-
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://i.imgur.com/diLeefC.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الحلقة (1)
صــ3 إلى صــ 7
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
[ ص: 3 ]
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَّفَنَا عَلَى الْأُمَمِ بِالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ، وَدَعَانَا بِتَوْفِيقِهِ عَلَى الْحُكْمِ إِلَى الْأَمْرِ الرَّشِيدِ ، وَقَوَّمَ بِهِ نُفُوسَنَا بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَحَفِظَهُ مِنْ تَغْيِيرِ الْجَهُولِ ، وَتَحْرِيفِ الْعَنِيدِ ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ .
أَحْمَدُهُ عَلَى التَّوْفِيقِ لِلتَّحْمِيدِ ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى التَّحْقِيقِ فِي التَّوْحِيدِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، شَهَادَةً يَبْقَى ذُخْرُهَا عَلَى التَّأْيِيدِ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ إِلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ، بَشِيرًا لِلْخَلَائِقِ وَنَذِيرًا ، وَسِرَاجًا فِي الْأَكْوَانِ مُنِيرًا ، وَوُهَبَ لَهُ مِنْ فَضْلِهِ خَيْرًا كَثِيرًا ، وَجَعَلَهُ مُقَدَّمًا عَلَى الْكُلِّ كَبِيرًا ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَرْبَابِ جِنْسِهِ نَظِيرًا ، وَنَهَى أَنْ يُدْعَى بِاسْمِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَوْقِيرًا ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كَلَامًا قَرَّرَ صِدْقَ قَوْلِهِ بِالتَّحَدِّي بِمِثْلِهِ تَقْرِيرًا فَقَالَ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الْإِسْرَاءِ: 88 ] فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَأَشْيَاعِهِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ أَشْرَفَ الْعُلُومِ ، كَانَ الْفَهْمُ لِمَعَانِيهِ أَوْفَى الْفُهُومِ; لِأَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومُ ، وَإِنِّي نَظَرْتُ فِي جُمْلَةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ فَوَجَدْتُهَا بَيْنَ كَبِيرٍ قَدْ يَئِسَ الْحَافِظُ مِنْهُ ، وَصَغِيرٍ لَا يُسْتَفَادُ كُلُّ الْمَقْصُودِ مِنْهُ ، وَالْمُتَوَسِّط ِ مِنْهَا قَلِيلُ الْفَوَائِدِ ، عَدِيمُ التَّرْتِيبِ ، وَرُبَّمَا أُهْمِلَ فِيهِ الْمُشْكِلُ ، وَشُرِحَ غَيْرُ الْغَرِيبِ ، فَأَتَيْتُكَ بِهَذَا الْمُخْتَصَرِ الْيَسِيرِ ، مُنْطَوِيًا عَلَى الْعِلْمِ الْغَزِيرِ ، وَوَسَمْتُهُ بِـ: [ ص: 4 ] " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" .
وَقَدْ بَالَغْتُ فِي اخْتِصَارِ لَفْظِهِ ، فَاجْتَهِدْ وَفَّقَكَ اللَّهُ فِي حِفْظِهِ ، وَاللَّهُ الْمُعِينُ عَلَى تَحْقِيقِهِ ، فَمَا زَالَ جَائِدًا بِتَوْفِيقِهِ .
فَصْلٌ فِي فَضِيلَةِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ
رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَتَعَلَّمُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ ، فَلَا نُجَاوِزُهَا إِلَى الْعَشْرِ الْآَخَرِ حَتَّى نَعْلَمَ مَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ .
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنَ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آَيَةً إِلَّا أُحِبُّ أَنْ أَعْلَمَ فِيمَ أُنْزِلَتْ ، وَمَاذَا عَنَى بِهَا .
وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَثَلُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ يَعْلَمُ تَفْسِيرَهُ أَوْ لَا يَعْلَمُ ، مَثَلُ قَوْمٍ جَاءَهُمْ كِتَابٌ مَنْ صَاحِبٍ لَهُمْ لَيْلًا ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِصْبَاحٌ ، فَتُدَاخِلُهُمْ لِمَجِيءِ الْكِتَابِ رَوْعَةً لَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ ، فَإِذَا جَاءَهُمُ الْمِصْبَاحُ عَرَفُوا مَا فِيهِ .
فَصْلٌ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلِ التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ بِمَعْنًى ، أَمْ يَخْتَلِفَانِ؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ يَمِيلُونَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ إِلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِي نَ .
وَذَهَبَ قَوْمٌ يَمِيلُونَ إِلَى الْفِقْهِ إِلَى اخْتِلَافِهِمَا ، فَقَالُوا: التَّفْسِيرُ: إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ مَقَامِ الْخَفَاءِ إِلَى مَقَامِ التَّجَلِّي .
وَالتَّأْوِيلُ: نَقْلُ الْكَلَامِ عَنْ وَضْعِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى دَلِيلٍ [لَوْلَاهُ ] مَا تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: آَلَ الشَّيْءُ إِلَى كَذَا ، أَيْ: صَارَ إِلَيْهِ .
[ ص: 5 ] فَصْلٌ فِي مُدَّةِ نُزُولِ الْقُرْآنِ
رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى بَيْتِ [الْعِزَّةِ ، ثُمَّ ] أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: فَرَقَ اللَّهُ تَنْزِيلَ الْقُرْآَنِ ، فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً .
وَقَالَ الْحَسَنُ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً ، أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ سِنِينَ .
فَصْلٌ
وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآَنِ ، فَأَثْبَتَ الْمَنْقُولُ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [ الْعَلَقِ: 1 ] .
رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَأَبَو صَالِحٍ .
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ الْمُدَّثِّرِ: 1 ] وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ رَجَعَ فَتَدَثَّرَ فَنَزَلَ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَ [فِي ] "الصحيحين" مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: "فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَإِذَا الْمَلِكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَجَثَثْتُ مِنْهُ رُعْبًا ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي ، زَمِّلُونِي ، فَدَثَّرُونِي ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وَمَعْنَى جَثَثْتُ: فَرَّقْتُ .
يُقَالُ: رَجُلٌ مَجْؤُوثٌ [وَمَجْثُوثٌ ] وَقَدْ صَحَّفَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَقَالَ: جَبُنْتُ مِنَ الْجُبْنِ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ .
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فَصْلٌ
[ ص: 6 ]
وَاخْتَلَفُوا فِي آخِرِ مَا نَزَلَ ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: آَخِرُ آَيَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، آيَةُ الرِّبَا ، وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ عَنْهُ: آَخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ جَمِيعًا إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ النَّصْرُ: 1 ] .
وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آَخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ: 281 ] وَهَذَا مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي صَالِحٍ .
وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: آخِرُ آَيَةٍ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [ النِّسَاءِ: 176 ] وَآَخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ (بَرَاءَةُ) وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ آَخِرَ آَيَةٍ نَزَلَتْ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [ التَّوْبَةِ: 138 ] إِلَى آَخِرِ السُّورَةِ .
فَصْلٌ
لَمَّا رَأَيْتُ جُمْهُورَ كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَكَادُ الْكِتَابُ مِنْهَا يَفِي بِالْمَقْصُودِ كَشَفَهُ حَتَّى يَنْظُرَ لِلْآَيَةِ الْوَاحِدَةِ فِي كُتُبٍ ، فَرُبَّ تَفْسِيرٍ أَخَلَّ فِيهِ بِعِلْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ، أَوْ بِبَعْضِهِ ، فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ لَمْ يُوجَدْ أَسْبَابُ النُّزُولِ ، أَوْ أَكْثَرَهَا ، فَإِنْ وُجِدَ لَمْ يُوجَدْ بَيَانُ الْمَكِّيِّ مِنَ الْمَدَنِيِّ ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ لَمْ تُوجَدِ الْإِشَارَةُ إِلَى حُكْمِ الْآَيَةِ ، فَإِنْ وُجِدَ لَمْ يُوجَدْ جَوَابُ إِشْكَالٍ يَقَعُ فِي الْآَيَةِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُنُونِ الْمَطْلُوبَةِ .
وَقَدْ أَدْرَجْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ مَا لَمْ أَذْكُرْهُ مِمَّا [ ص: 7 ] لَا يَسْتَغْنِي التَّفْسِيرُ عَنْهُ مَا أَرْجُو بِهِ وُقُوعَ الْغَنَاءِ بِهَذَا الْكِتَابِ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُجَانِسُهُ .
وَقَدْ حَذَّرْتُ مِنْ إِعَادَةِ تَفْسِيرِ كَلِمَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْإِشَارَةِ ، وَلَمْ أُغَادِرْ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي أَحَطْتُ بِهَا إِلَّا مَا تَبْعُدُ صِحَّتُهُ مَعَ الِاخْتِصَارِ الْبَالِغِ ، فَإِذَا رَأَيْتَ فِي فَرْشِ الْآيَاتِ مَا لَمْ يُذْكَرْ تَفْسِيرُهُ ، فَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ أَمْرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ .
وَقَدِ انْتَقَى كُتَّابُنَا هَذَا أَنْقَى التَّفَاسِيرِ ، فَأُخِذَ مِنْهَا الْأَصَحُّ وَالْأَحْسَنُ وَالْأَصْوَنُ ، فَنَظَّمَهُ فِي عِبَارَةِ الِاخْتِصَارِ .
وَهَذَا حِينَ شُرُوعِنَا فِيمَا ابْتَدَأْنَا لَهُ ، وَاللَّهُ الْمُوَفَّقُ .
فَصْلٌ فِي الِاسْتِعَاذَةِ
قَدْ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالِاسْتِعَاذَ ةِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [ النَّحْلِ: 98 ] وَمَعْنَاهُ: إِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ .
وَمَعْنَى أَعُوذُ: أَلْجَأُ وَأَلُوذُ .
https://i.imgur.com/jrmzme2.gif
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://i.imgur.com/diLeefC.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الحلقة (2)
صــ8 إلى صــ 9
فصل في بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن عمر: نزلت في كل سورة .
وقد اختلف العلماء: هل هي آية كاملة ، أم لا؟ وفيه [عن ] أحمد روايتان .
واختلفوا: هل هي من الفاتحة ، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان أيضا .
فأما من قال: إنها من الفاتحة ، فإنه يوجب قراءتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة ، وأما من لم يرها من الفاتحة فإنه يقول: قراءتها في الصلاة سنة .
ما عدا مالكا فإنه لا يستحب قراءتها في الصلاة .
واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به ، فنقل جماعة عن أحمد: أنه لا يسن الجهر بها ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، [ ص: 8 ] وابن مغفل ، وابن الزبير ، وابن عباس ، وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم: الحسن ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، والأعمش ، وسفيان الثوري ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأبو عبيد في آخرين .
وذهب الشافعي إلى أن الجهر مسنون ، وهو مروي عن معاوية بن أبي سفيان ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد .
فأما تفسيرها:
فقوله "بسم الله" اختصار ، كأنه قال: أبدأ بسم الله أو: بدأت باسم الله .
وفي الاسم خمس لغات: "إسم" بكسر الألف ، و"أسم" بضم الألف إذا ابتدأت بها ، و"سم" بكسر السين ، و"سم" بضمها ، و"سما" .
قال الشاعر:
والله أسماك سما مباركا آثرك الله به إيثاركا
وأنشدوا:
باسم الذي في كل سورة سمه
قال الفراء: بعض قيس [يقولون ] "سمه" ، يريدون: اسمه ، وبعض قضاعة يقولون: سمه .
أنشدني بعضهم:
وعامنا أعجبنا مقدمه يدعى أبا السمح وقرضاب سمه
والقرضاب: القطاع ، يقال: سيف قرضاب .
واختلف العلماء في اسم الله الذي هو "الله":
فقال قوم: إنه مشتق ، وقال آخرون: إنه علم ليس بمشتق .
وفيه عن الخليل [ ص: 9 ] روايتان .
إحداهما: أنه ليس بمشتق ، ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن .
والثانية: رواها عنه سيبويه: أنه مشتق .
وذكر أبو سليمان الخطابي عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من: أله الرجل يأله: إذا فزع إليه من أمر نزل به .
فأله ، أي: أجاره وأمنه ، فسمي إلها كما يسمى الرجل إماما .
وقال غيره: أصله ولاه . فأبدلت الواو همزة فقيل: إله كما قالوا: وسادة و إسادة ، ووشاح وإشاح .
واشتق من الوله ، لأن قلوب العباد توله نحوه . كقوله تعالى: ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [ النحل: 53 ] .
وكان القياس أن يقال: مألوه ، كما قيل: معبود ، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علما ، كما قالوا للمكتوب: كتاب ، وللمحسوب: حساب .
وقال بعضهم: أصله من: أله الرجل يأله إذا تحير; لأن القلوب تتحير عند التفكر في عظمته .
وحكي عن بعض اللغويين: أله الرجل يأله إلاهة ، بمعنى: عبد يعبد عبادة .
وروي عن ابن عباس أنه قال: ويذرك وآلهتك [ الأعراف: 127 ] أي: عبادتك .
قال: والتأله: التعبد .
قال رؤبة:
لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي
فمعنى الإله: المعبود .
فأما "الرحمن":
فذهب الجمهور إلى أنه مشتق من الرحمة ، مبني على المبالغة ، ومعناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها .
وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة ، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء: ملآن ، وللشديد الشبع: شبعان .
قال الخطابي: فـ "الرحمن": ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم ، وعمت المؤمن والكافر .
و"الرحيم": خاص للمؤمنين .
قال عز وجل: وكان بالمؤمنين رحيما [ الأحزاب: 43 ] .
والرحيم: بمعنى الراحم .
https://i.imgur.com/jrmzme2.gif
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
الحلقة (3)
صــ10 إلى صــ 13
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ .
[ ص: 10 ]
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَقَرَأَ عَلَيْهِ أَبِيُّ بْنُ كَعْبٍ أُمَّ الْقُرْآنِ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا أُنْزِلُ فِي التَّوْرَاةِ ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ ، وَلَا فِي الزَّبُورِ ، وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيَتَهُ" .
فَمِنْ أَسْمَائِهَا: الْفَاتِحَةُ ، لِأَنَّهُ يُسْتَفْتَحُ الْكِتَابُ بِهَا تِلَاوَةً وَكِتَابَةً .
وَمِنْ أَسْمَائِهَا: أُمُّ الْقُرْآَنِ ، وَأُمُّ الْكِتَابِ ، لِأَنَّهَا أَمَّتِ الْكِتَابَ بِالتَّقَدُّمِ .
وَمِنْ أَسْمَائِهَا: السَّبْعُ الْمَثَانِي ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا سَنَشْرَحُهُ فِي (الْحِجْرِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نُزُولِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةَ ، وَأَبِي مَيْسَرَةَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ ِ . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْقَوْلَيْنِ .
فَصْلٌ
فَأُمًّا تَفْسِيرُهَا:
فَـ (الْحَمْدُ) رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ ، وَ (لِلَّهِ) الْخَبَرُ .
وَالْمَعْنَى: الْحَمْدُ ثَابِتٌ لِلَّهِ ، وَمُسْتَقِرٌّ لَهُ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى كَسْرِ لَامِ (لِلَّهِ) وَضَمَّهَا ابْنُ عَبْلَةَ ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةُ بَعْضِ [ ص: 11 ] بَنِي رَبِيعَةَ ، وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: (الْحَمْدُ) بِنَصْبِ الدَّالِ "لِلَّهِ" بِكَسْرِ اللَّامِ . وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ بِكَسْرِ الدَّالِ وَاللَّامِ جَمِيعًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَمْدَ: ثَنَاءٌ عَلَى الْمَحْمُودِ ، وَيُشَارِكُهُ الشُّكْرُ ، إِلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا ، وَهُوَ: أَنَّ الْحَمْدَ قَدْ يَقَعُ ابْتِدَاءً لِلثَّنَاءِ ، وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ ، وَقِيلَ: لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ ، فَتَقْدِيرُهُ: قُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْحَمْدُ: الثَّنَاءُ عَلَى الرَّجُلِ بِمَا فِيهِ مِنْ كَرَمٍ أَوْ حَسَبٍ أَوْ شَجَاعَةٍ ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ .
وَالشُّكْرُ: الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِمَعْرُوفٍ أَوْلَاكَهُ ، وَقَدْ يُوضَعُ الْحَمْدُ مَوْضِعَ الشُّكْرِ . فَيُقَالُ: حَمِدَتْهُ عَلَى مَعْرُوفِهِ عِنْدِي ، كَمَا يُقَالُ: شَكَرْتُ لَهُ عَلَى شَجَاعَتِهِ .
فَأَمَّا (الرَّبُّ) فَهُوَ الْمَالِكُ ، وَلَا يُذْكَرُ هَذَا الِاسْمُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ إِلَّا بِالْإِضَافَةِ ، فَيُقَالُ: هَذَا رَبُّ الدَّارِ ، وَرَبُّ الْعَبْدِ .
وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّرْبِيَةِ .
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ: يُقَالُ: رَبُّ فُلَانٍ صَنِيعَتُهُ يَرُبُّهَا رَبًّا: إِذَا أَتَمَّهَا وَأَصْلَحَهَا ، فَهُوَ رَبٌّ وَرَابٌ .
قَالَ الشَّاعِرُ:
يُرَبِّ الَّذِي يَأْتِي مِنَ الْخَيْرِ إِنَّهُ إِذَا سُئِلَ الْمَعْرُوفَ زَادَ وَتَمَّمَا
قَالَ: وَالرَّبُّ يُقَالُ: عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .
أَحَدُهَا: الْمَالِكُ . يُقَالُ: رَبُّ الدَّارِ .
وَالثَّانِي: الْمُصْلِحُ ، يُقَالُ: رَبُّ الشَّيْءِ .
وَالثَّالِثُ: السَّيِّدُ الْمُطَاعُ ، قَالَ تَعَالَى: فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا [ يُوسُفَ: 41 ] .
وَالْجُمْهُورُ عَلَى خَفْضِ بَاءِ "رَبٍّ" وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ بِنَصْبِهَا .
وَقَرَأَ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ بِرَفْعِهَا .
[ ص: 12 ] فَأَمَّا (الْعَالَمِينَ) فَجَمْعُ عَالَمٍ ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: اسْمٌ لِلْخَلْقِ مِنْ مَبْدَئِهِمْ إِلَى مُنْتَهَاهُمْ وَقَدْ سَمَّوْا أَهْلَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ عَالِمًا .
فَقَالَ الْحَطِيئَةُ:
تَنَحِّي فَاجْلِسِي مِنِّي بَعِيدًا أَرَاحَ اللَّهُ مِنْكَ الْعَالَمِينَا
فَأَمَّا أَهْلُ النَّظَرِ ، فَالْعَالَمُ عِنْدَهُمُ: اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْكَوْنِ الْكُلِّيِّ الْمُحْدَثِ مِنْ فَلَكٍ ، وَسَمَاءٍ ، وَأَرْضٍ ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ .
وَفِي اشْتِقَاقِ الْعَالَمِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْعِلْمِ ، وَهُوَ يُقَوِّي قَوْلَ أَهْلِ اللُّغَةِ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْعَلَامَةِ ، وَهُوَ يُقَوِّي قَوْلَ أَهْلِ النَّظَرِ ، فَكَأَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى خَالِقِهِ .
وَلِلْمُفَسِّرِ ينَ فِي الْمُرَادِ بِ "العالمين" هَاهُنَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهُمَا: الْخَلْقُ كُلُّهُ ، السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُونَ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ . رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي: كُلُّ ذِي رُوحٍ دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ . رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ . رُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَمُقَاتِلٌ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالْمَلَائِكَة ُ ، نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا .
قوله تعالى: الرحمن الرحيم .
قرأ أبو العالية ، وابن السميفع ، وعيسى بن عمر بالنصب فيهما ، وقرأ أبو رزين العقيلي ، والربيع بن خيثم ، وأبو عمران الجوني بالرفع فيهما .
[ ص: 13 ]
https://i.imgur.com/jrmzme2.gif
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
الحلقة (4)
صــ13 إلى صــ 15
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ .
قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ ، وَخَلَفٌ ، وَيَعْقُوبُ: "مَالِكِ" بِأَلِفٍ . وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ كَذَلِكَ ، إِلَّا أَنَّهُمَا نَصَبَا الْكَافَ .
وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ: "مَلْكِ" بِإِسْكَانِ اللَّامِ مِنْ غَيْرِ الْأَلِفِ مَعَ كَسْرِ الْكَافِ ، وَقَرَأَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ "مَلِكَ" بِكَسْرِ اللَّامِ وَنَصْبِ الْكَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ .
وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَعَائِشَةُ ، وَمُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: "مَلِكُ" مِثْلَ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ رَفَعُوا الْكَافَ .
وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ "مَلِيكِ" بِيَاءٍ بَعْدَ اللَّامِ مَكْسُورَةَ الْكَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ .
وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ كَذَلِكَ ، إِلَّا أَنَّهُ ضَمَّ الْكَافَ .
وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو حَيْوَةَ " مَلَكَ" عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي ، وَيَوْمَ بِالنَّصْبِ .
وَرَوَى عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: إِسْكَانَ اللَّامِ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَجُمْهُورِ الْقُرَّاءِ "مَلِكِ" بِفَتْحِ الْمِيمِ مَعَ كَسْرِ اللَّامِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَدْحِ ، لِأَنَّ كُلَّ مَلِكٍ مَالِكٍ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَالِكٍ مَلِكًا .
وَفِي "الدِّينِ" هَاهُنَا قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْحِسَابُ . قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
وَالثَّانِي: الْجَزَاءُ . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَلَمَّا أَقَرَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ مَالِكُ الدُّنْيَا ، دَلَّ بِقَوْلِهِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ عَلَى أَنَّهُ مَالِكُ الْأُخْرَى .
وَقِيلَ: إِنَّمَا خَصَّ يَوْمَ الدِّينِ; لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ يَوْمَئِذٍ بِالْحُكْمِ فِي خَلْقِهِ .
[ ص: 14 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ .
وَقَرَأَ الْحَسَنُ ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ "يُعْبَدُ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ .
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: إِيَّاكَ يُعْبَدُ ، وَالْعَرَبُ تَرْجِعُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ ، وَمِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [ يُونُسَ: 32 ] ، وَقَوْلُهُ: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً [ الدَّهْرِ: 21 -22 ] .
وَقَالَ لَبِيدٌ:
بَاتَتْ تَشْكِي إِلَيَّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً وَقَدْ حَمَتْلَكَ سَبْعًا بَعْدَ سَبْعِينَا
وَفِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى التَّوْحِيدِ .
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي آَخَرِينَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى الطَّاعَةِ ، كَقَوْلِهِ: لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [ يس: 60 ] .
الثَّالِثُ: أَنَّهُمَا بِمَعْنَى الدُّعَاءِ ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [ غَافِرٍ: 60 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: اهْدِنَا فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: ثَبِّتْنَا . قَالَهُ عَلِيٌّ ، وَأُبِيُّ . وَالثَّانِي: أَرْشِدْنَا . وَالثَّالِثُ: وُفِّقْنَا . وَالرَّابِعُ: أَلْهِمْنَا . رُوِيَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
(وَالصِّرَاطَ) الطَّرِيقُ . وَيُقَالُ: إِنَّ أَصْلَهُ بِالسِّينِ ، لِأَنَّهُ مِنَ " الِاسْتِرَاطِ " وَهُوَ: الِابْتِلَاعُ فَالسِّرَاطُ كَأَنَّهُ يَسْتَرِطُ الْمَارِّينَ عَلَيْهِ ، فَمَنْ قَرَأَ بِالسِّينِ ، كَمُجَاهِدٍ ، وَابْنِ مُحَيْصِنٍ ، وَيَعْقُوبَ ، فَعَلَى أَصْلِ الْكَلِمَةِ ، وَمَنْ قَرَأَ بِالصَّادِّ ، كَأَبِي عَمْرٍو ، وَالْجُمْهُورِ ، فَلِأَنَّهَا أَخَفُّ عَلَى اللِّسَانِ ، وَمَنْ قَرَأَ بِالزَّايِ ، كَرِوَايَةِ الْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الْعَرَبِ: "سَقْرٌ وَزَقْرٌ" ، وَرُوِيَ [ ص: 15 ] عَنْ حَمْزَةَ: إِشْمَامُ السِّينِ زَايًا ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَلَفَّظَ بِالصِّرَاطِ بَيْنَ الصَّادِ وَالزَّايِ .
قَالَ الْفَرَّاءُ: اللُّغَةُ الْجَيِّدَةُ بِالصَّادِّ ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ الْأُولَى ، وَعَامَّةُ الْعَرَبِ يَجْعَلُونَهَا سِينًا ، وَبَعْضُ قَيْسٍ يَشُمُّونَ الصَّادَ ، فَيَقُولُ "الصِّرَاطَ" بَيْنَ الصَّادِ وَالسِّينِ ، وَكَانَ حَمْزَةُ يَقْرَأُ "الزِّرَاطَ" بِالزَّايِ ، وَهِيَ لُغَةٌ لِعُذْرَةٍ وَكَلْبٍ وَبَنِي الْقَيْنِ . يَقُولُونَ فِي [أَصْدَقُ ] أَزْدَقُ .
وَفِي الْمُرَادِ بِالصِّرَاطِ هَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ ، رَوَاهُ عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ . قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحُسْنُ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ فِي آَخَرِينَ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الطَّرِيقُ الْهَادِي إِلَى دِينِ اللَّهِ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ طَرِيقُ الْجَنَّةِ ، نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا . فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى سُؤَالِ الْمُسْلِمِينَ الْهِدَايَةَ وَهُمْ مُهْتَدُونَ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى: اهْدِنَا لُزُومَ الصِّرَاطَ ، فَحَذَفَ اللُّزُومَ . قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: ثَبِّتْنَا عَلَى الْهُدَى ، تَقُولُ الْعَرَبُ لِلْقَائِمِ: قُمْ حَتَّى آَتِيَكَ ، أَيِ: اثْبُتْ عَلَى حَالِكَ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى: زِدْنَا هُدًى .
https://i.imgur.com/jrmzme2.gif
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
الحلقة (5)
صــ16 إلى صــ 18
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ النَّبِيُّونَ ، وَالصِّدِّيقُون َ ، وَالشُّهَدَاءُ ، وَالصَّالِحُونَ . وَقَرَأَ [ ص: 16 ] الْأَكْثَرُونَ "عَلَيْهِمْ" بِكَسْرِ الْهَاءِ ، وَكَذَلِكَ "لَدَيْهِمْ" وَ "إِلَيْهِمْ" وَقَرَأَهُنَّ حَمْزَةُ بِضَمِّهَا . وَكَانَ ابْنُ كَثِيرٍ يَصِلُ [ضَمَّ ] الْمِيمِ بِوَاوٍ . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : حَكَى اللُّغَوِيُّونَ فِي "عَلَيْهِمْ" عَشْرَ لُغَاتٍ ، قُرِئَ بِعَامَّتِهَا "عَلَيْهُمْ" بِضَمِّ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ "وَعَلَيْهِمْ" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ ، وَ"عَلَيْهِمِي" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَإِلْحَاقِ يَاءٍ بَعْدَ الْكَسْرَةِ ، وَ"عَلَيْهِمُو" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ وَزِيَادَةِ وَاوٍ بَعْدَ الضَّمَّةُ ، وَ"عَلَيْهُمُو" بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَإِدْخَالِ وَاوٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَ"عَلَيُهُمْ" بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ وَاوٍ ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ السِّتَّةُ مَأْثُورَةٌ عَنِ الْقُرَّاءِ ، وَأَوْجُهٌ أَرْبَعَةٌ مَنْقُولَةٌ عَنِ الْعَرَبِ "عَلَيْهُمِي" بِضَمِّ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَإِدْخَالِ يَاءٍ ، وَ"عَلَيْهُمِ" بِضَمِّ الْهَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ يَاءٍ ، و"عَلَيْهِمُ" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ مِنْ غَيْرِ إِلْحَاقِ وَاوٍ ، و"عَلَيْهِمِ" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَلَا يَاءَ بَعْدَ الْمِيمِ .
فَأَمَّا "الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ" فَهُمُ الْيَهُودُ; "وَالضَّالُّونَ" : النَّصَارَى .
رَوَاهُ عُدَيُّ بْنُ حَاتِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَالضَّلَالُ: الْحِيرَةُ وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ .
فَصْلٌ
وَمِنَ السُّنَّةِ فِي حَقِّ قَارِئِ الْفَاتِحَةِ أَنْ يُعْقِبَهَا بِـ "آَمِينَ" . قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: وَسَوَاءٌ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَوْ فِيهَا ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا قَالَ الْإِمَامُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ فَقَالَ مِنْ خَلْفِهِ: آَمِينَ ، فَوَافَقَ ذَلِكَ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ ، غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" .
[ ص: 17 ] وَفِي مَعْنَى آَمِينَ: ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى آَمِينَ: كَذَلِكَ يَكُونُ . حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ . قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزُّجَاجُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى . قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَهِلَالُ بْنُ يُسَافٍ ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ .
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَعْنَاهَا: يَا آَمِينُ أَجِبْ دُعَاءَنَا ، فَسَقَطَتْ يَا ، كَمَا سَقَطَتْ فِي قَوْلِهِ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [ يُوسُفَ: 29 ] تَأْوِيلُهُ يَا يُوسُفُ . وَمِنْ طَوَّلَ الْأَلِفَ فَقَالَ: آَمِينَ ، أَدْخَلَ أَلِفَ النِّدَاءِ عَلَى أَلِفِ أَمِينَ ، كَمَا يُقَالُ: آَزَيْدٌ أَقْبِلْ . وَمَعْنَاهُ: يَا زَيْدُ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ ; لِأَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ "يَا" عَلَى "آَمِينَ" كَانَ مُنَادَى مُفْرَدًا ، فَحُكْمُ آَخِرِهِ الرَّفْعُ ، فَلَمَّا أَجْمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى فَتْحِ نُونِهِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُنَادَى ، وَإِنَّمَا فُتِحَتْ نُونُ "آَمِينَ" لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الْيَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا ، كَمَا تَقُولُالْعَرَب ُ: لَيْتَ ، وَلَعَلَّ . قَالَ: وَفِي "آَمِينَ" لُغَتَانِ "آَمِينَ" بِالْقَصْرِ ، وَ"آَمِينَ" بِالْمَدِّ ، وَالنُّونُ فِيهِمَا مَفْتُوحَةٌ .
أَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ :
سَقَى اللَّهُ حَيًّا بَيْنَ صَارَةِ وَالْحِمَى (حِمَى) فَيْدَ صَوْبِ الْمُدْجِنَاتِ الْمَوَاطِرِ
أَمِينُ وَأَدَّى اللَّهُ رَكْبًا إِلَيْهِمُ
بِخَيْرٍ وَوَقَاهُمْ حِمَامَ الْمُقَادَرِ
وَأَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَيْضًا:
تَبَاعَدَ مِنِّي فُطْحُلٌ وَابْنُ أُمِّهِ أَمِينٌ فَزَادَ اللَّهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدًا
[ ص: 18 ] وَأَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَيْضًا:
يَا رَبِّ لَا تَسْلُبْنِي حُبَّهَا أَبَدًا وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ آَمِينًا
وَأَنْشَدَنِي أُبَيُّ:
أَمِينٌ وَمَنْ أَعْطَاكَ مِنِّي هَوَادَةً رَمَى اللَّهُ فِي أَطْرَافِهِ فَاقْفَعَلَّتِ
وَأَنْشَدَنِي أُبَيُّ:
فَقُلْتُ لَهُ قَدْ هِجْتَ لِي بَارِحَ الْهَوَى أَصَابَ حِمَامُ الْمَوْتِ أَهُوَنَنَا وَجْدًا
أَمِينَ وَأَضْنَاهُ الْهَوَى فَوْقَ مَا بِهِ [أَمِينَ ] وَلَاقَى مِنْ تَبَارِيحِهِ جُهْدًا
فَصْلٌ
نَقَلَ الْأَكْثَرُونَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، فَمَنْ تَرَكَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَتَعَيَّنُ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، وَيَدُلُّ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا رُوِيَ فِي "الصحيحين" مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" .
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
https://i.imgur.com/jrmzme2.gif
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (6)
صــ19 إلى صــ 24
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
فَصْلٌ فِي فَضِيلَتِهَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ ، فَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ" .
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْن ِ: الْبَقَرَةَ وَآَلَ عِمْرَانَ ، فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ ، أَوْ غَيَايَتَانِ ، أَوْ فَرْقَانِ ، مِنْ طَيْرِ صَوَّافٍ ، اقْرَؤُوا الْبَقَرَةَ ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ" .
وَالْمُرَادُ بِالزَّهْرَاوَي ْنِ: الْمُنِيرَتَيْن ِ . يُقَالُ: لِكُلِّ مُنِيرٍ: زَاهِرٌ . وَالْغَيَايَةُ: كُلُّ شَيْءٍ أَظَلَّ إِنْسَانٍ فَوْقَ رَأْسِهِ ، مِثْلُ السَّحَابَةِ وَالْغَبَرَةِ . يُقَالُ: غَايَا الْقَوْمَ فَوْقَ رَأْسِ فُلَانٍ بِالسَّيْفِ ، كَأَنَّهُمْ أَظَلُّوهُ بِهِ . قَالَ لَبِيدٌ: .
فَتَدَلَّيْتُ عَلَيْهِ قَافِلًا وَعَلَى الْأَرْضِ غَيَايَاتُ الطِّفْلِ
وَمَعْنَى فَرْقَانِ: قِطْعَتَانِ . وَالْفَرْقُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ . قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ الشُّعَرَاءِ: 63 ] وَالصَّوَّافُ: الْمُصْطَفَّةُ الْمُتَضَامَّةُ لِتُظِلَّ قَارِئَهَا . وَالْبَطَلَةُ: السَّحَرَةُ .
فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، [ ص: 20 ] وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَذَكَرَ قَوْمٌ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ سِوَى آَيَةٍ ، وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ: 281 ] فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ .
فَصْلٌ وَأَمَّا التَّفْسِيرُ . فَقَوْلُهُ: "الـم" اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا وَفِي سَائِرِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ كِتَابٍ سِرٌّ ، وَسِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآَنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَابْنُ زَيْدٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءٍ ، فَإِذَا أُلِّفَتْ ضَرْبًا مِنَ التَّأْلِيفِ كَانَتْ أَسْمَاءً مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هِيَ أَسْمَاءٌ مُقَطَّعَةٌ لَوْ عَلِمَ النَّاسُ تَأْلِيفَهَا عَلِمُوا اسْمَ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ .
وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ "الر" و"حم" وَ"نُونِ" فَقَالَ: اسْمُ الرَّحْمَنِ عَلَى الْجِهَاءِ ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا حُرُوفٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقْسَمَ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ كُلِّهَا ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ بَعْضِهَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: تَعَلَّمْتُ "أ ب ت ث" وَهُوَ يُرِيدُ سَائِرَ الْحُرُوفِ ، وَكَمَا يَقُولُ: قَرَأْتُ الْحَمْدَ ، يُرِيدُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ، فَيُسَمِّيهَا بِأَوَّلِ حَرْفٍ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا أَقْسَمَ بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ لِشَرَفِهَا وَلِأَنَّهَا مَبَانِيَ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ ، وَبِهَا يُذْكَرُ وَيُوَحَّدُ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ ، تَقْدِيرُهُ: وَحُرُوفُ الْمُعْجَمِ لَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمُ السَّبِيلَ ، وَأَنْهَجْتُ لَكُمُ الدَّلَالَاتِ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ ، وَإِنَّمَا [ ص: 21 ] حُذِفَ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ ، وَلِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَشَارَ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْحُرُوفِ إِلَى سَائِرِهَا ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحُرُوفُ أُصُولًا لِلْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ ، أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ إِنَّمَا هُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ ، وَقَطْرُبٌ .
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ حُرُوفٌ ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِعْلَامِهِمْ بِهَذَا؟ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِعْجَازِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي تُؤَلِّفُونَ مِنْهَا كَلَامَكُمْ ، فَمَا بَالُكُمْ تَعْجَزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ؟! فَإِذَا عَجَزْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَالْخَامِسُ: أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ . رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، وَابْنِهِ ، وَأَبِي فَاخِتَةَ سَعِيدِ بْنِ عَلَاقَةَ مَوْلَى أَمِّ هَانِئٍ .
وَالسَّادِسُ: أَنَّهَا مِنَ الرَّمْزِ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا . يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: هَلْ تَا؟ فَيَقُولُ لَهُ بَلَى ، يُرِيدُ هَلْ تَأْتِي؟ فَيَكْتَفِي بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ . وَأَنْشَدُوا:
قُلْنَا لَهَا قِفِي [لَنَا ] فَقَالَتْ قَافُ [لَا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الْإِيجَافَ ] .
أَرَادَ قَالَتْ: أَقِفُ . وَمِثْلُهُ:
نَادُوهُمْ أَلَا الْجَمُوا أَلَا تَا قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا .
يُرِيدُ: أَلَا تَرْكَبُونَ قَالُوا: بَلَى فَارْكَبُوا . وَمِثْلُهُ:
بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنَّ شَرًّا فَا وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا
مَعْنَاهُ: وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ . وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الْأَخْفَشُ ، وَالزُّجَاجُ ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ عَطِيَّةُ بْنُ الْحَارِثِ الْهَمْدَانِيُّ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ [ ص: 22 ] كُلِّهَا وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ ، فَسَمِعُوهَا فَبَقُوا مُتَحَيِّرِينَ . وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِمَا لَا يَفْهَمُونَ لِيُقْبِلُوا عَلَى سَمَاعِهِ ، لِأَنَّ النَّفُوسَ تَتَطَلَّعُ إِلَى مَا غَابَ عَنْهَا مَعْنَاهُ . فَإِذَا أَقْبَلُوا إِلَيْهِ خَاطَبَهُمْ بِمَا يَفْهَمُونَ ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْوَسِيلَةِ إِلَى الْإِبْلَاغِ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْنًى يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ ، أَوْ يَكُونُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ ، فَهَذَا الْكَلَامُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْحُرُوفِ .
وَقَدْ خَصَّ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ "الم" بِخَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ .
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ . رَوَاهُ أَبُو الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَسَمٌ . رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءٍ . ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَلِفَ مِنَ "اللَّهِ" وَاللَّامِ مِنْ "جِبْرِيلَ" وَالْمِيمَ مِنْ "مُحَمَّدٍ" قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ قَدْ تُنُووِلَ مِنْ كُلِّ اسْمٍ حَرْفُهُ الْأَوَّلُ اكْتِفَاءً بِهِ ، فَلِمَ أُخِذَتِ اللَّامُ مِنْ جِبْرِيلَ وَهِيَ آَخِرُ الِاسْمِ؟! .
فَالْجَوَابُ: أَنَّ مُبْتَدَأَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِابْتِدَاءِ أَوَّلِ حَرْفٍ مِنِ اسْمِهِ ، وَجِبْرِيلُ انْخَتَمَ بِهِ التَّنْزِيلُ وَالْإِقْرَاءُ ، فَتُنُووِلَ مِنِ اسْمِهِ نِهَايَةُ حُرُوفِهِ ، و"مُحَمَّدٌ" مُبْتَدَأٌ فِي الْإِقْرَاءِ ، فَتُنُووِلَ أَوَّلُ حَرْفٍ فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَلِفَ مِنَ "اللَّهِ" تَعَالَى ، وَاللَّامَ مِنْ "لَطِيفٍ" وَالْمِيمَ مِنْ "مَجِيدٍ" قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ .
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآَنِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ .
[ ص: 23 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ فِيهِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى هَذَا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ ، وَالْأَخْفَشِ . وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بُقَوْلِ خِفَافِ بْنِ نُدْبَةَ .
أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ تَأَمَّلْ خِفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
أَيْ: أَنَا هَذَا . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . إِنَّمَا أَرَادَ: أَنَا ذَلِكَ الَّذِي تَعْرِفُهُ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ .
ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ إِنْزَالُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآَنِ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا وَعَدَهُ أَنْ يُوحِيَهُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا [الْمُزَّمِّلِ: 5 ] .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا وَعَدَ بِهِ أَهِلَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ ، لِأَنَّهُمْ وُعِدُوا بِنَبِيٍّ وَكِتَابٍ .
وَ الْكِتَابُ . الْقُرْآَنُ . وَسُمِّيَ كِتَابًا ، لِأَنَّهُ جُمِعَ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ . وَمِنْهُ الْكَتِيبَةُ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ . وَمِنْهُ: كَتَبْتُ الْبَغْلَةَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: لا رَيْبَ فِيهِ الرَّيْبُ: الشَّكُّ . وَالْهُدَى: الْإِرْشَادُ . وَالْمُتَّقُونَ : الْمُحْتَرِزُون َ مِمَّا اتَّقَوْهُ .
وَفَرَّقَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ بَيْنَ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ ، فَقَالَ: التَّقْوَى: أَخْذُ عِدَةٍ ، وَالْوَرَعُ: دَفَعُ شُبْهَةٍ ، فَالتَّقْوَى: مُتَحَقِّقُ السَّبَبِ ، وَالْوَرَعُ: مَظْنُونُ الْمُسَبِّبِ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَهَا النَّفْيُ ، وَمَعْنَاهَا النُّهَى ، وَتَقْدِيرُهَا: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرْتَابَ بِهِ لِإِتْقَانِهِ وَإِحْكَامِهِ . وَمِثْلُهُ: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [ يُوسُفَ: 38 ] . أَيْ: مَا يَنْبَغِي لَنَا . وَمِثْلُهُ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [ الْبَقَرَةِ: 196 ] وَهَذَا مَذْهَبُ الْخَلِيلِ ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
[ ص: 24 ] وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . قَالَهُ الْمُبَرِّدُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ فِي آَخَرِينَ .
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ ارْتَابَ بِهِ قَوْمٌ . فَالْجَوَابُ أَنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ ، فَمَنْ حَقَّقَ النَّظَرَ فِيهِ عَلِمَ .
قَالَ الشَّاعِرُ:
لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَامَةُ رَيْبٌ [إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْكَذُوبُ ]
فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُتَّقِي مُهْتَدٍ ، فَمَا فَائِدَةُ اخْتِصَاصِ الْهِدَايَةِ بِهِ؟
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْمُتَّقِينَ ، وَالْكَافِرِينَ ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [ النَّحْلِ: 81 ] . أَرَادَ: وَالْبَرْدُ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَصَّ الْمُتَّقِينَ لِانْتِفَاعِهِم ْ بِهِ ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [ النَّازِعَاتُ: 45 ] . وَكَانَ مُنْذِرًا لِمَنْ يَخْشَى وَلِمَنْ لَا يَخْشَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ: التَّصْدِيقُ ، وَالشَّرْعُ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَزَادَ فِيهِ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ . وَأَصِلُ الْغَيْبِ: الْمَكَانُ الْمُطَمْئِنُّ الَّذِي يَسْتَتِرُ فِيهِ لِنُزُولِهِ عَمَّا حَوْلَهُ ، فَسُمِّيَ كُلُّ مُسْتَتِرٍ: غَيْبًا .
وَفِي الْمُرَادِ بِالْغَيْبِ هَاهُنَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْوَحْيُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ جُرَيٍجٍ .
وَالثَّانِي: الْقُرْآَنُ ، قَالَهُ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ ، وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ .
وَالثَّالِثُ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَهُ عَطَاءٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
وَالرَّابِعُ: مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْقُرْآَنِ . رَوَاهُ السَّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (7)
صــ25 إلى صــ 30
[ ص: 25 ] وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ .
وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَرَهُ . قَالَ عَمْرُو بْنُ مَرَّةَ: قَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ لَهُ: طُوبَى لَكَ ، جَاهَدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَجَالَسْتُهُ . فَقَالَ: إِنَّ شَأْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُبَيِّنًا لِمَنْ رَآَهُ ، وَلَكِنْ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ: قَوْمٌ يَجِدُونَ كِتَابًا مَكْتُوبًا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَمْ يَرَوْهُ ، ثُمَّ قَرَأَ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .
قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ : الدُّعَاءُ . وَفِي الشَّرِيعَةِ: أَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ عَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ . وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِالصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِرَفْعِ الصَّلَا ، وَهُوَ مَغْرَزُ الذَّنْبِ مِنَ الْفَرَسِ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ صَلِيَتُ الْعُودَ إِذَا لَيَّنْتُهُ ، فَالْمُصَلِّي يَلِينُ وَيَخْشَعُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ ، وَالصَّلَاةِ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ . وَهِيَ فِي هَذَا الْمَكَانِ اسْمُ جِنْسٍ .
قَالَ مُقَاتِلٌ: أَرَادَ بِهَا هَاهُنَا: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ .
وَفِي مَعْنَى إِقَامَتِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَمَامُ فِعْلِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَوُضُوئِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ .
وَالثَّالِثُ: إِدَامَتُهَا ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الشَّيْءِ الرَّاتِبِ: قَائِمٌ ، وَفُلَانٌ يُقِيمُ أَرْزَاقَ الْجُنْدِ ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ أَيْ: أَعْطَيْنَاهُمْ . يُنْفِقُونَ أَيْ: يُخْرِجُونَ . وَأَصْلُ الْإِنْفَاقِ الْإِخْرَاجُ . يُقَالُ: نَفَقَتِ الدَّابَّةُ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهَا .
[ ص: 26 ] وَفِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ النَّفَقَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهَا النَّفَقَةُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَحُذَيْفَةُ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الصَّدَقَاتُ النَّوَافِلُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَالضَّحَّاكُ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا النَّفَقَةُ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةٌ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ، وَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ فَرْضٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُمْسِكَ مِمَّا فِي يَدِهِ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ ، وَيُفَرِّقُ بَاقِيهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ . فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ ، الْآَيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الزَّكَاةِ ، وَغَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ أُثْبِتَ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَهُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ ، وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَهِيَ فِعْلُ الْبَدَنِ ، وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ وَهُوَ تَكْلِيفٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ - أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّكْلِيفِ قِسْمٌ رَابِعٌ ، إِذْ مَا عَدَا هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَهُوَ مُمْتَزِجٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاخْتَارَهُ مُقَاتِلٌ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعَرَبِ الَّذِي آَمَنُوا بِالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ ، رَوَاهُ صَالِحٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : [الَّذِي أُنْزِلُ إِلَيْهِ ، الْقُرْآَنُ . وَقَالَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: الْقُرْآَنُ ] وَغَيْرُهُ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يَعْنِي الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَة َ وَالْوَحْيَ ، فَأَمَّا "الْآَخِرَةُ" فَهِيَ اسْمٌ لِمَا بَعْدَ الدُّنْيَا ، وَسُمِّيَتْ آَخِرَةٌ; لِأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَقَدَّمَتْهَا . وَقِيلَ: سُمِّيَتْ آَخِرَةٌ لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْأَمْرِ .
[ ص: 27 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى: يُوقِنُونَ الْيَقِينُ: مَا حَصَلَتْ بِهِ الثِّقَةُ ، وَثَلَجَ بِهِ الصَّدْرُ ، وَهُوَ أَبْلَغُ عِلْمٍ مُكْتَسَبٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى أَيْ: عَلَى رَشَادٍ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى نُورٍ وَاسْتِقَامَةٍ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُفْلِحُونَ: الْفَائِزُونَ بِبَقَاءِ الْأَبَدِ . وَأَصْلُ الْفَلَاحِ: الْبَقَاءُ . وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُ لَبِيدٍ:
نَحِلُّ بِلَادًا كُلَّهَا حُلَّ قَبْلَنَا وَنَرْجُو الْفَلَاحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ .
يُرِيدُ: الْبَقَاءَ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُفْلِحُ: الْفَائِزُ بِمَا فِيهِ غَايَةُ صَلَاحِ حَالِهِ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَمِنْهُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، مَعْنَاهُ: هَلُمُّوا إِلَى سَبِيلِ الْفَوْزِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي نُزُولِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَخَمْسَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَمِنْهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ ، قَالَهُ: ابْنُ السَّائِبِ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ ، كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي طَالِبٍ ، وَأَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ .
قَالَ مُقَاتِلٌ: فَأَمَّا تَفْسِيرُهَا ، فَالْكُفْرُ فِي اللُّغَةِ: التَّغْطِيَةُ . تَقُولُ: كَفَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا غَطَّيْتُهُ ، فَسُمِّيَ الْكَافِرُ كَافِرًا; لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْحَقَّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَيْ: مُتَعَادِلٌ عِنْدَهُمُ الْإِنْذَارُ وَتَرْكُهُ ، وَالْإِنْذَارُ: إِعْلَامٌ مَعَ تَخْوِيفٍ ، وَتَنَاذَرَ بَنُو فُلَانٍ هَذَا الْأَمْرَ: إِذَا خَوَّفَهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا .
قَالَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: هَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْعُمُومِ ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ; لِأَنَّهَا آَذَنَتْ بِأَنَّ الْكَافِرَ حِينَ إِنْذَارِهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَقَدْ آَمَنَ كَثِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ عِنْدَ [ ص: 28 ] إِنْذَارِهِمْ ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي الْعُمُومِ ، لَكَانَ خَبَرُ اللَّهِ لَهُمْ خِلَافَ مُخْبِرِهِ ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ نَقْلُهَا إِلَى الْخُصُوصِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ الْخَتْمُ: الطَّبْعُ ، وَالْقَلْبُ: قِطْعَةٌ مِنْ دَمٍ جَامِدَةٍ سَوْدَاءَ ، وَهُوَ مُسْتَكِنٌ فِي الْفُؤَادِ ، وَهُوَ بَيْتُ النَّفْسِ ، وَمَسْكَنُ الْعَقْلِ ، وَسُمِّيَ قَلْبًا لِتَقَلُّبِهِ .
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَالِصُ الْبَدَنِ ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالْخَتْمِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْفَهْمِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى سَمْعِهِمْ يُرِيدُ: عَلَى أَسْمَاعِهِمْ ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ التَّوْحِيدِ ، وَمَعْنَاهُ: الْجَمْعُ ، فَاكْتَفَى بِالْوَاحِدِ عَنِ الْجَمِيعِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا . [ الْحَجِّ : 5 ] .
وَأَنْشَدُوا مِنْ ذَلِكَ:
كُلُوا فِي نِصْفِ بَطْنِكُمْ تَعِيشُوا فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ .
أَيْ: فِي أَنْصَافِ بُطُونِكُمْ . ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَالزُّجَاجُ . وَفِيهِ وَجْهٌ آَخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ تَذْهَبُ بِالسَّمْعِ مَذْهَبَ الْمَصْدَرِ ، وَالْمَصْدَرُ يُوَحَّدُ ، تَقُولُ: يُعْجِبُنِي حَدِيثُكُمْ ، وَيُعْجِبُنِي ضَرْبُكُمْ . فَأَمَّا الْبَصَرُ وَالْقَلْبُ فَهُمَا اسْمَانِ لَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْمَصَادِرِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى . ذَكَرَهُ الزُّجَاجُ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ . وَقَدْ قَرَأَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: (وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ الْغِشَاوَةُ: الْغِطَاءُ .
قَالَ الْفَرَّاءُ: أَمَّا قُرَيْشٌ وَعَامَّةُ الْعَرَبِ ، فَيَكْسِرُونَ الْغَيْنَ مِنْ "غِشَاوَةٌ" ، وَعُكْلٍ يَضُمُّونَ الْغَيْنَ ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَفْتَحُهَا ، وَأَظُنُّهَا لِرَبِيعَةَ . وَرَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ "غِشَاوَةً" بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: جَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً . فَأَمَّا الْعَذَابُ فَهُوَ الْأَلَمُ الْمُسْتَمِرُّ ، وَمَاءٌ عَذْبٌ إِذَا اسْتَمَرَّ فِي الْحَلْقِ سَائِغًا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ .
[ ص: 29 ] أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ ، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ . رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا يَتَخَوَّفُونَ مِنْ هَذِهِ الْآَيَةِ . وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ الْآَيَةُ نَعْتُ الْمُنَافِقِ ، يَعْرِفُ بِلِسَانِهِ ، وَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ ، [وَ ]يُصَدِّقُ بِلِسَانِهِ ، وَيُخَالِفُ بِعَمَلِهِ وَيُصْبِحُ عَلَى حَالَةٍ ، وَيُمْسِي عَلَى غَيْرِهَا ، وَيَتَكَفَّأُ تَكْفُّأَ السَّفِينَةِ ، كُلَّمَا هَبَّتْ رِيحٌ هَبَّ مَعَهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، وَالْجَدُّ بْنُ الْقَيْسِ; إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا: آمَنَّا ، وَنَشْهَدُ أَنَّ صَاحِبَكُمْ صَادِقٌ ، فَإِذَا خَلَوْا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ .
فَأَمَّا التَّفْسِيرُ ، فَالْخَدِيعَةُ: الْحِيلَةُ وَالْمَكْرُ ، وَسُمِّيَتْ خَدِيعَةً ، لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي خَفَاءٍ .
وَالْمَخْدَعُ: بَيْتٌ دَاخِلُ الْبَيْتِ تَخْتَفِي فِيهِ الْمَرْأَةُ ، وَرَجُلٌ خَادِعٌ: إِذَا فَعَلَ الْخَدِيعَةَ ، سَوَاءٌ حَصَلَ مَقْصُودُهُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ ، فَإِذَا حَصَلَ مَقْصُودُهُ قِيلَ: قَدْ خَدَعَ . وَانْخَدَعَ الرَّجُلُ: اسْتَجَابَ لِلْخَادِعِ ، سَوَاءٌ تَعَمَّدَ الِاسْتِجَابَةَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الدَّهْرَ خِدَاعًا ، لِتَلَوُّنِهِ بِمَا يُخْفِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ .
وَفِي مَعْنَى خِدَاعِهِمُ اللَّهَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُخَادِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَكَأَنَّهُمْ خَادَعُوا اللَّهَ . رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ; وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُخَادِعُونَ نَبِيَّ اللَّهِ فَأَقَامَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مَقَامَهُ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [ الْفَتْحُ: 10 ] ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
[ ص: 30 ] وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْخَادِعَ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْفَاسِدُ . وَأَنْشَدُوا:
[أَبْيَضُّ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ ] طَيِّبُ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعَ .
أَيْ: فَسَدَ . رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ ثَعْلَبٍ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَتَأْوِيلُ يُخَادِعُونَ اللَّهَ: يُفْسِدُونَ مَا يُظْهِرُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا يُضْمِرُونَ مِنَ الْكُفْرِ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لُو فَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ كَانَ خِدَاعًا .
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْفُونَ كُفْرَهُمْ وَيُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو: (وَمَا يُخَادِعُونَ) وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ ، وَابْنُ عَامِرٍ: (يَخْدَعُونَ) ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ الْخِدَاعُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ .
وَمَتَى يَعُودُ وَبَالُ خِدَاعِهِمْ عَلَيْهِمْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: فِي دَارِ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ . أَحَدُهُمَا: بِالِاسْتِدْرَا جِ وَالْإِمْهَالِ الَّذِي يَزِيدُهُمْ عَذَابًا . بِاطِّلَاعِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِين َ عَلَى أَحْوَالِهِمُ الَّتِي أَسَرُّوهَا .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَوْدَ الْخِدَاعِ عَلَيْهِمْ فِي الْآَخِرَةِ . وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ ضَرْبِ الْحِجَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ [ الْحَدِيدُ: 13 ] .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ اطِّلَاعِ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا رَأَوْهُمْ طَمِعُوا فِي نَيْلِ رَاحَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ ، فَقَالُوا: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [ الْأَعْرَافِ: 50 ] فَيُجِيبُونَهُم ْ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 51 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (8)
صــ31 إلى صــ 36
[ ص: 31 ] قَوْلُهُ تَعَالِي: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيْ: وَمَا يَعْلَمُونَ . وَفِي الَّذِي لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِطْلَاعُ اللَّهِ نَبِيَّهُ عَلَى كَذِبِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِسْرَارُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ بِكُفْرِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْمَرَضُ هَاهُنَا: الشَّكُّ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ ، وَقَتَادَةُ .
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا هَذَا الْإِخْبَارُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ ، و"الْأَلِيمُ" بِمَعْنَى الْمُؤْلِمِ ، وَالْجُمْهُورُ يَقْرَؤُونَ (يُكَذِّبُونَ) بِالتَّشْدِيدِ ، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ سِوَى أَبَانَ ، عَنْ عَاصِمٍ بِالتَّخْفِيفِ مَعَ فَتْحِ الْيَاءِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ .
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا حِينَ نُزُولِهَا ، قَالَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ . وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَقْرَأُ بِضَمِّ الْقَافِ مِنْ "قِيلَ" وَالْحَاءِ مَنْ "حِيلَ" وَالْغَيْنِ مَنْ "غِيضَ" وَالْجِيمِ مَنْ "جِيءَ" وَالسِّينِ مِنْ "سِيءَ" وَ"سِيئَتْ" وَكَانَ ابْنُ عَامِرٍ يَضُمُّ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةً "حِيلَ" وَ"سِيقَ" وَ"سِيءَ" وَ"سِيئَتْ" . وَكَانَ نَافِعٌ يَضُمُّ "سِيءَ" وَ"سِيئَتْ" وَيَكْسِرُ الْبَوَاقِي ، وَالْآَخَرُونَ يَكْسِرُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ .
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ مِنْ قُرَيْشٍ وَمِنْ جَاوَرَهُمْ مِنْ بَنِي كَنَانَةَ يَكْسِرُونَ الْقَافَ فِي "قِيلَ" و"جِيءَ" و"غِيضَ" ، وَكَثِيرٌ مِنْ عَقِيلٍ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ وَعَامَّةُ أَسَدٍ ، يَشُمُّونَ إِلَى الضَّمِّ مِنْ "قِيلَ" و"جِيءَ" .
[ ص: 32 ] وَفِي الْمُرَادِ بِالْفَسَادِ هَاهُنَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْكُفْرُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي ، قَالَهُ: أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُقَاتِلٌ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي ، قَالَهُ السَّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ تَرْكُ امْتِثَالِ الْأَوَامِرَ ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ النِّفَاقُ الَّذِي صَادَفُوا بِهِ الْكُفَّارَ ، وَأَطْلَعُوهُمْ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ ، ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ إِنْكَارُ ، مَا عَرَفُوا بِهِ ، وَتَقْدِيرُهُ: مَا فَعَلْنَا شَيْئًا يُوجِبُ الْفَسَادَ .
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: إِنَّا نَقْصِدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ ، وَالْقَوْلَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ أَرَادُوا مُصَافَاةَ الْكُفَّارِ صَلَاحٌ ، لَا فَسَادٌ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ فِعْلَنَا هَذَا هُوَ الصَّلَاحُ ، وَتَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْفَسَادُ ، قَالَهُ السَّدِّيُّ .
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ مُصَافَاةَ الْكُفَّارِ صَلَاحٌ فِي الدُّنْيَا لَا فِي الدِّينِ; لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الدَّوْلَةَ إِنْ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَمَّنُوهُ بِمُبَايَعَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْكَفَّارِ فَقَدْ أَمِنُوهُمْ بِمُصَافَاتِهِم ْ ، ذَكَرَهُ شَيْخُنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ قَالَ الزَّجَّاجَ: "أَلَا": كَلِمَةٌ يُبْتَدَأُ بِهَا ، يُنَبَّهُ بِهَا الْمُخَاطَبُ ، تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا بَعْدَهَا . و"هُمْ" تَأْكِيدٌ لِلْكَلَامِ .
[ ص: 33 ] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ نَبِيَّهُ عَلَى فَسَادِهِمْ .
وَالثَّانِي: لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ فَسَادٌ ، لَا صَلَاحٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا فِي الْمَقُولِ لَهُمْ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُقَاتِلٌ .
وَالثَّانِي: الْمُنَافِقُونَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ وَفِي الْقَائِلِينَ لَهُمْ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مُعَيَّنُونَ وَهُمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأَبُو لُبَابَةَ وَأُسَيْدُ ذَكَرَهُ مُقَاتِلٌ .
وَفِي الْإِيمَانِ الَّذِي دُعُوا إِلَيْهِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ التَّصْدِيقُ بِالنَّبِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى مَا أَظْهَرُوهُ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ .
وَفِي الْمُرَادِ بِالنَّاسِ هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: جَمِيعُ الصَّحَابَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ ، وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنَ الْيَهُودِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَالثَّالِثُ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ الْأَنْصَارِ ، عَدَّهُمُ الْكَلْبِيُّ . وَفِيمَنْ عَنَوْا بِالسُّفَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: جَمِيعُ الصَّحَابَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالثَّالِثُ: ابْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَفِيمَا عَنَوْهُ بِالْغَيْبِ مِنْ إِيمَانِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ السُّفَهَاءُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا دِينَ الْإِسْلَامِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ عَنَوْا مُكَاشَفَةَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْعَدَاوَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي عَاقِبَةِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ يَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ ، وَالْأَوَّلُ يَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُمُ الْيَهُودُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَالسُّفَهَاءُ: الْجَهَلَةُ ، [ ص: 34 ] يُقَالُ: سَفَّهَ فَلَانٌ رَأْيَهُ إِذَا جَهِلَهُ ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبِذَاءِ: سَفَهٌ; لِأَنَّهُ جَهْلٌ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَصْلُ السَّفَهِ فِي اللُّغَةِ: خِفَّةُ الْحِلْمِ ، وَيُقَالُ: ثَوْبٌ سَفِيهٌ: إِذَا كَانَ رَقِيقًا بَالِيًا ، وَتَسَفَّهَتِ الرِّيحُ الشَّجَرَ: إِذَا مَالَتْ بِهِ قَالَ الشَّاعِرُ:
مَشِينٌ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ .
قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ .
اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ مَا يَلْقُونَ رُؤَسَاءَهُمْ بِضِدِّهِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ .
فَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَـ "إِلَى" بِمَعْنَى "مَعَ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ أَيْ: مَعَ اللَّهِ . وَالشَّيَاطِينُ : جَمْعُ شَيْطَانٍ ، قَالَ الْخَلِيلُ: كُلُّ مُتَمَرِّدٍ عِنْدَ الْعَرَبِ شَيْطَانٌ . وَفِي هَذَا الِاسْمِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ شَطَنَ ، أَيْ: بَعُدَ عَنِ الْخَيْرِ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ النُّونُ أَصْلِيَّةً .
قَالَ أُمِّيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي صِفَةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
أَيُّمَا شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ثُمَّ يُلْقَى فِي السِّجْنِ وَالْأَغْلَالِ
عَكَاهُ: أَوْثَقَهُ . وَقَالَ النَّابِغَةُ:
[ ص: 35 ]
نَأَتِ بِسُعَادَ عَنْكَ نَوَى شُطُونٍ فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا رَهِينُ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ شَاطَ يَشِيطُ: إِذَا الْتَهَبَ وَاحْتَرَقَ ، فَتَكُونُ النُّونُ زَائِدَةً . وَأَنْشَدُوا:
وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ
أَيْ: يَهْلَكُ .
وَفِي الْمُرَادِ بِشَيَاطِينِهِم ْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ رُؤُوسُهُمْ فِي الْكُفْرِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: كَهَنَتُهُمْ قَالَهُ الضَّحَّاكُ ، وَالْكَلْبِيُّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا مَعَكُمْ .
فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا: إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ . وَالثَّانِي: إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى النُّصْرَةِ وَالْمُعَاضَدَة ِ . وَالْهَزْءُ: السُّخْرِيَةُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِاسْتِهْزَاءِ اللَّهِ بِهِمْ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُمْ فِي النَّارِ ، فَيُسْرِعُونَ إِلَيْهِ فَيُغْلَقُ ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ آَخَرُ ، فَيُسْرِعُونَ فَيُغْلَقُ ، فَيَضْحَكُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ . رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمَدَتِ النَّارُ لَهُمْ كَمَا تَجَمَدُ الْإِهَالَةُ فِي الْقَدْرِ ، فَيَمْشُونَ فَتَنْخَسِفُ بِهِمْ . رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِهِمْ: إِذَا ضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ ، بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ، فَيَبْقَوْنَ فِي الظُّلْمَةِ ، فَيُقَالُ لَهُمْ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [ الْحَدِيدُ: 13 ] قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
[ ص: 36 ] وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: يُجَازِيهِمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِم ْ ، فَقُوبِلَ اللَّفْظُ بِمِثْلِهِ لَفْظًا وَإِنْ خَالَفَهُ مَعْنًى ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا [ الشُّورَى:40 ] وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [ الْبَقَرَةِ: 194 ] وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
أَلَا لَا يَجْهَلْنَ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
أَرَادَ: فَنُعَاقِبُهُ بَأَغْلَظَ مِنْ عُقُوبَتِهِ .
وَالْخَامِسُ: أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ مِنَ اللهِ التَّخْطِئَةُ لَهُمْ ، وَالتَّجْهِيلُ ، فَمَعْنَاهُ: اللَّهُ يُخَطِّئُ فِعْلَهُمْ ، وَيُجَهِّلُهُمْ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ .
وَالسَّادِسُ: أَنَّ اسْتِهْزَاءَهُ: اسْتِدْرَاجُهُ إِيَّاهُمْ .
وَالسَّابِعُ أَنَّهُ إِيقَاعُ اسْتِهْزَائِهِم ْ بِهِمْ ، وَرَدَّ خِدَاعَهُمْ وَمَكْرَهُمْ عَلَيْهِمْ . ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِيِّ .
وَالثَّامِنُ: أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِهِمْ أَنْ يُقَالَ لِأَحَدِهِمْ فِي النَّارِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الذُّلِّ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [ الدُّخَانُ: 49 ] ذَكَرَهُ شَيْخُنَا فِي كِتَابِهِ .
وَالتَّاسِعُ: أَنَّهُ لَمَّا أَظْهَرُوا مِنْ أَحْكَامِ إِسْلَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ مَا أُبْطِنَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ ، كَانَ كَالِاسْتِهْزَا ءِ بِهِمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ .
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: يُمْكِنُ لَهُمْ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَالثَّانِي: يُمْلِي لَهُمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: يَزِيدُهُمْ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالرَّابِعُ: يُمْهِلُهُمْ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
وَالطُّغْيَانُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَدْرِ ، وَالْخُرُوجُ عَنْ حَيِّزِ الِاعْتِدَالِ فِي الْكَثْرَةِ ، يُقَالُ: طَغَى الْبَحْرُ إِذَا هَاجَتْ أَمْوَاجُهُ ، وَطَغَى السَّيْلُ إِذَا جَاءَ بِمَاءٍ كَثِيرٍ . وَفِي الْمُرَادِ بِطُغْيَانِهِمْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كُفْرُهُمْ ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ عُتُوُّهُمْ وَتَكَبُّرُهُمْ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ . و"يَعْمَهُونَ" بِمَعْنَى: يَتَحَيَّرُونَ ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَمِهٌ وَعَامِهٌ ، أَيْ: مُتَحَيِّرٌ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (9)
صــ37 إلى صــ 42
[ ص: 37 ] قَالَ الرَّاجِزُ:
وَمُخْفَقٍ مِنْ لُهْلُهٍ وَلُهْلُهِ مِنْ مَهْمَهٍ يَجْتَبِنْهُ فِي مَهْمَهِ
أَعْمَى الْهُدَى بِالْجَاهِلِينَ الْعُمَّهُ
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يَعْمَهُونَ: يَرْكَبُونَ رُؤُوسَهُمْ ، فَلَا يُبْصِرُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى .
فِي نُزُولِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَاشْتَرَوْا بِمَعْنَى اسْتَبْدَلُوا ، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ مَنْ آَثَرَ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ مُشْتَرِيًا لَهُ ، وَبَائِعًا لِلْآَخِرِ . وَالضَّلَالَةُ وَالضَّلَالُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
وَفِيهَا لِلْمُفَسِّرِين َ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا الْكُفْرُ ، وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى: الْإِيمَانُ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا الشَّكُّ ، وَالْهُدَى: الْيَقِينُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الْجَهْلُ ، وَالْهُدَى: الْعِلْمُ .
وَفِي كَيْفِيَّةِ اسْتِبْدَالِهِم ُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ قَبْلَ مَبْعَثِهِ ، فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ ، [ ص: 38 ] قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ مِنَ الْهُدَى فَرَدُّوهُ وَاخْتَارُوا الضَّلَالَ ، كَانُوا كَمَنْ أَبْدَلَ شَيْئًا بِشَيْءٍ ، ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ .
مِنْ مَجَازِ الْكَلَامِ ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَا تَرْبَحُ ، وَإِنَّمَا يُرْبَحُ فِيهَا ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [ سَبَأُ: 33 ] يُرِيدُ: بَلْ مَكْرُهُمْ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ . وَمِثْلُهُ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ [ مُحَمَّدُ: 21 ] أَيْ: عَزَمَ عَلَيْهِ وَأَنْشَدُوا:
حَارِثٌ قَدْ فَرَّجْتَ عَنِّي هَمِّي فَنَامَ لَيْلِي وَتَجَلَّى غَمِّي
وَاللَّيْلُ لَا يَنَامُ ، بَلْ يُنَامُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مِثْلُ هَذَا فِيمَا يَزُولُ فِيهِ الْإِشْكَالُ ، وَيُعْلَمُ مَقْصُودُ قَائِلِهِ ، فَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ ، وَأُرِيدَ بِهِ مَا سِوَاهُ ، لَمْ يَجُزْ ، مِثْلُ أَنْ تَقُولَ: رَبِحَ عَبْدُكَ ، وَتُرِيدُ: رَبِحْتُ فِي عَبْدِكَ . وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْفَرَّاءُ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَالزَّجَّاجُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ .
فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: وَمَا كَانُوا فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ مُهْتَدِينَ . وَالثَّانِي: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ مِنَ الضَّلَالَةِ . وَالثَّالِثُ: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ إِلَى تِجَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ . وَالرَّابِعُ: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ قَدْ لَا يَرْبَحُ التَّاجِرُ ، وَيَكُونُ عَلَى هُدًى مِنْ تِجَارَتِهِ ، غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِلذَّمِّ فِيمَا اعْتَمَدَهُ ، فَنَفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمُ الْأَمْرَيْنِ ، مُبَالَغَةً فِي ذَمِّهِمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا .
هَذِهِ الْآَيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ . و"الْمَثَلُ" بِتَحْرِيكِ الثَّاءِ: مَا يُضْرَبُ وَيُوضَعُ لِبَيَانِ النَّظَائِرِ فِي الْأَحْوَالِ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَوْقَدَ قَوْلَانِ . [ ص: 39 ] أَحَدُهُمَا: أَنَّ السِّينَ زَائِدَةٌ وَأَنْشَدُوا:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
أَرَادَ: فَلَمْ يُجِبْهُ ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، مِنْهُمُ الْأَخْفَشُ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ .
وَالثَّانِي: أَنَّ السِّينَ دَاخِلَةٌ لِلطَّلَبِ ، أَرَادَ: كَمَنْ طَلَبَ مِنْ غَيْرِهِ نَارًا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ .
وَفِي "أَضَاءَتْ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّمَ الْجِزْعَ ثَاقِبُهُ
وَقَالَ آَخَرُ:
أَضَاءَتْ لَنَا النَّارُ وَجْهًا أَغَرَّ مُلْتَبِسًا بِالْفُؤَادِ الْتِبَاسًا
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ: أَضَاءَتِ النَّارُ ، وَأَضَاءَهَا غَيْرُهَا . وَقَالَ الزَّجَّاجَ: يُقَالُ: ضَاءَ الْقَمَرُ ، وَأَضَاءَ .
