنى الطَّلب، هذا صحيح لكن لا يُحْمَلُ الخبر على الطلب إِلا بقرينة، ولا قرينة هنا؛ فيجب أن يبقى الكلام على ظاهره، وتكون الجملة خَبَريَّة، ويكون هذا مؤيِّدًا لما ذكرناه من أن المراد بـ «المطهَّرون» ، الملائكة كما دلَّت على ذلك الآيات في سورة «عبس».
ثم على احتمال تساوي الأمرين، فالقاعدة عند العلماء «إنه إِذا وُجِدَ الاحتمال بَطلَ الاستدلال» فيسقط الاستدلال بهذه الآية، فنرجع إلى براءة الذِّمة([2])))اهـ.
وقال الشيخ – أيضًا – رحمه الله – وهو يتكلم في مسألة مس المصحف لغير المتوضئ: ((وأما بالنسبة لحديث عمرو بن حزم: «ألا يمسَّ القرآن إلا طاهر([3])»: فهو ضعيف؛ لأنه مُرسَل، والمرسل من أقسام الضَّعيف، والضَّعيف لا يُحْتَجُّ به في إثبات الأحكام؛ فضلًا عن إِثبات حُكْمٍ يُلْحِقُ بالمسلمين المشَقَّة العظيمة في تكليف عباد الله ألا يقرؤوا كتابه إلا وهم طاهرون، وخاصَّة في أيام البرد.
وإذا فرضنا صِحَّتَهُ بناء على شُهْرَتِهِ فإن كلمةَ «طاهر» تَحْتَمِلُ أن يكونَ طاهرَ القلب من الشِّرك، أو طاهر البَدَنِ من النَّجَاسَة، أو طاهرًا من الحدث الأصغر؛ أو الأكبر، فهذه أربعة احتمالات، والدَّليل إِذا احتمل احتمالين بَطلَ الاستدلال به، فكيف إِذا احتمل أربعة؟([4])))اهـ.
([1]) ذكرها الشيخ رحمه الله: (1/ 318)، (1/ 405)، (1/ 443)، (4/ 219)، (15/ 345).
([2]) (1/ 318، 319) باختصار يسير.
([3]) أخرجه الطبراني في «الكبير» (13217)، والدارقطني (1/ 121) ، والبيهقي (1/ 88).
([4]) (1/ 319).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
القاعدة العاشرة: ((إِذا رُبط الحُكم بعلَّة لا يمكن أن تزولَ فإن الحكم لا يمكن أن يزولَ([1])))
قال الشيخ رحمه الله: ((لأن الحكم يدور مع عِلَّته؛ في حديث طَلْق عِلَّة لا يمكن أن تزول؛ والعلَّة هي قوله: «إنما هو بَضْعَة منك»، ولا يمكن في يوم من الأيام أن يكون ذكرُ الإِنسان ليس بَضْعَةً منه، فلا يمكن النَّسخ([2])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ (1/ 238).
[2])) (1/ 238).
جزاك الله خيراً
لكن
عندما درست أصول الفقه قرأت في كتاب - لا أذكره للأسف ، أن العلة نوعان :
علة سببية
علة غائية
على ما أذكر لو صح نقلي للاسمين
إحداهما لا ينتفي الحكم بزوال العلة ، والأخرى ينتفي الحكم بزوالها
وبناءً عليه
قد يرتبط الحكم بعلة ولا يزول بزوالها
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الله عمر المصري
جزاك الله خيراً
لكن
عندما درست أصول الفقه قرأت في كتاب - لا أذكره للأسف ، أن العلة نوعان :
علة سببية
علة غائية
على ما أذكر لو صح نقلي للاسمين
إحداهما لا ينتفي الحكم بزوال العلة ، والأخرى ينتفي الحكم بزوالها
وبناءً عليه
قد يرتبط الحكم بعلة ولا يزول بزوالها
العلة الغائية: هي الغاية من إيجاد الشيء، أو ما لأجله وجد الشيء؛ كعلة خلق الخلق؛ لأجل عبادة الله.
أو علة بناء البيت؛ لأجل السكن فيه.
والعلة السببية: فهي التي بسببها وُجد الحكم؛ كتحريم الخمر بسبب الإسكار.
وقد تزول العلة ويبقى الحكم؛ ومثال ذلك: الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى في طواف القدوم؛ فقد بقي الحكم - وهو الرمَل - مع زوال العلة؛ وهي علته إظهار القوة والنشاط للكفار.
فقد بقي الحكم هنا تعبديًا.
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
ما شاء الله نقولات طيبة ونافعة
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
بارك الله فيكم أبا البراء
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
القاعدة: الثامنة: ((ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((فلا يزول اليقين بشيءٍ مظنون أو مشكوكٍ فيه([2])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ: (1/ 50)، (2/ 28)، (2/ 231)، (13/ 170).
[2])) (2/ 231).
وقال الشيخ رحمه الله: ((عندنا أصل أصَّله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو قوله في الرَّجُل يُخيَّل إِليه أنَّه يجدُ الشَّيء في بطنه في الصَّلاة، فقال: «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا».
فلم يوجب النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الوُضُوء إلا على من تيقَّن سبب وجوبه، ولا فرق بين كون سبب الوجوب مشكوكًا فيه من حيث الواقعُ كما في الحديث، أو من حيث الحكمُ الشَّرعي، فإِن كُلًّا فيه شَكٌّ، هذا شكٌّ في الواقع هل حصل النَّاقض أم لم يحصُل، وهذا شكٌّ في الحكم؛ هل يوجبه الشَّرع أم لا؟.
فالحديث: دَلَّ على أن الوُضُوء لا ينتقض إلا باليقين، وهنا لا يقين([1])))اهـ.
وقال الشيخ رحمه الله: ((ومن تيقَّن الطَّهارة وشَكَّ في الحدث أَوْ بالعَكْسِ بَنَى على اليقينِ؛ يعني: إِذا تيقَّن أنه طاهر، وشك في الحَدَثِ فإِنه يبني على اليقين، وهذا عام في موجبات الغُسل، أو الوُضُوء.
مثاله: رَجُلٌ توضَّأ لصَلاةِ المغرب، فلما أذَّن العِشَاء وقام ليُصلِّي شَكَّ هل انتقض وضوءُه أم لا؟
فالأصل عدم النَّقضِ فيبني على اليقين وهو أنه متوضِّئ.
مثال آخر: استيقظ رجلٌ فوجد عليه بللًا، ولم يرَ احتلامًا، فشكَّ هل هو منيٌّ أم لا؟ فلا يجب عليه الغسل للشَّكِّ.
ولو رأى عليه أثر المنيِّ وشكَّ هل هو من الليلة البعيدة أم القريبة؟ يجعله من القريبة؛ لأنها مُتيقَّنة، وما قبلها مشكوك فيه.
ودليل ذلك حديث أبي هريرة([2])، وعبد الله بن زيد([3]) رضي الله عنهما في الرَّجُل يجد الشيءَ في بطنه، ويُشْكِلُ عليه: هل خرج منه شيء أم لا؟ فقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينصرف حتى يسمعَ صوتًا، أو يجد ريحًا»، وفي حديث أبي هريرة: «لا يخرج»، أي: من المسجد «حتى يسمعَ صوتًا أو يجدَ ريحًا» مع أن قرينةَ الحَدَثِ موجودةٌ؛ وهي ما في بَطْنِهِ من القرقرة والانتفاخ([4])))اهـ.
[1])) (1/ 266).
[2])) أخرجه مسلم (362).
[3])) متفق عليه: أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361).
[4])) (1/ 310، 311).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة الرابعة عشرة: ((النَّهْيُ إِذا كان في حديث ضعيف لا يكون للتَّحريم، والأمرُ إِذا كان في حديث ضعيف لا يكون للوُجوب([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ غَسَّل ميتًا فَلْيَغْتَسِلْ، ومَنْ حَمَلَهُ فليتوضَّأ([2])».
قالوا: وهذا الحديث فيه الأَمْرُ، والأَمْرُ الأصل فيه الوُجوب، لكن لمَّا كان فيه شيء من الضَّعف لم يَنتهضْ للإِلزام به.
وهذا مبنيٌّ على قاعدة وهي: "أنَّ النَّهْيَ إِذا كان في حديث ضعيف لا يكون للتَّحريم، والأمرُ إِذا كان في حديث ضعيف لا يكون للوُجوب"؛ لأنَّ الإِلزام بالمنْعِ أو الفعل يحتاج إلى دليل تَبرأُ به الذِّمة لإِلزام العباد به.
وهذه القاعدة أشار إليها ابنُ مفلح في «النُّكَت على المحرَّر» في باب موقف الإِمام والمأموم([3])؛ ومراده ما لم يكن الضَّعف شديدًا، بل محتَمِلًا للصِّحَّة، فيكون فِعْلُ المأمور وتَرْكُ المنهيِّ من باب الاحتياط، والاحتياط لا يوجب الفعل أو الترك([4])))اهـ.
[1])) (1/ 353، 354).
[2])) أخرجه أحمد (9862)، وأبو داود (3161)، والترمذي (993)، وابن ماجه (1463).
[3])) انظر : ((النكت على المحرر)) بهامش (المحرر)) (1/ 110).
[4])) ((الشرح الممتع)) (1/ 353، 354).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة الخامسة عشرة: ((الحقائق تُحمَل على عُرْفِ النَّاطِقِ بها([1])))
قال الشيخ رحمه الله: ((حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، وَهُوَ جُنُبٌ، تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، قَبْلَ أَنْ يَنَامَ([2]).
وأمَّا مَنْ حمل هذا على الوُضُوء اللُّغوي، وهو النَّظَافة، فلا عِبْرة به؛ لأن رواية مسلم صريحة في أنَّ المراد به الوُضُوء الشَّرعي.
ولأن القاعدة في أصول الفِقْه: أنَّ الحقائق تُحمَل على عُرْفِ النَّاطِقِ بها؛ فإِذا كان النَّاطِقُ الشَّرع حُمِلَت على الحقيقة الشَّرعيَّة، وإِذا كان من أهل اللُّغة حُمِلت على الحقيقة اللغويَّة، وإِذا كان من أهل العُرْف حُمِلَت على الحقيقة العُرفيَّة.
فمثلًا: «زَيْدٌ قائم» زَيْدٌ في اللغة فاعل؛ لأن الفاعل في اللغة من قام به الفعل، وعند النَّحويِّين مبتدأ؛ لأن الفاعل عندهم: الاسمُ المرفوع المذكور قَبْلَه عامِلُه([3])))اهـ.
[1])) (1/ 368).
[2])) متفق عليه: أخرجه البخاري (288)، ومسلم (305)، واللفظ له.
[3])) ((الشرح الممتع)) (1/ 368).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة السادسة عشرة: ((تعليق المباح على شَرْط يدلُّ على أنَّه لا يُباح إِلا به([1])))
قال الشيخ رحمه الله: ((يُسْتَحَبُّ للجُنُب إِذا أراد النَّوم أن يتوضَّأ، واستُدلَّ لذلك بحديث عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أَيَرْقُد أحدُنا وهو جُنُب؟ قال: «نعم، إِذا توضَّأ أحدُكم فلْيَرْقُد وهو جُنُب([2])»، وفي لفظ: «توضَّأ واغسلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ نَمْ([3])».
وهذا الدَّليل يقتضي الوُجوب؛ لأنَّه قال: «نعم إِذا توضَّأ»، وتعليق المباح على شَرْط يدلُّ على أنَّه لا يُباح إِلا به، وعليه يكون وُضُوء الجُنُب عند النوم واجبًا، وإلى هذا ذهب الظَّاهريَّة وجماعة كثيرة من أهل العِلْمِ، ولكن المشهور عند الفقهاء والأئمَّة المتبوعين أنَّ هذا على سبيل الاستحباب ، واستدلُّوا لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم: كان ينامُ وهو جُنُبٌ من غير أن يمسَّ ماءً([4])([5])))اهـ.
[1])) (1/ 369).
[2])) متفق عليه: أخرجه البخاري (287)، ومسلم (306).
[3])) البخاري (290)، ومسلم (306).
[4])) أخرجه أحمد (25135)، وأبو داود (228)، وابن ماجه (583)، وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (224)..
[5])) ((الشرح الممتع)) (1/ 396).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
بارك الله فيك ننتظر المزيد .
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو البراء محمد علاوة
بارك الله فيك ننتظر المزيد .
وفيكم بارك الله. نسأل الله التوفيق.
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة السابعة عشرة: ((إِذا قُيِّد اللفظ العام بما يوافق حُكْم العام، فليس بِقَيد([1])))
قال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «ويَجبُ التيمُّمُ بتُرابٍ»؛ هذا بيان لما يُتيمَّم به، وقد ذكر المؤلِّفُ له شروطًا:
الأول: كونه ترابًا؛ والتُّراب معروف، وخرج به ما عداه من الرَّمل، والحجارة وما أشبه ذلك.
فإِنْ عَدِم التُّرابَ كما لو كان في بَرٍّ ليس فيه إِلا رَمْل، أو ليس فيه إِلا طِين لكثرة الأمطار فيصلِّي بلا تيمُّم؛ لأنَّه عادِم للماء والتُّراب.
والدَّليل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وجُعِلت تربتُها لنا طَهُورًا»، وفي رواية: «وجُعِل التُّراب لي طَهُورًا».
قالوا: هذا يُخصِّص عُموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وجُعِلتْ لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا»؛ لأن الأرض كلمة عامَّة، والتُّراب خاصٌّ، فيُقيَّد العام بالخاص.
ورُدَّ هذا: بأنه إِذا قُيِّد اللفظ العام بما يوافق حُكْم العام، فليس بِقَيد.
وتقرير هذه القاعدة: أنَّ ذكر بعض أفراد العام بحُكم يوافق حُكم العام، لا يقتضي تخصيصه.
مثال ذلك: إِذا قلت: «أكرِم الطَّلَبَة» فهذا عام، فإِذا قلت: «أكرم زيدًا» وهو من الطَّلبة؛ فهذا لا يُخصِّص العام؛ لأنك ذكرت زيدًا بحُكْمٍ يوافق العام.
لكن لو قلت: «لا تُكْرم زيدًا»، وهو من الطَّلبة صار هذا تخصيصًا للعام؛ لأنِّي ذَكرته بِحُكْم يُخالف العام.
ومن ذلك قول بعض العلماء في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وفي الرِّقَةِ رُبع العُشرِ»: أنه يخصِّص عموم الأدلَّة الدَّالة على وجوب الزكاة في الفضَّة مطلقًا؛ لأنه قال: «وفي الرِّقَة»؛ والرِّقَة: هي السِّكَّة المضروبة.
فيقال: إِنْ سلَّمْنا أنَّ الرِّقَة هي الفِضَّة المضروبة، فذِكْرُ بعض أفراد العام بِحُكْم يوافق العام لا يقتضي تخصيصه.
وهذه القاعدة - أعني أن ذكر أفرادٍ بِحُكْم يوافق العام لا يقتضي التخصيص - إِنَّما هو في غير التقييد بالوصف، أما إِذا كان التَّقييد بالوصف فإِنه يفيد التَّخصيص، كما لو قُلت: «أكرِم الطَّلبة»، ثم قلت: «أكرِم المجتهد من الطَّلبة»، فذِكْر المجتهد هنا يقتضي التَّخصيص؛ لأنَّ التَّقييد بِوَصْف.
ومثل ذلك لو قيل: «في الإِبل صدقة»، ثم قيل: «في الإِبل السَّائمة صدقة»، فالتَّقييد هنا يقتضي التَّخصيص فتأمَّل([2])))اهـ.
[1])) (1/ 391).
[2])) (1/ 390- 392).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة الثامنة عشرة: ((ما كان من باب الغالب فلا مفهوم له، ولا يُخَصُّ به الحكم([1])))
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((وقال بعض الظَّاهريَّة: إِنَّ هذا الحُكم فيما إِذا وَلَغَ الكلب، أما بَوْله ورَوْثه فكسائر النَّجاسات؛ لأنهم لا يَرَوْن القياس.
وجمهور الفقهاء قالوا: إِن رَوْثَهُ، وبوله كوُلُوغه، بل هو أخبث، والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم نَصَّ على الوُلُوغ؛ لأن هذا هو الغالب؛ إِذ إِن الكلب لا يبول ويروث في الأواني غالبًا، بل يَلِغُ فيها فقط، وما كان من باب الغالب فلا مفهوم له، ولا يُخَصُّ به الحكم([2])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ: (1/ 417).
[2])) السابق.
قال نجم الدين الطوفي رحمه الله في ((شرح مختصر الروضة)) (2/ 775، 776): ((الْخَارِجُ مَخْرَجَ الْغَالِبِ؛ مَعْنَاهُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الْمُقَيَّدُ بِهَا غَالِبَةً عَلَى الْمَوْصُوفِ؛ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا} [النِّسَاءِ: 35]؛ إِذْ خَوْفُ الشِّقَاقِ غَالِبُ حَالِ الْخَلْعِ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَبَائِبُكُم اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النِّسَاءِ: 23] ، إِذِ الْغَالِبُ كَوْنُ الرَّبِيبَةِ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ تَبَعًا لِأُمِّهَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الْإِسْرَاءِ: 31]؛ أَيْ: فَقْرٍ وَإِقْتَارٍ، إِذِ الْغَالِبُ أَنَّ قَتْلَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَكُونُ لِضَرُورَةٍ؛ كَضَرُورَةِ الْفَقْرِ وَقِلَّةِ الْمَعَاشِ))اهـ.
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة التاسعة عشرة: ((عدم السبب المعيَّن لا يقتضي انتفاء المسَبَّب المعين)) أو: ((انتفاء الدَّليل المعيَّن لا يَستلزِم انتفاء المدلول([1])))
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((وذهب أبو حنيفة رحمه الله إِلى أن الشمس تُطَهِّرُ المتنجِّس إِذا زال أثر النَّجاسة بها، وأنَّ عين النَّجاسة إِذا زالت بأيِّ مزيل طَهُر المحلُّ؛ وهذا هو الصَّواب لما يلي:
1- أن النَّجاسةَ عينٌ خبيثة نجاستُها بذاتها، فإِذا زالت عاد الشيء إِلى طهارته.
2- أن إِزالة النَّجاسة ليست من باب المأمور، بل من باب اجتناب المحظور، فإِذا حصل بأيِّ سبب كان ثَبَتَ الحُكم، ولهذا لا يُشترط لإِزالة النّجاسة نيَّة، فلو نزل المطر على الأرض المتنجِّسة وزالت النَّجاسة طَهُرت، ولو توضَّأ إِنسان وقد أصابت ذراعَه نجاسةٌ ثم بعد أن فرغ من الوُضُوء ذكرها فوجدها قد زالت بماءِ الوُضُوء فإِن يده تطهر، إِلا على المذهب؛ لأنهم يشترطون سبع غسلات، والوُضُوء لا يكون بسبع.
والجواب عما استدلَّ به الحنابلة: أنه لا ينكر أن الماء مطهِّر، وأنه أيسر شيء تطُهَّر به الأشياء، لكن إِثبات كونه مطهِّرًا، لا يمنع أن يكون غيره مطهرًا؛ لأن لدينا قاعدة وهي: "أن عدم السبب المعيَّن لا يقتضي انتفاء المسَبَّب المعين"؛ لأن المؤثِّر قد يكون شيئًا آخر؛ وهذا الواقع بالنسبة للنجاسة.
وعبَّر بعضهم عن مضمون هذه القاعدة بقوله: "انتفاء الدَّليل المعيَّن لا يَستلزِم انتفاء المدلول"؛ لأنَّه قد يَثْبُتُ بدليل آخر([2])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ: (1/ 425).
[2])) السابق.
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة العشرون: ((لا ضرورة في دواء([1])))
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وبَوْلُ ما يُؤكَلُ لَحْمُهُ، وَرَوْثُه، طاهر؛ كالإِبل، والبقر، والغنم، والأرانب، وما شابه ذلك.
فإن قيل: ما الجواب عن نهي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم عن الصَّلاة في مَعاطِنِ الإِبل، فإِن هذا يدلُّ على نجاستها.
فالجواب: أنَّ العِلَّة في النَّهي عن الصَّلاة في معاطِن الإِبل ليست هي النَّجاسة؛ ولو كانت العِلَّة النَّجاسة لم يكن هناك فرق بين الإِبل والغنم؛ ولكن العِلَّة شيء آخر.
فقيل: إن هذا الحكم تعبُّدي، يعني: أنه غير معلوم العِلَّة.
وقيل: يُخشَى أنه إِذا صلَّى في مباركها أن تَأْوي إِلى هذا المبرك وهو يصلِّي، فَتُشوِّش عليه صلاته لِكِبَر جسمها، بخلاف الغنم.
وقيل: إنها خُلِقت من الشَّياطين؛ كما ورد بذلك الحديث([2])؛ وليس المعنى أنَّ أصل مادَّتها ذلك؛ ولكن المعنى أنها خُلِقت من الشَّيطنة، وهذا كقوله تعالى: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]؛ وليس المعنى أن مادة الخَلْق من عَجَلٍ؛ لكن هذه طبيعته، كما قال تعالى: {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإِسراء: 11].
فإن قيل: إِن النبي صلّى الله عليه وسلّم أباح شرب أبوال الإِبل للضَّرورة، والضَّرورات تُبيح المحظورات.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن الله لم يجعل شفاء هذه الأُمَّة فيما حَرَّم عليها.
الثاني: أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يأمرهم بِغَسْل الأواني بعد الانتهاء من استعمالها، إِذ لا ضرورة لبقاء النَّجاسة فيها.
الثالث: القاعدة العامة: «لا ضرورة في دواء»؛ ووجه ذلك: أن الإِنسان قد يُشفَى بدونه، وقد لا يُشفَى به([3]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وَلَسْت أَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي جَوَازِ التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ، كَمَا جَاءَتِ السُّنَّةُ؛ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ مَنَاطِهِ؛ فَقِيلَ: هُوَ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي.
وَقِيلَ: بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ وَإِنَّمَا أَبَاحَهَا لِلتَّدَاوِي.
وَقِيلَ: هِيَ مَعَ ذَلِكَ نَجِسَةٌ. وَالِاسْتِدْلَا لُ بِهَذَا الْوَجْهِ يَحْتَاجُ إلَى رُكْنٍ آخَرَ؛ وَهُوَ أَنَّ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَا تِ النَّجِسَةِ مُحَرَّمٌ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى التَّحْرِيمِ مِثْلُ قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَ: {كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ} وَ: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} عَامَّةٌ فِي حَالِ التَّدَاوِي وَغَيْرِ التَّدَاوِي، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَخَصَّ الْعُمُومَ؛ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَبَاحَهَا لِلضَّرُورَةِ وَالْمُتَدَاوِي مُضْطَرٌّ فَتُبَاحُ لَهُ، أَوْ أَنَّا نَقِيسُ إبَاحَتَهَا لِلْمَرِيضِ عَلَى إبَاحَتِهَا لِلْجَائِعِ بِجَامِعِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا.
قُلْت: لَيْسَ التَّدَاوِي بِضَرُورَةٍ لِوُجُوهِ:
أَحَدُهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَرْضَى أَوْ أَكْثَرُ الْمَرْضَى يَشْفُونَ بِلَا تَدَاوٍ؛ لَا سِيَّمَا فِي أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْقُرَى وَالسَّاكِنِينَ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ يَشْفِيهِمُ اللَّهُ بِمَا خَلَقَ فِيهِمْ مِنَ الْقُوَى الْمَطْبُوعَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ الرَّافِعَةِ لِلْمَرَضِ وَفِيمَا يُيَسِّرُهُ لَهُمْ مِنْ نَوْعِ حَرَكَةٍ وَعَمَلٍ أَوْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ أَوْ رُقْيَةٍ نَافِعَةٍ أَوْ قُوَّةٍ لِلْقَلْبِ وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْكَثِيرَةِ غَيْرِ الدَّوَاءِ، وَأَمَّا الْأَكْلُ فَهُوَ ضَرُورِيٌّ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ أَبْدَانَ الْحَيَوَانِ تَقُومُ إلَّا بِالْغِذَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ لَمَاتَ؛ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ التَّدَاوِي لَيْسَ مِنَ الضَّرُورَةِ فِي شَيْءٍ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَاجِبٌ؛ قَالَ مَسْرُوقٌ: "مَنِ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ"، وَالتَّدَاوِي غَيْرُ وَاجِبٍ وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ: خَصَمَتْهُ السُّنَّةُ فِي الْمَرْأَةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي خَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ الدُّعَاءِ بِالْعَافِيَةِ. فَاخْتَارَتِ الْبَلَاءَ وَالْجَنَّةَ، وَلَوْ كَانَ رَفْعُ الْمَرَضِ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْيِيرِ مَوْضِعٌ كَدَفْعِ الْجُوعِ، وَفِي دُعَائِهِ لِأُبَيٍّ بِالْحُمَّى، وَفِي اخْتِيَارِهِ الْحُمَّى لِأَهْلِ قُبَاءَ، وَفِي دُعَائِهِ بِفَنَاءِ أُمَّتِهِ بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ، وَفِي نَهْيِهِ عَنِ الْفِرَارِ مِنَ الطَّاعُونِ؛ وَخَصَمَهُ حَالُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُبْتَلِينَ الصَّابِرِينَ عَلَى الْبَلَاءِ حِينَ لَمْ يَتَعَاطَوْا الْأَسْبَابَ الدَّافِعَةَ لَهُ: مِثْلَ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ، وَخَصَمَهُ حَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَالُوا لَهُ: أَلَا نَدْعُوَ لَك الطَّبِيبَ؟ قَالَ: قَدْ رَآنِي قَالُوا: فَمَا قَالُ لَك؟ قَالَ: إنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدَ. وَمِثْلُ هَذَا وَنَحْوِهِ يُرْوَى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ الْمُخْبِتِ الْمُنِيبِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْكُوفِيِّينَ أَوْ كَأَفْضَلِهِمْ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ الْهَادِي الْمَهْدِيِّ وَخَلْقٍ كَثِيرٍ لَا يُحْصُونَ عَدَدًا، وَلَسْت أَعْلَمُ سَالِفًا أَوْجَبَ التداوي، وَإِنَّمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمَعْرِفَةِ يُفَضِّلُ تَرْكَهُ تَفَضُّلًا وَاخْتِيَارًا لِمَا اخْتَارَ اللَّهُ وَرِضًى بِهِ وَتَسْلِيمًا لَهُ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الدَّوَاءَ لَا يُسْتَيْقَنُ بَلْ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ لَا يَظُنُّ دَفْعَهُ لِلْمَرَضِ؛ إذْ لَوِ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَمُتْ أَحَدٌ، بِخِلَافِ دَفْعِ الطَّعَامِ لِلْمَسْغَبَةِ وَالْمُجَاعَةِ فَإِنَّهُ مُسْتَيْقَنٌ بِحُكْمِ سُنَّةِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَخَلْقِهِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمَرَضَ يَكُونُ لَهُ أَدْوِيَةٌ شَتَّى فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِالْمُحَرَّمِ انْتَقَلَ إلَى الْمُحَلَّلِ، وَمُحَالٌ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْحَلَالِ شِفَاءٌ أَوْ دَوَاءٌ، وَاَلَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً إلَّا الْمَوْتَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْوِيَةُ الْأَدْوَاءِ فِي الْقِسْمِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ. وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا»، بِخِلَافِ الْمَسْغَبَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ انْدَفَعَتْ بِأَيِّ طَعَامٍ اتَّفَقَ إلَّا أَنَّ الْخَبِيثَ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ فَقْدِ غَيْرِهِ فَإِنْ صَوَّرْتَ مِثْلَ هَذَا فِي الدَّوَاءِ فَتِلْكَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ أَنْدَرُ مِنَ الْجُوعِ بِكَثِيرِ، وَتَعَيُّنُ الدَّوَاءِ الْمُعَيَّنِ وَعَدَمُ غَيْرِهِ نَادِرٌ، فَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا. عَلَى أَنَّ فِي الْأَوْجُهِ السَّالِفَةِ غِنًى. وَخَامِسُهَا: وَفِيهِ فِقْهُ الْبَابِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ خَلْقَهُ مُفْتَقِرِينَ إلَى الطَّعَامِ وَالْغِذَاءِ، لَا تَنْدَفِعُ مَجَاعَتُهُمْ وَمَسْغَبَتُهُم ْ إلَّا بِنَوْعِ الطَّعَامِ وَصِنْفِهِ فَقَدْ هَدَانَا وَعَلَّمَنَا النَّوْعَ الْكَاشِفَ لِلْمَسْغَبَةِ الْمُزِيلَ لِلْمَخْمَصَةِ، وَأَمَّا الْمَرَضُ فَإِنَّهُ يُزِيلُهُ بِأَنْوَاعِ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ رُوحَانِيَّةٍ وَجُسْمَانِيَّة ٍ، فَلَمْ يَتَعَيَّنِ الدَّوَاءُ مُزِيلًا([4])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ: (1/ 453).
[2])) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: «تَوَضَّئُوا مِنْهَا» وَسُئِلَ عَنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: «لَا تَوَضَّئُوا مِنْهَا»، وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: «لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ، فَإِنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ»،
وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: «صَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ». أخرجه أبو داود (184)، والترمذي(81)، وابن ماجه (494).
[3])) (1/ 450- 453)، بتصرف واختصار.
[4])) ((مجموع الفتاوى)) (21/ 562- 565 )، باختصار.
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة الحادية والعشرون: ((يَثْبُتْ تَبَعًا مَا لا يثبتُ استقلالا([1])))
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((مسألة: هل المحرَّمُ مَسُّ القرآنِ، أو مَسُّ المصحفِ الذي فيه القرآن؟ فيه وَجْهٌ للشَّافعية: أن المحرَّم مسُّ نَفْس الحروفِ دونَ الهوامِش؛ لأنَّ الهوامِش وَرَقٌ، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22]، والظَّرف غير المظروف.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ([2])».
وقال الحنابلة: يَحْرُمُ مَسُّ القرآن وما كُتِبَ فيه.
وهذا هو الأحوط؛ لأنه يَثْبُتُ تبعًا ما لا يَثْبُتُ استقلالًا([3])))اهـ.
وقال الشيخ رحمه الله: ((والصُّفْرَةُ، والكُدْرَةُ في زمن العادةِ: حيضٌ.
والصُّفرة: ماءٌ أصفر كماء الجُروح.
والكُدرة: ماءٌ ممزوجٌ بحُمرة، وأحيانًا يُمزَجُ بعروق حمراء كالعَلَقة، فهو كالصَّديد يكون ممتزجًا بمادة بيضاء وبدم.
قوله: «في زمن العادة حيضٌ»؛ أي: في وقتها، وظاهر كلامه أنهما إِن تقدَّما على زمن العادة أو تأخَّرا عنه فليسا بحيض، وهذا أحد الأقوال في المسألة.
والقول الثاني: أنَّهما ليسا بحيض مطلقًا؛ لقول أمِّ عطيَّة: «كُنَّا لا نعدُّ الكُدْرة والصُّفرة شيئًا([4])» رواه البخاري.
ومعنى قولها: «شيئًا» من الحيض، وليس المعنى أنَّه لا يؤثِّر؛ لأنه ينقض الوُضُوء بلا شكٍّ، وظاهر كلامها العموم.
والقول الثَّالث: أنَّهما حيض مطلقًا؛ لأنَّه خارجٌ من الرَّحم ومنتنُ الرِّيح، فحكمه حكم الحيض.
واستُدلَّ لما قاله المؤلِّف:
1- بما رواه أبو داود في حديث أمِّ عطيَّة: «كُنَّا لا نَعُدُّ الصُّفرة والكُدْرَةَ بعد الطُّهرِ شيئًا»؛ فهذا القيد يدلُّ على أنه قبل الطُّهر حيضٌ.
2- أنَّه إِذا كان قبل الطُّهر يثبت له أحكام الحيض تبعًا للحيض؛ إِذ من القواعد الفقهيَّة: «أنه يثبت تَبَعًا ما لا يثبتُ استقلالًا»، أما بعد الطُّهر فقد انفصل، وليس هو الدَّم الذي قال الله فيه: {هُوَ أَذىً} فهو كسائر السَّائلات التي تخرج من فرج المرأة، فلا يكون له حكم الحيض([5])))اهـ.
وقال الشيخ رحمه الله: ((فيجوز أن يُرمى الكفار بالمنجنيق، وفي الوقت الحاضر لا يوجد منجنيق، لكن يوجد ما يقوم مقامه كالطائرات والمدافع والصواريخ وغيرها.