وَفِي "مَا" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا زَائِدَةٌ ، تَقْدِيرُهُ: أَضَاءَتْ حَوْلَهُ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي . وَحَوْلَ الشَّيْءِ: مَا دَارَ مِنْ جَوَانِبِهِ . وَالْهَاءُ: عَائِدَةٌ عَلَى الْمُسْتَوْقَدِ . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَحَّدَ ، فَقَالَ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ثُمَّ جَمَعَ فَقَالَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ ثَعْلَبًا حَكَى عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا ضُرِبَ الْمَثَلُ لِلْفِعْلِ ، لَا لِأَعْيَانِ الرِّجَالِ ، وَهُوَ مَثَلٌ لِلنِّفَاقِ . وَإِنَّمَا قَالَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ لِأَنَّ الْمَعْنَى ذَاهِبٌ إِلَى الْمُنَافِقِينَ ، فَجُمِعَ لِذَلِكَ . قَالَ ثَعْلَبٌ: وَقَالَ غَيْرُ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى الَّذِي: الْجَمْعُ ، وُحِّدَ أَوَّلًا لِلَفْظِهِ ، وَجُمِعَ بَعْدُ لِمَعْنَاهُ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[ ص: 40 ]
فَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أَمَّ خَالِدٍ
فَجَعَلَ "الَّذِي" جَمْعًا .
فَصْلٌ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ هَذَا الْمَثَلَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَرَبَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَلْفِظُونَ بِهَا ، وَنُورُهَا صِيَانَةُ النُّفُوسِ وَحَقْنُ الدِّمَاءِ ، فَإِذَا مَاتُوا سَلْبَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الْعِزَّ ، كَمَا سَلَبَ صَاحِبَ النَّارِ ضَوْءَهُ . وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ ضَرَبَ لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَسَمَاعِهِمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ، فَذَهَابُ نُورِهِمْ: إِقْبَالُهُمْ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالضَّلَالُ ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ .
وَفِي الْمُرَادِ بِـ "الظُّلُمَاتِ" هَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: الْعَذَابُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: ظُلْمَةُ الْكُفْرِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: ظُلْمَةٌ يُلْقِيهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا نِفَاقُهُمْ قَالَهُ السُّدِّيُّ .
فَصْلٌ
وَفِي ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ بِالنَّارِ ثَلَاثُ حِكَمٍ .
إِحْدَاهَا: أَنَّ الْمُسْتَضِيءَ بِالنَّارِ مُسْتَضِيءٌ بِنُورٍ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ ، لَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ، فَإِذَا ذَهَبَتْ تِلْكَ النَّارُ بَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ ، فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا بِأَلْسِنَتِهِم ْ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ قُلُوبِهِمْ ، كَانَ نُورُ إِيمَانِهِمْ كَالْمُسْتَعَار ِ .
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ ضِيَاءَ النَّارِ يَحْتَاجُ فِي دَوَامِهِ إِلَى مَادَّةِ الْحَطَبِ ، فَهُوَ لَهُ كَغِذَاءِ الْحَيَوَانِ ، فَكَذَلِكَ نُورُ الْإِيمَانِ يَحْتَاجُ إِلَى مَادَّةِ الِاعْتِقَادِ لِيَدُومَ .
[ ص: 41 ] وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الظُّلْمَةَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الضَّوْءِ أَشَدُّ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ ظُلْمَةٍ لَمْ يَجِدْ مَعَهَا ضِيَاءٌ ، فَشَبَّهَ حَالَهُمْ بِذَلِكَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ .
الصَّمَمُ: انْسِدَادُ مَنَافِذِ السَّمْعِ ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الطَّرَشِ . وَفِي الْبُكْمِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْخَرَسُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَابْنُ فَارِسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَيْبٌ فِي اللِّسَانِ لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنَ النُّطْقِ ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخَرَسَ يُحَدَّثُ عَنْهُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَيْبٌ فِي الْفُؤَادِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَعِيَ شَيْئًا فَيَفْهَمُهُ ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْفَسَادِ فِي مَحَلِّ الْفَهْمِ وَمَحَلِّ النُّطْقِ ، ذَكَرَ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ شَيْخُنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ .
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالثَّالِثُ: لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الصَّمَمِ وَالْبُكْمِ وَالْعَمَى ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمُ انْصَرَفُوا بِاخْتِيَارِهِم ْ ، لِغَلَبَةِ أَهْوَائِهِمْ عَنْ تَصَفُّحِ الْهُدَى بِآَلَاتِ التَّصَفُّحِ ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِمْ صَمَمٌ وَلَا بُكْمٌ حَقِيقَةً ، وَلِكَوْنِهِمْ لَمَّا الْتَفَتُوا عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ وَالنُّطْقِ بِهِ; كَانُوا كَالصُّمِّ الْبُكْمِ . وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ: أَعْمَى ، وَالْمُلْتَفِتَ عَنْ سَمَاعِهِ: أَصَمُّ ، قَالَ مِسْكِينُ الدَّارِمِيُّ:
مَا ضَرَّ جَارًا لِي أُجَاوِرُهُ أَلَّا يَكُونَ لِبَابِهِ سِتْرُ
أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي خَرَجَتْ
حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ
وَتُصِمَّ عَمَّا بَيْنَهُمْ أُذُنِي
حَتَّى يَكُونَ كَأَنَّهُ وَقْرُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ
"أَوْ" حَرْفٌ مَرْدُودٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [ الْبَقَرَةِ: 17 ] وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ . [ ص: 42 ] أَحَدُهَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ هَاهُنَا لِلتَّخْيِيرِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ جَالِسِ الْفُقَهَاءَ أَوِ النَّحْوِيِّينَ ، وَمَعْنَاهُ: أَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي مُجَالَسَةِ أَيِّ: الْفَرِيقَيْنِ شِئْتَ ، فَكَأَنَّهُ خَيَّرَنَا بَيْنَ أَنْ نَضْرِبَ لَهُمُ الْمَثَلَ الْأَوَّلَ أَوِ الثَّانِي .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَاخِلٌ لِلْإِبْهَامِ فِيمَا قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَحْصِيلَهُ ، فَأُبْهِمَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَطْلُبُونَ تَفْصِيلَهُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَثَلُهُمْ كَأَحَدِ هَذَيْنِ . وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [ الْبَقَرَةِ: 74 ] وَالْعَرَبُ تُبْهِمُ مَا لَا فَائِدَةَ فِي تَفْصِيلِهِ . قَالَ لَبِيدُ:
تَمَنَّى ابْنَتَايَ أَنْ يَعِيشَ أَبُوهُمَا وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرِ
أَيْ: هَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَقَدْ فَنِيَا فَسَبِيلِي أَنْ أَفْنَى كَمَا فَنِيَا .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى بَلْ . وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى وَصُورَتُهَا أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لِلتَّفْصِيلِ ، وَمَعْنَاهُ: بَعْضُهُمْ يُشَبَّهُ بِالَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ، وَبَعْضُهُمْ بِأَصْحَابِ الصَّيِّبِ . وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [ الْبَقَرَةِ: 135 ] مَعْنَاهُ: قَالَ بَعْضُهُمْ ، وَهُمُ الْيَهُودَ: كُونُوا هُودًا ، وَقَالَ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى . وَكَذَا قَوْلُهُ: فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [ الْأَعْرَافِ: 4 ] مَعْنَاهُ: جَاءَ بَعْضُهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَجَاءَ بَعْضُهُمْ بَأْسُنَا وَقْتَ الْقَائِلَةِ .
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْوَاوِ . وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ [ النُّورِ: 61 ] قَالَ جَرِيرٌ:
نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (10)
صــ43 إلى صــ 48
السَّادِسُ أَنَّهُ لِلشَّكِّ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِينَ ، إِذِ الشَّكُّ مُرْتَفِعٌ عَنِ الْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ الرُّومِ: 37 ] يُرِيدُ: فَالْإِعَادَةُ أَهْوَنُ مِنَ الِابْتِدَاءِ فِيمَا تَظُنُّونَ . [ ص: 43 ] فَأَمَّا التَّفْسِيرُ لِمَعْنَى الْكَلَامِ: أَوْ كَأَصْحَابِ صَيِّبٍ ، فَأَضْمَرَ الْأَصْحَابَ; لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ دَلِيلًا عَلَيْهِ .
وَالصَّيِّبُ: الْمَطَرُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ فَيْعَلٌ مِنْ صَابَ يُصُوبُ: إِذَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ نَازِلٍ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى اسْتِفَالٍ ، فَقَدْ صَابَ يَصُوبُ ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
وَفِي الرَّعْدِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَوْتُ مَلِكٍ يَزْجُرُ السَّحَابَ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ صَوْتُ مَلِكٍ يَسْبَحُ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ مَلِكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ كَمَا يَسُوقُ الْحَادِيَ الْإِبِلَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رِيحٌ تَخْتَنِقُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْجِلْدِ أَنَّهُ قَالَ: الرَّعْدِ: الرِّيحُ . وَاسْمُ أَبِي الْجِلْدِ: جِيلَانُ بْنُ أَبِي فَرْوَةَ الْبَصَرِيُّ ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اصْطِكَاكُ أَجْرَامِ السَّحَابِ ، حَكَاهُ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ .
وَفِي الْبَرْقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَخَارِيقٌ يَسُوقُ بِهَا الْمَلِكُ السَّحَابَ ، رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هُوَ ضَرْبَةٌ بِمِخْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ ضَرْبَةٌ بِسَوْطٍ مِنْ نُورٍ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الْمَخَارِيقُ: ثِيَابٌ تَلُفُّ ، وَيَضْرِبُ بِهَا الصِّبْيَانُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَشَبَّهَ السَّوْطَ الَّذِي يَضْرِبُ بِهِ السَّحَابَ بِذَلِكَ الْمِخْرَاقِ .
[ ص: 44 ] قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
كَأَنَّ سُيُوفَنَا فِينَا وَفِيهِمْ مَخَارِيقٌ بِأَيْدِي لَاعِبِينَا
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْبَرْقُ مَصْعُ مَلَكَ ، وَالْمَصْعُ: الضَّرْبُ وَالتَّحْرِيكُ .
الثَّانِي: أَنَّ الْبَرْقَ: الْمَاءُ ، قَالَهُ أَبُو الْجِلْدِ ، وَحَكَى ابْنُ فَارِسٍ أَنَّ الْبَرْقَ: تَلَأْلُؤُ الْمَاءِ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ نَارٌ تَتَقَدَّحُ مِنِ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِ السَّحَابِ لِسَيْرِهِ ، وَضَرْبِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ ، حَكَاهُ شَيْخُنَا .
وَالصَّوَاعِقُ: جُمْعُ صَاعِقَةٍ ، وَهِيَ صَوْتٌ شَدِيدٌ مِنْ صَوْتِ الرَّعْدِ يَقَعُ مَعَهُ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ تُحْرِقُ مَا تُصِيبُهُ ، وَرُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: أَنَّ الْمَلِكَ الَّذِي يَسُوقُ السَّحَابَ ، إِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ ، طَارَ مِنْ فِيهِ النَّارُ ، فَهِيَ الصَّوَاعِقُ . وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ نَارٌ تَنْقَدِحُ مِنِ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِ السَّحَابِ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ صَاعِقَةً ، لِأَنَّهَا إِذَا أَصَابَتْ قَتَلَتْ ، يُقَالُ: صَعَقَتْهُمْ أَيْ: قَتَلَتْهُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ .
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، فَهُوَ جَامِعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [ الطَّلَاقُ: 12 ] قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِحَاطَةَ: الْإِهْلَاكُ ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [ الْكَهْفِ: 42 ] .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَفْعَلُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ يَكَادُ بِمَعْنَى: يُقَارِبُ ، وَهِيَ كَلِمَةٌ إِذَا أُثْبِتَتِ انْتَفَى الْفِعْلُ ، وَإِذَا نُفِيَتْ ثَبَتَ الْفِعْلُ . وَسُئِلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِي نَ فَقِيلَ لَهُ .
أَنَحْوِيُّ هَذَا الْعَصْرِ مَا هِي كَلِمَةٌ جَرَتْ بِلِسَانَيَّ جُرْهُمٍ وَثَمُودَ
إِذَا نَفَيْتَ وَاللَّهُ يَشْهَدُ أَثْبَتَتْ
وَإِنْ أَثْبَتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
[ ص: 45 ] وَيَشْهَدُ لِلْإِثْبَاتِ عِنْدَ النَّفْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [ النِّسَاءِ: 87 ] وَقَوْلُهُ: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [ النُّورِ: 40 ] وَمِثْلُهُ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [ الزُّخْرُفُ: 52 ] وَيَشْهَدُ لِلنَّفْيِ عِنْدَ الْإِثْبَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكَادُ الْبَرْقُ [ الْبَقَرَةِ: 20 ] وَ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ [ النُّورِ: 43 ] وَ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ [ النُّورِ: 35 ] . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَادَ: بِمَعْنَى هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلْ . وَقَدْ جَاءَتْ بِمَعْنَى [الْإِثْبَاتِ ] قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَلَوْ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ تَعَرَّضَتْ لِعَيْنَيْهِ مَيٌّ سَافِرًا كَادَ يَبْرَقُ
أَيْ: لَوْ تَعَرَّضَتْ لَهُ لَبَرَقَ ، أَيْ: دَهِشَ وَتَحَيَّرَ .
قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي الْمَنْفِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْإِثْبَاتِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
إِذَا غَيَّرَ النَّأْيُ الْمُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ رَسِيسَ الْهَوَى مِنْ حُبِّ مِيَّةَ يَبْرَحُ
أَرَادَ: لَمْ يَبْرَحْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ .
قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ الْيَاءِ ، وَسُكُونِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ . وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ ، وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ كِلَاهُمَا عَنْ عَاصِمٍ ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ ، وَكَسْرِ الطَّاءِ مُخَفَّفًا . وَرَوَاهُ الْجَعْفِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْخَاءِ ، وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ كَذَلِكَ ، إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الْيَاءَ . وَعَنْهُ: فَتْحُ الْيَاءِ وَالْخَاءِ مَعَ كَسْرِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ .
وَمَعْنَى "يَخْطِفُ" يَسْتَلِبُ وَأَصْلُ الِاخْتِطَافِ: الِاسْتِلَابُ ، وَيُقَالُ لِمَا يَخْرُجُ بِهِ الدَّلْوُ: خُطَّافٌ ، لِأَنَّهُ يَخْتَطِفُ مَا عُلِّقَ بِهِ . قَالَ النَّابِغَةُ:
خَطَاطِيفُ حُجْنٌ فِي حِبَالٍ مَتِنَةٍ تَمُدُّ بِهَا أَيْدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ
وَالْحَجْنُ: الْمُتَعَقِّفَة ُ ، وَجَمَلٌ خَيْطَفٍ: سَرِيعُ الْمَرِّ ، وَتِلْكَ السُّرْعَةُ الْخَطْفَى .
[ ص: 46 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ .
قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ: ضَاءَ الشَّيْءَ يَضُوءُ ، وَأَضَاءَ يُضِيءُ ، وَهَذِهِ اللُّغَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمُخْتَارَةُ .
فَصْلٌ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَا الَّذِي يُشْبِهُ الرَّعْدَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ التَّخْوِيفُ الَّذِي فِي الْقُرْآَنِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا يَخَافُونَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ إِذَا عَلِمَ النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُون َ بِنِفَاقِهِمْ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَا يَخَافُونَهُ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الْجِهَادِ وَقِتَالِ مَنْ يُبْطِنُونَ مَوَدَّتَهُ ، ذَكَرَهُ شَيْخُنَا .
وَاخْتَلَفُوا مَا الَّذِي يُشْبِهُ الْبَرْقَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ مِنْ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ وَحِكَمِهِ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا يُضِيءُ لَهُمْ مِنْ نُورِ إِسْلَامِهِمُ الَّذِي يُظْهِرُونَهُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَثَلٌ لِمَا يَنَالُونَهُ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ ، فَإِنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا ذَخَرَ لَهُمْ فِي الْأَجَلِ كَالْبَرْقِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَفِرُّونَ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآَنِ لِئَلَّا يَأْمُرُهُمْ بِالْجِهَادِ مُخَالَفَةَ الْمَوْتِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَثَلٌ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآَنِ كَرَاهِيَةً لَهُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: كُلَّمَا أَتَاهُمُ الْقُرْآنُ بِمَا يُحِبُّونَ تَابَعُوهُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ .
[ ص: 47 ] وَالثَّانِي: أَنَّ إِضَاءَةَ الْبَرْقِ حُصُولُ مَا يَرْجُونَهُ مِنْ سَلَامَةِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، فَيُسْرِعُونَ إِلَى مُتَابَعَتِهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَكَلُّمُهُمْ بِالْإِسْلَامِ ، وَمَشْيُهُمْ فِيهِ ، اهْتِدَاؤُهُمْ بِهِ ، فَإِذَا تَرَكُوا ذَلِكَ وَقَفُوا فِي ضَلَالَةٍ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّ إِضَاءَتَهُ لَهُمْ: تَرْكُهُمْ بِلَا ابْتِلَاءٍ وَلَا امْتِحَانٍ ، وَمَشْيُهُمْ فِيهِ: إِقَامَتُهُمْ عَلَى الْمُسَالَمَةِ بِإِظْهَارِ مَا يُظْهِرُونَهُ . ذَكَرَهُ شَيْخُنَا .
فَأَمَّا
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ فَمَنْ قَالَ: إِضَاءَتُهُ: إِتْيَانُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ ، قَالَ: إِظْلَامُهُ: إِتْيَانُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ . وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالْعَكْسِ .
وَمَعْنَى (قَامُوا): وَقَفُوا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ: لَوْ شَاءَ لَأَذْهَبَ أَسْمَاعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ . قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَآيَتَانِ فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِين َ وَالْيَهُودِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَ"النَّاسُ" اسْمٌ لِلْحَيَوَانِ الْآَدَمِيِّ . وَسُمُّوا بِذَلِكَ لِتَحَرُّكِهِمْ فِي مُرَادَاتِهِمْ . وَالنَّوْسُ: الْحَرَكَةُ . وَقِيلَ: سُمُّوا أُنَاسًا لِمَا يَعْتَرِيهِمْ مِنَ النِّسْيَانِ . [ ص: 48 ] وَفِي الْمُرَادِ بِالْعِبَادَةِ هَاهُنَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: التَّوْحِيدُ ، . وَالثَّانِي: الطَّاعَةُ ، رُوِيَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالْخَلْقُ: وَالْإِيجَادُ . وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَنْ قَبْلَهُمْ ، لِأَنَّهُ أَبْلُغُ فِي التَّذْكِيرِ ، وَأَقْطَعُ لِلْجَحْدِ ، وَأَحْوَطُ فِي الْحُجَّةِ . وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ مَنْ قَبْلَهُمْ ، لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِهِمْ مِنْ إِثَابَةِ مُطِيعٍ ، وَمُعَاقِبَةِ عَاصٍ .
وَفِي "لَعَلَّ" قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى كَيْ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:
وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مُوَثِّقِ
فَلْمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ
كَلَمْعِ سَرَابٍ فِي الْمَلَا مُتَأَلِّقِ
يُرِيدُ: لِكَيْ نَكُفَّ ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ مُقَاتِلٌ وَقُطْرُبٌ وَابْنُ كَيْسَانَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى التَّرَجِّي ، وَمَعْنَاهَا: اعْبُدُوا اللَّهَ رَاجِينَ لِلتَّقْوَى ، وَلِأَنْ تَقُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْعِبَادَةِ - عَذَابُ رَبِّكُمْ . وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الشِّرْكَ ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ النَّارَ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَعَلَّكُمْ تُطِيعُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا .
إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْأَرْضُ أَرْضًا لِسِعَتِهَا ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرِضَتِ الْقُرْحَةُ: إِذَا اتَّسَعَتْ .
وَقِيلَ: لِانْحِطَاطِهَا عَنِ السَّمَاءِ ، وَكُلُّ مَا سَفَلَ: أَرْضٌ ، وَقِيلَ: لِأَنَّ النَّاسَ يَرُضُّونَهَا بِأَقْدَامِهِمْ ، وَسُمِّيَتِ السَّمَاءُ سَمَاءً لِعُلُوِّهَا . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَكُلُّ مَا عَلَا عَلَى الْأَرْضِ فَاسْمُهُ بِنَاءً ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبِنَاءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى السَّقْفِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ يَعْنِي مِنَ السَّحَابِ .
مَاءً يَعْنِي: الْمَطَرَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (11)
صــ49 إلى صــ 54
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا يَعْنِي: شُرَكَاءَ ، أَمْثَالًا . يُقَالُ: هَذَا نِدُّ هَذَا ، وَنِدِيدُهُ . وَفِيمَا أُرِيدَ بِالْأَنْدَادِ هَاهُنَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: الْأَصْنَامُ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ ، . وَالثَّانِي: رِجَالٌ كَانُوا يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .
فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهُمَا: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاءَ ، وَأَنْزَلَ الْمَاءَ ، وَفَعَلَ مَا شَرَحَهُ فِي هَذِهِ الْآَيَاتِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ .
الثَّانِي: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَهُوَ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ .
وَالثَّالِثُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْعِلْمُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْعَقْلِ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .
وَالْخَامِسُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلٍ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ سِوَاهُ . ذَكَرَهُ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ .
وَالسَّادِسُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا حِجَارَةٌ ، سَمِعْتُهُ مِنَ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ الْخَشَّابِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ .
سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا بِهِ مُحَمَّدٌ لَا يُشْبِهُ الْوَحْيَ ، وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ . و"إِنَّ" هَاهُنَا لِغَيْرِ شَكٍّ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُمْ مُرْتَابُونَ ، وَلَكِنَّ هَذَا عَادَةُ الْعَرَبِ ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِابْنِهِ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَأَطِعْنِي . وَقِيلَ: إِنَّهَا هَاهُنَا بِمَعْنَى إِذْ ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ الْبَقَرَةِ: 278 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: السُّورَةُ تُهْمَزُ وَلَا تُهْمَزُ ، فَمَنْ هَمَزَهَا جَعَلَهَا مِنْ أَسْأَرَتْ ، يَعْنِي [أَفْضَلَتْ ] لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآَنِ ، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْهَا جَعَلَهَا مِنْ سُورَةِ الْبِنَاءِ ، أَيْ: مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ . قَالَ النَّابِغَةُ فِي النُّعْمَانِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلَّ مَلِكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
وَالسُّورَةُ فِي هَذَا الْبَيْتِ: سُورَةُ الْمَجْدِ ، وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ مِنْ سُورَةِ الْبِنَاءِ . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ السُّورَةُ سُورَةً لِأَنَّهُ يَرْتَفِعُ فِيهَا مِنْ مَنْزِلَةٍ إِلَى مَنْزِلَةٍ ، مِثْلُ سُورَةِ الْبِنَاءِ . مَعْنَى: أَعْطَاكَ سُورَةً ، أَيْ: مَنْزِلَةَ شَرَفٍ ارْتَفَعَتْ إِلَيْهَا عَنْ مَنَازِلِ الْمُلُوكِ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ سُورَةً لِشَرَفِهَا ، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَهُ سُورَةٌ فِي الْمَجْدِ ، أَيْ: شَرَفٌ وَارْتِفَاعٌ ، أَوْ لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآَنِ مِنْ قَوْلِكَ: أَسَأَرْتُ سُؤْرًا ، أَيْ: أَبْقَيْتُ بَقِيَّةً ، وَفِي هَاءِ "مِثْلِهِ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الْقُرْآَنِ الْمُنَزَّلِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَالْفَرَّاءُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْعَبْدِ الْأُمِّيِّ ، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَالزَّجَّاجُ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: تَكُونُ "مِنْ" لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: تَكُونُ زَائِدَةً .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ .
فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: اسْتَعِينُوا مِنَ الْمَعُونَةِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَالْفَرَّاءُ . وَالثَّانِي: اسْتُغِيثُوا مِنَ الِاسْتِغَاثَةِ ، وَأَنْشَدُوا:
فَلَمَّا الْتَقَتْ فُرْسَانُنَا وَرِجَالُهُمْ دَعَوْا يَا لَ كَعْبٍ وَاعْتَزَيْنَا لِعَامِرِ
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ: [ ص: 51 ] وَفِي شُهَدَائِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ آَلِهَتُهُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ ، وَالْفَرَّاءُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَسُمُّوا شُهَدَاءَ ، لِأَنَّهُمْ يُشْهِدُونَهُمْ ، وَيُحْضِرُونَهُ مْ . وَقَالَ غَيْرُهُ: لِأَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ لِيَشْهَدُوا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَعْوَانُهُمْ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ: فَأْتُوا بِنَاسٍ يَشْهَدُونَ أَنَّ مَا تَأْتُونَ بِهِ مِثْلَ الْقُرْآَنِ ، رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَيْ: فِي قَوْلِكُمْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فِي هَذِهِ الْآَيَةِ مُضْمَرٌ مُقَدَّرٌ ، يَقْتَضِي الْكَلَامُ تَقْدِيمَهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِمَا فِي الْآَيَةِ الْمَاضِيَةِ مِنَ التَّحَدِّي ، فَسَكَتُوا عَنِ الْإِجَابَةِ; قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ تَفْعَلُوا أَعْظَمُ دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ، وَلَمْ يَفْعَلُوا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ .
وَالْوَقُودُ: بِفَتْحِ الْوَاوِ: الْحَطَبُ ، وَبِضَمِّهَا: التَّوَقُّدُ ، كَالْوَضُوءِ بِالْفَتْحِ: الْمَاءُ ، وَبِالضَّمِّ: الْمَصْدَرُ ، وَهُوَ: اسْمُ حَرَكَاتِ الْمُتَوَضِّئِ . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَقُودُهَا ، بِضَمِّ الْوَاوِ ، وَالِاخْتِيَارُ الْفَتْحُ . وَالنَّاسُ أَوْقَدُوا فِيهَا بِطَرِيقِ الْعَذَابِ ، وَالْحِجَارَةِ ، لِبَيَانِ قُوَّتِهَا وَشِدَّتِهَا ، إِذْ هِيَ مُحْرِقَةٌ لِلْحِجَارَةِ . وَفِي هَذِهِ الْحِجَارَةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَصْنَامُهُمُ الَّتِي عَبَدُوهَا ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ ، وَهِيَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ حَرًّا ، إِذَا أُحْمِيَتْ يُعَذَّبُونَ بِهَا . وَمَعْنَى "أُعِدَّتْ": هُيِّئَتْ . وَإِنَّمَا خَوْفُهُمْ بِالنَّارِ إِذَا لَمْ يَأْتُوا بِمِثْلِ الْقُرْآَنِ ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَذَّبُوهُ ، وَعَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، ثَبَتَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ ، وَصَارَ الْخِلَافُ عِنَادًا ، وَجَزَاءُ الْمُعَانِدِينَ النَّارُ .
[ ص: 52 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا .
الْبِشَارَةُ: أَوَّلُ خَبَرٍ يَرِدُ عَلَى الْإِنْسَانِ ، وَسُمِّيَ بِشَارَةً ، لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي بَشْرَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا ، أَثَرُ الْمَسَرَّةِ وَالِانْبِسَاطِ ، وَإِنَّ شَرًّا ، أَثَرُ الْانْجِمَاعِ وَالْغَمِّ ، وَالْأَغْلَبُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ تَكُونَ الْبِشَارَةُ بِالْخَيْرِ ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [ النِّسَاءِ: 138 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .
يَشْمَلُ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ قَالَ: أَخْلِصُوا الْأَعْمَالَ .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَقَامُوا الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ . فَأَمَّا الْجَنَّاتُ ، فَجَمْعُ جَنَّةٍ . وَسَمِّيَتِ الْجَنَّةُ جَنَّةً ، لِاسْتِتَارِ أَرْضِهَا بِأَشْجَارِهَا ، وَسُمِّيَ الْجِنُّ جِنًّا ، لِاسْتِتَارِهِم ْ ، وَالْجَنِينُ مِنْ ذَلِكَ ، وَالدِّرْعُ جَنَّةٌ ، وَجَنَّ اللَّيْلُ: إِذَا سَتَرَ ، وَذَكَرَ عَنِ الْمُفَضَّلِ أَنَّ الْجَنَّةَ: كُلُّ بُسْتَانٍ فِيهِ نَخْلٌ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ نَبْتٍ كَثَفَ وَكَثُرَ وَسَتَرَ بَعْضُهُ بَعْضًا ، فَهُوَ جَنَّةٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أَيْ: مِنْ تَحْتِ شَجَرِهَا لَا مِنْ تَحْتِ أَرْضِهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: هَذَا الَّذِي طُعِمْنَا مِنْ قَبْلُ ، فَرِزْقُ الْغَدَاةِ كَرِزْقِ الْعَشِيِّ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ .
وَالثَّانِي: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ إِذَا جُنِيَ خَلَفَهُ مِثْلُهُ ، فَإِذَا رَأَوْا مَا خَلَفَ الْجَنَى ، اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ قَالَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ .
[ ص: 53 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا .
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ فِي الْمَنْظَرِ وَاللَّوْنِ ، مُخْتَلِفٌ فِي الطَّعْمِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ فِي جَوْدَتِهِ ، لَا رُدِئَ فِيهِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُشْبِهُ ثِمَارَ الدُّنْيَا فِي الْخِلْقَةِ وَالِاسْمِ ، غَيْرَ أَنَّهُ أَحْسَنُ فِي الْمَنْظَرِ وَالطَّعْمِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا وَجْهُ الِامْتِنَانِ بِمُتَشَابِهِهِ ، وَكُلَّمَا تَنَوَّعَتِ الْمَطَاعِمُ وَاخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُا كَانَ أَحْسَنَ؟! فَالْجَوَابُ: أَنَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَشَابِهُ الْمَنْظَرِ مُخْتَلِفُ الطَّعْمِ ، كَانَ أَغْرَبَ عِنْدَ الْخُلُقِ وَأَحْسَنَ ، فَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ تُفَّاحَةً فِيهَا طَعْمُ سَائِرِ الْفَاكِهَةِ ، كَانَ نِهَايَةً فِي الْعَجَبِ . وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَشَابِهٌ فِي الْجَوْدَةِ; جَازَ اخْتِلَافُهُ فِي الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ . وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُشْبِهُ صُورَةَ ثِمَارِ الدُّنْيَا مَعَ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي; كَانَ أَطْرَفَ وَأَعْجَبَ وَكُلُّ هَذِهِ مَطَالِبٌ مُؤَثِّرَةٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ أَيْ: فِي الْخُلُقِ ، فَإِنَّهُنَّ لَا يَحِضْنَ وَلَا يَبُلْنَ ، وَلَا يَأْتِينَ الْخَلَاءَ . وَفِي الْخُلُقِ ، فَإِنَّهُنَّ لَا يَحْسُدْنَ ، وَيَغِرْنَ ، وَلَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَقِيَّةٌ عَنِ الْقَذَى وَالْأَذَى . قَالَ الزَّجَّاجُ: و"مُطَهَّرَةٌ" أَبْلَغُ مِنْ طَاهِرَةٍ ، لِأَنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ . وَالْخُلُودُ: الْبَقَاءُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا .
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الْحَجُّ 73 وَنَزَلَ قَوْلُهُ: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ [ ص: 54 ] اتَّخَذَتْ بَيْتًا [ الْعَنْكَبُوتُ: 41 ] . قَالَتِ الْيَهُودَ: وَمَا هَذَا مِنَ الْأَمْثَالِ؟! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحُسْنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ ، وَالْفَرَّاءُ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَي ْنِ ، وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [ الْبَقَرَةِ: 17 ] وَقَوْلُهُ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [ الْبَقَرَةِ: 19 ] قَالَ الْمُنَافِقُونَ : اللَّهُ أَجْلُّ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَضْرِبَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ ، وَمُجَاهِدٍ نَحْوُهُ .
وَالْحَيَاءُ بِالْمَدِّ: الِانْقِبَاضُ وَالِاحْتِشَامُ ، غَيْرَ أَنَّ صِفَاتِ الْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَطَّلِعُ لَهَا عَلَى مَاهِيَةٍ ، وَإِنَّمَا تَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ" وَقِيلَ: مَعْنَى لَا يَسْتَحْيِي: لَا يَتْرُكُ . وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ أَنَّ مَعْنَى لَا يَسْتَحْيِي: لَا يَخْشَى . وَمَثَلُهُ: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [ الْأَحْزَابِ: 37 ] أَيْ: تَسْتَحْيِي مِنْهُ . فَالِاسْتِحْيَا ءُ وَالْخَشْيَةُ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآَخَرِ . وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: لَا يَسْتَحِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ لُغَةٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْ يَذْكُرَ شَبَهًا ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ الْمَثَلِ أَنْ يَبِينَ لِلْمَضْرُوبِ لَهُ الْأَمْرُ الَّذِي ضَرَبَ لِأَجَلِهِ ، فَيَنْجَلِي غَامِضُهُ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (12)
صــ55 إلى صــ 60
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا بَعُوضَةً .
مَا زَائِدَةٌ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالزَّجَّاجُ وَالْبَصْرِيِّي نَ . وَأَنْشَدُوا لِلنَّابِغَةِ:
[قَالَتْ ]: أَلَا لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامُ لَنَا [إِلَى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفِهِ فَقَدَ ]
وَذَكَر أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْمَعْنَى مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ إِلَى مَا فَوْقَهَا ، ثُمَّ حَذَفَ ذِكْرَ "بَيْنَ" و"إِلَى" إِذْ كَانَ فِي نَصْبِ الْبَعُوضَةِ ، وَدُخُولِ الْفَاءِ فِي "مَا" الثَّانِيَةِ; دَلَالَةٌ عَلَيْهِمَا ، كَمَا قَالَتْ [ ص: 55 ] الْعَرَبُ: مُطِرْنَا مَازِبَالَةَ فَالثَّعْلَبِيّ َةُ ، وَلَهُ عِشْرُونَ مَا نَاقَةً فَجَمَلًا ، وَهِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ مَا قَرَنَا فَقَدَّمَا [يَعْنُونَ: مَا بَيْنَ قَرْنِهَا إِلَى قَدَمِهَا ] . وَقَالَ غَيْرُهُ: نَصَبَ الْبَعُوضَةَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمَثَلِ .
وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ نَافِعٍ: "بَعُوضَةٌ" بِالرَّفْعِ ، عَلَى إِضْمَارِ هُوَ . وَالْبَعُوضَةُ: صَفِيرَةُ الْبَقِّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا فَوْقَهَا فِيهِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: فَمَا فَوْقَهَا فِي الْكِبَرِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَالْفَرَّاءُ .
وَالثَّانِي: فَمَا فَوْقَهَا فِي الصِّغَرِ ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: فَمَا دُونَهَا ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ .
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَقَدْ يَكُونُ الْفَوْقُ بِمَعْنَى: دُونَ ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ ، وَمِثْلُهُ: الْجَوْنُ; يُقَالُ: لِلْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ . وَالصَّرِيمِ: الصُّبْحُ ، وَاللَّيْلُ . وَالسُّدْفَةُ: الظُّلْمَةُ ، وَالضَّوْءُ . وَالْحُلَلُ: الصَّغِيرُ ، وَالْكَبِيرُ . وَالنَّاهِلُ: الْعَطْشَانُ ، وَالرَّيَّانُ . وَالْمَاثِلُ: الْقَائِمُ ، وَاللَّاطِئُ بِالْأَرْضِ وَالصَّارِخُ: الْمُغِيثُ ، وَالْمُسْتَغِيث ُ . وَالْهَاجِدُ: الْمُصَلِّي بِاللَّيْلِ ، وَالنَّائِمُ . وَالرَّهْوَةُ: الِارْتِفَاعُ ، وَالِانْحِدَارُ . وَالتَّلْعَةُ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ ، وَمَا انْهَبَطَ مِنَ الْأَرْضِ . وَالظَّنُّ: يَقِينٌ ، وَشَكٌّ . وَالْأَقْرَاءُ: الْحَيْضُ ، وَالِاطِّهَارُ . وَالْمُفَرَّعُ فِي الْجَبَلِ: الْمِصْعَدُ ، وَالْمُنْحَدَرُ . وَالْوَرَاءُ: خَلْفًا ، وَقَدَّامًا . وَأَسْرَرْتُ الشَّيْءَ: أَخْفَيْتُهُ ، وَأَعْلَنْتُهُ . وَأَخْفَيْتُ الشَّيْءَ: أَظْهَرْتُهُ وَكَتَمَتْهُ . وَرَتَوْتُ الشَّيْءَ: شَدَدْتُهُ ، وَأَرْخَيْتُهُ . وَشَعَّبْتُ الشَّيْءَ: جَمَعْتُهُ ، وَفَرَّقْتُهُ . وَبِعْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى: بِعْتُهُ ، وَاشْتَرَيْتُهُ . وَشَرَيْتُ الشَّيْءَ: اشْتَرَيْتُهُ ، وَبِعْتُهُ . وَالْحَيُّ خُلُوفٌ: غُيَّبٌ ، وَمُخْتَلِفُونَ .
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا هَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا [ الْبَقَرَةِ: 26 ] أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
[ ص: 56 ] أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ . قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِمَثَلٍ لَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ ، يَضِلُّ بِهِ هَذَا ، وَيَهْدِي بِهِ هَذَا؟! [ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ وَالْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ ] فَقَالَ اللَّهُ: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ [ الْبَقَرَةِ: 26 ] .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ .
فَأَمَّا الْفِسْقُ; فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْخُرُوجُ ، يُقَالُ: فَسَقَتِ الرُّطْبَةُ: إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا . فَالْفَاسِقُ: الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ .
وَفِي الْمُرَادِ بِالْفَاسِقِينَ هَاهُنَا ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: الْمُنَافِقُونَ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّالِثُ: جَمِيعُ الْكُفَّارِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ .
هَذِهِ صِفَةٌ لِلْفَاسِقِينَ ، وَقَدْ سَبَقَتْ فِيهِمُ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ . وَالنَّقْضُ: ضِدُّ الْإِبْرَامِ ، وَمَعْنَاهُ: حِلُّ الشَّيْءِ بَعْدَ عَقْدِهِ . وَيَنْصَرِفُ النَّقْضُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ ، فَنَقْضُ الْبِنَاءِ: تَفْرِيقُ جَمْعِهِ بَعْدَ إِحْكَامِهِ . وَنَقُضُ الْعَهْدِ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمَقَامِ عَلَى أَحْكَامِهِ .
وَفِي هَذَا الْعَهْدِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَا عَهِدَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَصِيَّةُ بِاتِّبَاعِهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا عَهِدَ إِلَيْهِمْ فِي الْقُرْآَنِ ، فَأَقَرُّوا بِهِ ثُمَّ كَفَرُوا ، قَالَهُ السُّدِّيُّ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آَدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نَذْكُرْ ذَلِكَ الْعَهْدَ فَقَدْ ثَبَتَ بِخَبَرِ الصَّادِقِ ، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ .
وَفِي "مِنْ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا زَائِدَةٌ ، . وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، كَأَنَّهُ قَالَ: ابْتِدَاءُ نَقْضِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ . وَفِي هَاءِ "مِيثَاقِهِ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، . وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْعَهْدِ ، فَتَقْدِيرُهُ: بَعْدَ إِحْكَامِ التَّوْفِيقِ فِيهِ .
[ ص: 57 ] وَفِي: الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُوصِلَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: الرَّحِمُ وَالْقَرَابَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَطَعُوهُ بِالتَّكْذِيبِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالثَّالِثُ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ ، وَأَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ، فَآَمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَفِي فَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ اسْتِدْعَاؤُهُم ُ النَّاسَ إِلَى الْكُفْرِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي ، قَالَهُ السُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَطْعُهُمُ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ جَاءَ مُهَاجِرًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِيَمْنَعُوا النَّاسَ مِنَ الْإِسْلَامِ .
وَالْخُسْرَانُ فِي اللُّغَةِ: النُّقْصَانُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ فِي كَيْفَ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى التَّعَجُّبِ ، وَهَذَا التَّعَجُّبُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، أَيِ: اعْجَبُوا مِنْ هَؤُلَاءِ كَيْفَ يَكْفُرُونَ ، وَقَدْ ثَبَتَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ خَارِجٌ مَخْرَجَ التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ . تَقْدِيرُهُ: وَيَحْكُمُ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ قَالَ الْعَجَّاجُ:
أَطْرَبَا وَأَنْتَ قَنَسْرِي [وَالدَّهْرُ بِالْإِنْسَانِ دَوَّارِي ]
أَرَادَ: أَتَطْرَبُ وَأَنْتَ شَيْخٌ كَبِيرٌ؟! قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا .
قَالَ الْفَرَّاءُ أَيْ: وَقَدْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا . وَمِثْلُهُ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [ النِّسَاءِ: 90 ] أَيْ: قَدْ حَصِرَتْ . وَمِثْلُهُ: وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ [ يُوسُفَ: 26 ] أَيْ: فَقَدْ كَذَبَتْ ، وَلَوْلَا إِضْمَارُ "قَدْ" لَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ .
وَفِي الْحَيَاتَيْنِ ، وَالْمَوْتَتَيْ نِ أَقْوَالٌ . أَصَحُّهَا: أَنَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى ، كَوْنُهُمْ نُطَفًا وَعُلَقًا [ ص: 58 ] وَمُضَغًا ، فَأَحْيَاهُمْ فِي الْأَرْحَامِ ، ثُمَّ يُمِيتُهُمْ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا ، ثُمَّ يُحْيِيهِمْ لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُقَاتِلٍ ، وَالْفَرَّاءِ ، وَثَعْلَبٍ ، وَالزَّجَّاجِ ، وَابْنِ قُتَيْبَةَ ، وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا أَيْ: لِأَجْلِكُمْ ، فَبَعْضُهُ لِلِانْتِفَاعِ ، وَبَعْضُهُ لِلِاعْتِبَارِ .
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ أَيْ: عَمَدَ إِلَى خُلُقِهَا ، وَالسَّمَاءِ: لَفْظُهَا لَفْظُ الْوَاحِدِ ، وَمَعْنَاهَا ، مَعْنَى الْجَمْعِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: فَسَوَّاهُنَّ .
وَأَيُّهُمَا أَسْبَقُ فِي الْخَلْقِ: الْأَرْضُ ، أَمِ السَّمَاءُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: الْأَرْضُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي: السَّمَاءُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَكْمِيلِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَدَأَ بِخَلْقِ الْأَرْضِ فِي يَوْمَيْنِ ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ فِي يَوْمَيْنِ ، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي يَوْمَيْنِ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: جَمَعَ خَلْقَ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ فِي يَوْمَيْنِ .
وَالْعَلِيمُ: جَاءَ عَلَى بِنَاءِ: فَعِيلٍ ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِهِ بِكَمَالِ الْعِلْمِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ .
كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ: "إِذْ" مُلْغَاةٌ ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَقَالَ رَبُّكَ ، وَتَابَعَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَعَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْقَاسِمِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِذْ مَعْنَاهَا: الْوَقْتُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ابْتِدَاءُ خَلْقِكُمْ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ .
وَالْمَلَائِكَة ُ: مِنَ الْأُلُوكِ ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ ، قَالَ لَبِيَدُ:
وَغُلَامٌ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلَ
وَوَاحِدُ الْمَلَائِكَةِ: مَلَكٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ: مَلْأَكُ . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: [ ص: 59 ]
فَلَسْتُ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ تَنْزِلُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَمَعْنَى مَلْأَكِ: صَاحِبُ رِسَالَةٍ ، يُقَالُ: مَأْلَكَةٌ وَمَأْلُكَةٌ وَمَلْأَكَةٌ . وَمَآَلُكٌ: جَمْعُ مَأْلُكَةٍ . قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكًا أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي
وَفِي هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ حِينَ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ ، ذَكَرَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَنُقِلَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ آَدَمَ خَلْقٌ ، فَأَفْسَدُوا ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِبْلِيسَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَأَهْلَكُوهُمْ .
وَاخْتَلَفُوا مَا الْمَقْصُودُ فِي إِخْبَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمَلَائِكَةَ بِخَلْقِ آَدَمَ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ كِبْرًا ، فَأَحَبَّ أَنْ يُطْلِعَ الْمَلَائِكَةَ عَلَيْهِ ، وَأَنْ يُظْهِرَ مَا سَبَقَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِهِ ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ النَّارَ خَافَتِ الْمَلَائِكَةُ ، فَقَالُوا: رَبُّنَا لِمَنْ خَلَقْتَ هَذِهِ؟ قَالَ: لِمَنْ عَصَانِي ، فَخَافُوا وُجُودَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِوُجُودِ خَلْقٍ سِوَاهُمْ ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [ الْبَقَرَةِ: 30 ] قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَرَادَ إِظْهَارَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ ، فَأَخْبَرَهُمْ حَتَّى قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا؟ فَأَجَابَهُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ .
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ أَرَادَ تَعْظِيمَ آَدَمَ بِذِكْرِهِ بِالْخِلَافَةِ قَبْلَ وُجُودِهِ ، لِيَكُونُوا مُعَظِّمِينَ لَهُ إِنْ أَوْجَدَهُ . [ ص: 60 ] وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ أَرَادَ إِعْلَامَهُمْ بِأَنَّهُ خَلَقَهُ لِيُسْكِنَهُ الْأَرْضَ ، وَإِنْ كَانَتِ ابْتِدَاءَ خَلْقِهِ فِي السَّمَاءِ .
وَالْخَلِيفَةُ: هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ غَيْرِهِ ، يُقَالُ: هَذَا خَلْفُ فُلَانٍ وَخَلِيفَتُهُ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَالْأَصْلُ فِي الْخَلِيفَةِ خَلِيفٌ ، بِغَيْرِ هَاءٍ ، فَدَخَلَتِ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي مَدْحِهِ بِهَذَا الْوَصْفِ ، كَمَا قَالُوا: عَلَّامَةٌ وَنَسَّابَةٌ وَرَاوِيَةٌ . وَفِي مَعْنَى خِلَافَةِ آَدَمَ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَلِيفَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِقَامَةِ شَرْعِهِ ، وَدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ ، وَالْحُكْمِ فِي خَلْقِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَلَفُ مَنْ سَلَفَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَهُ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (13)
صــ61 إلى صــ 66
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا .
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْأَلِفِ الِاسْتِفْهَامُ ، دَخَلَ عَلَى مَعْنَى الْعِلْمِ لِيَقَعَ بِهِ تَحْقِيقٌ قَالَ جَرِيرٌ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
مَعْنَاهُ: أَنْتُمْ خَيْرُ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا .
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوهُ لِاسْتِعْلَامِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ ، لَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ . ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ حَالِ أَنْفُسِهِمْ ، فَتَقْدِيرُهُ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أَمْ لَا؟
وَهَلْ عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، أَمْ قَاسُوا عَلَى حَالِ مَنْ قَبْلَهُمْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِتَوْقِيفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: أَنَّهُمْ قَالُوا: رَبُّنَا وَمَا يَكُونُ [ ص: 61 ] ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ قَالَ: يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةً يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَتَحَاسَدُون َ ، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا .
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى أَحْوَالِ مَنْ سَلَفَ قَبْلَ آَدَمَ ، رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَمُقَاتِلٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ .
قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْفَاءِ ، وَضَمَّهَا ابْنُ مُصَرِّفِ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ ، وَهُمَا لُغَتَانِ ، وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ وَابْنِ مِقْسَمٍ: وَيُسَفِّكُ: بِضَمِّ الْيَاءِ ، وَفَتْحِ السِّينِ ، وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ مَعَ كَسْرِهَا ، وَهِيَ لِتَكْثِيرِ الْفِعْلِ وَتَكْرِيرِهِ . وَسَفْكُ الدَّمِ: صَبُّهُ وَإِرَاقَتُهُ وَسَفْحُهُ ، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كُلِّ مُضَيَّعٍ ، إِلَّا أَنَّ السَّفْكَ يَخْتَصُّ الدَّمَ ، وَالصَّبَّ وَالسَّفْحَ وَالْإِرَاقَةَ يُقَالُ فِي الدَّمِ وَفِي غَيْرِهِ .
وَفِي مَعْنَى تَسْبِيحِهِمْ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الصَّلَاةُ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَوْلُهُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ التَّعْظِيمُ وَالْحَمْدُ ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ الْخُضُوعُ وَالذُّلُّ ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِيِّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقَدِّسُ لَكَ .
الْقُدْسُ: الطَّهَارَةُ ، وَفِي مَعْنَى تَقْدِيسِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: نَتَطَهَّرُ لَكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: نُعَظِّمُكَ وَنَكْبُرُكُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: نُصَلِّي لَكَ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ .
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مِنَ الْبَغْيِ وَالْمَعْصِيَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّانِي: أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ أَنْبِيَاءٌ [ ص: 62 ] وَصَالِحُونَ قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: أَعْلَمُ أَنِّي أَمْلَأُ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
وَالرَّابِعُ: أَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ ، فَأَنَا أَبْتَلِي مَنْ تَظُنُّونَ أَنَّهُ مُطِيعٌ ، فَيُؤَدِّيهِ الِابْتِلَاءُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ كِإِبْلِيسَ ، وَمَنْ تَظُنُّونَ بِهِ الْمَعْصِيَةَ فَيُطِيعُ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
الْإِشَارَةُ إِلَى خَلْقِ آَدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
رَوَى أَبُو مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ ، عَزَّ وَجَلَّ ، خَلَقَ آَدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ ، فَجَاءَ بَنُو آَدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ ، مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ [وَالْأَبْيَضُ ] وَالْأَسْوَدُ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزَنُ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آَدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا" . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ آَدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمْعَةَ آَخِرَ الْخَلْقِ فِي آَخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمْعَةِ ، مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ ، أَتَتْهُ النَّفْخَةُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ، فَجَعَلَتْ لَا تَجْرِي مِنْهُ فِي شَيْءٍ إِلَّا صَارَ لَحْمًا وَدَمًا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا .
فِي تَسْمِيَةِ آَدَمَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ ، وَالزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْأُدْمَةِ فِي اللَّوْنِ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ ، وَالنَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ ، وَقُطْرُبٌ .
وَفِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّمَهُ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَّمَهُ كُلَّ الْأَسْمَاءِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، [ ص: 63 ] وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَعْدُودَةً لِمُسَمَّيَاتٍ مَخْصُوصَةٍ . ثُمَّ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ دُونَ أَنْوَاعِهَا ، كَقَوْلِكَ: إِنْسَانٌ وَمَلِكٌ وَجِنِّيٌّ وَطَائِرٌ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ مَا خَلَقَ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْهَوَامِّ وَالطَّيْرِ ، قَالَ الْكَلْبِيُّ ، وَمُقَاتِلٌ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ .
يُرِيدُ أَعْيَانَ الْخَلْقِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَلَائِكَةُ هَاهُنَا: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ خَاصَّةً .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْبِئُونِي أَخْبَرُونِي .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا هُوَ أَفْضَلُ مِنْكُمْ وَأَعْلَمُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالثَّانِي: أَنِّي أَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا سُبْحَانَكَ .
قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ: التَّنْزِيهُ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ سُوءٍ . وَالْعَلِيمُ بِمَعْنَى: الْعَالِمِ ، جَاءَ عَلَى بِنَاءِ "فَعِيلٍ" لِلْمُبَالَغَةِ . وَفِي الْحَكِيمِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالثَّانِي: الْمُحْكِمُ لِلْأَشْيَاءِ ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ أَيْ: أَخْبَرَهُمْ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْبِئْهِمْ بِكَسْرِ الْهَاءِ ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَلَى الْأَصْلِ ، لِأَنَّ أَصْلَ هَذَا الضَّمِيرِ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ مَضْمُومَةً فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: ضَرْبَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ ، وَهَذَا لَهُمْ . وَمَنْ كَسَرَ أَتْبَعَ كَسْرَ الْهَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ كَسْرَةُ الْبَاءِ . وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ تَعُودُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ . وَفِي الْهَاءِ وَالْمِيمِ [ ص: 64 ] مِنْ "أَسْمَائِهِم " قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي عَرَضَهَا ، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ .
وَفِي الَّذِي أَبْدُوهُ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ حَيْثُ مَرُّوا عَلَى جَسَدِ آَدَمَ ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: إِنَّ فَضْلَ هَذَا عَلَيْكُمْ مَا تَصْنَعُونَ؟ فَقَالُوا: نُطِيعُ رَبَّنَا ، فَقَالَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ: لَئِنْ فُضِّلْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكْنَهُ ، وَلَئِنْ فُضِّلَ عَلَيَّ لَأَعْصِيَنَّهُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَفِي الَّذِي كَتَمُوهُ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اعْتِقَادُ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ خَلْقًا أَكْرَمَ مِنْهُمْ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا أَسَرَّهُ إِبْلِيسُ مِنَ الْكِبَرِ وَالْعِصْيَانِ ، رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُقَاتِلٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا .
عَامَّةُ الْقُرَّاءِ عَلَى كَسْرِ التَّاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْمَشُ بِضَمِّهَا فِي الْوَصْلِ ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ لُغَةٌ أَزْدَشَنُوءَةَ .
وَفِي هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَالسُّجُودُ فِي اللُّغَةِ: التَّوَاضُعُ وَالْخُضُوعُ ، وَأَنْشَدُوا:
سَاجِدُ الْمَنْخَرِ مَا يَرْفَعُهُ خَاشِعُ الطَّرْفِ أَصَمُّ الْمُسْتَمِعِ
وَفِي صِفَةِ سُجُودِهِمْ لِآَدَمَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى صِفَةِ سُجُودِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الِانْحِنَاءُ وَالْمَيْلُ الْمُسَاوِي لِلرُّكُوعِ .
[ ص: 65 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلا إِبْلِيسَ .
فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، ثُمَّ مَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَيْطَانًا . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ، فَهُوَ مِنَ الْجِنِّ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ ، وَكَانَ يُدِيرُ أَمْرَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتُثْنِيَ وَلَيْسَ مِنَ الْجِنْسِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ مَعَهُمْ ، فَاسْتُثْنِيَ مِنْهُمْ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: أَمَرْتُ عَبْدِي وَإِخْوَتِي فَأَطَاعُونِي إِلَّا عَبْدِي ، هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ .
وَفِي إِبْلِيسَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ لَيْسَ بِمُشْتَقٍّ ، وَلِذَلِكَ لَا يُصْرَفُ ، هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ ، وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِبْلَاسِ ، وَهُوَ: الْيَأْسُ ، رُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، وَذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُصْرَفْ ، لِأَنَّهُ لَا سَمِيَّ لَهُ ، فَاسْتُثْقِلَ . قَالَ شَيْخُنَا أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الْإِبْلَاسِ لَصُرِفَ ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ سَمَّيْتَ رَجُلًا: بِإِخْرِيطٍ وَإِجْفِيلٍ; لِصُرِفَ فِي الْمَعْرِفَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَبَى مَعْنَاهُ: امْتَنَعَ ، وَاسْتَكْبَرَ اسْتَفْعَلَ مِنَ: الْكِبْرِ ، وَفِي " وَكَانَ " قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى: صَارَ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى الْمَاضِي ، فَمَعْنَاهُ: كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَافِرًا ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ زَوْجُهُ: حَوَّاءُ ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ لِامْرَأَةِ الرَّجُلِ: زَوْجٌ ، وَيَجْمَعُونَهَ ا: الْأَزْوَاجَ . وَتَمِيمٌ وَكَثِيرٌ مِنْ قِيسٍ وَأَهْلِ نَجْدٍ يَقُولُونَ: زَوْجَةٌ ، وَيَجْمَعُونَهَ ا: زَوْجَاتٌ . [ ص: 66 ] قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى يُحِرِّشُ زَوْجَتِي كَمَاشٍ إِلَى أَسَدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا
وَأَنْشَدَنِي أَبُو الْجَرَّاحِ:
يَا صَاحِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجَاتِ كُلِّهِمُ أَنْ لَيْسَ وَصْلٌ إِذَا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَبِ
وَفِي الْجَنَّةِ الَّتِي أَسْكَنَهَا آَدَمَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: جَنَّةُ عَدْنٍ . وَالثَّانِي: جَنَّةُ الْخُلْدِ .
وَالرَّغَدُ: الرِّزْقُ الْوَاسِعُ الْكَثِيرُ ، يُقَالُ: أَرْغَدَ فُلَانٌ: إِذَا صَارَ فِي خِصْبٍ وَسِعَةٍ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (14)
صــ67 إلى صــ 72
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ أَيْ: بِالْأَكْلِ لَا بِالدُّنُوِّ مِنْهَا .
فِي الشَّجَرَةِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا السُّنْبُلَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ ، وَوَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ ، وَمُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ ، وَمُقَاتِلٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْكَرَمُ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَجَعْدَةَ وَبْنِ هُبَيْرَةَ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا التِّينُ ، رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، وَابْنِ جُرَيْجٍ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا شَجَرَةٌ يُقَالُ: لَهَا شَجَرَةُ الْعِلْمِ ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالْخَامِسُ: أَنَّهَا شَجَرَةُ الْكَافُورِ ، نُقِلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ .
وَالسَّادِسُ: أَنَّهَا النَّخْلَةُ ، رُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ .
وَقَدْ ذَكَرُوا وَجْهًا سَابِعًا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى جِنْسِهَا . [ ص: 67 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ .
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الظُّلْمُ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَيُقَالُ: ظَلَمَ الرَّجُلُ سِقَاءَهُ إِذَا سَقَاهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ زُبْدُهُ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَصَاحِبُ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شَكَاتُهُ ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ
أَرَادَ بِالصَّاحِبِ: وَطْبُ اللَّبَنِ ، وَظُلْمُهُ إِيَّاهُ: أَنْ يَسْقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ زُبْدُهُ .
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هُوَ أَظْلَمُ مِنْ حَيَّةٍ ، لِأَنَّهَا تَأْتِي الْحَفْرَ الَّذِي لَمْ تَحْفِرْهُ فَتَسْكُنُهُ ، وَيُقَالُ: قَدْ ظَلَمَ الْمَاءُ الْوَادِي: إِذَا وَصَلَ مِنْهُ إِلَى مَكَانٍ لَمْ يَكُنْ يَصِلُ إِلَيْهِ فِيمَا مَضَى . فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي تَخْصِيصِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ بِالنَّهْيِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا أَرَادَ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ لَهَا ثِقَلٌ مِنْ بَيْنِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ ، فَلَمَّا أَكَلَ مِنْهَا ، قِيلَ: اخْرُجْ إِلَى الدَّارِ الَّتِي تَصْلُحُ لِمَا يَكُونُ مِنْكَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ .
أَزَلَّهُمَا بِمَعْنَى: اسْتَزَلَّهُمَا ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: (فَأَزَالُهُمَا) ، أَرَادَ: نَحَّاهُمَا . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَمَّا كَانَ مَعْنَى اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ اثْبُتَا فِيهَا ، فَثَبَتَا; قَابَلَ حَمْزَةُ الثَّبَاتَ بِالزَّوَالِ الَّذِي يُخَالِفُهُ ، وَيُقَوِّي قِرَاءَتَهُ: فَأَخْرَجَهُمَا .
وَالشَّيْطَانُ: إِبْلِيسُ ، وَأُضِيفَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ السَّبَبُ . وَفِي هَاءِ (عَنْهَا) ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى الْجَنَّةِ . وَالثَّانِي: تَرْجِعُ إِلَى الطَّاعَةِ . وَالثَّالِثُ: تَرْجِعُ إِلَى الشَّجَرَةِ . فَمَعْنَاهُ: فَأَزَلَّهُمَا بِزِلَّةٍ صَدَرَتْ عَنِ الشَّجَرَةِ .
وَفِي كَيْفِيَّةِ إِزْلَالِهِ لَهُمَا ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ احْتَالَ حَتَّى دَخَلَ إِلَيْهِمَا الْجَنَّةَ ، وَكَانَ الَّذِي أَدْخَلَهُ الْحَيَّةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، وَنَادَاهُمَا ، قَالَهُ الْحَسَنُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَسْوَسَ إِلَيْهِمَا ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُخَاطِبَةٍ [ ص: 68 ] وَلَا مُشَاهَدَةٍ ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ ، وَفِيهِ بَعْدُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَجْوَدُ: أَنْ يَكُونَ خَاطَبَهَا ، لِقَوْلِهِ: (وَقَاسَمَهُمَا) .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْصِيَةِ آَدَمَ بِالْأَكْلِ ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ نُهِيَ عَنْ شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا ، فَأَكَلَ مِنْ جِنْسِهَا . وَقَالَ آخَرُونَ: تَأَوَّلَ الْكَرَاهَةَ فِي النَّهْيِ دُونَ التَّحْرِيمِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ الْهُبُوطُ بِضَمِّ الْهَاءِ: الِانْحِدَارُ مِنْ عُلُوٍّ ، وَبِفَتْحِ الْهَاءِ: الْمَكَانُ الَّذِي يَهْبِطُ فِيهِ ، وَإِلَى مَنِ انْصَرَفَ هَذَا الْخِطَابُ؟ فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ انْصَرَفَ إِلَى آَدَمَ وَحَوَّاءَ وَالْحَيَّةِ ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: إِلَى آَدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ وَالْحَيَّةِ ، حَكَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: إِلَى آَدَمَ وَإِبْلِيسَ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالرَّابِعُ: إِلَى آَدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالْخَامِسُ: إِلَى آَدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتِهِم َا ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ . وَالسَّادِسُ: إِلَى آَدَمَ وَحَوَّاءَ فَحَسْبُ ، وَيَكُونُ لَفْظُ الْجَمْعِ وَاقِعًا عَلَى التَّثْنِيَةِ ، كَقَوْلِهِ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 78 ] ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ، وَهُوَ الْعِلَّةُ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ أَيْضًا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ أُهْبِطُوا جُمْلَةً أَوْ مُتَفَرِّقِينَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أُهْبِطُوا جُمْلَةً ، لَكِنَّهُمْ نَزَلُوا فِي بِلَادٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، قَالَهُ كَعْبٌ ، وَوَهْبٌ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أُهْبِطُوا مُتَفَرِّقِينَ ، فَهَبَطَ إِبْلِيسُ قَبْلَ آَدَمَ ، وَهَبَطَ آَدَمُ بِالْهِنْدِ ، وَحَوَّاءُ بِجَدَّةٍ ، وَإِبْلِيسُ بِالْأَبُلَّةِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أُهْبِطَتِ الْحَيَّةُ بِنَصِيبَيْنِ ، قَالَ: وَأَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى جِبْرِيلُ بِإِخْرَاجِ آَدَمَ ، فَقَبَضَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخَلَّصَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَبَضَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ ارْفُقْ بِي . قَالَ جِبْرِيلُ: إِنِّي لَا أَرْفُقُ بِمَنْ عَصَى اللَّهَ ، فَارْتَعَدَ آَدَمُ وَاضْطَرَبَ ، وَذَهَبَ كَلَامُهُ ، وَجِبْرِيلُ يُعَاتِبُهُ فِي مَعْصِيَتِهِ ، وَيُعَدِّدُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، قَالَ: [ ص: 69 ] وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ ضَحْوَةً ، وَاخْرُجْ مِنْهَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، فَمَكَثَ فِيهَا نِصْفَ يَوْمٍ ، خَمْسَمِائَةِ عَامٍ مِمَّا يَعُدُّ أَهْلُ الدُّنْيَا .
وَفِي الْعَدَاوَةِ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَرِّيَّةَ بَعْضِهِمْ أَعْدَاءٌ لِبَعْضٍ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي: أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لِآَدَمَ وَحَوَّاءَ ، وَهَمَا لَهُ عَدُوٌّ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
وَفِي الْمُسْتَقَرِّ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقُبُورُ ، حَكَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: مَوْضِعٌ الِاسْتِقْرَارِ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَابْنُ زَيْدٍ ، وَالزَّجَّاجُ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَهُوَ أَصَحُّ .
وَالْمَتَاعُ: الْمَنْفَعَةُ . وَالْحِينُ: الزَّمَانُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (إِلَى حِينٍ) ، أَيْ: إِلَى فِنَاءِ الْأَجَلِ بِالْمَوْتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
تَلَقَّى: بِمَعْنَى أَخَذَ ، وَقَبِلَ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ [وَسَيَتَقْبِلَه ُ ] بِكَلَامٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَفَعَلَ [ذَلِكَ آَدَمُ ] فَتَابَ عَلَيْهِ . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: " فَتَلَقَّى آدَمَ " بِالنَّصْبِ ، " كَلِمَاتٌ " : بِالرَّفْعِ; عَلَى أَنَّ الْكَلِمَاتِ هِيَ الْفَاعِلَةُ .
وَفِي الْكَلِمَاتِ أَقْوَالٌ .
أَحَدُهَا: أَنَّهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 23 ] . قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَابْنُ زَيْدٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: أَيْ: رَبِّ; أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قَالَ: بَلَى . قَالَ: أَلَمْ تَنْفُخْ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ؟ قَالَ: بَلَى ، قَالَ: أَلَمْ تَسْبِقْ رَحْمَتُكَ إِلَيَّ قَبْلَ غَضَبِكَ؟ قَالَ: بَلَى . قَالَ: أَلَمْ [ ص: 70 ] تُسْجِدْ لِي مَلَائِكَتَكَ ، وَتُسْكِنِّي جَنَّتَكَ؟ قَالَ: بَلَى . قَالَ: أَيْ: رَبِّ [أَرَأَيْتَ ] إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ ، أَرَاجِعِي أَنْتَ إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ . حَكَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ، إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ، اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي ، فَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ، [اللَّهُمَّ ] لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَدْ ذُكِرَتْ أَقْوَالٌ مِنْ كَلِمَاتِ الِاعْتِذَارِ تُقَارِبُ هَذَا الْمَعْنَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَابَ عَلَيْهِ .
أَصْلُ التَّوْبَةِ: الرُّجُوعُ ، فَالتَّوْبَةُ مِنْ آَدَمَ: رُجُوعُهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ ، وَهِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: رُجُوعُهُ عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ ، وَالثَّوَابُ الَّذِي كُلَّمَا تَكَرَّرَتْ تَوْبَةُ الْعَبْدِ تَكَرَّرَ قَبُولُهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ تُذْكَرْ حَوَّاءُ فِي التَّوْبَةِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِرْ لَهَا ذِكْرٌ ، لَا أَنَّ تَوْبَتَهَا لَمْ تُقْبَلْ . وَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا كَانَ مَعْنَى فِعْلِ الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا; جَازَ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدُهُمَا وَيَكُونُ الْمَعْنَى لَهُمَا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [ التَّوْبَةِ: 63 ] وَقَوْلُهُ: فَلا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [ طه: 117 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ :
فِي إِعَادَةِ ذِكْرِ الْهُبُوطِ- وَقَدْ تَقَدَّمَ- قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أُعِيدَ لِأَنَّ آَدَمَ أُهْبِطَ إِهْبَاطَيْنِ ، أَحَدُهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ ، وَالثَّانِي مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ . وَأَيُّهُمَا الْإِهْبَاطُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآَيَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا كَرَّرَ الْهُبُوطَ تَوْكِيدًا .
[ ص: 71 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِمَّا قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ "إِنَّ" الَّتِي لِلْجَزَاءِ ، ضُمَّتْ إِلَيْهَا "مَا" وَالْأَصْلُ فِي اللَّفْظِ "إِنَّ مَا" مَفْصُولَةٌ ، وَلَكِنَّهَا مُدْغَمَةٌ ، وَكُتِبَتْ عَلَى الْإِدْغَامِ ، فَإِذَا ضُمَّتْ "مَا" إِلَى "إِنْ" لَزِمَ الْفِعْلُ النُّونَ الثَّقِيلَةَ أَوِ الْخَفِيفَةَ . وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ النُّونُ لِأَنَّ "مَا" تَدْخُلُ مُؤَكَّدَةً ، وَدَخَلَتِ النُّونُ مُؤَكَّدَةً أَيْضًا ، كَمَا لَزِمَتِ اللَّامُ النُّونَ فِي الْقَسَمِ فِي قَوْلِكَ: وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ ، وَجَوَابُ الْجَزَاءِ الْفَاءُ .
وَفِي الْمُرَادِ بِـ "الْهُدَى" هَاهُنَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الرَّسُولُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُقَاتِلٌ .
وَالثَّانِي: الْكِتَابُ ، حَكَاهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ .
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: فَلَا خَوْفَ: بِفَتْحِ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ . وَالْمَعْنَى: فَلَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ الْعَذَابِ ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ . وَالْخَوْفُ لِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ ، وَالْحُزْنُ لِأَمْرٍ مَاضٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فِي مَعْنَى الْآَيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْعَلَامَةُ ، فَمَعْنَى آَيَةٍ: عَلَامَةٌ لِانْقِطَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا ، وَالَّذِي بَعْدَهَا ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا أَبْلِغْ لَدَيْكَ بَنِي تَمِيمٍ بِآَيَةِ مَا يُحِبُّونَ الطَّعَامَا
وَقَالَ النَّابِغَةُ:
تَوَهَّمْتُ آَيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامِ سَابِعُ
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ آَيَةً ، لِأَنَّهَا جَمَاعَةُ حُرُوفٍ مِنَ الْقُرْآَنِ ، وَطَائِفَةٌ مِنْهُ . قَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ : يُقَالُ: خَرَجَ الْقَوْمُ بِآَيَاتِهِمْ ، أَيْ: بِجَمَاعَتِهِمْ . وَأَنْشَدُوا:
خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلُنَا بِآَيَاتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا
[ ص: 72 ] . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ آَيَةً ، لِأَنَّهَا عَجَبٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ قَارِئَهَا يَسْتَدِلُّ إِذَا قَرَأَهَا عَلَى مُبَايَنَتِهَا كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: فَلَانٌ آَيَةً مِنَ الْآَيَاتِ; أَيْ: عَجَبٌ مِنَ الْعَجَائِبِ . ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآَيَاتِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: آيَاتُ الْكُتُبِ الَّتِي تُتْلَى . وَالثَّانِي: مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ ، . وَالثَّالِثُ: الْقُرْآَنُ . وَالرَّابِعُ: دَلَائِلُ اللَّهِ فِي مَصْنُوعَاتِهِ . وَأَصْحَابُ النَّارِ: سُكَّانُهَا ، سُمُّوا أَصْحَابًا ، لِصُحْبَتِهِمْ إِيَّاهَا بِالْمُلَازَمَة ِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (15)
صــ73 إلى صــ 78
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ .
إِسْرَائِيلُ: هُوَ يَعْقُوبُ ، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَعْنَاهُ: عَبْدُ اللَّهِ . وَقَدْ لَفَظَتْ بِهِ الْعَرَبُ عَلَى أَوْجُهٍ ، فَقَالَتْ: إِسْرَائِلُ ، وَإِسْرَالُ ، وَإِسْرَائِيلُ ، وَإِسْرَائِينُ .
قَالَ أُمَيَّةُ:
إِنَّنِي زَارِدُ الْحَدِيدِ عَلَى النَّا سِ دُرُوعًا سَوَابِغَ الْأَذْيَالِ لَا أَرَى مَنْ يُعِينُنِي فِي حَيَاتِي
غَيْرُ نَفْسِي إِلَّا بَنِي إِسْرَالِ
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ صَادَ ضَبًّا ، فَأَتَى بِهِ أَهْلَهُ:
يَقُولُ أَهْلُ السُّوقِ لَمَّا جِينَا: هَذَا وَرَبِّ الْبَيْتِ إِسْرَائِينَا
أَرَادَ: هَذَا مِمَّا مُسِخَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ .
وَالنِّعْمَةُ: الْمِنَّةُ ، مِثْلُهَا: النَّعْمَاءُ . وَالنَّعْمَةُ ، بِفَتْحِ النُّونِ: التَّنَعُّمُ ، وَأَرَادَ بِالنِّعْمَةِ: النِّعَمُ فَوَحَّدَهَا ، لِأَنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِالْوَاحِدِ مِنَ الْجَمِيعِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ التَّحْرِيمُ: أَيْ: ظُهَرَاءَ .
وَفِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهَا مَا اسْتَوْعَدَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي [ ص: 73 ] فِيهَا صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى آَبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ إِذْ أَنْجَاهُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ ، وَأَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ ، وَأَعْطَاهُمُ التَّوْرَاةُ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ .
وَإِنَّمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا أَعْطَى آَبَاءَهُمْ ، لِأَنَّ فَخْرَ الْآَبَاءِ فَخْرٌ لِلْأَبْنَاءِ ، وَعَارُ الْآَبَاءِ عَارٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا جَمْعُ نِعْمَةٍ عَلَى تَصْرِيفِ الْأَحْوَالِ .
وَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِهَا: شُكْرُهَا ، إِذْ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ فَمَا ذَكَرَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا .
قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: أَوْفَيْتُ ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: وَفَيْتُ ، بِغَيْرِ أَلِفٍ .
قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ: وَفَى بِالْعَهْدِ ، وَأَوْفَى بِهِ وَأَنْشَدَ:
أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ كَمَا وَفَّى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ: وَفَيْتُ بِالْعَهْدِ ، وَأَوْفَيْتُ بِهِ ، وَأَوْفَيْتُ الْكَيْلَ لَا غَيْرَ .
وَفِي الْمُرَادِ بِعَهْدِهِ: أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ ، وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا [ الْمَائِدَةِ: 13 ] قَالَهُ قَتَادَةُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُدْخِلُكُمُ الْجَنَّةَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أَيْ: خَافُونِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ يَعْنِي الْقُرْآَنَ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ يَعْنِي التَّوْرَاةَ أَوِ الْإِنْجِيلَ ، فَإِنَّ الْقُرْآَنَ يُصَدِّقُهُمَا أَنَّهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَيُوَافِقُهُمَ ا فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
[ ص: 74 ] وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ .
إِنَّمَا قَالَ: أَوَّلُ كَافِرٍ ، لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ إِلَى الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ بَعْدَ ذَلِكَ ، إِذِ الْمُبَادِرُ لَمْ يَتَأَمَّلِ الْحُجَّةَ ، وَإِنَّمَا بَادَرَ بِالْعِنَادِ ، فَحَالُهُ أَشَدُّ . وَقِيلَ: وَتَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ بَعْدَ أَنْ آَمَنَ ، وَالْخِطَابُ لِرُؤَسَاءِ الْيَهُودِ .
وَفِي هَائِهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى الْمَنْزِلِ ، قَالَهُ ابْنُ مسُعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى مَا مَعَهُمْ ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَتَمُوا وَصْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَعَهُمْ ، فَقَدْ كَفَرُوا بِهِ ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ .
أَيْ: لَا تَسْتَبْدِلُوا [بِآَيَاتِي ] ثَمَنًا قَلِيلًا . وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا . وَالثَّانِي: بَقَاءُ رِئَاسَتِهِمْ عَلَيْهِمْ . وَالثَّالِثُ: أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الدِّينِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .
تَلْبِسُوا: بِمَعْنَى تَخْلِطُوا . يُقَالُ: لَبَّسْتُ الْأَمْرَ عَلَيْهِمْ ، أُلْبِسُهُ: إِذَا عَمَيْتُهُ عَلَيْهِمْ ، وَتَخْلِيطُهُمْ : أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ مِنَ الْعَرَبِ .
وَفِي الْمُرَادِ بِالْحَقِّ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ .
يُرِيدُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ ، وَهِيَ هَاهُنَا اسْمُ جِنْسٍ ، وَالزَّكَاةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الزَّكَاءِ ، وَهُوَ النَّمَاءُ ، وَالزِّيَادَةُ . يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ يَزْكُو زُكَاءً . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : مَعْنَى الزَّكَاةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ ، فَسُمِّيَتْ زَكَاةً ، لِأَنَّهَا تَزِيدُ فِي الْمَالِ الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ ، وَتُوَفِّرُهُ ، وَتَقِيهِ مِنَ الْآَفَاتِ . وَيُقَالُ: هَذَا أَزْكَى مِنْ ذَاكَ ، أَيْ: أَزْيَدُ فَضْلًا مِنْهُ .
[ ص: 75 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ .
أَيْ: صَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالصَّحَابَةَ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَقِيلَ: إِنَّمَا ذَكَرَ الرُّكُوعَ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِمْ رُكُوعٌ ، وَالْخِطَابُ لِلْيَهُودِ . وَفِي هَذِهِ الْآَيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ ، كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِقَرَابَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي السِّرِّ: اثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ . وَالْأَلِفُ فِي "أتامرون" أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ ، وَمَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ .
وَفِي "الْبَرِّ" هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ التَّمَسُّكُ بِكِتَابِهِمْ ، كَانُوا يَأْمُرُونَ بِاتِّبَاعِهِ وَلَا يَقُومُونَ بِهِ . وَالثَّانِي: اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رُوِيَ الْقَوْلَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: الصَّدَقَةُ ، كَانُوا يَأْمُرُونَ بِهَا ، وَيَبْخَلُونَ . ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَنْسَوْنَ أَيْ: تَتْرُكُونَ . وَفِي "الْكِتَابِ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ التَّوْرَاةُ ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْقُرْآَنُ ، فَلَا يَكُونُ الْخِطَابُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلْيَهُودِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ الْأَصْلُ فِي الصَّبْرِ: الْحَبْسُ ، فَالصَّابِرُ حَابِسٌ لِنَفْسِهِ عَنِ الْجَزَعِ . وَسُمِّيَ الصَّائِمُ صَابِرًا لِحَبْسِهِ نَفْسَهُ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ ، وَالْمَصْبُورَة ُ: الْبَهِيمَةُ تُتَّخَذُ غَرَضًا . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ هَاهُنَا: الصَّوْمُ .
وَفِيمَا أُمِرُوا بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَرْكُ الْمَعَاصِي ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: عَدَمُ الرِّئَاسَةِ ، وَهُوَ خِطَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ ، وَوَجْهُ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ أَنَّهُ يُتْلَى فِيهَا مَا يُرَغِّبُ فِي الْآَخِرَةِ ، وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا .
[ ص: 76 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهَا فِي الْمُكَنَّى عَنْهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الصَّلَاةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالْجُمْهُورُ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْكَعْبَةُ وَالْقِبْلَةُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الصَّلَاةَ ، دَلَّتْ عَلَى الْقِبْلَةِ ، ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الِاسْتِعَانَةُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَاسْتَعِينُوا دَلَّ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ النَّحْوِيُّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَكَبِيرَةٌ قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: الْكَبِيرَةُ: الثَّقِيلَةُ ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [ الشُّورَى: 13 ] أَيْ: ثِقَلٌ ، وَالْخُشُوعُ فِي اللُّغَةِ: التَّطَامُنُ وَالتَّوَاضُعُ ، وَقِيلَ: السُّكُونُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .
الظَّنُّ هَاهُنَا: بِمَعْنَى الْيَقِينِ ، وَلَهُ وُجُوهٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ "الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ" .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ يَعْنِي: عَلَى عَالِمِي زَمَانِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَابْنُ زَيْدٍ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ .
قَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَزْعُمُ أَنَّ آَبَاءَهَا الْأَنْبِيَاءَ تَشْفَعُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَآَيَسَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآَيَةِ مِنْ ذَلِكَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْمًا [فِيهِ ] إِضْمَارٌ ، تَقْدِيرُهُ: اتَّقُوا عَذَابَ يَوْمٍ ، أَوْ مَا فِي يَوْمٍ . وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَ"تَجْزِي" بِمَعْنَى تَقْضِي . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ: جَزَى الْأَمْرَ عَنِّي يَجْزِي ، بِغَيْرِ هَمْزٍ ، أَيْ: قَضَى عَنِّي ، وَأَجْزَأَنِي بُجْزِئُنِي ، مَهْمُوزٌ ، أَيْ: كَفَانِي .
قَوْلُهُ تَعَالَى: نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ قَالُوا الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ هَاهُنَا: النَّفْسُ الْكَافِرَةُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ .
[ ص: 77 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَلَا تَقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ) .
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِالتَّاءِ ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ ، إِلَّا أَنَّ قَتَادَةَ فَتَحَ الْيَاءَ ، وَنَصَبَ الشَّفَاعَةَ ، لِيَكُونَ الْفِعْلُ لِلَّهِ تَعَالَى . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ ، فَلِأَنَّ الِاسْمَ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ هَذَا الْفِعْلَ مُؤَنَّثٌ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُلْحِقَ الْمُسْنَدَ أَيْضًا عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ ، فَلِأَنَّ التَّأْنِيثَ فِي الِاسْمِ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ ، فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى ، كَمَا أَنَّ الْوَعْظَ وَالْمَوْعِظَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ . وَفِي الْآَيَةِ إِضْمَارٌ ، تَقْدِيرُهُ: لَا يُقْبَلُ مِنْهَا فِيهِ شَفَاعَةٌ . وَالشَّفَاعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشَّفْعِ الَّذِي يُخَالِفُ الْوِتْرَ ، وَذَلِكَ أَنَّ سُؤَالَ الشَّفِيعِ يَشْفَعُ سُؤَالُ الْمَشْفُوعِ لَهُ .
فَأَمَّا "الْعَدْلُ" فَهُوَ الْفِدَاءُ ، وَسُمِّيَ عَدْلًا ، لِأَنَّهُ يُعَادِلُ الْمُفَدَّى . وَاخْتَلَفَ اللُّغَوِيُّونَ : هَلِ "الْعَدْلُ" وَ"الْعِدْلُ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا ، يَخْتَلِفَانِ ، أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَدْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ: مَا عَادَلَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَالْعِدْلُ بِكَسْرِهَا: مَا عَادَلَ الشَّيْءَ مِنْ جِنْسِهِ ، فَهُوَ الْمَثَلُ ، تَقُولُ: عِنْدِي عَدْلُ غُلَامِكَ ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ: إِذَا أَرَدْتَ قِيمَتَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَعِنْدِي عِدْلُ غُلَامِكَ ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ: إِذَا كَانَ غُلَامٌ يَعْدِلُ غُلَامًا . وَحَكَى الزَّجَّاجُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْعَدْلَ وَالْعِدْلَ فِي مَعْنَى الْمَثَلِ ، وَأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَثَلُ مِنَ الْجِنْسِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أَيْ: يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرُوا إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ ، وَهَذِهِ النِّعَمُ عَلَى آَبَائِهِمْ كَانَتْ . وَفِي آَلِ فِرْعَوْنَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَهْلُ مِصْرَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَهْلُ بَيْتِهِ خَاصَّةً ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ . وَالثَّالِثُ: أَتْبَاعُهُ عَلَى دِينِهِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ . وَهَلِ الْآَلُ وَالْأَهْلُ بِمَعْنًى ، أَوْ يَخْتَلِفَانِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: وَقَدْ شَرَحْتُ مَعْنَى الْآَلِ فِي كِتَابِ "النَّظَائِرِ" وَفِرْعَوْنُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ ، وَقِيلَ: هُوَ لَقَبُهُ . وَفِي اسْمِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: الْوَلِيدُ بْنُ [ ص: 78 ] مُصْعَبٍ ، قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ . وَالثَّانِي: فَيَطُوسُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّانِ ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ . وَالرَّابِعُ: مُغِيثٌ ، ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسُومُونَكُمْ أَيْ: يُوَلُّونَكُمْ . يُقَالُ: فَلَانٌ يَسُومُكَ خَسْفًا ، أَيْ: يُوَلِّيكَ ذُلًّا وَاسْتِخْفَافًا . وَسُوءُ الْعَذَابِ: شَدِيدُهُ . وَكَانَ الزَّجَّاجُ يَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ، وَأَبَى هَذَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَقَالَ: قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي مَوْضِعٍ آَخَرَ ، فَقَالَ: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [ إِبْرَاهِيمَ: 6 ] وَإِنَّمَا سُوءُ الْعَذَابِ: اسْتِخْدَامُهُم ْ فِي أَصْعَبِ الْأَعْمَالِ ، وَقَالَ: الْفَرَّاءُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي طُرِحَتْ فِيهِ الْوَاوُ ، تَفْسِيرٌ لِصِفَاتِ الْعَذَابِ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْوَاوُ ، يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَدْ مَسَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ غَيْرُ الذَّبْحِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يُعَذِّبُونَكُم ْ بِغَيْرِ الذَّبْحِ وَبِالذَّبْحِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ أَيْ: يَسْتَبِقُونَ نِسَاءَكُمْ ، أَيْ: بَنَاتَكُمْ . وَإِنَّمَا اسْتَبَقُوا نِسَاءَهُمْ لِلِاسْتِذْلَال ِ وَالْخِدْمَةِ .
وَفِي الْبَلَاءِ هَهُنَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَأَبُو مَالِكٍ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَالزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ النِّقْمَةُ ، رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ "ذَا" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمْ عَائِدًا عَلَى سَوْمِهِمْ سُوءَ الْعَذَابِ ، وَذَبْحِ أَبْنَائِهِمْ وَاسْتِحْيَاءِ نِسَائِهِمْ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُعُودُ عَلَى النَّجَاةِ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ ، أَنَّ الْكَهَنَةَ قَالَتْ لِفِرْعَوْنَ: سَيُولَدُ الْعَامُ بِمِصْرَ غُلَامٌ يَكُونُ هَلَاكُكَ عَلَى يَدَيْهِ ، فَقَتَلَ الْأَبْنَاءَ . قَالَ الزَّجَّاجُ: فَالْعَجَبُ مِنْ حُمْقِ فِرْعَوْنَ ، إِنْ كَانَ الْكَاهِنُ عِنْدَهُ صَادِقًا ، فَمَا يَنْفَعُ الْقَتْلُ؟! وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا; فَمَا مَعْنَى الْقَتْلِ؟!
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (16)
صــ79 إلى صــ 84
قوله تعالى: وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون الفرق الفصل بين الشيئين و"بكم" بمعنى "لكم" . وإنما ذكر آل فرعون دونه ، لأنه [ ص: 79 ] قد علم كونه فيهم . وفي قوله تعالى: وأنتم تنظرون قولان . أحدهما: أنه من نظر العين ، معناه: وأنتم ترونهم يغرقون . والثاني: أنه بمعنى: العلم ، كقوله تعالى: ألم تر إلى ربك كيف مد الظل [ الفرقان: 45 ] قاله الفراء .
الإشارة إلى قصتهم .
روى السدي عن أشياخه: أن الله تعالى أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ، وألقى على القبط الموت ، فمات بكر كل رجل منهم ، فأصبحوا يدفنونه ، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس ، قال عمرو بن ميمون: فلما خرج موسى بلغ ذلك فرعون ، فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك ، ليلتئذ . قال أبو السليل: لما انتهى موسى إلى البحر قال: هيه أبا خالد ، فأخذه أفكل ، يعني: رعدة ، قال مقاتل: تفرق الماء يمينا وشمالا كالجبلين المتقابلين ، وفيهما كوى ينظر كل سبط إلى الآخر . قال السدي: فلما رآه فرعون متفرقا قال: ألا ترون البحر فرق مني ، فانفتح لي؟! فأتت خيل فرعون فأبت أن تقتحم ، فنزل جبريل على ماذيانة ، فتشامت الحصن ريح الماذيانة ، فاقتحمت في إثرها ، حتى إذا هم أولهم أن يخرج ، ودخل آخرهم أمر البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً .
قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: "وَعَدْنَا" بِغَيْرِ أَلِفٍ هَاهُنَا ، وَفِي (الْأَعْرَافِ) وَ(طَهَ) وَوَافَقَهُمَا أَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ فِي (الْبَقَرَةِ) خَاصَّةً . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ "وَاعَدْنَا" بِأَلِفٍ . وَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: إِفْرَادُ الْوَعْدِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ لَمَّا قَبِلَ مُوسَى وَعْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، صَارَ ذَلِكَ مُوَاعَدَةً بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى . وَمِثْلُهُ: لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [ الْبَقَرَةِ: 235 ] .
وَمَعْنَى الْآَيَةِ: وَعَدْنَا مُوسَى تَتِمَّةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، أَوِ انْقِضَاءِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً . وَمُوسَى: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ ، أَصْلُهُ بِالْعِبْرَانِي َّةِ: مُوشَا ، فَمُو: هُوَ الْمَاءُ ، وَشَا: هُوَ الشَّجَرُ ، لِأَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَ [ ص: 80 ] الْمَاءِ وَالشَّجَرِ ، فَعَرَّبَ بِالسِّينِ . وَلِمَاذَا كَانَ هَذَا الْوَعْدُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: لِأَخْذِ التَّوْرَاةِ .
وَالثَّانِي: لِلتَّكْلِيمِ . وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا ذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَانَ الْوَعْدُ لِإِعْطَاءِ التَّوْرَاةِ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا ذُو الْحِجَّةِ وَعَشْرٌ مِنَ الْمُحَرَّمِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: كَانَ الْوَعْدُ لِلتَّكْلِيمِ ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ اللَّيَالِي دُونَ الْأَيَامِ ، لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ التَّأْرِيخُ بِاللَّيَالِي ، لِأَنَّ أَوَّلَ شَهْرٍ لَيْلُهُ ، وَاعْتِمَادُ الْعَرَبِ عَلَى الْأَهِلَّةِ ، فَصَارَتِ الْأَيَّامُ تَبَعًا لِلَّيَالِي . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ: إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّيَالِي ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ هَذِهِ الْأَيَّامَ وَيُوَاصِلُهَا بِاللَّيَالِي ، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ اللَّيَالِيَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مِنْ بَعْدِهِ ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ انْطِلَاقِهِ إِلَى الْجَبَلِ .
الْإِشَارَةُ إِلَى اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ .
رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّهُ لَمَّا انْطَلَقَ مُوسَى ، وَاسْتَخْلَفَ هَارُونَ ، قَالَ هَارُونُ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَ الْغَنِيمَةَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ ، وَإِنَّ حُلِيَّ الْقِبْطِ غَنِيمَةٌ فَاجْمَعُوهُ وَاحْفُرُوا لَهُ حَفِيرَةً ، فَادْفِنُوهُ ، فَإِنْ أَحَلَّهُ مُوسَى فَخُذُوهُ ، وَإِلَّا كَانَ شَيْئًا لَمْ تَأْكُلُوهُ ، فَفَعَلُوا . قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَ جِبْرِيلُ قَدْ أَتَى إِلَى مُوسَى لِيَذْهَبَ بِهِ إِلَى رَبِّهِ ، فَرَآَهُ السَّامِرِيُّ ، فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: إِنَّ لِهَذَا شَأْنًا ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ حَافِرِ الْفَرَسِ ، فَقَفَهَا فِي الْحَفِيرَةِ ، فَظَهَرَ الْعِجْلُ . وَقِيلَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ أَمَرَهُمْ بِإِلْقَاءِ ذَلِكَ الْحُلِيِّ ، وَقَالَ إِنَّمَا طَالَتْ غَيْبَةُ مُوسَى عَنْكُمْ لِأَجْلِ مَا مَعَكُمْ مِنَ الْحُلِيِّ ، فَاحْفُرَا لَهَا حَفِيرَةً وَقَرِّبُوهُ إِلَى اللَّهِ ، يَبْعَثْ لَكُمْ نَبِيَّكُمْ ، فَإِنَّهُ كَانَ عَارِيَةً ، ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ .
وَفِي سَبَبِ اتِّخَاذِ السَّامِرِيِّ عِجْلًا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّامِرِيَّ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، . وَالثَّانِي: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا مَرُّوا عَلَى قَوْمٍ [ ص: 81 ] يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ ، أَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ ، فَلَمَّا سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ; أَخْرَجَ السَّامِرِيُّ لَهُمْ فِي غَيْبَتِهِ عِجْلًا لِمَا رَأَى مِنِ اسْتِحْسَانِهِم ْ ذَلِكَ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
وَفِي كَيْفِيَّةِ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّامِرِيَّ كَانَ صَوَّاغًا ، فَصَاغَهُ وَأَلْقَى فِيهِ الْقَبْضَةَ ، قَالَهُ عَلَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ حَفَرُوا حَفِيرَةً ، وَأَلْقَوْا فِيهَا حُلِيَّ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَعُوَارِيهِمْ تُنَزُّهًا عَنْهَا ، فَأَلْقَى السَّامِرِيُّ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ ، فَصَارَ عِجْلًا . رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ لَحْمًا وَدَمًا وَجَسَدًا ، فَقَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى قَدْ جَاءَ ، وَأَخْطَأَ مُوسَى الطَّرِيقَ فَعَبَدُوهُ وَدَفَنُوا حَوْلَهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ . وَفِي الْفُرْقَانِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ النَّصْرُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، فَيَكُونُ الْفُرْقَانُ نَعْتًا لِلتَّوْرَاةِ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْكِتَابُ ، فَكَرَّرَهُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ . قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
فَأَلْقَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا
وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
أَقْوَى وَأَفْقَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ
هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ فَرَقَ الْبَحْرَ لَهُمْ ، ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ ، وَالزَّجَّاجُ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ الْقُرْآَنُ . وَمَعْنَى الْكَلَامِ: لَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ، وَمُحَمَّدًا الْفُرْقَانَ ، ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ ، وَهُوَ قَوْلُ قُطْرُبٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ ص: 82 ] الْقَوْمُ: اسْمٌ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٌ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٌ [ الْحُجُرَاتُ: 11 ] . وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي أُقَوْمٌ آَلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ؟!
وَإِنَّمَا سُمُّوا قَوْمًا ، لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ بِالْأُمُورِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كَانَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَكْسِرُونَ الْهَمْزَةَ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاسٍ وَلَا تَخْفِيفٍ . وَرَوَى الْيَزِيدِيُّ وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: (بَارِئِكُمْ) بِجَزْمِ الْهَمْزَةِ . رَوَى عَنْهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ: "بَارِئِكُمْ" مَهْمُوزَةً غَيْرَ مُثَقَّلَةٍ . وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: كَانَ أَبُو عُمَرَ يَخْتَلِسُ الْحَرَكَةَ فِي: "بَارِئِكُمْ" وَ: "يَأْمُرُكُمْ" وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَوَالَى فِيهِ الْحَرَكَاتُ ، فَيَرَى مِنْ سَمْعِهِ أَنَّهُ قَدْ أَسْكَنَ وَلَمْ يَسْكُنْ .
وَالْبَارِئُ: الْخَالِقُ . وَمَعْنَى فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ لِيَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ خُوطِبَ بِهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُلِّ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ لَمْ يَعْبُدْ لِيَقْتُلَ مَنْ عَبَدَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْعَابِدِينَ فَحَسْبُ ، أَمَرُوا أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ . وَفِيٌّ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ "ذَا" فِي "ذَلِكُمْ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْقَتْلِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى التَّوْبَةِ .
الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّتِهِمْ فِي ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالُوا لِمُوسَى: كَيْفَ يَقْتُلُ الْآَبَاءُ الْأَبْنَاءَ ، وَالْإِخْوَةُ الْإِخْوَةَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ظُلْمَةً لَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَقَالُوا: فَمَا آَيَةُ تَوْبَتِنَا؟ [ ص: 83 ] قَالَ أَنْ يَقُومَ السِّلَاحُ فَلَا يَقْتُلُ ، وَتُرْفَعَ الظُّلْمَةُ . فَقَتَلُوا حَتَّى خَاضُوا فِي الدِّمَاءِ ، وَصَاحَ الصِّبْيَانُ: يَا مُوسَى : الْعَفْوَ الْعَفْوَ . فَبَكَى مُوسَى ، فَنَزَلَتِ التَّوْبَةُ ، وَقَامَ السِّلَاحُ ، وَارْتَفَعَتِ الظُّلْمَةُ . قَالَ مُجَاهِدٌ: بَلَغَ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا . قَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَ الْقَتْلَ لِلْقَتِيلِ شَهَادَةً ، وَلِلْحَيِّ تَوْبَةً .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
فِي الْقَائِلِينَ لِمُوسَى ذَلِكَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ السَّبْعُونَ الْمُخْتَارُونَ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَاهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَأْخُذُ بِقَوْلِكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً; فَيَقُولُ هَذَا كِتَابِي . وَفِي "جَهْرَةً" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِمْ ، أَيْ: جَهَرُوا بِذَلِكَ الْقَوْلِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا الرُّؤْيَةُ الْبَيِّنَةُ ، أَيْ: أَرَنَاهُ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ عَنَّا بِشَيْءٍ ، يُقَالُ: فَلَانٌ يَتَجَاهَرُ بِالْمَعَاصِي ، أَيْ: لَا يَسْتَتِرُ مِنَ النَّاسِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ . وَمَعْنَى "الصَّاعِقَةِ" : مَا يُصْعَقُونَ مِنْهُ ، أَيْ: يَمُوتُونَ . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ مَاتُوا ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَمُوتُوا ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ ، فَقَالَ هُنَاكَ: فَلَمَّا أَفَاقَ وَقَالَ هَاهُنَا: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ وَالْإِفَاقَةُ لِلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ ، وَالْبَعْثِ لِلْمَيِّتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَقَعُ مَيِّتًا . وَالثَّانِي: يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إِلَى إِحْيَاءِ بَعْضٍ . وَالثَّالِثُ: تَنْظُرُونَ الْعَذَابَ كَيْفَ يَنْزِلُ بِكُمْ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ نَارٌ فَأَحْرَقَتْهُم ْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ ص: 84 ] (الْغَمَامَ): السَّحَابُ ، سُمِّيَ غَمَامًا ، لِأَنَّهُ يَغِمُّ السَّمَاءَ ، أَيْ: يَسْتُرُهَا ، وَكُلُّ شَيْءٍ غَطَّيْتَهُ فَقَدْ غَمَمْتَهُ ، وَهَذَا كَانَ فِي التِّيهِ . وَفِي الْمَنِّ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الَّذِي يَقَعُ عَلَى الشَّجَرِ فَيَأْكُلُهُ النَّاسُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالضَّحَّاكُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ التَّرَنْجَبِين ُ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ صَمْغُهُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يُشْبِهُ الرُّبَّ الْغَلِيظَ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ شَرَابٌ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ . وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ خُبْزُ الرُّقَاقِ مِثْلُ الذُّرَةِ ، أَوْ مِثْلُ النَّقِيِّ ، قَالَهُ وَهْبٌ . وَالسَّابِعُ: أَنَّهُ عَسَلٌ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . وَالثَّامِنُ: أَنَّهُ الزَّنْجَبِيلُ قَالَهُ السُّدِّيُّ .
وَفِي السَّلْوَى قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَائِرٌ ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُشْبِهُ السُّمَانَى ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ السُّمَانَى . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْعَسَلُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ، وَأَنْشَدَ:
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا ظَلَمُونَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا نَقَصُونَا وَضَرُّونَا ، بَلْ ضَرُّوا أَنْفُسَهُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ .
فِي الْقَائِلِ لَهُمْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُوسَى بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعِينَ سَنَةً . وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى . وَالْقَرْيَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَمْعِ ، وَمِنْهُ: قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ . وَالْمِقْرَاةُ: الْحَوْضُ يُجْمَعُ فِيهِ الْمَاءُ . وَفِي الْمُرَادِ بِ: هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا أَرِيحَا . قَالَ السُّدِّيُّ: وَأَرِيحَا: هِيَ أَرْضٌ بَيْنَ الْمَقْدِسِ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا قَرْيَةٌ مِنْ أَدَانِي قُرَى الشَّامِ ، قَالَهُ وَهْبٌ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (17)
صــ85 إلى صــ 90
[ ص: 85 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَحَدُ أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَهُوَ يُدْعَى: بَابَ حِطَّةٍ . وَقَوْلُهُ: (سُجَّدًا) أَيْ: رُكَّعًا . قَالَ وَهْبٌ: أَمَرُوا بِالسُّجُودِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى إِذْ رَدَّهُمْ إِلَيْهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُولُوا حِطَّةٌ وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ (حِطَّةً) بِالنَّصْبِ .
وَفِي مَعْنَى حِطَّةٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: اسْتَغْفِرُوا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهِيَ كَلِمَةٌ [أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوهَا ] فِي مَعْنَى الِاسْتِغْفَارِ ، مِنْ حَطَطْتُ ، أَيْ: حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا .
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهَا: قُولُوا: هَذَا الْأَمْرُ حَقٌّ كَمَا قِيلَ لَكُمْ ، ذَكَرَهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: فَيَكُونُ الْمَعْنَى: قُولُوا الَّذِي يَحُطُّ عَنْكُمْ خَطَايَاكُمْ . [وَهُوَ قَوْلُ: "إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" . ] .
وَلِمَاذَا أُمِرُوا بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ لِذُنُوبٍ رَكِبُوهَا فَقِيلَ: ( ادْخُلُوا الْقَرْيَةَ ) ، ( وَادْخُلُوا الْبَاب سُجَّدًا نَغْفِرُ لَكُمْ خطايكم ) قَالَهُ وَهْبٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَلُّوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ، فَقِيلَ: اهْبِطُوا مِصْرًا فَكَانَ أَوَّلُ مَا لَقِيَهُمْ أَرِيحَا ، فَأُمِرُوا بِدُخُولِهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ .
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَعَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ : (نَغْفِرُ لَكُمْ) بِالنُّونِ مَعَ كَسْرِ الْفَاءِ . وَقَرَأَ نَافِعٌ ، وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ (يَغْفِرُ) بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتَحِ الْفَاءِ . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ مَعَ فَتْحِ الْفَاءِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ .
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ ، عَزَّ وَجَلَّ ، أَمَرَهُمْ فِي دُخُولِهِمْ بِفِعْلٍ وَقَوْلٍ ، فَالْفِعْلُ السُّجُودُ ، وَالْقَوْلُ: حِطَّةٌ ، فَغَيَّرَ الْقَوْمُ الْفِعْلَ وَالْقَوْلَ .
[ ص: 86 ] فَأَمَّا تَغْيِيرُ الْفِعْلِ; فَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ دَخَلُوا مُتَزَحِّفِينَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ دَخَلُوا مِنْ قِبَلِ أَسْتَاهِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ دَخَلُوا مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى حُرُوفِ عُيُونِهِمْ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ دَخَلُوا مُسْتَلْقِينَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَأَمَّا تَغْيِيرُ الْقَوْلِ; فَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا مَكَانَ "حِطَّةٍ" حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: حِنْطَةٌ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَوَهْبٌ ، وَابْنُ زَيْدٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ فِيهَا شَعْرَةٌ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: حَبَّةُ حِنْطَةٍ مَثْقُوبَةٍ فِيهَا شُعَيْرَةٌ سَوْدَاءُ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: سَنْبَلَاثَا ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ .
فَأَمَّا الرِّجْزُ; فَهُوَ الْعَذَابُ ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ ، وَالزَّجَّاجُ . وَأَنْشَدُوا لِرُؤْيَةٍ:
حَتَّى وَقُمْنَا كَيْدَهُ بِالرِّجْزِ
وَفِي مَاهِيَّةِ هَذَا الْعَذَابُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ ظُلْمَةٌ وَمَوْتٌ ، مَاتَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا ، وَهَلَكَ سَبْعُونَ أَلْفًا عُقُوبَةً ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَصَابَهُمُ الطَّاعُونُ ، عُذِّبُوا بِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ مَاتُوا ، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الثَّلْجُ ، هَلَكَ بِهِ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
[ ص: 87 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ .
اسْتَسْقَى بِمَعْنَى: اسْتَدْعَى ذَلِكَ ، كَقَوْلِكَ: اسْتَنْصَرَ .
وَفِي الْحَجَرِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَجَرٌ مَعْرُوفٌ عَيْنٌ لِمُوسَى ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَعَطِيَّةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ ، وَمُقَاتِلٌ . وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ حَجَرًا مُرَبَّعًا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: كَانَ مِثْلَ رَأْسِ الثَّوْرِ ، قَالَهُ عَطِيَّةُ . وَالثَّالِثُ: مِثْلُ رَأْسِ الشَّاةِ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : هُوَ الَّذِي ذَهَبَ بِثِيَابِ مُوسَى ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَكَ: ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ ، فَلِي فِيهِ قُدْرَةٌ ، وَلَكَ فِيهِ مُعْجِزَةٌ ، فَكَانَ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ ضَرَبَهُ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِضَرْبِ أَيِّ: حَجَرٍ كَانَ ، وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ .
تَقْدِيرُ مَعْنَاهُ: فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ ، فَلَمَّا عَرَّفَ بِقَوْلِهِ: "فانفجرت" أَنَّهُ قَدْ ضَرَبَ ، اكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ الضَّرْبِ . وَمِثْلُهُ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ . [ الشُّعَرَاءِ: 63 ] قَالَهُ الْفَرَّاءُ . وَلَمَّا كَانَ الْقَوْمُ اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا ، أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُمُ اثْنَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا ، وَلِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ تَشَاحَنٌ فَسَلِمُوا بِذَلِكَ مِنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَعْثَوْا .
الْعَثْوُ: أَشَدُّ الْفَسَادِ ، يُقَالُ: عَثِيَ ، وَعَثَا ، وَعَاثَ . قَالَ ابْنُ الرِّقَاعِ
لَوْلَا الْحَيَاءُ وَأَنَّ رَأْسِيَ قَدْ عَثَا فِيهِ الْمَشِيبُ لَزُرْتُ أُمَّ الْقَاسِمِ
[ ص: 88 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ . أَيِ: الْزَمُوهَا ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الذِّلَّةُ وَالذُّلُّ: بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْجِزْيَةُ . وَفِي الْمَسْكَنَةِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْفَقْرُ وَالْفَاقَةُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ ، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: هِيَ فَقْرُ النَّفْسِ .
وَالثَّانِي: الْخُضُوعُ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَاءُوا أَيْ: رَجَعُوا . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْغَضَبِ .
وَقِيلَ إِلَى جَمِيعِ مَا أَلْزَمُوهُ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَغَيْرِهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ .
كَانَ نَافِعٌ يَهْمِزُ "النبيين" وَ"الانبياء" وَ"النُّبُوَّةَ" وَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ ، إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْأَحْزَابِ: تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ 53 إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ 50 . وَإِنَّمَا تَرَكَ الْهَمْزَ فِي هَذَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ لِاجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَبَاقِي الْقُرَّاءِ لَا يَهْمِزُونَ جَمِيعَ الْمَوَاضِعِ . قَالَ الزَّجَّاجَ: الْأَجْوَدُ تَرْكُ الْهَمْزِ . وَاشْتِقَاقُ النَّبِيِّ مِنْ: نَبَّأَ ، وَأَنْبَأَ ، أَيْ: أَخْبَرَ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ: نَبَا يَنْبُو: إِذَا ارْتَفَعَ ، فَيَكُونُ بِغَيْرِ هَمْزٍ: فَعِيلًا ، مِنَ الرِّفْعَةِ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَقْتُلُ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَمِائَةَ نَبِيٍّ ، ثُمَّ يُقِيمُونَ سُوقَ بَقْلِهِمْ فِي آَخِرِ النَّهَارِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (18)
صــ91 إلى صــ 96
قَوْلُهُ تَعَالَى: بِغَيْرِ الْحَقِّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: بِغَيْرِ جُرْمٍ ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَوْكِيدٌ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الصِّفَةِ لِقَتْلِهِمْ أَنَّهُ ظُلْمٌ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: [ ص: 91 ] رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ فَوَصَفَ حُكْمَهُ بِالْحَقِّ ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانُوا يَعْتَدُونَ الْعُدْوَانُ: أَشَدُّ الظُّلْمِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الِاعْتِدَاءُ: مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي كُلٍّ شَيْءٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا فِيهِمْ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِعِيسَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِمُوسَى ، وَعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ عِيسَى ، فَآَمَنُوا بِهِ وَعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ مُحَمَّدٌ ، وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْإِسْلَامَ ، كَقِسِّ بْنِ سَاعِدَةَ ، وَبُحَيْرَا ، وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، وَسَلْمَانَ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هَادُوا قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ هَادَوْا فِي اللُّغَةِ: تَابُوا . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْيَهُودَ سُمُّوا بِذَلِكَ ، لِقَوْلِ مُوسَى : هُدْنَا إِلَيْكَ ، وَالنَّصَارَى لِقَوْلِ عِيسَى: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ . وَقِيلَ سُمُّوا النَّصَارَى لِقَرْيَةٍ ، نَزَلَهَا الْمَسِيحُ ، اسْمُهَا: نَاصِرَةُ ، وَقِيلَ: لِتَنَاصُرِهِمْ .
فَأَمَّا "الصَّابِئُون " فَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْهَمْزِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآَنِ . وَكَانَ نَافِعٌ يَهْمِزُ كُلَّ الْمَوَاضِعِ . قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الصَّابِئِينَ: الْخَارِجُونَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ ، يُقَالُ: صَبَأَ فَلَانٌ: إِذَا خَرَجَ مِنْ دِينِهِ . وَصَبَأَتِ النُّجُومُ: إِذَا طَلَعَتْ [وَصَبَأَ نَابُهُ: إِذَا خَرَجَ ] .
وَفِي الصَّابِئِينَ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ [ ص: 92 ] أَحَدُهَا: أَنَّهُ صِنْفٌ مِنَ النَّصَارَى أَلْيَنُ قَوْلًا مِنْهُمْ ، وَهُمُ السَّائِحُونَ الْمُحَلِّقَةُ أَوْسَاطُ رُؤُوسِهِمْ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَوْمٌ بَيْنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ ، لَيْسَ لَهُمْ دِينٌ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
وَالرَّابِعُ: قَوْمٌ كَالْمَجُوسِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ .
وَالْخَامِسُ: فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَؤُونَ الزَّبُورَ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ .
وَالسَّادِسُ: قَوْمٌ يُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ ، وَيَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ ، وَيَقْرَؤُونَ الزَّبُورَ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
وَالسَّابِعُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَقَطْ ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَكِتَابٌ وَنَبِيٌّ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ آمَنَ فِي إِعَادَةِ ذِكْرِ الْإِيمَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ طَوَائِفَ مِنَ الْكُفَّارِ رَجَعَ قَوْلُهُ: (مَنْ آمَنَ) إِلَيْهِمْ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى مَنْ أَقَامَ عَلَى إِيمَانِهِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِيمَانَ الْأَوَّلَ نُطْقُ الْمُنَافِقِينَ بِالْإِسْلَامِ . وَالثَّانِي: اعْتِقَادُ الْقُلُوبِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَمِلَ صَالِحًا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقَامَ الْفَرَائِضَ .
فَصْلٌ
وَهَلْ هَذِهِ الْآَيَةُ مُحْكَمَةٌ أَمْ مَنْسُوخَةٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ فِي آَخَرِينَ ، وَقَدَّرُوا فِيهَا: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ، وَمَنْ آَمَنَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا . وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
الْخِطَابُ بِهَذِهِ الْآَيَةِ لِلْيَهُودِ . وَالْمِيثَاقُ: مِفْعَالٌ مِنَ التَّوَثُّقِ بِيَمِينٍ أَوْ عَهْدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُؤَكِّدُ الْقَوْلَ .
وَفِي هَذَا الْمِيثَاقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ ، فَكَرِهُوا الْإِقْرَارَ بِمَا فِيهَا ، فَرَفَعَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: أَعْطُوا اللَّهَ عَهْدًا لِيَعْمَلُنَّ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ ، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا مُوسَى قَرَءُوا مَا فِيهَا مِنَ التَّثْقِيلِ ، امْتَنَعُوا مِنْ أَخْذِهَا ، فَرَفَعَ الطُّورَ عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الرُّسُلِ وَتَابِعِيهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ . وَالثَّالِثُ: ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ أَيْضًا ، فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمِيثَاقُ يَوْمَ أَخَذَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظَهْرِ آَدَمَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الطَّوْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْجَبَلُ . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الطَّوْرُ: الْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِي َّةِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أُنْبِتَ مِنَ الْجِبَالِ فَهُوَ طُورٌ ، وَمَا لَمْ يَنْبُتْ فَلَيْسَ بِطُورٍ .
وَأَيُّ الْجِبَالِ هُوَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهُمَا: جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ فِلِسْطِينَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: جَبَلٌ نَزَلُوا بِأَصْلِهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: الْجَبَلُ الَّذِي تَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا رَفَعَ الْجَبَلَ عَلَيْهِمْ لِإِبَائِهِمُ التَّوْرَاةَ . وَقَالَ السُّدِّيُّ: لِإِبَائِهِمُ دُخُولَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ .
وَفِي الْمُرَادِ بِالْقُوَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: الْجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: الطَّاعَةُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّالِثُ: الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالرَّابِعُ: الصِّدْقُ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
[ ص: 94 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: اذْكُرُوا مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: ادْرُسُوا مَا فِيهِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَتَّقُونَ الْعُقُوبَةَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ: أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مِنْ بَعْدِ إِعْطَاءِ الْمَوَاثِيقِ لَتَأْخُذُنَّهُ بِجِدٍّ ، فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ بِالْعُقُوبَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ السَّبْتُ: الْيَوْمُ الْمَعْرُوفُ ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَمَعْنَى السَّبْتِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْقَطْعُ يُقَالُ: قَدْ سَبَتَ رَأْسَهُ: إِذَا حَلَقَهُ وَقَطَعَ الشَّعْرَ مِنْهُ ، وَيُقَالُ: نَعْلٌ سَبْتِيَّةٌ: إِذَا كَانَتْ مَدْبُوغَةً بِالْقَرْظِ مَحْلُوقَةَ الشَّعْرِ ، فَسُمِّيَ السَّبْتُ سَبْتًا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ الْخَلْقَ فِيهِ ، وَقَطَعَ فِيهِ بَعْضَ خَلْقِ الْأَرْضِ ، أَوْ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيهِ بِقَطْعِ الْأَعْمَالِ وَتَرْكِهَا . قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّيَ سَبْتًا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْاسْتِرَاحَ ةِ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّهُ يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: سَبَتَ بِمَعْنَى: اسْتَرَاحَ .
وَفِي صِفَةِ اعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ السَّبْتِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ حَبَسُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ وَأَخَذُوهَا يَوْمَ الْأَحَدِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ; وَيَجْعَلُ لَهَا نَهْرًا إِلَى الْبَحْرِ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ فَتَحَ النَّهْرَ ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ يَوْمَ السَّبْتِ ، فَيُقْبِلُ الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ ، فَيُرِيدُ الْحُوتُ الْخُرُوجَ فَلَا يُطِيقُ ، فَيَأْخُذُهَا يَوْمَ الْأَحَدِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ .
[ ص: 95 ] الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّةِ مَسْخِهِمْ .
رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نُودِيَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ . نُودُوا يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ ، فَانْتَبَهَتْ طَائِفَةٌ أَكْثَرُ مِنَ الْأُولَى ، ثُمَّ نُودُوا: يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ ، فَانْتَبَهَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ أَلَمْ نَنْهَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ بِرُؤُوسِهِمْ: بَلَى . قَالَ قَتَادَةُ: فَصَارَ الْقَوْمُ قِرَدَةً تَعَاوَى ، لَهَا أَذْنَابٌ بَعْدَمَا كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ: صَارَ الشُّبَّانُ قِرَدَةً ، وَالشُّيُوخُ خَنَازِيرَ ، وَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا ، وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ . وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانُوا نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعُلَمَاءُ ، غَيْرَ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ تُمْسَخْ أَبْدَانُهُمْ ، وَهُوَ قَوْلٌ بَعِيدٌ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُحْيَوْا عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَلَمْ يَحْيَاْ مَسْخٌ فِي الْأَرْضِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَنْسِلْ . وَزَعَمَ مُقَاتِلٌ أَنَّهُمْ عَاشُوا سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، وَمَاتُوا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ ، وَهَذَا كَانَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: خَاسِئِينَ : الْخَاسِئُ فِي اللُّغَةِ: الْمُبْعَدُ ، يُقَالُ لِلْكَلْبِ اخْسَأْ ، أَيْ: تَبَاعَدْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .
فِي الْمُكَنَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْخَطِيئَةُ ، رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: الْعُقُوبَةُ ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَاءُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُسْخَةِ الَّتِي مُسِخُوهَا . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الْقَرْيَةُ ، وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا الْأُمَّةُ الَّتِي مُسِخَتْ ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ ، وَالزَّجَّاجُ .
وَفِي النَّكَالِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْعُقُوبَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: الْعِبْرَةُ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا [ ص: 96 ] مِنَ الْقُرَى وَمَا خَلْفَهَا ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنَ الذُّنُوبِ ، وَمَا خَلْفَهَا: مَا عَمِلُوا بَعْدَهَا ، رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنَ السِّنِينَ الَّتِي عَمِلُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي ، وَمَا خَلْفَهَا: مَا كَانَ بَعْدَهُمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِئَلَّا يَعْمَلُوا بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ ، قَالَهُ عَطِيَّةُ .
وَفِي الْمُتَّقِينَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مُتَّقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ ، وَذَكَرَهُ عَطِيَّةُ وَسُفْيَانُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ .
ذِكْرُ السَّبَبِ فِي أَمْرِهِمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ .
رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَقِيمٌ لَا يُولَدُ لَهُ ، وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ ، وَكَانَ ابْنُ أَخِيهِ وَارِثَهُ ، فَقَتَلَهُ وَاحْتَمَلَهُ لَيْلًا ، فَأَتَى بِهِ حَيًّا آَخَرَ ، فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَدَّعِيهِ حَتَّى تَسَلَّحُوا ، وَرَكِبَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، فَأَتَوْا مُوسَى فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (19)
صــ97 إلى صــ 102
وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ أَخٍ فَقِيرٍ ، فَخَطَبَ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ ، فَأَبَى ، فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ عَمِّي ، وَلَآَخُذَنَّ مَالَهُ وَلَأَنْكِحَنَّ ابْنَتَهُ ، وَلَآَكُلَنَّ دِيَتَهُ ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ قَدِمَ تُجَّارٌ فِي بَعْضِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَانْطَلِقْ مَعِي فَخُذْ لِي مِنْ تِجَارَتِهِمْ لَعَلِّي أُصِيبُ فِيهَا رِبْحًا ، فَخَرَجَ مَعَهُ ، فَلَمَّا بَلَغَا ذَلِكَ السَّبْطُ ، قَتَلَهُ الْفَتَى ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ، جَاءَ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ عَمَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ ، فَإِذَا بِذَلِكَ السَّبْطِ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ ، فَأَمْسَكَهُمْ وَقَالَ: قَتَلْتُمْ عَمِّي وَجَعَلَ يَبْكِي [ ص: 97 ] وَيُنَادِي: وَاعَمَّاهُ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَالَّذِي سَأَلَ مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْبَيَانَ: الْقَاتِلُ . وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ الْقَوْمُ اجْتَمَعُوا فَسَأَلُوا مُوسَى ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بِقَرَةٍ ، قَالُوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ ، وَالْكِسَائِيُّ : هُزُؤًا ، بِضَمِّ الْهَاءِ وَالزَّايِ وَالْهَمْزَةِ ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ ، وَإِسْمَاعِيلُ ، وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ ، وَالْفَرَّاءُ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ ، وَالْمُفَضَّلِ: هُزْءًا ، بِإِسْكَانِ الزَّايِ . وَرَوَاهُ حَفْصٌ بِالضَّمِّ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ ، وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ أَوَّلُهُ مَضْمُومٌ ، فَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُثَقِّلُهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَفِّفُهُ ، نَحْوُ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ .
وَإِنَّمَا انْتَفَى مِنَ الْهَزْءِ ، لِأَنَّ الْهَازِئَ جَاهِلٌ لَاعِبٌ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، قَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا سَأَلُوا: مَا هِيَ ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ بَقَرَةً يُحْيَا بِضَرْبِ بَعْضِهَا مَيِّتٌ .
فَأَمَّا الْفَارِضُ فَهِيَ: الْمُسِنَّةُ ، يُقَالُ: فَرَضَتِ الْبَقَرَةُ فَهِيَ فَارِضٌ: إِذَا أَسَنَّتْ . وَالْبِكْرُ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَلِدُ ، وَالْعَوَانُ: دُونَ الْمُسِنَّةِ ، وَفَوْقَ الصَّغِيرِ . يُقَالُ: حَرْبٌ عَوَانٌ: إِذَا لَمْ تَكُنْ أَوَّلَ حَرْبٍ ، وَكَانَتْ ثَانِيَةً .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنَّ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ .
فِي الصَّفْرَاءِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الصُّفْرَةِ ، وَهُوَ اللَّوْنُ الْمَعْرُوفُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ زَيْدٍ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَالزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا السَّوْدَاءُ ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَرَدَّهُ جَمَاعَةٌ ، فَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذَا غَلَطٌ فِي نُعُوتِ الْبَقَرِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي نُعُوتِ الْإِبِلِ ، يُقَالُ: بَعِيرٌ أَصْفَرُ ، أَيْ: أَسْوَدُ ، لِأَنَّ السَّوْدَاءَ مِنَ الْإِبِلِ يَشُوبُ سَوَادَهَا صُفْرَةٌ ، [ ص: 98 ] وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقِعٌ لَوْنُهَا وَالْعَرَبُ لَا تَقُولُ: أَسْوَدُ فَاقِعٌ ، وَإِنَّمَا تَقُولُ: أَسْوَدُ حَالِكٌ ، وَأَصْفَرُ فَاقِعٌ .
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفَاقِعٌ نَعْتٌ لِلْأَصْفَرِ الشَّدِيدِ الصُّفْرَةِ ، يُقَالُ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ ، وَأَحْمَرُ قَانِئٌ ، وَأَخْضَرُ نَاضِرٌ ، وَأَبْيَضُ يَقَقٌ ، وَأَسْوَدُ حَالِكٌ ، وَحُلْكُوكٌ وَدَجْوَجِيٌّ ، فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَلْوَانِ .
وَمَعْنَى تَسُرُّ النَّاظِرِينَ تُعْجِبُهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَدَّدَ الْقَوْمُ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ: "لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَثْنُوا لَمْ يُعْطَوُا الَّذِي أُعْطُوا" يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُمْ .
وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ .
وَفِي الْمُرَادِ بِاهْتِدَائِهِم ْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا: الْمُهْتَدُونَ إِلَى الْبَقَرَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَالثَّانِي: إِلَى الْقَاتِلِ ، ذَكَرَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يُذِلْهَا الْعَمَلُ فَتُثِيرُ الْأَرْضَ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ: فِي الدَّوَابِّ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ: بَيِّنَةُ الذِّلِّ بِكَسْرِ الذَّالِ ، وَفِي النَّاسِ: رَجُلٌ ذَلِيلٌ بَيِّنُ الذُّلِّ بِضَمِّ الذَّالِ .
تُثِيرُ الأَرْضَ تُقَلِّبُهَا لِلزِّرَاعَةِ ، وَيُقَالُ لِلْبَقَرَةِ: الْمُثِيرَةُ . قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقِفْنَ عَلَى ذَلُولٍ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَيْسَتْ بِذَلُولٍ فَتُثِيرُ الْأَرْضَ ، وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ أَبَا حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِي َّ أَجَازَ الْوَقْفَ عَلَى ذَلُولٍ ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ جِدًّا ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ الَّتِي تُثِيرُ الْأَرْضَ يُعْدَمُ مِنْهَا سَقْيُ الْحَرْثِ; وَمَتَى أَثَارَتِ الْأَرْضَ كَانَتْ ذَلُولًا . وَمَعْنَى: وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ: لَا يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ لِسَقْيِ الزَّرْعِ .
[ ص: 99 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: مُسَلَّمَةٌ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهُمَا: مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: مُسْلَّمَةٌ مِنَ الْعَمَلِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالثَّالِثُ: مُسْلَّمَةٌ مِنَ الشِّيَةِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَابْنُ زَيْدٍ . وَالرَّابِعُ: مُسَلَّمَةُ الْقَوَائِمِ وَالْخَلْقِ ، قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ .
فَأَمَّا الشِّيَةُ ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَشْيُ فِي اللُّغَةِ: خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ . وَيُقَالُ: وَشِيتَ الثَّوْبُ أُشِيهِ شِيةً وَوَشْيًا ، كَقَوْلِكَ: وُدَيْتُ فُلَانًا أَدِيهِ دِيَةً . وَنُصِبَ: شِيَةَ فِيهَا ، عَلَى النَّفْيِ . وَمَعْنَى الْكَلَامِ: لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ يُفَارِقُ سَائِرَ لَوْنِهَا . وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَسَانِيُّ : لَوْنُهَا لَوْنٌ وَاحِدٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْآَنَ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ ، وَهُوَ حَدُّ الزَّمَانَيْنِ ، حَدُّ الْمَاضِي مِنْ آَخِرِهِ ، وَحَدُّ الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَمَعْنَى جِئْتَ بِالْحَقِّ بَيَّنْتَ لَنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: لِغَلَاءِ ثَمَنِهَا ، قَالَهُ ابْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ . وَالثَّانِي: لِخَوْفِ الْفَضِيحَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ الْقَاتِلِ مِنْهُمْ ، قَالَهُ وَهْبٌ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَكَثُوا يَطْلُبُونَ الْبَقَرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى وَجَدُوهَا عِنْدَ رِجُلٍ ، فَأَبَى أَنْ يَبِيعَهَا إِلَّا بِمَلْءِ مَسْكِهَا ذَهَبًا ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَعُبَيْدَةَ ، وَوَهْبٍ ، وَابْنِ زَيْدٍ ، وَالْكَلْبِيِّ ، وَمُقَاتِلٍ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ . فَأَمَّا السَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ غَلَا ثَمَنُهَا ، فَيُحْتَمَلُ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِي: لِإِكْرَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَاحِبَهَا ، فَإِنْ كَانَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ . فَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ شَابٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَرًّا بِأَبِيهِ ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ سِلْعَةً هِيَ عِنْدَهُ ، فَانْطَلَقَ لِيَبِيعَهُ إِيَّاهَا ، فَإِذَا مَفَاتِيحُ حَانُوتِهِ مَعَ أَبِيهِ ، وَأَبُوهُ نَائِمٌ ، فَلَمْ يُوقِظْهُ ، وَرَدَّ الْمُشْتَرِي ، فَأَضْعَفَ لَهُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ ، فَرَجَعَ إِلَى أَبِيهِ ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا ، فَعَادَ إِلَى الْمُشْتَرِي فَرَدَّهُ ، فَأَضْعَفَ لَهُ الثَّمَنَ ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهَمَا حَتَّى ذَهَبَ الْمُشْتَرِي ، فَأَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى بِرِّهِ بِأَبِيهِ أَنْ نَتَجَتْ لَهُ بَقَرَةً مِنْ بَقَرَةٍ ، تِلْكَ الْبَقَرَةُ .
[ ص: 100 ] وَرُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَنَّ فَتًى كَانَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ ، وَكَانَ يَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَإِذَا بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثُلْثِهِ ، وَأَعْطَى أَمَّهُ ثُلْثَهُ ، وَأَبْقَى لِنَفْسِهِ ثُلْثَهُ ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ يَوْمًا: إِنِّي وَرِثْتُ مِنْ أَبِيكَ بَقَرَةٍ ، فَتَرَكْتُهَا فِي الْبَقَرِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ ، فَإِذَا أَتَيْتَ الْبَقَرَ ، فَادْعُهَا بِاسْمِ إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ ، فَذَهَبَ فَصَاحَ بِهَا ، فَأَقْبَلَتْ ، فَأَنْطَقَهَا اللَّهُ ، فَقَالَتِ: ارْكَبْنِي يَا فَتَى ، فَقَالَ [الْفَتَى: إِنَّ أُمِّي ] لَمْ تَأْمُرْنِي بِهَذَا . فَقَالَتْ: أَيُّهَا الْبَرُّ بِأُمِّهِ! لَوْ رَكِبْتَنِي لَمْ تَقْدِرْ عَلِيَّ ، فَانْطَلَقَ ، فَلَوْ أَمَرَتُ الْجَبَلَ أَنْ يَنْقَلِعَ مِنْ أَصْلِهِ [وَيَنْطَلِقَ مَعَكَ ] لَانْقَلَعَ لِبِرِّكَ بِأُمِّكَ . فَلَمَّا جَاءَ بِهَا قَالَتْ أُمُّهُ: بِعْهَا بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ عَلَى رِضًى مِنِّي ، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلِكًا فَقَالَ: بِكُمْ هَذِهِ؟ قَالَ: بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ عَلَى رِضًى مِنْ أُمِّي . قَالَ: لَكَ سِتَّةٌ وَلَا تَسْتَأْمِرْهَا ، فَأَبَى ، وَعَادَ إِلَى أُمِّهِ فَأَخْبَرَهَا ، فَقَالَتْ: بِعْهَا بِسِتَّةٍ عَلَى رِضًى مِنِّي ، فَجَاءَ الْمَلِكُ فَقَالَ: خُذِ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَسْتَأْمِرْه َا ، فَأَبَى ، وَعَادَ إِلَى أُمِّهِ فَأَخْبَرَهَا ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ! ذَاكَ مَلِكٌ ، فَقُلْ لَهُ: بِكَمْ تَأْمُرُنِي أَنْ أَبِيعَهَا؟ فَجَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ: يَا فَتَى يَشْتَرِي بَقْرَتَكَ هَذِهِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ لِقَتِيلٍ يُقْتَلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ .
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا هَذِهِ الْآَيَةُ مُؤَخَّرَةٌ فِي التِّلَاوَةِ ، مُقَدَّمَةٌ فِي الْمَعْنَى ، لِأَنَّ السَّبَبَ فِي الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ قَتْلُ النَّفْسِ ، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ، فَسَأَلْتُمْ مُوسَى فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً . وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا [ الْكَهْفِ: 1 ] أَرَادَ: أَنْزَلَ الْكِتَابَ قَيِّمًا ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ، فَأَخَّرَ الْمُقَدَّمَ وَقَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ ، لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ . قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
إِنَّ الْفَرَزْدَقَ صَخْرَةٌ مَلْمُومَةٌ طَالَتْ فَلَيْسَ تَنَالُهَا الْأَوْعَالَا
أَرَادَ: طَالَتِ الْأَوْعَالُ . وَقَالَ جَرِيرٌ:
طَافَ الْخَيَالُ وَأَيْنَ مِنْكَ لِمَامًا فَارْجِعْ لِزَوْرِكَ بِالسَّلَامِ سَلَامًا
[ ص: 101 ] أَرَادَ: طَافَ الْخَيَالُ لِمَامًا ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْكَ؟ وَقَالَ الْآَخَرُ:
خَيْرٌ مِنَ الْقَوْمِ الْعُصَاةُ أَمِيرُهُمْ يَا قَوْمِ فَاسْتَحْيُوا النِّسَاءَ الْجُلَّسِ
أَرَادَ: خَيْرٌ مِنَ الْقَوْمِ الْعُصَاةُ النِّسَاءَ فَاسْتَحْيَوْا مِنْ هَذَا .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَادَّارَأْتُمْ : اخْتَلَفْتُمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: ادَّارَأْتُمْ ، بِمَعْنَى: تَدَارَأْتُمْ ، أَيْ: تَدَافَعْتُمْ ، وَأَلْقَى بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، تَقُولُ: دَرَأْتُ فُلَانًا: إِذَا دَفَعْتَهُ ، وَدَارَيْتَهُ: إِذَا لَايَنْتَهُ ، وَدَرَيْتَهُ إِذَا خَتَلْتَهُ ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ ، لِأَنَّهُمَا مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا الَّذِي كَتَمُوهُ; فَهُوَ أَمْرُ الْقَتِيلِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .
مَنْ قَالَ: أَقَامُوا فِي طَلَبِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً; قَالَ: ضَرَبُوا قَبْرَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ، قَالَ: ضَرَبُوا جِسْمَهُ قَبْلَ دَفْنِهِ . وَفِي الَّذِي ضَرَبَ بِهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ ضَرَبَ بِالْعَظْمِ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: وَذَلِكَ الْعَظْمُ هُوَ أَصْلُ الْأُذُنِ ، وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ لَا يَكْسِرُ ذَلِكَ الْعَظْمَ مِنْ أَحَدٍ فَيَعِيشُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْغُضْرُوفُ فِي الْأُذُنِ ، وَهُوَ مَا أَشْبَهَ الْعَظْمَ الرَّقِيقَ مِنْ فَوْقِ الشَّحْمَةِ ، وَجَمِيعٌ أَعْلَى صَدَفَةِ الْأُذُنِ ، وَهُوَ مُعَلَّقُ الشُّنُوفِ ، فَأَمَّا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ خَلْفَ الْأُذُنِ النَّاتِئَانِ مِنْ مُؤَخَّرِ الْأُذُنِ ، فَيُقَالُ لَهُمَا: الْخَشَّاوَانِ ، وَأَحَدُهُمَا: خَشَّاءُ ، وَخُشُشَاءُ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ ضَرَبَ بِالْفَخْذِ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَعِكْرِمَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ أَنَّهُ الْفَخْذُ الْأَيْمَنُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْبِضْعَةُ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ . رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ الذَّنَبُ ، رَوَاهُ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ [ ص: 102 ] . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ عَجْبُ الذَّنَبِ ، وَهُوَ عَظَمٌ بُنِيَ عَلَيْهِ الْبَدَنُ ، رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .
وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ اللِّسَانُ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
وَفِي الْكَلَامِ اخْتِصَارٌ تَقْدِيرُهُ: فَقُلْنَا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا لِيَحْيَا ، فَضَرَبُوهُ فَيَحْيَ ، فَقَامَ فَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ .
وَفِي قَاتِلِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: بَنُو أَخِيهِ ، رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: ابْنَا عَمِّهِ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ قَاتِلَهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ . وَالثَّالِثُ: ابْنُ أَخِيهِ ، قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ وَعُبَيْدَةُ . وَالرَّابِعُ: أَخُوهُ ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى : فِيهِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِقَوْمِ مُوسَى . وَالثَّانِي: لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ ، احْتَجَّ عَلَيْهِمْ إِذْ جَحَدُوا الْبَعْثَ بِمَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَآَيَاتُهُ: عَجَائِبُهُ .
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهِ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ : قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ: قَسَتْ فِي اللُّغَةِ: غَلُظَتْ وَيَبِسَتْ وَعَسَتْ ، فَقَسْوَةُ الْقَلْبِ: ذِهَابُ اللِّينِ وَالرَّحْمَةِ وِالْخُشُوعِ مِنْهُ . وَالْقَاسِي: وَالْعَاسِي: الشَّدِيدُ الصَّلَابَةِ . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَسَتْ وَعَسَتْ وَعَتَتْ وَاحِدٌ ، أَيْ: يَبِسَتْ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://i.imgur.com/diLeefC.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (20)
صــ103 إلى صــ 108
وَفِي الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ . وَالثَّانِي: الْقَاتِلُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ الَّذِينَ قَتَلُوهُ بَعْدَ أَنْ سَمَّى قَاتِلَهُ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ . وَفِي كَافِ "ذَلِكَ" ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ . وَالثَّانِي: [ ص: 103 ] إِلَى كَلَامِ الْقَتِيلِ ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْقَاتِلِ ، ذَكَرَهُمَا الْمُفَسِّرُونَ . وَالثَّالِثُ: إِلَى مَا شُرِحَ مِنَ الْآَيَاتِ مِنْ مَسْخِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ ، وَرَفْعِ الْجَبَلِ وَانْبِجَاسِ الْمَاءِ ، وَإِحْيَاءِ الْقَتِيلِ ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ .
وَفِي "أَوْ" أَقْوَالٌ ، هِيَ بِعَيْنِهَا مَذْكُورَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ حَجَرٍ يَنْفَجِرُ مِنْهُ الْمَاءُ ، وَيَنْشَقُّ عَنْ مَاءٍ ، أَوْ يَتَرَدَّى مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ ، فَمِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .
فِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآَيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، خَاصَّةً ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُؤْمِنُونَ ، تَقْدِيرُهُ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ تُصْدِّقُوا نَبِيَّكُمْ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ الْأَنْصَارُ ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَسْلَمُوا أَحَبُّوا إِسْلَامَ الْيَهُودِ لِلرَّضَاعَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ ، ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَلِفُ "أَفتطمعون" أَلِفُ اسْتِخْبَارٍ ، كَأَنَّهُ آَيَسَهُمْ مِنَ الطَّمَعِ فِي إِيمَانِهِمْ .
وَفِي سَمَاعِهِمْ لِكَلَامِ اللَّهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَرَؤُوا التَّوْرَاةَ فَحَرَّفُوهَا ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ فِي آَخَرِينَ ، فَيَكُونُ سَمَاعُهُمْ لِكَلَامِ اللَّهِ بِتَبْلِيغِ نَبِيِّهِمْ ، وَتَحْرِيفِهِمْ : تَغْيِيرُ مَا فِيهَا . وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى ، فَسَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ كِفَاحًا عِنْدَ الْجَبَلِ ، فَلَمَّا جَاؤُوا إِلَى قَوْمِهِمْ قَالُوا: قَالَ لَنَا: كَذَا وَكَذَا ، وَقَالَ فِي آَخِرِ قَوْلِهِ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا تَرْكَ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ; فَافْعَلُوا مَا تَسْتَطِيعُونَ . هَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمُ التِّرْمِذِيُّ صَاحِبُ "النَّوَادِرِ" هَذَا الْقَوْلُ إِنْكَارٌ شَدِيدٌ ، وَقَالَ إِنَّمَا خَصَّ [ ص: 104 ] بِالْكَلَامِ مُوسَى وَحْدَهُ ، وَإِلَّا فَأَيُّ مِيزَةٍ؟! وَجَعَلَ هَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَاهَا الْكَلْبِيُّ وَكَانَ كَذَّابًا .
وَمَعْنَى (عَقَلُوهُ) سَمِعُوهُ وَوَعَوْهُ .
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ حَرَّفُوهُ . وَالثَّانِي: وَهُمْ يَعْلَمُونَ عِقَابَ تَحْرِيفِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَوَّلًا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .
هَذِهِ الْآَيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ ، كَانُوا إِذَا لَقُوا النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِين َ قَالُوا: آَمَنَّا ، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، قَالُوا: أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَسَانِيِّ ، وَابْنِ زَيْدٍ ، وَمُقَاتِلٍ .
وَفِي مَعْنَى بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ ، وَالْفَتْحُ: الْقَضَاءُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [ الْأَعْرَافِ: 89 ] قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ آَمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا ، فَكَانُوا يُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا عُذِّبُوا بِهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتُحَدِّثُونَه ُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ . [مِنَ الْعَذَابِ ، لِيَقُولُوا: نَحْنُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْكُمْ ، وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ ] . وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: بِمَا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ: الَّذِي فَتَحَهُ عَلَيْهِمْ: مَا أَنْزَلُهُ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الْمُسْلِمُ يَلْقَى حَلِيفَهُ ، أَوْ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مِنَ الْيَهُودِ ، فَيَسْأَلُهُ: أَتَجِدُونَ مُحَمَّدًا فِي كِتَابِكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ ، إِنَّهُ لَحَقٌّ . فَسَمِعَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَغَيْرُهُ ، فَقَالَ لِلْيَهُودِ فِي السِّرِّ: أَتُحَدِّثُونَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ، أَيْ: بِمَا بَيَّنَ لَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَمْرٍ مُحَمَّدٍ لِيُخَاصِمُوكُم ْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ بِاعْتِرَافِكُم ْ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؟! [ ص: 105 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: عِنْدَ رَبِّكُمْ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى: فِي حُكْمِ رَبِّكُمْ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [ النُّورِ: 13 ] . وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ يَعْنِي: الْيَهُودَ . وَالْأُمِّيُّ: الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْأُمِّيِّ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ عَلَى خِلْقَةِ الْأُمَّةُ الَّتِي لَمْ تَتَعَلَّمِ الْكِتَابَ ، فَهُوَ عَلَى جِبِلَّتِهِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِي الرِّجَالِ كَانَتْ دُونَ النِّسَاءِ . وَقِيلَ: لِأَنَّهُ عَلَى مَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ قَالَ قَتَادَةُ: يَدْرُونَ مَا فِيهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلا أَمَانِيَّ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَى تَشْدِيدِ الْيَاءِ ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ ، وَأَبُو جَعْفَرٍ ، بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ ، وَكَذَلِكَ: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [ الْبَقَرَةِ: 111 ] وَ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [ النِّسَاءِ: 123 ] فِي أُمْنِيَّتِهِ [ الْحَجِّ: 52 ] وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ [ الْحَدِيدِ: 14 ] كُلُّهُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ "امانيهم" . وَلَا بِخِلَافٍ فِي فَتْحِ يَاءِ "الْأَمَانِي" .
وَفِي مَعْنَى الْكَلَامِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْأَكَاذِيبُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا أَمَانِي: يُرِيدُ إِلَّا قَوْلًا يَقُولُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ كَذِبًا . وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ . وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ قَالَ لِابْنِ دَأْبٍ وَهُوَ يُحَدِّثُ: أَهَذَا شَيْءٌ رَوَيْتَهُ ، أَمْ شَيْءٌ تَمَنَّيْتَهُ؟ يُرِيدُ: افْتَعَلْتَهُ؟ .
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمَانِيَّ: التِّلَاوَةُ ، فَمَعْنَاهُ: يَعْلَمُونَ فِقْهَ الْكِتَابِ ، إِنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا يَسْمَعُونَهُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ . قَالَ الشَّاعِرُ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
وَهَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالزَّجَّاجِ .
[ ص: 106 ] . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا أَمَانِيُّهُمْ عَلَى اللَّهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ قَالَ مُقَاتِلٌ: لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ ، فَإِنْ كَذَبَ الرُّؤَسَاءُ أَوْ صَدَّقُوا ، تَابَعُوهُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ
هَذِهِ الْآَيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ [الَّذِينَ ] بَدَّلُوا التَّوْرَاةَ وَغَيَّرُوا صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَسُفْيَانَ . فَأَمَّا الْوَيْلُ: فَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَيْلٌ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ ، يَهْوِي الْكَافِرُ فِيهِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ" وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَيْلُ: كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ ، وَيَسْتَعْمِلُه َا هُوَ أَيْضًا . وَأَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: الْعَذَابُ ، وَالْهَلَاكُ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَيُقَالُ: مَعْنَى الْوَيْلِ الْمَشَقَّةُ مِنَ الْعَذَابِ . وَيُقَالُ: أَصْلُهُ: وَيْ لِفُلَانٍ ، أَيْ: حُزْنٌ لِفُلَانٍ ، فَكَثُرَ الِاسْتِعْمَالُ لِلْحَرْفَيْنِ ، فَوَصَلَتِ اللَّامُ بِ "وَيْ" وَجُعِلَتْ حَرْفًا وَاحِدًا ، ثُمَّ خَبَّرَ عَنْ "وَيْلٍ" بِلَامٍ أُخْرَى ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ . وَالْكِتَابُ هَاهُنَا: التَّوْرَاةُ . وَذِكْرُ الْأَيْدِي تَوْكِيدٌ ، وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ: مَا يَفْنَى مِنَ الدُّنْيَا .