وقال: «ولو قُتِلَ بلا قصد صبي ونحوه» من المعلوم أننا إذا رميناهم بالمنجنيق فإنه سوفَ يُتلف مَنْ مرَّ عليه من مقاتل وشيخ كبير لا يقاتل، وامرأة وصبي، لكن هذا لم يكن قصدًا، وإذا لم يكن قصدًا فلا بأس، أما تعمد قصف الصبيان والنساء ومن لا يقاتل فإن هذا حرام ولا يحل، لكن يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا، وقد رمى الرسول صلّى الله عليه وسلّم: أهل الطائف بالمنجنيق، فالسُّنُّة جاءت به، والقتال قد يحتاج إليه([6])))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ: (1/ 321)، (1/ 500)، (5/ 17)، (5/ 19)، (6/ 84)، (6/ 317)، (7/ 256)، (8/ 23)، (8/ 154)، (10/ 227)، (10/ 248)، (11/ 20).
[2])) أخرجه مالك (137)، والدارمي (2312)، وغيرهم، وصححه الألباني في «الإرواء» (122).
[3])) (1/ 321).
[4])) أخرجه البخاري (326).
[5])) (1/ 498- 500).
[6])) (8/ 23).
-
رد: القواعد المستخلصة من الشرح الممتع
القاعدة الثانية والعشرون: ((العبادات الواردة على وجوه متنوِّعة، ينبغي للإنسان أن يفعلها على هذه الوجوه([1]))) قال الشيخ رحمه الله: ((كلُّ ما جاءت به السُّنَّة من صفات الأذان فإنه جائز؛ بل الذي ينبغي: أنْ يؤذِّنَ بهذا تارة، وبهذا تارة، إن لم يحصُل تشويش وفتنةٌ.
فعند مالك سبعَ عَشْرةَ جملة، بالتكبير مرتين في أوَّله مع الترجيع؛ وهو أن يقول الشهادتين سِرًّا في نفسه ثم يقولها جهرًا.
وعند الشافعي تسعَ عَشْرَة جملة، بالتكبير في أوَّله أربعًا مع الترجيع.
وكلُّ هذا مما جاءت به السُّنَّة، فإذا أذَّنت بهذا مرَّة وبهذا مرَّة كان أولى؛ والقاعدة: «أن العبادات الواردة على وجوه متنوِّعة، ينبغي للإنسان أن يفعلها على هذه الوجوه»؛ وتنويعها فيه فوائد:
أولًا: حفظ السُّنَّة، ونشر أنواعها بين النَّاس.
ثانيًا: التيسير على المكلَّف، فإن بعضها قد يكون أخفَّ من بعض فيحتاج للعمل.
ثالثًا: حضور القلب، وعدم مَلَله وسآمته.
رابعًا: العمل بالشَّريعة على جميع وجوهها([2])))اهـ.
وقال الشيخ رحمه الله: ((والعلماءُ رحمهم الله اختلفوا في العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة: هل الأفضل الاقتصار على واحدة منها، أو الأفضل فِعْلُ جميعها في أوقات شتَّى، أو الأفضل أنْ يجمعَ بين ما يمكن جَمْعُه؟
والصَّحيح: القول الثاني الوسط، وهو أن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة تُفعل مرَّة على وجهٍ، ومرَّة على الوجه الآخر([3])))اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فَصْلٌ: الْعِبَادَاتُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى وُجُوهٍ مُتَنَوِّعَةٍ:
قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْوَاعٍ يُشْرَعُ فِعْلُهَا عَلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ لَا يُكْرَهُ مِنْهَا شَيْءٌ؛ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْوَاعِ التَّشَهُّدَاتِ وَأَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحِ وَمِثْلُ الْوِتْرِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ وَمِثْلُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَالْمُخَافَتَة ِ وَأَنْوَاعِ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا وَالتَّكْبِيرِ فِي الْعِيدِ وَمِثْلُ التَّرْجِيعِ فِي الْأَذَانِ وَتَرْكِهِ وَمِثْلُ إفْرَادِ الْإِقَامَةِ وَتَثْنِيَتِهَا ، ... وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ عَلَى وُجُوهٍ؛ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ وَالِاسْتِفْتَا حِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ مَقَامَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: فِي جَوَازِ تِلْكَ الْوُجُوهِ كُلِّهَا بِلَا كَرَاهَةٍ؛ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا كُلِّهِ.
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَدْ يَكْرَهُ أَوْ يُحَرِّمُ بَعْضَ تِلْكَ الْوُجُوهِ؛ لِظَنِّهِ أَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تَأْتِ بِهِ أَوْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ كَمَا كَرِهَ طَائِفَةٌ التَّرْجِيعَ فِي الْأَذَانِ وَقَالُوا: "إنَّمَا قَالَهُ لِأَبِي مَحْذُورَةَ تَلْقِينًا لِلْإِسْلَامِ لَا تَعْلِيمًا لِلْأَذَانِ"، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنَ الْأَذَانِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ أَبُو مَحْذُورَةَ، وَقَدْ عَمِلَ بِذَلِكَ هُوَ وَوَلَدُهُ وَالْمُسْلِمُون َ يُقِرُّونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا.
وَكَرِهَ طَائِفَةٌ الْأَذَانَ بِلَا تَرْجِيعٍ، وَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ أَذَانَ بِلَالٍ الثَّابِتِ لَيْسَ فِيهِ تَرْجِيعٌ.
وَكَرِهَ طَائِفَةٌ تَرْجِيعَهَا، وَكَرِهَ طَائِفَةٌ صَلَاةَ الْخَوْفِ إلَّا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَرِهَ آخَرُونَ مَا أَمَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ.
وَالصَّوَابُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَلَا كَرَاهَةَ لِشَيْءِ مِنْهُ؛ بَلْ هُوَ جَائِزٌ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ؛ وَالْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ: الْمَقَامُ الثَّانِي؛ وَهُوَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْوَاعٍ مُتَنَوِّعَةٍ - وَإِنْ قِيلَ: إنَّ بَعْضَ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ أَفْضَلُ - فَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَفْعَلَ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً أَفْضَلُ مِنْ لُزُومِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَهَجْرِ الْآخَرِ([4]).
[1])) ذكرها الشيخ: (2/ 56)، (2/ 65)، (3/ 29- 30)، (3/ 98)، (3/ 161)، (3/ 216)، (3/ 223).
[2])) (2/ 56، 57).
[3])) (3/ 30).
[4])) ((مجموع الفتاوى)) (22/ 335- 337).
-
القاعدة الثالثة والعشرون: ((ينقلب نَفْلًا ما بان عَدَمُهُ))([1])
قال الشيخ رحمه الله: ((كفائتةٍ لم تَكُنْ، وفرضٍ لَمْ يدخلْ وقتُهُ.
مثال ذلك: إنسان ظَنَّ أنَّ عليه صلاةً فائتةً، فصلَّى، ثم تبيَّن أنَّه قد صلاَّها من قبل؛ فتكون هذه الصلاة نافلة.
ومثال الفرض الذي لَمْ يدخل وقتُهُ: أنْ يصلِّي المغربَ ظنًّا منه أنَّ الشَّمس قد غربت، ثم يتبيَّن أنها لم تغرب، فتكون هذه نافلة، ويُعيدُها فرضًا بعد الغروب))اهـ.([2])
[1])) ذكرها الشيخ (2/ 128).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 128).
-
القاعدة الرابعة والعشرون: ((كُلُّ واجب في العبادة شرطٌ لصحَّتها))([1])
قال الشيخ رحمه الله: ((كلُّ واجب في العبادة شرطٌ لصحَّتها؛ فالقاعدة الشَّرعية: «أنَّ كلَّ واجب في العبادة هو شرط لصحَّتها»؛ فإذا تركه الإنسان عمدًا بطلت هذه العبادة؛ ولهذا لو تركَ الإنسانُ التَّشَهُّدَ الأوَّلَ أو الأخيرَ في الصَّلاة مُتعمِّدًا بطلت صلاتُه، وكذلك بقية الواجبات، لو تركها متعمِّدًا بطلت الصَّلاةُ))اهـ.([2])
[1])) ذكرها الشيخ (2/ 151).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 151).
-
القاعدة الخامسة والعشرون: ((كلُّ معنيين يحتملهما اللفظ القرآنيُّ أو اللفظ النبويُّ، ولا يتنافيان، فإنهما مُرادان باللفظ))([1])
قال الشيخ رحمه الله: ((قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]، فـ«ثياب» مفعول مُقدَّم لـ«طَهِّر»؛ يعني «طَهِّرْ ثيابك» وهو ظاهر في أنَّ المراد ثياب اللباس.
وقال بعض أهل العلم: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}؛ أي: عَمَلَكَ طهِّرْهُ من الشِّرك؛ لأن العمل لباس كما قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]؛ فيكون المراد تنقيةُ العمل من الشِّرك؛ ولهذا قال بعدها: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]؛ فنقول: الآية تحتمل هذا وهذا، ولا يمتنع أن تُحمل على المعنيين؛ لأنهما لا يتنافيان، وكلُّ معنيين يحتملهما اللفظ القرآنيُّ أو اللفظ النبويُّ، ولا يتنافيان فإنهما مُرادان باللفظ))اهـ.([2])
[1])) ذكرها الشيخ (2/ 153).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 153).
-
القاعدة السادسة والعشرون: ((إذا اجتمع مبيح وحاظر غُلِّبَ جانب الحظر))([1])
قال الشيخ رحمه الله: ودليل هذه القاعدة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَى مَا لَا يَريْبُكَ».
وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ».([2])
وقال الشيخ رحمه الله: ((وأمَّا كُتُب التَّفسير فيجوز مَسُّها؛ لأنها تُعْتَبر تفسيرًا، والآيات التي فيها أقلُّ من التَّفسير الذي فيها.
ويُسْتَدَلُ لهذا بكتابة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الكُتُبَ للكُفَّارِ، وفيها آيات من القرآن، فدلَّ هذا على أن الحُكْمَ للأغلب والأكثر.
أما إِذا تساوى التَّفسير والقُرآن، فإِنَّه إِذا اجتمع مبيحٌ وحاظرٌ ولم يتميَّز أحدُهما بِرُجْحَانٍ، فإِنه يُغلَّب جانب الحظر فيُعْطى الحُكْمُ للقرآن.
وإن كان التَّفسير أكثر ولو بقليل أُعْطِيَ حُكْمَ التَّفسير))اهـ.([3])
وقال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «والبغل منه: نَجِسةٌ»؛ أي: من الحمار الأهليِّ. والبغل: دابَّة تتولَّد من الحمار إِذا نَزَا على الفرس.
وتعليل ذلك: تغليب جانب الحظر؛ لأن هذا البغل خُلِقَ من الفرس والحمار الأهليِّ، على وجه لا يتميَّز به أحدهما عن الآخر؛ فلا يمكن اجتناب الحرام إِلا باجتناب الحلال))اهـ.([4])
وقال الشيخ رحمه الله في معرِض كلامه عن الصيد: ((لو سقط في نار، ورميناه بسهم، فما ندري: هل النار التي قتلته أم السهم؟ فإنه لا يحل؛ لأنه اجتمع عندنا مبيح وحاظر، فيُغلَّب جانب الحظر؛ أي: المنع؛ لأننا لا ندري أيهما الذي حصل به الموت))اهـ.([5])
وقال الشيخ رحمه الله في معرض كلامه عن الصيد أيضًا: ((مثال ذلك: رجل معه كلب صيد ويمشي ولم ينتبه للصيد إلا والكلب يعدو على الصيد، فهو ما أرسله، لكن كيف يَحِل؟ نقول: ازجره، يعني حُثَّه على الصيد، فإن زاد في عدوه في طلبه حلَّ؛ لأن زيادته في العَدْوِ تدل على أنه قصد أن يمسك عليك، فحينئذٍ يحل، وهذه حيلة سهلة.
فإن زجرتُهُ أريد أن يسرع في العَدْوِ، لكنه بقي على ما هو عليه، لم يحل؛ لأن زجري إياه لم يؤثر عليه، وهو إنما انطلق أولًا لنفسه.
لو قال قائل: قد يكون هذا الكلب من كثرة تعليمه أنه تعود هذا، وأنه إنما ذهب بالنيابة عن صاحبه، وهذا ممكنٌ.
لكننا نقول: ويمكن أيضًا أنه إنما أراد أن يأخذ لنفسه، وإذا اجتمع سببان: مبيح وحاظر، غُلب جانب الحظر.
وهذا باعتبار تنزيل هذه المسألة على القواعد، أما باعتبار النص فالمسألة واضحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أرسلت كلبك» فما دام الكلب هو الذي ذهب، وراح بدون علم مني، ولا أمر مني، فأنا ما صدت في الحقيقة، وإنما الذي صاد الكلب))اهـ.([6])
[1])) ذكرها الشيخ (1/ 323)، (1/ 461)، (2/ 213)، (4/ 366)، (7/ 143)، (15/ 77)، (15/ 110).
[2])) ((الشرح الممتع)) (4/ 366).
[3])) ((الشرح الممتع)) (1/ 323).
[4])) ((الشرح الممتع)) (1/ 461).
[5])) ((الشرح الممتع)) (15/ 77).
[6])) ((الشرح الممتع)) (15/ 109، 110).
-
القاعدة السابعة والعشرون: ((الضَّرورات تُبيح المحظورات))([1])
قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].
وقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145].
وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَلَّ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].
مثال القاعدة: لو أشرف شخص على الهلاك جوعًا، فلم يجد إلا ميتة فله أكلها.
[1])) ذكرها الشيخ: (1/452).
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
القاعدة السابعة والعشرون: ((الضَّرورات تُبيح المحظورات))([1])
قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].
وقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145].
وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَلَّ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].
مثال القاعدة: لو أشرف شخص على الهلاك جوعًا، فلم يجد إلا ميتة فله أكلها.
[1])) ذكرها الشيخ: (1/452).
المشكلة في تطبيق هذه القاعدة وليس في مثالها فكل المتعاملين مع " الموظفين " يدفعون رشاوي للحصول على مصالحهم المشروعة
مثال: استخراج بطاقة
أو استخراج رخصة قيادة
أو توثيق عقد بيع عقار لا تنتقل الملكية بدون هذا التوثيق
ولو ذهبت لإبلاغ الشرطة عن الموظف الفاسد أمين الشرطة لن يعمل لك محضر إلا لو أعطيته رشوة
وكل هذا نتكلم عن " صاحب مصلحة مشروعة " .
-
أخانا عبد الله، الأمور واضحة عند الفقهاء، وأما أصحاب الهوى فلا ضابط لهم
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
أخانا عبد الله، الأمور واضحة عند الفقهاء، وأما أصحاب الهوى فلا ضابط لهم
سيدي الفاضل
أنا لست فقيه ولم أدرس الفقه ولو درسته فلن يكن عندي قدرة على التكييف الفقهي
وقد كتبت في هذا الموضوع قرابة عشرين ورقة فيه ما أفهمه بهذه القضية وعرضته على أحد أساتذة الفقه في قسم الشريعة في كلية الحقوق التي أدرس فيها في جامعة القاهرة فأهملني ولم يرد على ما طلبته منه رغم موافقته وترحيبه في البداية إلا أنه استهزئ بالموضوع لأنه " معروف " و " واضح " كما تقول حضرتك بعد انتظار أكثر من خمسة شهور منذ أن استلم مني الورق
وقد فعلت حضرتك نفس الأمر
فقد حكيت لك الموضوع في رسالة خاصة وطلبت من حضرتك أن أعطيك الورق الذي أعطيته له لتساعدني فرحبت بالفكرة - كما رحّب هو - لكنك في النهاية لم ترد - كما فعل هو - فصارت النتيجة أني :
1) لست من الفقهاء لأعرف
2) لست من أصحاب الهوى - بإذن الله - لأتصرف من دماغي
3) لا أجد أحد يهتم بي ويسمعني كي أستطيع أن أشرح له المشاكل اليومية التي يواجهها الناس ، وإن كان الأمر لا يحتاج شرح عنده وهو يعرفه فأنا أحتاج أن يشرح لي لأفهم لكن للأسف:
أ) أنا لست داخل في النطاق الوظيفي لأي متخصص في الفقه وبالتالي لا أحد عنده وقت لي - بما فيهم حضرتك بعد أن وافقت على استلام الورق وأرسلته لك -
ب) لو حاولت أجعل الدكتوراة - بعد أن أنتهي من الماجستير إن شاء الله - في هذا الموضوع فلن يتم قبوله لأنه
" موضوع متكرر ومعروف ولن آتي فيه بجديد "
ج) لو افترضت أنه تم تسجيل الدكتوراة في هذا الموضوع لأبحث وأجد وأعلم ، فلن أجد مشرف يراعي ويهتم ، لأن كل المشرفين على الرسائل العلمية الآن غالباً لا يهتمون بمن تحت يدهم من الطلاب لأن وقتهم لا يسع الإشراف على الرسائل العلمية للطلاب الذين تحت أيديهم وتحت إشرافهم - وذلك نقلاً عن أحد أساتذي في قسم الشريعة - مما يجعل الرسائل إما يتم شطبها أو أن يسير الطالب في منهج خاطئ فتخرج الرسالة ضعيفة من الناحية العلمية .