وَفِيمَا يَكْسِبُونَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَوَّضَ مَا كَتَبُوا . وَالثَّانِي: إِثْمُ مَا فَعَلُوا .
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهِ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَهْمُ: الْيَهُودُ . وَفِيمَا عَنَوْا بِهَذِهِ الْأَيَّامِ قَوْلَانِ .
[ ص: 107 ] أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ .
وَلِمَاذَا قَدَّرُوهَا بِأَرْبَعِينَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَنَحْنُ نَقْطَعُ مَسِيرَةَ كُلِّ سَنَةٍ فِي يَوْمٍ ، ثُمَّ يَنْقَضِي الْعَذَابُ وَتَهْلَكُ النَّارُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: عَتَبَ عَلَيْنَا رَبُّنَا فِي أَمْرٍ ، فَأَقْسَمَ لِيُعَذِّبَنَا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، ثُمَّ يُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ ، فَلَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا عَدَدُ الْأَيَّامِ الَّتِي عَبَدُوا فِيهَا الْعِجْلَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَةِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَبْعَةَ آَلَافٍ ، سَنَةٍ وَالنَّاسُ يُعَذَّبُونَ لِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا أَيْ: عُهِدَ إِلَيْكُمْ أَنَّهُ يُعَذِّبُكُمْ إِلَّا هَذَا الْمِقْدَارَ؟!
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً : بَلَى: بِمَنْزِلَةِ "نَعَمْ" إِلَّا أَنَّ "بَلَى" جَوَابُ النَّفْيِ ، وَنَعَمْ ، جَوَابُ الْإِيجَابِ ، قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: مَا لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ ، فَقَالَ الْآَخَرُ: نَعَمْ ، كَانَ تَصْدِيقًا أَنَّ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ . وَلَوْ قَالَ: بَلَى; كَانَ رَدًّا لِقَوْلِهِ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَإِنَّمَا صَارَتْ "بَلَى" تَتَّصِلُ بِالْجَحْدِ ، لِأَنَّهَا رُجُوعٌ عَنِ الْجَحْدِ إِلَى التَّحْقِيقِ ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ "بَلْ" وَ"بَلْ" سَبِيلُهَا أَنْ تَأْتِيَ بَعْدَ الْجَحْدِ ، كَقَوْلِهِمْ: مَا قَامَ أَخُوكَ ، بَلْ أَبُوكَ . وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَلَا تَقُومُ؟ فَقَالَ لَهُ: بَلَى; أَرَادَ: بَلْ أَقُومُ ، فَزَادَ الْأَلِفَ عَلَى "بَلْ" لِيَحْسُنَ السُّكُوتُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بَلْ; كَانَ يَتَوَقَّعُ كَلَامًا بَعْدَ بَلْ ، فَزَادَ الْأَلِفَ لِيَزُولَ هَذَا التَّوَهُّمُ عَنِ الْمُخَاطَبِ . [ ص: 108 ] وَمَعْنَى: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً : بَلْ مَنَ كَسَبَ . قَالَ الزَّجَّاجُ: بَلَى: رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَالسَّيِّئَةُ هَاهُنَا: الشِّرْكُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَأَبِي وَائِلٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُقَاتِلٍ .
وَأَحَاطَتْ بِهِ أَيْ: أَحْدَقَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ . وَقَرَأَ نَافِعٌ "خَطِيئَاتُهُ" بِالْجَمْعِ . قَالَ عِكْرِمَةُ: مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا ، وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: الْخَطِيئَةُ: صِفَةٌ لِلشِّرْكِ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَحَاطَتْ بِحَسَنَتِهِ خَطِيئَتُهُ ، أَيْ: أَحْبَطَتْهَا ، مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمُحِيطَ أَكْثَرُ مِنَ الْمُحَاطِ بِهِ ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [ التَّوْبَةِ: 49 ] وَقَوْلُهُ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [ الْكَهْفِ: 29 ] أَوْ يَكُونُ مَعْنَى أَحَاطَتْ بِهِ: أَهْلَكَتْهُ ، كَقَوْلِهِ: إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [ يُوسُفَ: 66 ] .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَذَا الْمِيثَاقُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْبُدُونَ وَقَرَأَ عَاصِمٌ ، وَنَافِعٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ لَهُمْ . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : بِالْيَاءِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا أَيْ: وَوَصَّيْنَاهُم ْ بِآَبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِم ْ خَيْرًا . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أُوصِيكَ بِهِ خَيْرًا ، وَآَمُرُكَ بِهِ خَيْرًا وَالْمَعْنَى: آَمُرُكَ أَنْ تَفْعَلَ بِهِ ، ثُمَّ تُحْذَفُ "أَنْ" فَيُوصَلُ الْخَيْرُ ، بِالْوَصِيَّةِ وَالْأَمْرِ . قَالَ الشَّاعِرُ
عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إِذْ تَشْكُونَا وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينَا
خَيْرًا بِهَا كَأَنَّنَا جَافَوْنَا
وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ; فَهُوَ بِرُّهُمَا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَنْفُضْ ثَوْبَكَ فَيُصِيبَهُمَا الْغُبَارُ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا بَرَّ وَالِدَهُ مَنْ شَدَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ . وَقَالَ عُرْوَةُ: لَا تَمْتَنِعْ عَنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ .
https://i.imgur.com/jrmzme2.gif
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (21)
صــ109 إلى صــ 114
[ ص: 109 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذِي الْقُرْبَى أَيْ: وَوَصَّيْنَاهُم ْ بِذِي الْقُرْبَى أَنْ يَصِلُوا أَرْحَامَهُمْ . وَأَمَّا الْيَتَامَى; فَجَمْعُ: يَتِيمٍ . قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْيُتْمُ فِي النَّاسِ ، مِنْ قِبَلِ الْأَبِ ، وَفِي غَيْرِ النَّاسِ: مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : قَالَ ثَعْلَبٌ: الْيُتْمُ مَعْنَاهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الِانْفِرَادُ . فَمَعْنَى صَبِيٍّ يَتِيمٍ: مُنْفَرِدٌ عَنْ أَبِيهِ . وَأَنْشَدْنَا
أَفَاطِمُ إِنِّي هَالِكٌ فَتَبِينِي وَلَا تَجْزَعِي كُلُّ النِّسَاءِ يَتِيمُ
قَالَ: يُرْوَى: يَتِيمٌ وَيَئِيمُ . فَمَنْ رَوَى يَتِيمَ بِالتَّاءِ; أَرَادَ: كُلُّ النِّسَاءِ ضَعِيفٌ مُنْفَرِدٌ . وَمَنْ رَوَى بِالْيَاءِ أَرَادَ: كُلُّ النِّسَاءِ يَمُوتُ عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَقَالَ: أَنْشَدَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ :
ثَلَاثَةُ أَحْبَابٍ: فَحُبُّ عَلَاقَةٍ وَحُبُّ تَمَلَّاقٍ وَحُبٌّ هُوَ الْقَتْلُ
قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: زِدْنَا ، فَقَالَ: الْبَيْتُ يَتِيمٌ: أَيْ: مُنْفَرِدٌ . وَقَرَأْتُ عَلَى شَيْخِنَا أَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ ، قَالَ: إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ ، زَالَ عَنْهُ اسْمُهُ الْيُتْمُ . يُقَالُ: مِنْهُ يَتَمَ يَيْتَمُ يُتْمًا وَيَتْمًا . وَجَمْعُ الْيَتِيمِ: يَتَامَى ، وَأَيْتَامٌ . وَكُلُّ مُنْفَرِدٍ عِنْدَ الْعَرَبِ يَتِيمٌ وَيَتِيمَةٌ . قَالَ: وَقِيلَ: أَصْلُ الْيُتْمِ: الْغَفْلَةُ ، وَبِهِ سُمِّيَ الْيَتِيمُ ، لِأَنَّهُ يَتَغَافَلُ عَنْ بِرِّهِ . وَالْمَرْأَةُ تُدْعَى: يَتِيمَةٌ مَا لَمْ تُزَوَّجْ ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ زَالَ عَنْهَا اسْمُ الْيُتْمِ ، وَقِيلَ: لَا يَزُولُ عَنْهَا اسْمُ الْيُتْمِ أَبَدًا . وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الْيُتْمُ: الْإِبْطَاءُ ، وَمِنْهُ أُخِذَ الْيَتِيمُ ، لِأَنَّ الْبِرَّ يُبْطِئُ عَنْهُ . "وَالمساكين": جَمْعُ مِسْكِينٍ ، وَهُوَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّكُونِ ، كَأَنَّ الْمِسْكِينَ قَدْ أَسْكَنَهُ الْفَقْرُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَنَافِعٌ ، وَعَاصِمٌ ، وَابْنُ عَامِرٍ: (حُسْنًا) بِضَمِّ الْحَاءِ وَالتَّخْفِيفِ ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : (حَسَنًا) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالتَّثْقِيلِ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ قَرَأَ "حَسَنًا" فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَسَنُ لُغَةً فِي الْحُسْنِ ، كَالْبُخْلِ ، وَالْبَخَلِ ، وَالرُّشْدِ وَالرَّشَدِ . وَجَاءَ ذَلِكَ فِي الصِّفَةِ كَمَا جَاءَ فِي الِاسْمِ ، أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا: الْعَرَبُ وَالْعُرْبُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَسَنُ مَصْدَرًا كَالْكُفْرِ وَالشُّكْرِ وَالشُّغْلِ ، وَحُذِفَ الْمُضَافُ مَعَهُ ، كَأَنَّهُ [ ص: 110 ] قَالَ قُولُوا قَوْلًا ذَا حَسَنٍ . وَمَنْ قَرَأَ (حَسَنًا) جَعَلَهُ صِفَةً ، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: قُولُوا لِلنَّاسِ قَوْلًا حَسَنًا ، فَحُذِفَ الْمَوْصُوفَ .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ . وَمَعْنَاهُ: اصْدُقُوا وَبَيِّنُوا صِفَةَ النَّبِيِّ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قُولُوا لِلنَّاسِ مَعْرُوفًا ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ : كَلِّمُوهُمْ بِمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَقُولُوا لَكُمْ . وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مُسَاهَلَةُ الْكُفَّارِ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ . فَعَلَى هَذَا; تَكُونُ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ السَّيْفِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ: أَعْرَضْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ . وَفِيهِمْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَوْلَّوْهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُبَدِّلُوا . وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِ فَمَا جَزَاءُ مِنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ أَيْ: لَا يَسْفِكُ بَعْضُكُمْ دَمَ بَعْضٍ ، وَلَا يُخْرِجُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ دَارِهِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ يَوْمَئِذٍ بِالْعَهْدِ ، وَأَنْتُمُ الْيَوْمُ تَشْهَدُونَ عَلَى ذَلِكَ ، فَالْإِقْرَارُ عَلَى هَذَا مُتَوَجِّهٌ إِلَى سَلَفِهِمْ ، وَالشَّاهِدَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى خَلَفِهِمْ . ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أَيْ: يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا . رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْظَةُ خُلَفَاءَ الْأَوْسِ ، وَالنَّضِيرُ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ ، فَكَانُوا يُقَاتِلُونَ فِي حَرْبِ سَمِيرٍ فَيُقَاتِلُ بَنُو قُرَيْظَةَ مَعَ حُلَفَائِهَا النَّضِيرَ وَحُلَفَاءَهَا ، وَكَانَتْ [ ص: 111 ] النَّضِيرُ تُقَاتِلُ قُرَيْظَةَ وَحُلَفَاءَهَا ، فَيَغْلِبُونَهُ مْ وَيُخَرِّبُونَ الدِّيَارَ وَيُخْرِجُونَ مِنْهَا ، فَإِذَا أُسِرَ الرَّجُلُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا ، جَمَعُوا لَهُ حَتَّى يَفْدُوهُ ، فَتُعَيِّرُهُمُ الْعَرَبُ بِذَلِكَ ، فَتَقُولُ: كَيْفَ تُقَاتِلُونَهُم ْ وَتَفْدُونَهُمْ ؟! فَيَقُولُونَ: أُمِرْنَا أَنْ نَفْدِيَهُمْ ، حَرُمَ عَلَيْنَا قَتْلُهُمْ . فَتَقُولُ الْعَرَبُ: فَلِمَ تُقَاتِلُونَهُم ْ؟ فَيَقُولُونَ: نَسْتَحْيِي أَنْ يَسْتَذِلَّ حُلَفَاؤُنَا ، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالَ:
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِ فَكَانَ إِيمَانُهُمْ بِبَعْضِهِ: فِدَاءَهُمُ الْأَسَارَى ، وَكُفْرَهُمْ: قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: تَظَاهَرُونَ قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : (تُظَاهِرُونَ) وَفِي (التَّحْرِيمِ) (تَظَاهَرَا) بِتَخْفِيفِ الظَّاءِ . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ مَعَ إِثْبَاتِ الْأَلِفِ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ قَرَأَ (تُظَاهِرُونَ) بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ; أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الظَّاءِ ، لِمُقَارَبَتِهَ ا لَهَا ، فَخَفَّفَ بِالْإِدْغَامِ . وَمَنْ قَرَأَ (تُظَاهِرُونَ) خَفِيفَةً; حَذَفَ التَّاءَ الَّتِي أَدْغَمَهَا أُولَئِكَ مِنَ اللَّفْظِ ، فَخَفَّفَ بِالْحَذْفِ . وَالتَّاءُ الَّتِي أَدْغَمَهَا ابْنُ كَثِيرٍ هِيَ الَّتِي حَذَفَهَا عَاصِمٌ . وَرَوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي جَعْفَرٍ (تَظَّهَرُونَ) بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ ، فَالتَّظَاهُرُ: التَّعَاوُنُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَأَصْلُهُ مِنَ الظَّهْرِ ، فَكَأَنَّ التَّظَاهُرَ: أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ [أَوْ مِنَ الْقَوْمِ ] الْآَخَرِ ظَهْرًا لَهُ يَتَقَوَّى بِهِ ، وَيَسْتَنِدُ إِلَيْهِ . قَالَ مُقَاتِلٌ: وَالْإِثْمُ: الْمَعْصِيَةُ ، وَالْعُدْوَانُ: الظُّلْمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ أَصْلُ الْأَسْرِ: الشَّدُّ . قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ (أَسَارَى) وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ (أَسْرَى) قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَجْمَعُونَ الْأَسِيرَ "أَسَارَى" وَأَهْلُ نَجْدٍ أَكْثَرُ كَلَامِهِمْ "أَسْرَى" وَهُوَ أَجْوَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: جَرِيحٌ وَجَرْحَى ، وَصَرِيعٌ وَصَرْعَى . وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: الْأَسَارَى: مَا شُدُّوا ، وَالْأَسْرَى: فِي أَيْدِيهِمْ ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُشَدُّوا . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: "فَعَلَى" جَمْعٍ لِكُلِّ مَا أُصِيبَ بِهِ النَّاسُ فِي أَبْدَانِهِمْ وَعُقُولِهِمْ . يُقَالُ: هَالِكٌ وَهَلْكَى ، وَمَرِيضٌ وَمَرْضَى ، وَأَحْمَقُ [ ص: 112 ] وَحَمْقَى ، وَسَكْرَانُ وَسَكْرَى ، فَمَنْ قَرَأَ: (أَسَارَى); فَهِيَ جَمْعُ الْجَمْعِ . تَقُولُ: أَسِيرٌ وَأَسْرَى وَأُسَارَى جَمْعُ أَسْرَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى: تُفَادُوهُمْ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عُمَرَ ، وَابْنُ عَامِرٍ: (تَفْدُوهُمْ) وَقَرَأَ نَافِعٌ ، وَعَاصِمٌ ، وَالْكِسَائِيُّ : (تُفَادُوهُمْ) بِأَلِفٍ . وَالْمُفَادَاةُ : إِعْطَاءُ شَيْءٍ وَأَخْذُ شَيْءٍ مَكَانَهُ .
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَهُوَ: فِكَاكُ الْأَسْرَى . وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وَهُوَ: الْإِخْرَاجُ وَالْقَتْلُ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَفْدِيهِ فِي يَدِ غَيْرِكَ ، وَتَقْتُلُهُ أَنْتَ بِيَدِكَ . ؟!
وَفِي الْمُرَادِ بِالْخِزْيِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْجِزْيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: قَتْلُ قُرَيْظَةَ وَنَفْيُ النَّضِيرِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْيَهُودُ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَاعُوا الْآَخِرَةَ بِمَا يُصِيبُونَهُ مِنَ الدُّنْيَا .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ يُرِيدُ التَّوْرَاةَ . وَقَفَّيْنَا: أَتْبَعْنَا . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَفَا . يُقَالُ: قَفَوْتُ الرَّجُلَ: إِذَا سِرْتُ فِي أَثَرِهِ . وَالْبَيِّنَاتُ : الْآَيَاتُ وَالْوَاضِحَاتُ كَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى . وَأَيَّدْنَاهُ: قَوَّيْنَاهُ . وَالْأَيْدُ: الْقُوَّةُ .
وَفِي رُوحِ الْقُدُسِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُ جِبْرِيلُ . وَالْقُدْسُ: الطَّهَارَةُ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَالسُّدِّيِّ ، فِي آَخَرِينَ . وَكَانَ ابْنُ كَثِيرٍ يَقْرَأُ: (بِرُوحِ الْقُدْسِ) سَاكِنَةَ الدَّالِ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: التَّخْفِيفُ وَالتَّثْقِيلُ فِيهِ حَسَنَانِ ، نَحْوُ: الْعُنْقُ وَالْعُنُقُ ، وَالطُّنْبُ وَالطُّنُبُ .
وَفِي تَأْيِيدِهِ بِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . ذَكَرَهَا الزَّجَّاجُ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَيَّدَ بِهِ ظَاهِرَ حُجَّتِهِ وَأَمْرَ دِينِهِ .
[ ص: 113 ] . وَالثَّانِي: لِدَفْعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْهُ إِذْ أَرَادُوا قَتْلَهُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَيَّدَ بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْإِنْجِيلُ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِإِسْكَانِ اللَّامِ ، وَقَرَأَ قَوْمٌ ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّهَا . قَالَ الزَّجَّاجُ: قَرَأَ: (غُلْفٌ) بِتَسْكِينِ اللَّامِ ، فَمَعْنَاهُ: ذَوَاتُ غُلْفٍ ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: قُلُوبُنَا فِي أَوْعِيَةٍ . وَمَنْ قَرَأَ (غُلُفٌ) بِضَمِّ اللَّامِ ، فَهُوَ جَمْعُ "غِلَافٍ" فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: قُلُوبُنَا أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ ، فَمَا بِالُهَا لَا تَفْهَمُ وَهِيَ أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ؟! فَعَلَى الْأَوَّلِ ، يَقْصِدُونَ إِعْرَاضَهُ عَنْهُمْ ، كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا نَفْهَمُ شَيْئًا وَعَلَى الثَّانِي: يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ قَوْلُكَ حَقًّا لِقَبِلَتْهُ قُلُوبُنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: فَقَلِيلٌ مَنْ يُؤْمَنُ مِنْهُمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى قَلِيلٌ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ . قَالَ مُعَمَّرُ: يُؤْمِنُونَ بِقَلِيلٍ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَيَكْفُرُونَ بِأَكْثَرِهِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى: فَمَا يُؤْمِنُونَ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا . ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . وَقَالَ: هَذَا عَلَى لُغَةِ قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ ، يَقُولُونَ: قَلَّمَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا الرَّجُلِ ، وَهُمْ يُرِيدُونَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ . وَالرَّابِعُ: فَيُؤْمِنُونَ قَلِيلًا مِنَ الزَّمَانِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمِنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَيْضًا . وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمَعْنَى: فَإِيمَانُهُمْ قَلِيلٌ ، ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ . وَحَكَى فِي "مَا" قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا زَائِدَةٌ . وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَجْمَعُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ تَخُصُّ بَعْضَ مَا عَمَّتْهُ بِمَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا .
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مِنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ مُهِينٌ [ ص: 114 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَعْنِي: الْقُرْآَنَ .
وَ"يستفتحون": يَسْتَنْصِرُونَ . وَكَانَتِ الْيَهُودُ إِذَا قَاتَلْتِ الْمُشْرِكِينَ اسْتَنْصَرُوا بِاسْمِ نَبِيِّ اللَّهِ ، مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ بِئْسَ: كَلِمَةٌ مُسْتَوْفِيَةٌ لِجَمِيعِ الذَّمِّ ، وَنَقِيضِهَا: "نِعْمَ" وَاشْتَرَوْا ، بِمَعْنَى: بَاعُوا . وَالَّذِي بَاعُوهَا بِهِ قَلِيلٌ مِنَ الدُّنْيَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَغْيًا) قَالَ قَتَادَةُ: حَسَدًا . وَمَعْنَى الْكَلَامِ: كَفَرُوا بَغْيًا ، لِأَنْ نَزَّلَ اللَّهُ الْفَضْلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) خَمْسَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ الْغَضَبَ الْأَوَّلَ لِاتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ . وَالثَّانِي: لِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ، حَكَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَوَّلَ لِتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ . وَالثَّانِي: لِعَدَاوَتِهِمْ لِجِبْرِيلَ . رَوَاهُ شَهْرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَوَّلَ حِينَ قَالُوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [ الْمَائِدَةِ: 64 ] . وَالثَّانِي: حِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّ اللَّهِ . رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ . وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْأَوَّلَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ . وَالثَّانِي: لِتَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآَنِ . قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْأَوَّلَ لِتَبْدِيلِهِمُ التَّوْرَاةَ . وَالثَّانِي: لِتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالْمَهِينُ: الْمُذِلُّ .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَعْنِي: الْقُرْآَنَ; قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا يَعْنُونَ: التَّوْرَاةَ .
وَفِي قَوْلِهِ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِمَا سِوَاهُ . وَمِثْلُهُ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [ النِّسَاءِ: 24 ] قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: بِمَا بَعْدَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الْحَقُّ) يَعُودُ عَلَى مَا وَرَاءَهُ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (22)
صــ115 إلى صــ 120
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ ، جَاءُوا بِتَأْيِيدِ التَّوْرَاةِ . وَإِنَّمَا نَسَبَ الْقَتْلَ إِلَى الْمُتَأَخِّرِي نَ لِأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ الْمُتَقَدِّمِي نَ . [ ص: 115 ] وَتَقْتُلُونَ بِمَعْنَى: قَتَلْتُمْ ، فَوَضَعَ الْمُسْتَقْبَلَ فِي مَوْضِعِ الْمَاضِي ، لِأَنَّ الْوَهْمَ لَا يَذْهَبُ إِلَى غَيْرِهِ . وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:
شَهِدَ الْحَطِيئَةَ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فِيهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: مَا فِي الْأَلْوَاحِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: الْآَيَاتُ التِّسْعُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَفِي هَاءِ "بَعْدَهُ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى مُوسَى ، فَمَعْنَاهُ: مِنْ بَعْدِ انْطِلَاقِهِ إِلَى الْجَبَلِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى الْمَجِيءِ ، لِأَنَّ "جَاءَكُمْ" يَدُلُّ عَلَى الْمَجِيءِ وَفِي ذِكْرِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا إِذَا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى الْكِتَابِ; قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أَيْ: سُقُوا حُبَّ الْعِجْلِ ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ ، وَهُوَ الْحُبُّ ، وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [ الْبَقَرَةِ: 197 ] [أَيْ: وَقْتَ الْحَجِّ ] وَقَوْلُهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ [ التَّوْبَةِ: 19 ] [أَيْ: أَجَعَلْتُمْ صَاحِبَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ ] . وَقَوْلُهُ: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ يُوسُفَ: 82 ] [أَيْ: أَهْلُهُا ] وَقَوْلُهُ: إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ [ الْإِسْرَاءِ: 75 ] . أَيْ: ضِعْفُ عَذَابِ الْحَيَاةِ . وَقَوْلُهُ: لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ [ الْحَجِّ: 40 ] . أَيْ: بُيُوتُ صَلَوَاتٍ . وَقَوْلُهُ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [ سَبَإِ: 30 ] . أَيْ: مَكْرُكُمْ فِيهِمَا . وَقَوْلُهُ: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ [ الْعَلَقِ: 17 ] أَيْ: أَهْلُهُ . [ ص: 116 ] وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أُنْبِئَتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ الْمَجْلِسُ
أَيْ: أَهْلُ الْمَجْلِسِ . وَقَالَ الْآَخَرُ
وَشَرُّ الْمَنَايَا مَيِّتٌ بَيْنَ أَهْلِهِ
أَيْ: وَشَرُّ الْمَنَايَا مَنِيَّةُ مَيِّتٍ بَيْنَ أَهْلِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ أَيْ: أَنْ تُكَذِّبُوا الْمُرْسَلِينَ ، وَتَقْتُلُوا النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَتَكْتُمُوا الْهُدَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فِي "إِنْ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى: الْجَحْدِ ، فَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِذْ عَصَيْتُمُ اللَّهَ ، وَعَبَدْتُمُ الْعِجْلَ . وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ "إِنْ" شَرْطًا مُعَلَّقًا بِمَا قَبْلَهُ ، فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ; فَبِئْسَ الْإِيمَانُ إِيمَانٌ يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ ، وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُ مْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ كَانَتِ الْيَهُودُ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقِ الْجَنَّةَ إِلَّا لِإِسْرَائِيلَ وَوَلَدِهِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عِلْمِهِمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ ، أَنَّهُمْ مَا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ ، وَأَكْبَرُ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ فَمَا تَمَنَّاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ . وَالَّذِي قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِمْ: قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ وَتَكْذِيبُهُمْ ، وَتَبْدِيلُ التَّوْرَاةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلتجدنهم) اللَّامُ: لَامُ الْقَسَمِ ، وَالنُّونُ تَوْكِيدٌ لَهُ ، وَالْمَعْنَى: وَلَتَجِدَنَّ الْيَهُودَ فِي حَالِ دُعَائِهِمْ إِلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ، وَأَحْرَصَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا . وَفِي "الَّذِينَ أَشْرَكُوا" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمَجُوسُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ ، [ ص: 117 ] وَالزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: مُشْرِكُو الْعَرَبِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ فِي الْهَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ "أَحَدِهِمْ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ . وَالثَّانِي: تَرْجِعُ إِلَى الْيَهُودِ ، قَالَ مُقَاتِلٌ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ "أَلْفَ سَنَةٍ" لِأَنَّهَا نِهَايَةٌ مَا كَانَتِ الْمَجُوسُ تَدْعُو بِهَا لِمُلُوكِهَا ، كَانَ الْمَلِكُ يَحْيَا بِأَنْ يُقَالَ: لَهُ عِشْ أَلْفَ نَيْرُوزَ ، وَأَلْفَ مَهْرَجَانَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا هُوَ) فِيهِ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّجَّاجُ ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ أَحَدِهِمُ الَّذِي جَرَى ذِكْرُهُ ، تَقْدِيرُهُ: وَمَا أَحَدُهُمْ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ تَعْمِيرُهُ . وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا جَرَى مِنَ التَّعْمِيرِ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَا تَعْمِيرُهُ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ ، ثُمَّ جَعَلَ "أَنْ يُعَمَّرَ" مُبَيِّنًا عَنْهُ ، كَأَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ الشَّيْءُ الدَّنِيءُ لَيْسَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ .
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقْبَلَتِ الْيَهُودُ إِلَى النَّبِيِّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: مَنْ يَأْتِيكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ ، فَقَالُوا: ذَاكَ يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ ، ذَاكَ عَدُوُّنَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ وَالَّتِي تَلِيهَا .
وَفِي جِبْرِيلَ إِحْدَى عَشْرَةَ لُغَةً .
إِحْدَاهَا: جِبْرِيلُ ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو . قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ:
وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعَهُمَا مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلَ
[ ص: 118 ] وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حَطَّانٍ:
وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ فِيهِمْ لَا كَفَاءَ لَهُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ اللَّهِ مَأْمُونًا
وَقَالَ حَسَّانُ:
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا وَرُوحُ الْقُدُسِ لَيْسَ لَهُ كَفَاءُ
وَاللُّغَةُ الثَّانِيَةِ: جَبْرِيلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ ، وَبَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ عَلَى وَزْنِ: فَعْلِيلٍ ، وَبِهَا قَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَابْنُ كَثِيرٍ ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا أَشْتَهِيهَا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعْلِيلٌ ، وَلَا أَرَى الْحَسَنَ قَرَأَهَا إِلَّا وَهُوَ صَوَابٌ ، لِأَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ .
وَالثَّالِثَةُ: جَبْرَئِيلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ ، وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ عَلَى وَزْنِ: جَبْرَعِيلَ ، وَبِهَا قَرَأَ ، الْأَعْمَشُ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ أَجْوَدُ اللُّغَاتِ ، وَقَالَ جَرِيرٌ:
عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ وَبَجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالَا
وَالرَّابِعَةُ: جَبْرَئِلُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالرَّاءِ وَهَمْزَةٌ بَيْنَ الرَّاءِ وَاللَّامِ ، مَكْسُورَةٌ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ عَلَى وَزْنِ: جَبْرَعِلِ ، رَوَاهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ .
وَالْخَامِسَةُ جَبْرَئِلُّ ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبَانَ عَنْ عَاصِمٍ ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ .
وَالسَّادِسَةُ: جِبْرَائِيلُ ، بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ مَعَ الْأَلِفِ .
وَالسَّابِعَةُ: جِبْرَايِيلُ بِيَائَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ أَوَّلَهُمَا مَكْسُورَةٌ .
وَالثَّامِنَةُ: جَبْرِينُ ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَنُونٍ مَكَانَ اللَّامِ .
وَالتَّاسِعَةُ: جِبْرِينُ ، بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَنُونٍ ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ . وَقَرَأْتُ عَلَى شَيْخِنَا أَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ قَالَ: فِي جِبْرِيلَ تِسْعُ لُغَاتٍ ، فَذَكَرَهُنَّ .
[ ص: 119 ] وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ "الرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ مُصْحَفَ عُثْمَانَ" جِبْرَائِلَ ، بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِثْبَاتٍ الْأَلِفِ مَعَ هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ لَيْسَ بَعْدَهَا يَاءٌ . وَجَبْرَئِينُ ، بِفَتْحِ الْجِيمِ مَعَ هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ وَنُونٌ .
فَأَمَّا مِيكَائِيلُ ، فَفِيهِ خَمْسُ لُغَاتٍ .
إِحْدَاهُنَّ: مِيكَالُ ، مِثْلُ: مِفْعَالُ بِغَيْرِ هَمْزٍ ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَبِهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ .
وَالثَّانِيَةُ: مِيكَائِيلَ بِإِثْبَاتِ يَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ ، مِثْلُ: مِيكَاعِيلُ ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ .
وَالثَّالِثَةُ: مِيكَائِلُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ ، مِثْلُ مِيكَاعِلُ ، وَبِهَا قَرَأَ نَافِعٌ ، وَابْنُ شَنَبُوذَ ، وَابْنُ الصَّبَاحِ ، جَمِيعًا عَنْ قُنْبُلٍ .
وَالرَّابِعَةُ: مِيكَئِلُ ، عَلَى وَزْنِ: مِيكَعِلُ ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ .
وَالْخَامِسَةُ: مِيكَائِينُ بِهَمْزَةٍ مَعَهَا يَاءٌ وَنُونٌ بَعْدَ الْأَلِفِ ، ذَكَرَهَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
قَالَ الْكِسَائِيُّ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ، اسْمَانِ لَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُمَا ، فَلَمَّا جَاءَا عَرَّبَتْهُمَا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ، كَقَوْلِكَ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ، ذَهَبَ إِلَى أَنَّ "إِيلَ" اسْمُ اللَّهِ ، وَاسْمُ الْمَلِكِ ، "جَبْرَ" وَ"مِيكَا" . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنَى جِبْرِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ ، وَمَعْنَى مِيكَائِيلَ: عُبَيْدُ اللهِ ، وَقَدْ دَخَلَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فِي الْمَلَائِكَةِ ، لَكِنَّهُ أَعَادَ ذِكْرَهُمَا لِشَرَفِهِمَا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [ الرَّحْمَنِ: 68 ] . وَإِنَّمَا قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ وَلَمْ يَقُلْ: لَهُمْ ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِهَذِهِ الْعَدَاوَةِ .
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [ ص: 120 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا الْوَاوُ وَاوُ الْعَطْفِ ، أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَالْمُشَارُ إِلَيْهِمُ: الْيَهُودُ . وَقِيلَ: الْعَهْدُ الَّذِي عَاهَدُوهُ ، أَنَّهُمْ قَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ خَرَجَ مُحَمَّدٌ لَنُؤْمِنَنَّ بِهِ . وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا الْعُهُودُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ ، فَنَقَضُوهَا ، كَفِعْلِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ . وَمَعْنَى نَبَذَهُ: رَفَضَهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَعْنِي الْيَهُودَ . وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ .
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابَ اللَّهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: الْقُرْآَنُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ التَّوْرَاةُ ، لِأَنَّ الْكَافِرِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَبَذُوا التَّوْرَاةَ .
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانَ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينُ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يُعَلِّمُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ .
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا لَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ عَنْ شَيْءٍ مِنَ التَّوْرَاةِ إِلَّا أَجَابَهُمْ ، فَسَأَلُوهُ عَنِ السِّحْرِ وَخَاصَمُوهُ بِهِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ سُلَيْمَانُ فِي الْقُرْآَنِ قَالَتْ يَهُودُ الْمَدِينَةَ: أَلَا تَعْجَبُونَ لِمُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيًّا؟! وَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ .
و"تَتْلُوَا" بِمَعْنَى: تَلَتْ ، وَ"عَلَى" بِمَعْنَى: فِي ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَوْلُهُ: عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أَيْ: عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ .
وَفِي كَيْفِيَّةِ مَا تَلَتِ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (23)
صــ121 إلى صــ 126
[ ص: 121 ] أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ سُلَيْمَانُ عَنْ مُلْكِهِ; كَتَبَتِ الشَّيَاطِينُ السِّحْرَ ، وَدَفَنَتْهُ فِي مُصَلَّاهُ ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ اسْتَخْرَجُوهُ ، وَقَالُوا: بِهَذَا كَانَ يَمْلِكُ الْمُلْكَ ، ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ .
وَالثَّانِي: أَنْ آَصَفَ كَانَ يَكْتُبُ مَا يَأْمُرُ بِهِ سُلَيْمَانُ ، وَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ اسْتَخْرَجَتْهُ الشَّيَاطِينُ ، فَكَتَبُوا بَيْنَ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وَكَذِبًا ، وَأَضَافُوهُ إِلَى سُلَيْمَانَ ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَتَبَتِ السِّحْرَ بَعْدَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ ، ثُمَّ أَضَافَتْهُ إِلَيْهِ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ ابْتَدَعَتِ السِّحْرَ ، فَأَخَذَهُ سُلَيْمَانُ ، فَدَفَنَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ لِئَلَّا يَتَعَلَّمَهُ النَّاسُ ، فَلَمَّا قُبِضَ اسْتَخْرَجَتْهُ ، فَعَلَّمَتْهُ النَّاسَ وَقَالُوا: هَذَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
وَالْخَامِسُ: أَنَّ سُلَيْمَانَ أَخَذَ عُهُودَ الدَّوَابِّ ، فَكَانَتِ الدَّابَّةُ إِذَا أَصَابَتْ إِنْسَانًا طَلَبَ إِلَيْهَا بِذَلِكَ الْعَهْدِ ، فَتَخَلَّى عَنْهُ ، فَزَادَ السَّحَرَةُ السَّجْعَ وَالسِّحْرَ ، قَالَهُ أَبُو مِجْلَزٍ .
وَالسَّادِسُ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانَتْ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ ، فَتَسْمَعُ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْثٍ أَوْ أَمْرٍ ، فَيَأْتُونَ الْكَهَنَةَ فَيُخْبِرُونَهُ مْ ، فَتُحَدِّثُ الْكَهَنَةُ النَّاسَ ، فَيَجِدُونَهُ كَمَا قَالُوا ، حَتَّى إِذَا أَمِنَتْهُمُ الْكَهَنَةُ كَذَبُوا لَهُمْ [وَأَدْخَلُوا فِيهِ غَيْرَهُ ] فَزَادُوا مَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعِينَ كَلِمَةً ، فَاكْتَتَبَ النَّاسُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فِي الْكُتُبِ ، وَفَشَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ ، فَبَعَثَ سُلَيْمَانُ فِي النَّاسِ ، فَجَمَعَ تِلْكَ الْكُتُبَ فِي صُنْدُوقٍ ، ثُمَّ دَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا احْتَرَقَ [وَقَالَ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ ] ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ; جَاءَ شَيْطَانٌ إِلَى نَفَرٍ مَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَدَلَّهُمْ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَضْبِطُ أَمْرَ الْخَلْقِ بِهَذَا ، فَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا ، وَاتَّخَذَ [ ص: 122 ] بَنُوا إِسْرَائِيلَ تِلْكَ الْكُتُبَ ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، خَاصَمُوهُ بِهَا ، هَذَا قَوْلُ السُّدِّيُّ .
وَسُلَيْمَانُ: اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ ، وَقَدْ تَكَلَّمَتْ بِهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَقَدْ جَعَلَهُ النَّابِغَةُ سَلِيمًا ضَرُورَةً ، فَقَالَ:
وَنَسَجَ سَلِيمُ كُلَّ قَضَاءٍ ذَائِلٍ
وَاضْطَرَّ الْحَطِيئَةُ فَجَعَلَهُ: سَلَامًا ، فَقَالَ:
فِيهِ الرِّمَاحُ وَفِيهِ كُلُّ سَابِغَةٍ جَدْلَاءُ مَحْكَمَةٌ مَنْ نَسْجَ سَلَامٍ
وَأَرَادَا جَمِيعًا: دَاوُدَ أَبَا سُلَيْمَانَ ، فَلَمْ يَسْتَقِمْ لَهُمَا الشِّعْرُ ، فَجَعَلَاهُ: سُلَيْمَانَ وَغَيَّرَاهُ .
كَذَلِكَ قَرَأْتُهُ عَلَى شَيْخِنَا أَبِي مَنْصُورٍ اللُّغَوِيِّ . وَفِي قَوْلِهِ: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِ السَّاحِرِ ، لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى السِّحْرِ ، لَا إِلَى الْكُفْرِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا .
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَعَاصِمٌ بِتَشْدِيدِ نُونِ (وَلَكِنْ) وَنُصْبِ نُونِ (الشَّيَاطِينَ) . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ (لَكِنْ) وَرَفْعِ نُونِ (الشَّيَاطِينَ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيُّ (الْمَلِكَيْنِ) بِكَسْرِ اللَّامِ ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَصَحُّ .
وَفِي "مَا" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى "مَا" الْأُولَى ، فَتَقْدِيرُهُ" وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى السِّحْرِ ، فَتَقْدِيرُهُ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ، وَيُعَلِّمُونَه ُمْ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ السِّحْرُ نَزَلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ، فَلِمَاذَا كَرِهَ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ السَّرِيِّ ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا كَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ: مَا السِّحْرُ ، وَيَأْمُرَانِ بِاجْتِنَابِهِ ، وَفِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ; لِأَنَّ سَائِلًا لَوْ قَالَ: مَا الزِّنَا؟ لَوَجَبَ [ ص: 123 ] أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى امْتَحَنَ النَّاسَ بِالْمَلَكَيْنِ ، فَمَنْ قَبِلَ التَّعَلُّمَ كَانَ كَافِرًا ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، كَمَا امْتُحِنَ بِنَهْرِ طَالُوتَ .
وَفِي الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ السِّحْرُ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَابْنِ زَيْدٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، لَا السِّحْرُ ، رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَالْقَوْلَيْنِ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ أَيْضًا .
الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّةِ الْمَلَكَيْنِ .
ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ إِنَّمَا أُنْزِلَا إِلَى الْأَرْضِ لِسَبَبٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتْ خَطَايَا بَنِي آَدَمَ; دَعَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ أُنْزِلَتِ الشَّهْوَةُ وَالشَّيَاطِينُ مِنْكُمْ مَنْزِلَتَهُمَا مِنْ بَنِي آَدَمَ ، لَفَعَلْتُمْ مِثْلَ مَا فَعَلُوا ، فَحَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ إِنِ ابْتُلُوا ، اعْتَصَمُوا ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ [ ص: 124 ] [أَنِ ] اخْتَارُوا مِنْ أَفْضَلِكُمْ مَلَكَيْنِ ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ . وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: مَاذَا فَعَلَا مِنَ الْمَعْصِيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا زَنَيَا ، وَقَتَلَا ، وَشَرِبَا الْخَمْرَةَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا جَارَا فِي الْحُكْمِ ، قَالَهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُتْبَةَ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا هُمَا بِالْمَعْصِيَةِ فَقَطْ . وَنُقِلَ عَنْ عَلَيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ الزُّهْرَةَ كَانْتِ امْرَأَةً جَمِيلَةً ، وَأَنَّهَا خَاصَمَتْ إِلَى الْمَلَكَيْنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ، فَرَاوَدَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهَا ، وَلَمْ يَعْلَمْ صَاحِبَهُ ، وَكَانَا يَصْعَدَانِ السَّمَاءَ آَخِرَ النَّهَارِ ، فَقَالَتْ لَهُمَا: بِمَ تَهْبِطَانِ وَتَصْعَدَانِ؟ قَالَا: بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ ، فَقَالَتْ: مَا أَمَّا بِمُوَاتِيَتِكُ مَا إِلَى مَا تُرِيدَانِ حَتَّى تُعَلِّمَانِيهِ ، فَعَلَّمَاهَا إِيَّاهُ ، فَطَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ ، فَمَسَخَهَا اللَّهُ كَوْكَبًا .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَعَنَ الزُّهْرَةَ ، وَقَالَ: إِنَّهَا فَتَنَتْ مَلَكَيْنِ" إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بَعِيدٌ عَنِ الصِّحَّةِ وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ ، هَذَا فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا رَأَى الْكَوْكَبَ ، ذَكَرَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ ، [ ص: 125 ] لَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مُسِخَتْ نَجْمًا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ عَذَابِهِمَا; فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا مُعَلَّقَانِ بِشُعُورِهِمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ جُبًّا مُلِئَ نَارًا فَجُعِلَا فِيهِ .
فَأَمَّا بَابِلُ; فَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ أَلْسُنَ النَّاسِ تَبَلْبَلَتْ بِهَا . وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهَا: الْكُوفَةُ وَسَوَادُهَا ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ نَصِيبَيْنِ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا جَبَلٌ فِي وَهْدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ أَيِ: اخْتِبَارٌ وَابْتِلَاءٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ يُرِيدُ: بِقَضَائِهِ . وَلَقَدْ عَلِمُوا : إِشَارَةٌ إِلَى الْيَهُودِ لَمَنِ اشْتَرَاهُ يَعْنِي: اخْتَارَهُ ، يُرِيدُ: السِّحْرَ . وَاللَّامُ لَامُ الْيَمِينِ . فَأَمَّا الْخَلَاقُ; فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ النَّصِيبُ وَالْوَافِرُ مِنَ الْخَيْرِ .
وَلَهُ تَعَالَى: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَيْ: بَاعُوهَا بِهِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْعِقَابَ فِيهِ .
[ ص: 126 ] فَصْلٌ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ; فَمَذْهَبُ إِمَامِنَا أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ ، قَتَلَ بِهِ ، أَوْ لَمْ يَقْتُلْ ، وَهَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ ، فَإِنْ قَتَلَ بِسِحْرِهِ وَقَالَ: سِحْرِي يَقْتُلُ مِثْلَهُ ، وَتَعَمَّدْتَ ذَلِكَ ، قُتِلَ قَوْدًا . وَإِنْ قَالَ: قَدْ يَقْتُلُ ، قَدْ يُخْطِئُ ، لَمْ يَقْتُلْ ، وَفِيهِ الدِّيَةُ . فَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَحْمَدَ إِلَّا أَنْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِين َ ، فَيَقْتُلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حُكْمُ سَاحِرِ أَهْلِ الْكِتَابِ حُكْمُ سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي إِيجَابِ الْقَتْلِ ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ السَّاحِرَةُ ، فَقَالَ: تُحْبَسُ ، وَلَا تُقْتَلُ .
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا يَعْنِي: الْيَهُودَ ، وَالْمَثُوبَةُ: الثَّوَابُ . لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: يُعَلِّمُونَ بِعِلْمِهِمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِلَا تَنْوِينٍ ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ ، وَالْأَعْمَشُ ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالتَّنْوِينِ ، "وَرَاعِنَا" بِلَا تَنْوِينٍ مِنْ رَاعَيْتُ ، وَبِالتَّنْوِين ِ مِنَ الرُّعُونَةِ ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: رَاعِنَا بِالتَّنْوِينِ: هُوَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ [الرَّعْنِ ] وَالرُّعُونَةِ ، أَرَادَ: لَا تَقُولُوا جَهْلًا وَلَا حُمْقًا . وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ اسْتِنْصَاتَ صَاحِبِهِ ، قَالَ: أَرْعِنِي سَمْعَكَ ، فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ: رَاعِنَا ، يُرِيدُونَ: أَنْتَ أَرْعَنُ . وَقَوْلُهُ: (انْظُرْنَا) بِمَعْنَى: انْتَظِرْنَا ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: انْظُرْنَا: اسْمَعْ مِنَّا ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا تُعَجِّلْ عَلَيْنَا .
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مِنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ ، وَنَصَارَى نَجْرَانَ ، فَالْمُشْرِكُون َ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ .
أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ أَيْ: عَلَى رَسُولِكُمْ . مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَرَادَ: النُّبُوَّةَ وَالْإِسْلَامَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (24)
صــ127 إلى صــ 132
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: أَرَادَ بِالْخَيْرِ: الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ وَالْحِكْمَةُ .
وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ
فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا النُّبُوَّةُ ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، وَمُجَاهِدٌ وَالزَّجَّاجُ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْإِسْلَامُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ .
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهَ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ .
سَبَبُ نُزُولِهَا: أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ لَمَّا نُسِخَتِ الْقِبْلَةُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَحِلُّ لِأَصْحَابِهِ إِذَا شَاءَ ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ إِذَا شَاءَ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ .
قَالَ الزَّجَّاجُ: النَّسْخُ فِي اللُّغَةِ: إِبْطَالُ شَيْءٍ وَإِقَامَةُ آَخَرَ مَقَامِهِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ: إِذَا أَذْهَبَتْهُ ، وَحَلَّتْ مَحَلَّهُ ، وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا النَّسْخِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: رَفْعُ اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ . وَالثَّانِي: تَبْدِيلُ الْآَيَةِ بِغَيْرِهَا ، رُوِيَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ السُّدِّيُّ ، . وَالثَّانِي: قَوْلُ مُقَاتِلٍ . وَالثَّالِثُ: رَفْعُ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ اللَّفْظِ ، رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (مَا نَنْسَخُ) بِضَمِّ النُّونِ ، وَكَسْرِ السِّينِ . قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: أَيْ: مَا نَجِدُهُ مَنْسُوخًا كَقَوْلِكَ: أَحَمَدْتُ فُلَانًا ، أَيْ: وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا ، وَإِنَّمَا يَجِدُهُ مَنْسُوخًا بِنَسْخِهِ إِيَّاهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ نُنْسِهَا) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: (نَنَسْأَهَا) بِفَتْحِ النُّونِ مَعَ [ ص: 128 ] الْهَمْزَةُ ، وَالْمَعْنَى نُؤَخِّرُهَا . قَالَ أَبُو زَيْدٍ: نَسَأَتِ الْإِبِلِ عَنِ الْحَوْضِ ، فَإِنْ أَنْسَأَهَا: إِذَا أَخَّرَتْهَا ، وَمِنْهُ: النَّسِيئَةُ فِي الْبَيْعِ . وَفِي مَعْنَى نُؤَخِّرُهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: نُؤَخِّرُهَا عَنِ النَّسْخِ فَلَا نَنْسَخُهَا ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ . وَالثَّانِي: نُؤَخِّرُ إِنْزَالهَا ، فَلَا نَنْزِلُهَا الْبَتَّةَ . وَالثَّالِثُ: نُؤَخِّرُهَا عَنِ الْعَمَلِ بِهَا بِنَسْخِنَا إِيَّاهَا ، حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ . وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: (تَنْسَهَا) بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَنُونٍ . وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالضَّحَّاكُ: (تَنْسَهَا) بِضَمِّ التَّاءِ . وَقَرَأَ نَافِعٌ: (أَوَنُنْسُهَا) بِنُونَيْنِ ، الْأُولَى مَضْمُومَةٌ ، وَالثَّانَيَةُ سَاكِنَةٌ . أَرَادَ: أَوْ نُنْسِكَهَا ، مِنَ النِّسْيَانِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِاللِّينِ مِنْهَا ، وَأَيْسَرَ عَلَى النَّاسِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ مِثْلِهَا) أَيْ: فِي الثَّوَابِ وَالْمَنْفَعَةِ ، فَتَكُونُ الْحِكْمَةُ فِي تَبْدِيلِهَا بِمِثْلِهَا الِاخْتِبَارَ . (أَلَمْ تَعْلَمْ) لَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ ، وَمَعْنَاهُ التَّوْقِيفُ وَالتَّقْرِيرُ . وَالْمُلْكُ فِي اللُّغَةِ: تَمَامُ الْقُدْرَةِ وَاسْتِحْكَامُه َا ، فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَحْكُمُ بِمَا يَشَاءُ عَلَى عِبَادِهِ ، وَبِغَيْرِ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحْكَامٍ .
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ .
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ رَافِعَ بْنَ حُرَيْمِلَةَ ، وَوَهْبَ بْنَ زَيْدٍ ، قَالَا لِرَسُولِ اللَّهِ: ائْتِنَا بِكِتَابٍ نَقْرَؤُهُ تُنْزِلُهُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْنَا ، وَفَجِّرْ لَنَا أَنْهَارًا حَتَّى نَتَّبِعَكَ ، فَنَزَلَتِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا ، فَقَالَ: "هُوَ لَكُمْ كَالْمَائِدَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [إِنْ كَفَرْتُمْ ] فَأَبَوْا" قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
[ ص: 129 ] . وَالثَّالِثُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كَانَتْ كَفَّارَتُنَا كَكَفَّارَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ لَا نَبْغِيهَا ، مَا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ ، خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، كَانُوا إِذَا أَصَابَ أَحَدَهُمُ الْخَطِيئَةُ; وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً عَلَى بَابِهِ وَكَفَّارَتَهَا ، فَإِنَّ كَفَّرَهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الْآَخِرَةِ ، فَقَدْ أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ . فَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ] [ النِّسَاءِ: 110 ] . وَقَالَ: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ" فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيَّ أَتَى النَّبِيَّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ: وَاللَّهِ لَا أُؤْمِنُ بِكَ حَتَّى تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ قَبِيلًا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . ذَكَرَهُ ابْنُ السَّائِبِ .
وَالْخَامِسُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ جَاؤُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا . وَقَالَ آَخَرُ: لَنْ أُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَسِيرَ لَنَا جِبَالُ مَكَّةَ ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: لَنْ أُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَ بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ ، فِيهِ: مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى ابْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: اعْلَمْ أَنِّي قَدْ أَرْسَلْتُ مُحَمَّدًا إِلَى النَّاسِ . وَقَالَ آَخَرُ: هَلَّا جِئْتَ بِكِتَابِكَ مُجْتَمِعًا ، كَمَا جَاءَ مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِيِّ .
وَفِي الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآَيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قُرَيْشٍ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي: الْيَهُودُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: جَمِيعُ الْعَرَبِ ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ . [ ص: 130 ] وَفِي "أَمْ" قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى: بَلْ ، تَقُولُ الْعَرَبُ: هَلْ لَكَ عَلَيَّ حَقٌّ ، أَمْ أَنْتَ مَعْرُوفٌ بِالظُّلْمِ . يُرِيدُونَ: بَلْ أَنْتَ . وَأَنْشَدُوا:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى وَصُورَتَهَا أَمْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ .
وَالثَّانِي: بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ . فَإِنِ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ ، فَقَالَ: إِنَّمَا تَكُونُ لِلِاسْتِفْهَام ِ إِذَا كَانَتْ مَرْدُودَةً عَلَى اسْتِفْهَامٍ قَبْلَهَا ، فَأَيْنَ الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي تَقَدَّمَهَا؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَهَا اسْتِفْهَامٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : هِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى الْأَلِفِ فِي: (أَلَمْ تَعْلَمْ) فَإِنِ اعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ ، فَقِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ الْعَطْفُ وَلَفْظُ: (أَلَمْ تَعْلَمْ) يُنْبِئُ عَنِ الْوَاحِدِ ، وَ(تُرِيدُونَ) عَنْ جَمَاعَةٍ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ الْخِطَابُ مِنَ التَّوْحِيدِ إِلَى الْجَمْعِ ، لِأَنَّ مَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ خُوطِبَتْ بِهِ أُمَّتُهُ ، فَاكْتَفَى بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ فِي الْمُخَاطَبَةِ الْأُولَى ، ثُمَّ أَظْهَرَ الْمَعْنَى فِي الْمُخَاطَبَةِ الثَّانِيَةِ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ الطَّلَاقِ: 1 ] . ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . فَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي عَنْ (أَمْ); فَهُوَ أَنَّهَا لِلِاسْتِفْهَام ِ ، وَلَيْسَتْ مَرْدُودَةً عَلَى شَيْءٍ . قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا تَوَسَّطَ الِاسْتِفْهَامُ الْكَلَامَ; ابْتُدِئَ بِالْأَلِفِ وَبِأَمْ ، وَإِذَا لَمْ يَسْبِقْهُ كَلَامٌ; لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِالْأَلِفِ أَوْ بِ"هَلْ" وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : "أَمْ" جَارِيَةٌ مَجْرَى "هَلْ" غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا: أَنَّ "هَلْ" اسْتِفْهَامٌ مُبْتَدَأٌ ، لَا يَتَوَسَّطُ وَلَا يَتَأَخَّرُ ، وَ"أَمْ": اسْتِفْهَامٌ مُتَوَسِّطٌ ، لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ كَلَامٍ .
فَأَمَّا الرَّسُولُ هَاهُنَا; فَهُوَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالَّذِي سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلِ قَوْلُهُمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [ النِّسَاءِ: 153 ] . وَهَلْ سَأَلُوا ذَلِكَ نَبِيًّا أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ سَأَلُوا ذَلِكَ ، فَقَالُوا: ( لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتَّى تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ قُبَيْلًا ) [ الْإِسْرَاءِ: 92 ] قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ بِالَغُوا فِي الْمَسَائِلِ ، [ ص: 131 ] فَقِيلَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْآَيَةِ: لَعَلَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا مُحَمَّدًا أَنْ يُرِيَكُمُ اللَّهُ جَهْرَةً ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ .
وَالْكُفْرُ: الْجُحُودُ . وَالْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمَعْنَى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الشِّدَّةَ بِالرَّخَاءِ . وَسَوَاءَ السَّبِيلِ: وَسْطُهُ .
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ ، وَأَبَا يَاسِرٍ كَانَا جَاهِدَيْنِ فِي رَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ كَانَ يَهْجُوا النَّبِيَّ ، وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي شِعْرِهِ ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ حِينَ قَدِمَهَا ، فَأَمَرَ النَّبِيَّ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ دَعَوْا حُذَيْفَةَ وَعَمَّارًا إِلَى دِينِهِمْ ، فَأَبَيَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَمَعْنَى "وَدَّ" أَحَبَّ وَتَمَنَّى . وَأَهْلُ الْكِتَابِ: الْيَهُودُ . قَالَ الزَّجَّاجُ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مَوْصُولٌ: بِـ (وَدَّ كَثِيرٌ) ، لَا بِقَوْلِهِ: حَسَدًا لِأَنَّ حَسَدَ الْإِنْسَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ، وَالْمَعْنَى مَوَدَّتُهُمْ لِكُفْرِكُمْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ، لَا أَنَّهُ عِنْدَهُمُ الْحَقُّ . فَأَمَّا الْحَسَدُ ، فَهُوَ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ لِلْحَاسِدِ مِثْلُهَا ، وَتُفَارِقُهُ الْغِبْطَةُ ، فَإِنَّهَا تَمَنِّي مِثْلَهَا مِنْ غَيْرِ حُبِّ زَوَالِهَا عَنِ الْمَغْبُوطِ . وَحَدَّ بَعْضُهُمُ الْحَسَدَ فَقَالَ: هُوَ أَذًى يَلْحَقُ بِسَبَبِ الْعِلْمِ بِحُسْنِ حَالِ الْأَخْيَارِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاضِلُ حَسُودًا ، لِأَنَّ الْفَاضِلَ يَجْرِي عَلَى مَا هُوَ الْجَمِيلُ [ ص: 132 ] وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كُلُّ أَحَدٍ يُمْكِنُ أَنْ تُرْضِيهِ إِلَّا الْحَاسِدُ ، فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ إِلَّا زَوَالُ نِعْمَتِكَ . وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ ظَالِمًا أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنَ الْحَاسِدِ ، حُزْنٌ لَازِمٌ ، وَنَفَسٌ دَائِمٌ ، وَعَقْلٌ هَائِمٌ ، وَحَسْرَةٌ لَا تَنْقَضِي .
قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَجَاءَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فِي النَّضِيرِ بِالْجَلَاءِ وَالنَّفْيِ ، وَفِي قُرَيْظَةَ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ .
فَصْلٌ
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [ التَّوْبَةِ: 29 ] وَأَبَى هَذَا الْقَوْلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءُ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِالصَّفْحِ وَالْعَفْوِ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ إِلَى غَايَةٍ ، وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ يُخَالِفُ حُكْمَ مَا قَبْلَهَا ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمَنْسُوخِ ، بَلْ يَكُونُ الْأَوَّلُ قَدِ انْقَضَتْ مُدَّتُهُ بِغَايَتِهِ ، وَالْآَخَرُ يَحْتَاجُ إِلَى حُكْمٍ آَخَرَ .
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهِ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَجِدُوهُ) أَيْ: تَجِدُوا ثَوَابَهُ .
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (25)
صــ133 إلى صــ 138
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اخْتَصَمَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتِ الْيَهُودَ: لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا ، وَكَفَرُوا بِالْإِنْجِيلِ وَعِيسَى . وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ، وَكَفَرُوا بِالتَّوْرَاةِ وَمُوسَى; فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْآَيَةِ مُجْمَلٌ ، وَمَعْنَاهُ: قَالَتِ الْيَهُودَ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا . وَالْيَهُودُ ، جَمْعُ: هَائِدٍ . (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) أَيْ: ذَاكَ شَيْءٌ يَتَمَنَّوْنَهُ ، وَظَنٌّ يَظُنُّونَهُ ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ .
قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ أَيْ: حُجَّتُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بِأَنَّ الْجَنَّةَ لَا يُدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى . ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا زَعَمُوا فَقَالَ: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ وَأَسْلَمَ ، بِمَعْنَى: أَخْلَصَ . وَفِي الْوَجْهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الدِّينُ . وَالثَّانِي: الْعَمَلُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ مُحْسِنٌ أَيْ: فِي عَمَلِهِ; فَلَهُ أَجْرُهُ قَالَ الزَّجَّاجُ: يُرِيدُ: فَهُوَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمْ يَتْلُوا كِتَابَهُ بِتَصْدِيقِ مَا كَفَرَ بِهِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ ، وَقَتَادَةُ . كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وَفِيهِمْ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ مُشْرِكُوا الْعَرَبِ قَالَهُ لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ: لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أُمَمٌ كَانُوا قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، كَقَوْمِ نُوحٍ ، وَهُودٍ ، وَصَالِحٍ ، قَالَهُ عَطَاءٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ الزَّجَّاجُ: يُرِيدُ حُكْمَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ ، فَيُرِيهِمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَيَانًا [وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ عَيَانًا ] فَأَمَّا الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَقَدِ فَقَدْ بَيَّنَهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا أَقَامَ عَلَى الصَّوَابِ مِنَ الْحُجَجِ .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ .
[ ص: 134 ] أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الرُّومِ ، كَانُوا ظَاهَرُوا بُخْتِنْصَّرَ عَلَى خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ، فَخَرَّبَ وَطُرِحَتِ الْجِيَفُ فِيهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي آَخَرِينَ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَالُوا بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَبَيْنَ مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبَيةَ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . وَفِي الْمُرَادِ بِخَرَابِهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَقَضَهَا ، . وَالثَّانِي: مَنَعَ ذِكْرَ اللَّهِ فِيهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ أَحْوَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ . قَالَ السُّدِّيُّ: لَا يَدْخُلُ رُومِيٌّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ ، أَوْ قَدْ أُخِيفَ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ ، تَقْدِيرُهُ: عَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ فِي جِهَادِهِمْ كَيْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ .
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ خِزْيَهُمُ الْجِزْيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَتَحَ الْقُسْطَنْطِين ِيَّةَ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ طَرَدَهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَلَا يَدْخُلُهُ مُشْرِكٌ أَبَدًا ظَاهِرًا ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهِ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ .
فِي نُزُولِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزْوَةٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ ، فَلَمْ يَعْرِفُوا الْقِبْلَةَ ، فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَسْجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَصَلَّى ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا إِذَا هُمْ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآَيَةَ . رَوَاهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي التَّطَوُّعِ بِالنَّافِلَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غَافِرِ: 60 ] قَالُوا إِلَى أَيْنَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ ، وَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ; قَالُوا إِنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: فَثَمَّ اللَّهُ يُرِيدُ: عِلْمَهُ مَعَكُمْ أَيْنَ كُنْتُمْ ، [ ص: 135 ] وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ . وَالْوَاسِعُ: الَّذِي وَسِعَ غِنَاهُ مَفَاقِرَ عِبَادِهِ ، وَرَزَقَهُ جَمِيعَ خَلْقِهِ . وَالسِّعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْغِنَى .
فَصْلٌ
وَهَذِهِ الْآَيَةُ مُسْتَعْمَلَةُ الْحُكْمِ فِي الْمُجْتَهِدِ إِذَا صَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، وَفِي صَلَاةِ الْمُتَطَوِّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَالْخَائِفِ . وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى نَسْخِهَا ، فَقَالُوا: إِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ; تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ الْبَقَرَةِ: 144 ] .
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآَنِ أَمْرٌ خَاصٌّ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَقَوْلُهُ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ لَيْسَ صَرِيحًا بِالْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِهَاتِ كُلِّهَا سَوَاءٌ فِي جَوَازِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا; دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَجَبَ التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالسُّنَّةِ ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْقُرْآَنِ .
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا .
اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ إِذْ جَعَلُوا عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ حَيْثُ قَالُوا: عِيسَى ابْنُ اللَّهِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا فِي النَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ ، لِأَنَّ النَّصَارَى قَالَتْ: عِيسَى ابْنُ اللَّهِ ، وَالْمُشْرِكِين َ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ ، ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ .
فَأَمَّا الْقُنُوتُ; فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَيَيْنِ . أَحَدُهُمَا: الْقِيَامُ . وَالثَّانِي: الطَّاعَةُ . وَالْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَا لِ أَنَّ الْقُنُوتَ: الدُّعَاءُ فِي الْقِيَامِ ، فَالْقَانِتُ: الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي جَمِيعِ الطَّاعَاتِ ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَامٌ عَلَى الرِّجْلَيْنِ; فَهُوَ قِيَامٌ بِالنِّيَّةِ ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا أَرَى أَصْلَ الْقُنُوتِ [ ص: 136 ] إِلَّا الطَّاعَةَ ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْخِلَال مِنَ الصَّلَاةِ ، وَالْقِيَامِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ عَنْهَا .
وَلِلْمُفَسِّرِ ينَ فِي الْمُرَادِ بِالْقُنُوتِ هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الطَّاعَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْإِقْرَارُ بِالْعِبَادَةِ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّالِثُ: الْقِيَامُ ، قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَالرَّبِيعُ .
وَفِي مَعْنَى الْقِيَامِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقِيَامُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ بِالْعُبُودِيَّ ةِ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْقِيَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَمَّ بِهَذَا الْقَوْلِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ لَيْسَ لَهُ بِمُطِيعٍ؟ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ . أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهَا ظَاهِرَ الْعُمُومِ ، وَمَعْنَاهَا مَعْنَى الْخُصُوصِ . وَالْمَعْنَى: كُلُّ أَهْلِ الطَّاعَةِ لَهُ قَانِتُونَ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْكُفَّارَ تَسْجُدُ ظِلَالُهُمْ لِلَّهِ بِالْغَدَوَاتِ وَالْعَشِيَّاتِ ، فَنُسِبَ الْقُنُوتُ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ قَانِتٍ هَلْ بِأَثَرِ صُنْعِهِ فِيهِ ، وَجَرْيِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى ذُلِّهِ لِلرَّبِّ . ذَكَرَهُنَّ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ .
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ
الْبَدِيعُ: الْمُبْدِعُ ، وَكُلُّ مَنْ أَنْشَأَ شَيْئًا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ قِيلَ لَهُ: أَبْدَعْتَ . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبَدِيعُ ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى: مُفْعِلٍ ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ فَطَرَ الْخَلَقَ مُخْتَرِعًا لَهُ لَا عَلَى مِثَالٍ سَبَقَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قَضَى أَمْرًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى الْقَضَاءِ: الْإِرَادَةُ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا قَضَى أَمْرًا فِي عِلْمِهِ ، فَإِنَّ مَا يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ . وَالْجُمْهُورُ عَلَى ضَمِّ نُونِ (فَيَكُونُ) ، بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ . وَالْمَعْنَى: فَهُوَ يَكُونُ . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِنَصْبِ النُّونِ . قَالَ مَكِّيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ: النَّصْبُ عَلَى الْجَوَابِ ، لَكِنَّ فِيهِ بُعْدٌ .
فَصْلٌ
وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا عَلَى قِدَمِ الْقُرْآَنِ بِقَوْلِهِ: (كُنْ) فَقَالُوا: لَوْ كَانَتْ "كُنْ" مَخْلُوقَةً; لَافْتَقَرَتْ إِلَى إِيجَادِهَا بِمِثْلِهَا وَتَسَلْسُلُ ذَلِكَ ، وَالْمُتَسَلْسِ لُ مُحَالٌ . فَإِنْ قِيلَ: هَذَا خِطَابٌ لِمَعْدُومٍ; [ ص: 137 ] فَالْجَوَابُ أَنَّهُ خِطَابُ تَكْوِينٍ يُظْهِرُ أَثَرَ الْقُدْرَةِ ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ مَوْجُودًا ، لِأَنَّهُ بِالْخِطَابِ كَانَ ، فَامْتَنَعَ وَجُودُهُ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ . وَيُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ مَا سَيَكُونُ مُتَصَوِّرَ الْعِلْمِ ، فَضَاهَى بِذَلِكَ الْمَوْجُودَ ، فَجَازَ خِطَابُهُ لِذَلِكَ .
وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: النَّصَارَى ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّالِثُ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَلَوْلَا بِمَعْنَى: هَلَّا .
وَفِي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّالِثُ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ: فِي الْكُفْرِ .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ .
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا: "لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ!" فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَأْسَهُ بِالْيَهُودِ لَآَمَنُوا" فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
وَفِي الْمُرَادِ (بِالْحَقِّ) هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْقُرْآَنُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: الْإِسْلَامُ ، قَالَهُ ابْنُ كِيسَانَ . وَالثَّالِثُ: الصِّدْقُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُسْأَلُ عَنْ : الْأَكْثَرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْخَبَرِ ، وَالْمَعْنَى: لَسْتُ بِمَسْؤُولٍ عَنْ أَعْمَالِهِمْ . وَقَرَأَ نَافِعٌ ، وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ ، عَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهُمْ .
[ ص: 138 ] وَجَوَّزَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: لَا تَسْأَلُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ . فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِمَا هُمْ فِيهِ . فَأَمَّا الْجَحِيمُ; فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَحِيمُ: النَّارُ ، وَالْجَمْرُ عَلَى الْجَمْرِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْجَحِيمُ: النَّارُ الْمُسْتَحْكِمَ ةُ الْمُتَلَظِّيَة ُ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْجَحِيمُ: النَّارُ الشَّدِيدَةُ الْوَقُودِ ، وَقَدْ جَحَمَ فَلَانٌ النَّارَ: إِذَا شَدَّدَ وَقُودَهَا ، وَيُقَالُ: لَعَيْنِ الْأَسَدِ: جُحْمَةٌ لِشِدَّةِ تُوَقُّدِهَا . وَيُقَالُ: لِوَقُودِ الْحَرْبِ ، وَهُوَ شِدَّةُ الْقِتَالِ فِيهَا: جَاحِمٌ . وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْجَاحِمُ: الْمَكَانُ الشَّدِيدُ الْحُرِّ . قَالَ الْأَعْشَى:
يُعِدُّونَ لِلْهَيْجَاءِ قَبْلَ لِقَائِهَا غَدَاةَ اخْتِضَارِ الْبَأْسِ وَالْمَوْتُ جَاحِمٌ
وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْجَحِيمُ . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ النَّارُ جَحِيمًا ، لِأَنَّهَا أُكْثِرَ وُقُودُهَا ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: جَحَمْتُ النَّارَ أَجْحَمُهَا: إِذَا أَكْثَرْتَ لَهَا الْوَقُودَ .
قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ:
يَرَى طَاعَةَ اللَّهِ الْهُدَى وَخِلَافَهُ الضَّلَالَةُ يُصْلِي أَهْلَهَا جَاحِمُ الْجَمْرِ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (26)
صــ139 إلى صــ 144
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنَ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى .
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ كَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قِبْلَتِهِمْ ، فَلَمَّا صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ يَئِسُوا مِنْهُ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ دَعَوْهُ إِلَى دِينِهِمْ ، فَنَزَلَتْ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ الْهُدْنَةَ ، وَيُطْمِعُونَهُ فِي أَنَّهُ إِنْ هَادَنَهُمْ وَافَقُوهُ; فَنَزَلَتْ ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ .
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمِلَّةُ فِي اللُّغَةِ: السُّنَّةُ وَالطَّرِيقُهُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَ(هُدَى اللَّهِ) هَاهُنَا: الْإِسْلَامُ . وَفِي الَّذِي جَاءَهُ مِنَ الْعِلْمِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ التَّحَوُّلُ إِلَى الْكَعْبَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْبَيَانُ بِأَنَّ دِينَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْقُرْآَنُ . وَالرَّابِعُ: [ ص: 139 ] الْعِلْمُ بِضَلَالَةِ الْقَوْمِ . مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنَ وَلِيٍّ يَنْفَعُكَ وَلا نَصِيرٍ يَمْنَعُكَ مِنْ عُقُوبَتِهِ .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ .
اخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْيَهُودِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: فِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ ، وَقَتَادَةُ . وَفِي الْكِتَابِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقُرْآَنُ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ التَّوْرَاةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أَيْ: يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي هَاءِ "بِهِ" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الْكِتَابِ . وَالثَّانِي: عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا بَعْدَ هَذَا قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ وَالِابْتِلَاءُ : الِاخْتِبَارُ . وَفِي إِبْرَاهِيمَ سِتُّ لُغَاتٍ . أَحَدُهَا: إِبْرَاهِيمُ ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفَاشِيَّةُ . وَالثَّانِيَةُ: إِبْرَاهُمْ . وَالثَّالِثَةُ: إِبْرَاهَمْ وَالرَّابِعَةُ: إِبْرَاهِمْ ، ذَكَرَهُنَّ الْفَرَّاءُ . وَالْخَامِسَةُ: إِبْرَاهَامُ . وَالسَّادِسَةُ: إِبَرَهَمُ . قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ:
عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبَرَهَمُ مُسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةِ وَهْوَ قَائِمٌ
وَقَالَ أَيْضًا:
نَحْنُ آَلُ اللَّهِ فِي كَعْبَتِهِ لَمْ يَزَلْ ذَاكَ عَلَى عَهْدِ إِبَرِهِيمَ
وَفِي الْكَلِمَاتِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهَا خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ ، وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ . أَمَّا الَّتِي فِي الرَّأْسِ; فَالْفَرْقُ ، وَالْمَضْمَضَةُ ، وَالِاسْتِنْشَا قُ ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ، وَالسِّوَاكُ . وَفِي الْجَسَدِ: تَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ ، وَحَلْقُ [ ص: 140 ] الْعَانَةِ ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ ، وَالِاسْتِطَابَ ةُ بِالْمَاءِ ، وَالْخِتَانُ ، رَوَاهُ طَاوُسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَشْرٌ ، سِتٌّ فِي الْإِنْسَانِ ، وَأَرْبَعٌ فِي الْمَشَاعِرِ . فَالَّتِي فِي الْإِنْسَانِ: حَلْقُ الْعَانَةِ ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ ، وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ، وَالسِّوَاكُ ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَالْغَسْلُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ . وَالَّتِي فِي الْمَشَاعِرِ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ ، وَالْإِفَاضَةُ . رَوَاهُ حَنَشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الْمَنَاسِكُ ، رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ ، وَالشَّمْسِ ، وَالْقَمَرِ ، وَالْهِجْرَةِ ، وَالنَّارِ ، وَذَبْحِ وَلَدِهِ ، وَالْخِتَانِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ .
وَالْخَامِسُ: أَنَّهَا كُلُّ مَسْأَلَةٍ فِي الْقُرْآَنِ ، مِثْلُ قَوْلِهِ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [ إِبْرَاهِيمَ: 35 ] . وَنَحْوَ ذَلِكَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ فَمَنْ قَالَ: هِيَ أَفْعَالٌ فَعَلَهَا; قَالَ: مَعْنَى فَأَتَمَّهُنَّ: عَمِلَ بِهِنَّ . وَمَنْ قَالَ: هِيَ دَعَوَاتٌ وَمَسَائِلٌ; قَالَ: مَعْنَى فَأَتَمَّهُنَّ: أَجَابَهُ اللَّهُ إِلَيْهِنَّ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: (إِبْرَاهِيمُ) بِرَفْعِ الْمِيمِ (رَبَّهُ) بِنَصْبِ الْبَاءِ ، عَلَى مَعْنَى: اخْتَبَرَ رَبَّهُ هَلْ يَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُ ، وَيَتَّخِذُهُ خَلِيلًا أَمْ لَا؟ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فِي الذُّرِّيَّةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِعْلِيَّةٌ مِنَ الذَّرِّ ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ الْخَلْقَ مِنْ صُلْبِ آَدَمَ كَالذَّرِّ . وَالثَّانِي: أَنَّ أَصْلَهَا ذَرُّورَةٌ ، عَلَى وَزْنِ: فَعْلُولَةٌ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَثُرَ التَّضْعِيفُ أُبْدِلَ مِنَ الرَّاءِ الْأَخِيرَةِ يَاءٌ ، فَصَارَتْ: ذُرْوِيَّةً ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ ، فَصَارَتْ: ذُرِّيَّةً ، ذَكَرَهُمَا الزَّجَّاجُ ، وَصَوَّبَ الْأَوَّلَ .
وَفِي الْعَهْدِ هَاهُنَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْإِمَامَةُ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الطَّاعَةُ ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: الرَّحْمَةُ ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ . وَالرَّابِعُ: الدِّينُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالْخَامِسُ: [ ص: 141 ] النُّبُوَّةُ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالسَّادِسُ: الْأَمَانُ ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ . وَالسَّابِعُ: الْمِيثَاقُ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَفِي الْمُرَادِ بِالظَّالِمِينَ هَاهُنَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْكُفَّارُ ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: الْعُصَاةُ ، قَالَهُ عَطَاءٌ .
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ الْبَيْتُ هَاهُنَا: الْكَعْبَةُ ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَدْخُلُ لِلْمَعْهُودِ ، أَوْ لِلْجِنْسِ ، فَلَمَّا عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْجِنْسَ; انْصَرَفَ إِلَى الْمَعْهُودِ ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمُثَابُ وَالْمَثَابَةُ وَاحِدٌ ، كَالْمُقَامِ وَالْمَقَامَةِ ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَالْمَثَابَةُ: الْمَعَادُ ، مِنْ قَوْلِكَ: ثُبْتُ إِلَى كَذَا ، أَيْ: عُدْتُ إِلَيْهِ ، وَثَابَ إِلَيْهِ جِسْمُهُ بَعْدَ الْعِلَّةِ: إِذَا عَادَ ، فَأَرَادَ: أَنَّ النَّاسَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَمْنًا) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ حَدِيثًا فِي غَيْرِهِ ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ; فَهُوَ آَمِنٌ ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ لَا يُبَايِعُوهُ ، وَلَا يُطْعِمُوهُ ، وَلَا يَسْقُوهُ ، وَلَا يُؤْوُوهُ ، وَلَا يُكَلَّمْ حَتَّى يَخْرُجَ ، فَإِذَا خَرَجَ; أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَصَفَ الْبَيْتَ بِالْأَمْنِ ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْحَرَمِ ، كَمَا قَالَ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ وَالْمُرَادُ: الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَا يَذْبَحُ فِي الْكَعْبَةِ ، وَلَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ الْحُكْمِ ، لَا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ فَقَطْ .
وَفِي (مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْحَرَمُ كُلُّهُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَ ةُ وَالْجِمَارُ ، قَالَهُ عَطَاءٌ . وَعَنْ مُجَاهِدٍ كَالْقَوْلَيْنِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، قَالُوا: الْحَجُّ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ . وَالثَّالِثُ: الْحَجَرُ ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ، فَنَزَلَتْ .
[ ص: 142 ] وَفِي سَبَبِ وُقُوفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْحَجَرِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَاءَ يَطْلُبُ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ ، فَلَمْ يَجِدْهُ ، فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: انْزِلْ ، فَأَبَى ، فَقَالَتْ: فَدَعْنِي أَغْسِلْ رَأْسَكَ ، فَأَتَتْهُ بِحَجْرٍ فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ رَاكِبٌ ، فَغَسَلَتْ شِقَّهُ ، ثُمَّ رَفَعَتْهُ وَقَدْ غَابَتْ رِجْلُهُ فِيهِ ، فَوَضَعَتْهُ تَحْتَ الشِّقِّ الْآَخَرِ وَغَسَلَتْهُ ، فَغَابَتْ رِجْلُهُ فِيهِ ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ شِعَارِهِ ، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَامَ عَلَى الْحَجَرِ لِبِنَاءِ الْبَيْتِ ، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
قَرَأَ الْجُمْهُورُ ، مِنْهُمُ: ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَعَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ : (وَاتَّخِذُوا) بِكَسْرِ الْخَاءِ; عَلَى الْأَمْرِ . وَقَرَأَ نَافِعٌ ، وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْخَبَرِ . قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْنَ تَرَوْنَ أَنْ نُصَلِّيَ؟" فَقَالَ عُمَرُ: إِلَى الْمَقَامِ ، فَنَزَلَتْ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَجْهُ فَتْحِ الْخَاءِ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِذِ اتَّخَذُوا . وَيُؤَكِّدُ الْفَتْحَ فِي الْخَاءِ أَنَّ الَّذِي بَعْدَهُ خَبَرٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَعَهِدْنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَيْ: أَمَرْنَاهُمَا وَأَوْصَيْنَاهُ مَا . وَإِسْمَاعِيلُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: إِسْمَاعِيلُ ، وَإِسْمَاعِينُ . وَأَنْشَدُوا:
قَالَ جِوَارِي الْحَيِّ لَمَّا جِينَا هَذَا وَرَبِّ الْبَيْتِ إِسْمَاعِينَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ قَالَ قَتَادَةُ: يُرِيدُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالشِّرْكِ ، وَقَوْلِ الزُّورِ . فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ بَيْتٌ; فَمَا مَعْنَى أَمَرَهُمَا بِتَطْهِيرِهِ؟ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَتْ هُنَاكَ أَصْنَامٌ ، فَأُمِرَا بِإِخْرَاجِهِا ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ . وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: ابْنِيَاهُ مُطَهَّرًا ، قَالَهُ السُّدِّيُّ . وَالْعَاكِفُونَ : الْمُقِيمُونَ ، يُقَالُ: عَكَفَ يَعْكِفُ وَيَعْكُفُ عُكُوفًا: إِذَا أَقَامَ ، وَمِنْهُ: الِاعْتِكَافُ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْزِلُ فِي [ ص: 143 ] كُلِّ لَيْلَةٍ وَيَوْمَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ يَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتَ: سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ ، وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ" .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مِنَ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا الْبَلَدُ: صَدْرُ الْقُرَى ، وَالْبَالِدُ: الْمُقِيمُ بِالْبَلَدِ ، وَالْبَلْدَةُ: الصَّدْرُ ، وَوَضَعَتِ النَّاقَةُ بَلْدَتَهَا: إِذَا بَرَكَتْ ، وَالْمُرَادُ بِالْبَلَدِ هَاهُنَا: مَكَّةُ . وَمَعْنَى (آمِنًا): ذَا أَمْنٍ . وَأَمْنُ الْبَلْدَةِ مَجَازٌ ، وَالْمُرَادُ: أَمِنَ مِنْ فِيهِ . وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْأَمْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ سَأَلَهُ الْأَمْنَ مِنَ الْقَتْلِ . وَالثَّانِي: مِنَ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ . وَالثَّالِثُ: مِنَ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ . قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ إِبْرَاهِيمَ: لِمَنْ آَمَنَ ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَنْ كَفَرَ فَسَأَرْزُقُهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأُمَتِّعُهُ) وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (فَأُمَتِّعُهُ) بِالتَّخْفِيفِ ، مِنْ أَمْتَعْتَ . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ . مِنْ: مُتِّعْتُ . وَالْإِمْتَاعُ: إِعْطَاءُ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُتْعَةُ . وَالْمُتْعَةُ: أَخْذُ الْحَظِّ مِنْ لَذَّةِ مَا يَشْتَهِي . وَبِمَاذَا يُمَتِّعُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: بِالْأَمْنِ . وَالثَّانِي: بِالرِّزْقِ .
وَالِاضْطِّرَار ُ: الْإِلْجَاءُ إِلَى الشَّيْءِ ، وَالْمَصِيرُ: مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْأَمْرُ .
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ ص: 144 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ .
الْقَوَاعِدُ: أَسَاسُ الْبَيْتِ ، وَاحِدُهَا: قَاعِدَةٌ . فَأَمَّا قَوَاعِدُ النِّسَاءِ; فَوَاحِدَتُهَا: قَاعِدٌ ، وَهِيَ الْعَجُوزُ . (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) أَيْ: يَقُولَانِ: رَبَّنَا ، فَحَذَفَ ذَلِكَ ، كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [ الرَّعْدِ: 25 ] . أَرَادَ: يَقُولُونَ . وَ(السَّمِيعُ) بِمَعْنَى: السَّامِعُ ، لَكِنَّهُ أَبْلُغُ ، لِأَنَّ بِنَاءَ فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَيَكُونُ السَّمَاعُ بِمَعْنَى الْقَبُولِ وَالْإِجَابَةِ ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: :"أَعُوذُ بِكَ مِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ" أَيْ: لَا يُسْتَجَابُ . وَقَوْلُ الْمُصَلِّي: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، أَيْ: قَبِلَ اللَّهُ حَمْدَ مَنْ حَمَدَهُ . وَأَنْشَدُوا:
دَعَوْتُ اللَّهَ حَتَّى خِفْتُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ
الْإِشَارَةُ إِلَى بِنَاءِ الْبَيْتِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (27)
صــ145 إلى صــ 150
رَوَى أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَحُجُّ إِلَى الْبَيْتِ قَبْلَ آَدَمَ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أُهْبِطَ آَدَمُ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آَدَمُ اذْهَبْ فَابْنِ لِي بَيْتًا فَطُفْ بِهِ ، وَاذْكُرْنِي حَوْلَهُ كَمَا رَأَيْتَ مَلَائِكَتِي تَصْنَعُ حَوْلَ عَرْشِي . فَأَقْبَلَ يَسْعَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَبَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجُبِلٍ: مِنْ لِبْنَانَ ، وَطُورِ سَيْنَاءَ ، وَطُورِ زِيتَا ، وَالْجُودِيِّ ، وَحِرَاءَ ، فَكَانَ آَدَمُ أَوَّلَ مَنْ أَسَّسَ الْبَيْتَ ، وَطَافَ بِهِ ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الطُّوفَانَ ، فَدَرَسَ مَوْضِعَ الْبَيْتِ ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ; ضَاقَ بِهِ ذَرْعًا ، وَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَهَيْئَةِ السَّحَابَةِ ، فِيهَا رَأْسٌ يَتَكَلَّمُ ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ عَلِّمْ عَلَى ظِلِّي ، فَلَمَّا عَلَّمَ ارْتَفَعَتْ . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَبْنِي عَلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ ، قَالَ: وَحَفَرَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ تَحْتِ السِّكِّينَةِ ، فَأَبْدَى عَنْ قَوَاعِدَ ، مَا تُحَرِّكُ الْقَاعِدَةَ مِنْهَا دُونَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا . فَلَمَّا بَلَغَ مَوْضِعَ الْحَجَرِ ، قَالَ لِإِسْمَاعِيلَ: [ ص: 145 ] الْتَمِسْ لِي حَجَرًا ، فَذَهَبَ يَطْلُبُ حَجَرًا ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، فَوَضَعَهُ ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ ، قَالَ: مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا الْحَجَرِ؟ قَالَ: جَاءَ بِهِ مَنْ لَمْ يَتَّكِلْ عَلَى بِنَائِي وَبِنَائِكَ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ: رَفَعَا الْقَوَاعِدَ الَّتِي كَانَتْ قَوَاعِدَ قَبْلَ ذَلِكَ . وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ; لَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَبْنِي ، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُ رِيحًا ، فَكَنَسَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَنِ الْأَسَاسِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ الْبَيْتُ عَلَيْهِ قَبْلَ الطُّوفَانِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُسْلِمُ فِي اللُّغَةِ: الَّذِي قَدِ اسْتَسْلَمَ لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَخَضَعَ . وَالْمَنَاسِكُ: الْمُتَعَبِّدَا تُ . فَكُلُّ مُتَعَبَّدٍ مَنْسَكٌ وَمَنْسِكٌ ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْعَابِدِ: نَاسِكٌ . وَتُسَمَّى الذَّبِيحَةُ الْمُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ: النَّسِيكَةُ . وَكَأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّسُكِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الذَّبِيحَةِ لِلَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا أَيْ: مَذَابِحُنَا . قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (وَأَرِنَا) بِجَزْمِ الرَّاءِ . وَ رَبِّ أَرِنِي [ الْأَعْرَافِ: 143 ] . وَ أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلانَا [ فُصِّلَتْ: 29 ] . وَقَرَأَ نَافِعٌ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ (أَرِنَا) بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ . وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَابْنِ عَامِرٍ كَذَلِكَ ، إِلَّا أَنَّهُمَا أَسْكَنَا الرَّاءَ مِنْ (أَرِنَا اللَّذَيْنِ) وَحْدَهَا . قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: (أَرِنَا) وَكَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ يَجْزِمُ الرَّاءَ ، فَيَقُولُ: (أَرْنَا مَنَاسِكَنَا) وَقَرَأَ بِهَا بَعْضُ الثِّقَاتِ . وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرِ لَنَا دَقِيقًا وَاشْتَرِ فَعَجِّلْ خَادِمًا لَبِيقًا
وَأَنْشَدَنِي الْكِسَائِيُّ:
وَمَنْ يَتَّقِ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَهُ وَرِزْقُ اللَّهِ مُؤْتَابٌ وَغَادِي
قَالَ قَتَادَةُ: أَرَاهُمَا اللَّهُ مَنَاسِكَهُمَا: الْمَوْقِفُ بِعَرَفَاتٍ ، وَالْإِفَاضَةُ مِنْ جَمْعٍ ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ ، وَالطَّوَافُ ، وَالسَّعْيُ . وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْبَيْتِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ ، فَأَرَاهُ الطَّوَافَ ، [ ص: 146 ] ثُمَّ أَتَى بِهِ جَمْرَةُ الْعَقَبَةَ ، فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ ، وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمُ سَبْعًا ، وَقَالَ لَهُ: ارْمِ وَكَبِّرْ ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ حَتَّى غَابَ الشَّيْطَانُ . ثُمَّ أَتَى بِهِ جَمْرَةَ الْوُسْطَى ، فَعَرَضَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ ، وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ ، فَقَالَ: ارْمِ وَكَبِّرْ ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ حَتَّى غَابَ الشَّيْطَانُ . ثُمَّ أَتَى بِهِ الْجَمْرَةَ الْقُصْوَى ، فَعَرَضَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ ، وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ . فَقَالَ لَهُ: ارْمِ وَكَبِّرْ ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ حَتَّى غَابَ الشَّيْطَانُ ، ثُمَّ أَتَى بِهِ مِنَى ، فَقَالَ: هَاهُنَا يَحْلِقُ النَّاسُ رُؤُوسَهُمْ ، ثُمَّ أَتَى بِهِ جَمْعًا ، فَقَالَ: هَاهُنَا يُجْمَعُ النَّاسُ ، ثُمَّ أَتَى بِهِ عَرَفَةَ ، فَقَالَ: أَعَرَفْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ: فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ فِي الْهَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ (فِيهِمْ) قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَالْفَرَّاءُ . وَالثَّانِي: عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فِي قَوْلِهِ: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) وَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ؟ قَالَ: "دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ ، وَبُشْرَى عِيسَى ، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ" وَالْكِتَابُ: الْقُرْآَنُ . وَالْحِكْمَةُ: السُّنَّةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَرُوِيَ عَنْهُ: الْحِكْمَةُ: الْفِقْهُ وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ ، وَمَوَاعِظُ الْقُرْآَنِ . وَسُمِّيَتِ الْحِكْمَةُ حِكْمَةً ، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ الْجَهْلِ .
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيُزَكِّيهِمْ) ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْهُمْ فَيُطَهِّرُهُمْ بِهَا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْفَرَّاءُ . وَالثَّانِي: يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا يَصِيرُونَ بِهِ أَزْكِيَاءَ .
[ ص: 147 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْعِزُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا: بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ ، يَقُولُونَ: مَنْ عَزَّ بَزَّ . أَيْ: مَنْ غَلَبَ سَلَبَ . يُقَالُ مِنْهُ: عَزَّ يَعُزُّ ، بِضَمِّ الْعَيْنِ مَنْ يَعُزُّ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ ص: 28 ] . وَالثَّانِي: بِمَعْنَى الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ ، يُقَالُ مِنْهُ: عَزَّ يَعَزُّ ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ مَنْ يَعَزُّ . وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى نَفَّاسَةِ الْقِدْرِ ، يُقَالُ مِنْهُ: عَزَّ يَعِزُّ بِكَسْرِ الْعَيْنِ ، مَنْ يَعِزُّ . وَيَتَنَاوَلُ مَعْنَى الْعَزِيزِ عَلَى أَنَّهُ الَّذِي لَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ ، وَلَا مِثْلَ لَهُ .
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ
سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ دَعَا ابْنَيْ أَخِيهِ مُهَاجِرًا وَسَلَمَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَأَسْلَمَ سَلَمَةُ ، وَرَغِبَ عَنِ الْإِسْلَامِ مُهَاجِرٌ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَ "مِنْ" لَفْظِهَا لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ ، وَمَعْنَاهَا التَّقْرِيرُ وَالتَّوْبِيخُ . وَالْمَعْنَى: مَا يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مِنْ سَفِهَ نَفْسَهُ . وَيُقَالُ: رَغِبْتُ فِي الشَّيْءِ: إِذَا أَرَدْتُهُ . وَرَغِبْتُ عَنْهُ: إِذَا تَرَكْتُهُ . وَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ: دِينُهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: إِلَّا مِنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَيُونُسُ . قَالَ يُونُسَ: وَلِذَلِكَ تَعَدَّى إِلَى النَّفْسِ فَنَصَبَهَا ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: نُصِبَتِ النَّفْسُ لِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ فِي نَفْسِهِ .
[ ص: 148 ] قَالَ الشَّاعِرُ:
نُغَالِي اللَّحْمَ لِلْأَضْيَافِ نِيئًا وَنُرَخِّصُهُ إِذَا نَضِجَ الْقُدُورَ
وَالثَّانِي: إِلَّا مَنْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ . وَالثَّالِثُ: إِلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ ، كَمَا يُقَالُ: غَبَنَ فُلَانٌ رَأْيَهُ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ . قَالَ الْفَرَّاءُ: نَقَلَ الْفِعْلَ عَنِ النَّفْسِ إِلَى ضَمِيرِ "مَنْ" وَنُصِبَتِ النَّفْسُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالتَّفْسِيرِ ، كَمَا يُقَالُ: ضِقْتُ بِالْأَمْرِ ذَرْعًا ، يُرِيدُونَ: ضَاقَ ذَرْعِي بِهِ ، وَمِثْلُهُ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [ مَرْيَمَ: 4 ] . وَالرَّابِعُ: إِلَّا مَنْ جَهِلَ نَفْسَهُ ، فَلَمْ يُفَكِّرْ فِيهَا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : لَمِنَ الصَّالِحِي الْحَالِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّالِحُ فِي الْآَخِرَةِ: الْفَائِزُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ وَذَلِكَ حِينَ وُقُوعِ الِاصْطِفَاءِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا رَأَى الْكَوْكَبَ وَالْقَمَرَ وَالشَّمْسَ ، قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ، أَيْ: أَخْلِصْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَوَصَّى) قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: (وَأَوْصَى) بِأَلِفٍ ، مَعَ تَخْفِيفِ الصَّادِ ، وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ أَلِفٍ مُشَدَّدَةِ الصَّادِ ، وَهَذَا لِاخْتِلَافِ الْمَصَاحِفِ . أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ قُشَيْشٍ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ حَيُّويَهْ ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ، قَالَ: أَخْبَرْنَا ثَعْلَبٌ ، قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ قَالَ: اخْتَلَفَ مُصْحَفَا أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ حَرْفًا: كَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: (وَأَوْصَى) وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (وَوَصَّى) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: سَارَعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [ آَلِ عِمْرَانَ: 133 ] . بِغَيْرِ وَاوٍ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (وَسَارَعُوا) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا [ الْمَائِدَةِ: 56 ] . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (وَيَقُولُ) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: مِنْ يَرْتَدِدْ [ الْمَائِدَةِ: 57 ] . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (مَنْ يَرْتَدُّ) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا [ التَّوْبَةِ: 108 ] . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (وَالَّذِينَ) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: خَيْرًا مِنْهُمَا مُنْقَلِبًا [ الْكَهْفِ: 37 ] . وَأَهْلُ [ ص: 149 ] الْعِرَاقِ (مِنْهَا) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: فَتَوَكُّل عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [ الشُّعَرَاءِ: 217 ] . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (وَتَوَكَّلْ) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: وَأَنْ يَظْهَرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادُ [ الْمُؤْمِنِ: 26 ] . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي "حم عسق": (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) بِغَيْرِ فَاءٍ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (فَبِمَا) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مَا تَشْتَهِيه الْأَنْف [ الزُّخْرُفِ: 71 ] . بِالْهَاءِ . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (مَا تَشْتَهِي) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيَّ الْحَمِيدَ [ الْحَدِيدِ: 26 ] وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وَكَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: فُلًّا يَخَافُ عُقْبَاهَا [ الشَّمْسِ: 15 ] . وَأَهْلُ الْعِرَاقِ: (وَلَا يَخَافُ) .
وَوَصَّى أَبْلَغُ مَنْ أَوْصَى ، لِأَنَّهَا تَكُونُ لِمَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَهَاءُ "بِهَا" تَعُودُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ . قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَالزَّجَّاجُ . قَالَ مُقَاتِلٌ: وَبَنُوهُ أَرْبَعَةٌ: إِسْمَاعِيلُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَمَدِينُ ، وَمَدَائِنُ . وَذَكَرَ غَيْرُ مُقَاتِلٍ أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يُرِيدُ: الْزَمُوا الْإِسْلَامَ ، فَإِذَا أَدْرَكَكُمُ الْمَوْتُ صَادَفَكُمْ عَلَيْهِ .
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ
سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ يَعْقُوبَ أَوْصَى بَنِيهِ يَوْمَ مَاتَ بِالْيَهُودِيَّ ةِ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أَيْ: مَضَتْ ، يُشِيرُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ ، وَيَعْقُوبُ وَبَنِيهِ .
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [ ص: 150 ] وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا .
مَعْنَاهُ: قَالَتِ الْيَهُودَ: كُونُوا هُودًا ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى ، تَهْتَدُوا .
بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا الْمَعْنَى: بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي حَالِ حَنِيفِيَّتِهِ . وَفِي الْحَنِيفِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمَائِلُ إِلَى الْعِبَادَةِ . قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَنِيفُ فِي اللُّغَةِ: الْمَائِلُ إِلَى الشَّيْءِ ، أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ أَحْنَفٌ ، وَهُوَ الَّذِي تَمِيلُ قَدَمَاهُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَى أُخْتِهَا بِأَصَابِعِهَا . قَالَتْ أُمُّ الْأَحْنَفِ تُرَقِّصُهُ:
وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ وَدِقَّةٌ فِي سَاقِهِ مِنْ هَزْلِهِ مَا كَانَ فِي فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْمُسْتَقِيمُ ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَعْرَجِ: حَنِيفٌ نَظَرًا لَهُ إِلَى السَّلَامَةِ ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ . وَقَدْ وَصَفَ الْمُفَسِّرُونَ الْحَنِيفَ بِأَوْصَافٍ ، فَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الْمُخْلِصُ ، وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: هُوَ الَّذِي يَحُجُّ . وَقَالَ غَيْرُهُمَا: هُوَ الَّذِي يُوَحِّدُ وَيَحُجُّ ، وَيُضَحِّي وَيَخْتَتِنُ ، وَيَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ .
فَأَمَّا الْأَسْبَاطُ: فَهُمْ بَنَوْا يَعْقُوبَ ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا . قَالَ الزَّجَّاجُ: السِّبْطُ فِي اللُّغَةِ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَى أَبٍ وَاحِدٍ . وَالسِّبْطُ فِي اللُّغَةِ: الشَّجَرَةُ لَهَا قَبَائِلُ ، فَالسِّبْطُ: الَّذِينَ هُمْ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ .
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ آمَنُوا يَعْنِي: أَهْلَ الْكِتَابِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (28)
صــ151 إلى صــ 156
قَوْلُهُ تَعَالَى: بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: مِثْلُ إِيمَانِكُمْ ، [ ص: 151 ] فَزِيدَتِ الْبَاءُ لِلتَّوْكِيدِ ، كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [ مَرْيَمَ: 24 ] . قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا: الْكِتَابُ ، وَتَقْدِيرُهُ: فَإِنْ آَمَنُوا بِكِتَابِكُمْ كَمَا آَمَنْتُمْ بِكِتَابِهِمْ ، قَالَهُ أَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَثَلَ هَاهُنَا: صِلَةٌ ، وَالْمَعْنَى ، فَإِنْ آَمَنُوا بِمَا آَمَنْتُمْ بِهِ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشُّورَى: 11 ] . أَيْ: لَيْسَ كَهُوٍ شَيْءٌ وَأَنْشَدُوا:
يَا عَاذِلِي دَعْنِي مِنْ عَذْلِكَا مِثْلِي لَا يَقْبَلُ مِنْ مِثْلِكَا
أَيْ: أَنَا لَا أَقْبَلُ مِنْكَ ، فَأَمَّا الشِّقَاقُ; فَهُوَ الْمُشَاقَّةُ وَالْعَدَاوَةُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ قَدْ شَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ ، يُرِيدُونَ: فَارَقَ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنِ اتِّبَاعِ إِمَامِهِمْ ، فَكَأَنَّهُ صَارَ فِي شَقٍّ غَيْرِ شَقِّهِمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ هَذَا ضَمَانٌ لِنَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةَ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: صِبْغَةَ اللَّهِ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا إِذَا وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ وَلَدٌ ، فَأَتَى عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ، صَبَغُوهُ فِي مَاءٍ لَهُمْ ، يُقَالُ لَهُ: الْمَعْمُودِيَّ ةُ ، لِيُطَهِّرُوهُ بِذَلِكَ ، وَيَقُولُونَ: هَذَا طَهُورُ مَكَانٍ الْخِتَانِ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ; قَالُوا: صَارَ نَصْرَانِيًّا حَقًّا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَابْنُ زَيْدٍ: (صِبْغَةُ اللَّهِ) دِينُهُ . قَالَ الْفَرَّاءُ: (صِبْغَةَ اللَّهِ) [نُصِبَ ] مَرْدُودَةٌ عَلَى الْمِلَّةِ . وَقَرَأَ ابْنُ عَبْلَةَ: (صِبْغَةُ اللَّهِ) بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى: هَذِهِ صِبْغَةُ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ قَرَأَ: (مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ) بِالرَّفْعِ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى: هَذِهِ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُرَادُ بِصِبْغَةِ اللَّهِ: الْخِتَانُ ، فَسَمَّاهُ صِبْغَةً ، لِأَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَصْبُغُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي مَاءٍ [وَيَقُولُونَ: هَذَا طُهْرَةٌ لَهُمْ ، كَالْخِتَانِ لِلْحُنَفَاءِ ] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (صِبْغَةُ اللَّهِ) أَيِ: الْزَمُوا صِبْغَةَ اللَّهِ ، صِبْغَةُ النَّصَارَى أَوْلَادَهُمْ ، وَأَرَادَ بِهَا: مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ . وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا سُمِّيَ الدِّينُ صِبْغَةً لِبَيَانِ أَثَرِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ ، كَظُهُورِ الصَّبْغِ عَلَى الثَّوْبِ .
[ ص: 152 ] قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ: يَهُودُ الْمَدِينَةِ ، وَنَصَارَى نَجْرَانَ . وَالْمُحَاجَّةُ : الْمُخَاصَمَةُ فِي الدِّينِ ، فَإِنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: نَحْنُ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ . وَقِيلَ: ظَاهَرَتِ الْيَهُودُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ ، فَقِيلَ لَهُمْ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مُوَحِّدُونَ ، وَنَحْنُ نُوَحِّدُ ، فَلِمَ ظَاهَرْتُمْ مَنْ لَا يُوَحِّدُ؟!
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : هَذَا الْكَلَامُ اقْتَضَى نَوْعُ مُسَاهَلَةٍ ، ثُمَّ نُسِخَ بِآَيَةِ السَّيْفِ .
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الْآَيَةِ .
سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ ، وَنَصَارَى نَجْرَانَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ : إِنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ كَانُوا مِنَّا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَكَانُوا عَلَى دِينِنَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَمَعْنَى الْآَيَةِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْلَمَنَا بِدِينِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلَاأَحَدَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ . قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ ، وَأَبُو عَمُورٍ: (أَمْ يَقُولُونَ) بِالْيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْيَهُودِ . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ: (تَقُولُونَ) بِالتَّاءِ لِأَنَّ قَبْلَهَا مُخَاطَبَةٌ ، وَهِيَ "أَتحاجوننا" وَبُعْدَهَا (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ) .
وَفِي الشَّهَادَةِ الَّتِي كَتَمُوهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَهِدَ عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةٍ لِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذَكَرَ مَعَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ، فَكَتَمُوهَا ، قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَتَمُوا الْإِسْلَامَ ، وَأَمْرَ مُحَمَّدٍ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ دِينُهُ الْإِسْلَامَ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ .
[ ص: 153 ] سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مِنَ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ .
فِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْيَهُودُ ، قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ ، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ قَالُوا ذَلِكَ ، وَالْآَيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ . وَالسُّفَهَاءُ: الْجَهَلَةُ . مَا وَلَّاهُمْ ، أَيْ: صَرَفَهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ: يُرِيدُ: قِبْلَةَ الْمُقْدِسِ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُدَّةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ قَدُومِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ ، قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ . وَالثَّانِي: سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، قَالَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ . وَالرَّابِعُ: تِسْعَةُ أَشْهُرٍ ، أَوْ عَشْرَةُ أَشْهُرٍ ، قَالَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ . وَالْخَامِسُ: سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا . وَالسَّادِسُ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، رُوِيَ الْقَوْلَانِ عَنْ قَتَادَةَ .
وَهَلْ كَانَ اسْتِقْبَالُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِرَأْيِهِ ، أَوْ عَنْ وَحْيٍ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْيِهِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالرَّبِيعُ . وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ النَّاسُ يَتَوَجَّهُونَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاؤُوا بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [ الْبَقَرَةِ: 115 ] . ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَفِي سَبَبِ اخْتِيَارِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: لِيَتَأَلَّفَ أَهْلُ الْكِتَابِ ، ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ . وَالثَّانِي: لِامْتِحَانِ الْعَرَبِ بِغَيْرِ مَا أَلِفُوهُ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
[ ص: 154 ] وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولُ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهُ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا .
سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: قَبِلَتُنَا قَبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَنَحْنُ عَدْلٌ بَيْنَ النَّاسِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو سَعِيدٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْوَسَطُ: الْعَدْلُ ، الْخِيَارُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَوْسَطُهُمْ [ الْقَلَمِ: 28 ] . أَيْ: أَعْدَلُهُمْ ، وَخَيْرُهُمْ . قَالَ الشَّاعِرُ:
هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ إِذَا نَزَلْتَ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ خَيْرَ الْأَشْيَاءِ أَوْسَاطُهُا ، وَالْغُلُوُّ وَالتَّقْصِيرُ مَذْمُومَانِ . وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ مِنَ التَّوَسُّطِ فِي الْفِعْلِ ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُقَصِّرُوا فِي دِينِهِمْ كَالْيَهُودِ ، فَإِنَّهُمْ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ ، وَبَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ ، وَلَمْ يَغْلُوا كَالنَّصَارَى ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: فِي هَذَا الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ ، وَمَعْنَاهُ: جَعَلْتُ قَبْلَتَكُمْ وَسَطًا بَيْنَ الْقِبْلَتَيْنِ ، فَإِنَّ الْيَهُودَ يُصَلُّونَ نَحْوَ الْمَغْرِبِ ، وَالنَّصَارَى نَحْوَ الْمَشْرِقِ ، وَأَنْتُمْ بَيْنَهُمَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: لِتَشْهَدُوا لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمْ . رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ ، وَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ ، وَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَبَلَغَكُمْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا ، فَيُقَالُ: لِلنَّبِيِّ: أَبْلَغْتَهُمْ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ ، فَيُقَالُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ; فَيَشْهَدُونَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا ، فَيُقَالُ: مَا عِلْمُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: [ ص: 155 ] أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا ، فَصَدَّقْنَاهُ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَهَذَا مَذْهَبُ عِكْرِمَةَ ، وَقَتَادَةَ . وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَلَى الْأُمَمِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِمَاذَا يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ؟ فِي ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: بِأَعْمَالِهِمْ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، وَابْنُ زَيْدٍ . وَالثَّانِي: بِتَبْلِيغِهِمُ الرِّسَالَةَ ، قَالَهُ قَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّالِثُ: بِإِيمَانِهِمْ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . فَيَكُونُ عَلَى هَذَا "عَلَيْكُمْ" بِمَعْنَى: لَكُمْ . قَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يُسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا نَبِيُّهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا يُرِيدُ: قِبْلَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ . (إِلا لِنَعْلَمَ) فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: لِنَرَى . وَالثَّانِي: لِنُمَيِّزَ . رُوِيَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: لِنُعْلِمَهُ وَاقِعًا ، إِذْ عِلْمُهُ قَدِيمٌ ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "لِنَرَى" وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْعِلْمَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ ، وَالْمَعْنَى: لِتَعْلَمُوا أَنْتُمْ ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ أَيْ: يَرْجِعُ إِلَى الْكُفْرِ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ ، وَمُقَاتِلٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً فِي الْمُشَارِ إِلَيْهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ التَّوْلِيَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا قِبْلَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ التَّحَوُّلِ عَنْهَا ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَالزَّجَّاجُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ نَزَلَ عَلَى سَبَبٍ; وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟! فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ وَالْإِيمَانُ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا أُرِيدَ بِهِ: الصَّلَاةُ فِي قَوْلِ الْجَمَاعَةِ . وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ [ ص: 156 ] الصَّلَاةُ إِيمَانًا ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى قَوْلٍ وَنِيَّةٍ وَعَمَلٍ . قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنَّمَا أَسْنَدَ الْإِيمَانَ إِلَى الْأَحْيَاءِ [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ] وَالْمَعْنَى: فِيمَنْ مَاتَ [مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ الْقِبْلَةُ ] لِأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ مَعَهُمْ فِي الْمِلَّةِ . قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَرَءُوفٌ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَابْنُ عَامِرٍ ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: (لَرَؤُوفٌ) عَلَى وَزْنِ: لَرَعُوفٌ ، فِي جَمِيعِ الْقُرْآَنِ ، وَوَجْهُهَا: أَنْ فَعُولًا أَكْثَرُ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ فَعِلٍ ، فَبَابُ ضَرُوبٍ وَشَكُورٍ ، أَوْسَعُ مِنْ بَابِ حَذِرٍ وَيَقِظٍ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: (لَرَؤُفٌ) عَلَى وَزْنِ: رَعُفٍ . وَيُقَالُ: هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْحِجَازِ . قَالَ جَرِيرٌ:
تَرَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْكَ حَقًّا كَفِعْلِ الْوَالِدِ الرَّؤُفِ الرَّحِيمِ
وَالرَّؤُوفُ بِمَعْنَى: الرَّحِيمُ ، هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ . وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّأْفَةَ أَبْلَغُ الرَّحْمَةِ وَأَرَقُّهَا . قَالَ: وَيُقَالُ: الرَّأْفَةُ أَخَصُّ ، وَالرَّحْمَةُ أَعَمُّ .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهِكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (29)
صــ157 إلى صــ 162
سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ ، قَالَهُ الْبَرَاءُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ . وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآَيَةَ مُقَدِّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ اخْتِيَارِ النَّبِيِّ الْكَعْبَةَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ ، رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: لِمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَمَعْنَى تَقَلُّبَ وَجْهِهِ: نَظَرُهُ إِلَيْهَا يَمِينًا وَشِمَالًا . و "فِي" بِمَعْنَى: "إِلَى" وَ "تَرْضَاهَا" بِمَعْنَى: تُحِبُّهَا وَ "الشَّطْرُ": النَّحْوُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَتَى النَّاسَ [ ص: 157 ] آَتٍ وَهُمْ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقِبَاءٍ ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآَنٌ ، وَأُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ ، أَلَا فَاسْتَقْبَلُوه َا [وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ ] فَاسْتَدَارُوا وَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ .
فَصْلٌ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيُّ: وَقْتٍ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهَا حُوِّلَتْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ الْمَدِينَةَ ، قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا حُوِّلَتْ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا حُوِّلَتْ فِي جُمَادَى الْآَخِرَةَ ، حَكَاهُ ابْنُ سَلَامَةَ الْمُفَسِّرُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ .
وَفِي الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: الْيَهُودُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ يُشِيرُ إِلَى مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِبَاقِي الْآَيَةِ عَلَى كِتْمَانِهِمْ مَا عَلِمُوا . وَمِنْ أَيْنَ عَلِمُوا أَنَّهُ الْحَقُّ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ فِي كِتَابِهِمُ الْأَمْرُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّانِي: يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي كِتَابِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ صَادِقٌ ، فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِحَقٍّ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ جَوَازَ النَّسْخِ .
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [ ص: 158 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ .
سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ يَهُودَ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ: ائْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أَتَى الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَكَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ يُرِيدُ: الْكَعْبَةَ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لِأَنَّ الْيَهُودَ يُصَلُّونَ قِبَلَ الْمَغْرِبِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَالنَّصَارَى قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ فَصَلَّيْتَ إِلَى قِبْلَتِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ قَالَ مُقَاتِلٌ: يُرِيدُ بِالْعِلْمِ: الْبَيَانَ .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ فِي هَاءِ "يَعرفونه" قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: تَعُودُ عَلَى صَرْفِهِ إِلَى الْكَعْبَةِ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا . وَفِي الْحَقِّ الَّذِي كَتَمُوهُ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ التَّوَجُّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ ، وَمُقَاتِلٌ فِي آَخَرِينَ .
وَفِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ . وَالثَّانِي: وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا عَلَى مُخَالِفِهِ مِنَ الْعِقَابِ .
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ .
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ: هَذَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ . وَالْمُمْتَرُون َ: الشَّاكُّونَ ، وَالْخِطَابُ عَامٌّ .
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ ص: 159 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
أَيْ: لِكُلِّ أَهْلٍ دِينٌ وَجِهَةٌ . الْمُرَادُ بِالْوِجْهَةِ: الْقِبْلَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي آَخَرِينَ . قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ: جِهَةٌ ، وَوِجْهَةٌ . وَفِي "هُوَ" ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَالْمَعْنَى: اللَّهُ مُوَلِّيهَا إِيَّاهُمْ ، أَيْ: أَمَرَهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا . وَالثَّانِي: تَرْجِعُ إِلَى الْمُتَوَلَّى ، فَالْمَعْنَى: هُوَ مُوَلِّيهَا نَفْسَهُ ، فَيَكُونُ "هُوَ" ضَمِيرُ كُلٍّ . وَالثَّالِثُ: يَرْجِعُ إِلَى الْبَيْتِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ: أَمَرَ كُلَّ قَوْمٍ أَنْ يَصِلُوا إِلَى الْكَعْبَةِ . وَالْجُمْهُورُ يَقْرَؤُونَ: (مُوَلِّيهَا) وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ، وَالْوَلِيدُ عَنْ يَعْقُوبَ: "هُوَ مَوْلَاهَا" بِأَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ ، فَضَمِيرُ "هُوَ" لِكُلِّ ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْن ِ مُتَقَارِبٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْ: بَادَرُوهَا . وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَغْلِبُوا عَلَى قِبْلَتِكُمْ ، أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فَأَمَّا إِعَادَةُ قَوْلِهِ:
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ تَكْرِيرُ تَأْكِيدٍ ، لِيَحْسِمَ طَمَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي رُجُوعِ الْمُسْلِمِينَ أَبَدًا إِلَى قِبْلَتِهِمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ فِي النَّاسِ قَوْلَانِ ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلٌ ، . وَالثَّانِي: مُشْرِكُوا الْعَرَبِ ، رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ; قَالَ: احْتِجَاجُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ: مَا لَكَ تَرَكْتَ قِبْلَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟! إِنْ كَانَتْ ضَلَالَةً; فَقَدْ دِنْتَ بِهَا اللَّهَ ، وَإِنْ كَانَتْ هُدًى; فَقَدْ نَقَلْتَ عَنْهَا . وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالُوا اشْتَاقَ الرَّجُلُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ وَدِينِ قَوْمِهِ . وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي; قَالَ: احْتِجَاجُ الْمُشْرِكِينَ [ ص: 160 ] أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِكُمْ ، وَيُوشِكُ أَنْ يَعُودَ إِلَى دِينِكُمْ .
وَتَسْمِيَةُ بَاطِلِهِمْ حُجَّةٌ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ عَنِ الْمُحْتَجِّ بِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ الشُّورَى: 16 ] . وَقَوْلُهُ: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [ غَافِرِ: 83 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ بِاحْتِجَاجِهِ فِيمَا قَدْ وُضَحَ لَهُ ، كَمَا تَقُولُ: مَا لَكَ عَلِيَّ حُجَّةٌ إِلَّا الظُّلْمُ ، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَظْلِمَنِي . أَيْ: مَا لَكَ عَلِيَّ الْبَتَّةَ ، وَلَكِنَّكَ تَظْلِمُنِي . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فِي انْصِرَافِكُمْ إِلَى الْكَعْبَةِ (وَاخْشَوْنِي) فِي تَرْكِهَا .
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمُ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ: "كَمَا" لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِمَا قَبْلَهَا ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً بِقَوْلِهِ: (فَاذْكُرُونِي) وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ عَلَيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، مُقَاتِلٍ . وَالْآَيَةُ خِطَابٌ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ . وَفِي قَوْلِهِ: (وَيُزَكِّيهِمْ) ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ، قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ . وَالْكِتَابُ: الْقُرْآَنُ . وَالْحِكْمَةُ: السُّنَّةُ .
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاذْكُرُونِي) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِمَغْفِرَتِي . وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ: كَمَا أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ بِالرِّسَالَةِ ، فَاذْكُرُونِي بِتَوْحِيدِي وَتَصْدِيقِ نَبِيِّي . قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ جَوَابُ: (كَمَا أَرْسَلْنَا): (فَاذْكُرُونِي)؟ فَإِنَّ قَوْلَهُ: (فَاذْكُرُونِي) أَمْرٌ . وَقَوْلُهُ: (أَذْكُرْكُمْ) جَزَاؤُهُ; فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ تَذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي الشُّكْرُ: الِاعْتِرَافُ بِحَقِّ الْمُنْعِمِ ، مَعَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ .
[ ص: 161 ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ .
سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: سَيَرْجِعُ مُحَمَّدٌ إِلَى دِينِنَا ، كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَعِينُوا عَلَى طَلَبِ الْآَخِرَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، بِالصَّلَاةِ ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الصَّبْرِ ، وَبَيَانِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَبِالصَّلَاةِ .
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ) .
سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِقَتْلَى بَدْرٍ وَأُحُدٍ: مَاتَ فُلَانٌ بِبَدْرٍ ، مَاتَ فُلَانٌ بِأُحُدٍ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَرَفَعَ الْأَمْوَاتَ بِإِضْمَارِ مُكَنَّى مِنْ أَسْمَائِهِمْ ، أَيْ: لَا تَقُولُوا: هُمْ أَمْوَاتٌ ، ذَكَرَ نَحْوَهُ الْفَرَّاءُ . فَإِنْ قِيلَ: فَنَحْنُ نَرَاهُمْ مَوْتَى ، فَمَا وَجْهُ النَّهْيِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَقُولُوا: هُمْ أَمْوَاتٌ لَا تَصِلُ أَرْوَاحَهُمْ إِلَى الْجَنَّاتِ ، وَلَا تَنَالُ مِنْ تُحَفِ اللَّهِ مَا لَا يَنَالُهُ الْأَحْيَاءُ بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ ، أَرْوَاحُهُمْ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ ، فَهُمْ أَحْيَاءٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ، وَإِنْ كَانُوا أَمْوَاتًا مِنْ جِهَةِ خُرُوجِ الْأَرْوَاحِ ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ مُنَعَّمِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ؟ فَلِمَ خَصَصْتُمُ الشُّهَدَاءَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الشُّهَدَاءَ فُضِّلُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مُرْزَقُونَ مِنْ مَطَاعِمِ الْجَنَّةِ وَمَآَكِلِهَا ، وَغَيْرُهُمْ مُنَعَّمٌ بِمَا دُونَ ذَلِكَ ، ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ .
وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [ ص: 162 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ .
قَالَ الْفَرَّاءُ: "مَنْ" تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا شَيْئًا مُضْمَرًا ، فَتَقْدِيرُهُ: بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ ، وَشَيْءٍ مِنَ الْجُوعِ ، وَشَيْءٍ مِنْ نَقْصِ الْأَمْوَالِ .
وَفِيمَنْ أُرِيدَ فِي هَذِهِ الْآَيَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ خَاصَّةً ، قَالَهُ عَطَاءٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي آَخِرِ الزَّمَانِ . قَالَ كَعْبٌ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا تَحْمِلُ النَّخْلَةُ إِلَّا ثَمَرَةً . وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْآَيَةَ عَلَى عُمُومِهَا .
فَأَمَّا الْخَوْفُ; فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الْفَزَعُ فِي الْقِتَالِ . وَالْجُوعُ: الْمَجَاعَةُ الَّتِي أَصَابَتْ أَهْلَ مَكَّةَ سَبْعَ سِنِينَ . وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ: ذَهَابُ أَمْوَالِهِمْ ، وَالْأَنْفُسِ بِالْمَوْتِ وَالْقَتْلِ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ ، وَالثَّمَرَاتُ لَمْ تُخْرُجْ كَمَا كَانَتْ تَخْرُجُ . وَحَكَى أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْخَوْفَ فِي الْجِهَادِ ، وَالْجُوعِ فِي فَرْضِ الصَّوْمِ ، وَنَقْصِ الْأَمْوَالِ: مَا فُرِضَ فِيهَا مِنَ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالْأَنْفُسِ: مَا يُسْتَشْهَدُ مِنْهَا فِي الْقِتَالِ ، وَالثَّمَرَاتُ: مَا فُرِضَ فِيهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ . (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) عَلَى هَذِهِ الْبَلَاوِي بِالْجَنَّةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِمَا سَيُصِيبُهُمْ ، لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْعَدَ بِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ . (قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ) يُرِيدُونَ: نَحْنُ عَبِيدُهُ يَفْعَلُ بِنَا مَا يَشَاءُ (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) يُرِيدُونَ: نَحْنُ مُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِنَا ، وَالثَّوَابِ عَلَى صَبْرِنَا . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : لَقَدْ أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ شَيْئًا لَمْ يُعْطَهُ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُمْ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَلَوْ أُعْطِيهَا الْأَنْبِيَاءُ لَأُعْطِيهَا يَعْقُوبُ ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلِلْعَرَبِ فِي الْمُصِيبَةِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: مُصِيبَةٌ ، وَمُصَابَةٌ ، وَمُصْوِبَةٌ ، زَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: جَبَرَ اللَّهُ مُصْوِبَتَكَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (30)
صــ163 إلى صــ 168
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : الصَّلَوَاتُ مِنَ اللَّهِ: الْمَغْفِرَةُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ بِالْاسْتِرْجَا عِ .
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: نَعْمَ الْعَدْلَانِ ، وَنَعْمَتِ الْعِلَاوَةُ: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ .
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهِ شَاكِرٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنَ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - وَمَنَاةَ: صَنَمٌ كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا لَا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ ، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطُوفَ بِهِمَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ .
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ، لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى الصَّفَا تَمَاثِيلٌ وَأَصْنَامٌ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ وَثَنٌ عَلَى [ ص: 164 ] الصَّفَا يُدْعَى: إِسَافَ ، وَوَثَنٌ عَلَى الْمَرْوَةَ يُدْعَى: نَائِلَةَ ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْعَوْنَ بَيْنَهُمَا وَيُمَسِّحُونَه ُمَا ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَفُّوا عَنِ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا كُنَّا نَطُوفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ لَا نَطُوفُ بِهِمَا; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ . رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ: الصَّفَا فِي اللُّغَةِ: الْحِجَارَةُ الصَّلْبَةُ الصَّلْدَةُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا ، وَهُوَ جَمْعٌ ، وَاحِدُهُ صَفَاةً وَصَفًّا ، مِثْلُ: حَصَاةً وَحَصًى . وَالْمَرْوَةُ: الْحِجَارَةُ اللَّيِّنَةُ ، وَهَذَانَ الْمَوْضِعَانِ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ، أَيْ: مِنْ أَعْلَامِ مُتَعَبَّدَاتِه ِ . وَوَاحِدُ الشَّعَائِرِ: شَعِيرَةٌ . وَالشَّعَائِرُ: كُلُّ مَا كَانَ مِنْ مَوْقِفٍ أَوْ سَعْيٍ أَوْ ذَبْحٍ . وَالشَّعَائِرُ: مَنْ شَعَرَتْ بِالشَّيْءِ: إِذَا عَلِمَتْ بِهِ ، فَسُمِّيَتِ الْأَعْلَامُ الَّتِي هِيَ مُتَعَبَّدَاتِ اللَّهِ: شَعَائِرُ اللَّهِ . وَالْحَجُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ ، وَكَذَلِكَ كَلُّ قَاصِدٍ شَيْئًا فَقَدِ اعْتَمَرَهُ . وَالْجَنَاحُ: الْإِثْمُ ، أُخِذَ مِنْ جَنَحَ: إِذَا مَالَ وَعَدَلَ ، وَأَصْلُهُ مِنْ جَنَاحِ الطَّائِرِ ، وَإِنَّمَا اجْتَنَبَ الْمُسْلِمُونَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا ، لِمَكَانِ الْأَوْثَانِ ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ نَصْبَ الْأَوْثَانِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَا يُوجِبُ اجْتِنَابَهُمَا ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَا جَنَاحَ فِي التَّطَوُّفِ بِهِمَا ، وَأَنَّ مَنْ تَطَوَّعَ بِذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ . وَالشُّكْرُ مِنَ اللَّهِ: الْمُجَازَاةُ وَالثَّنَاءُ الْجَمِيلُ ، وَالْجُمْهُورُ قَرَؤُوا (وَمَنْ تَطَوَّعَ) بِالتَّاءِ وَنَصْبِ الْعَيْنِ . مِنْهُمُ: ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَعَاصِمٌ ، وَأَبُو عَمْرٍو ، وَابْنُ عَامِرٍ . وَقَرَأَ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ "يَطَوَّعْ" بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الْعَيْنِ . وَكَذَلِكَ خِلَافُهُمْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا بِآَيَاتٍ .
فَصْلٌ
اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ إِمَامِنَا أَحْمَدَ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ، فَنَقَلَ الْأَثْرَمُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ السَّعْيَ لَمْ يُجِزْهُ حَجُّهُ . وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ لَا شَيْءَ فِي تَرْكِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَهُ . وَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ تَطَوُّعٌ .
[ ص: 165 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى قَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ ، كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ، فَالْبَيِّنَاتُ : الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالْحُدُودُ وَالْفَرَائِضُ . وَالْهُدَى: نَعْتُ النَّبِيِّ وَصِفَتُهُ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ قَالَ مُقَاتِلٌ: لِبَنِي إِسْرَائِيلَ . وَفِي الْكِتَابِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ التَّوْرَاةُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . (أُولَئِكَ) إِشَارَةٌ إِلَى الْكَلِمَتَيْنِ (يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ) قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَصْلُ اللَّعْنِ فِي اللُّغَةِ: الطَّرْدُ ، وَلَعَنَ اللَّهُ إِبْلِيسَ ، أَيْ: طَرَدَهُ ، ثُمَّ انْتَقَلَ ذَلِكَ فَصَارَ قَوْلًا . قَالَ الشَّمَّاخُ وَذَكَرَ مَاءً:
ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ
أَيِ: الطَّرِيدُ . وَفِي اللَّاعِنِينَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ: دَوَابُّ الْأَرْضِ ، رَوَاهُ الْبَرَاءُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَعِكْرِمَةَ . قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُونَ: إِنَّمَا مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِذُنُوبِكُمْ ، فَيَلْعَنُونَهُ مْ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُون َ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ ، وَقَتَادَةُ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَكُلُّ دَابَّةٍ قَالَهُ عَطَاءٌ .
فَصْلٌ
وَهَذِهِ الْآَيَةُ تُوجِبُ إِظْهَارَ عُلُومِ الدِّينِ ، مَنْصُوصَةٌ كَانَتْ أَوْ مُسْتَنْبَطَةٌ ، وَتَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ ، إِذْ غَيْرُ جَائِزٍ اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ عَلَى مَا يَجِبُ فِعْلُهُ ، وَقَدْ رَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، [ ص: 166 ] وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ ، وَايْمُ اللَّهِ: لَوْلَا آَيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ أَحَدًا بِشَيْءٍ أَبَدًا ، ثُمَّ تَلَا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا إِلَى آَخِرِهَا .
إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلا الَّذِينَ تَابُوا .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الْيَهُودِ وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ ، وَبَيَّنُوا صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِمْ .
فَصْلٌ
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْآَيَةَ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ بِالْاسْتِثْنَا ءِ فِي هَذِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا شَمِلَهُ اللَّفْظُ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّخْصِيصُ دُونَ النَّسْخِ ، وَمِمَّا يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِالْآَخَرِ ، وَهَاهُنَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِالْمُسْتَثْنَ ى وَالْمُسْتَثْنَ ى مِنْهُ .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ .
إِنَّمَا شَرَطَ الْمَوْتَ عَلَى الْكُفْرِ ، لِأَنَّ حُكْمَهُ يَسْتَقِرُّ بِالْمَوْتِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وَأَهْلُ دِينِهِ لَا يَلْعَنُونَهُ ، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يَلْعَنُونَهُ فِي الْآَخِرَةِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [ ص: 167 ] [ الْعَنْكَبُوتِ: 25 ] . وَقَالَ: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [ الْأَعْرَافِ: 38 ] . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هَاهُنَا الْمُؤْمِنُونَ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَمِقَاتِلٌ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّعْنَةَ مِنَ الْأَكْثَرِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا: لَعْنَةُ جَمِيعِ النَّاسِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ .
خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: خَالِدِينَ فِيهَا فِي هَاءِ الْكِنَايَةِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى اللَّعْنَةِ ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى النَّارِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ فَقَدْ عُلِمَتْ .
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهٌ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا رَبَّكَ وَانْسِبْهُ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ . وَالْإِلَهُ بِمَعْنَى: الْمَعْبُودِ .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنَ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ: اجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا إِنْ كُنْتُ صَادِقًا; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، حَكَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا انْسِبْ لَنَا رَبَّكَ وَصِفْهُ; فَنَزَلَتْ: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ قَالُوا: فَأَرِنَا آَيَةَ ذَلِكَ; فَنَزَلَتْ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: (يَعْقِلُونَ) رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ ، قَالَهُ عَطَاءٌ .
[ ص: 168 ] فَأَمَّا (السَّمَاوَاتُ); فَتَدُلُّ عَلَى صَانِعِهَا ، إِذْ هِيَ قَائِمَةٌ بِغَيْرِ عَمَدٍ ، وَفِيهَا مِنَ الْآَيَاتِ الظَّاهِرَةِ ، مَا يَدُلُّ يَسِيرُهُ عَلَى مُبْدِعِهِ ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ فِي ظُهُورِ ثِمَارِهَا ، وَتَمْهِيدِ سُهُولِهَا ، وَإِرْسَاءِ جِبَالِهَا ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ . وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَزَائِلٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ (وَالْفُلْكِ): السُّفُنُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ . وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ: وَاحِدُهُ فَلْكَةٌ ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْفُلْكُ: السُّفُنُ ، وَيَكُونُ وَاحِدًا ، وَيَكُونُ جَمْعًا ، لِأَنَّ فَعَلَ ، وَفُعُلَ جَمْعُهُمَا وَاحِدٌ ، وَيَأْتِيَانِ كَثِيرًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ . يُقَالُ: الْعَجَمُ وَالْعُجُمُ: وَالْعُرُبُ وَالْعَرَبُ ، وَالْفُلْكُ وَالْفَلَكُ . وَالْفُلْكُ: يُقَالُ: لِكُلِّ شَيْءٍ مُسْتَدِيرٌ ، أَوْ فِيهِ اسْتِدَارَةٌ . وَ (الْبَحْرِ): الْمَاءُ الْعُزَيْرُ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنَ الْمَعَايِشِ . وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ مَاءٍ يَعْنِي: الْمَطَرَ ، وَالْمَطَرُ يَنْزِلُ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ ، وَأَجْزَاءُ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ ، وَالْأَنْوَاعُ تَخْتَلِفُ فِي النَّبَاتِ وَالطُّعُومِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَات ِ ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ فِعْلِ الطَّبِيعَةِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَتَّفِقَ مُوجِبُهَا ، إِذِ الْمُتَّفِقُ لَا يُوجِبُ الْمُخْتَلِفَ ، وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ [ الرَّعْدِ: 4 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبَثَّ) أَيْ: فَرَّقَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/47.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (31)
صــ169 إلى صــ 174
قوله تعالى: وتصريف الرياح قرأ ابن كثير (الرياح) على الجمع في خمسة مواضع: هاهنا . وفي [ الحجر: 22 ] وأرسلنا الرياح لواقح وفي [ الكهف: 46 ] تذروه الرياح وفي [ الروم: 46 ] الحرف الأول (الرياح) . وفي [ الجاثية: 4 ] وتصريف الرياح ، وقرأ باقي القرآن (الريح) . وقرأ أبو جعفر (الرياح) في خمسة عشر موضعا في البقرة ، وفي [ الأعراف: 56 ] يرسل الرياح ، وفي [ إبراهيم: 18 ] اشتدت به الرياح ، وفي [ الحجر: 22 ] الرياح لواقح ، وفي [ سبحان: 19 ] ، وفي [ الكهف: 45 ] تذروه الرياح وفي [ الأنبياء: 81 ] . [ ص: 169 ] وفي [ الفرقان: 48 ] أرسل الرياح ، وفي النمل . والثاني: من [ الروم: 48 ] ، وفي [ سبإ: 12 ] ، وفي [ ص: 36 ] ، وفي [ عسق: 33 ] يسكن الرياح وفي [ الجاثية: 5 ] وتصريف الرياح تابعه نافع إلا في سبحان ، ورياح سليمان [ الأنبياء: 81 ] وتابع نافعا أبو عمرو إلا في حرفين: (الريح) في إبراهيم ، وعسق ، ووافق أبا عمرو ، وعاصما ، وابن عامر . وقرأ حمزة (الرياح) جمعا في موضعين: في الفرقان ، والحرف الأول من الروم ، وباقيهن على التوحيد . وقرأ الكسائي مثل حمزة ، إلا إنه زاد عليه في [ الحجر: 22 ] الرياح لواقح ولم يختلفوا فيما ليس فيه ألف ولام ، فمن جمع; فكل ريح تساوي أختها في الدلالة على التوحيد والنفع ، ومن وحد; أراد الجنس .
ومعنى تصريف الرياح: تقلبها شمالا مرة ، وجنوبا مرة ، ودبورا أخرى ، وصبا أخرى ، وعذابا ورحمة والسحاب المسخر : المذلل . والآية فيه من أربعة أوجه ، ابتداء كونه ، وانتهاء تلاشيه ، وقيامه بلا دعامة ولا علاقة ، وإرساله إلى حيث شاء الله تعالى . لآيات . الآية: العلامة . أخبرنا عبد الوهاب الحافظ قال: أخبرنا عاصم قال: أخبرنا ابن بشران قال: أخبرنا ابن صفوان قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: حدثني هارون قال: حدثني عفان عن مبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن يقول: كانوا يقولون ، يعني: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الرفيق ، الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا يتصرف ، لقال الشاك في الله: لو كان لهذا الخلق رب لحادثه ، وإن الله تعالى قد حادث بما ترون من الآيات ، أنه جاء بضوء طبق ما بين الخافقين ، وجعل فيها معاشا ، وسراجا وهاجا ، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق ، وجاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين ، وجعل فيه سكنا ونجوما ، وقمرا منيرا ، وإذا شاء بنى بناء ، جعل فيه المطر ، والبرق ، والرعد ، والصواعق ، ما شاء ، وإذا شاء صرف ذلك ، وإذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس ، وإذا شاء ذهب بذلك ، وجاء بحر يأخذ [ ص: 170 ] أنفاس الناس ، ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحادثه بما ترون من الآيات ، كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة .
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب .
قوله تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا .
وفي الأنداد قولان قد تقدما في أول السورة . وفي قوله: (يحبونهم كحب الله) قولان .
أحدهما: أن معناه: يحبونهم كحب الذين آمنوا لله ، هذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفراء .
والثاني: يحبونهم كمحبتهم لله ، أي: يسوون بين الأوثان وبين الله تعالى في المحبة .
هذا اختيار الزجاج ، قال: والقول الأول ليس بشيء ، والدليل على نقضه قوله: (والذين آمنوا أشد حبا لله) قال المفسرون: أشد حبا لله من أهل الأوثان لأوثانهم .
قوله تعالى: (ولو يرى الذين ظلموا) قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وعاصم ، وحمزة والكسائي: (يرى) بالياء ، ومعناه: لو يرون عذاب الآخرة; لعلموا أن القوة لله جميعا . وقرأ نافع ، وابن عامر ، ويعقوب: (ولو ترى) بالتاء ، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به جميع الناس . وجوابه محذوف ، تقديره: لرأيتم أمرا عظيما ، كما تقول: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه . وإنما حذف الجواب ، لأن المعنى واضح بدونه . قال أبو علي: وإنما قال: "إذ" ولم يقل: "إذا" وإن كانت "إذ" لما مضى ، لإرادة تقريب الأمر ، فأتى بمثال الماضي ، وإنما حذف جواب "لو" لأنه أفخم ، لذهاب المتوعد إلى كل ضرب من الوعيد . وقرأ أبو جعفر ، (إن القوة لله) و: (إن الله) بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف ، كأنه يقول: [ ص: 171 ] فلا يحزنك ما ترى من محبتهم أصنامهم (إن القوة لله جميعا) قال ابن عباس: القوة: القدرة ، والمنعة .
إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار .
قوله تعالى: (من الذين اتبعوا) فيهم قولان . أحدهما: أنهم القادة والرؤساء ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، وقتادة ، ومقاتل ، والزجاج . والثاني: أنهم الشياطين ، قاله السدي .
قوله تعالى: (ورأوا العذاب) يشمل الكل . (وتقطعت بهم الأسباب) أي: عنهم ، مثل قوله: فاسأل به خبيرا [ الفرقان: 59 ] . وفي الأسباب أربعة أقوال . أحدها: أنها المودات ، وإلى نحوه ذهب ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة . والثاني: أنها الأعمال ، رواه السدي عن ابن مسعود ، وابن عباس وهو قول أبي صالح وابن زيد . والثالث: أنها الأرحام . رواه ابن جريج عن ابن عباس . والرابع: أنها تشمل جميع ذلك . قال ابن قتيبة: هي الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا ، فأما تسميتها بالأسباب ، فالسبب في اللغة: الحبل ، ثم قيل لكل ما يتوصل به إلى المقصود: سبب . والكرة: الرجعة إلى الدنيا ، قاله ابن عباس ، وقتادة في آخرين (فنتبرأ منهم) يريدون: من القادة (كما تبرءوا منا) في الآخرة . كذلك يريهم الله أعمالهم قال الزجاج: أي: كتبرؤ بعضهم من بعض ، يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم لأن أعمال الكافر لا تنفعه ، وقال ابن الأنباري: يريهم الله أعمالهم القبيحة حسرات عليهم إذا رأوا أحسن المجازاة للمؤمنين بأعمالهم ، قال: ويجوز أن يكون: كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم الصالحة وجزاءها ، فحذف ! الجزاء [ ص: 172 ] وأقام الأعمال مقامه . قاله ابن فارس: والحسرة: التلهف على الشيء الفائت . وقال غيره: الحسرة: أشد الندامة .
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين .
قوله تعالى: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا نزلت في ثقيف ، وخزاعة ، وبني عامر بن صعصعة ، فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام ، وحرموا البحيرة ، والسائبة ، والحام ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى: ولا تتبعوا خطوات الشيطان قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم (خطوات) مثقلة . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وحمزة (خطوات) ساكنة الطاء خفيفة . وقرأ الحسن ، وأبو الجوزاء (خطوات) بفتح الخاء وسكون الطاء من غير همز . وقرأ أبو عمران الجوني بضم الخاء والطاء مع الهمز . قال ابن قتيبة: خطواته: سبيله ومسلكه ، وهي جمع خطوة ، والخطوة بضم الخاء: ما بين القدمين ، وبفتحها: الفعلة الواحدة . واتباعهم خطواته: أنهم كانوا يحرمون أشياء قد أحلها الله ، ويحلون أشياء قد حرمها الله .
قوله تعالى: إنه لكم عدو مبين أي: بين . وقيل: أبان عداوته بما جرى له مع آدم .
إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون .
قوله تعالى: إنما يأمركم بالسوء السوء: كل إثم وقبح . قال ابن عباس: وإنما سمي سوءا ، لأنه تسوء عواقبه ، وقيل: لأنه يسوء إظهاره (والفحشاء) من: فحش الشيء: إذا جاز قدره . وفي المراد بها هاهنا خمسة أقوال . أحدها: أنها كل معصية لها حد في الدنيا .
[ ص: 173 ] . والثاني: أنها ما لا يعرف في شريعة ولا سنة . والثالث: أنها البخل ، وهذه الأقوال الثلاثة منقولة عن ابن عباس . والرابع: أنها الزنى ، قاله السدي . والخامس: المعاصي ، قاله مقاتل .
قوله تعالى: وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون أي: أنه حرم عليكم ما لم يحرم .
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون .
قوله تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله .
اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال . أحدها: أنها في الذين قيل لهم: (كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) فعلى هذا تكون الهاء والميم عائدة عليهم ، وهذا قول مقاتل . والثاني: أنها نزلت في اليهود ، وهي قصة مستأنفة ، فتكون الهاء والميم كناية عن غير مذكور ، ذكره ابن إسحاق عن ابن عباس . والثالث: في مشركي العرب وكفار قريش ، فتكون الهاء والميم عائدة إلى قوله: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا فعلى القول الأول; يكون المراد بالذي أنزل الله: تحليل الحلال ، وتحريم الحرام . وعلى الثاني يكون: الإسلام . وعلى الثالث: التوحيد والإسلام . و(ألفينا) بمعنى: وجدنا .
قوله تعالى: أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ، ولا يهتدون له ، أيتبعونهم أيضا في خطئهم وافترائهم؟! .
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون .
قوله تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق
[ ص: 174 ] في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال .
أحدها: أن معناها: ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي ينعق بها الراعي ، وهذا قول الفراء ، وثعلب ، قالا جميعا: أضاف المثل إلى الذين كفروا ، ثم شبههم بالراعي ، ولم يقل :كالغنم ، والمعنى: ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت ، فلو قال لها الراعي: ارعي ، أو اشربي; لم تدر ما يقول لها ، فكذلك الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن ، وإنذار الرسول ، فأضيف التشبيه إلى الراعي ، والمعنى في المرعي ، وهو ظاهر في كلام العرب ، يقولون: فلان يخافك كخوف الأسد ، والمعنى: كخوفه الأسد [لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف ] قال الشاعر:
كانت فريضة ما تقول كما كان الزناء فريضة الرجم
والمعنى: كما كان الرجم فريضة الزنى .
والثاني: أن معناها: ومثل الذين كفروا ، ومثلنا في وعظهم ، كمثل الناعق والمنعوق به ، فحذف: ومثلنا ، اختصارا ، إذ كان في الكلام ما يدل عليه ، وهذا قول ابن قتيبة ، والزجاج .