هل أدركت الواقع الذي أعيشه . مع العلم أني محامي يومياً أتعامل مع موظفين فإما:
أ) يجب أن أعطيه شيئاً كي يقوم بعمله وإلا ستتعطل المصلحة
ب) يجب أن أعطيه شيئاً لأنه قام بعمله من تلقاء نفسه وإلا لن يقدم لي خدمة - وهي القيام بعمله - مرة أخرى طالما أنه لما قام به من تلقاء نفسه لم أعطه شئ
ومع كل هذا فإن ذهبت وسألت متخصص لا يهتم بالرد على فتواي لأن المسألة " واضحة " و " معروفة " . !!!!!
والسلام
-
بارك الله فيكم أخانا الكريم الأستاذ عبد الله عمر المصري.
أولًا: أنا لا أقصدك أنت بقولي: (أصحاب الهوى).
ثانيًا: بالطبع أنَّ أكثر الناس عوام لا يستطيعون التفريق بين الضرورة والحاجة، فهؤلاء يجب عليهم إذا أرادوا فعل شيء أن يسألوا أهل العلم كي يدلوهم على الطريق الصحيح، وكي يبينوا لهم هل هذه ضرورة أم حاجة، وهل يحق له فعل المحرم هنا أم لا.
ولا شك أنَّ الناس هنا يتفاوتون: فمنهم العالم الذي تتضح له جميع الأمور.
ومنهم طالب العلم الذي تتضح له أمور ويشكل عليه بعضها.
ومنهم العامي الذي الذي يجب عليه السؤال في كل مرة، إن لم تكن الأمور واضحة له.
ثالثًا: دفع الرشوة مباح إذا كان لنيل حق لك، لن تستطيع تحصيله إلا بدفع الرشوة، والإثم على الآخذ، لا على الدافع.
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
ثالثًا: دفع الرشوة مباح إذا كان لنيل حق لك، لن تستطيع تحصيله إلا بدفع الرشوة، والإثم على الآخذ، لا على الدافع.
في كل الأحوال ؟؟
هذا الكلام يعني أن " الإضرار بالغير " ركن في تحريم الرشوة
وهو ما لم يقل به القانون الوضعي الذي اعتبر الراشي مساهم في الجريمة وليس فاعل أصلي لأن علة تجريم فعل الراشي في القانون - والشرع - معاونته للموظف على الإتجار بوظيفته
-
القاعدة الثامنة والعشرون:
((المحرَّم لا تبيحه إلا الضرورة))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «ولضرورة»، هذا عائد على الحرير، أي: أو لُبْسه لضرورة، ومن الضَّرورة ألا يكون عنده ثوب غيره، ومن الضَّرورة أيضًا أن يكون عليه ثوب، ولكنه احتاج إلى لُبْسِهِ لدفع البرد، ومن الضَّرورة أيضًا أن يكون عليه ثوب لا يستر عورته لتمزُّقٍ فيه، فكلُّ ما دعت إليه الضَّرورة جاز لُبْسُهُ.
قوله: «أو حِكَّةٍ»، أي: أنه إذا كان فيه حِكَّة جاز لُبْسه، والحكمة: أن الحرير لنعومته ولينه يطفئ الالتهاب من الحِكَّة فلهذا أجازه الشَّارع، فقد رَخَّصَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بنِ عَوف والزُّبير رضي الله عنهما أن يلبسا الحرير من حِكَّة كانت بهما؛ فالحِكَّة إذًا تُبيح لُبْس الحرير.
فإذا قال قائل: لدينا قاعدة شرعية وهي: (أن المحرَّم لا تُبيحه إلا الضَّرورة)، وهنا الحِكَّة هل هي ضرورة؟
فالجواب: أنها قد تكون ضرورة؛ فأحيانًا يُبتلى الإنسان بحِكَّة عظيمة لا تجعله يستقر))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ (2/ 214، 215)، (5/ 72).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 214، 215).
-
القاعدة التاسعة والعشرون:
((ما حُرِّمَ تحريم الوسائل أباحته الحاجة))([1]) قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ((ولما كان النظر مِنْ أقرب الوسائل إلى المحرم اقتضت الشريعة تحريمه وأباحته في موضع الحاجة؛ وهذا شأن كل ما حرم تحريم الوسائل فإنه يُباح للمصلحة الراجحة؛ كما حرمت الصلاة في أوقات النهي لئلا تكون وسيلة إلى التشبه بالكفار في سجودهم للشمس أبيحت للمصلحة الراجحة كقضاء الفوائت وصلاة الجنازة وفعل ذوات الأسباب على الصحيح))اهـ([2]).
وقال العلامة ابن القيم – أيضًا – رحمه الله: ((قال الله تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} الآية؛ فلما كان غض البصر أصلًا لحفظ الفرج بدأ بذكره، ولما كان تحريمه تحريم الوسائل فيباح للمصلحة الراجحة ويحرم إذا خيف منه الفساد ولم يعارضه مصلحة أرجح مِنْ تلك المفسدة، لم يأمر سبحانه بغضه مطلقًا؛ بل أمر بالغض منه، وأما حفظ الفرج فواجب بكل حال لا يُباح إلا بحقه؛ فلذلك عم الأمر بحفظه))اهـ([3]).
وقال العلامة ابن القيم – أيضًا – رحمه الله: ((وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يُقرب طِيبًا، أو يُمس به، تناول ذلك الرأسَ والبدنَ والثيابَ، وأما شمه مِنْ غير مَسٍّ فإنما حرمه مَنْ حرمه بالقياس، وإلا فلفظ النهي لا يتناوله بصريحه ولا إجماع معلوم فيه يجب المصير إليه، ولكن تحريمه مِنْ باب تحريم الوسائل؛ فإنَّ شمه يدعو إلى ملامسته في البدن والثياب؛ كما يحرم النظر إلى الأجنبية؛ لأنه وسيلة إلى غيره، وما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة، أو المصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى الأمة المستامة، والمخطوبة، ومن شهد عليها، أو يعاملها، أو يَطُبُّهَا.
وعلى هذا، فإنما يُمنع المحرم مِنْ قصد شم الطيب للترفه واللذة، فأما إذا وصلت الرائحة إلى أنفه من غير قصد منه، أو شَمَّه قصدًا؛ لاستعلامه عند شرائه، لم يمنع منه، ولم يجب عليه سَدُّ أنفه، فالأول بمنزلة نظر الفجأة، والثاني: بمنزلة نظر المستام والخاطب))اهـ([4]).
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ((الحِكَّة تُبيح لُبْس الحرير؛ فإذا قال قائل: لدينا قاعدة شرعية؛ وهي: أن المحرَّم لا تُبيحه إلا الضَّرورة، وهنا الحِكَّة هل هي ضرورة؟
فالجواب: أنها قد تكون ضرورة، فأحيانًا يُبتلى الإنسان بحِكَّة عظيمة لا تجعله يستقر، وعلى هذا فلا إشكال.
لكن إذا كان لُبْسُه لحاجة فكيف يجوز ولا ضرورة؟ فالجواب: أن تحريم لُبْسِ الحرير من باب تحريم الوسائل؛ وذلك لأن الحريرَ نفسَه من اللباس الطيِّب ولِبَاس الزِّينة، ولكن لما كان مدعاة إلى تنعُّم الرَّجل كتنعُّم المرأة؛ بحيث يكون سببًا للفتنة؛ صار ذلك حرامًا، فتحريمه – إذًا - من باب تحريم الوسائل، وقد ذكر أهلُ العلم أن ما حُرِّمَ تحريم الوسائل أباحته الحاجة، وضربوا لذلك مثلًا بالعَرَايا، وهي بيع الرُّطب بالتَّمر، وبيع الرُّطب بالتَّمر حرام؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلم لما سُئل عن بيع التمر بالرطب، قال: «أينقص الرُّطب إذا يَبسَ؟»، قالوا: نعم، فنهى عن ذلك؛ لأنه رِبَا؛ إذ إن الجهل بالتساوي كالعلم بالتَّفاضل، لكنَّ العَرَايا أُبيحت للحاجة، والحاجة هي أن الإنسانَ الفقيرَ الذي ليس عنده نقودٌ إذا كان عنده تمر، واحتاج إلى التَّفكُّة بالرُّطب، كما يتفكَّهُ النَّاسُ أباح له الشَّارع أن يشتري بالتَّمر رُطبًا على رؤوس النخل، بشرط ألا تزيد على خمسة أوسق، وأن يكون بالخَرْصِ؛ أي: أننا نَخْرِصُ الرُّطب لو كان تمرًا بحيث يساوي التَّمر الذي أبدلناه به.
فهذا شيء من الرِّبا، ولكن أُبيح للحاجة؛ لماذا؟ لأن تحريم رِبَا الفضل من باب تحريم الوسائل، بخلاف رِبَا النسيئة، فإن تحريم رِبَا النسيئة من باب تحريم المقاصد، ولهذا جاء في حديث أسامة بن زيد «لا رِبا إلا في النَّسيئة»، أو: «إنما الرِّبَا في النَّسيئة»، قال أهل العلم: المراد بهذا الرِّبَا الكاملُ المقصودُ، أما رِبَا الفضل فإنه وسيلة))اهـ([5]).
[1])) ذكرها الشيخ (2/ 215)، (8/ 420).
[2])) ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) (95)، طـ دار الكتب العلمية.
[3])) ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) (92).
[4])) ((زاد المعاد)) (2/ 223)، طـ الرسالة.
[5])) ((الشرح الممتع)) (2/ 215، 216).
-
أعانك الله على إتمام هذا العمل كما أعانك من قبل الأخ " حازم خنفر " على عمل " الحاشية العثيمينية على زاد المستقنع " ووضع فيها كل ما خالف في ابن العثيمين قول أبي النجا الحجاوي في الزاد وجمع بذلك 1950 مسألة فقهية .
فأسأل الله أن يُوَفِقك لإخراج هذه القواعد في كتاب ، حتى لو كان غير مطبوغ ولكن في شكل pdf محول عن ملف وورد ففيه إن شاء الله فوائد كثيرة.
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الله عمر المصري
أعانك الله على إتمام هذا العمل كما أعانك من قبل الأخ " حازم خنفر " على عمل " الحاشية العثيمينية على زاد المستقنع " ووضع فيها كل ما خالف في ابن العثيمين قول أبي النجا الحجاوي في الزاد وجمع بذلك 1950 مسألة فقهية .
فأسأل الله أن يُوَفِقك لإخراج هذه القواعد في كتاب ، حتى لو كان غير مطبوغ ولكن في شكل pdf محول عن ملف وورد ففيه إن شاء الله فوائد كثيرة.
بارك الله فيك نسأل الله التوفيق والسداد والإعانة.
-
القاعدة الثلاثون:
((النجاسة في معدنها لا حكم لها))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((مثال حمل النَّجَاسة: إذا تلطَّخ ثوبُه بنجاسةٍ، فهذا حامل لها في الواقع؛ لأنَّه يَحمِلُ ثوباً نجساً، وإذا جعل النَّجَاسة في قارورة في جيبه، فقد حَمَل نجاسة لا يُعفى عنها، وهذا يقع أحياناً في عصرنا فيما إذا أراد الإنسان أن يحلِّلَ البراز أو البول؛ فحَمَله في قارورة وهو يُصلِّي، فهذا صلاته لا تصحُّ؛ لأنَّه حَمَل نجاسة لا يُعفى عنها.
فإن قال قائل: يَرِدُ عليكم على هذا التقرير ما ثَبَت عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه حَمَل أُمَامة بنت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يُصلِّي والطِّفلة بطنها مملوء من النَّجَاسات، بل إن شاء أورد عليك أنك أنت تحمل النَّجاسة في بطنك، فما جوابك على هذا؟
أجاب العلماء على ذلك فقالوا: إنَّ النَّجاسة في معدنها لا حُكم لها، فلا تَنْجُسُ إلا بالانفصال، وما في بطن الإنسان لم ينفصل بعد، فلا حُكم له، وهذا الجواب صحيحٌ، ولهذا قال بعض العلماء: إن العَلَقَة في الرَّحم إذا استحالت إلى مُضغة، ثم إلى حيوان طاهر لم يصحَّ أن نقول: إن هذه طَهُرت بالاستحالة، وإن كان المعروف عند الفقهاء رحمهم الله أنهم يستثنون ـ مما يطهر بالاستحالة ـ العَلقَةَ تصير حيواناً طاهرًا، لكن بعض العلماء رَدَّ هذا الاستثناء وقال: إنَّ العَلقَة في معدِنها في الرَّحم ليس لها حُكم، فهي ليست بنجسة، ولا طاهرة، ولا حُكم لها، بناءً على هذه القاعدة، وهو أنَّ الشَّيءَ في معدنه لا حُكم له))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ (2/ 226).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 225، 226).
-
القاعدة الحادية والثلاثون:
((نفي الصِّحَّة يقتضي الفساد))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «ولا تصحُّ الصَّلاةُ في مَقْبَرة»؛ نفيُ الصِّحَّة يقتضي الفساد؛ لأنَّ كلَّ عبادة إما أن تكون صحيحة، وإما أن تكون فاسدة، ولا واسطة بينهما، فهما نقيضان شرعاً، فإذا انتفت الصِّحَّة ثبت الفساد))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ رحمه الله: (2/ 237)، (3/ 80).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 237).
-
القاعدة الثانية والثلاثون:
((النهي يقتضي الفساد))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((بيع رجلين أقبلا إلى المسجد بعد الأذان فتبايعا وهما يمشيان إلى المسجد، فلا يصح بيعهما ما دام وقع بعد الأذان، ولو قبل الخطبة؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
وقوله: «لا يصح البيع»؛ إذا قال قائل: ما الدليل على الفساد؟
قلنا الدليل: نهي الله عز وجل؛ لأن قوله {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]؛ يعني لا تبيعوا، والنهي يقتضي الفساد، هذه القاعدة التي دلت عليها سنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وقال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط»، ولأننا لو صححنا ما نهى عنه الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لكان في ذلك مضادة لله ورسوله؛ إذ إن النهي يقتضي البُعد عنه وعدم ممارسته، والتصحيح يستلزم ممارسة هذا الشيء ونفاذه، وهذا مضادة لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
فإن قال قائل: لم لا تقولون هو حرام ولكنه صحيح، كما قلتم في تلقي الجَلَب؟
فالجواب: الفرق بينهما ظاهر.
أولًا: لأن حديث التلقي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار»، فثبوت الخيار فرع عن صحة العقد، فيكون في الحديث دليل على أن العقد صحيح.
ثانياً: أن النهي عن التلقي ليس نهياً عن العقد لذاته، ولكن نهي عن العقد لحق الغير؛ حيث إنه ربما يكون فيه خديعة للقادم فيشتريه المتلقي بأقل، ولهذا جعل الحق له في إمضاء البيع أو فسخه.
وأما مسألتنا فإن النهي عن البيع بعينه، وما نُهِي عنه بعينه لا يمكن أن نقول: إنه صحيح، سواء في العبادات أو في المعاملات؛ لأن تصحيحنا لما جاء فيه النهي بعينه إمضاء لهذا الشيء الذي نهى الشارع عنه؛ لأن الذي نهى الشارع عنه يريد منا أن نتركه ونتجنبه، فإذا حكمنا بصحته فهذا من باب المضادة لأمر الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا نقول: إن البيع بعد نداء الجمعة الثاني حرام وباطل أيضاً، وعليه فلا يترتب عليه آثار البيع؛ فلا يجوز للمشتري التصرف في المبيع؛ لأنه لم يملكه، ولا للبائع أن يتصرف في الثمن المعين؛ لأنه لم يملكه، وهذه مسألة خطيرة؛ لأن بعض الناس ربما يتبايعون بعد نداء الجمعة الثاني ثم يأخذونه على أنه ملك لهم))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ رحمه الله: (1/ 44)، (7/ 434)، (8/ 189)، (8/ 205)، (9/ 21).
[2])) ((الشرح الممتع)) (8/ 189).
-
القاعدة الثالثة والثلاثون:
((الأمر بعد الحظر للإباحة))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((فإن قال قائل: قوله: «صَلُّوا في مرابض الغنم» أمرٌ، والأمر للوجوب، فهل هذا يقتضي أن أبحث عن مرابض غنم لأُصَلِّيَ فيها؟
فالجواب: لا؛ فإن الأمر هنا للإباحة؛ لأنه في مقابل النهي عن الصَّلاة في معاطن الإبل، ولهذا قال العلماء إن الأمر بعد الحظر للإباحة، فلما كان يُتوهَّم أنه لما نُهي عن الصَّلاة في أعطان الإبل أنَّه يُنهى كذلك عن الصَّلاة في مرابض الغنم، قال: «صَلُّوا في مرابض الغنم»، كأنه قال: لا تُصلُّوا في أعطان الإبل، ولكم أن تُصلُّوا في مرابض الغنم))اهـ([2]).
تنبيه:
اختلف الأصوليون هل الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة، أم أنه يرفع النهي السَّابقَ ويعود الحكمُ الشرعيُّ إلَى ما كان قبل النهي فَإِنْ كان مباحًا كان الأمر للإباحة، أو مستحبًّا كان الأمر للستحباب، أو واجبًا كان الأمر للوجوب؟
قلت: والصواب – والله أعلم – هو الثاني؛ وهو أنه يرفع النهي ويعود الحكم إلى ما كان قبل النهي.
قال ابن كثير رحمه الله: ((وقوله: {وإذا حللتم فاصطادوا}؛ أي: إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه، فقد أبحنا لكم ما كان محرمًا عليكم في حال الإحرام من الصيد؛ وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح الذي يثبت على السبر أنه يَرُدُّ الحكمَ إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبًا رده واجبًا، وإن كان مستحبًّا فمستحب، أو مباحًا فمباح؛ ومَن قال: إنه على الوجوب، ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال: إنه للإباحة، يَرِدُ عليه آيات أخر، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه، كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم))اهـ([3]).
وقال الشنقيطي رحمه الله: ((وبهذا تعلم أن التحقيق الذي دل عليه الاستقراء التام في القرآن أن الأمر بالشيء بعد تحريمه يدل على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب؛ فالصيد قبل الإحرام كان جائزًا فَمُنِعَ للإحرام، ثم أَمَر به بعد الإحلال بقوله: {وإذا حللتم فاصطادوا}، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم، وهو الجواز، وقتل المشركين كان واجبًا قبل دخول الأشهر الحرم، فَمُنِع من أجلها، ثم أَمَرَ به بعد انسلاخها في قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} الآية، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم، وهو الوجوب.
وهذا هو الحق في هذه المسألة الأصولية))اهـ([4]).
قلت: وهو ما رجحه ابن عثيمين رحمه الله في منظومته في أصول الفقه، وفي شرحها.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في ((شرح منظومة الأصول)) (189- 191): ((قول الناظم: والأمرُ بعد النهيِ للحِلِّ*** وفي قولٍ لرفعِ النَّهي خُذْ به تَفِي.
لما ذكر أن الأمر يكون للوجوب ويكون للفور، ذكر الأمر الذي خرج عن هذه القاعدة؛ وهو الأمر الوارد بعد النهي؛ وفي هذا للعلماء قولان : فأكثر الأصوليين يقولون : إن الأمر بعد النهي للإباحة، ولا يعود إلى حكمه الأول الذي هو قبل النهي؛ لأن النهي ورد على الحكم الأول فنسخه، ثم رُفِع النهيُ بعد أن نسخ الحكم الأول، فعاد الأمرُ للإباحة.
وقيل: بل الأمر بعد النهي رفعٌ للنهي، فيُنظر فيما نُهي عنه ويرجع إلى أصله، فإن كان أصله الاستحباب كان مستحبًّا، وإن كان أصله الإباحة كان مباحاً.
قوله: (لرفع النهي): معناه : أنه إذا ورد الأمر بعد النهي فهو رفع، للنهي، وحينئذٍ يعود الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي.
قوله: (خذ به تفي): أي: هذا أقرب؛ فنقول: إن الأمر بعد النهي يرفع النهي، ويعيد الحكم إلى ما كان عليه قبل وجود النهي.
فمن ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 9، 10] فالأمر بالانتشار في الأرض وطلب الرزق للإباحة على القول الأول، وعلى القول الثاني لرفع النهي؛ ومن المعلوم أن طلب الرزق مأمور به لسد حاجة الإنسان وحاجة من يمونه فيكون الأمر بذلك للندب.
ومن ذلك: الإذن للخاطب أن يرى من مخطوبته ما يدعو إلى نكاحها؛ فإنَّ الأصل تحريم نظر الرجل إلى المرأة. فهل الأمر بالنظر في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خطب أحدكم امرأة فلينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها» للإباحة أو للاستحباب؟ ينبني على الخلاف.
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، فهذا ورد بعد النهي عن الصيد في حال الإحرام بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، إلى قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 1، 2].
فلما رفع النهي عن الاصطياد في حال الإحرام، وذلك بالإحلال، عاد الأمر إلى ما كان عليه من قبل، والاصطياد في الأصل مباح، فيكون للإباحة على القولين لأن الصيد من قسم المباح، ولم يقل أحد إن الإنسان إذا حَلَّ من إحرامه يجب عليه أن يذهب ويأخذ البندقية ويرمي الصيد، بل ولا قال أحد باستحبابه.
وهذا مما يدل على أن قول من قال : إن الأمر بعد النهي للوجوب، ليس له وجه.
وهذا الذي اخترناه في النظم هو الذي اختاره الغزالي رحمه الله في المستصفى))اهـ.
[1])) ذكرها الشيخ: (2/ 244)، (12/ 19).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 244).
[3])) ((تفسير ابن كثير)) (2/ 12).
[4])) ((أضواء البيان)) (1/ 327).
-
القاعدة الرابعة والثلاثون:
((إذا تخلَّف الشرط تخلَّف المشروط))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((لا تصحُّ الصلاة بدون استقبال القِبلة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عَمِل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»، ولأن استقبال القبلة شرط، والقاعدة: أنه إذا تخلَّف الشرط تخلَّف المشروط، فلا تصحُّ الصَّلاة بدونه لهذه العِلَّة))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (2/ 262)، (4/ 243).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 262).
-
القاعدة الخامسة والثلاثون:
((لا واجبَ مع عَجزٍ، ولا محرَّمَ مع ضَرورة))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((ومن القواعد المقرَّرة عند أهل العلم المأخوذة من نصوص الكتاب والسُّنة: أنه لا واجبَ مع عَجزٍ، ولا محرَّمَ مع ضَرورة.
ومن الأمثلة: حال اشتداد الحرب، فيسقط استقبال القِبْلة، مثل لو كانت الحرب فيها كَرٌّ وفَرٌّ؛ فإنه يسقط عنه استقبال القِبْلة في هذه الحال.
ومنها: لو هرب الإنسان من عدوٍ، أو من سيل، أو من حريق، أو من زلازل، أو ما أشبه ذلك، فإنه يسقط عنه استقبال القِبْلة))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (2/ 263).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 262).
-
القاعدة االسادسة والثلاثون:
((الواجب حَمْلُ النص على ظاهرِه المُتَبَادَر منه، إلا أن يَدلَّ دليلٌ على خلافه))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((وأما قولُهم بأنَّ أَمْرَ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم الرجل الذي صَلَّى منفردًا خلفَ الصَّفِّ أن يعيدَ الصَّلاةَ، قضيةُ عَين .. إلخ. فجوابه: أنَّ الواجبَ حَمْلُ النَّصِّ على ظاهرِه المُتَبَادَر منه، إلا أنْ يَدلَّ دليلٌ على خِلافِهِ؛ والمُتَبَادَر هنا: أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَهُ بالإِعادةِ؛ لكونه صَلَّى منفردًا خلفَ الصَّفِّ؛ كما يفيده سياقُ الكلامِ، والأصلُ عدمُ ما سواه))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (4/ 272).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 271، 272).
-
القاعدة السابعة والثلاثون:
((ما وَرَدَ عن الشارع مطلقاً فإنَّه لا يجوز إدخال أيِّ قيدٍ مِن القيود عليه إلا بدليل))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((ومِن المعلومِ أن القاعدة الأصولية: أن ما وَرَدَ عن الشارع مطلقاً فإنَّه لا يجوز إدخال أيِّ قيدٍ مِن القيود عليه إلا بدليل؛ لأنه ليس لنا أن نقيِّد ما أطلقه الشرعُ، وهذه القاعدةُ تفيدك كثيرًا في مسائل؛ منها المسحُ على الخُفَّينِ، فقد أطلقَ الشارعُ المسحَ على الخُفَّينِ، ولم يشترط في الخُفِّ أن يكون مِن نوعٍ معيَّنٍ، ولا أن يكون سليماً مِن عيوبٍ ذكروا أنها مانعة مِن المسحِ كالخَرْق وما أشبهه، فالواجبُ علينا إطلاقُ ما أطلقَه الشرعُ؛ لأننا لسنا الذين نتحكَّمُ بالشرعِ، ولكن الشرعُ هو الذي يَحكمُ فينا، أمَّا أن نُدخِلَ قيودًا على أمْرٍ أطلقه الشرعُ فهذا لا شَكَّ أنه ليس مِن حَقِّنا، فلننظرْ إلى المسألة هنا، فقد قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركعَ فاركعوا، وإذا سَجَدَ فاسجدوا، وإذا صَلَّى قائماً فصلُّوا قياماً، وإذا صلّى قاعدًا فصلُّوا قعودًا أجمعون»، هل هذه الأحكام التي جعلها الشارعُ في مسارٍ واحدٍ تختلفُ بين إمامِ الحيِّ وغيرِه أو لا؟
فهل نقولُ: إذا كبَّر إمام الحَيِّ فكبِّرْ، وإذا رَكَعَ فاركعْ، وإذا كَبَّرَ غيرُ إمامِ الحَيِّ فأنت بالخيارِ، وإذا رَكَعَ فأنت بالخيارِ؟
الجواب: لا، فالأحكامُ هذه كلُّها عامةٌ لإِمامِ الحَيِّ ولغيرِه، وعلى هذا يتبيَّنُ ضعفُ الشرطِ الأولِ الذي اشترطه المؤلِّفُ، وهو قوله: «إمام الحي»، ونقول: إذا صَلَّى الإِمامُ قاعدًا فنصلِّي قعودًا، سواء كان إمامَ الحَيِّ أم غيره، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَؤمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤهُمْ لِكِتَابِ اللهِ»، فإذا كان هذا الأقرأُ عاجزًا عن القيام، قلنا: أنت إمامُنا فَصَلِّ بنا، وإذا صَلَّى بنا قاعدًا فإننا نصلِّي خلفَه قُعودًا بأمرِه صلّى الله عليه وسلّم في كونه إمامَنا، وبأمره في كوننا نصلِّي قعودًا))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (4/ 233).
[2])) ((الشرح الممتع)) (4/ 233، 234).
-
القاعدة الثامنة والثلاثون:
((كما أن الفعل سنة، فالترك مع وجود سبب الفعل سنة))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((ولدينا قاعدة مهمة وهي: كما أن الفعل سنَّة، فالترك مع وجود سبب الفعل سنَّة، مع أنه ترك وليس بفعل.
ولهذا أمثلة؛ منها سُنِّيَّةُ السواك عند دخول المسجد.
فبعض العلماء قال: يُسنُّ له أن يتسوَّك عند دخول المسجد، وبنى ذلك على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك، فقاسوا دخول المسجد على دخول البيت، وقالوا: إذا كان الإِنسان يتسوَّك إذا دخل بيته من أجل أن يقابل أهله بطهارة فم، فكذلك إذا دخل المسجد من أجل أن يناجي ربه بطهارة فم؛ فنقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يدخل المسجد ولم يُرْوَ عنه أنه كان إذا دخل المسجد بدأ بالسواك، ولو كان هذا سنَّة لفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالسنَّة أن لا يتسوَّك إذا دخل المسجد بناء على أن سبب سواكه دخول المسجد، أما لو كان إذا دخل المسجد سيصلي ركعتين فورًا، وأراد أن يتسوَّك من أجل الصلاة، لا من أجل دخول المسجد فإن هذا مشروع))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (4/ 362).
[2])) ((الشرح الممتع)) (4/ 362).
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
[CENTER]
فإذا قال قائل: لدينا قاعدة شرعية وهي: (أن المحرَّم لا تُبيحه إلا الضَّرورة)، وهنا الحِكَّة هل هي ضرورة؟
فالجواب: أنها قد تكون ضرورة؛ فأحيانًا يُبتلى الإنسان بحِكَّة عظيمة لا تجعله يستقر))اهـ.
جزاك الله خيرا شيخنا على ماتكتب وتنقل .
إذن الضرورة لاتعني بالضرورة هو خشية المسلم على نفسه الموت أو تلف أحد أعضاءه فقط .. فأحيانا الحاجة تنزل منزلة الضرورة ولو للشخص نفسه.
فمثلا لو قلنا لايلبس الحرير فهو سيكون في حالة يمكن أن نتصورها من غير أن نعبر عنها ... ويمكن أن نقيس على مثل هكذا حالة من الإنزعاج والأذى
فأحيانا المسلم يحصل له موقف إن لم يرتكب ماهو محرم حصل له أكثر من هذا .. كالخوف مثلا على نفسه أو ماله أو عائلته أو أحد أفراد أسرته
وإن قول ابن مسعود رضي الله عنه ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به .وأكيد هو يقصد ماحرم من الكلام .. وهو رضي الله عنه يعتبر هذا إكراها
فنستفيد من هذا القول في مواقف وأحوال أعظم من السوطين !! يمكن تنزيلها منزلة الضرورة ... والله أعلم
هذا فهمي أعرضه عليك شيخنا المبارك .. وعليك توجيهي وبيان الخطأ إن كان فيه !
-
بارك الله فيك أخي الحبيب إبراهيم العليوي.
نعم، نص الأصوليون والفقهاء على أن الحاجة قد تنزل أحيانًا منزلة الضرورة؛ ولا يلزم من الضرورة الموت أو القطع؛ بل المشقة الشديدة تنزل منزلة الضرورة، ولكن الممنوع هو التوسع في ذلك؛ لأن الضرورة هي: ((حَالَةٌ تَطْرأُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِحَيثُ لَوْ لَمْ تُرَاعَ وَقَعَ عَليِه ضَرَرٌ)).
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
بارك الله فيك أخي الحبيب إبراهيم العليوي.
نعم، نص الأصوليون والفقهاء على أن الحاجة قد تنزل أحيانًا منزلة الضرورة؛ ولا يلزم من الضرورة الموت أو القطع؛ بل المشقة الشديدة تنزل منزلة الضرورة، ولكن الممنوع هو التوسع في ذلك؛ لأن الضرورة هي: ((حَالَةٌ تَطْرأُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِحَيثُ لَوْ لَمْ تُرَاعَ وَقَعَ عَليِه ضَرَرٌ)).
جزاك الله خيرا ...
-
القاعدة التاسعة والثلاثون:
((إذا جاءنا نص عام، ثم ورد تخصيصه فإنه يتقيد بالصورة التي ورد بها النص فقط))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((وهذه قاعدة مهمة: إذا جاءنا نص عام، ثم ورد تخصيصه فإنه يتقيد ـ أي التخصيص ـ بالصورة التي ورد بها النص فقط.
مثلًا: وردت إباحة الدف في موضعه، فهل يمكن أن يقول قائل: إذًا جميع آلات العزف تباح في مثل هذه المناسبات قياساً على الدف؟
الجواب: لا يصح؛ لأن التخصيص إذا ورد يجب أن يكون في الصورة المعينة التي ورد بها، ولا يمكن أن تقاس بقية المعازف على الدف؛ لأنها أشد تأثيرًا من الدف؛ وذلك لأصواتها ورناتها، والنفوس تطرب بها أكثر مما تطرب بالدف))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (12/ 351).
[2])) ((الشرح الممتع)) (12/ 351، 352).
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابراهيم العليوي
جزاك الله خيرا ...
وجزاكم مثله أخي الحبيب إبراهيم العليوي
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
بارك الله فيك أخي الحبيب إبراهيم العليوي.
نعم، نص الأصوليون والفقهاء على أن الحاجة قد تنزل أحيانًا منزلة الضرورة؛ ولا يلزم من الضرورة الموت أو القطع؛ بل المشقة الشديدة تنزل منزلة الضرورة، ولكن الممنوع هو التوسع في ذلك؛ لأن الضرورة هي: ((حَالَةٌ تَطْرأُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِحَيثُ لَوْ لَمْ تُرَاعَ وَقَعَ عَليِه ضَرَرٌ)).