والثالث: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي يعبدون ، كمثل الذي ينعق ، هذا قول ابن زيد ، والذي ينعق هو الراعي ، يقال: نعق بالغنم ، ينعق نعقا ونعيقا ونعاقا ونعقانا . قال ابن الأنباري: والفاشي في كلام العرب أنه لا يقال: نعق ، إلا في الصياح بالغنم وحدها ، فالغنم تسمع الصوت ولا تعقل المعنى . (صم بكم) إنما وصفهم بالصم والبكم ، لأنهم في تركهم قبول ما يسمعون يمنزلة من لا يسمع ، وكذلك في النطق والنظر ، وقد سبق شرح هذا المعنى .
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/9.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (32)
صــ175 إلى صــ 180
قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة .
قرأ أبو جعفر "الميتة" هاهنا ، وفي المائدة ، والنحل: و (بلدة ميتا) [ ق: 11 ] . بالتشديد ، حيث وقع . والميتة في عرف الشرع: اسم لكل حيوان خرجت روحه بغير ذكاة . وقيل إن الحكمة في تحريم الميتة أن جمود الدم فيها بالموت يحدث ، أذى للآكل ، وقد يسمى المذبوح في بعض الأحوال: ميتة حكما ، لأن حكمه حكم الميتة ، كذبيحة المرتد . فأما الدم; فالمحرم منه: المسفوح ، لقوله تعالى: أو دما مسفوحا [ الأنعام: 145 ] . قال القاضي أبو يعلى: فأما الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح ، وما يبقى في العروق; فهو مباح .
فأما لحم الخنزير; فالمراد: جملته ، وإنما خص اللحم ، لأنه معظم المقصود . قال الزجاج: الخنزير يشتمل على الذكر والأنثى . ومعنى وما أهل به لغير الله [ البقرة: 173 ] . ما رفع فيه الصوت بتسمية غير الله ، ومثله الإهلال بالحج ، إنما هو رفع الصوت بالتلبية .
قوله تعالى: (فمن اضطر) أي: ألجئ بضرورة . وقرأ أبو جعفر : (فمن اضطر) بكسر الطاء حيث كان . وأدغم ابن محيصن الضاد في الطاء .
قوله تعالى: (غير باغ) قال الزجاج: البغي: قصد الفساد ، يقال: بغى الجرح: إذا ترامى إلى الفساد . وفي قوله: (غير باغ ولا عاد) أربعة أقوال . أحدها: أن معناه غير باغ على الولاة ، ولا عاد يقطع السبيل ، هذا قول سعيد بن جبير ، ومجاهد . والثاني: غير باغ في أكله فوق حاجته ، ولا متعد بأكلها وهو يجد غيرها ، هذا قول الحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، والربيع . والثالث: غير باغ ، أي: مستحل ، ولا عاد: غير مضطر ، روي عن سعيد بن جبير ، ومقاتل . والرابع: غير باغ شهوته بذلك ، ولا عاد بالشبع منه ، قاله السدي .
فصل
معنى الضرورة في إباحة الميتة: أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه . سئل أحمد ، [ ص: 176 ] رضي الله عنه ، عن المضطر إذا لم يأكل الميتة ، فذكر عن مسروق أنه قال: من اضطر فلم يأكل فمات دخل النار . فأما مقدار ما يأكل; فنقل حنبل: يأكل مقدار ما يقيمه عن الموت . ونقل ابن منصور: يأكل بقدر ما يستغني . فظاهر الأولى: أنه لا يجوز له الشبع ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ، وظاهر الثانية: جواز الشبع ، وهو قول مالك .
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .
قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب .
قال ابن عباس: نزلت في اليهود ، كتموا اسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وغيروه في كتابهم . والثمن القليل: ما يصيبونه من اتباعهم من الدنيا . أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار قال الزجاج: معناه: إن الذين يأكلونه يعذبون به ، فكأنهم يأكلون النار . (ولا يكلمهم) هذا دليل على أن الله لا يكلم الكفار ولا يحاسبهم .
قوله تعالى: (ولا يزكيهم) [فيه ] ثلاثة أقوال . أحدها: لا يزكي أعمالهم ، قاله مقاتل . والثاني: لا يثني عليهم ، قاله الزجاج . والثالث: لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم ، قاله ابن جرير .
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار .
قوله تعالى: أولئك الذين اشتروا الضلالة أي: اختاروها على الهدى .
قوله تعالى: فما أصبرهم على النار فيه أربعة أقوال . أحدها: أن معناه: فما أصبرهم على عمل يؤديهم إلى النار! قاله عكرمة ، والربيع . والثاني: ما أجرأهم على النار; قاله الحسن ، ومجاهد . وذكر الكسائي أن أعرابيا حلف له رجل كاذبا ، فقال الأعرابي: ما أصبرك على الله ، يريد: ما أجرأك . والثالث: ما أبقاهم في النار ، كما تقول: ما أصبر فلانا على الحبس ، [ ص: 177 ] أي: ما أبقاه فيه ، ذكره الزجاج . والرابع: أن المعنى: فأي شيء صبرهم على النار؟! قاله ابن الأنباري . وفي "ما" قولان . أحدهما: أنها للاستفهام ، تقديرها: ما الذي أصبرهم؟ قاله عطاء ، والسدي ، وابن زيد ، وأبو بكر بن عياش . والثاني: أنها للتعجب ، كقولك: ما أحسن زيدا ، وما أعلم عمرا . وقال ابن الأنباري: معنى الآية التعجب ، والله يعجب المخلوقين ، ولا يعجب هو كعجبهم .
ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد قوله تعالى: ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الوعيد بالعذاب ، فتقديره: ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق ، فكفروا به واختلفوا فيه . وفي "الكتاب" قولان . أحدهما: أنه التوراة . والثاني: القرآن . وفي "الحق" قولان . أحدهما: أنه العدل ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه ضد الباطل ، قاله مقاتل .
قوله تعالى: وإن الذين اختلفوا في الكتاب فيه قولان .
أحدهما: أنه التوراة . ثم في اختلافهم فيها ثلاثة أقوال . أحدها: أن اليهود والنصارى اختلفوا فيها ، فادعى النصارى فيها صفة عيسى ، وأنكر اليهود ذلك . والثاني: أنهم خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم . والثالث: أنهم خالفوا سلفهم في التمسك بها .
والثاني: أنه القرآن ، فمنهم من قال: شعر ، ومنهم من قال: إنما يعلمه بشر .
والشقاق: معاداة بعضهم لبعض . وفي معنى "بعيد" قولان . أحدهما: أن بعضهم متباعد في مشاقة بعض ، قاله الزجاج . والثاني: أنه بعيد من الهدى .
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم [ ص: 178 ] إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .
قوله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم .
قال قتادة: ذكر لنا أن رجلا سأل عن "البر" فأنزلت هذه الآية ، فدعاه رسول الله ، فتلاها عليه . وفيمن خوطب بها قولان . أحدهما: أنهم المسلمون . والثاني: أهل الكتابين . فعلى القول الأول; معناها: ليس البر كله في الصلاة ، ولكن البر ما في هذه الآية . وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، وسفيان . وعلى القول الثاني; معناها: ليس البر صلاة اليهود إلى المغرب ، وصلاة النصارى إلى المشرق ، ولكن البر ما في هذه الآية ، وهذا قول قتادة ، والربيع ، وعوف الأعرابي ، ومقاتل .
وقرأ حمزة ، وحفص عن عاصم: (ليس البر) بنصب الراء . وقرأ الباقون برفعها ، قال أبو علي: كلاهما حسن ، لأن كل واحد من الاسمين; اسم "ليس" وخبرها ، معرفة ، فإذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسما ، والآخر خبرا ، كما تتكافأ النكرتان .
وفي المراد بالبر ثلاثة أقوال . أحدها: الإيمان . والثاني: التقوى . والثالث: العمل الذي يقرب إلى الله .
قوله تعالى: ولكن البر من آمن بالله فيه قولان . أحدهما: أن معناه: ولكن البر بر من آمن بالله . والثاني: ولكن ذا البر من آمن بالله ، حكاهما الزجاج . وقرأ نافع ، وابن عامر: (ولكن البر) بتخفيف نون (لكن) ورفع (البر) وإنما ذكر اليوم الآخر ، لأن عبدة الأوثان لا يؤمنون بالبعث . وفي المراد بالكتاب هاهنا قولان . أحدهما: أنه القرآن . والثاني: أنه بمعنى الكتب ، فيدخل في هذا اليهود ، لتكذيبهم بعض النبيين وردهم القرآن .
قوله تعالى: وآتى المال على حبه في هاء "حبه" قولان . أحدهما: أنها ترجع إلى المال . والثاني: إلى الإيتاء . وكان الحسن إذا قرأها قال: سوى الزكاة المفروضة .
[ ص: 179 ] قوله تعالى: (ذوي القربى) يريد: قرابة المعطي . وقد شرحنا معنى: (اليتامى والمساكين) عند رأس ثلاث وثمانين آية من هذه السورة . فأما (ابن السبيل) ففيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الضيف ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج . والثاني: أنه الذي يمر بك مسافرا ، قاله الربيع بن أنس ، وعن مجاهد ، وقتادة كالقولين . وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال: هو المنقطع به يريد بلدا آخر . وهذا اختيار ابن جرير الطبري ، وأبي سليمان الدمشقي ، والقاضي أبو يعلى ، ويحققه: أن السبيل الطريق ، وابنه: صاحبه الضارب فيه ، فله حق على من يمر به إذا كان محتاجا . ولعل أصحاب القول الأول أشاروا إلى هذا لأنه إن كان مسافرا ، فإنه ضيف لم ينزل . والقول الثالث: أنه الذي يريد سفرا ، ولا يجد نفقة ، ذكره الماوردي وغيره عن الشافعي .
قوله تعالى: (وفي الرقاب) أي: في فك الرقاب . ثم فيه قولان . أحدهما: أنهم المكاتبون يعانون في كتابتهم بما يعتقون به ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب ، والحسن ، وابن زيد ، والشافعي . والثاني: أنهم عبيد يشترون بهذا السهم ويعتقون ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مالك بن أنس ، وأبو عبيد ، وأبو ثور . وعن أحمد كالقولين .
فأما البأساء; فهي: الفقر . والضراء: المرض . وحين البأس: القتال ، قاله الضحاك . (أولئك الذين صدقوا) قال أبو العالية: تكلموا بالإيمان وحققوه بالعمل .
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم .
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص [ ص: 180 ] روى شيبان عن قتادة أن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان ، وكان الحي منهم إذا كان فيهم عدة ومنعة ، فقتل عبدهم عبد قوم آخرين; قالوا: لن نقتل به إلا حرا ، تعززا لفضلهم على غيرهم . وإذا قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين; قالوا: لن نقتل بها إلا رجلا; فنزلت هذه الآية . ومعنى "كتب" فرض ، قاله ابن عباس وغيره . والقصاص: مقابلة الفعل بمثله ، مأخوذ من: قص الأثر . فإن قيل: كيف يكون فرضا والولي مخير بينه وبين العفو؟ فالجواب: أنه فرض على القاتل للولي ، لا على الولي .
قوله تعالى: فمن عفي له من أخيه شيء أي: من دم أخيه ، أي: ترك له القتل ، ورضي منه بالدية: ودل قوله: (من أخيه) على أن القاتل لم يخرج عن الإسلام ، (فاتباع بالمعروف) أي: مطالبته بالمعروف ، بأمر آخذ الدية بالمطالبة الجميلة التي لا يرهقه فيها: (وأداء إليه بإحسان) يأمر المطالب بأن لا يبخس ولا يماطل ذلك تخفيف من ربكم قال سعيد بن جبير : كان حكم الله على أهل التوراة أن يقتل قاتل العمد ، ولا يعفى عنه ، ولا يؤخذ منه دية ، فرخص الله لأمة محمد ، فإن شاء ولي المقتول عمدا ، قتل وإن شاء عفا ، وإن شاء ، أخذ الدية .
قوله تعالى: (فمن اعتدى) أي: ظلم ، فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدية; (فله عذاب أليم) قال قتادة: يقتل ولا تقبل منه الدية .
فصل
ذهب جماعة من المفسرين إلى أن دليل خطاب هذه الآية منسوخ ، لأنه لما قال: (الحر بالحر) اقتضى أن لا يقتل العبد بالحر ، وكذلك لما قال: (والأنثى بالأنثى) اقتضى أن لا يقتل الذكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب ، وذلك منسوخ بقوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس قال شيخنا علي بن عبد الله: وهذا عند الفقهاء ليس بنسخ ، لأن الفقهاء يقولون: دليل الخطاب حجة ما لم يعارضه دليل أقوى منه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/9.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (33)
صــ181 إلى صــ 186
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون .
قوله تعالى: ولكم في القصاص حياة .
قال الزجاج: إذا علم الرجل أنه إن قتل قتل; أمسك عن القتل ، فكان في ذلك حياة للذي هم بقتله ولنفسه ، لأنه من أجل القصاص أمسك . وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال:
أبلغ أبا مالك عني مغلغلة وفي العتاب حياة بين أقوام
يريد أنهم إذا تعاتبوا أصلح من بينهم العتاب . والألباب: العقول ، وإنما خصهم بهذا الخطاب وإن كان الخطاب عاما ، لأنهم المنتفعون بالخطاب ، لكونهم يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه .
قوله تعالى: (لعلكم تتقون) قال ابن عباس: لعلكم تتقون الدماء . وقال ابن زيد: لعلك تتقي أن يقتله فتقتل به .
فصل
نقل ابن منصور عن أحمد: إذا قتل رجل رجلا بعصى ، أو خنقه ، أو شدخ رأسه بحجر ، يقتل مثل الذي قتل به . فظاهر هذا: أن القصاص يكون بغير السيف ، ويكون بمثل الآلة التي قتل بها ، وهو قول مالك ، والشافعي . ونقل عنه حرب: إذا قتله بخشبة قبل بالسيف . ونقل أبو طالب: إذا خنقه قتل بالسيف . فظاهر هذا: أنه لا يكون القصاص إلا بالسيف ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله .
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين .
قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت .
قال الزجاج: المعنى: وكتب عليكم ، إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف [ ص: 182 ] بالواو وعلم أن معناه معنى الواو ، وليس المراد: كتب عليكم أن يوصي أحدكم عند الموت ، لأنه في شغل حينئذ ، وإنما المعنى: كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية ، فيقول الرجل: إذا أنا مت ، فلفلان كذا . فأما الخير هاهنا; فهو المال في قول الجماعة .
وفي مقدار المال الذي تقع هذه الوصية فيه ستة أقوال . أحدها: أنه ألف درهم فصاعدا ، روي عن علي وقتادة . والثاني: أنه سبعمائة درهم فما فوقها ، رواه طاوس عن ابن عباس . والثالث: ستون دينارا فما فوقها ، رواه عكرمة عن ابن عباس . والرابع: أنه المال الكثير الفاضل عن نفقة العيال . قالت عائشة لرجل سألها: إني أريد الوصية ، فقالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف ، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة . قالت: هذا شيء يسير ، فدعه لعيالك . والخامس: أنه من ألف درهم إلى خمسمائة ، قاله إبراهيم النخعي . والسادس: أنه القليل والكثير ، رواه معمر عن الزهري . فأما المعروف; فهو الذي لا حيف فيه .
فصل
وهل كانت الوصية ندبا أو واجبة؟ فيه قولان . أحدهما: أنها كانت ندبا . والثاني: أنها كانت فرضا ، وهو أصح ، لقوله تعالى: (كتب) ومعناه: فرض . قال ابن عمر: نسخت هذه الآية بآية الميراث . وقال ابن عباس: نسختها: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون [ النساء: 7 ] . والعلماء متفقون على نسخ الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون وهم مختلفون في الأقربين الذين لا يرثون: هل تجب الوصية لهم؟ على قولين ، أصحهما أنها لا تجب لأحد .
فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم .
قوله تعالى: (فمن بدله) قال الزجاج: من بدل أمر الوصية بعد سماعه إياها ، فإنما إثمه [ ص: 183 ] على مبدله ، لا على الموصي ، ولا على الموصى له (إن الله سميع) لما قد قاله الموصي (عليم) بما يفعله الموصى إليه .
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم .
قوله تعالى: فمن خاف من موص قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم (موص) ساكنة الواو ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم "موص" مفتوحة الواو مشددة الصاد . وفي المراد بالخوف هاهنا قولان . أحدهما: أنه العلم . والثاني: نفس الخوف . فعلى الأول; يكون الجور قد وجد . وعلى الثاني: يخشى وجوده . و "الجنف": الميل عن الحق . قال الزجاج: جنفا ، أي: ميلا ، أو إثما ، أي: قصد الإثم . وقال ابن عباس: الجنف: الخطأ ، والإثم: العمد . قال أبو سليمان الدمشقي: الجنف: الخروج عن الحق ، وقد يسمى به المخطئ والعامد ، إلا أن المفسرين عقلوا الجنف على المخطئ ، والإثم على العامد .
وفي توجيه هذه الآية قولان . أحدهما: أن معناها: من حضر رجلا يموت ، فأسرف في وصيته ، أو قصر عن حق; فليأمره بالعدل ، هذا قول مجاهد . والثاني: أن معناها: من أوصى بجور ، فرد وليه وصيته ، أو ردها إمام من أئمة المسلمين إلى كتاب الله وسنة نبيه; فلا إثم عليه ، وهذا قول قتادة .
قوله تعالى: (فأصلح بينهم) أي: بين الذين أوصى لهم ، ولم يجر لهم ذكر ، غير أنه لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له ، وأنشد الفراء:
وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني؟! أألخير الذي أنا أبتغيه
أم الشر الذي هو يبتغيني
فكنى في البيت الأول عن الشر بعد ذكره الخير وحده ، لما في مفهوم اللفظ من الدلالة .
[ ص: 184 ] يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون .
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام .
الصيام في اللغة: الإمساك في الجملة ، يقال: صامت الخيل: إذا أمسكت عن السير ، وصامت الريح: إذا أمسكت عن الهبوب . والصوم في الشرع: عبارة عن الإمساك عن الطعام والشراب والجماع مع انضمام النية إليه . وفي الذين من قبلنا ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم أهل الكتاب ، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد . والثاني: أنهم النصارى ، قاله الشعبي ، والربيع . والثالث: أنهم جميع أهل الملل ، ذكره أبو صالح عن ابن عباس .
وفي موضع التشبيه في كاف (كما كتب) قولان . أحدهما: أن التشبيه في حكم الصوم وصفته ، لا في عدده . قال سعيد بن جبير : كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة ، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام ، وهو عليهم ثابت . وقد أرخص لكم . فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله: أحل لكم ليلة الصيام الرفث [ البقرة: 187 ] . فإنها فرقت بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين . والثاني: أن التشبيه في عدد الأيام . ثم في ذلك قولان . أحدهما: أنه فرض على هذه الأمة صوم ثلاثة أيام من كل شهر ، وقد كان ذلك فرضا على من قبلهم . قال عطية عن ابن عباس في قوله تعالى: كما كتب على الذين من قبلكم قال: كان ثلاثة أيام من كل شهر ، ثم نسخ برمضان . قال معمر عن قتادة: كان الله قد كتب على الناس قبل رمضان ثلاثة أيام من كل شهر ، فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن . والثاني: أنه فرض على من قبلنا صوم رمضان بعينه . قال ابن عباس: فقدم النصارى يوما ثم يوما ، وأخروا يوما ، ثم قالوا: نقدم عشرا ونؤخر عشرا . وقال السدي عن أشياخه: اشتد على النصارى صوم رمضان ، فجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف ، فلما رأوا ذلك اجتمعوا [ ص: 185 ] فجعلوا صياما في الفصل بين الشتاء والصيف ، وقالوا: نزيد عشرين يوما نكفر بها ما صنعنا . فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة .
قوله تعالى: لعلكم تتقون لأن الصيام وصلة إلى التقى ، إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي ، وقيل: لعلكم تتقون محظورات الصوم .
أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون .
قوله تعالى: أياما معدودات قال الزجاج: نصب "أياما" على الظرف ، كأنه قال: كتب عليكم الصيام في هذه الأيام . والعامل فيه "الصيام" كأن المعنى: كتب عليكم أن تصوموا أياما معدودات . وفي هذه الأيام ثلاثة أقوال . أحدها: أنها ثلاثة أيام من كل شهر . والثاني: أنها ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء . والثالث: أنها شهر رمضان ، وهو الأصح . وتكون الآية محكمة في هذا القول ، وفي القولين قبله تكون منسوخة فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام فيه إضمار: فأفطر .
فصل
وليس المرض والسفر على الإطلاق ، فإن المريض إذا لم يضر به الصوم; لم يجز له الإفطار ، وإنما الرحمة موقوفة على زيادة المرض بالصوم . واتفق العلماء أن السفر مقدر ، واختلفوا في تقديره ، فقال أحمد ، ومالك ، والشافعي: أقله مسيرة ستة عشر فرسخا; يومان ، وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقله مسيرة ثلاثة أيام ، مسيرة أربعة وعشرين فرسخا . وقال الأوزاعي: أقله مرحلة يوم ، مسيرة ثمانية فراسخ . وقيل: إن السفر مشتق من السفر الذي هو الكشف ، يقال: سفرت المرأة عن وجهها ، وأسفر الصبح: إذا أضاء ، فسمي الخروج إلى المكان البعيد: سفرا ، لأنه يكشف عن أخلاق المسافر .
[ ص: 186 ] قوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين نقل عن ابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وابن عمر ، وابن عباس ، وسلمة بن الأكوع ، وعلقمة ، والزهري في آخرين في هذه الآية أنهم قالوا: كان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وافتدى ، يطعم عن كل يوم مسكينا ، حتى نزلت: فمن شهد منكم الشهر فليصمه فعلى هذا يكون معنى الكلام: وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية ، ثم نسخت . وروي عن عكرمة أنه قال: نزلت في الحامل والمرضع . وقرأ أبو بكر الصديق ، وابن عباس: وعلى الذين يطوقونه بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو . قال ابن عباس: هو الشيخ والشيخة .
قوله تعالى: فدية طعام مسكين قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي "فدية" منون (طعام المسكين) موحد . وقرأ نافع ، وابن عامر: "فدية" بغير تنوين "طعام" بالخفض "مساكين" بالجمع . قال أبو علي: معنى القراءة الأولى: على كل واحد طعام مسكين . ومثله: فاجلدوهم ثمانين [ النور: 4 ] . أي: اجلدوا كل واحد ثمانين . قال أبو زيد: أتينا الأمير فكسانا كلنا حلة ، وأعطانا كلنا مئة ، أي: فعل ذلك بكل واحد منا . قال: فأما من أضاف الفدية إلى الطعام ، فكإضافة البعض إلى ما هو بعض له ، وذلك أنه سمى الطعام الذي يفدى به: فدية ، ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية وغيرها ، فهو على هذا من باب: خاتم حديد .
قوله تعالى: (فمن تطوع خيرا) [فيه ] ثلاثة أقوال . أحدها: أن معناه: من أطعم مسكينين ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني: أن التطوع إطعام مساكين ، قاله طاوس . والثالث: أنه زيادة المسكين على قوته ، وهو مروي عن مجاهد ، وفعله أنس بن مالك لما كبر وأن تصوموا خير لكم عائد إلى من تقدم ذكره من الأصحاء المقيمين المخيرين بين الصوم والإطعام على ما حكينا في أول الآية عن السلف ، ولم يرجع ذلك إلى المرضى والمسافرين ، والحامل ، والمرضع ، إذ الفطر في حق هؤلاء أفضل من الصوم ، وقد نهوا عن تعريض أنفسهم للتلف ، وهذا يقوي قول القائلين بنسخ الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/9.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (34)
صــ187 إلى صــ 192
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون .
قوله تعالى: (شهر رمضان) .
قال الأخفش: شهر رمضان بالرفع على تفسير الأيام ، كأنه لما قال: (أياما معدودات) فسرها فقال: هي شهر رمضان . قال أبو عبيد: وقرأ مجاهد: (شهر رمضان) بالنصب ، وأراه نصبه على معنى الإغراء: عليكم شهر رمضان فصوموه ، كقوله: (ملة أبيكم) وقوله: (صبغة الله) قلت: وممن قرأ بالنصب معاوية ، والحسن ، وزيد بن علي ، وعكرمة ، ويحيى بن يعمر ، قال ابن فارس: الرمض: حر الحجارة من شدة حر الشمس ، ويقال: شهر رمضان ، من شدة الحر ، لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة ، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر ، ويجمع على رمضانات ، وأرمضاء ، وأرمضة .
قوله تعالى: الذي أنزل فيه القرآن فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنه أنزل القرآن فيه جملة واحدة ، وذلك في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا . قاله ابن عباس . والثاني: أن معناه: أنه أنزل القرآن بفرض صيامه ، روي عن مجاهد ، والضحاك . والثالث: أن معناه: إن القرآن ابتدئ بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن إسحاق ، وأبو سليمان الدمشقي . قال مقاتل: والفرقان: المخرج في الدين من الشبهة والضلالة .
قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه أي: من كان حاضرا غير مسافر . فإن قيل: ما الفائدة في إعادة ذكر المرض والسفر في هذه الآية ، وقد تقدم ذلك؟ قيل: لأن في الآية المتقدمة منسوخا ، فأعاده لئلا يكون مقرونا بالمنسوخ .
[ ص: 188 ] قوله تعالى: يريد الله بكم اليسر قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك: اليسر: الإفطار في السفر ، والعسر: الصوم فيه . وقال عمر بن عبد العزيز: أي: ذلك كان أيسر عليك فافعل: الصوم في السفر ، أو الفطر .
قوله تعالى: (ولتكملوا العدة) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي: (ولتكملوا) بإسكان الكاف خفيفة . وقرأ أبو بكر عن عاصم بتشديد الميم ، وذلك مثل: "وصى" و "أوصى" وقال ابن عباس: ولتكملوا عدة ما أفطرتم . وقال بعضهم: المراد به: لا تزيدوا على ما افترض ، كما فعلت النصارى ، ولا تنقلوه عن زمانه كما نقلته (ولتكبروا الله على ما هداكم) قال ابن عباس: حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال ، أن يكبروا لله حتى يفرغوا من عيدهم . فإن قيل: ما وجه دخول الواو في قوله: ولتكملوا العدة ولتكبروا الله وليس هناك ما يعطف عليه؟ فالجواب: أن هذه الواو عطفت اللام التي بعدها على لام محذوفة ، والمعنى: ولا يريد بكم العسر ليسعدكم ، ولتكملوا العدة ، فحذفت اللام الأولى لوضوح معناها ، ذكره ابن الأنباري .
فصل
ومن السنة إظهار التكبير ليلة الفطر ، وليلة النحر ، وإذا غدوا إلى المصلى . واختلفت الرواية عن أحمد ، رضي الله عنه ، متى يقطع في عيد الفطر ، فنقل عنه حنبل: يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة . ونقل الأثرم: إذا جاء المصلى ، قطع . قال القاضي أبو يعلى: يعني: إذا جاء المصلى وخرج الإمام .
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [ ص: 189 ] قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني .
في سبب نزولها خمسة أقوال .
أحدها: أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية ، رواه الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده .
والثاني: أن يهود المدينة قالوا: يا محمد! كيف يسمع ربنا دعاءنا ، وأنت تتزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام؟! فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثالث: أنهم قالوا: يا رسول الله! لو نعلم أية ساعة أحب إلى الله أن ندعو فيها دعوانا ، فنزلت هذه الآية ، قاله عطاء .
والرابع: أن أصحاب النبي قالوا له: أين الله؟ فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن .
والخامس: أنه لما حرم في الصوم الأول على المسلمين بعد النوم الأكل والجماع; أكل رجل منهم بعد أن نام ، ووطئ رجل بعد أن نام ، فسألوا: كيف التوبة مما عملوا؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل . ومعنى الكلام: إذا سألوك عني; فأعلمهم أني قريب .
وفي معنى "أجيب" قولان . أحدهما: أسمع ، قاله الفراء ، وابن القاسم . والثاني: أنه من الإجابة (فليستجيبوا لي) أي: فليجيبوني . قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أراد: فلم يجبه . وهذا قول أبي عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج . (لعلهم يرشدون) قال أبو العالية: يعني: يهتدون .
فصل
إن قال قائل: هذه الآية تدل على أن الله تعلى يجيب أدعية الداعين ، وترى كثيرا من الداعين لا يستجاب لهم!
[ ص: 190 ] فالجواب: أن أبا سعيد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "ما من مسلم دعا الله تعالى بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم; إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها" .
وجواب آخر: وهو أن الدعاء تفتقر إجابته إلى شروط أصلها الطاعة لله ، ومنها أكل الحلال ، فإن أكل الحرام يمنع إجابة الدعاء ، ومنها حضور القلب ، ففي بعض الحديث: "يقبل الله دعاء من قلب غافل لاه" .
وجواب آخر: وهو أن الداعي قد يعتقد المصلحة في إجابته إلى ما سأل ، وقد لا تكون المصلحة في ذلك ، فيجاب إلى مقصوده الأصلي ، وهو طلب المصلحة ، وقد تكون المصلحة في التأخير أو في المنع .
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون .
قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث .
سبب نزول هذه الآية أن الصحابة كانوا إذا نام الرجل قبل الأكل والجماع ، حرما عليه [ ص: 191 ] إلى أن يفطر ، فجاء شيخ من الأنصار وهو صائم إلى أهله ، فقال عشوني ، فقالوا: حتى نسخن لك طعاما ، فوضع رأسه فنام ، فجاءوا بالطعام ، فقال ، قد كنت نمت ، فبات يتقلب ظهرا لبطن ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم; فأخبره ، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! إني أردت أهلي الليلة ، فقالت ، إنها قد نامت ، فظننتها تعتل ، فواقعتها ، فأخبرتني أنها قد نامت ، فأنزل الله تعالى في عمر بن الخطاب: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم وأنزل الله في الأنصاري: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر هذا قول جماعة من المفسرين . واختلفوا في اسم هذا الأنصاري على أربعة أقوال . أحدها: قيس بن صرمة ، قاله البراء . والثاني: صرمة بن أنس ، قاله القاسم بن محمد . وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: صرمة بن مالك . والثالث: ضمرة بن أنس . والرابع: أبو قيس بن عمر . وذكر القولين أبو بكر الخطيب . فأما "الرفث" فقال ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وابن جبير في آخرين: هو الجماع .
قوله تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن . فيه قولان . أحدهما: أن اللباس السكن . ومثله: جعل لكم الليل لباسا [ الفرقان: 47 ] . أي: سكنا . وهذا قول ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة . والثاني: أنهن بمنزلة اللباس ، لإفضاء كل واحد ببشرته إلى بشرة صاحبه ، فكنى عن اجتماعهما متجردين باللباس . قال الزجاج: والعرب تسمي المرأة: لباسا وإزارا ، قال النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنت فكانت عليه لباسا
[ ص: 192 ] وقال غيره:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري
يريد بالإزار: امرأته .
قوله تعالى: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم قال ابن قتيبة: يريد: تخونونها بارتكاب ما تحرم عليكم . قال ابن عباس: وعنى بذلك فعل عمر ، فإنه أتى أهله ، فلما اغتسل أخذ يلوم نفسه ويبكي (فالآن باشروهن): أصل المباشرة: إلصاق البشرة بالبشرة . وقال ابن عباس: المراد بالمباشرة هاهنا: الجماع . وابتغوا ما كتب الله لكم فيه أربعة أقوال . أحدها: أنه الولد ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد في آخرين . قال بعض أهل العلم: لما كانت المباشرة قد تقع على ما دون الجماع ، أباحهم الجماع الذي يكون من مثله الولد ، فقال: وابتغوا ما كتب الله لكم يريد: الولد . والثاني: أن الذي كتب لهم الرخصة ، وهو قول قتادة ، وابن زيد . والثالث: أنه ليلة القدر . رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس . والرابع: أنه القرآن ، فمعنى الكلام: اتبعوا القرآن ، فما أبيح لكم وأمرتم به فهو المبتغى ، وهذا اختيار الزجاج .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/9.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (35)
صــ193 إلى صــ 198
قوله تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض قال عدي بن حاتم: لما نزلت هذه الآية ، عمدت إلى عقالين ، أبيض وأسود ، فجعلتهما تحت وسادتي ، فجعلت أقوم في الليل ولا أستبين الأسود من الأبيض ، فلما أصبحت; غدوت على رسول الله فأخبرته ، فضحك وقال: "إن كان وسادك إذا لعريض ، إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل" وقال سهل بن سعد: نزلت هذه الآية: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل: (من الفجر) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود [ ص: 193 ] والخيط الأبيض ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له زيهما ، فأنزل الله بعد ذلك (من الفجر) فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار .
فصل
إذا شك في الفجر ، فهل يدع السحور أم لا؟ فظاهر كلام أحمد يدل على أنه لا يدع السحور ، بل يأكل حتى يستيقن طلوع الفجر . وقال مالك: أكره له أن يأكل إذا شك في طلوع الفجر ، فإن أكل فعليه القضاء . وقال الشافعي: لا شيء عليه .
قوله تعالى: ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد في هذه المباشرة قولان . أحدهما: أنها المجامعة ، وهو قول الأكثرين . والثاني: أنها ما دون الجماع من اللمس والقبلة ، قاله ابن زيد . وقال قتادة: كان الرجل المعتكف إذا خرج من المسجد ، فلقي امرأته باشرها إذا أراد ذلك ، فوعظهم الله في ذلك .
فصل
الاعتكاف في اللغة: اللبث ، يقال: فلان معتكف على كذا ، وعاكف . وهو فعل مندوب إليه ، إلا أن ينذره الإنسان ، فيجب . ولا يجوز إلا في مسجد تقام فيه الجماعات ، ولا يشترط في حق المرأة مسجد تقام فيه الجماعة ، إذ الجماعة لا تجب عليها . وهل يصح بغير صوم؟ فيه عن أحمد روايتان .
قوله تعالى: (تلك حدود الله) قال ابن عباس: يعني: المباشرة (فلا تقربوها) قال الزجاج: الحدود ما منع الله من مخالفتها ، فلا يجوز مجاوزتها . وأصل الحد في اللغة: المنع ، ومنه: حد الدار ، وهو ما يمنع غيرها من الدخول فيها . والحداد في اللغة: الحاجب والبواب ، وكل من منع شيئا فهو حداد . قال الأعشى:
فقمنا ولما يصح ديكنا إلى جونة عند حدادها
[ ص: 194 ] أي: عند ربها الذي يمنعها إلا بما يريده . وأحدت المرأة على زوجها وحدت ، فهي حاد ، ومحد: إذا قطعت الزينة ، وامتنعت منها ، وأحددت النظر إلى فلان: إذا منعت نظرك من غيره . وسمي الحديد حديدا ، لأنه يمتنع به الأعداء .
قوله تعالى: كذلك يبين الله أي: مثل هذا البيان الذي ذكر .
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون .
قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .
سبب نزولها: أن امرأ القيس بن عابس ، وعبدان الحضرمي ، اختصما في أرض ، وكان عبدان هو الطالب ولا بينة له ، فأراد امرؤ القيس أن يحلف ، فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا [ آل عمران: 77 ] . فكره أن يحلف ، ولم يخاصم في الأرض ، فنزلت هذه الآية . هذا قول جماعة ، منهم سعيد بن جبير . ومعنى الآية: لا يأكل بعضكم أموال بعض ، كقوله: فاقتلوا أنفسكم قال القاضي أبو يعلى: والباطل على وجهين أحدهما: أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه ، كالسرقة ، والغصب ، والخيانة . والثاني: أن يأخذه بطيب نفسه ، كالقمار ، والغناء ، وثمن الخمر ، وقال الزجاج: الباطل: الظلم . "وتدلوا" أصله في اللغة من: أدليت الدلو: إذا أرسلتها لتملأها ، ودلوتها: إذا أخرجتها . ومعنى أدلى فلان بحجته: أرسلها ، وأتى بها على صحة . فمعنى الكلام: تعملون على ما يوجبه إدلاء الحجة ، وتخونون في الأمانة ، وأنتم تعلمون أن الحجة عليكم في الباطن .
وفي ها "بها" قولان . أحدهما: أنها ترجع إلى الأموال ، كأنه قال: لا تصانعوا ببعضها جورة الحكام . والثاني: أنها ترجع إلى الخصومة ، فإن قيل: كيف أعاد ذكر [ ص: 195 ] الأكل فقال: "ولا تأكلوا" "لتأكلوا" فالجواب: أنه وصل اللفظة الأولى بالباطل ، والثانية بالإثم ، فأعادها للزيادة في المعنى ، ذكره ابن الأنباري .
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون .
قوله تعالى: يسألونك عن الأهلة .
هذه الآية من أولها إلى قوله: "والحج" نزلت على سبب ، وهو أن رجلين من الصحابة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو دقيقا ، ثم يزيد ويمتلئ حتى يستدير ويستوي ، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ فنزلت: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج هذا قول ابن عباس .
ومن قوله تعالى: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إلى آخرها ، يدل على سبب آخر ، وهو أنهم كانوا إذا حجوا ، ثم قدموا المدينة ، لم يدخلوا من باب ، ويأتون البيوت من ظهورها ، فنسي رجل ، فدخل من باب ، فنزلت: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها هذا قول البراء بن عازب .
وفيما كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها لأجله أربعة أقوال . أحدها: أنهم كانوا يفعلون ذلك لأجل الإحرام ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، والنخعي ، وقتادة ، وقيس النهشلي . والثاني: لأجل دخول الشهر الحرام ، قاله البراء بن عازب . والثالث: أن أهل الجاهلية كانوا إذا هم أحدهم بالشيء فاحتبس عنه; لم يأت بيته من بابه حتى يأتي الذي كان [ ص: 196 ] هم به ، قاله الحسن . والرابع: أن أهل المدينة كانوا إذا رجعوا من عيدهم فعلوا ذلك ، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه .
فأما التفسير; فإنما سألوه عن وجه الحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها ، فأخبرهم أنها مقادير لما يحتاج الناس إليه في صومهم وحجهم وغير ذلك . والأهلة: جمع هلال . وكم يبقى الهلال على هذه التسمية؟ فيه للعرب أربعة أقوال . أحدها: أنه يسمى هلالا لليلتين من الشهر . والثاني: لثلاث ليال ، ثم يسمى: قمرا . والثالث: إلى أن يحجر ، وتحجيره: أن يسير بخطة دقيقة ، وهو قول الأصمعي . والرابع: إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل . حكى هذه الأقوال ابن السري ، واختار الأول ، قال: واشتقاق الهلال من قولهم: استهل الصبي: إذا بكى حين يولد . وأهل القوم بالحج: إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، فسمي هلالا ، لأنه حين يرى يهل الناس بذكره .
قوله تعالى: ولكن البر من اتقى مثل قوله تعالى: ولكن البر من آمن بالله وقد سبق بيانه ، واختلف القراء في البيوت وما أشبهها ، فقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائي بكسر باء "البيوت" وعين "العيون" وغين "الغيوب" وروي عن نافع أنه ضم باء "البيوت" وعين "العيون" وغين "الغيوب" وجيم "الجيوب" وشين "الشيوخ" وروى عنه قالون أنه كسر باء "البيوت" وقرأ أبو عمر ، وأبو جعفر بضم الأحرف الخمسة ، وكسرهن جميعا حمزة ، واختلف عن عاصم . قال الزجاج: من ضم "البيوت" فعلى أصل الجمع: بيت وبيوت ، مثل: قلب وقلوب ، وفلس وفلوس . ومن كسر ، فإنما كسر للياء التي بعد الباء ، وذلك عند البصريين رديء ، لأنه ليس في الكلام فعول بكسر الفاء . وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: إذا كان الجمع على فعول ، وثانيه ياء; جاز فيه الضم والكسر ، تقول: بيوت وبيوت ، وشيوخ وشيوخ ، وقيود وقيود .
[ ص: 197 ] وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .
قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم .
سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما صد عن البيت ، ونحر هديه بالحديبية ، وصالحه المشركون على أن يرجع من العام المقبل; رجع ، فلما تجهز في العام المقبل; خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك ، وأن يصدوهم ويقاتلوهم ، وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام; فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
قوله تعالى: ولا تعتدوا أي: ولا تظلموا . وفي المراد بهذا الاعتداء أربعة أقوال . أحدها: أنه قتل النساء والولدان ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني: أن معناه: لا تقاتلوا من لم يقاتلكم قاله سعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وابن زيد . والثالث: أنه إتيان ما نهوا عنه ، قاله الحسن . والرابع: أنه ابتداؤهم بالقتال في الحرم في الشهر الحرام ، قاله مقاتل .
فصل
اختلف العلماء: هل هذه الآية منسوخة أم لا؟ على قولين .
أحدهما: أنها منسوخة . واختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين .
أحدهما: أنه أولها ، وهو قوله: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم قالوا: وهذا يقتضي أن القتال يباح في حق من قاتل من الكفار ، ولا يباح في حق من لم يقاتل ، وهذا منسوخ بقوله: واقتلوهم حيث ثقفتموهم . والثاني: أن المنسوخ منها: (ولا تعتدوا) ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان . أحدهما: أنه قتل من لم يقاتل . والثاني: أنه ابتداء المشركين بالقتال ، وهذا منسوخ بآية السيف .
والقول الثاني: أنها محكمة ، ومعناها عند أرباب هذا القول: وقاتلوا في سبيل الله [ ص: 198 ] الذين يقاتلونكم وهم الذين أعدوا أنفسهم للقتال ، فأما من ليس بمعد نفسه للقتال ، كالرهبان والشيوخ الفناة ، والزمنى ، والمكافيف ، والمجانين ، فإن هؤلاء لا يقاتلون ، وهذا حكم باق غير منسوخ .
فصل
واختلف العلماء في أول آية نزلت في إباحة القتال على قولين . أحدهما: أنها قوله تعالى: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا [ الحج: 39 ] . قاله أبو بكر الصديق ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والزهري . والثاني: أنها هذه الآية: وقاتلوا في سبيل الله قاله أبو العالية ، وابن زيد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/9.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (36)
صــ199 إلى صــ 204
واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين .
قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم .
أي: وجدتموهم يقال: ثقفته أثقفه: إذا وجدته . قال القاضي أبو يعلى: قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم عام في جميع المشركين ، إلا من كان بمكة ، فإنهم أمروا بإخراجهم منها ، إلا من قاتلهم ، فإنهم أمروا بقتالهم ، يدل على ذلك قوله في نسق الآية: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه وكانوا قد آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج ، فكأنهم أخرجوهم . أما الفتنة ، ففيها قولان . أحدهما: أنها الشرك ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وقتادة في آخرين . والثاني: أنها ارتداد المؤمن إلى عبادة الأوثان . قاله مجاهد . فيكون معنى الكلام على القول الأول: شرك القوم أعظم [ ص: 199 ] من قتلكم إياهم في الحرم . وعلى الثاني: ارتداد المؤمن إلى الأوثان أشد عليه من أن يقتل محقا .
قوله تعالى: (ولا تقاتلوهم) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف: ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم بحذف الألف فيهن . وقد اتفق الكل على قوله: (فاقتلوهم) واحتج من قرأ بالألف بقوله: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة واحتج من حذف الألف بقوله: (فاقتلوهم) .
فصل
واختلف العلماء في قوله:
ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه
: هل هو منسوخ أم لا؟ فذهب مجاهد في جماعة من الفقهاء إلى أنه محكم ، وأنه لا يقاتل فيه إلا من قاتل ، ويدل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه خطب يوم فتح مكة ، فقال: "يا أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، ولم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي . وإنما أحلت لي ساعة من النهار ، ثم عادت حراما إلى يوم القيامة" فبين صلى الله عليه وسلم أنه خص في تلك الساعة بالإباحة على سبيل التخصيص ، لا على وجه النسخ ، فثبت بذلك خطر القتال في الحرم ، إلا أن يقاتلوا فيدفعون دفعا ، وهذا أمر مستمر ، والحكم غير منسوخ ، وقد ذهب قتادة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة: 5 ] . فأمر بقتالهم في الحل والحرم وعلى كل حال . وذهب الربيع بن أنس ، وابن زيد . إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وزعم [ ص: 200 ] مقاتل أنه منسوخ بقوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم [ البقرة: 191 ] . والقول الأول أصح .
قوله تعالى: فإن قاتلوكم فاقتلوهم قال مقاتل: أي: فقاتلوهم .
فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم .
قوله تعالى: (فإن انتهوا) .
فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أن معناه: فإن انتهوا عن شركهم وقتالكم . والثاني: عن كفرهم . والثالث: عن قتالكم دون كفرهم . فعلى القولين الأولين تكون الآية محكمة ، ويكون معنى: فإن الله غفور رحيم غفور لشركهم وجرمهم ، وعلى القول الأخير يكون في معنى قوله غفور رحيم قولان . أحدهما: غفور لكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم . والثاني: أن معناه: يأمركم بالغفران والرحمة لهم . فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية السيف .
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين .
قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة .
قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين: الفتنة هاهنا: الشرك .
قوله تعالى: (ويكون الدين لله) قال ابن عباس: أي: يخلص له التوحيد . والعدوان: الظلم ، وأريد به هاهنا: الجزاء ، فسمي الجزاء عدوانا مقابلة للشيء بمثله ، كقوله: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه والظالمون هاهنا: المشركون ، قاله عكرمة ، وقتادة في آخرين .
[ ص: 201 ] فصل
وقد روي عن جماعة من المفسرين ، منهم قتادة ، أن قوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين منسوخ بآية السيف ، وإنما يستقيم هذا إذا قلنا: إن معنى الكلام: فإن انتهوا عن قتالكم مع إقامتهم على دينهم ، فأما إذا قلنا: إن معناه: فإن انتهوا عن دينهم; فالآية محكمة .
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين .
قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام .
هذه الآية نزلت على سبب ، واختلفوا فيه على قولين . أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أقبل هو وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي ، فصدهم المشركون ، فصالحهم نبي الله على أن يرجع عنهم ثم يعود في العام المقبل ، فيكون بمكة ثلاث ليال ، ولا يدخلها بسلاح ، ولا يخرج بأحد من أهل مكة ، فلما كان العام المقبل; أقبل هو وأصحابه فدخلوها ، فافتخر المشركون عليه إذ ردوه يوم الحديبة ، فأقصه الله منهم وأدخله مكة في الشهر الذي ردوه فيه ، فقال: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، وقتادة ، في آخرين . والثاني: أن مشركي العرب قالوا للنبي ، عليه السلام: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال: "نعم" وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام ، فيقاتلوه فيه ، فنزلت هذه الآية ، يقول: إن استحلوا منكم شيئا في الشهر الحرام ، فاستحلوا منهم مثله ، هذا قول الحسن ، واختاره إبراهيم بن السري والزجاج . فأما أرباب القول الأول; فيقولون معنى الآية: الشهر الحرام [ ص: 202 ] الذي دخلتم فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه عام أول . (والحرمات قصاص): اقتصصت لكم منهم في ذي القعدة كما صدوكم في ذي القعدة . وقال الزجاج: الشهر الحرام ، أي: قتال الشهر الحرام بالشهر الحرام ، فأعلم الله تعالى أن أمر هذه الحرمات لا تجوز للمسلمين إلا قصاصا ، ثم نسخ ذلك بآية السيف ، وقيل: إنما جمع الحرمات ، لأنه أراد الشهر الحرام بالبلد الحرام ، وحرمة الإحرام .
قوله تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه قال ابن عباس: من قاتلكم في الحرم فقاتلوه . وإنما سمى المقابلة على الاعتداء اعتداء ، لأن صورة الفعلين واحدة ، وإن كان أحدهما: طاعة والآخر معصية . قال الزجاج: والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته ، أي: جازيته بظلمه . وجهل فلان علي ، فجهلت عليه . وقد سبق بيان هذا المعنى في أول السورة .
قوله تعالى: (واتقوا الله) قال سعيد بن جبير : واتقوا الله ، ولا تبدؤوهم بقتال في الحرم .
وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب .
قوله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله) .
هذه الآية نزلت على سبب ، وفيه قولان .
[ ص: 203 ] أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالتجهز إلى مكة ، قال ناس من الأعراب: يا رسول الله! بماذا نتجهز؟ فوالله ما لنا زاد ولا مال! فنزلت ، قاله ابن عباس .
والثاني: أن الأنصار كانوا ينفقون ويتصدقون ، فأصابتهم سنة ، فأمسكوا; فنزلت ، قاله أبو جبيرة بن الضحاك . والسبيل في اللغة: الطريق . وإنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد ، لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين . والتهلكة: بمعنى الهلاك ، يقال: هلك الرجل يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة . قال المبرد: وأراد بالأيدي: الأنفس; فعبر بالبعض عن الكل . وفي المراد بالتهلكة هاهنا أربعة أقوال . أحدها: أنها ترك النفقة في سبيل الله ، قاله حذيفة ، وابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك . والثاني: أنها القعود عن الغزو شغلا بالمال ، قاله أبو أيوب الأنصاري . والثالث: أنها القنوط من رحمة الله قاله البراء ، والنعمان بن بشير ، وعبيدة . والرابع: أنها عذاب الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
قوله تعالى: (وأحسنوا) فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أن معناه: أحسنوا الإنفاق ، وهو قول أصحاب القول الأول . والثاني: أحسنوا الظن بالله ، قاله عكرمة ، وسفيان ، وهو يخرج على قول من قال: التهلكة: القنوط . والثالث: أن معناه: أدوا الفرائض ، رواه سفيان عن أبي إسحاق .
[ ص: 204 ] قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله قال ابن فارس: الحج في اللغة: القصد ، والاعتمار في الحج أصله: الزيارة . قال ثعلب: الحج بفتح الحاء: المصدر ، وبكسرها: الاسم قال: وربما قال الفراء: هما لغتان . وذكر ابن الأنباري في العمرة قولين . أحدهما: الزيارة . والثاني: القصد . وفي إتمامها أربعة أقوال . أحدها: أن معنى إتمامها: أن يفصل بينهما ، فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحج ، قاله عمر بن الخطاب ، والحسن ، وعطاء . والثاني: أن يحرم الرجل من دويرة أهله ، قاله علي بن أبي طالب ، وطاووس ، وابن جبير . والثالث: أنه إذا شرع في أحدهما لم يفسخه حتى يتم ، قاله ابن عباس . والرابع: أنه فعل ما أمر الله فيهما ، قاله مجاهد . وجمهور القراء على نصب "العمرة" بإيقاع الفعل عليها . وقرأ الأصمعي عن نافع والقزاز عن أبي عمرو ، والكسائي عن أبي جعفر برفعها ، وهي قراءة ابن مسعود ، وأبي رزين ، والحسن ، والشعبي . وقراءة الجمهور تدل على وجوبها . وممن ذهب إلى أن العمرة واجبة علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، وابن سيرين ، وعطاء ، وطاووس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وأحمد ، والشافعي . وروي عن ابن مسعود ، وجابر ، والشعبي ، وإبراهيم ، وأبي حنيفة ، ومالك ، أنها سنة وتطوع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (37)
صــ205 إلى صــ 209
قوله تعالى: (فإن أحصرتم) قال ابن قتيبة: يقال: أحصره المرض والعدو: إذا منعه من السفر ، ومنه هذه الآية . وحصره العدو: إذا ضيق عليه . وقال الزجاج: يقال للرجل: إذا حبس: قد حصر ، فهو محصور . وللعلماء في هذا الإحصار قولان . أحدهما: أنه لا يكون إلا بالعدو ، ولا يكون المريض محصرا . وهذا مذهب ابن عمر ، وابن عباس ، وأنس ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد . ويدل عليه قوله: (فإذا أمنتم) . والثاني: أنه يكون بكل حابس من مرض أو عدو أو عذر ، وهو قول عطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبي حنيفة . وفي الكلام اختصار وحذف ، والمعنى: فإن أحصرتم دون تمام الحج والعمرة فحللتم; فعليكم [ ص: 205 ] ما استيسر من الهدي . ومثله: أو به أذى من رأسه ففدية تقديره: فحلق ، ففدية . والهدي: ما أهدي إلى البيت . وأصله: هدي مشدد ، فخفف ، قاله ابن قتيبة . وبالتشديد يقرأ الحسن ، ومجاهد . وفي المراد ( بما استيسر من الهدي ) ثلاثة أقوال . أحدها: أنه شاة ، قاله علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، وابن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة ، والضحاك . والثاني: أنه ما تيسر من الإبل والبقر لا غير ، قاله ابن عمر ، وعائشة ، والقاسم . والثالث: أنه على قدر الميسرة ، رواه طاوس عن ابن عباس . وروي عن الحسن ، وقتادة قالا: أعلاه بدنه ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة . وقال أحمد: الهدي من الأصناف الثلاثة ، من الإبل والبقر ، والغنم ، وهو قول أبي حنيفة ، رحمه الله ، ومالك ، والشافعي ، رحمهما الله .
قوله تعالى: (حتى يبلغ الهدي محله) قال ابن قتيبة: المحل: الموضع الذي يحل به نحره ، وهو من: حل يحل . وفي المحل قولان . أحدهما: أنه الحرم ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وابن سيرين ، والثوري ، وأبو حنيفة . والثاني: أنه الموضع الذي أحصر به فيذبحه ويحل ، قاله مالك ، والشافعي ، وأحمد .
قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية هذا نزل على سبب ، وهو أن كعب بن عجرة كثر قمل رأسه حتى تهافت على وجهه ، فنزلت هذه الآية فيه ، فكان يقول: في نزلت خاصة .
فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله: اقتضى قوله: ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله تحريم حلق الشعر ، سواء وجد به الأذى ، أو لم يجد ، حتى نزل: فمن كان منكم [ ص: 206 ] مريضا أو به أذى من رأسه ففدية فاقتضى هذا إباحة حلق الشعر عند الأذى مع الفدية ، فصار ناسخا لتحريمه المتقدم .
ومعنى الآية: فمن كان منكم - أي: من المحرمين ، محصرا كان أو غير محصر - مريضا ، واحتاج إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام ، ففعله ، أو به أذى من رأسه فحلق ، ففدية من صيام . وفي الصيام قولان . أحدهما: أنه ثلاثة أيام ، روي في حديث كعب بن عجرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول الجمهور . والثاني: أنه صيام عشرة أيام ، روي عن الحسن وعكرمة ، ونافع . وفي الصدقة قولان . أحدهما: أنه إطعام ستة مساكين ، روي في حديث كعب ، وهو قول من قال الصوم ثلاثة أيام . والثاني: أنها إطعام عشرة مساكين ، وهو قول من أوجب صوم عشرة أيام . والنسك: ذبح شاة ، يقال: نسكت لله ، أي: ذبحت له . وفي النسك لغتان . ضم النون والسين ، وبها قرأ الجمهور ، وضم النون مع تسكين السين ، وهي قراءة الحسن .
قوله تعالى: (فإذا أمنتم) ، أي: من العدو . إذ المرض لا تؤمن معاودته وقال علقمة في آخرين: فإذا أمنتم من الخوف والمرض . فمن تمتع بالعمرة إلى الحج معناه: من بدأ بالعمرة في أشهر الحج ، وأقام الحج من عامه ذلك ، فعليه ما استيسر من الهدي . وهذا قول ابن عمر ، وابن المسيب ، وعطاء ، والضحاك . وقد سبق الكلام فيما استيسر من الهدي . فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج قال الحسن: هي قبل التروية بيوم و [يوم ] التروية ، و [يوم ] عرفة ، وهذا قول عطاء ، والشعبي ، وأبي العالية ، وابن جبير ، وطاووس ، وإبراهيم ، وقد نقل عن علي رضي الله عنه . وقد روي عن الحسن ، وعطاء قالا: في أي العشر شاء صامهن . ونقل عن طاوس ، ومجاهد ، وعطاء ، أنهم قالوا: في أي أشهر الحج شاء فليصمهن . ونقل عن ابن عمر أنه قال: من حين يحرم إلى يوم عرفة . [ ص: 207 ] فصل
فإن لم يجد الهدي ، ولم يصم الثلاثة أيام قبل يوم النحر ، فماذا يصنع؟ قال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن جبير ، وطاووس ، وإبراهيم: لا يجزئه إلا الهدي ولا يصوم . وقال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام منى . ورواه صالح عن أحمد ، وهو قول مالك . وذهب آخرون إلى أنه لا يصوم أيام التشريق ، بل يصوم بعدهن . روي عن علي . ورواه المروذي عن أحمد ، وهو قول الشافعي .
فصل
فإن وجد الهدي بعد الدخول في صوم الثلاثة أيام ، لم يلزمه الخروج منه ، وهو قول مالك ، والشافعي . وقال أبو حنيفة: يلزمه الخروج ، وعليه الهدي . وقال عطاء: إن صام يومين ثم أيسر; فعليه الهدي . وإن صام ثلاثة أيام ثم أيسر; فليصم السبعة ، ولا هدي عليه . وفي معنى قوله: (في الحج) قولان . أحدهما: أن معناه: في أشهر الحج . والثاني: في زمان الإحرام بالحج . وفي قوله تعالى: (وسبعة إذا رجعتم) قولان . أحدهما: إذا رجعتم إلى أمصاركم ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وأبو العالية ، والشعبي ، وقتادة . والثاني: إذا رجعتم من حجكم ، وهو قول عطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبي حنيفة ، ومالك . قال الأثرم: قلت لأبي عبيد الله ، يعني: أحمد بن حنبل: فصيام السبعة أيام إذا رجع متى يصومهن؟ أفي الطريق ، أم في أهله؟ قال: كل ذلك قد تأوله الناس . قيل لأبي عبد الله: ففرق بينهن ، فرخص في ذلك .
قوله تعالى: تلك عشرة كاملة فيه خمسة أقوال .
أحدها: أن معناه: كاملة في قيامها مقام الهدي ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس ، والحسن . قال القاضي أبو يعلى: وقد كان يجوز أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثواب ، فأعلمنا الله تعالى أن العشرة بكمالها هي القائمة مقامه .
[ ص: 208 ] . والثاني: أن الواو قد تقوم مقام "أو" في مواضع ، منها قوله: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فأزال الله ، عز وجل احتمال التخيير في هذه الآية بقوله: (تلك عشرة كاملة) وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج .
والثالث: أن ذلك للتوكيد وأنشدوا للفرزدق:
ثلاث واثنتان فهن خمس وسادسة تميل إلى شمامي
وقال آخر:
هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا
وقال آخر:
كم نعمة كانت له كم كم وكم
والقرآن نزل بلغة العرب ، وهي تكرر الشيء لتوكيده .
والرابع: أن معناه: تلك عشرة كاملة في الفصل ، وإن كانت الثلاثة في الحج ، والسبعة بعد ، لئلا يسبق إلى وهم أحد أن السبعة دون الثلاثة ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
والخامس: أنها لفظة خبر ومعناها: الأمر ، فتقديره: تلك عشرة فأكملوها .
قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام في المشار إليه بذلك قولان . أحدهما: أنه التمتع بالعمرة إلى الحج . والثاني: أنه الجزاء بالنسك والصيام . واللام من "لمن" في هذا القول بمعنى: "على" . فأما حاضروا المسجد الحرام; فقال ابن عباس ، وطاووس ، ومجاهد: هم أهل الحرم . وقال عطاء: من كان منزله دون المواقيت . قال ابن الأنباري: ومعنى الآية: أن هذا الفرض لمن كان من الغرباء ، وإنما ذكر أهله وهو المراد بالحضور ، لأن الغالب على الرجل أن يسكن حيث أهله ساكنون .
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في [ ص: 209 ] الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب .
قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) .
في الحج لغتان . فتح الحاء ، وهي لأهل الحجاز ، وبها قرأ الجمهور . وكسرها ، وهي لتميم ، وقيل: لأهل نجد ، وبها قرأ الحسن . قال سيبويه: يقال: حج حجا ، كقولهم: ذكر ذكرا . وقالوا: حجة ، يريدون: عمل سنة . قال الفراء: المعنى: وقت الحج هذه الأشهر . وقال الزجاج: معناه: أشهر الحج أشهر معلومات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (38)
صــ210 إلى صــ 214
وفي أشهر الحج قولان . أحدهما: أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، قاله ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وعطاء ، والشعبي ، وطاووس ، والنخعي ، وقتادة ، ومكحول ، والضحاك ، والسدي ، وأبو حنيفة ، وأحمد بن حنبل ، والشافعي ، رضي الله عنهم . والثاني: أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة ، وهو مروي عن ابن عمر أيضا ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، والزهري ، والربيع ، ومالك بن أنس . قال ابن جرير الطبري: إنما أراد هؤلاء أن هذه الأشهر أن ليست أشهر العمرة ، إنما هي للحج ، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء منى ، وقد كانوا يستحبون أن يفعلوا العمرة في غيرها . قال ابن سيرين: ما أحد من أهل العلم شك في أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج ، وإنما قال: (الحج أشهر) وهي شهران وبعض الآخر على عادة العرب . قال الفراء: تقول العرب: له اليوم يومان لم أره ، وإنما هو يوم ، وبعض آخر . وتقول: زرتك العام ، وأتيتك اليوم ، وإنما وقع الفعل في ساعة . وذكر ابن الأنباري في هذا قولين . أحدهما: أن العرب توقع الجمع على التثنية ، كقوله تعالى: أولئك مبرءون مما يقولون وإنما يريد عائشة وصفوان . وكذلك قوله: وكنا لحكمهم شاهدين يريد: [ ص: 210 ] داود وسليمان . والثاني: أن العرب توقع الوقت الطويل على الوقت القصير ، فيقولون: قتل ابن الزبير أيام الحج ، وإنما كان القتل في أقصر وقت .
فصل
اختلف العلماء فيمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج ، فقال عطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، والشافعي: لا يجزئه ذلك ، وجعلوا فائدة قوله: (الحج أشهر معلومات) أنه لا ينعقد الحج إلا فيهن . وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والثوري ، والليث بن سعد ، وأحمد بن حنبل: يصح الإحرام بالحج قبل أشهر ، فعلى هذا يكون قوله: (الحج أشهر معلومات) أي: معظم الحج يقع في هذه الأشهر ، كما قال النبي ، صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" .
قوله تعالى: فمن فرض فيهن الحج قال ابن مسعود: هو الإهلال بالحج ، والإحرام به . وقال طاووس ، وعطاء: هو أن يلبي . وروي عن علي ، وابن عمر ، ومجاهد ، والشعبي في آخرين: أنه إذا قلد بدنته فقد أحرم ، وهذا محمول على أنه قلدها ناويا للحج . ونص الإمام أحمد بن حنبل ، رضي الله عنه ، في رواية الأثرم: أن الإحرام بالنية . قيل له: يكون محرما بغير تلبية؟ قال: نعم إذا عزم على الإحرام ، وهذا قول مالك ، والشافعي . وقال أبو حنيفة: لا يجوز الدخول في الإحرام إلا بالتلبية أو تقليد الهدي وسوقه .
قوله تعالى: (فلا رفث) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر: (فلا رفث ولا فسوق) بالضم والتنوين . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بغير تنوين ، ولم يرفع أحد منهم لام "جدال" إلا أبو جعفر . قال أبو علي: حجة من فتح أنه أشد مطابقة للمعنى المقصود ، لأنه بالفتح قد نفى جميع الرفث والفسوق ، كقوله: (لا ريب [ ص: 211 ] فيه) فإذا رفع ونون ، كان النفي لواحد منه ، وإنما فتحوا لام الجدال ، ليتناول النفي جميع جنسه ، فكذلك ينبغي أن يكون جمع الاسمين قبله . وحجة من رفع أنه قد علم من فحوى الكلام نفي جميع الرفث ، وقد يكون اللفظ واحدا ، والمراد بالمعنى: الجميع .
وفي الرفث ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الجماع ، قاله ابن عمر ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين . والثاني: أنه الجماع ، وما دونه من التعريض به ، وهو مروي عن ابن عمر أيضا ، وابن عباس ، وعمرو بن دينار في آخرين . والثالث: أنه اللغو من الكلام ، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي . وفي الفسوق ثلاثة أقوال . أحدها: أنه السباب ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، وإبراهيم في آخرين . والثاني: أنه التنابز بالألقاب ، مثل أن تقول لأخيك: يا فاسق ، يا ظالم ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث: أنه المعاصي ، قاله الحسن ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين ، وهو الذي نختاره ، لأن المعاصي تشمل الكل ، ولأن الفاسق: الخارج من الطاعة إلى المعصية .
قوله تعالى: (ولا جدال في الحج) الجدال: المراء . وفي معنى الكلام قولان .
أحدهما: أن معناه: لا يمارين أحد أحدا ، فيخرجه المراء إلى الغضب ، وفعل ما لا يليق بالحج ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عمر ، وابن عباس ، وطاووس ، وعطاء ، وعكرمة ، والنخعي ، وقتادة ، والزهري ، والضحاك في آخرين .
والثاني: أن معناه: لا شك في الحج ولا مراء ، فإنه قد استقام أمره وعرف وقته وزال النسيء عنه ، قال مجاهد: كانوا يحجون في ذي الحجة عامين ، وفي المحرم عامين ، ثم حجوا في صقر عامين ، وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت حجة أبي بكر [ ص: 212 ] الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة ، ثم حج النبي من قابل في ذي الحجة ، فذلك حين قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" وإلى هذا المعنى ذهب السدي عن أشياخه ، والقاسم بن محمد .
قوله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى قال ابن عباس: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون ، فيسألون الناس ، فأنزل الله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى قال الزجاج: أمروا أن يتزودوا ، وأعلموا أن خير ما تزودوا تقوى الله عز وجل .
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم .
قوله تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم
قال ابن عباس: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم ، ويقولون: أيام ذكر; فنزلت هذه الآية . والابتغاء: الالتماس . والفضل هاهنا: التماس الرزق بالتجارة والكسب . قال ابن قتيبة: أفضتم ، بمعنى: دفعتم . وقال الزجاج: معناه: دفعتم بكثرة ، يقال: أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا فيه ، وأكثروا التصرف .
وفي تسمية عرفات قولان .
[ ص: 213 ] أحدهما: أن الله تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به ، فلما أتى عرفات قال: قد عرفت ، فسميت "عرفة" قاله علي رضي الله عنه .
والثاني: أنها سميت بذلك لاجتماع آدم وحواء ، وتعارفهما بها قاله الضحاك .
، قاله الزجاج: والمشعر ، المعلم سمي بذلك ، لأن الصلاة عنده . والمقام والمبيت والدعاء من معالم الحج ، وهو مزدلفة ، وهي جمع يسمى بالاسمين . قال ابن عمر ، ومجاهد: المشعر الحرام: المزدلفة كلها .
قوله تعالى: (واذكروه كما هداكم) أي: جزاء هدايته لكم ، فإن قيل: ما فائدة تكرير الذكر؟ قيل: فيه أربعة أجوبة . أحدها: أنه كرره للمبالغة في الأمر به . والثاني: أنه وصل بالذكر الثاني: ما لم يصل بالذكر الأول ، فحسن تكريره . فالمعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته . والثالث: أنه كرره ليدل على مواصلته ، والمعنى: اذكروه ذكرا بعد ذكر ، ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم النحوي . والرابع: أن الذكر في قوله: فاذكروا الله عند المشعر الحرام هو: صلاة المغرب والعشاء اللتان يجمع بينهما بالمزدلفة . والذكر في قوله: (كما هداكم) هو الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع ، حكاه القاضي أبو يعلى .
قوله تعالى: (وإن كنتم من قبله) في هاء الكناية ثلاثة أقوال . أحدها: أنها ترجع إلى الإسلام ، قاله ابن عباس . والثاني: أنها ترجع إلى الهدى ، قاله مقاتل ، والزجاج . والثالث: أنها ترجع إلى القرآن ، قاله سفيان الثوري .
قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس قالت عائشة: كانت قريش ومن يدين بدينها ، وهم الحمس ، يقفون عشية عرفة بالمزدلفة ، يقولون: نحن قطن البيت ، وكان بقية [ ص: 214 ] العرب والناس يقفون بعرفات ، فنزلت هذه الآية . قال الزجاج: سموا الحمس لأنهم تحمسوا في دينهم ، أي: تشددوا . والحماسة: الشدة في كل شيء .
وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال . أحدها: أنهم جميع العرب غير الحمس ويدل عليه حديث عائشة ، وهو قول عروة ، ومجاهد ، وقتادة . والثاني: أن المراد بالناس هاهنا: إبراهيم الخليل عليه السلام ، قاله الضحاك بن مزاحم . والثالث: أن المراد بالناس آدم ، قاله الزهري . وقد قرأ أبو المتوكل ، وأبو نهيك ، ومورق العجلي: "الناسي" بإثبات الياء . والرابع: أنهم أهل اليمن وربيعة ، فإنهم كانوا يفيضون من عرفات ، قاله مقاتل .
وفي المخاطبين بذلك قولان . أحدهما: أنه خطاب لقريش ، وهو قول الجمهور . والثاني: أنه خطاب لجميع المسلمين ، وهو يخرج على قول من قال: الناس آدم ، أو إبراهيم . والإفاضة هاهنا على ما يقتضيه ظاهر اللفظ: هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النحر ، إلا أن جمهور المفسرين على أنها الإفاضة من عرفات ، فظاهر الكلام لا يقتضي ذلك ، كيف يقال: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله ثم أفيضوا من عرفات؟! غير أني أقول: وجه الكلام على ما قال أهل التفسير: أن فيه تقديما وتأخيرا ، تقديره: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله .
و"الغفور" من أسماء الله ، عز وجل ، وهو من قولك: غفرت الشيء: إذا غطيته ، فكأن الغفور هو الساتر لعبده برحمته ، أو الساتر لذنوب عباده . والغفور: هو الذي يكثر المغفرة ، لأن بناء المفعول للمبالغة من الكثرة ، كقولك: صبور ، وضروب ، وأكول .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (39)
صــ215 إلى صــ 219
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس [ ص: 215 ] من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون .
قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله
في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها: أن أهل الجاهلية كانوا إذا اجتمعوا بالموسم ، ذكروا أفعال آبائهم وأيامهم وأنسابهم في الجاهلية ، فتفاخروا بذلك; فنزلت هذه الآية . وهذا المعنى مروي عن الحسن ، وعطاء ، ومجاهد .
والثاني: أن العرب كانوا إذا حدثوا أو تكلموا يقولون: وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا فنزلت هذه الآية . وهذا مروي عن الحسن أيضا .
والثالث: أنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم ، قام الرجل بمنى . فقال: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة ، كثير المال ، فأعطني مثل ذلك ، فلا يذكر الله ، إنما يذكر أباه ، ويسأل أن يعطى في دنياه ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول السدي .
والمناسك: المتعبدات . وفي المراد بها هاهنا قولان . أحدهما: أنها جميع أفعال الحج ، قاله الحسن . والثاني: أنها إراقة الدماء ، قاله مجاهد . وفي ذكرهم آبائهم أربعة أقوال . أحدها: أنه إقرارهم بهم . والثاني: أنه حلفهم بهم . والثالث: أنه ذكر إحسان آبائهم إليهم ، فإنهم كانوا يذكرونهم وينسون إحسان الله إليهم . والرابع: أنه ذكر الأطفال الآباء ، لأنهم أول نطقهم بذكر آبائهم ، روي هذا المعنى عن عطاء ، والضحاك . وفي "أو" قولان . أحدهما: أنها بمعنى "بل" . والثاني: بمعنى الواو . و"الخلاق" قد تقدم ذكره .
[ ص: 216 ] وفي حسنة الدنيا سبعة أقوال . أحدها: أنها المرأة الصالحة ، قاله علي . والثاني: أنها العبادة ، رواه سفيان بن حسين عن الحسن . والثالث: أنها العلم والعبادة ، رواه هشام عن الحسن . والرابع: المال ، قاله أبو وائل ، والسدي ، وابن زيد . والخامس: العافية ، قاله قتادة . والسادس: الرزق الواسع ، قاله مقاتل . والسابع: النعمة ، قاله ابن قتيبة .