ما هو الضابط الذي يجعلنا يقول " الضرورات تبيح المحظورات وهذه حاجة وليست ضرورة فلا يُباح لها المحظور " ومتى يقال " الضرورات تبيح المحظورات وهذه حاجة والحاجة تنزل منزلة الضرورة ؟ " ؟
إذ أن هاتين القاعدتين يلزم منهما لا محالة أحد أمرين :
إما اختفاء وجه التفرقة بين الضرورة والحاجة وأن كلتاهما واحد
وإما أن التقسيم على التحقيق أربعة مراتب: ضرورة، حاجة تنزل منزلة الضرورة، حاجة لا تنزل منزلة الضرورة، تحسينيات.
فأيهما الصواب ؟
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد طه شعبان
القاعدة التاسعة والثلاثون:
((إذا جاءنا نص عام، ثم ورد تخصيصه فإنه يتقيد بالصورة التي ورد بها النص فقط))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((وهذه قاعدة مهمة: إذا جاءنا نص عام، ثم ورد تخصيصه فإنه يتقيد ـ أي التخصيص ـ بالصورة التي ورد بها النص فقط.
مثلًا: وردت إباحة الدف في موضعه، فهل يمكن أن يقول قائل: إذًا جميع آلات العزف تباح في مثل هذه المناسبات قياساً على الدف؟
الجواب: لا يصح؛ لأن التخصيص إذا ورد يجب أن يكون في الصورة المعينة التي ورد بها، ولا يمكن أن تقاس بقية المعازف على الدف؛ لأنها أشد تأثيرًا من الدف؛ وذلك لأصواتها ورناتها، والنفوس تطرب بها أكثر مما تطرب بالدف))اهـ
([2]).
اختلف الأصوليين في دلالة العام على استغراق أفراده هل هي دلالة قطعية أم ظنية؟ فاختلفوا في ذلك قبل أن يرد التخصيص فمنهم من قال أن دلالة العام على عموم أفراده قطعية، ومنهم من قال أن دلالة العام على عموم أفراده ظنية، لكنهم اتفقوا أن دلالة العام بعد ورود التخصيص على عمومية أفراده الخارجين عن التخصيص دلالة ظنية.
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الله عمر المصري
ما هو الضابط الذي يجعلنا يقول " الضرورات تبيح المحظورات وهذه حاجة وليست ضرورة فلا يُباح لها المحظور " ومتى يقال " الضرورات تبيح المحظورات وهذه حاجة والحاجة تنزل منزلة الضرورة ؟ " ؟
إذ أن هاتين القاعدتين يلزم منهما لا محالة أحد أمرين :
إما اختفاء وجه التفرقة بين الضرورة والحاجة وأن كلتاهما واحد
وإما أن التقسيم على التحقيق أربعة مراتب: ضرورة، حاجة تنزل منزلة الضرورة، حاجة لا تنزل منزلة الضرورة، تحسينيات.
فأيهما الصواب ؟
نعم، الحاجة أحيانًا تنزل منزلة الضرورة، ومقصد الأصوليين من قولهم: (الضرورات تبيح المحظورات) شمول الحاجة التي تبلغ مبلغ الضرورة؛ مثل المرض الخفيف الذي لا يكون ضرورة ثم يشتد فيصير ضرورة.
-
القاعدة الأربعون:
((مَن فعل شيئاً على وَجْهٍ صحيحٍ بمقتضى الدَّليلِ الشَّرعي، فإنَّه لا يمكن إبطالُه إلا بدليلٍ شرعيٍّ))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((ليس هناك شيءٌ تَبطلُ به صلاةُ المأموم ببطلان صلاة الإمام على القول الرَّاجح؛ إلا فيما يقوم فيه الإمامُ مقامَ المأموم، والذي يقوم فيه الإمامُ مقامَ المأموم هو الذي إذا اختلَّ اختلت بسببه صلاةُ المأموم؛ لأنَّ ذلك الفعل من الإمام للإمام وللمأمومين؛ مثل: السُّترة؛ فالسُّترة للإمام سُتْرَة لمن خلفه، فإذا مرَّت امرأة بين الإمام وسُترته بطلت صلاة الإمام وبطلت صلاة المأموم؛ لأنَّ هذه السُّترة مشتركة، ولهذا لا نأمر المأموم أن يتَّخِذَ سُترة، بل لو اتَّخذ سُترة لعُدَّ متنطِّعًا مبتدعًا، فصار انتهاك السُّترة في حَقِّ الإمام انتهاكًا في حَقِّ المأموم، فبطلت صلاة المأموم كما بطلت صلاة الإمام.
وهنا قاعدة مهمَّة وهي: أنَّ من دخل في عبادة فأدَّاها كما أُمِرَ؛ فإننا لا نُبْطِلُها إلا بدليل؛ لأن الأصلَ الصِّحةُ وإبراءُ الذِّمة؛ حتى يقوم دليل البطلان))اهـ([2]).
وقال الشيخ -أيضًا - رحمه الله: ((رَجُلٌ استيقظَ مِن نومِه، فتوضَّأ وذهب يصلِّي إمامًا، وبعد انتهائِه مِن الصَّلاةِ رأى عليه أَثَرَ جنابةٍ، ولكن كان جاهلًا بها، فهنا نقول: المأمومون صلاتُهم صحيحةٌ، أما هو؛ فإنه يعيدُ الصلاةَ، فإنْ عَلِمَ هو أو أحدٌ مِن المأمومينَ في أثناءِ الصَّلاةِ، فالصَّلاةُ باطلةٌ.
والصحيح في هذه المسألة: أنَّ صلاةَ المأمومينَ صحيحةٌ بكُلِّ حالٍ، إلا مَن عَلِمَ أنَّ الإِمامَ مُحدِثٌ.
وذلك لأنهم كانوا جاهلين، فهم معذورون بالجهلِ، وليس بوسعِهم ولا بواجبٍ عليهم أن يسألوا إمامَهم: هل أنت على وُضُوءٍ أم لا؟ وهل عليك جنابةٌ أم لا؟ فإذا كان هذا لا يلزمُهم وصَلَّى بهم وهو يعلم أنه مُحدثٌ، فكيف تَبطلُ صلاتُهم؟!!
وههنا قاعدةٌ مهمَّةٌ جدًّا وهي: «أنَّ مَن فَعَلَ شيئًا على وَجْهٍ صحيحٍ بمقتضى الدَّليلِ الشَّرعي، فإنَّه لا يمكن إبطالُه إلا بدليلٍ شرعيٍّ»؛ لأننا لو أبطلنا ما قامَ الدليلُ على صحَّتِهِ لكان في هذا قولٌ بلا عِلْمٍ على الشرعِ، وإعناةٌ للمكلف ومشقَّةٌ عليه، فهم فعلوا ما أُمِرُوا به مِن الاقتداء بهذا الإِمامِ، وما لم يكلَّفوا به فإنَّه لا يلزمهم حُكمه))اهـ([3]).
[1])) ذكرها الشيخ: (2/ 324)، (4/ 242).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 324).
[3])) ((الشرح الممتع)) (4/ 242).
-
القاعدة الحادية والاربعون:
((ما ثَبَتَ في النَّفْلِ ثَبَتَ في الفرضِ إلا بدليل))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((لو انتقل المنفردُ إلى الإمامة في نَفْل فإن صلاته تصحُّ؛ والدَّليل على ذلك: أن ابن عباس رضي الله عنهما باتَ عند النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، فقام النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم من الليل، فقام ابنُ عباس فوقف عن يساره، فأخذَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم برأسِهِ من ورائه فجعله عن يمينه، فانتقل النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم هنا من انفراد إلى إمامة في نَفْل.
وعلى هذا؛ فيكون في انتقال المنفرد من انفراد إلى إمامة في النَّفْلِ نصٌّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
والقول الثاني في المسألة: أنه يصحُّ أن ينتقل من انفراد إلى إمامة في الفرض والنَّفْل.
واستدلَّ هؤلاء: بأن ما ثبت في النَّفْل ثبت في الفرض إلا بدليل، وهذا ثابتٌ في النَّفْل فيثبت في الفرض.
والدَّليل على أن ما ثبت في النَّفْل ثبت في الفرض إلا بدليل: أن الصَّحابة رضي الله عنهم الذين رَوَوْا أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يُصلِّي على راحلته في السَّفر حيثما توجَّهت به، قالوا: غير أنه لا يُصلِّي عليها الفريضة، فدلَّ هذا على أنه من المعلوم عندهم أن ما ثَبَتَ في النَّفل ثَبَتَ في الفرض، ولولا ذلك لم يكن لاستثناء الفريضة وجه.
القول الثالث في المسألة: أنه لا يصحُّ أن ينتقل من انفراد إلى إمامة؛ لا في الفرض ولا في النَّفْل، كما لا يصحُّ أن ينتقل من انفراد إلى ائتمام لا في الفرض ولا في النَّفْل، وهذا هو المذهب، فيكون قول المؤلِّف هنا وسطًا بين القولين.
ولكن الصحيح: أنه يصحُّ في الفرض والنَّفْل، أما النَّفْل فقد وَرَدَ به النَّصُّ كما سبق، وأما الفرض فلأن ما ثبت في النَّفْل ثبت في الفرض إلا بدليل))اهـ([2]).
وقال الشيخ – أيضًا – رحمه الله: ((لا يُكره جَمْعُ السُّور في الفرض، كما لا يُكره في النَّفل، يعني: أن يقرأ سورتين فأكثر بعد الفاتحة؛ والدليل: حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه صَلَّى مع النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلةٍ فقرأ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم سورة «البقرة» و «النساء»، و «آل عمران»؛ وهذا جمعٌ بين السُّور في النَّفل، وما جاز في النَّفل جاز في الفرض إلا بدليل، وما جاز في الفرض جاز في النَّفْل إلا بدليل، لأن الأصل تساويهما في الحُكم.
والدليل على هذا الأصل: أن الصَّحابة لما حَكَوا صلاةَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم على راحلته في السَّفر وأنه يُوتر عليها قالوا: «غير أنه لا يُصلِّي عليها المكتوبة»، فلولا أن الفرض يُحذى به حذو النَّفل ما كان للاستثناء فائدة، فلما قالوا: «غير أنه لا يُصلِّي عليها المكتوبة»، علمنا أنهم فهموا أن ما ثَبَتَ في النَّفل؛ ثَبَتَ في الفرض، وإلا لَمَا احتيجَ إلى الاستثناء، وعلى هذا فنقول: إنه لا بأس أن يجمع الإنسانُ في الفَرْضِ بين سورتين فأكثر))اهـ([3]).
[1])) ذكرها الشيخ: (2/ 257)، (2/ 309)، (2/ 310)، (3/ 73)، (3/ 241، 242)، (3/ 262)، (3/ 288، 289)، (4/ 267)، (4/ 258).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 309، 310).
[3])) ((الشرح الممتع)) (3/ 240، 241).
-
القاعدة الثانية والأربعون:
((فِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم المجرد لا يدل على الوجوب))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «أو أفاقَ مِنْ جُنُونٍ، أو إِغماءٍ»، هذا هو الثَّاني والثَّالث من الأغْسال المستحبَّة.
والجنون: زوال العقل، ومنه الصَّرَعُ فإِنَّه نوع من الجُنُون.
والإغماء: التَّغطية، ومنه الغَيْم الذي يُغطِّي السَّماء.
فالإِغماء: تغطية العقل، وليس زواله، وله أسباب متعدِّدة منها: شِدَّة المَرضِ كما حَصَلَ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فإِنه في مَرَضِه أُغْمِيَ عليه ثم أفاق، فقال: أَصَلَّى الناسُ؟ قالوا: لا، وهم ينتظرونك، فأَمَرَ بماء في مِخْضَبٍ ـ وهو شبيه بالصَّحن ـ فاغتَسَلَ؛ فقام لِيَنُوءَ فأُغْمِيَ عليه مرَّة ثانية، فلما أفاق قال: أصلَّى الناسُ؟ قالوا: لا، وهم ينتظرونك»، الحديث.
فهذا دليل على أنَّهُ يُغتسل للإِغماء، وليس على سبيل الوجوب، لأن فِعْلَهُ صلّى الله عليه وسلّم المجرَّد لا يدُلُّ على الوُجوب))اهـ([2]).
وقال الشيخ – أيضًا - رحمه الله:
((مسألة: كيف يقرأُ السُّورة؟
نقول: يقرؤها معربةً مرتَّبةً متواليةً، وينبغي أن يفصِلَ بين آياتِها، ويقفَ عند كلِّ آية، فيقف سبعَ مرَّات، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} فيقف {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} فيقف {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *} فيقف {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} فيقف {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *} فيقف {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فيقف {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فيقف؛ لأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يُقطِّعُ قراءَتَهُ، فيَقِفُ عند كلِّ آية، وإن لم يقفْ فلا حرجَ؛ لأنَّ وقوفه عند كلِّ آيةٍ على سبيلِ الاستحبابِ، لا على سبيلِ الوجوبِ؛ لأنَّه مِن فِعْلِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم دون أمْرِه، وما فَعَلَه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم دون أَمْرٍ به مما يُتعبَّد به فهو مِن قبيل المستحبِّ، كما ذُكر ذلك في أصول الفقه: أنَّ الفعلَ المجرَّدَ مما يُتعبَّدُ به يفيد الاستحباب))اهـ([3]).
وقال الشيخ – أيضًا - رحمه الله:
((والدليل على اشتراط قراءة الآية: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ يوم الجمعة بـ «ق والقرآن المجيد» يخطب بها، ولكن هذا ليس بدليل؛ لأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب.
ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا تشترط لصحة الخطبة قراءة شيء من القرآن متى تضمنت الموعظة المؤثرة في إصلاح القلوب وبيان الأحكام الشرعية، وهذه الرواية الثانية عن أحمد رحمه الله))اهـ([4]).
[1])) ذكرها الشيخ: (1/ 329)، (1/ 355)، (1/ 443)، (3/ 66)، (4/ 267)، (5/ 52)، (5/ 54).
[2])) ((الشرح الممتع)) (1/ 355).
[3])) ((الشرح الممتع)) (3/ 65، 66).
[4])) ((الشرح الممتع)) (5/ 54).
-
القاعدة الثالثة والأربعون:
((الفضل المتعلق بذات العبادة أَولى بالمراعاة من الفضل المتعلق بمكانها))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء»؛ «يليه» أي: يلي الإِمامَ في الصَّفِّ إذا اجتمعَ رجالٌ ونساءٌ صغارٌ أو كبارٌ.
«الرجال» وهم: البالغون؛ لأن وَصْفَ الرَّجُلِ إنما يكون للبالغ، فإذا أرادوا أن يصفُّوا تقدَّمَ الرِّجالُ البالغون ثم الصبيانُ، ثم النساءُ في الخلفِ.
والدَّليلُ قول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «ليلني منكم أولو الأحلامِ والنُّهى»، وهذا أمْرٌ وأقلُّ أحوالِ الأَمْرِ الاستحبابُ، ولأنَّ المعنى يقتضي أن يتقدَّمَ الرِّجالُ؛ لأنَّ الرِّجَالَ أضبطُ فيما لو حصلَ للإِمامِ سهوٌ أو خطأٌ في آيةٍ، أو احتاجَ إلى أنْ يستخلفَ إذا طرأ عليه عُذرٌ وخرجَ مِن الصَّلاةِ، ثم بعد ذلك الصبيانُ؛ لأنَّ الصبيان ذكورٌ، وقد فضَّل اللهُ الذكورَ على الإِناثِ فهم أقدم مِن النساءِ، ثم بعد ذلك النساءُ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُها»، وهذا يدلُّ على أنه ينبغي تأخُّر النساء عن الرِّجالِ، وأما حديث: «أخِّرُوهنَّ مِن حيثُ أخَّرَهُنَّ اللهُ»، فهو ضعيف لا يُحتجُّ به، لكن يُحتجُّ بهذا الحديث: «خيرُ صفوفِ النِّساءِ آخرُها»، ويلزم مِن ذلك أن تتأخَّر صفوفُ النِّساءِ عن صفوفِ الرِّجَالِ، وهذا الترتيب الذي ذكرناه، واستدللنا عليه بالأثر والنظر ما لم يمنع مانعٌ، فإنْ مَنَعَ منه مانعٌ بحيث لو جُمعَ الصبيانُ بعضُهم إلى بعضٍ لحصلَ بذلك لعبٌ وتشويشٌ، فحينئذٍ لا نجمعُ الصبيانَ بعضَهم إلى بعضٍ؛ وذلك لأن الفَضْلَ المتعلِّقَ بذات العبادةِ أَولى بالمراعاةِ مِن الفَضْلِ المتعلِّقِ بمكانِها، وهذه قاعدةٌ فقهيةٌ، ولهذا قال العلماءُ: الرَّمَلُ في طوافِ القُدُومِ أَولى مِن الدُّنُوِ مِن البيت؛ لأنَّ الرَّمَلَ يتعلَّقُ بذاتِ العبادةِ، والدُّنُو مِن البيت يتعلَّقُ بمكانِها، فهنا نقول: لا شَكَّ أنَّ مكان الصبيان خلفَ الرِّجالِ أَولى، لكن إذا كان يحصُلُ به تشويشٌ وإفسادٌ للصَّلاةِ على البالغين؛ وعليهم أنفسِهم، فإنَّ مراعاةَ ذلك أَولى مِن مراعاة فَضْلِ المكان))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (4/ 278).
[2])) ((الشرح الممتع)) (4/ 277، 278).
-
القاعدة الرابعة والأربعون:
((تقديم الشيء على سببه مُلغى، وتقديم الشيء على شرط وجوبه جائز))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((يجوز إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيومين فقط، وقبل اليومين لا يجوز.
ولكن كيف يجوز ذلك وسبب الوجوب - وهو غروب الشمس ليلة العيد - لم يحصل بعد، كما أن لدينا قاعدة فقهية تقول: «إن تقديم الشيء على سببه مُلغى، وتقديم الشيء على شرطه جائز»؟
مثاله: لو قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ثم بدا له أن يلبسه فكفر، فهنا قدم التكفير قبل وجود شرطه فهذا جائز، ولو أخرج الكفارة قبل الحلف لم يجزئ لأنه قبل وجود السبب.
وهنا سبب الوجوب، وهو غروب الشمس لم يحصل بعد؟
والجواب: نقول: إن جواز هذا من باب الرخصة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم فعلوا ذلك؛ فقد كانوا يعطونها للذين يقبلونها قبل العيد بيوم أو يومين، وما دام أن هذه الرخصة جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم فهم خير القرون وعملهم متبع، فتكون هذه المسألة مستثناة من القاعدة التي أشرنا إليها))اهـ([2]).
وقال الشيخ – أيضًا – رحمه الله: ((قوله: «ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل»؛ الأقل من الحولين هو حول واحد، أي: يجوز للإنسان أن يعجل الزكاة قبل وجوبها، لكن بشرط أن يكون عنده نصاب، فإن لم يكن عنده نصاب، وقال: سأعجل زكاة مالي؛ لأنه سيأتيني مال في المستقبل، فإنه لا يجزئ إخراجه؛ لأنه قدمها على سبب الوجوب، وهو ملك النصاب.
وهذا مبني على قاعدة ذكرها ابن رجب رحمه الله في ((القواعد الفقهية))؛ وهي ((أن تقديم الشيء على سببه ملغى، وعلى شرطه جائز)).
مثال ذلك: رجل عنده (190) درهمًا فقال: أريد أن أزكي عن (200) فلا يصح؛ لأنه لم يكمل النصاب فلم يوجد السبب، وتقديم الشيء على سببه لا يصح.
فإن ملك نصابًا، وقدمها قبل تمام الحول جاز؛ لأنه قدمها بعد السبب وقبل الشرط؛ لأن شرط الوجوب تمام الحول.
ونظير ذلك لو أن شخصًا كفر عن يمين يريد أن يحلفها قبل اليمين ثم حلف وحنث، فالكفارة لا تجزئ؛ لأنها قبل السبب، ولو حلف وكفر قبل أن يحنث أجزأت الكفارة؛ لأنه قدمها بعد السبب وقبل الشرط))اهـ([3]).
[1])) ذكرها الشيخ: (6/ 169)، (6/ 215).
[2])) ((الشرح الممتع)) (6/ 169).
[3])) ((الشرح الممتع)) (6/ 214، 215).
-
القاعدة الخامسة والأربعون:
((قد تتبعض الأحكام بحسب تفاوت أسبابها))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((إذا قال المالك: آجرتك، قال: بل أعرتني، فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأن القاعدة أن الأصل فيمن قبض ملك غيره أنه مضمون عليه؛ ولأن الأصل أن الإنسان لا يسلطك على ملكه إلا بعوض، والتبرع أمر طارئ.
ولكن كيف يكون تقدير الأجرة؟ هل نقول: إذا ادعى المالك أنه أجره إياه كل يوم بعشرة ريالات أن القول قول المالك؟ لا؛ لأن الذي أخذها لم يعترف بالإجارة حتى الآن، نقول: نرجع إلى أجرة المثل؛ لأن الله ذكر في المرأة التي لم يسم لها مهر أنها تُمتع، وبيَّنت السنة أن تمتيعها أن تعطى مهر المثل، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ فيقال: كم تؤجر هذه العين في مدة أسبوع؟ إذا قالوا: مائة ريال، قلنا: هات مائة ريال، ولكن إذا كانت أجرة المثل أكثر مما ادعى صاحب العين، فالمذهب نعطيه إياها ولو كانت أكثر مما ادعاه، والقول الثاني أننا لا نعطيه إلا ما ادعاه.
ولكن يقبل قول المالك هنا في شيء ولا يقبل في شيء آخر، فيقبل بالنسبة للمدة الماضية ولا يقبل بالنسبة للمدة المستقبلة، لو قال المالك في هذه الصورة: أنا أجرتك إياها لمدة أربعة أيام، وحصل الاختلاف بعد مضي يومين، فنقبل قول المالك فيما مضى من المدة، ولا نقبله فيما يستقبل؛ لأن خصمه ينكره، ويقول: ما أخذتها بأجرة، ولكن بإعارة.
وبهذا نعرف أن الأحكام تتبعض، وهذه قاعدة فقهية؛ بمعنى أنه إذا وُجد ما يثبت أحدها من وجه دون الآخر، حكمنا بالوجه الثابت وتركنا الوجه الذي لم يثبت، وهذه قاعدة مفيدة تنفعك في مسائل عديدة؛ ونظير ذلك رجل ادعى على آخر أنه سرق منه مالًا من بيته وأتى بشاهد على ذلك رجل وامرأتين، فهذه الصورة تضمنت حكمين ضمان المال، وقطع اليد، الحد لا يثبت برجل وامرأتين، وإنما يثبت بشهادة رجلين، والمال يثبت بشهادة رجل وامرأتين، ففي هذه الحال نقول: يضمن السارق المال ولا تقطع يده، فهذه صورة واحدة تضمنت حكمين مختلفين لوجود مقتضي أحدهما دون الآخر، فتتبعض الأحكام))اهـ([2]).
وقال الشيخ عبد المحسن الزامل حفظه الله: ((قد تتبعض الأحكام بحسب تفاوت أسبابها؛ هذه القاعدة لها مسائل كثيرة في أبواب الفقه، ومما يدل عليها ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: اختصم سعد وابن زمعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجي منه يا سودة)). رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد.
فأعمل النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأحكام من جهة النسب وجعله أخاها، وأنه يرثها وترثه، لكن لم يجعله أخاها في المحرمية، ولم يجعله لعتبة أخي سعد لأنه عَاهَرَهَا، ولأن الأمةَ أمة زمعة فالولد للفراش وإن كانت عاهرة مع عتبة وزنت، وهذا الابن يشبه عتبة، ومع هذا لم يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الشبه وأعمل الفراش وقال: ((الولد للفراش))، فأُخذ من هذا الحديث تبعضُ الأحكام، ومنه - أيضًا - البنت من الرضاع تتبعض أحكامها فليست ترث ولا تجب لها النفقة لكنها بنت في التحريم والمحرمية فتحرم على أبيها، وفي المحرمية فهو محرم لها.
وهذا - أيضًا - على قول الجمهور في البنت من الزنا؛ فإنها تحرم على الزاني ولا يجوز أن يتزوجها فتتبعض أحكامها.
ومنه - أيضًا - ما جاء في السرقة، فالسرقة لا تثبت إلا بالإقرار على الخلاف، هل هو بالإقرار مرة أم مرتين؟ وكذلك ثبوتها بشاهدين، فلو أن إنسانًا ادعى أن فلانًا سرق منه وليس عنده إلا شاهدٌ واحدٌ وحلف مع هذا الشاهد، نقول: إن ادعاء السرقة على إنسان ولم يكتمل نصاب الشهادة يثبت المال، وعلى من اتهم بالسرقة تسليم المال لثبوته بالبينة؛ لأن المال يثبت بالشاهد واليمين كما قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين، أما قطع اليد فلا يثبت إلا بشاهدين، فتتبعض الأحكام.
وكذلك لو ادعى رجل على امرأة أنه خالعها بشيء من المال، وأتى بشاهد وحلف مع الشاهد - والخلع لا يثبت إلا بشاهدين - نقول في هذه الحال يثبت المال وعليها أن تسلم المال وتَبينُ منه امرأته لإقراره.
لكن لو ادعته المرأة - أي ادعت الخلع على الرجل - وليس عندها إلا شاهد وقالت أحلف مع هذا الشاهد، نقول لا يثبت الخلع في هذه الحال؛ لأنها لا تدعي مالًا بل تدعي خلعًا، والخلع لا يثبت إلا بشاهدين، فوجوده كعدمه فلا تَبينُ منه امرأته.
كذلك ما أشار إليه الشارح رحمه الله أن الولد يتبع أباه في النسب ويتبع أمه في الحرية والرق، فلو أن رجلًا تزوج أمة مملوكة فإن أولادها يكونون مملوكين لسيدها هي، فيتبعون أمهم في الرق والحرية، ويتبع في الدين خير أبويه، فلو أن مسلمًا تزوج امرأة من أهل الكتاب فإن الولد يتبع أباه فيكون مسلمًا.
وكذلك في النجاسة وتحريم الأكل، فالمولود بين حيوانين أحدهما طاهر والآخر نجس نحكم بنجاسته، أو أحدهما محرم الأكل والآخر حلال فنحكم بتحريم الأكل؛ فالبغل المولود بين الحمار والفرس نحكم بتحريم أكله أي يتبع شرهما وأخبثهما في النجاسة والتحريم، فإذا كان أحد أبويه نجسًا كان نجسًا، أو كان أحد أبويه محرمًا الأكل كان محرم الأكل))اهـ([3]).
[1])) ذكرها الشيخ: (6/ 316)، (10/ 134).
[2])) ((الشرح الممتع)) (10/ 133، 134).
[3])) ((شرح القواعد السعدية)) (199- 201).
-
القاعدة السادسة والأربعون:
((المكروه يزول عند الحاجة))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «يباح للحاجة» أي: حاجة الزوج، فإذا احتاج فإنه يباح له، مثل أن لا يستطيع الصبر على امرأته، مع أن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن الصبر أولى فقال: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر»، لكن أحيانًا لا يتمكن الإنسان من البقاء مع هذه الزوجة، فإذا احتاج فإنه يباح له أن يطلق، والدليل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ولم يقل: يا أيها النبي لا تطلقوا النساء، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [الأحزاب: 49]، ولأن الذين طلقوا في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن ينهاهم عنه، ولو كان حرامًا لمنعهم، ولو كان مكروهًا لاستفصل منهم، ثم عندنا قاعدة فقهية معروفة عند أهل العلم، وهي أن المكروه يزول عند الحاجة))اهـ([2]).
وسئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين - أعلى الله درجته في المهديين -: يقع مشكلة بين بعض المصلين في المساجد حول الدفايات الكهربائية ووضعها أمام المصلين هل هذا حرام أو مكروه يتنزه عنه؟ وهل الصلاة أمام النار محرمة أو مكروهة؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
فأجاب بقوله: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الصلاة إلى النار: فمنهم من كرهها، ومنهم من لم يكرهها، والذين كرهوها عللوا ذلك بمشابهة عباد النار، والمعروف أن عبدة النار يعبدون النار ذات اللهب، أما ما ليس لهب فإن مقتضى التعليل أن لا تكره الصلاة إليها.
ثم إن الناس في حاجة إلى هذه الدفايات في أيام الشتاء للتدفئة؛ فإن جعلوها خلفهم فاتت الفائدة منها أو قلت، وإن جعلوها عن إيمانهم أو شمائلهم لم ينتفع بها إلا القليل منهم وهم الذين يلونها، فلم يبق إلا أن تكون أمامهم ليتم انتفاعهم بها، والقاعدة المعروفة عند أهل العلم أن المكروه تبيحه الحاجة.
ثم إن الدفايات في الغالب لا تكون أمام الإمام وإنما تكون أمام المأمومين وهذا يخفف أمرها، لأن الإمام هو القدوة ولهذا كانت سترته سترة للمأموم. والله أعلم([3]).
وسئل فضيلة الشيخ رحمه الله: هل يُسن حلق شعر البنت عند ولادتها من أجل نشاط الشعر ووفرته؟
فأجاب بقوله: حلق شعرها لا يسن في اليوم السابع كما يسن في حلق رأس الذكر، وأما حلقه للمصلحة التي ذكرت إذا صحت فإن أهل العلم يقولون: إن حلق الأنثى رأسها مكروه، لكن قد يقال: إنه إذا ثبت أن هذا مما يسبب نشاط الشعر ووفرته فإنه لا بأس به؛ لأن المعروف أن المكروه تزيله الحاجة، أو تزيل كراهته الحاجة([4]).
[1])) ذكرها الشيخ: (13/ 9).
[2])) ((الشرح الممتع)) (13/ 8، 9).
[3])) ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (12/ 409).
[4])) ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (25/ 244).
-
القاعدة السابعة والأربعون:
((كل عقد محرم فإنه لا يصح))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((أراد رحمه الله أن المصحف لا يصح بيعه، والدليل على هذا أثر ونظر.
أما الأثر: فأثر ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «وددت أن الأيدي تقطع ببيعه»، فجعل آخذ ثمنه بمنزلة السارق تقطع يده.
وأما النظر: فيقال: إن كان الإنسان مستغنيًا عنه فبذله واجب، والواجب لا يجوز أخذ العوض عنه، وإن كان غير مستغن عنه فإن بيعه حرام عليه؛ لأنه محتاج له فلا يصح.
وتعليل نظري آخر هو أن في بيعه ابتذالًا له، كما تبتذل السلع، والمصحف يجب أن يحترم ويعظم.
وقال بعض العلماء: إنه يحرم بيعه ويصح، وفي هذا نظر؛ لأنه مخالف للقواعد؛ إذ إن القاعدة أن كل عقد محرم فإنه لا يصح، فهذا القول فيه نظر، فإما أن نقول: يحرم ولا يصح، وإما أن نقول بما عليه جمهور العلماء وعمل المسلمين من أزمنة متطاولة: إنه يجوز، ويصح بيع المصحف.
والصحيح: أنه يجوز بيع المصحف ويصح للأصل، وهو الحل، وما زال عمل المسلمين عليه إلى اليوم، ولو أننا حرمنا بيعه لكان في ذلك مَنعٌ للانتفاع به؛ لأن أكثر الناس يشح أن يبذله لغيره، وإذا كان عنده شيء من الورع وبذله، فإنه يبذله على إغماض، ولو قلنا لكل أحد إذا كنت مستغنيًا عن المصحف، يجب أن تبذله لغيرك لشق على كثير من الناس.
وأما ما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فلعله كان في وقت يحتاج الناس فيه إلى المصاحف، وأن المصاحف قليلة فيحتاجون إليها، فلو أُبيح البيع في ذلك الوقت لكان الناس يطلبون أثمانًا كثيرة لقلته؛ فلهذا رأى رضي الله عنه ألا يباع))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (8/ 119).
[2])) ((الشرح الممتع)) (8/ 118، 119).
-
القاعدة الثامنة والأربعون:
((النادر لا حُكْمَ له))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((فإن قلت: إذا لم يجب على الصَّبيِّ صلاة؛ أَفَلَيْسَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم قد أوجبَ على الإنسان أن يأمرَ ابنه أو ابنته بالصَّلاة لسبعٍ، ويضربه عليها لعشر؟ وهل يُضرَبُ الإنسان على شيء لا يجب عليه؟
فالجواب على ذلك أن نقول: إِنَّما أُلزم الوالدُ بأمر أولاده وضربهم؛ لأنَّ هذا من تمام الرِّعاية والقيام بالمسؤولية التي حملها، والأب أهلٌ للمسؤولية، لا لأنَّ الصَّبيَّ تجب عليه الصَّلاة، ولذلك لا يلزمه قضاؤها لو تركها، ولو كان الصَّبيُّ له ستُّ سنوات؛ لكنَّه فَطِنٌ وذكيٌّ، فظاهر الحديث أنَّه لا يأمره؛ لأنَّ الشَّارع حدَّها بالسَّبع؛ لأنَّ الغالب أنه يكون بها التَّمييز، والنَّادر لا حكم له))اهـ([2]).