وفي حسنة الآخرة ثلاثة أقوال . أحدها: أنها الحور العين ، قاله علي ، رضي الله عنه . والثاني: الجنة ، قاله الحسن ، والسدي ، ومقاتل . والثالث: العفو والمعافاة ، روي عن الحسن ، والثوري .
قوله تعالى: أولئك لهم نصيب مما كسبوا قال الزجاج: معناه: دعاؤهم مستجاب ، لأن كسبهم هاهنا هو الدعاء ، وهذه الآية متعلقة بما قبلها ، إلا أنه قد روي أنها نزلت على سبب يخالف سبب أخواتها ، فروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله: مات أبي ولم يحج ، أفأحج عنه؟ فقال: "لو كان على أبيك دين قضيته ، أما كان ذلك يجزئ عنه؟" قال: نعم ، قال: "فدين الله أحق أن يقضى!" قال: فهل لي من أجر؟ فنزلت هذه الآية .
وفي معنى سرعة الحساب خمسة أقوال . أحدها: أنه قلته ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه قرب مجيئه ، قال مقاتل . والثالث: أنه لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه ، كان سريع الحساب لذلك . والرابع: أن المعنى: والله سريع المجازاة ، ذكر هذا القول والذي قبله الزجاج . والخامس: أنه لا يحتاج إلى فكر وروية كالعاجزين ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
[ ص: 217 ] قوله تعالى: واذكروا الله في أيام معدودات في هذا الذكر قولان . أحدهما: أنه التكبير عند الجمرات ، وأدبار الصلوات ، وغير ذلك من أوقات الحج . والثاني: أنه التكبير عقيب الصلوات المفروضات . واختلف أرباب هذا القول في الوقت الذي يبتدئ فيه بالتكبير ويقطع على ستة أقوال . أحدها: أنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة ، إلى [ما ] بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق ، قاله علي ، وأبو يوسف ، ومحمد . والثاني: أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر ، قاله ابن مسعود ، وأبو حنيفة . والثالث: من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى [ما ] بعد العصر من آخر أيام التشريق ، قاله ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وعطاء . والرابع: أنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى [ما ] بعد صلاة الظهر من يوم النفر ، وهو الثاني من أيام التشريق ، قاله الحسن . والخامس: أنه يكبر من الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، قاله مالك بن أنس ، وهو أحد قولي الشافعي . والسادس: أنه يكبر من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، وهذا قول للشافعي . ومذهب إمامنا أحمد أنه كان محلا ، كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة; أولها الفجر يوم عرفة وآخرها العصر من آخر أيام التشريق ، وإن كان محرما كبر عقيب سبعة عشر صلاة; أولها الظهر من يوم النحر ، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق .
وهل يختص هذا التكبير عقيب الفرائض بكونها في جماعة أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان إحداهما: يختص بمن صلاها في جماعة ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله . والثانية: يختص بالفريضة ، وإن صلاها وحده ، وهو قول الشافعي .
وفي الأيام المعدودات ثلاثة أقوال . أحدها: أنها أيام التشريق ، قاله ابن عمر ، وابن [ ص: 218 ] عباس ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين . والثاني: أنها يوم النحر ويومان بعده ، روي عن علي ، وابن عمر . والثالث: أنها أيام العشر ، قاله سعيد بن جبير ، والنخعي . قال الزجاج: و "معدودات" يستعمل كثيرا للشيء القليل ، كما يقال: دريهمات وحمامات .
قوله تعالى: فمن تعجل في يومين أي: فمن تعجل النفر الأول في اليوم الثاني من أيام منى ، فلا إثم عليه ، ومن تأخر إلى النفر الثاني ، وهو اليوم الثالث من أيام منى ، فلا إثم عليه . فإن قيل ، إنما يخاف الإثم المتعجل ، فما بال المتأخر ألحق به ، والذي أتى به أفضل؟! فعنه أربعة أجوبة . أحدها: أن المعنى: لا إثم على المتعجل ، والمتأخر مأجور ، فقال: لا إثم عليه ، لتوافق اللفظة الثانية الأولى ، كقوله: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه والثاني: أن المعنى: فلا إثم على المتأخر في ترك استعمال الرخصة . والثالث: أن المعنى: قد زالت آثام المتعجل والمتأخر التي كانت عليها قبل حجهما . والرابع: أن المعنى: طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر إنما يكون بشرط التقوى .
وفي معنى "لمن اتقى" ثلاثة أقوال . أحدها: لمن اتقى قتل الصيد ، قاله ابن عباس . والثاني: لمن اتقى المعاصي في حجه ، قاله قتادة . وقال ابن مسعود: إنما مغفرة الله لمن اتقى الله في حجه . والثالث: لمن اتقى فيما بقي من عمره ، قاله أبو العالية ، وإبراهيم .
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام .
قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا .
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال . أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، كان لين الكلام ، كافر القلب ، يظهر للنبي الحسن ، ويحلف له أنه يحبه ، ويتبعه على [ ص: 219 ] دينه وهو يضمر غير ذلك ، هذا قول ابن عباس ، والسدي ومقاتل . والثاني: أنها نزلت فيمن نافق فأظهر بلسانه ما ليس في قلبه . وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وابن زيد . والثالث: أنها نزلت في سرية الرجيع ، وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة: إنا قد أسلمنا ، فابعث لنا نفرا من أصحابك يعلمونا ديننا ، فبعث صلى الله عليه وسلم; خبيب بن عدي ، ومرثدا الغنوي ، وخالد بن بكير ، وعبد الله بن طارق ، وزيد بن الدثنة ، وأمر عليهم عاصم بن ثابت ، فساروا نحو مكة ، فنزلوا بين مكة والمدينة ومعهم تمر ، فأكلوا منه ، فمرت عجوز فأبصرت النوى ، فرجعت إلى قومها وقالت: قد سلك هذا الطريق أهل يثرب ، فركب سبعون منهم حتى أحاطوا بهم ، فحاربوهم ، فقتلوا مرثدا ، وخالدا ، وابن طارق ، ونثر عاصم كنانته وفيها سبعة أسهم ، فقتل بكل سهم رجلا من عظمائهم ، ثم قال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار ، فاحم لحمي آخر النهار ، ثم أحاطوا به فقتلوه ، وأرادوا حز رأسه يبيعوه من سلافة بنت سعد ، وكان قتل بعض أهلها ، فنذرت: لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر ، فأرسل الله تعالى رجلا من الدبر - وهي: الزنابير - فحمته ، فلم يقدروا عليه ، فقال دعوه حتى يمسي فتذهب عنه ، فنأخذه ، فجاءت ، سحابة فأمطرت كالعزالي ، فبعث الله الوادي ، فاحتمله فذهب به ، وأسروا خبيبا وزيدا ، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبا ليقتلوه ، لأنه قتل آباءهم ، فلما خرجوا به ليقتلوه قال: دعوني أصلي ركعتين ، فتركوه فصلى ركعتين ، ثم قال: لولا أن تقولوا: جزع خبيب; لزدت ، وأنشأ يقول:
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (40)
صــ220 إلى صــ 224
[ ص: 220 ]
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
فصلبوه حيا ، فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ رسولك سلامي ، فجاءه رجل منهم يقال له: أبو سروعة ، ومعه رمح ، فوضعه بين يدي خبيب ، فقال له خبيب: اتق الله ، فما زاده ذلك إلا عتوا . وأما زيد ، فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه ، فجاءه أبو سفيان بن حرب حين قدم ليقتله ، فقال: يا زيد! أنشدك الله ، أتحب أن محمدا مكانك ، وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ، ثم قتل . وبلغ النبي الخبر ، فقال: أيكم يحتمل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟ فقال الزبير: أنا وصاحبي المقداد ، فخرجا يمشيان بالليل ويمكثان بالنهار ، حتى وافيا المكان ، وإذا حول الخشبة أربعون مشركا نيام نشاوى ، وإذا هو رطب يتثنى لم يتغير فيه شيء بعد أربعين يوما ، فحمله الزبير على فرسه ، وسار فلحقه سبعون منهم ، فقذف الزبير خبيبا فابتلعته الأرض ، وقال الزبير: ما جرأكم علينا يا معشر قريش؟! ثم رفع العمامة عن رأسه وقال: أنا الزبير بن العوام ، وأمي صفية بنت عبد المطلب ، وصاحبي المقداد ، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما ، فإن شئتم ناضلتكم ، وإن شئتم نازلتكم ، وإن شئتم انصرفتم ، فانصرفوا ، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده ، فقال: "يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك"
وقال بعض المنافقين في أصحاب خبيب: ويح هؤلاء المقتولين ، لا في بيوتهم قعدوا ، ولا رسالة صاحبهم أدوا ، فأنزل الله تعالى في الزبير والمقداد وخبيب وأصحابه والمنافقين هذه الآية ، وثلاث آيات بعدها . وهذا الحديث بطوله مروي عن ابن عباس .
[ ص: 221 ] قوله تعالى: (ويشهد الله على ما في قلبه) فيه قولان . أحدهما: أنه يقول: إن الله يشهد أن ما ينطق به لساني هو الذي في قلبي . والثاني: أنه يقول: اللهم اشهد علي بهذا القول . وقرأ ابن مسعود: "ويستشهد الله" بزيادة سين وتاء . وقرأ الحسن ، وطلحة بن مصرف ، وابن محيصن وابن عبلة: "ويشهد" بفتح الياء "الله" بالرفع .
قوله تعالى: (وهو ألد الخصام) الخصام: جمع خصم ، يقال: خصم وخصام وخصوم . قال الزجاج: والألد: الشديد الخصومة ، واشتقاقه من لديدي العنق ، وهما صفحتا العنق ، ومعناه: أن خصمه في أي وجه أخذ من أبواب الخصومة ، غلبه في ذلك .
وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد .
قوله تعالى: (وإذا تولى) . فيه أربعة أقوال . أحدها: أنه بمعنى: غضب ، روي عن ابن عباس ، وابن جريج . والثاني: أنه الانصراف عن القول الذي قاله ، قاله الحسن . والثالث: أنه من الولاية ، فتقديره: إذا صار واليا ، قاله مجاهد والضحاك . والرابع: أنه الانصراف بالبدن ، قاله مقاتل وابن قتيبة .
وفي معنى: "سعى" قولان . أحدهما: أنه بمعنى: عمل ، قاله ابن عباس ومجاهد . والثاني: أنه من السعي بالقدم ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي الفساد قولان . أحدهما: أنه الكفر . والثاني: الظلم . والحرث: الزرع . والنسل: نسل كل شيء من الحيوان ، هذا قول ابن عباس وعكرمة في آخرين . وحكى الزجاج عن قوم: أن الحرث: النساء ، والنسل: الأولاد . قال: وليس هذا بمنكر ، لأن المرأة تسمى حرثا .
وفي معنى إهلاكه للحرث والنسل ثلاثة أقوال . أحدها: أنه إهلاك ذلك بالقتل والإحراق والإفساد ، قاله الأكثرون . والثاني: أنه إذا ظلم كان الظلم سببا لقطع القطر ، [ ص: 222 ] فيهلك الحرث والنسل ، قاله مجاهد . وهو يخرج على قول من قال: إنه من التولي . والثالث: أنه إهلاك ذلك بالضلال الذي يؤول إلى الهلاك ، حكاه بعض المفسرين .
قوله تعالى: والله لا يحب الفساد قال ابن عباس: لا يرضى بالمعاصي . وقد احتجت المعتزلة بهذه الآية ، فأجاب أصحابنا بأجوبة . منها: أنه لا يحبه دينا ، ولا يريده شرعا ، فأما أنه لم يرده وجودا; فلا . والثاني: أنه لا يحبه للمؤمنين دون الكافرين ، والثالث: أن الإرادة معنى غير المحبة ، فإن الإنسان قد يتناول المر ، ويريد بط الجرح ، ولا يحب شيئا من ذلك . وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة; بطل ادعاؤهم التساوي بينهما ، وهذا جواب معتمد . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: ولا يرضى لعباده الكفر . [ الزمر: 7 ] .
وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد .
قوله تعالى: (أخذته العزة) قال ابن عباس: هي الحمية . وأنشدوا:
أخذته عزة من جهله فتولى مغضبا فعل الضجر
ومعنى الكلام: حملته الحمية على الفعل بالإثم . وفي "جهنم" قولان ، ذكرهما ابن الأنباري ، أحدهما: أنها أعجمية لا تجر للتعريف والعجمة . والثاني: أنها اسم عربي ، ولم يجر للتأنيث والتعريف . قال رؤبة: ركية جهنام: بعيدة القعر .
وقال الأعشى:
دعوت خليلي مسحلا ودعوا له جهنام جدعا للهجين المذمم
فترك صرفه يدل على أنه اسم أعجمي معرب .
وفي معنى الكلام قولان . أحدها: فحسبه جهنم جزاء عن إثمه . والثاني: فحسبه [ ص: 223 ] جهنم ذلا من عزة . والمهاد: الفراش ، ومهدت لفلان: إذا وطأت له ، ومنه: مهد الصبي .
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد .
قوله تعالى: ومن الناس من يشري نفسه اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على خمسة أقوال .
أحدها: أنها نزلت في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وهو معنى قول قمر وعلي رضي الله عنهما . والثاني: أنها نزلت في الزبير والمقداد حين ذهبا لإنزال خبيب من خشبته ، وقد شرحنا القصة . وهذا قول ابن عباس والضحاك . والثالث: أنها نزلت في صهيب الرومي ، واختلفوا في قصته ، فروي أنه أقبل مهاجرا نحو النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فاتبعه نفر من قريش ، فنزل ، فانتثل كنانته ، وقال: قد علمتم أني من أرماكم بسهم ، وايم الله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم معي ، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، فإن شئتم دللتكم على مالي . قالوا: فدلنا على مالك نخل عنك ، فعاهدهم على ذلك ، فنزلت فيه هذه الآية ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ربح البيع أبا يحيى"؟ وقرأ عليه القرآن . هذا قول سعيد بن المسيب ، وذكر نحوه أبو صالح عن ابن عباس ، وقال: إن الذي تلقاه فبشره بما نزل فيه أبو بكر الصديق . وذكر مقاتل أنه قال للمشركين: أنا شيخ كبير لا يضركم إن كنت معكم أو عليكم ، ولي عليكم حق لجواري ، فخذوا مالي غير راحلة ، واتركوني وديني ، فاشترط أن لا يمنع عن صلاة ولا هجرة ، فأقام ما شاء الله ، ثم ركب راحلته ، فأتى المدينة مهاجرا ، فلقيه أبو بكر ، فبشره وقال: نزلت فيك هذه الآية . وقال عكرمة: نزلت في صهيب ، وأبي ذر الغفاري ، فأما صهيب ، فأخذه أهله فافتدى بماله ، وأما أبو ذر ، فأخذه أهله فأفلت منهم حتى قدم مهاجرا . والرابع: أنها نزلت في المجاهدين [ ص: 224 ] في سبيل الله ، قاله الحسن وابن زيد في آخرين . والخامس: أنها نزلت في المهاجرين والأنصار حين قاتلوا على دين الله حتى ظهروا ، هذا قول قتادة . و"يشري" كلمة من الأضداد ، يقال: شرى ، بمعنى: باع ، وبمعنى: اشترى . فمعناها على قول من قال: نزلت في صهيب; معنى: يشتري . وعلى بقية الأقوال بمعنى: يبيع .
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور .
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال . أحدها: أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب ، كانوا بعد إسلامهم يتقون السبت ولحم الجمل ، وأشياء يتقيها أهل الكتاب . رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أمروا بالدخول في الإسلام . روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال الضحاك . والثالث: أنها نزلت في المسلمين ، يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها ، قاله مجاهد وقتادة .
وفي "السلم " ثلاث لغات: كسر السين ، وتسكين اللام ، وبها قرأ أبو عمرو ، وابن عامر في "البقرة" وفتحا السين في "الأنفال" وسورة "محمد" وفتح السين مع تسكين اللام . وبها قرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائي في المواضع الثلاثة ، وفتح السين واللام . وبها قرأ الأعمش في "البقرة" خاصة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (41)
صــ225 إلى صــ 229
[ ص: 225 ] وفي معنى " السلم " قولان . أحدهما: أنه الإسلام ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن قتيبة ، والزجاج في آخرين . والثاني: أنها الطاعة ، روي عن ابن عباس أيضا ، وهو قول أبي العالية ، والربيع . وقال الزجاج: و"كافة" بمعنى الجميع ، وهو في اشتقاق اللغة: ما يكف الشيء في آخره ، من ذلك: كفه القميص ، وكل مستطيل فحرفه كفة: بضم الكاف . ويقال: في كل مستدير: كفه بكسر الكاف ، نحو: كفة الميزان . ويقال: إنما سميت كفة الثوب ، لأنها تمنعه أن ينتشر ، وأصل الكف: المنع ، وقيل لطرف اليد: كف ، لأنها تكف بها عن سائر البدن ، ورجل مكفوف: قد كف بصره أن ينظر . واختلفوا: هل قوله: "كافة" يرجع إلى السلم ، أو إلى الداخلين فيه؟ على قولين . أحدهما: أنه راجع إلى السلم ، فتقديره: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام . وهذا يخرج على القول الأول الذي ذكرناه في نزول الآية . والثاني: أنه يرجع إلى الداخلين فيه ، فتقديره: ادخلوا كلكم في الإسلام ، وبهذا يخرج على القول الثاني . وعلى القول الثالث يحتمل قوله: "كافة" ثلاثة أقوال . أحدها: أن يكون أمرا للمؤمنين بألسنتهم أن يؤمنوا بقلوبهم ، والثاني أن يكون أمرا للمؤمنين بالدخول في جميع شرائعه . والثالث: أن يكون أمرا لهم بالثبات عليه ، كقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا آمنوا [ النساء: 136 ] . و: "خطوات الشيطان" المعاصي . وقد سبق شرحها . و"البينات" الدلالات الواضحات . وقال ابن جريج: هي الإسلام والقرآن . و"ينظرون" بمعنى: ينتظرون .
قوله تعالى: (إلا أن يأتيهم الله) كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا . وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال: المراد به: قدرته وأمره . قال: وقد بينه في قوله تعالى: أو يأتي أمر ربك [ الأنعام: 158 ] .
[ ص: 226 ] قوله تعالى: في ظلل من الغمام أي: بظلل . والظلل: جمع ظلة . و"الغمام": السحاب الذي لا ماء فيه . قال الضحاك: في قطع من السحاب . ومتى يكون مجيء الملائكة؟ فيه قولان . أحدهما: أنه يوم القيامة ، وهو قول الجمهور . والثاني: أنه عند الموت ، قاله قتادة . وقرأ الحسن بخفض "الملائكة" و"قضي الأمر": فرغ منه . (وإلى الله ترجع الأمور) أي: تصير . قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم ، "ترجع" بضم التاء . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بفتحها . فإن قيل: فكأن الأمور كانت إلى غيره؟ فعنه أربعة أجوبة . أحدها: أن المراد به إعلام الخلق أنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب ، قاله الزجاج . والثاني: أنه لما عبد قوم غيره ، ونسبوا أفعاله إلى سواه ، ثم انكشف الغطاء يوم القيامة; ردوا إليه ما أضافوه إلى غيره . والثالث: أن العرب تقول: قد رجع علي من فلان مكروه: إذا صار إليه منه مكروه ، وإن لم يكن سبق ، قال الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسن مرة إلي فقد عادت لهن ذنوب
ذكرهما ابن الأنباري ومما يشبه هذا قول لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
أراد: يصير رمادا ، لا أنه كان رمادا . وقال أمية بن أبي الصلت:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
أي: صار . والرابع: أنه لما كانت الأمور إليه قبل الخلق ، ثم أوجدهم فملكهم بعضها رجعت إليه بعد هلاكهم . فإن قيل: قد جرى ذكر اسمه تعالى في قوله: (أن يأتيهم الله) فما [ ص: 227 ] الحكمة في أنه لم يقل: وإليه ترجع الأمور؟ فالجواب: أن إعادة اسمه أفخم وأعظم ، والعرب إذا جرى ذكر شيء يفخم أعادوا لفظه ، وأنشدوا:
لا أرى الموت يسبق الموت شيئا نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فأعادوا ذكر الموت لفخامته في صدورهم ، ذكره الزجاج .
سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب .
قوله تعالى: (سل بني إسرائيل) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمعنى: له وللمؤمنين . قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: "سل" بغير همز ، وبعض تميم يقول: "اسأل" بالهمز ، وبعضهم يقول "إسل" بالألف وطرح الهمز ، والأولى أغربهن ، وبها جاء الكتاب وفي المراد بالسؤال قولان . أحدهما: أنه التقرير والإذكار بالنعم . والثاني: التوبيخ على ترك الشكر .
والآية البينة: العلامة الواضحة ، كالعصا ، والغمام ، والمن ، والسلوى ، والبحر . وفي المراد بنعمة الله قولان . أحدهما: أنها الآيات التي ذكرناها ، قاله قتادة . والثاني: أنها حجج الله الدالة على أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله الزجاج .
وفي معنى تبديلها ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الكفر بها ، قاله أبو العالية ومجاهد . والثاني: تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة ، قاله أبو سليمان الدمشقي . والثالث: تعطيل حجج الله بالتأويلات الفاسدة .
زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب
[ ص: 228 ] قوله تعالى: زين للذين كفروا الحياة الدنيا في نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أنها نزلت في أبي جهل وأصحابه ، قاله ابن عباس . والثاني: نزلت في علماء اليهود ، قاله عطاء . والثالث: في عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين ، قاله مقاتل . قال الزجاج: وإنما جاز في "زين" لفظ التذكير ، لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي ، إذ معنى الحياة ومعنى العيش واحد .
وإلى من يضاف هذا التزيين فيه قولان . أحدهما: أنه يضاف إلى الله . وقرأ أبي بن كعب ، والحسن ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة: "زين" بفتح الزاي والياء ، على معنى: زينها الله لهم . والثاني: أنه يضاف إلى الشيطان ، روي عن الحسن . قال شيخنا علي بن عبيد الله: والتزيين من الله تعالى: هو التركيب الطبيعي ، فإنه وضع في الطبائع محبة المحبوب ، لصورة فيه تزينت للنفس ، وذلك من صنعه ، وتزيين الشيطان بإذكار ما وقع من إغفاله مما مثله يدعو إلى نفسه لزينته ، فالله تعالى يزين بالوضع ، والشيطان يزين بالإذكار .
وما السبب في سخرية الكفار من المؤمنين؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم سخروا منهم للفقر . والثاني: لتصديقهم بالآخرة . والثالث: لاتباعهم للنبي ، صلى الله عليه وسلم . وقيل: إنهم كانوا يوهمونهم أنكم على الحق ، سخرية منهم بهم .
وفي معنى كونهم "فوقهم" ثلاثة أقوال . أحدها: أن ذلك على أصله ، لأن المؤمنين في عليين ، والكفار في سجين . والثاني: أن حجج المؤمنين فوق شبه الكافرين ، فهم المنصورون . والثالث: في أن نعيم المؤمنين في الجنة فوق نعيم الكافرين في الدنيا .
قوله تعالى: والله يرزق من يشاء بغير حساب فيه قولان . أحدهما: أنه يرزق [ ص: 229 ] من يشاء رزقا واسعا غير ضيق . والثاني: يرزق من يشاء بلا محاسبة في الآخرة .
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة في المراد بـ"الناس" هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها: جميع بني آدم ، وهو قول الجمهور . والثاني: آدم وحده ، قاله مجاهد . قال ابن الأنباري: وهذا الوجه جائز ، لأن العرب توقع الجمع على الواحد . ومعنى الآية: كان آدم ذا دين واحد ، فاختلف ولده من بعده . والثالث: آدم وأولاده كانوا على الحق ، فاختلفوا حين قتل قابيل وهابيل . ذكره ابن الأنباري . والأمة هاهنا: الصنف والواحد على مقصد واحد .
وفي ذلك المقصد الذي كانوا عليه قولان . أحدهما: أنه الإسلام قاله أبي بن كعب ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل . والثاني: أنه الكفر . رواه عطية عن ابن عباس .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (42)
صــ230 إلى صــ 234
ومتى كان ذلك فيه خمسة أقوال . أحدها: أنه حين عرضوا على آدم ، وأقروا بالعبودية . قاله أبي بن كعب . والثاني: في عهد إبراهيم كانوا كفارا . قاله ابن عباس . والثالث: بين آدم ونوح ، وهو قول قتادة . والرابع: حين ركبوا السفينة ، كانوا على الحق . قاله مقاتل . والخامس: في عهد آدم . ذكره ابن الأنباري (فبعث الله النبيين مبشرين) بالجنة (ومنذرين) بالنار . هذا قول الأكثرين . وقال بعض السلف: مبشرين لمن آمن [ ص: 230 ] بك يا محمد ، ومنذرين لمن كذبك . وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس والكتاب: اسم جنس ، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس . وذكر بعضهم أنه في التوراة .
وفي المراد بالحق ههنا قولان . أحدهما: أنه بمعنى الصدق والعدل . والثاني: أنه القضاء فيما اختلفوا فيه (ليحكم بين الناس) في الحاكم هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الله تعالى . والثاني: أنه النبي الذي أنزل عليه الكتاب . والثالث: الكتاب ، كقوله تعالى: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق [ الجاثية: 29 ] . وقرأ أبو جعفر : (ليحكم) بضم الياء وفتح الكاف . وقرأ مجاهد "لتحكم" بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى: (فيما اختلفوا فيه) يعني: الدين .
قوله تعالى: (وما اختلف فيه) في هذه الهاء ثلاثة أقوال . أحدها: أنها تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن مسعود ، والثاني: إلى الدين ، قاله مقاتل . والثالث: إلى الكتاب ، قاله أبو سليمان الدمشقي . فأما هاء "أوتوه" فعائدة على الكتاب من غير خلاف . وقال الزجاج: ونصب "بغيا" على معنى المفعول له ، فالمعنى: لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي ، لأنهم عالمون بحقيقة الأمر في كتبهم . وقال الفراء: في اختلافهم وجهان . أحدهما: كفر بعضهم بكتاب بعض ، والثاني: تبديل ما بدلوا .
قوله تعالى: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه أي: لمعرفة ما اختلفوا فيه ، أو تصحيح ما اختلفوا فيه .
وفي الذي اختلفوا فيه ستة أقوال . أحدها: أنه الجمعة ، جعلها اليهود السبت ، والنصارى الأحد ، فروى البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة عن [ ص: 231 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له فاليوم لنا ، وغدا لليهود ، وبعد غد للنصارى" . والثاني: أنه الصلاة ، فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى المغرب . والثالث: أنه إبراهيم قالت اليهود: كان يهوديا ، وقالت النصارى: كان نصرانيا . والرابع: أنه عيسى ، جعلته اليهود لفرية ، وجعلته النصارى إلها . والخامس: أنه الكتب ، آمنوا ببعضها ، وكفروا ببعضها . والسادس: أنه الدين ، وهو الأصح ، لأن جميع الأقوال داخلة في ذلك .
قوله تعالى: (بإذنه) قال الزجاج: إذنه: علمه . وقال غيره: أمره . قال بعضهم: توفيقه .
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب .
قوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن الصحابة أصابهم يوم الأحزاب بلاء وحصر ، فنزلت هذه الآية ، ذكره السدي عن أشياخه ، وهو قول قتادة . والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما دخل المدينة هو وأصحابه اشتد بهم الضر ، فنزلت هذه الآية ، قاله عطاء . والثالث: أن المنافقين قالوا للمؤمنين: لو كان محمد نبيا لم يسلط عليكم القتل ، فأجابوهم: من قتل منا دخل الجنة ، فقالوا: لم تمنون أنفسكم بالباطل؟ فنزلت هذه [ ص: 232 ] الآية ، قاله مقاتل . وزعم أنها نزلت يوم أحد . قال الفراء: (أم حسبتم) بمعنى: أظننتم ، وقال الزجاج: "أم" بمعنى: بل . وقد شرحنا "أم" فيما تقدم شرحا كافيا . والمثل بمعنى: الصفة . و"زلزلوا" خوفوا وحركوا بما يؤذي ، وأصل الزلزلة في اللغة من: زل الشيء عن مكانه ، فإذا قلت: زلزلته ، فتأويله: كررت زلزلته من مكانه ، وكل ما كان فيه ترجيع كررت فيه فاء الفعل ، تقول: أقل فلان الشيء: إذا رفعه من مكانه ، فإذا كرر رفعه ورده ، قيل: قلقله . فالمعنى أنه تكرر عليهم التحريك بالخوف ، قاله ابن عباس . البأساء: الشدة والبؤس ، والضراء: البلاء والمرض . وكل رسول بعث إلى أمته يقول: (متى نصر الله) والنصر: الفتح ، والجمهور على فتح لام "حتى يقول" وضمها نافع .
فصل
ومعنى الآية: أن البلاء والجهد بلغ بالأمم المتقدمة إلى أن استبطؤوا النصر لشدة البلاء . وقد دلت على أن طريق الجنة إنما هو الصبر على البلاء . قالت عائشة: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى مضى لسبيله . وقال حذيفة: أقر أيامي لعيني ، يوم أرجع إلى أهلي فيشكون إلى الحاجة . قيل: ولم ذلك؟ قال: لأني سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول: "إن الله يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده [بالخير ] ، وإن الله ليحمي المؤمن من الدنيا ، كما يحمي المريض أهله الطعام" أخبرنا أبو بكر الصوفي ، قال: أخبرنا أبو سعيد ابن أبي صادق ، قال: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي ، قال: سمعت أبا الطيب ابن الفرخان يقول: سمعت الجنيد يقول: دخلت على سري السقطي وهو يقول: [ ص: 233 ]
وما رمت الدخول عليه حتى حللت محله العبد الذليل
وأغضيت الجفون على قذاها
وصنت النفس عن قال وقيل
يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم .
قوله تعالى: يسألونك ماذا ينفقون في سبب نزولها قولان . أحدهما: أنها نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري ، وكان له مال كثير ، فقال: يا رسول الله بماذا نتصدق ، وعلى من ننفق؟ فنزلت هذه الآية . رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لي دينارا ، فقال: "أنفقه على نفسك" . فقال: إن لي دينارين ، فقال: "أنفقها على أهلك" فقال ، إن لي ثلاثة ، فقال: "أنفقها على خادمك" . فقال: إن لي أربعة ، فقال: "أنفقها على والديك" . فقال: إن لي خمسة ، فقال: "أنفقها على قرابتك" فقال: إن لي ستة ، فقال: "أنفقها في سبيل الله ، وهو أحسنها" فنزلت هذه الآية . رواه عطاء عن ابن عباس .
قال الزجاج: "ماذا" في اللغة على ضربين ، أحدهما: أن تكون "ذا" بمعنى الذي ، و"ينفقون": صلته ، فيكون المعنى: يسألونك: أي شيء الذي ينفقون؟ والثاني: أن تكون "ما" مع "ذا" اسما واحدا ، فيكون المعنى: يسألونك أي شيء ينفقون ، قال: وكأنهم سألوا: على من ينبغي أن يفضلوا ، وما وجه الذي ينفقون؟ لأنهم يعلمون ما المنفق ، [ ص: 234 ] وأعلمهم الله أن أولى من أفضل عليه الوالدان والأقربون . والخير: المال ، قاله ابن عباس في آخرين . وقال: ومعنى: "فللوالدين" فعلى الوالدين .
فصل
وأكثر علماء التفسير على أن هذه الآية منسوخة ، قال ابن مسعود: نسختها آية الزكاة . وذهب الحسن إلى إحكامها ، وقال ابن زيد: هي في النوافل ، وهذا الظاهر من الآية ، لأن ظاهرها يقتضي الندب ، ولا يصح أن يقال: إنها منسوخة ، إلا أن يقال: إنها اقتضت وجوب النفقة على المذكورين فيها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (43)
صــ235 إلى صــ 239
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
قوله تعالى: (كتب عليكم القتال) قال ابن عباس: لما فرض الله على المسلمين الجهاد شق عليهم وكرهوه ، فنزلت هذه الآية . و"كتب" بمعنى: فرض في قول الجماعة . قال الزجاج: يقال: كرهت الشيء أكرهه كرها وكرها ، وكراهة وكراهية . وكل ما في كتاب الله من الكره ، فالفتح فيه جائز ، إلا أن أبا عبيد ذكر أن الناس مجتمعون على ضم هذا الحرف الذي فيه هذه الآية . وإنما كرهوه لمشقته على النفوس ، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى . وقال الفراء: الكره والكره: لغتان . وكأن النحويين يذهبون بالكره إلى ما كان منك مما لم تكره عليه ، فإذا أكرهت على الشيء استحبوا "كرها" بالفتح . وقال ابن قتيبة: الكره بالفتح ، معناه: الإكراه والقهر ، وبالضم معناه: المشقة . ومن نظائر هذا: الجهد: الطاقة ، والجهد: المشقة ومنهم من يجعلهما واحدا . وعظم الشيء: أكبره [ ص: 235 ] وعظمة نفسه . وعرض الشيء: إحدى نواحيه . وعرضه: خلاف طوله . والأكل: مصدر أكلت ، والأكل: المأكول ، وقال أبو علي: هما لغتان ، كالفقر والفقر ، والضعف والضعف ، والدف والدف ، والشهد والشهد .
قوله تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا قال ابن عباس: يعني الجهاد . (وهو خير لكم) فتح وغنيمة أو شهادة . (وعسى أن تحبوا شيئا) وهو: القعود عنه . (وهو شر لكم) لا تصيبون فتحا ولا غنيمة ولا شهادة . (والله يعلم) أن الجهاد خير لكم . (وأنتم لا تعلمون) حين أحببتم القعود عنه .
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا الآية على ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها من المحكم الناسخ للعفو عن المشركين . والثاني: أنها منسوخة ، لأنها أوجبت الجهاد على الكل ، فنسخ ذلك بقوله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة التوبة 122 . والثالث: أنها ناسخة من وجه ، منسوخة من وجه .
وقالوا: إن الحال في القتال كانت على ثلاث مراتب . الأولى المنع من القتال ، ومنه قوله تعالى: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم [ النساء: 77 ] . والثانية: أمر الكل بالقتال ، ومنه قوله تعالى: انفروا خفافا وثقالا [ التوبة: 41 ] . ومثلها هذه الآية . والثالثة كون القتال فرضا على الكفاية ، وهو قوله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة [ التوبة: 122 ] . فيكون الناسخ منها إيجاب القتال بعد المنع منه ، والمنسوخ منه وجوب القتال على الكل .
[ ص: 236 ] يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
قوله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه روى جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث رهطا واستعمل عليهم أبا عبيدة ، فلما انطلق ليتوجه بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابا ، وأمره ألا يقرأه إلا بمكان كذا وكذا ، وقال: "لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك" فلما صار إلى المكان ، قرأ الكتاب واسترجع ، وقال: سمعا [وطاعة لأمر ] الله ولرسوله [فخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب ] ، فرجع رجلان من أصحابه ، ومضى بقيتهم ، فأتوا ابن الحضرمي فقتلوه ، فلم يدروا ذلك اليوم ، أمن رجب ، أو من جمادى الآخرة؟ فقال المشركون [للمسلمين ]: قتلتم في الشهر الحرام [فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوه الحديث ] فنزلت هذه الآية ، فقال بعض المسلمين: لئن كان أصابهم خير فما لهم أجر ، فنزلت: إن الذين آمنوا والذين هاجروا إلى قوله: رحيم [ البقرة: 218 ] . قال الزهري: اسم ابن الحضرمي: عمرو ، واسم الذي قتله عبد الله بن واقد الليثي . قال ابن عباس: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، يظنون تلك الليلة من جمادى ، وكانت أول رجب .
وقد روى عطية عن ابن عباس أنها نزلت في شيئين . أحدهما: هذا . والثاني: [ ص: 237 ] دخول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، مكة في شهر حرام يوم الفتح ، حين عاب المشركون عليه القتال في شهر حرام .
وفي السائلين النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك قولان . أحدهما: أنهم المسلمون سألوه: هل أخطؤوا أم أصابوا؟ قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومقاتل . والثاني: أنهم المشركون سألوه على وجه العيب على المسلمين ، قاله الحسن ، وعروة ، ومجاهد .
والشهر الحرام: شهر رجب ، وكان يدعى الأصم ، لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيما له (قتال فيه) أي: يسألونك عن قتال فيه . (قل قتال فيه كبير) قال ابن مسعود وابن عباس: لا يحل . قال القاضي أبو يعلى: كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه الأشهر ، فأعلمهم الله تعالى في هذه الآية ببقاء التحريم .
فصل
اختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم: هل هو باق أم نسخ؟ على قولين .
أحدهما: أنه باق . روى ابن جريج أن عطاء كان يحلف بالله: ما يحل للناس الآن أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، إلا أن يقاتلوا فيه أو يغزوا ، وما نسخت .
والثاني: أنه منسوخ ، قال سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار: القتال جائز في الشهر الحرام ، وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة: 5 ] . وبقوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر [ التوبة: 19 ] . وهذا قول فقهاء الأمصار .
[ ص: 238 ] قوله تعالى: وصد عن سبيل الله هو مرفوع بالابتداء ، وخبر هذه الأشياء: (أكبر عند الله) . وفي المراد بـ "سبيل الله" هاهنا قولان .
أحدهما: أنه الحج ، لأنهم صدوا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عن مكة . قاله ابن عباس ، والسدي عن أشياخه .
والثاني: أنه الإسلام ، قاله مقاتل . وفي هاء الكناية في قوله: (وكفر به) قولان . أحدهما: أنها ترجع إلى الله تعالى ، قاله السدي عن أشياخه ، وقتادة ، ومقاتل ، وابن قتيبة . والثاني: أنها تعود إلى السبيل . قاله ابن عباس قال ابن قتيبة: وخفض "المسجد" الحرام نسقا على قوله: (سبيل الله) كأنه قال: وصد عن سبيل الله ، وعن المسجد الحرام .
قوله تعالى: (وإخراج أهله منه) لما آذوا رسول الله وأصحابه; اضطروهم إلى الخروج فكأنهم أخرجوهم ، فأعلمهم الله أن هذه الأفعال أعظم من قتل كل كافر . "والفتنة" هاهنا بمعنى الشرك . قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والجماعة . والفتنة في القرآن على وجوه كثيرة ، قد ذكرتها في كتاب "النظائر" (ولا يزالون) يعني: الكفار ، (يقاتلونكم) يعني: المسلمين . و(حبطت) بمعنى: بطلت .
إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم .
قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هاجروا في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أنه لما نزل القرآن بالرخصة لأصحاب عبد الله بن جحش في قتل ابن الحضرمي ، قال بعض المسلمين: ما لهم أجر ، فنزلت هذه الآية . وقد ذكرنا هذا في [ ص: 239 ] سبب نزول قوله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام عن جندب بن عبد الله .
والثاني: أنه لما نزلت لهم الرخصة قاموا ، فقالوا: [يا رسول الله ] أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال (هاجروا) من مكة إلى المدينة ، (وجاهدوا) في طاعة الله ابن الحضرمي وأصحابه . و (رحمت الله) : مغفرته وجنته . قال ابن الأنباري: الهجرة عند العرب من هجران الوطن والأهل والولد . والمهاجرون معناهم: المهاجرون الأولاد والأهل ، فعرف مكان المفعول فأسقط . قال الشعبي: أول لواء عقد في الإسلام لواء عبد الله بن جحش ، وأول مغنم قسم في الإسلام: مغنمه .
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون .
قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر في سبب نزولها قولان . أحدهما: أن عمر بن الخطاب ، قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت هذه الآية . والثاني: أن جماعة من الأنصار جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيهم عمر ، ومعاذ ، فقالوا: أفتنا في الخمر ، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية .
وفي تسمية الخمر خمرا ثلاثة أقوال . أحدها: أنها سميت خمرا ، لأنها تخامر العقل ، أي: تخالطه . والثاني: لأنها تخمر العقل ، أي: تستره . والثالث: لأنها تخمر ، أي: تغطي ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم . وقال الزجاج: الخمر في اللغة: ما ستر على العقل ، يقال: دخل فلان في خمار الناس ، أي: في الكثير الذي يستتر فيهم ، وخمار المرأة قناعها ، سمي خمارا لأنه يغطي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (44)
صــ240 إلى صــ 244
قال: والخمر هاهنا هي المجمع عليها ، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له: خمر ، وأن يكون في التحريم بمنزلتها ، لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كله حرام ، وإنما ذكر الميسر من بينه ، وجعل كله قياسا على الميسر ، والميسر إنما يكون قمارا في الجزر خاصة . فأما الميسر; فقال ابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين: هو القمار . قال ابن قتيبة: يقال: يسرت: إذا ضربت بالقداح ، ويقال للضارب بالقداح: ياسر وياسرون . ويسر وأيسار .
وكان أصحاب الثروة والأجواد في الشتاء عند شدة الزمان وكلبه ينحرون جزورا ، ويجزئونها أجزاء ، ثم يضربون عليها القداح ، فإذا قمر القامر ، جعل ذلك لذوي الحاجة والمسكنة ، وهو النفع الذي ذكره الله ، وكانوا يتمادحون بأخذ القداح ، ويتسابون بتركها ويعيبون من لا ييسر .
قوله تعالى: (قل فيهما إثم كبير) قرأ الأكثرون "كبير" بالباء ، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء .
وفي إثم الخمر ثلاثة أقوال . أحدها: أن شربها ينقص الدين . قاله ابن عباس . والثاني: أنه إذا شرب سكر وآذى الناس ، رواه السدي عن أشياخه . والثالث: أنه وقوع العداوة والبغضاء وتغطية العقل الذي يقع به التمييز ، قاله الزجاج .
وفي إثم الميسر قولان . أحدهما: أنه يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويوقع العداوة ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه يدعوا إلى الظلم ومنع الحق ، رواه السدي عن أشياخه وجائز أن يراد جميع ذلك .
[ ص: 241 ] وأما منافع الخمر; فمن وجهين: أحدهما: الربح في بيعها . والثاني: انتفاع الأبدان مع التذاذ النفوس . وأما منافع الميسر: فإصابة الرجل المال من غير تعب .
وفي قوله تعالى: وإثمهما أكبر من نفعهما قولان . أحدهما: أن معناه: وإثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك ، ومقاتل . والثاني: وإثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ، أيضا لأن الإثم الذي يحدث في أسبابها أكبر من نفعهما . وهذا منقول عن ابن جبير أيضا . واختلفوا بماذا كانت الخمرة مباحة؟ على قولين . أحدهما: بقوله تعالى: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا [ النحل: 67 ] . قاله ابن جبير . والثاني: بالشريعة الاولى ، وأقر المسلمون على ذلك حتى حرمت .
فصل
اختلف العلماء: هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا؟ على قولين . أحدهما: أنها تقتضي ذمها دون تحريمها ، رواه السدي عن أشياخه ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل . وعلى هذا القول تكون هذه الآية منسوخة .
والقول الثاني: أن لها تأثيرا في التحريم ، وهو أن الله تعالى أخبر أن فيها إثما كبيرا والإثم كله محرم بقوله: والإثم والبغي [ الأعراف: 33 ] . هذا قول جماعة من العلماء ، وحكاه الزجاج ، واختاره القاضي أبو يعلى للعلة التي بيناها ، واحتج لصحته بعض أهل المعاني ، فقال: لما قال الله تعالى: قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ; وقع التساوي بين الأمرين ، فلما قال: وإثمهما أكبر من نفعهما صار الغالب الإثم ، وبقي النفع مستغرقا في جنب الإثم ، فعاد الحكم للغالب المستغرق ، فغلب جانب الخطر .
[ ص: 242 ] فصل
فأما الميسر; فالقول فيه مثل القول في الخمر ، إن قلنا: إن هذه الآية دلت على التحريم ، فالميسر حكمها حرام أيضا ، وإن قلنا: إنها دلت على الكراهة; فأقوم الأقوال أن نقول: إن الآية التي في المائدة نصت على تحريم الميسر .
قوله تعالى: ويسألونك ماذا ينفقون قال ابن عباس: إن الذي سأله عن ذلك عمرو بن الجموح: قال ابن قتيبة: والمراد بالنفقة هاهنا: الصدقة والعطاء .
قوله تعالى: (قل العفو) قرأ أبو عمرو برفع واو "العفو" وقرأ الباقون بنصبها ، قال أبو علي: "ماذا" في موضع نصب ، فجوابه العفو بالنصب ، كما تقول في جواب . ماذا أنفقت؟ أي: أنفقت درهما . هذا وجه نصب العفو . ومن رفع جعل "ذا" بمنزلة الذي ، ولم يجعل "ماذا" اسما واحدا ، فإذا قال قائل: ماذا أنزل ربكم; فكأنه قال: ما الذي أنزل ربكم; فجوابه: قرآن . قال الزجاج: "العفو" في اللغة: الكثرة والفضل ، يقال: قد عفا القوم: إذا كثروا . و"العفو" ما أتى بغير كلفة . وقال ابن قتيبة: العفو: الميسور . يقال: خذ ما عفاك: أي: ما أتاك سهلا بلا إكراه ولا مشقة .
وللمفسرين في المراد بالعفو هاهنا خمسة أقوال .
أحدها: أنه ما يفضل عن حاجة المرء وعياله ، رواه مقسم عن ابن عباس . والثاني: ما تطيب به أنفسهم من قليل وكثير ، رواه عطية عن ابن عباس . والثالث: أنه القصد بين الإسراف والإقتار ، قاله الحسن ، وعطاء ، وسعيد بن جبير . والرابع: أنه الصدقة المفروضة ، قاله مجاهد . والخامس: أنه ما لا يتبين عليهم مقداره ، من قولهم: عفا الأثر إذا خفي ودرس ، حكاه شيخنا عن طائفة من المفسرين .
[ ص: 243 ] فصل
وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فروى السدي عن أشياخه أنها نسخت بالزكاة ، وأبى نسخها آخرون . وفصل الخطاب في ذلك أنا متى قلنا: إنه فرض عليهم بهذه الآية التصدق بفاضل المال ، أو قلنا: إنه أوجبت عليهم هذه الآية صدقة قبل الزكاة ، فالآية منسوخة بآية الزكاة ، ومتى قلنا: إنها محمولة على الزكاة المفروضة كما قال مجاهد ، أو على الصدقة المندوب إليها ، فهي محكمة .
قوله تعالى: (كذلك يبين الله) قال الزجاج: إنما قال كذلك ، وهو يخاطب جماعة ، لأن الجماعة معناها: القبيل ، كأنه قال: كذلك يا أيها القبيل . وجائز أن تكون الكاف للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال: كذلك يا أيها النبي ، لأن الخطاب له مشتمل على خطاب أمته . وقال ابن الأنباري: الكاف في "كذلك" إشارة إلى ما بين من الإنفاق ، فكأنه قال: مثل ذلك الذي بينه لكم في الإنفاق يبين الآيات . ويجوز أن يكون "كذلك" غير إشارة إلى ما قبله ، فيكون معناه: هكذا ، قاله ابن عباس . لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فتعرفون فضل ما بينهما ، فتعملون للباقي منهما .
ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم .
قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى في سبب نزولها قولان . أحدهما: أنه لما أنزل الله تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [ الإسراء: 34 ] و إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما [ النساء: 9 ] انطلق من كان عنده مال يتيم ، فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء من طعامه فيحبس له حتى [ ص: 244 ] يأكله أو يفسد . فاشتد ذلك عليهم ، فذكروه للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومقاتل . والثاني: أن العرب كانوا يشددون في أمر اليتيم حتى لا يأكلون معه في قصعته ، ولا يستخدمون له خادما . فسألوا النبي ، صلى الله عليه وسلم ، عن مخالطتهم ، فنزلت هذه الآية ، ذكره السدي عن أشياخه ، وهو قول الضحاك .
وفي السائلين للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك قولان . أحدهما: أن الذي سأله ثابت بن رفاعة الأنصاري ، قاله مقاتل . والثاني: عبد الله بن رواحة ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى: (قل إصلاح لهم خير) قال ابن قتيبة: معناه: تثمير أموالهم ، والتنزه عن أكلها لمن وليها خير . (وإن تخالطوهم فإخوانكم) أي: فهم إخوانكم ، في ذلك حكم إخوانكم . قال ابن عباس: والمخالطة: أن يشرب من لبنك ، وتشرب من لبنه ، ويأكل في قصعتك ، وتأكل في قصعته . والله يعلم المفسد من المصلح يريد: المتعمد . أكل مال اليتيم ، من المنحرج الذي لا يألو إلا الإصلاح . ولو شاء الله لأعنتكم قال ابن عباس: أي لأحرجكم ، ولضيق عليكم . وقال ابن الأنباري: أصل العنت: التشديد . تقول العرب: فلان يتعنت فلانا ويعنته ، أي: يشدد عليه ، ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه [قال: ثم نقلت إلى معنى الهلاك ] واشتقاق الحرف ، من قول العرب: أكمة عنوت: إذا كانت شديدة شاقة [المصعد ] ، فجعلت هذه اللفظة مستعملة في كل شدة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (45)
صــ245 إلى صــ 249
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون [ ص: 245 ] قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن رجلا يقال له: مرثد بن أبي مرثد بعثه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين بها أسرى ، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها: عناق ، وكانت خليلة له في الجاهلية ، فلما أسلم أعرض عنها ، فأتته فقالت: ويحك يا مرثد: ألا تخلو؟ فقال: إن الإسلام قد حال بيني وبينك ، ولكن إن شئت تزوجتك ، إذا رجعت إلى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، استأذنته في ذلك ، فقالت له: أبي تتبرم؟! واستغاثت عليه ، فضربوه ضربا شديدا ، ثم خلوا سبيله ، فلما قضى حاجته بمكة رجع إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فسأله: أتحل لي أن أتزوجها؟ فنزلت هذه الآية . هذا قول ابن عباس . وذكر مقاتل بن سليمان أنه أبو مرثد الغنوي .
والثاني: أن عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء ، وأنه غضب عليها فلطمها ، ثم فزع ، فأتى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبرها; [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هي يا عبد الله" ] فقال: [ ص: 246 ] يا رسول الله: هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، فقال: "يا عبد الله: هذه مؤمنة" . فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل ، فعابه ناس من المسلمين ، وقالوا: أنكح أمة ، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن ، فنزلت هذه الآية . رواه السدي عن أشياخه . وقد ذكر بعض المفسرين أن قصة عناق وأبا مرثد كانت سببا لنزول قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وقصة ابن رواحة كانت سببا لنزول قوله تعالى: ولأمة مؤمنة خير من مشركة .
فأما التفسير ، فقال المفضل: أصل النكاح: الجماع ، ثم كثر ذلك حتى قيل للعقد: نكاح . وقد حرم الله عز وجل نكاح المشركات عقدا ووطء .
وفي "المشركات" هاهنا قولان . أحدهما: أنه يعم الكتابيات وغيرهن ، وهو قول الأكثرين . والثاني: أنه خاص في الوثنيات ، وهو قول سعيد بن جبير ، والنخعي ، وقتادة .
وفي المراد بالأمة قولان . أحدهما: أنها المملوكة ، وهو قول الأكثرين ، فيكون المعنى: ولنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرة مشركة . والثاني: أنها المرأة ، وإن لم تكن مملوكة ، كما يقال: هذه أمة الله ، وهذا قول الضحاك ، والأول أصح .
وفي قوله: (ولو أعجبتكم) قولان . أحدهما: بجمالها وحسنها . والثاني: بحسبها ونسبها .
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فقال القائلون بأن المشركات الوثنيات: هي محكمة ، وزعم بعض من نصر هذا القول أن اليهود والنصارى ليسوا بمشركين بالله ، وإن جحدوا بنبوة نبينا . قال شيخنا: وهو قول فاسد من وجهين . أحدهما: أن حقيقة الشرك ثابتة في حقهم حيث قالوا: عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله . والثاني: أن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، يوجب أن يقولوا: إن ما جاء به ليس من عند الله ، وإضافة ذلك إلى [ ص: 247 ] غير الله شرك . فأما القائلون بأنها عامة في جميع المشركات ، فلهم في ذلك قولان . أحدهما: أن بعض حكمها منسوخ بقوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة: 6 ] وبقي الحكم في غير أهل الكتاب محكما . والثاني: أنها ليست منسوخة ، ولا ناسخة ، بل هي عامة في جميع المشركات ، وما أخرج عن عمومها من إباحة كافرة; فلدليل خاص ، وهو قوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة: 6 ] ; فهذه خصصت عموم تلك من غير نسخ ، وعلى هذا عامة الفقهاء . وقد روي معناه عن جماعة من الصحابة ، منهم عثمان ، وطلحة ، وحذيفة ، وجابر ، وابن عباس .
قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركين أي: لا تزوجوهم بمسلمة حتى يؤمنوا; والكلام في قوله تعالى: (ولعبد مؤمن) وفي قوله تعالى: (ولو أعجبكم) مثل الكلام في أول الآية .
قوله تعالى: والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ; قرأ الجمهور بخفض "المغفرة" وقرأ الحسن ، والقزاز ، عن أبي عمرو ، برفعها .
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين .
قوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض) روى ثابت عن أنس قال: كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهن لم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يؤاكلوهن ويشاربوهن ويكونوا معهن في البيوت ، وأن يفعلوا كل شيء ما عدا النكاح . وقال ابن عباس: جاء [ ص: 248 ] رجل يقال: له ابن الدحداحة ، من الأنصار ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية . وفي المحيض قولان . أحدهما: أنه اسم للحيض ، قال الزجاج: يقال: قد حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا . وقال ابن قتيبة: المحيض: الحيض . والثاني: أنه اسم لموضع الحيض ، كالمقيل ، فإنه موضع القيلولة ، والمبيت موضع البيتوتة . وذكر القاضي أبو يعلى أن هذا ظاهر كلام أحمد . فأما أرباب القول الأول; فأكدوه بأن في اللفظ ما يدل على قولهم ، وهو أنه وصفه بالأذى ، وذلك صفة لتفسير الحيض ، لا لمكانه . وأما أرباب القول الثاني ، فقالوا: لا يمتنع أن يكون المحيض صفة للموضع ، ثم وصفه بما قاربه وجاوره ، كالعقيقة ، فإنها اسم لشعر الصبي ، وسميت بها الشاة التي تذبح عند حلق رأسه مجازا . والرواية: اسم للجمل ، وسميت المزادة راوية مجازا . والأذى يحصل للواطئ بالنجاسة ، ونتن الريح . وقيل: يورث جماع الحائض علة بالغة في الألم . فاعتزلوا النساء في المحيض المراد به اعتزال الوطء في الفرج ، لأن المحيض نفس الدم أو نفس الفرج (ولا تقربوهن) أي: لا تقربوا جماعهن ، وهو تأكيد لقوله: (فاعتزلوا النساء) .
قوله تعالى: (حتى يطهرن) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم (حتى يطهرن) خفيفة . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وأبو بكر ، عن عاصم (يطهرن) بتشديد الطاء والهاء وفتحهما . قال ابن قتيبة: يطهرن: ينقطع عنهن الدم ، يقال: طهرت المرأة وطهرت: إذا رأت الطهر ، وإن لم تغتسل بالماء . ومن قرأ "يطهرن" [ ص: 249 ] بالتشديد أراد: يغتسلن بالماء . والأصل يتطهرن ، فأدغمت التاء في الطاء . قال ابن عباس ومجاهد: حتى يطهرن من الدم ، فإذا تطهرن اغتسلن بالماء .
قوله تعالى: (فأتوهن) إباحة من حظر ، لا على الوجوب .
قوله تعالى: (من حيث أمركم الله) فيه أربعة أقوال .
أحدها: أن معناه: من قبل الطهر ، لا من قبل الحيض ، قاله ابن عباس ، وأبو رزين ، وقتادة ، والسدي في آخرين .
والثاني: أن معناه: فأتوهن من حيث أمركم الله أن لا تقربوهن فيه ، وهو محل الحيض ، قاله مجاهد . وقال من نصر هذا القول: إنما قال: (أمركم الله) والمعنى: نهاكم ، لأن النهي أمر بترك المنهي عنه و"من" بمعنى: "في": كقوله تعالى: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة [ الجمعة: 9 ] .
والثالث: فأتوهن من قبل التزويج الحلال ، لا من قبل الفجور ، قاله ابن الحنفية . والرابع: أن معناه: فأتوهن من الجهات التي يحل أن تقرب فيها المرأة ، ولا تقربوهن من حيث لا ينبغي مثل أن كن صائمات أو معتكفات أو محرمات . وهذا قول الزجاج ، وابن كيسان . وفي قوله تعالى: إن الله يحب التوابين قولان . أحدهما: التوابين من الذنوب ، قاله عطاء ، ومجاهد في آخرين . والثاني: التوابين من إتيان الحيض ، ذكره بعض المفسرين .
وفي قوله تعالى: (ويحب المتطهرين) ثلاثة أقوال . أحدها: المتطهرين من الذنوب ، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية . والثاني: المتطهرين بالماء ، قاله عطاء . والثالث: المتطهرين من إتيان أدبار النساء . روي عن مجاهد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (46)
صــ250 إلى صــ 255
فصل
أقل الحيض يوم وليلة في إحدى الروايتين عن أحمد . والثانية: يوم . وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام . وقال مالك وداود: ليس لأقله حد . وفي أكثره روايتان عن أحمد . إحداهما: خمسة عشر يوما ، وهو قول مالك والشافعي . والثانية سبعة عشر يوما . وقال أبو حنيفة: أكثره عشرة أيام .
والحيض مانع من عشرة أشياء: فعل الصلاة ، ووجوبها ، وفعل الصوم دون وجوبه ، والجلوس في المسجد ، والاعتكاف ، والطواف ، وقراءة القرآن ، وحمل المصحف ، والاستمتاع في الفرج ، وحصول نية الطلاق .
نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين .
قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم) في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها: أن اليهود أنكرت جواز إتيان المرأة إلا من بين يديها ، وعابت من يأتيها على غير تلك الصفة ، فنزلت هذه الآية . روي عن جابر ، والحسن ، وقتادة . والثاني: أن حيا من قريش كانوا يتزوجون النساء بمكة ، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ، فلما قدموا المدينة ، تزوجوا من الأنصار ، فذهبوا ليفعلوا ذلك ، فأنكرنه ، وانتهى الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . رواه مجاهد عن ابن عباس . والثالث: أن عمر بن الخطاب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: هلكت ، حولت رحلي الليلة ، فنزلت هذه الآية . رواه سعيد بن جبير عن ابن [ ص: 251 ] عباس . والحرث: المزدرع ، وكنى به هاهنا عن الجماع ، فسماهن حرثا ، لأنهن مزدرع الأولاد ، كالأرض للزرع ، فإن قيل: النساء جمع ، فلم لم يقل: حروث؟ فعنه ثلاثة أجوبة ، ذكرها ابن القاسم الأنباري النحوي . أحدها: أن يكون الحرث مصدرا في موضع الجمع ، فلزمه التوحيد ، كما تقول العرب: إخوتك صوم ، وأولادك فطر ، يريدون: صائمين ومفطرين ، فيؤدي المصدر بتوحيده عن اللفظ المجموع . والثاني: أن يكون أراد حروث لكم ، فاكتفى بالواحد من الجمع ، كما قال الشاعر:
كلوا في نصف بطونكم تعيشوا
أي: في أنصاف بطونكم . والثالث: أنه إنما وحد الحرث ، لأن النساء شبهن به ، ولسن من جنسه ، والمعنى: نساؤكم مثل حروث لكم .
قوله تعالى: (أنى شئتم) فيه ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه بمعنى: كيف شئتم ، ثم فيه قولان . أحدهما: أن المعنى: كيف شئتم ، مقبلة أو مدبرة ، وعلى كل حال ، إذا كان الإتيان في الفرج . وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعطية ، والسدي ، وابن قتيبة في آخرين . والثاني: أنها نزلت في العزل . قاله سعيد بن المسيب ، فيكون المعنى: إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم فلا تعزلوا .
[ ص: 252 ] والقول الثاني: أنه بمعنى: إن شئتم ، ومتى شئتم وهو قول ابن الحنفية والضحاك ، وروي عن ابن عباس أيضا . والثالث: أنه بمعنى: حيث شئتم ، وهذا محكي عن ابن عمر ومالك بن أنس ، وهو فاسد من وجوه ، أحدها: أن سالم بن عبد الله لما بلغه أن نافعا تحدث بذلك عن ابن عمر ، قال: كذب العبد ، إنما قال عبد الله: يؤتون في فروجهن من أدبارهن . وأما أصحاب مالك ، فإنهم ينكرون صحته عن مالك ، والثاني: أن أبا هريرة روى عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "ملعون من أتى النساء في أدبارهن" فدل على أن الآية لا يراد بها هذا .
والثالث: أن الآية نبهت على أنه محل الولد بقوله: (فأتوا حرثكم) وموضع الزرع: هو مكان الولد ، قال ابن الأنباري: لما نص الله على ذكر الحرث ، والحرث به يكون النبات ، والولد مشبه بالنبات ، لم يجز أن يقع الوطء في محل لا يكون منه ولد .
[ ص: 253 ] . والرابع: أن تحريم إتيان الحائض كان لعلة الأذى ، والأذى ملازم لهذا المحل لا يفارقه .
قوله تعالى: (وقدموا لأنفسكم) فيه أربعة أقوال . أحدها: أن معناه: وقدموا لأنفسكم من العمل الصالح ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: وقدموا التسمية عند الجماع ، رواه عطاء عن ابن عباس . والثالث: وقدموا لأنفسكم في طلب الولد ، قاله مقاتل . والرابع: وقدموا طاعة الله واتباع أمره ، قاله الزجاج .
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم .
قوله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها: أنها نزلت في عبد الله بن رواحة ، كان بينه وبين ختنه شيء ، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ، وجعل يقول: قد حلفت بالله ، فلا يحل لي ، إلا أن تبر يميني ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
والثاني: أن الرجل كان يحلف بالله أن لا يصل رحمه ، ولا يصلح بين الناس ، فنزلت هذه الآية ، قاله الربيع بن أنس .
والثالث: أنها نزلت في أبي بكر حين حلف ، لا ينفق على مسطح ، قاله ابن جريج . والرابع: نزلت في أبي بكر ، حلف أن لا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم ، قاله المقاتلان: ابن حيان ، وابن سليمان .
قال الفراء: والمعنى: ولا تجعلوا الله معترضا لأيمانكم . وقال أبو عبيد: نصبا لأيمانكم ، [ ص: 254 ] كأنه يعني: أنكم تعترضونه في كل شيء ، فتحلفون به . وفي معنى الآية ثلاثة أقوال . أحدها: أن معناها: لا تحلفوا بالله أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن جبير ، وإبراهيم ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج في آخرين . والثاني: أن معناها: لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبروهم ، وتصلحوا بينهم بالكذب ، روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس . والثالث: أن معناها لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارين مصلحين ، فإن كثرة الحلف بالله ضرب من الجرأة عليه . هذا قول ابن زيد .
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم .
قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم قال الزجاج: اللغو في كلام العرب: ما أطرح ولم يعقد عليه أمر ، ويسمى ما لا يعتد به ، لغوا . وقال ابن فارس: اشتقاق ذلك من قولهم لما لا يعتد [به ] من أولاد الإبل في الدية وغيرها لغوا ، يقال منه: لغا يلغو ، وتقول: لغي بالأمر: إذا لهج به . وقيل: إن اشتقاق اللغة منه [أي: يلهج صاحبها بها ] وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال . أحدها: أن يحلف على الشيء يظن أنه كما حلف ، ثم يتبين له أنه بخلافه . وإلى هذا المعنى ذهب أبو هريرة ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي عن أشياخه ، ومالك ، ومقاتل . والثاني: أنه: لا والله ، وبلى والله ، من غير قصد لعقد اليمين ، وهو قول عائشة ، وطاووس ، وعروة ، والنخعي ، [ ص: 255 ] والشافعي . واستدل أرباب هذا القول بقوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وكسب القلب: عقده وقصده ، وهذان القولان منقولان عن الإمام أحمد ، روى عنه ابنه عبد الله أنه قال: اللغو عندي أن يحلف على اليمين ، يرى أنها كذلك ، ولا كفارة . والرجل يحلف ولا يعقد قلبه على شيء ، فلا كفارة . والثالث: أنه يمين الرجل وهو غضبان ، رواه طاووس عن ابن عباس . والرابع: أنه حلف الرجل على معصية ، فليحنث ، وليكفر ، ولا إثم عليه . قاله سعيد بن جبير . والخامس: أن يحلف الرجل على شيء ، ثم ينساه . قاله النخعي . وقول عائشة أصح الجميع . قال حنبل: سئل أحمد عن اللغو فقال: الرجل يحلف فيقول: لا والله ، وبلى والله ، لا يريد عقد اليمين ، فإذا عقد على اليمين لزمته الكفارة .
قوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم قال مجاهد: أي: ما عقدت عليه قلوبكم "والحليم": ذو الصفح الذي لا يستفزه غضب ، فيعجل ، ولا يستخفه جهل جأهل مع قدرته على العقوبة . قال أبو سليمان الخطابي: ولا يستحق اسم الحليم من سامح مع العجز عن المجازاة ، إنما الحليم الصفوح مع القدرة ، المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة . وقد أنعم بعض الشعراء أبياتا في هذا المعنى فقال:
لا يدرك المجد أقوام وإن كرموا حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة
لا صفح ذل ولكن صفح أحلام
قال ، ويقال: حلم الرجل يحلم حلما بضم اللام في الماضي والمستقبل . وحلم في النوم ، بفتح اللام ، يحلم حلما ، اللام في المستقبل والحاء في المصدر مضمومتان .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (47)
صــ256 إلى صــ 260
فصل
الإيمان على ضربين ، ماض ومستقبل ، فالماضي على ضربين: يمين محرمة ، وهي: [ ص: 256 ] اليمين الكاذبة ، وهي أن يقول: والله ما فعلت ، وقد فعل . أو: لقد فعلت ، وما فعل . ويمين مباحة ، وهي أن يكون صادقا في قوله: ما فعلت . أو: لقد فعلت . والمستقبلة على خمسة أقسام . أحدها: يمين عقدها طاعة ، والمقام عليها طاعة ، وحلها معصية ، مثل أن يحلف ، لأصلين الخمس ، ولأصومن رمضان ، أو شربت الخمر . والثاني: عقدها معصية ، والمقام عليها معصية ، وحلها طاعة ، وهي عكس الأولى . والثالث: يمين عقدها طاعة ، والمقام عليها طاعة ، وحلها مكروه ، مثل أن يحلف: ليفعلن النوافل من العبادات . والرابع: يمين عقدها مكروه ، والمقام عليها مكروه ، وحلها طاعة ، وهي عكس التي قبلها . والخامس: يمين عقدها مباح ، والمقام عليها مباح ، وحلها مباح . مثل أن يحلف: لا دخلت بلدا فيه من يظلم الناس ، ولا سلكت طريقا مخوفا ، ونحو ذلك .
للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم .
قوله تعالى: للذين يؤلون من نسائهم قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا ، فأبت أن تعطيه; حلف أن لا يقربها السنة ، والسنتين ، والثلاث ، فيدعها لا أيما ، ولا ذات بعل ، فلما كان الإسلام ، جعل الله ذلك أربعة أشهر ، فأنزل الله هذه الآية . وقال سعيد بن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية ، وكان الرجل لا يريد المرأة ، ولا يحب أن يتزوجها غيره ، فيحلف أن لا يقربها أبدا ، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر ، وأنزل هذه الآية . قال ابن قتيبة: يؤلون ، أي: يحلفون . يقال: آليت من امرأتي ، أولي إيلاء: إذا حلف لا يجامعها . والاسم: الألية . وقال الزجاج: يقال من الإيلاء: آليت أولي إيلاء وألية وألوة وألوة وإلوة ، وهي بالكسر أقل اللغات ، قال كثير:
قيل الألايا حافظ ليمينه وإن بدرت منه الألية برت
[ ص: 257 ] وحكى ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: "من" بمعنى: "في" أو: "على" والتقدير: يحلفون على وطء نسائهم ، فحذف الوطء ، وأقام النساء مقامه ، كقوله تعالى: ما وعدتنا على رسلك [ آل عمران: 194 ] . أي: على ألسنة رسلك . وقيل: في الكلام حذف ، تقديره: يؤلون ، يعتزلون من نسائهم . والتربص: الانتظار . ولا يكون مؤليا إلا إذا حلف بالله أن لا يصيب زوجته أكثر من أربعة أشهر ، فإن حلف على أربعة أشهر فما دون ذلك ، لم يكن مؤليا . وهذا قول مالك ، وأحمد ، والشافعي . وفاؤوا: رجعوا ، ومعناه: رجعوا إلى الجماع ، قاله علي ، وابن عباس ، وابن جبير ، ومسروق ، والشعبي . وإذا كان للمؤلي عذر لا يقدر معه على الجماع ، فإنه يقول: متى قدرت جامعتها ، فيكون ذلك من قوله فيئة; فمتى قدر فلم يفعل ، أمر بالطلاق ، فإن لم يطلق ، طلق الحاكم عليه .
قوله تعالى: فإن الله غفور رحيم قال علي ، وابن عباس: غفور لإثم اليمين .
وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم .
قوله تعالى: وإن عزموا الطلاق أي: حققوه . وفي عزم الطلاق قولان .
أحدهما: أنه إذا مضت الأربعة الأشهر استحق عليه أن يفيء ، أو يطلق ، وهو مروي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن عمر ، وسهل بن سعد ، وعائشة ، وطاووس ، ومجاهد ، والحكم ، وأبي صالح . وحكاه أبو صالح عن اثني عشر رجلا من الصحابة ، وهو قول مالك ، وأحمد ، والشافعي .
والثاني: أنه لا يفيء حتى يمضي أربعة أشهر ، فتطلق بذلك من غير أن يتكلم بطلاق . واختلف أرباب هذا القول فيما يلحقها من الطلاق على قولين . أحدهما: طلقة بائنة . روي عن عثمان ، وعلي ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وقبيصة بن ذؤيب . والثاني: طلقة رجعية ، روي عن سعيد بن المسيب ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وابن شبرمة .
[ ص: 258 ] قوله تعالى: (فإن الله سميع عليم) فيه قولان . أحدهما: سميع لطلاقه ، عليم بنيته . والثاني سميع ليمينه ، عليم بها .
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم .
قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء سبب نزولها: أن المرأة كانت إذا طلقت وهي راغبة في زوجها ، قالت: أنا حبلى ، وليست حبلى ، لكي يراجعها ، وإن كانت حبلى وهي كارهة ، قالت: لست بحبلى ، لكي لا يقدر على مراجعتها . فلما جاء الإسلام ثبتوا على هذا ، فنزل قوله تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة [ الطلاق: 1 ] ثم نزلت: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء . رواه أبو صالح عن ابن عباس .