وقال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «والبقر سنتان، والمعز سنة»؛ فلا يجزئ ما دون ذلك، فلو قال قائل: لو أثنت البعير قبل الخمس والبقرة قبل السنتين، فهل نعتبر الثنية بكونها أثنت أو نعتبر بالسنين؟ نقول هذا شيء نادر، والنادر لا حكم له، وظاهر كلام العلماء رحمهم الله أن العبرة بالسنوات وأن ما تم لها خمس سنين من الإبل فهي ثنية، أو سنتان من البقر فهي ثنية، أو سنة من المعز فهي ثنية، سواء أثنت الثنية أو لا))اهـ([3]).
وقال الشيخ رحمه الله: ((مسألة: إذا قال: أسلمت إليك في هذا البستان فلا يصح ـ أيضًا ـ على المذهب؛ لأنه ليس في الذمة، وهذا البستان قد يثمر وقد لا يثمر، وإذا كان الشارع نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، فهذا من باب أولى، ولكن يصح أن يسلم في بساتين القرية عامة؛ مثل أن يقول: أسلمت إليك في ثمر هذا البلد؛ لأن بعض البلدان يكون ثمره جيدًا؛ وذلك لأن تخلف الثمر في البلد أمر نادر بعيد، والنادر لا حكم له، بخلاف ما إذا كان في بستان معين فقد يتخلف كثيرًا؛ ولذلك لا يصحِّحونه))اهـ([4]).
وقال الشيخ رحمه الله: ((الأمة الشابة لا تجوز إعارتها لرجل إلا أن يكون مَحْرَمًا، فلو كان شخص عنده أمة شابة مملوكة ولها أخ فقال أخوها: أعرني أختي؛ لأني سيأتيني ضيوف وأحتاج إلى مساعدة الأهل بها، فهذا يجوز؛ لأنه مَحْرَم ومأمون عليها، أو استعارتها امرأة، يعني إنسان له جارة أتاها ضيوف فطلبت منه أن يعيرها أمته فهذا يجوز؛ لأن المرأة على المرأة مأمونة، هذا الأصل، والنادر لا حكم له، لا في هذا ولا في المَحْرَم، حتى المَحْرَم أحيانًا يغويه الشيطان فيفعل الفاحشة في محارمه لكن الكلام على الأصل الغالب))اهـ([5]).
وقال الشيخ رحمه الله: ((ما أتلفته البهيمة في النهار يكون الضمان على صاحب الزرع، وليس على صاحب البهيمة ضمان؛ لأن المأمور بالحفظ أصحاب المزارع، إلا أن المؤلف رحمه الله استثنى معنى وجيهًا يؤيد ما نقلناه أخيرًا فقال: «إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة»؛ مثال ذلك: رجل يرعى إبله في النهار فأطلقها قرب مزرعة، والمزرعة ليس عليها شبك وليس عليها جدار، فمثل هذا جرت العادة أن البهيمة تذهب وتأكل الزرع كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه»، وهذا الاستثناء الذي ذكره المؤلف وجيه وصحيح، فيرسلها ـ مثلًا ـ على بُعْد خمسة أمتار أو عشرة أمتار، ثم يذهب، ومن المعلوم أنها سوف تذهب إلى الزرع وتأكله، فيكون الضمان هنا على صاحبها ولهذا قال: «إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة».
وهذا ـ أيضًا ـ خلاف المذهب، فالمذهب لا ضمان على صاحبها في النهار سواء أرسلها بقرب ما تتلفه عادة أم لم يرسلها، بناء على أن مناط الحكم هو تفريط صاحب الزرع أو عدمه؛ لأن صاحب الزرع هو المأمور بحفظ زرعه في النهار، والأصح المذهب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بأن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، إلا أن يكون صاحب البهيمة اهتبل فرصة غياب أصحاب المزارع فأرسل بهيمته فهنا يكون الضمان عليه، أو أرسل البهيمة بقرب ما تتلفه عادة كما تقدم فيضمن.
لو قال قائل: إذا انعكس الأمر وصار الناس يحفظون أموالهم في الليل، والمواشي ـ أيضًا ـ تُطلَق في الليل فهل ينعكس الحكم؟
قال بعض العلماء: إنه ينعكس؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وقال بعض العلماء: لا ينعكس؛ لأن هذه مسألة نادرة، يعني يندر أن تكون المواشي تُرعى في الليل وأن يكون حفظ الأموال في الليل، والنادر لا حكم له))اهـ([6]).
وقال الشيخ رحمه الله: ((فلو شهد أب لابنه لم تقبل شهادته، أو ابن لأبيه لم تقبل شهادته، أو شهد ولد لأمه لم تقبل شهادته، أو أم لولدها لم تقبل شهادتها، المهم أن هذا مانع، فما الدليل على كونه مانعًا؟
الدليل قوة التهمة؛ لأن الإنسان متهم إذا شهد لأصله، أو شهد لفرعه، فإذا كان متهمًا فإن ذلك يمنع من قبول شهادته لاحتمال أن يكون قد حابى أصوله أو فروعه، فالدليل على أن هذا مانع تعليل، وليس دليلًامن الكتاب والسنة، بل هو قوة التهمة، فإذا علمنا أن التهمة معدومة لكون الأب أو الأم مبرزًا في العدالة لا يمكن أن تلحقه تهمة، فهل نقبل الشهادة أو لا؟ المؤلف يقول: لا نقبل الشهادة حتى لو كان الأب من أعدل عباد الله، أو الابن من أعدل عباد الله؛ لأن كونه في هذه المرتبة من العدالة أمر نادر، والنادر لا حكم له، فالعبرة بالأغلب، والأغلب أن الإنسان تلحقه التهمة فيما إذا شهد لأصوله أو فروعه، ولا سيما في عصرنا الحاضر الذي غلبت فيه العاطفة على جانب العقل والدين عند كثير من الناس))اهـ([7]).
[1])) ذكرها الشيخ: (1/ 345)، (2/ 14)، (7/ 426)، (9/ 85)، (10/ 112)، (10/ 213)، (11/ 289)، (13/ 55)، (15/ 436).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 13، 14).
[3])) ((الشرح الممتع)) (7/ 425، 426).
[4])) ((الشرح الممتع)) (9/ 84، 85).
[5])) ((الشرح الممتع)) (10/ 112).
[6])) ((الشرح الممتع)) (10/ 211، 212).
[7])) ((الشرح الممتع)) (15/ 436).
-
القاعدة التاسعة والأربعون:
((الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «وتَحْرمُ الخُيَلاءُ في ثوبٍ وغيرهِ»، الخُيَلاء: مأخوذة في الأصل من الخَيل، لأن الخَيل تجلب التَّباهي والترفُّع والتَّعالي.
فالخُيَلاء: أن يجدَ الإنسانُ في نفسه شيئًا من التَّعاظُم على الغَير؛ وهذا حرام في الثوب وغيره، فالثوب كالقميص والسَّراويل والإزار، وغير الثوب كالخَاتم، فبعض النَّاس يلبس الخَاتم، ويضع عليه فَصًّا كبيرًا جدًا، وأحيانًا تشعر بأنه يتخايل به؛ كأن يحرِّك أصبعه بالخاتم خيلاء؛ ولهذا قال المؤلِّف: «في ثَوبٍ وغَيْرِه» فأطلق.
فإن قال قائل: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ جَرَّ ثَوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه»، فخَصَّ ذلك بالثوب؟
فالجواب: أنَّ الحكم يدور مع علَّته، وذِكْرُ الثوب مقرونًا بالوصف الذي هو عِلَّة الحكم يكون كالمثال؛ فكان المحرم في الأصل هو الخُيلاء، وذَكَر النبي صلّى الله عليه وسلّم مثالًا مما تكون فيه الخيلاء وهو الثوب، ولهذا قال بعضُ العلماء: إن الخُيَلاء ليست في جَرِّ الثَّوب فقط، بل في كُلِّ هيئة للثَّوب حتى يقول: إن توسيع الأكمام من الخُيَلاء، والمُهِمُّ: أن الخيلاء إنما ذُكِرَت في الحديث بالإزار أو الثوب من باب ضرب المثال))اهـ([2]).
وقال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «والحشرات»؛ الحشرات لا يصح بيعها، والعلة أنه ليس فيها نفع، فبذل المال فيها إضاعة له، وقد نهى صلّى الله عليه وسلّم عن إضاعة المال، وعُلِم من هذا التعليل أنه لو كان فيها نفع جاز بيعها؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، ومن النفع العلق لمص الدم([3])، والديدان لصيد السمك))اهـ([4]).
وقال الشيخ رحمه الله: ((مسألة: هل يجوز قطع الإصبع الزائدة أو لا؟
الفقهاء يقولون: لا يجوز، ويعللون ذلك بالخطر، ولكن بناء على تقدم الطب الآن فإن الصحيح جواز ذلك؛ لأن هذا إزالة عيب، وليس من باب التجميل، ولو كان من باب التجميل لكان حرامًا، ولهذا لعن النبي صلّى الله عليه وسلّم النامصة والمتنمصة؛ لأنها تزيل شيئًا خلقه الله للتجميل، وأما هذا فيقطع أصبعًا زائدة من باب إزالة العيب، وأنت الآن قدر نفسك قد أصبت بهذا الأمر ألست تحب أن لا يراك الناس؟ بلى ما في ذلك شك، فالصواب أن إزالة الأصبع الزائدة في وقتنا الحاضر جائزة ولا شيء فيها، وهذا نظير ما قال العلماء في البواسير، قالوا: إن قطع البواسير حرام؛ لأنه يمكن أن ينزف الدم حتى يموت، فيكون متسببًا في قتل نفسه، ولكنه في الوقت الحاضر أصبحت هذه العملية عملية بسيطة وليس فيها أي نوع من الخطر، فلكل مقام مقال، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا))اهـ([5]).
وقال الشيخ رحمه الله: ((وهل يمكن أن يكون عنينًا بالنسبة لزوجة، وليس عنينًا بالنسبة لزوجة أخرى؟
الجواب: الواقع يمكن، لا سيما إذا كان ـ والعياذ بالله ـ مسحورًا؛ لأن هناك سحر عطف وصرف، فقد يكون هو بالنسبة لفلانة لا يستطيع الجماع أبدًا، وبالنسبة للأخرى يستطيع أن يجامع، ففي الأولى: المذهب أنه ليس لها الفسخ؛ لأنه ليس بعنين، فهو قادر على الجماع، والصواب - وهو الراجح عندي - أن لها الفسخ، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، ولو قيل: إن هذه أحق بالفسخ من غيرها؛ لأنها تراه مع ضرتها، يغتسل في اليوم ثلاث مرات، وهي لا يأتيها، فهذا أشد عليها مما لو كان منفردًا بها، فينبغي أن نمكنها من الفسخ رأفة بها ورحمة، ولعل الله أن ييسر لها زوجًا يحصل به الكفاية))اهـ([6]).
وقال الشيخ رحمه الله: ((والسم أحيانًا يستعمل دواءً، فيوجد أنواع من السموم الخفيفة تخلط مع بعض الأدوية فتستعمل دواءً، فهذه نص العلماء على أنها جائزة، لكن بشرط أن نعلم انتفاء الضرر، فإذا خلطت بعض الأدوية بأشياء سامَّة، لكن على وجهٍ لا ضرر فيه فإنها تُباح؛ لأن لدينا قاعدة فقهية مهمة، وهي أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا؛ فإذا استُعمل السم، أو شيء فيه سم على وجه لا ضرر فيه كان ذلك جائزًا))اهـ([7]).
وقال الشيخ رحمه الله: ((كل هذه الأحوال التي ذكرها المؤلف مقيسة على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يقضي أحد بين اثنين وهو غضبان»، إذًا كل حال تعتري القاضي تكون حائلًا بينه وبين تصور القضية، أو انطباق الأحكام الشرعية عليها، فإنه يحرم عليه القضاء فيها حتى يزول هذا السبب؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا))اهـ([8]).
[1])) ذكرها الشيخ: (1/ 41)، (1/ 137)، (1/ 283)، (1/ 500)، (2/ 37)، (2/ 197)، (7/ 64)، (8/ 118)، (8/ 313)، (8/ 450)، (9/ 300)، (9/ 378)، (10/ 212)، (11/ 56)، (11/ 326)، (12/ 209)، (12/ 421)، (12/ 443)، (13/ 507)، (13/ 542)، (15/ 13)، (15/ 70)، (15/ 303).
[2])) ((الشرح الممتع)) (2/ 197).
[3])) قال في ((لسان العرب)) (10/ 267، 268): ((العلق: دويدة حمراء تكون في الماء تعلق بالبدن وتمص الدم، وهي من أدوية الحلق والأورام الدموية لامتصاصها الدم الغالب على الإنسان))اهـ.
[4])) ((الشرح الممتع)) (8/ 118).
[5])) ((الشرح الممتع)) (8/ 313).
[6])) ((الشرح الممتع)) (12/ 209).
[7])) ((الشرح الممتع)) (15/ 13، 14).
[8])) ((الشرح الممتع)) (15/ 303).
-
القاعدة الخمسون:
((الاستدامة أقوى من الابتداء))
قال الشيخ رحمه الله: ((قوله: «ولو كرهت» أي: لو كرهت الزوجةُ الرجعةَ فإنها تثبت لقوله تعالى: { وَبُعُولَتُهُن أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، ولم يشترط الله تعالى رضا الزوجة.
فإن قال قائل: ألستم تشترطون في عقد النكاح رضا الزوجة؟
فالجواب: بلى، ولكن ذلك ابتداء عقد، وهذا إعادة مطلقة، فهو استدامة نكاح، وليس ابتداء عقد، والاستدامة أقوى من الابتداء، ولهذا لا يشترط فيها وليٌّ ولا شهود، وهذه قاعدة فقهية ينبغي لطالب العلم أن يفهمها؛ ولهذا إذا تطيب الإنسان قبل إحرامه ثم بقي الطِّيب عليه بعد الإحرام جاز، ولو تطيب بعد الإحرام لا يجوز؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء، وكذلك لو أراد الإنسان أن يعقد وهو مُحْرم على امرأة حَرُم، ولو راجع امرأته المطلقة وهو محرم جاز؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء))اهـ.
-
القاعدة الحادية والخمسون:
((من شك في وجود شيء أو عدمه فالأصل العدم))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((إذا شك في نية القصر، يعني شك هل نوى القصر أم لم ينوِ؟ فيلزمه الإِتمام، وهذه المسألة غير المسألة الأولى، فالأولى جزم بأنه لم ينوِ، والثانية شك هل نوى أم لا؟ فالمذهب أنه يلزمه الإِتمام، لأن الأصل عدم النية؛ ومن القواعد المقررة: أن من شك في وجود شيء أو عدمه فالأصل العدم، وإذا لم يتيقن أنه نوى القصر لزمه الإِتمام، ووجوب الإِتمام في هذه المسألة أضعف من وجوب الإِتمام في المسألة التي قبلها وهي: إذا جزم بأنه لم ينوِ، فإذا كان القول الصحيح في المسألة الأولى: أنه يقصر كان القول بجواز القصر في هذه المسألة من باب أولى، وعلى هذا فنقول: إذا شك هل نوى القصر أو لم ينوه؟ فإنه يقصر ولا يلزمه الإِتمام، لأن الأصل في صلاة المسافر القصر))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (4/ 372).
[2])) ((الشرح الممتع)) (4/ 371، 372).
-
القاعدة الثانية والخمسون:
((كل تحديد بمكان أو زمان أو عدد، فإنه لا بد له من دليل))([1]) قال الشيخ رحمه الله: ((عندنا قاعدة مفيدة ((أن كل تحديد بمكان أو زمان أو عدد، فإنه لا بد له من دليل))؛ لأن التحديد يحتاج إلى توقيف.
فمثلًا: الذين حددوا الحيض بأن أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يومًا فلا بد لهم من الدليل، وإلا فلا قبول، والذين حددوا مسافة القصر بيومين لا بد لهم من الدليل، والذين حددوا الإقامة التي تقطع حكم السفر بأربعة أيام لا بد لهم من الدليل، والذين حددوا الفطرة بصاع لا بد لهم من الدليل، والذين حددوا دخول وقت الجمعة بارتفاع الشمس بقيد رمح نقول: أين الدليل؟))اهـ([2]).
[1])) ذكرها الشيخ: (5/ 31).
[2])) ((الشرح الممتع)) (5/ 31).