فأما التفسير; فالطلاق: التخلية . قال ابن الأنباري: هي من قول العرب: أطلقت الناقة ، فطلقت: إذا كانت مشدودة ، فأزلت الشد عنها ، وخليتها ، فشبه ما يقع للمرأة بذلك ، لأنها كانت متصلة الأسباب بالرجل ، وكانت الأسباب كالشد لها ، فلما طلقها قطع الأسباب . ويقال: طلقت المرأة ، وطلقت . وقال غيره: الطلاق: من أطلقت الشيء من يدي ، إلا أنهم لكثرة استعمالهم اللفظتين فرقوا بينهما ، ليكون التطليق مقصورا في الزوجات . وأما القروء: فيراد بها: الإطهار ، ويراد بها الحيض . يقال: أقرأت المرأة إذا حاضت ، وأقرأت: إذا طهرت . قال النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة: "تقعد أيام إقرائها" يريد: أيام حيضها . وقال الأعشى:
[ ص: 259 ]
وفي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أراد بالقروء: الأطهار ، لأنه لما خرج عن نسائه أضاع أطهارهن . واختلف أهل اللغة في أصل القروء على قولين . أحدهما: أن أصله الوقت ، يقال: رجع فلان لقرئه ، أي: لوقته الذي كان يرجع فيه ، [ورجع لقارئه أيضا ] قال الهذلي:
كرهت العقر عقر بني شليل إذا هبت لقارئها الرياح
فالحيض يأتي لوقت ، والطهر يأتي لوقت ، هذا قول ابن قتيبة . والثاني: أن أصله الجمع . وقولهم: قرأت القرآن ، أي: لفظت به مجموعا . والقرء: اجتماع الدم في البدن ، وذلك إنما يكون في الطهر ، وقد يجوز أن يكون اجتماعه في الرحم ، وكلاهما حسن ، هذا قول الزجاج .
واختلف الفقهاء في الأقراء على قولين . أحدهما: أنها الحيض . روي عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي موسى ، وعبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء ، وعكرمة ، والضحاك ، والسدي ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن صالح ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وأحمد بن حنبل رضي الله عنه فإنه قال: قد كنت أقول: القروء: الأطهار ، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض . والثاني: أنها الأطهار . روي عن زيد بن ثابت ، وابن عمر ، [ ص: 260 ] وعائشة ، والزهري ، وأبان بن عثمان ، ومالك بن أنس ، والشافعي ، وأومأ إليه أحمد .
ولفظ قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن) لفظ الخبر ، ومعناه: الأمر ، كقوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين وقد يأتي لفظ الأمر في معنى الخبر كقوله تعالى: فليمدد له الرحمن مدا [ مريم: 75 ] . والمراد بالمطلقات في هذه الآية ، البالغات ، المدخول بهن ، غير الحوامل .
قوله تعالى: ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الحمل ، قاله عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، وابن قتيبة ، والزجاج . والثاني: أنه الحيض ، قاله عكرمة ، وعطية ، والنخعي ، والزهري . والثالث: الحمل والحيض قاله ابن عمر ، وابن زيد .
قوله تعالى: إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر خرج مخرج الوعيد لهن والتوكيد ، قال الزجاج: وهو كما تقول للرجل: إن كنت مؤمنا فلا تظلم وفي سبب وعيدهم بذلك قولان . أحدهما: أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرجعة قاله ابن عباس . والثاني: لأجل إلحاق الولد بغير أبيه ، قاله قتادة . وقيل كانت المرأة إذا رغبت في زوجها ، قالت: إني حائض ، وقد طهرت . وإذا زهدت فيه ، كتمت حيضها حتى تغتسل ، فتفوته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (48)
صــ261 إلى صــ 265
والبعولة: الأزواج . و"ذلك" إشارة إلى العدة . قاله مجاهد ، والنخعي ، وقتادة ، في آخرين . وفي الآية دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم أوله . ولا يوجب تخصيصه ، لأن قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن) عام في المبتوتات والرجعيات ، وقوله [ ص: 261 ] تعالى: وبعولتهن أحق بردهن خاص في الرجعيات .
قوله تعالى: (إن أرادوا إصلاحا) قيل: إن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته ، طلقها واحدة وتركها ، فإذا قارب انقضاء عدتها راجعها ، ثم تركها مدة ، ثم طلقها ، فنهوا عن ذلك . وظاهر الآية يقتضي أنه إنما يملك الرجعة على غير وجه المضارة بتطويل العدة عليها ، غير أنه قد دل قوله تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا على صحة الرجعة وإن قصد الضرار ، لأن الرجعة لو لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار; لما كان ظالما بفعلها .
قوله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وهو: المعاشرة الحسنة ، والصحبة الجميلة . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن حق المرأة على الزوج ، فقال: "أن يطعمها إذا طعم ، ويكسوها إذا اكتسى ، ولا يضرب الوجه ، ولا يقبح ، ولا يهجر إلا في البيت" وقال ابن عباس: إني أحب أن أتزين للمرأة ، كما أحب أن تتزين لي ، لهذه الآية .
قوله تعالى: وللرجال عليهن درجة قال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر ، وأنفق عليها من المال . وقال مجاهد: بالجهاد والميراث . وقال أبو مالك: يطلقها ، وليس لها من الأمر شيء . وقال الزجاج: تنال منه من اللذة كما ينال منها ، وله الفضل بنفقته . وروى أبو هريرة [ ص: 262 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" . وقالت ابنة سعيد بن المسيب: ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم .
فصل
اختلف العلماء في هذه الآية: هل تدخل في الآيات المنسوخات أم لا؟ على قولين . أحدهما: أنها تدخل في ذلك . واختلف هؤلاء في المنسوخ منها ، فقال قوم: المنسوخ منها قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وقالوا: فكان يجب على كل مطلقة أن تعتد بثلاثة قروء ، فنسخ حكم الحامل بقوله تعالى: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق: 4 ] . وحكم المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى: إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها [ الطلاق: 1 ] . وهذا مروي عن ابن عباس ، والضحاك في آخرين . وقال قوم: أولها محكم ، والمنسوخ قوله تعالى: وبعولتهن أحق بردهن قالوا: كان الرجل إذا طلق امرأته كان أحق برجعتها ، سواء كان الطلاق ثلاثا ، أو دون ذلك ، فنسخ بقوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره والقول الثاني: أن الآية كلها محكمة ، فأولها عام . والآيات الواردة في العدد ، خصت ذلك من العموم ، وليس بنسخ . وأما ما قيل في الارتجاع ، فقد ذكرنا أن معنى قوله تعالى: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ، أي: في العدة قبل انقضاء القروء الثلاثة ، وهذا القول هو الصحيح .
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون [ ص: 263 ] قوله تعالى: الطلاق مرتان سبب نزولها ، أن الرجل كان يطلق امرأته ، ثم يراجعها ليس لذلك شيء ينتهي إليه ، فقال رجل من الأنصار لامرأته: والله لا أؤويك إلي أبدا ولا أدعك تحلين مني . فقالت كيف ذلك؟ قال أطلقك ، فإذا دنا أجلك ، راجعتك ، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ذلك ، فنزلت هذه الآية ، فاستقبلها الناس [جديدا ] من كان طلق ، ومن لم يكن طلق . رواه هشام بن عروة عن أبيه .
فأما التفسير ففي قوله تعالى: الطلاق مرتان قولان . أحدهما: أنه بيان لسنة الطلاق ، وأن يوقع في كل قرء طلقة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني: أنه بيان للطلاق الذي يملك معه الرجعة ، قاله عروة ، وقتادة ، وابن قتيبة ، والزجاج في آخرين .
قوله تعالى: فإمساك بمعروف معناه: فالواجب عليكم إمساك بمعروف ، وهو ما يعرف من إقامة الحق في إمساك المرأة . وقال عطاء ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي: المراد بقوله تعالى: (فإمساك بمعروف): الرجعة بعد الثانية . وفي قوله تعالى: أو تسريح بإحسان قولان . أحدهما: أن المراد به الطلقة الثالثة ، قاله عطاء ، ومجاهد ، ومقاتل . والثاني: أنه الإمساك عن رجعتها حتى تنقضي عدتها ، قاله الضحاك ، والسدي . قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء: وهذا هو الصحيح ، أنه قال عقيب الآية: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره والمراد بهذه الطلقة: الثالثة بلا شك ، فيجب إذن أن يحمل قوله تعالى: (أو تسريح بإحسان) على تركها حتى تنقضي عدتها ، لأنه إن حمل على الثالثة ، وجب أن يحمل قوله تعالى: (فإن طلقها) على رابعة ، وهذا لا يجوز .
[ ص: 264 ] فصل
الطلاق على أربعة أضرب:
واجب ، ومندوب إليه ، ومحظور ، ومكروه . فالواجب: طلاق المؤلي بعد التربص ، إذا لم يفئ ، وطلاق الحكمين في شقاق الزوجين ، إذا رأيا الفرقة . والمندوب: إذا لم يتفقا ، واشتد الشقاق بينهما ، ليتخلصا من الإثم . والمحظور: في الحيض ، إذا كانت مدخولا بها ، وفي طهر جامعها فيه قبل أن تطهر . والمكروه: إذا كانت حالهما مستقيمة ، وكل واحد منهما قيم بحق صاحبه .
قوله تعالى: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، أتت زوجته إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ، ولكني [أكره الكفر في الإسلام ] لا أطيقه بغضا . فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟" قالت: نعم . فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يأخذها ، ولا يزداد . رواه عكرمة عن ابن عباس واختلفوا في اسم زوجته ، فقال ابن عباس: جميلة . ونسبها يحيى ابن أبي كثير ، فقال: جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ، وكناها مقاتل ، فقال: أم حبيبة بنت عبد الله بن أبي . وقال آخرون . إنما هي جميلة أخت عبد الله بن أبي . وروى يحيى بن سعيد عن عمرة روايتين . إحداهما: أنها حبيبة بنت سهل . والثانية: سهلة بنت حبيب .
[ ص: 265 ] وهذا الخلع أول خلع كان في الإسلام . والخوف في الآية بمعنى: العلم: قال أبو عبيد: معنى قوله: (ألا يخافا) : يوقنا . والحدود قد سبق بيان معناها .
ومعنى الآية: أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها لبغضها إياه ، وخاف الزوج أن يعتدي عليها لامتناعها عن طاعته; جاز له أن يأخذ منها الفدية ، إذا طلبت ذلك . هذا على قراءة الجمهور في فتح "ياء" (يخافا) وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وأبو جعفر ، وحمزة ، والأعمش: (يخافا) بضم الياء .
قوله تعالى: (فإن خفتم) قال قتادة: هو خطاب للولاة فلا جناح عليهما على المرأة (فيما افتدت به) وعلى الزوج فيما أخذ ، لأنه ثمن حقه . وقال الفراء: يجوز أن يراد الزوج وحده ، وإن كانا قد ذكرا جميعا ، كقوله تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن: 22 ] . وإنما يخرج من أحدهما . وقوله: نسيا حوتهما [ الكهف: 61 ] وإنما نسي أحدهما .
فصل
وهل يجوز له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؟ فيه قولان . أحدهما: يجوز ، وبه قال عمر بن الخطاب ، وعثمان ، وعلي ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والنخعي ، والضحاك ، ومالك ، والشافعي . والثاني: لا يجوز ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وعطاء ، والشعبي ، وطاووس ، وابن جبير ، والزهري ، وأحمد بن حنبل ، وقد نقل عن علي ، والحسن أيضا . وهل يجوز الخلع دون السلطان؟ قال عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن عمر ، وطاووس ، وشريح ، والزهري: يجوز ، وهو قول جمهور العلماء . وقال الحسن ، وابن سيرين ، وقتادة: لا يجوز إلا عند السلطان .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (49)
صــ266 إلى صــ 270
فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون .
قوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت في تميمة بنت وهب بن عتيك النضيري ، وفي زوجها رفاعة بن عبد الرحمن القرظي . وقال غير مقاتل: إنها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك ، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها ، فطلقها ثلاثا ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، ثم طلقها ، فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت: إني كنت عند رفاعة ، فطلقني ، فأبت طلاقي ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنه طلقني قبل أن يمسني ، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" .
قوله تعالى: (فإن طلقها) يعني: الزوج المطلق مرتين . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة: هي الطلقة الثالثة . واعلم أن الله تعالى عاد بهذه الآية بعد الكلام في حكم الخلع إلى تمام الكلام في الطلاق .
قوله تعالى: (فإن طلقها) يعني: الثاني (فلا جناح عليهما) يعني: المرأة ، والزوج الأول إن ظنا أن يقيما حدود الله قال طاووس: ما فرض الله على كل واحد منهما من حسن العشرة والصحبة .
قوله تعالى: وتلك حدود الله يبينها قراءة الجمهور (يبينها) بالياء . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، والمفضل عن عاصم بالنون (لقوم يعلمون) قال الزجاج: يعلمون أن أمر الله حق .
[ ص: 267 ] وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم .
قوله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن قال ابن عباس: كان الرجل يطلق امرأته ، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ، ثم يطلقها [يفعل ذلك ] ، يضارها [ويعضلها ] بذلك ، فنزلت هذه الآية . والأجل هاهنا: زمان العدة . ومعنى البلوغ هاهنا: مقاربة الأجل دون حقيقة الانتهاء إليه ، يقال: بلغت المدينة: إذا قاربتها ، وبلغتها: إذا دخلها . وإنما حمل العلماء هذا البلوغ على المقاربة ، لأنه ليس بعد انقضاء العدة رجعة .
قوله تعالى: فأمسكوهن بمعروف قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة: المراد به الرجعة قبل انقضاء العدة .
قوله تعالى: أو سرحوهن بمعروف وهو تركها حتى تنقضي عدتها . والمعروف في الإمساك: القيام بما يجب لها من حق . والمعروف في التسريح: أن لا يقصد إضرارها ، بأن يطيل عدتها بالمراجعة ، وهو معنى قوله: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا قاله الحسن ، ومجاهد ، وقتادة في آخرين . وقال الضحاك: إنما كنوا يضارون المرأة لتفتدي (ومن يفعل ذلك) الاعتداء ، (فقد ظلم نفسه) بارتكاب الإثم .
قوله تعالى: ولا تتخذوا آيات الله هزوا فيه قولان . أحدهما: أنه الرجل يطلق ، أو يراجع ، أو يعتق ، ويقول: كنت لاعبا . روي عن عمر ، وأبي الدرداء ، والحسن . والثاني: أنه المضار بزوجته في تطويل عدتها بالمراجعة والطلاق . قاله مسروق ، ومقاتل .
[ ص: 268 ] واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به قال ابن عباس: احفظوا منته عليكم بالإسلام . قال ، والكتاب: القرآن . والحكمة: الفقه . (واتقوا الله) في الضرار (واعلموا أن الله بكل شيء) به وبغيره (عليم) .
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
قوله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن في سبب نزولها قولان . أحدهما: ما روى الحسن أن معقل بن يسار زوج أخته من رجل من المسلمين ، فكانت عنده ما كانت ، فطلقها تطليقة [ثم تركها ] ومضت العدة ، فكانت أحق بنفسها ، فخطبها مع الخطاب ، فرضيت أن ترجع إليه ، فخطبها إلى معقل ، فغضب معقل ، وقال: أكرمتك بها ، فطلقتها؟! لا والله! لا ترجع إليك آخر ما عليك . قال الحسن: فعلم الله ، عز وجل ، حاجة الرجل إلى امرأته ، وحاجة المرأة إلى بعلها ، فنزلت هذه الآية ، فسمعها معقل ، فقال: سمعا لربي ، وطاعة ، فدعا زوجها ، فقال: أزوجك ، وأكرمك . ذكر عبد الغني الحافظ عن الكلبي أنه سمى هذه المرأة ، فقال: جميلة بنت يسار . والثاني: أن جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنة عم ، فطلقها زوجها تطليقة ، فانقضت عدتها ، ثم رجع يريد رجعتها ، فأبى جابر ، وقال: طلقت ابنة عمنا ، ثم تريد أن تنكحها الثانية؟! وكانت المرأة تريد زوجها ، قد راضته ، فنزلت هذه الآية ، قال السدي: [ ص: 269 ] فأما بلوغ الأجل في هذه الآية ، فهو انقضاء العدة ، بخلاف التي قبلها . قال الشافعي رضي الله عنه: دل اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين .
قوله تعالى: (فلا تعضلوهن) خطاب للأولياء . قال ابن عباس ، وابن جبير ، وابن قتيبة في آخرين: معناه: لا تحبسوهن . والعرب تقول للشدائد: معضلات . وداء عضال: قد أعيا . قال أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا
وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
وقالت ليلى الأخيلية:
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها
قال الزجاج: وأصل العضل ، من قولهم: عضلت الدجاجة ، فهي معضل: إذا احتبس بيضها ونشب فلم يخرج ، وعضلت الناقة أيضا: إذا احتبس ولدها في بطنها .
قوله تعالى: إذا تراضوا بينهم بالمعروف قال السدي ، وابن قتيبة: معناه: إذا تراضى الزوجان بالنكاح الصحيح . قال الشافعي: وهذه الآية أبين آية في أنه ليس للمرأة أن تتزوج إلا بولي .
قوله تعالى: ذلك يوعظ به قال مقاتل: الإشارة إلى نهي الولي عن المنع . قال الزجاج: إنما قال: "ذلك" ولم يقل: "ذلكم" وهو يخاطب جماعة ، لأن لفظ الجماعة لفظ الواحد ، والمعنى ذلك أيها القبيل .
[ ص: 270 ] قوله تعالى: ذلكم أزكى لكم يعني رد النساء إلى أزواجهن ، أفضل من التفرقة بينهم (وأطهر) أي: أنقى لقلوبكم من الريبة لئلا يكون هناك نوع محبة ، فيجتمعان على غير وجه صلاح .
قوله تعالى: والله يعلم وأنتم لا تعلمون فيه قولان . أحدهما: أن معناه: يعلم ود كل واحد منهما لصحابه ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، والثاني: يعلم مصالحكم عاجلا وآجلا ، قاله الزجاج في آخرين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (50)
صــ271 إلى صــ 275
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير .
قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، كقوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة: 228 ] وقال القاضي أبو يعلى: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء ، لأن عليهم الاسترضاع ، لا إلى الوالدات ، بدليل قوله تعالى: وعلى المولود له رزقهن و قوله تعالى: فآتوهن أجورهن [ النساء: 24 ] فلو كان متحتما على الوالدة ، لم تستحق الأجرة . وهل هذا عام في جميع الوالدات؟ فيه قولان . أحدهما: أنه خاص في المطلقات ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل في آخرين . والثاني: أنه عام في الزوجات والمطلقات ، ولهذا نقول: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها ، سواء كانت مع الزوج ، أو مطلقة ، قاله القاضي أبو يعلى ، وأبو سليمان الدمشقي في آخرين . والحول: السنة ، وفي قوله: (كاملين) قولان . أحدهما: أنه دخل للتوكيد ، [ ص: 271 ] كقوله تعالى: تلك عشرة كاملة [ البقرة: 196 ] . والثاني: أنه لما جاز أن يقول: "حولين" ويريد أقل منهما ، كما قال: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه [ البقرة: 203 ] ومعلوم أنه يتعجل في يوم ، وبعض آخر . وتقول العرب ، لم أر فلانا منذ يومين ، وإنما يريدون: يوما وبعض آخر ، قال: كاملين لتبيين أنه لا يجوز أن ينقص منهما ، وهذا قول الزجاج ، والفراء .
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية ، فقال بعضهم: هو محكم ، والمقصود منه بيان مدة الرضاع ، ويتعلق به أحكام ، منها أنه كمال الرضاع ، ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرضاع مدة الحولين ، ويجبره الحاكم على ذلك ، ومنها أنه يثتب تحريم الرضاع في مدة الحولين ، ولا يثبت فيما زاد ، ونقل عن قتادة ، والربيع بن أنس في آخرين أنه منسوخ بقوله تعالى: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما قال شيخنا علي بن عبيد الله: وهذا قول بعيد ، لأن الله تعالى قال في أولها: لمن أراد أن يتم الرضاعة فلما قال في الثاني: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما خير بين الإرادتين ، وذلك لا يعار ض المدة المقدرة في التمام .
قوله تعالى: لمن أراد أن يتم الرضاعة أي: هذا التقدير بالحولين لمريدي إتمام الرضاعة . وقرأ مجاهد بتاءين "أن يتم الرضاعة" وبالرفع ، وهي رواية الحلبي عن عبد الوارث . وقد نبه ذكر التمام على نفي حكم الرضاع بعد الحولين ، وأكثر القراء على فتح راء "الرضاعة" وقرأ طلحة بن مصرف ، وابن أبي عبلة ، وأبو رجاء ، بكسرها ، قال الزجاج: يقال: الرضاعة بفتح الراء وكسرها ، والفتح أكثر ويقال: ما حمله على ذلك إلا اللؤم والرضاعة بالفتح هاهنا لا غير .
[ ص: 272 ] قوله تعالى: (وعلى المولود له) يعني: الأب . (رزقهن وكسوتهن) يعني: المرضعات . وفي قوله: (بالمعروف) دلالة على أن الواجب على قدر حال الرجل في إعساره ويساره ، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر مالا يطيقه ، ولا الموسر النزر الطفيف . وفي الآية دليل على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث ، إذ لا يتوصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن ، إذ هو معتبر بالعادة .
قوله تعالى: لا تكلف نفس إلا وسعها أي: إلا ما تطيقه ، لا تضار والدة بولدها قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبان عن عاصم (لا تضار) برفع الراء ، وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي بنصبها ، قال أبو علي: من رفع ، فلأجل المرفوع قبله ، وهو "لا تكلف" فأتبعه بما قبله ليقع تشابه اللفظ ، ومن نصب جعله أمرا ، وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف ، قال ابن قتيبة: معناه: لا تضارر ، فأدغمت الراء في الراء . وقال سعيد بن جبير : لا يحملن المطلقة مضارة الزوج أن تلقي إليه ولده . وقال مجاهد: لا تأبى أن ترضعه ضرارا بأبيه ، ولا يضار الوالد بولده ، فيمنع أمه أن ترضعه ، ليحزنها بذلك . وقال عطاء ، وقتادة ، والزهري ، وسفيان ، والسدي في آخرين: إذا رضيت بما يرضى به غيرها ، فهي أحق به . وقرأ أبو جعفر "لا تضار" بتخفيفها وإسكانها .
قوله تعالى: وعلى الوارث فيه أربعة أقوال . أحدها: أنه وارث المولود ، وهو قول عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، والسدي ، والحسن بن صالح ، ومقاتل في آخرين . واختلف أرباب هذا القول ، فقال بعضهم: هو وارث المولود من عصبته ، كائنا من كان ، وهذا مروي عن عمر ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وسفيان . وقال بعضهم: هو وارث المولود على الإطلاق من الرجال والنساء ، روي عن ابن أبي ليلى ، وقتادة ، والحسن بن صالح ، وإسحاق ، وأحمد بن حنبل . وقال آخرون: [ ص: 273 ] هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود ، روي عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد . والقول الثاني: أن المراد بالوارث هاهنا ، وارث الوالد ، روي عن الحسن والسدي . والثالث: أن المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر ، روي عن سفيان . والرابع: أنه أريد بالوارث الصبي نفسه ، والنفقة عليه ، فإن لم يملك شيئا ، فعلى عصبته ، قاله الضحاك ، وقبيصة بن ذؤيب . قال شيخنا علي بن عبيد الله: وهذا القول لا ينافي قول من قال: المراد بالوارث وارث الصبي ، لأن النفقة تجب للموروث على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه . وفي قوله تعالى: (مثل ذلك) ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الإشارة إلى أجرة الرضاع والنفقة ، روي عن عمر ، وزيد بن ثابت ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وقتادة ، وقبيصة بن ذؤيب ، والسدي ، واختاره ابن قتيبة . والثاني: أن الإشارة بذلك إلى النهي عن الضرار ، روي عن ابن عباس ، والشعبي ، والزهري . واختاره الزجاج . والثالث: أنه إشارة إلى جميع ذلك ، روي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومقاتل ، وأبي سليمان الدمشقي ، واختاره القاضي أبو يعلى . ويشهد لهذا أنه معطوف على ما قبله ، وقد ثبت أن على المولود له النفقة والكسوة ، وأن لا يضار ، فيجب أن يكون قوله: (مثل ذلك) مشيرا إلى جميع ما على المولود له .
قوله تعالى: فإن أرادا فصالا عن تراض الفصال: الفطام . قال ابن قتيبة: يقال: فصلت الصبي أمه: إذا فطمته . ومنه قيل للحوار إذا قطع عن الرضاع: فصيل ، لأنه فصل عن أمه ، وأصل الفصل: التفريق . قال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين إن أرادت أن تفطم وأبى ، فليس لها ، وإن أراد هو ، ولم ترد ، فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور ، يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما وإلى صبيهما .
قوله تعالى: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم قال الزجاج: أي: لأولادكم . قال مقاتل: إذا لم ترض الأم بما يرضى به غيرها ، فلا حرج على الأب أن سترضع لولده . [ ص: 274 ] وفي قوله تعالى: إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف قولان . أحدهما: إذا سلمتم أيها الآباء إلى أمهات الأولاد أجور ما أرضعن قبل امتناعهن ، قاله مجاهد ، والسدي . والثاني: إذا سلمتم إلى الظئر أجرها بالمعروف ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل . وقرأ ابن كثير (ما أتيتم) بالقصر ، قال أبو علي: وجهه أن يقدر فيه: ما أتيتم نقده أو سوقه ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه [فكأن التقدير ما آتيتموه ثم حذف الضمير من الصلة ] كما تقول: أتيت جميلا ، أي: فعلته .
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير .
قوله تعالى: والذين يتوفون منكم أي: يقبضون بالموت . وقرأ المفضل عن عاصم "يتوفون" بفتح الياء في الموضعين . قال ابن قتيبة: هو من استيفاء العدد ، واستيفاء الشيء: أن نستقصيه كله ، يقال: توفيته واستوفيته ، كما يقال: تيقنت الخير واستيقنته ، هذا الأصل ، ثم قيل للموت: وفاة وتوف (ويتربصن) ينتظرن وقال الفراء: وإنما قال: (وعشرا) ولم يقل: عشرة ، لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام ، غلبوا عليه الليالي ، حتى أنهم ليقولون: صمنا عشرا من شهر رمضان ، لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام ، فإذا أظهروا مع العدد تفسيره ، كانت الإناث بغير هاء ، والذكور بالهاء كقوله تعالى: سخرها عليهم سبع ليال [ ص: 275 ] وثمانية أيام حسوما [ الحاقة: 7 ] . فإن قيل: ما وجه الحكمة في زيادة هذه العشرة؟ فالجواب: أنه يبين صحة الحمل بنفخ الروح فيه ، قاله سعيد بن المسيب ، وأبو العالية ، ويشهد له الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما [نطفة ] ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح" .
فصل
وهذه الآية ناسخة للتي تشابهها ، وهي تأتي بعد آيات ، وهي قوله: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول [ البقرة: 240 ] . لأن تلك كانت تقتضي وجوب العدة سنة ، وسنذكر ما يتعلق بها هنالك ، إن شاء الله . فأما التي نحن في تفسيرها: فقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسختها وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق: 4 ] . والصحيح: أنها عامة دخلها التخصيص ، لأن ظاهرها يقتضي وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ، سواء كانت حاملا ، أو غير حامل ، غير أن قوله تعالى: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن خص أولات الحمل ، وهي خاصة أيضا في الحرائر ، فإن الأمة عدتها شهران وخمسة أيام ، فبان أنها من العام الذي دخله التخصيص .
قوله تعالى: فإذا بلغن أجلهن يعني: انقضاء العدة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (51)
صــ276 إلى صــ 280
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا [ ص: 276 ] عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم .
قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيه قولان . أحدهما: أن معناه: فلا جناح على الرجال في تزويجهن بعد ذلك . والثاني: فلا جناح على الرجال في ترك الإنكار عليهن إذا تزين وتزوجن . قال أبو سليمان الدمشقي: وهو خطاب لأوليائهن .
قوله تعالى: فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف فيه قولان . أحدهما: أنه التزين والتشوف للنكاح ، قاله الضحاك ، ومقاتل . والثاني: أنه النكاح ، قاله الزهري ، والسدي . و"الخبير" من أسماء الله تعالى ، ومعناه: العالم بكنه الشيء ، المطلع على حقيقته . و"الخبير" في صفة المخلوقين إنما يستعمل في نوع من العلم ، وهو الذي يتوصل إليه بالاجتهاد دون النوع المعلوم ببدائه العقول . وعلم الله تعالى سواء ، فيما غمض ولطف ، وفيما تجلى وظهر .
قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء هذا خطاب لمن أراد تزويج معتدة . والتعريض: الإيماء والتلويح من غير كشف ، فهو إشارة بالكلام إلى ما ليس له في الكلام ذكر . والخطبة بكسر الخاء: طلب النكاح ، والخطبة بضم الخاء: مثل الرسالة التي لها أول وآخر . قال ابن عباس: التعريض أن يقول: إني أريد أن أتزوج . وقال مجاهد: أن يقول: إنك لجميلة ، وإنك لحسنة ، وإنك لإلى خير .
قوله تعالى: أو أكننتم في أنفسكم قال الفراء: فيه لغتان ، كننت الشيء ، وأكننته [ ص: 277 ] وقال ثعلب: أكننت الشيء: إذا أخفيته في نفسك ، وكننته: إذا سترته بشيء . وقال ابن قتيبة: أكننت الشيء: إذا سترته ، ومنه هذه الآية ، وكننته: إذا صنته ، ومنه قوله تعالى: كأنهن بيض مكنون [ الصافات: 49 ] قال بعضهم يجعل كننته ، وأكننته ، بمعنى .
قوله تعالى: علم الله أنكم ستذكرونهن قال مجاهد: ذكره إياها في نفسه .
قوله تعالى: ولكن لا تواعدوهن سرا فيه أربعة أقوال . أحدها: أن المراد بالسر هاهنا: النكاح ، قاله ابن عباس . وأنشد بيت امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يشهد السر أمثالي
وفي رواية: يشهد اللهو قال الفراء: ونرى أنه مما كنى الله عنه ، كقوله تعالى: أو جاء أحد منكم من الغائط [ النساء: 43 ] . وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن السر: الإفضاء بالنكاح [المحرم ] وأنشد:
ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع
قال ابن قتيبة: استعير السر للنكاح ، لأن النكاح يكون سرا ، فالمعنى: لا تواعدوهن [ ص: 278 ] بالتزويج ، [وهن في العدة ] تصريحا إلا أن تقولوا قولا معروفا لا تذكرون فيه رفثا ولا نكاحا . والثاني: أن المواعدة سرا: أن يقول لها: إني لك محب ، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري ، روي عن ابن عباس أيضا . والثالث: أن المراد بالسر الزنا . قاله الحسن ، وجابر بن زيد ، وأبو مجلز ، وإبراهيم ، وقتادة ، والضحاك . والرابع: أن المعنى: لا تنكحوهن في عدتهن سرا ، فإذا حلت أظهرتم ذلك ، قاله ابن زيد . وفي القول المعروف قولان . أحدهما: أنه التعريض لها ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والقاسم بن محمد ، والشعبي ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وقتادة ، والسدي . والثاني: أنه إعلام وليها برغبته فيها ، وهو قول عبيدة .
قوله تعالى: ولا تعزموا عقدة النكاح قال الزجاج: معناه لا تعزموا على عقدة النكاح ، وحذفت "على" استخفافا ، كما قالوا: ضرب زيد الظهر والبطن ، معناه: على الظهر والبطن (حتى يبلغ الكتاب أجله) أي: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله . قال: ويجوز أن يكون "الكتاب" بمعنى "الفرض" كقوله تعالى: كتب عليكم الصيام [ البقرة: 183 ] . فيكون المعنى: حتى يبلغ الفرض أجله . قال ابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، والسدي: بلوغ الكتاب أجله: انقضاء العدة .
قوله تعالى: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم قال ابن عباس: من الوفاء ، فاحذروه أن تخالفوه في أمره . والحليم قد سبق بيانه .
[ ص: 279 ] لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين .
قوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو عمرو "تمسوهن" بغير ألف حيث كان ، وبفتح التاء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف "تماسوهن" بألف وضم التاء في الموضعين هنا وفي الأحزاب ثالث . قال أبو علي: وقد يراد بكل واحد من "فاعل" و"فعل" ما يراد بالآخر ، نقول: طارقت النعل ، وعاقبت اللص . قال مقاتل بن سليمان: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ، ولم يسم لها مهرا ، فطلقها قبل أن يسمها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هل متعتها بشيء؟" قال: لا . قال: "متعها ولو بقلنسوتك" ومعنى الآية: ما لم تمسوهن ، ولم تفرضوا لهن فريضة . وقد تكون "أو" بمعنى الواو . كقوله تعالى: ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ الدهر: 24 ] .
والمس: النكاح ، والفريضة: الصداق ، وقد دلت الآية على جواز عقد النكاح بغير تسمية مهر (ومتعوهن) أي: أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على قدر أحوالكم في الغنى والفقر . والمتاع: اسم لما ينتفع به ، فذلك معنى قوله تعالى: على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو "قدره" بإسكان الدال في الحرفين ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، الكسائي بتحريك الحرفين ، وعن عاصم :كالقرأتين ، وهما لغتان .
[ ص: 280 ] فصل
وهل هذه المتعة واجبة ، أم مستحبة؟ فيه قولان . أحدهما: واجبة ، واختلف أرباب هذا القول ، لأي المطلقات تجب . على ثلاثة أقوال . أحدها: أنها واجبة لكل مطلقة ، روي عن علي ، والحسن ، وأبي العالية ، والزهري . والثاني: أنها تجب لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها صداقا ، ولم يمسها ، فإنه يجب لها نصف ما فرض ، روي عن ابن عمر ، والقاسم بن محمد ، وشريح ، وإبراهيم . والثالث: أنها تجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهرا ، فإن دخل بها ، فلا متعة ، ولها مهر المثل ، روي عن الأوزاعي ، والثوري ، وأبي حنيفة ، وأحمد بن حنبل . والثاني: أن المتعة مستحبة ، ولا تجب على أحد ، سواء سمي للمرأة ، أو لم يسم ، دخل بها ، أو لم يدخل ، وهو قول مالك ، والليث بن سعد ، والحكم ، وابن أبي ليلى . واختلف العلماء في مقدار المتعة ، فنقل عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيب: أعلاها خادم ، وأدناها كسوة يجوز لها أن تصلي فيها ، وروي عن حماد وأبي حنيفة: أنه قدر نصف صداق مثلها . وعن الشافعي وأحمد: أنه قدر يساره وإعساره ، فيكون مقدرا باجتهاد الحاكم . ونقل عن أحمد: المتعة بقدر ما تجزئ فيه الصلاة من الكسوة ، وهو درع وخمار . و قوله تعالى: متاعا بالمعروف أي: بقدر الإمكان ، والحق: الواجب . وذكر المحسنين والمنافقين ضرب من التأكيد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (52)
صــ281 إلى صــ 285
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير .
قوله تعالى: وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن أي: قبل الجماع (وقد فرضتم [ ص: 281 ] لهن) أي: أوجبتم لهن شيئا التزمتم به ، وهو المهر . (إلا أن يعفون) يعني: النساء ، وعفو المرأة: ترك حقها من الصداق . وفي الذي بيده عقدة النكاح ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الزوج ، وهو قول علي ، وابن عباس ، وجبير بن مطعم ، وابن المسيب ، وابن جبير ، ومجاهد ، وشريح ، وجابر بن زيد ، والضحاك ، ومحمد بن كعب القرظي ، والربيع بن أنس ، وابن شبرمة ، والشافعي ، وأحمد رضي الله عنهم في آخرين . والثاني: أنه الولي ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، وعلقمة ، وطاووس ، والشعبي ، وإبراهيم في آخرين . والثالث: أنه أبو البكر . روي عن ابن عباس ، والزهري ، والسدي في آخرين . فعلى القول الأول عفو الزوج: أن يكمل لها الصداق ، وعلى الثاني: عفو الولي: ترك حقها إذا أبت ، روي عن ابن عباس ، وأبي الشعثاء . وعلى الثالث يكون قوله: (إلا أن يعفون) يختص بالثيبات . وقوله: (أو يعفو) يختص أبا البكر ، قاله الزهري ، والأول أصح ، لأن عقدة النكاح خرجت من يد الولي ، فصارت بيد الزوج ، والعفو إنما يطلق على ملك الإنسان ، وعفو الولي عفو عما لا يملك ، ولأنه قال: ولا تنسوا الفضل بينكم والفضل فيه هبة الإنسان مال نفسه ، لا مال غيره .
قوله تعالى: وأن تعفوا أقرب للتقوى فيه قولان . أحدهما: أنه خطاب للزوجين جميعا ، روي عن ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: أنه خطاب للزوج وحده ، قاله الشعبي ، وكان يقرأ: "وأن يعفو" بالياء .
قوله تعالى: ولا تنسوا الفضل بينكم خطاب للزوجين ، قال مجاهد: هو إتمام الرجل الصداق ، وترك المرأة شطرها .
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين .
قوله تعالى: حافظوا على الصلوات المحافظة: المواظبة والمداومة ، والصلوات بالألف واللام ينصرف إلى المعهود ، والمراد: الصلوات الخمس .
[ ص: 282 ] قوله تعالى: (والصلاة الوسطى) قال الزجاج: هذه الواو إذا جاءت مخصصة ، فهي دالة على فضل الذي تخصصه ، كقوله تعالى: وجبريل وميكال [ البقرة: 97 ] قال سعيد بن المسيب: كان أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبك بين أصابعه . ثم فيها خمسة أقوال . أحدها: أنها العصر ، روى مسلم في "أفراده" من حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا" . وروى ابن مسعود ، وسمرة ، وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنها صلاة العصر . وروى مسلم في "أفراده" من حديث البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية (حافظوا على الصلوات [والصلاة الوسطى ] وصلاة العصر) فقرأناها ما شاء الله ، ثم نسخها الله ، فنزلت: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود ، وأبي ، وأبي أيوب ، وابن عمر في رواية ، وسمرة بن جندب ، وأبي هريرة ، وابن عباس في رواية عطية ، وأبي سعيد الخدري ، وعائشة في رواية ، وحفصة ، والحسن ، وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ، وعطاء في رواية ، وطاووس ، والضحاك ، والنخعي ، وعبيد بن عمير ، وزر بن حبيش ، وقتادة ، وأبي حنيفة ، ومقاتل في آخرين ، وهو مذهب أصحابنا .
[ ص: 283 ] . والثاني: أنها الفجر ، روي عن عمر ، وعلي في رواية ، وأبي موسى ، ومعاذ ، وجابر بن عبد الله ، وأبي أمامة ، وابن عمر في رواية مجاهد ، وزيد بن أسلم ، وابن عباس في رواية أبي رجاء العطاردي ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، وأنس بن مالك ، وعطاء ، وعكرمة ، وطاووس في رواية ابنه ، وعبد الله بن شداد ، ومجاهد ، ومالك ، والشافعي . وروى أبو العالية قال: صليت مع أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم; الغداة فقلت لهم: أيما الصلاة الوسطى؟ فقالوا: التي صليت قبل . والثالث: أنها الظهر ، روي عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأسامة بن زيد ، وأبي سعيد الخدري ، وعائشة في رواية ، وروى ضميرة عن علي رضي الله عنه قال: هي صلاة الجمعة ، وهي سائر الأيام الظهر . والرابع: أنها المغرب ، روي عن ابن عباس ، وقبيصة بن ذؤيب . والخامس: أنها العشاء الأخيرة ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في "تفسيره" . وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال . أحدها: أنها أوسط الصلوات محلا . والثاني: أوسطها مقدارا . والثالث: أفضلها . ووسط الشيء: خيره وأعدله ، ومنه قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا [ البقرة: 142 ] . فإن قلنا: إن الوسطى بمعنى: الفضلى ، جاز أن يدعي هذا كل ذي مذهب فيها . وإن قلنا: إنها أوسطها مقدارا ، فهي المغرب ، لأن أقل المفروضات ركعتان ، وأكثرها أربعا . وإن قلنا: إنها أوسطها محلا ، فللقائلين: إنها العصر أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار ، وبعدها صلاتان في الليل ، فهي الوسطى . ومن قال: هي الفجر ، فقال عكرمة: هي وسط بين الليل والنهار ، وكذلك قال ابن الأنباري: هي وسط بين الليل والنهار ، وقال: وسمعت أبا العباس يعني ، ثعلبا يقول: النهار عند العرب أوله: طلوع الشمس . قاله ابن الأنباري: فعلى هذا صلاة الصبح من صلاة الليل ، قال: وقال آخرون: بل هي من صلاة النهار ، لأن أول وقتها أول وقت الصوم . قال: والصواب عندنا أن نقول: الليل المحض خاتمته: طلوع الفجر ، والنهار المحض أوله: طلوع الشمس ، والذي بين طلوع الفجر ، وطلوع الشمس يجوز أن يسمى نهارا ، ويجوز [ ص: 284 ] أن يسمى ليلا ، لما يوجد فيه من الظلمة والضوء ، فهذا قول يصح به المذهبان . قال ابن الأنباري: ومن قال: هي الظهر ، قال: هي وسط النهار . فأما من قال: هي المغرب ، فاحتج بأن أول صلاة فرضت ، الظهر ، فصارت المغرب وسطى ، ومن قال: هي العشاء ، فإنه قال: هي بين صلاتين تقصران .
قوله تعالى: وقوموا لله قانتين المراد بالقيام هاهنا: القيام في الصلاة ، فأما القنوت ، فقد شرحناه فيما تقدم . وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها: أنه الطاعة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، والشعبي ، وطاووس ، والضحاك ، وقتادة في آخرين . والثاني: أنه طول القيام في الصلاة ، روي عن ابن عمر ، والربيع بن أنس . وعن عطاء كالقولين . والثالث: أنه الإمساك عن الكلام في الصلاة . قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت الآية (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت [ونهينا عن الكلام ] .
فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون .
قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أي: خفتم عدوا ، فصلوا رجالا ، وهو جمع راجل ، والركبان جمع راكب ، وهذا يدل على تأكيد أمر الصلاة ، لأنه أمر بفعلها على كل حال . وقيل إن هذه الآية أنزلت بعد التي في سورة النساء ، لأن الله تعالى وصف لهم صلاة الخوف في قوله: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة [ النساء: 102 ] . ثم نزلت هذه الآية فإن خفتم أي: خوفا أشد من ذلك ، فصلوا عند المسايفة كيف قدرتم . فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى يوم [ ص: 285 ] الخندق الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشفق؟ فالجواب: أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا قال أبو بكر الأثرم: فقد بين الله أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق منسوخ .
قوله تعالى: فإذا أمنتم فاذكروا الله في هذا الذكر قولان . أحدهما: أنه الصلاة ، فتقديره فصلوا كما كنتم تصلون آمنين . والثاني: أنه الثناء على الله ، والحمد له .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (53)
صــ286 إلى صــ 290
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم .
قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا روى ابن حيان أن هذه الآية نزلت في رجل من أهل الطائف ، يقال: له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة ، ومعه أبواه وامرأته ، وله أولاد ، فمات فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم ، أبويه وأولاده من ميراثه ، ولم يعط امرأته شيئا ، غير أنه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا .
قوله تعالى: (وصية لأزواجهم) قرأ أبو عمرو ، وحمزة وابن عامر "وصية" بالنصب ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائي "وصية" بالرفع . وعن عاصم كالقراءتين . قال أبو علي: من نصب حمله على الفعل ، أي: ليوصوا وصية ، ومن رفع ، فمن وجهين .
[ ص: 286 ] أحدهما: أن يجعل الوصية مبتدأ ، والخبر لأزواجهم . والثاني: أن يضمر له خبرا ، تقديره: فعليهم وصية . والمراد من قارب الوفاة ، فليوص ، لأن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى .
قوله تعالى: (متاعا إلى الحول) أي: متعوهن إلى الحول ، ولا تخرجوهن . والمراد بذلك نفقة السنة وكسوتها وسكناها (فإن خرجن) أي: من قبل أنفسهن (فلا جناح عليكم) يعني: أولياء الميت . في ما فعلن في أنفسهن من معروف يعني التشوف إلى النكاح . وفي ماذا رفع الجناح عن الرجال؟ فيه قولان . أحدهما: أنه في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول . والثاني: في ترك منعهن من الخروج ، لأنه لم يكن مقامها الحول واجبا عليها ، بل كانت مخيرة في ذلك .
فصل
ذكر علماء التفسير أن أهل الجاهلية كانوا إذا مات أحدهم ، مكثت زوجته في بيته حولا ، ينفق عليها من ميراثه ، فإذا تم الحول ، خرجت إلى باب بيتها ، ومعها بعرة ، فرمت بها كلبا ، وخرجت بذلك من عدتها . وكان معنى رميها بالبعرة أنها تقول: مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة . ثم جاء الإسلام ، فأقرهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية ، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة في نظم القرآن على هذه الآية ، وهي قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ ص: 287 ] ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه .
وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين .
قوله تعالى: وللمطلقات متاع بالمعروف قد سبق الكلام في المتعة بما فيه كفاية .
كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون .
قوله تعالى: كذلك يبين الله لكم آياته أي: كما بين الذي تقدم من الأحكام يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون أي: يثبت لكم وصف العقلاء باستعمال ما بين لكم ، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة ، ألا ترى إلى قوله تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة [ النساء: 17 ] . وإنما سموا جهالا ، لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق .
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون .
قوله تعالى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم معناه: ألم تعلم قال ابن قتيبة: وهذا على جهة التعجب ، كما تقول: ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟ .
[ ص: 288 ] قوله تعالى: وهم ألوف فيه قولان . أحدهما: أن معناه: وهم مؤتلفون ، قاله ابن زيد . والثاني: أنه من العدد ، وعليه العلماء واختلفوا في عددهم على سبعة أقوال . أحدها: أنهم كانوا أربعة آلاف . والثاني: أربعين ألفا ، والقولان عن ابن عباس . والثالث: تسعين ألفا ، قاله عطاء بن أبي رباح . والرابع: سبعة آلاف ، قاله أبو صالح . والخامس: ثلاثين ألفا ، قاله أبو مالك . والسادس: بضعة وثلاثين ألفا ، قاله السدي . والسابع: ثمانية آلاف ، قاله مقاتل . وفي معنى: حذرهم من الموت ، قولان . أحدهما: أنهم فروا من الطاعون ، وكان قد نزل بهم ، قاله الحسن ، والسدي . والثاني: أنهم أمروا بالجهاد ، ففروا منه ، قاله عكرمة ، والضحاك ، وعن ابن عباس ، كالقولين .
الإشارة إلى قصتهم .
روى حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف قال: كانت أمة من بني إسرائيل إذا وقع فيهم الوجع ، خرج أغنياؤهم ، وأقام فقراؤهم ، فمات الذين أقاموا ، ونجا الذين خرجوا ، فقال الأشراف: لو أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا ، وقال الفقراء: لو ظعنا كما ظعن هؤلاء سلمنا ، فأجمع رأيهم في بعض السنين على أن يظعنوا جميعا ، فظعنوا فماتوا ، وصاروا عظاما تبرق ، فكنسهم أهل البيوت والطرق عن بيوتهم وطرقهم ، فمر بهم نبي من الأنبياء ، فقال: يا رب لو شئت أحييتهم ، فعبدوك ، وولدوا أولادا يعبدونك ، ويعمرون بلادك . [قال: أوأحب إليك أن أفعل؟ قال: نعم ] فقيل له: تكلم بكذا وكذا ، فتكلم به ، فنظر إلى العظام تخرج من عند العظام التي ليست منها إلى التي هي منها ، ثم قيل له تكلم بكذا وكذا ، فتكلم به ، فنظر إلى العظام تكسى لحما وعصبا ، ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا ، فنظر فإذا هم قعود يسبحون الله ويقدسونه . وأنزل الله فيهم هذه الآية . وهذا الحديث يدل على بعد المدة التي مكثوا فيها أمواتا . وفي بعض الأحاديث: أنهم بقوا أمواتا سبعة أيام ، وقيل: ثمانية أيام . [ ص: 289 ] وفي النبي الذي دعا لهم قولان . أحدهما: أنه حزقيل ، والثاني: أنه شمعون . فإن قيل كيف أميت هؤلاء مرتين وقد قال الله تعالى: إلا الموتة الأولى [ الدخان: 56 ] : فالجواب أن موتهم بالعقوبة لم يفن أعمارهم ، فكان كقوله تعالى: والتي لم تمت في منامها [ الزمر: 42 ] وقيل: كان إحياؤهم آية من آيات نبيهم ، وآيات الأنبياء نوادر لا يقاس عليها ، فيكون تقدير قوله تعالى: إلا الموتة الأولى التي ليست من آيات الأنبياء ، ولا لأمر نادر . وفي هذه القصة احتجاج على اليهود إذ أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر لم يشاهدوه ، وهم يعلمون صحته واحتجاج على المنكرين للبعث ، فدلهم عليه بإحياء الموتى في الدنيا ، ذكر ذلك جميعه ابن الأنباري .
قوله تعالى: إن الله لذو فضل على الناس نبه عز وجل بذكر فضله على هؤلاء على فضله على سائر خلقه مع قلة شكرهم .
وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم .
قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله في المخاطبين بهذا قولان . أحدهما: أنهم الذين أماتهم الله ، ثم أحياهم ، قاله الضحاك . والثاني: خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم . فمعناه: لا تهربوا من الموت ، كما هرب هؤلاء ، فما ينفعكم الهرب (واعلموا أن الله سميع) لأقوالكم (عليم) بما تنطوي عليه ضمائركم .
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون .
قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قال الزجاج: أصل القرض ما يعطيه الرجل أو يفعله ليجازي عليه ، وأصله في اللغة القطع ، ومنه أخذ المقراض . فمعنى أقرضته: قطعت له قطعة يجازيني عليها . فإن قيل: ما وجه تسمية الصدقة قرضا؟ فالجواب من ثلاثة أوجه .
[ ص: 290 ] أحدهما: لأن هذا القرض يبدل بالجزاء ، والثاني: لأنه يتأخر قضاؤه إلى يوم القيامة ، والثالث: لتأكيد استحقاق الثواب به ، إذ لا يكون قرض إلا والعوض مستحق به . فأما اليهود فإنهم جهلوا هذا ، فقالوا: أيستقرض الله منا؟ وأما المسلمون فوثقوا بوعد الله ، وبادروا إلى معاملته . قال ابن مسعود: لما نزلت هذه الآية ، قال أبو الدحداح: وإن الله ليريد منا القرض؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم . قال: أرني يدك . قال: إني أقرضت ربي حائطي ، قال: وحائطه فيه ستمائة نخلة ، ثم جاء إلى الحائط ، فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط ، فقد أقرضته ربي . وفي بعض الألفاظ: فعمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم ، وتنفض ما في أكمامهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح" وفي معنى القرض الحسن ستة أقوال . أحدها: أنه الخالص لله ، قاله الضحاك ، والثاني: أن يخرج عن طيب نفس ، قاله مقاتل ، والثالث: أن يكون حلالا ، قاله ابن المبارك ، والرابع: أن يحتسب عند الله ثوابه ، والخامس: أن لا يتبعه منا ولا أذى ، والسادس: أن يكون من خيار المال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (54)
صــ291 إلى صــ 295
قوله تعالى: (فيضاعفه له) قرأ أبو عمرو فيضاعفه بألف مع رفع الفاء ، كذلك في جميع القرآن ، إلا في سورة الأحزاب (يضعف لها العذاب ضعفين) وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، جميع ذلك بالألف مع رفع الفاء ، وقرأ ابن كثير (فيضعفه) برفع الفاء من غير ألف في جميع القرآن ، وقرأ ابن عامر (فيضعفه) بغير ألف مشددة في جميع القرآن ، ووافقه عاصم على نصب الفاء في "فيضاعفه" إلا أنه أثبت الألف في جميع القرآن . قال أبو علي للرفع وجهان . أحدهما: أن يعطفه على ما في الصلة ، وهو يقرض ، والثاني: أن يستأنفه ، ومن نصب حمل الكلام على المعنى ، لأن المعنى: أيكون قرض؟ فحمل عليه "فيضاعفه" وقال: ومعنى ضاعف وضعف: واحد ، والمضاعفة: الزيادة على الشيء [ ص: 291 ] حتى يصير مثلين أو أكثر . وفي الأضعاف الكثير قولان . أحدهما: أنها لا يحصى عددها ، قاله ابن عباس ، والسدي . وروى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال: إن الله يكتب للمؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة . وقرأ هذه الآية ، ثم قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" . والثاني: أنها معلومة المقدار ، فالدرهم بسبعمائة ، كما ذكر في الآية التي بعدها ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى: (والله يقبض ويبسط) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي "يبسط" و"بسطة" بالسين ، وقرأهما نافع بالصاد . وفي معنى الكلام قولان . أحدهما: أن معناه: يقتر على من يشاء في الرزق ، ويبسطه على من يشاء ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وابن زيد . والثاني: يقبض يد من يشاء عن الإنفاق في سبيله ، ويبسط يد من يشاء بالإنفاق ، قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين .
ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين .
قوله تعالى: ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل قال الفراء: الملأ: الرجال في كل [ ص: 292 ] القرآن لا يكون فيهم امرأة ، وكذلك القوم والنفر والرهط . وقال الزجاج: الملأ: هم الوجوه ، وذوو الرأي ، وإنما سموا ملأ ، لأنهم مليؤون بما يحتاج إليه منهم . وفي نبيهم ثلاثة أقوال . أحدها: أنه شمويل ، قاله ابن عباس ، ووهب . والثاني: أنه يوشع بن نون ، قاله قتادة . والثالث: أنه نبي ، يقال: له سمعون بالسين المهملة ، سمته أمه بذلك ، لأنها دعت الله أن يرزقها غلاما ، فسمع دعاؤها فيه ، فسمته ، هذا قول السدي .
وسبب سؤالهم ملكا أن عدوهم غلب عليهم .
قوله تعالى: (نقاتل) قراءة الجمهور بالنون والجزم ، وقرأ ابن أبي عبلة بالياء والرفع ، كناية عن الملك .
قوله تعالى: (هل عسيتم) قراءة الجمهور بفتح السين ، وقرأ نافع بكسرها هاهنا ، وفي سورة "محمد" وهي لغتان .
قوله تعالى: إن كتب عليكم القتال أي: فرض (ألا تقاتلوا) أي: لعلكم تجبنون .
قوله تعالى: (وقد أخرجنا من ديارنا) يعنون أخرج بعضنا وهم الذين سبوا منهم وقهروا ، فظاهره العموم ، ومعناه الخصوص .
قوله تعالى: (تولوا) أي: أعرضوا عن الجهاد . (إلا قليلا) وهم الذين عبروا النهر ، وسيأتي ذكرهم .
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم [ ص: 293 ] قوله تعالى: وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ذكر أهل التفسير أن نبي بني إسرائيل سأل الله أن يبعث لهم ملكا ، فأتى بعصا وقرن فيه دهن ، وقيل له: إن صاحبكم الذي يكون ملكا يكون طوله طول هذه العصا ، ومتى دخل عليك رجل ، فنشق الدهن ، فهو الملك ، فادهن به رأسه ، وملكه على بني إسرائيل ، فقاس القوم أنفسهم بالعصا ، فلم يكونوا على مقدارها . قال عكرمة ، والسدي: كان طالوت سقاء يسقي على حمار له ، فضل حماره ، فخرج يطلبه . وقال وهب: بل كان دباغا يعمل الأدم ، فضلت حمر لأبيه ، فأرسل مع غلام له في طلبها ، فمرا ببيت شمويل النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلا ليسألاه عن ضالتهما ، فنشق الدهن ، فقام شمويل ، فقاس طالوت بالعصا ، وكان على مقدارها ، فدهنه ، ثم قال له: أنت ملك بني إسرائيل ، فقال طالوت: أما علمت أن وسطي أدنى أسباط بني إسرائيل ، وبيتي أدنى بيوتهم؟ قال: بلى . قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره ، فكان كما قال .
قال الزجاج: طالوت ، وجالوت ، وداود ، لا تصرف ، لأنها أسماء أعجمية ، وهي معارف ، فاجتمع فيها التعريف والعجمة .
ومعنى قوله تعالى: (أنى له الملك) من أي جهة يكون له الملك علينا . قال ابن عباس: إنما قالوا ذلك ، لأنه كان في بني إسرائيل سبطان ، في أحدهما النبوة ، وفي الآخر الملك ، فلم يكن هو من أحد السبطين . قال قتادة . كانت النبوة في سبط لاوي ، والملك في سبط يهوذا .
قوله تعالى: ولم يؤت سعة من المال أي: لم يؤت ما يتملك به الملك . قال إن الله اصطفاه عليكم أي: اختاره ، وهو "افتعل" من الصفوة . والبسطة: السعة ، قاله ابن قتيبة: هو من قولك: بسطت الشيء: إذا كان مجموعا ، ففتحته ، ووسعته . قال ابن عباس: كان [ ص: 294 ] طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب ، وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه . وهل كانت هذه الزيادة قبل الملك ، أم أحدثت له بعد الملك؟ فيه قولان . أحدهما: قبل الملك ، قاله وهب ، والسدي . والثاني: بعد الملك ، قاله ابن زيد . والمراد بتعظيم الجسم ، فضل القوة ، إذ العادة أن من كان أعظم جسما ، كان أكثر قوة والواسع: الغني .
وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين .
قوله تعالى: وقال لهم نبيهم إن آية ملكه الآية: العلامة ، فمعناه: علامة تمليك الله إياه (أن يأتيكم التابوت) وهذا من مجاز الكلام ، لأن التابوت يؤتى به ، ولا يأتي ، ومثله (فإذا عزم الأمر) وإنما جاز مثل هذا ، لزوال اللبس فيه ، كما بينا في قوله تعالى: فما ربحت تجارتهم [ البقرة: 16 ] . وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس: أنهم قالوا لنبيهم: إن كنت صادقا ، فأتنا بآية تدل على أنه ملك ، فقال لهم ذلك . وقال وهب: خيرهم ، أي آية يريدون ، فقالوا: أن يرد علينا التابوت . قال ابن عباس: كان التابوت من عود الشمشار عليه صفائح الذهب ، وكان يكون مع الأنبياء إذا حضروا قتالا ، قدموه بين أيديهم يستنصرون به ، وفيه السكينة . وقال وهب بن منبه: كان نحوا من ثلاث أذرع في ذراعين . قال مقاتل: فلما تفرقت بنو إسرائيل ، وعصوا الأنبياء ، سلط الله عليهم عدوهم ، فغلبوهم عليه . وفي السكينة سبعة أقوال . أحدها: أنها ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان ، رواه أبو الأحوص عن علي رضي الله عنه . والثاني: أنها دابة بمقدار الهر ، لها عينان لها شعاع ، وكانوا إذا التقى الجمعان ، أخرجت يدها ، ونظرت إليهم ، فيهزم الجيش من الرعب . رواه الضحاك عن ابن عباس ، وقال مجاهد: السكينة لها رأس كرأس الهرة ، وجناحان . والثالث: أنها طست من ذهب [من الجنة ] تغسل فيه قلوب الأنبياء . رواه أبو مالك عن [ ص: 295 ] ابن عباس . والرابع: أنها روح من الله تتكلم ، كانوا إذا اختلفوا في شيء ، كلمتهم وأخبرتهم ببيان ما يريدون ، رواه عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه . والخامس: أن السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ، رواه ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح ، وذهب إلى نحوه الزجاج ، فقال: السكينة: من السكون ، فمعناه: فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم . والسادس: أن السكينة معناها هاهنا: الوقار ، رواه معمر عن قتادة . والسابع: أن السكينة: الرحمة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (55)
صــ296 إلى صــ 300
والسابع: أن السكينة: الرحمة . قاله الربيع بن أنس .
وفي البقية تسعة أقوال . أحدها: أنها رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى وعصاه ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسدي . والثاني: أنها رضاض الألواح . قاله عكرمة ، ولم يذكر العصا . وقيل: إنما اتخذ موسى التابوت ليجمع رضاض الألواح فيه . والثالث: أنها عصا موسى ، والسكينة ، قاله وهب . والرابع: عصا موسى ، وعصا هارون ، وثيابهما ، ولوحان من التوراة ، والمن ، قاله أبو صالح . والخامس: أن البقية العلم والتوراة ، قاله مجاهد ، وعطاء بن أبي رباح . والسادس: أنها رضاض الألواح ، وقفيز من من في طست من ذهب ، وعصا موسى وعمامته ، قاله مقاتل . والسابع أنه قفيز من من ورضاض [ ص: 296 ] الألواح ، حكاه سفيان الثوري عن بعض العلماء . والثامن: أنها عصا موسى والنعلان . ذكره الثوري أيضا عن بعض أهل العلم . والتاسع: أن المراد بالبقية: الجهاد في سبيل الله ، وبذلك أمروا ، قاله الضحاك .
والمراد بآل موسى ، وآل هارون: موسى وهارون . وأنشد أبو عبيدة:
ولا تبك ميتا بعد ميت أحبة علي وعباس وآل أبي بكر
يريد: أبا بكر نفسه .
قوله تعالى: تحمله الملائكة قرأ الجمهور: "تحمله" بالتاء ، وقرأ الحسن ، ومجاهد ، والأعمش بالياء . وفي المكان الذي حملته منه الملائكة إليهم قولان . أحدهما: أنه كان مرفوعا مع الملائكة بين السماء والأرض ، منذ خرج عن بني إسرائيل ، قاله الحسن . والثاني: أنه كان في الأرض .
وفي أي: مكان كان؟ فيه قولان .
أحدهما: أنه كان في أيدي العمالقة قد دفنوه ، قال ابن عباس: أخذ التابوت قوم جالوت ، فدفنوه في متبرز لهم ، فأخذه الباسور فهلكوا ، ثم أخذه أهل مدينة أخرى ، فأخذهم بلاء ، فهلكوا ، ثم أخذه غيرهم كذلك ، حتى هلكت خمس مدائن ، فأخرجوه على بقرتين ، ووجهوهما إلى بني إسرائيل ، فساقتهما الملائكة .
والثاني: أنه كان في برية التيه ، خلفه فيها يوشع ، ولم يعلموا بمكانه حتى جاءت به الملائكة ، قاله قتادة .
وفي كيفية مجيء الملائكة به قولان .
أحدهما: أنها جاءت به بأنفسها ، قال وهب: قالوا لنبيهم: اجعل لنا وقتا يأتينا فيه ، [ ص: 297 ] فقال: الصبح ، فلم يناموا ليلتهم ، ووافت به الملائكة مع الفجر ، فسمعوا حفيف الملائكة تحمله بين السماء والأرض .
والثاني: أن الملائكة جاءت به على عجلة وثورين ، ذكر عن وهب أيضا . فعلى القول الأول: يكون معنى تحمله: تقله . وعلى الثاني: يكون معنى حملها إياه: تسببها في حمله ، قال الزجاج: ويجوز في اللغة أن يقال: حملت الشيء إذا كنت سببا في حمله .
قوله تعالى: إن في ذلك لآية لكم أي: علامة تدل على تمليك طالوت . قال المفسرون: فلما جاءهم التابوت وأقروا له بالملك ، تأهب للخروج ، فأسرعوا في طاعته ، وخرجوا معه ، فذلك قوله تعالى .
فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين .
قوله تعالى: فلما فصل طالوت بالجنود أي: خرج وشخص . وفي عدد من خرج معه ثلاثة أقوال . أحدها: سبعون ألفا ، قاله ابن عباس . والثاني: ثمانون ألفا ، قاله عكرمة والسدي . والثالث: مائة ألف ، قاله مقاتل . قال: وساروا في حر شديد ، فابتلاهم الله بالنهر . والابتلاء: الاختبار . وفي النهر لغتان . إحداهما: تحريك الهاء ، وهي قراءة الجمهور ، والثاني: تسكينها ، وبها قرأ الحسن ومجاهد ، وفي هذا النهر قولان . أحدهما: أنه نهر فلسطين قاله ابن عباس والسدي ، والثاني: نهر بين الأردن وفلسطين ، قاله عكرمة ، وقتادة ، والربيع بن أنس . ووجه الحكمة في ابتلائهم به أن يعلم طالوت من له نية في القتال منهم ، ومن ليس له نية .
[ ص: 298 ] قوله تعالى: فليس مني أي: ليس من أصحابي .
قوله تعالى: إلا من اغترف غرفة قرأ ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، "غرفة" بفتح الغين ، وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي بضمها ، قال الزجاج: من فتح الغين ، أراد المرة الواحدة باليد ، ومن ضمها ، أراد ملء اليد . وزعم مقاتل أن الغرفة كان يشرب منها الرجل ، ودابته ، وخدمه ويملأ قربته . وقال بعض المفسرين: لم يرد به غرفة الكف ، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة ، أو ما أشبه ذلك . وفي عدد القليل الذين لم يشربوا إلا غرفة قولان . أحدهما: أنهم أربعة آلاف ، قاله عكرمة والسدي . والثاني: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، وهو الصحيح ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله لأصحابه يوم بدر "أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت" وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا .
قوله تعالى: (لا طاقة لنا) أي: لا قوة لنا ، قال الزجاج: يقال: أطقت الشيء إطاقة وطاقة ، وطوقا ، مثل قولك: أطعته إطاعة وطاعة وطوعا . واختلفوا في القائلين لهذا على ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم الذين شربوا أكثر من غرفة ، فإنهم انصرفوا ، ولم يشهدوا ، وكانوا أهل شك ونفاق ، قاله ابن عباس ، والسدي . والثاني: أنهم الذين قلت بصائرهم من المؤمنين ، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن زيد . والثالث: أنه قول الذين جاوزوا معه ، وإنما قال ذلك بعضهم لبعض ، لما رأوا من قلتهم ، وهذا اختيار الزجاج .
قوله تعالى: قال الذين يظنون في هذا الظن قولان . أحدهما: أنه بمعنى اليقين ، قاله السدي في آخرين . والثاني: أنه الظن الذي هو التردد ، فإن القوم توهموا لقلة عددهم [ ص: 299 ] أنهم سيقتلون فيلقون الله ، قاله الزجاج في آخرين . وفي الظانين هذا الظن قولان . أحدهما: أنهم الثلاثمائة والثلاثة عشر ، قالوا للراجعين: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ، قاله السدي . والثاني: أنهم أولو العزم والفضل من الثلاثمائة والثلاثة عشر . والفئة: الفرقة ، قال الزجاج: وإنما قيل لهم: فئة من قولهم: فأوت رأسه بالعصا ، وفأيته: إذا شققته .
قوله تعالى: (بإذن الله) قال الحسن: بنصر الله .
قوله تعالى: (والله مع الصابرين) أي بالنصر والإعانة .
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .
قوله تعالى: (ولما برزوا) أي: صاروا بالبراز من الأرض ، وهو ما ظهر واستوى . و (أفرغ) بمعنى اصبب (وثبت أقدامنا) أي: قو قلوبنا لتثبيت أقدامنا ، وإنما تثبت الأقدام عند قوة القلوب . قال مقاتل: كان جالوت وجنوده يعبدون الأوثان .
فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين .
قوله تعالى: (فهزموهم) أي: كسروهم وردوهم ، قال الزجاج: أصل الهزم في اللغة: كسر الشيء ، وثني بعضه على بعض ، يقال: سقاء منهزم [ومهزم ] إذا كان بعضه قد ثني على بعض مع جفاف ، وقصب منهزم: قد كسر وشقق ، والعرب تقول: هزمت على زيد ، أي: عطفت عليه .
قال الشاعر:
هزمت عليك اليوم يا ابنة مالك فجودي علينا بالنوال وأنعمي
[ ص: 300 ] ويقال: سمعت هزمة الرعد ، قال الأصمعي: كأنه صوت فيه تشقق .
ودواد: هو نبي الله أبو سليمان ، وهو اسم أعجمي ، وقيل: إن إخوة داود كانوا مع طالوت ، فمضى داود لينظر إليهم ، فنادته أحجار: خذني ، فأخذها ، وجاء إلى طالوت ، فقال: ما لي إن قتلت جالوت ، فقال: ثلث ملكي ، وأنكحك ابنتي ، فقتل جالوت .
قوله تعالى: وآتاه الله الملك يعني آتى داود ملك طالوت . وفي المراد بـ"الحكمة" هاهنا قولان . أحدهما: أنها النبوة ، قاله ابن عباس . والثاني: الزبور ، قاله مقاتل . قوله تعالى: (وعلمه مما يشاء) فيه ثلاثة أقوال . أحدها: أنها صنعة الدروع ، والثاني: الزبور ، والثالث: منطق الطير .
قوله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض قرأ الجمهور (دفع الله) بغير ألف هاهنا ، وفي "الحج" وقرأ نافع ، ويعقوب ، وأبان (ولولا دفاع) بألف فيهما . قال أبو علي: المعنيان متقاربان ، قال الشاعر:
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم فإذا المنية أقبلت لا تدفع
وفي معنى الكلام قولان . أحدهما: أن معناه: لولا أن الله يدفع بمن أطاعه عمن عصاه ، كما دفع عن المتخلفين عن طالوت بمن أطاعه ، لهلك العصاة بسرعة العقوبة ، قاله مجاهد . والثاني: أن معناه: لولا دفع الله المشركين بالمسلمين ، لغلب المشركون على الأرض ، فقتلوا المسلمين ، وخربوا المساجد ، قاله مقاتل . ومعنى: (لفسدت الأرض) لهلك أهلها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (56)
صــ301 إلى صــ 305
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين .
قوله تعالى: تلك آيات الله نتلوها عليك أي: نقص عليك من أخبار المتقدمين .
[ ص: 301 ] وإنك لمن المرسلين حكمك حكمهم ، فمن صدقك ، فسبيله سبيل من صدقهم ، ومن عصاك ، فسبيله سبيل من عصاهم .
الجزء الثالث
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد .
قوله تعالى: منهم من كلم الله يعني: موسى عليه السلام . وقرأ أبو المتوكل ، وأبو نهيك ، وابن السميفع : "منهم من كالم الله" بألف خفيفة اللام ، ونصب اسم "الله" وفي المراد بقوله: ورفع بعضهم درجات قولان . أحدهما: عنى بالمرفوع درجات ، محمدا صلى الله عليه وسلم ، فإنه بعث إلى الناس كافة ، وغيره بعث إلى أمته خاصة ، هذا قول مجاهد . والثاني: أنه عنى تفضيل بعضهم على بعض فيما آتاه الله ، هذا قول مقاتل . قال ابن جرير الطبري: والدرجات: جمع درجة ، وهي المرتبة ، وأصل ذلك: مراقي السلم ودرجه ، ثم يستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب . وقد تقدم تفسير "البينات" و"روح القدس" .
قوله تعالى: ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم أي: من بعد الأنبياء . وقال قتادة: من بعد موسى وعيسى عليهما السلام . قال مقاتل: وكان بينهما ألف نبي .
قوله تعالى: (ولكن اختلفوا) يعني: الأمم .
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون .
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم هذه الآية تحث على الصدقات ، والإنفاق في وجوه الطاعات . وقال الحسن: أراد الزكاة المفروضة .
[ ص: 302 ] قوله تعالى: من قبل أن يأتي يوم يعني: يوم القيامة (لا بيع فيه) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) بالنصب من غير تنوين ، ومثله في "إبراهيم" (لا بيع فيه) وفي الطور (لا لغو فيها ولا تأثيم) وقرأ نافع وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، جميع ذلك بالرفع والتنوين . قال ابن عباس: لا فدية فيه ، وقيل: إنما ذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة ، وأخذ البدل . والخلة: الصداقة . وقيل: إنما نفى هذه الأشياء ، لأنه عنى عن الكافرين ، وهذه الأشياء لا تنفعهم ، ولهذا قال: (والكافرون هم الظالمون) .
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم .
قوله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم روى مسلم في "صحيحه" عن أبي بن كعب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله أعظم؟ " قال: قلت: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) . قال: فضرب في صدري ، وقال: "ليهنك العلم يا أبا المنذر" قال: أبو عبيدة ، القيوم: الذي لا يزول ، لاستقامة وصفه بالوجود ، حتى لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه . وقال الزجاج: القيوم: القائم بتدبير أمر الخلق . وقال الخطابي: القيوم: هو القائم الدائم بلا زوال ، وزنه: "فيعول" من القيام ، وهو نعت للمبالغة للقيام على الشيء ، ويقال: هو القائم على كل شيء بالرعاية ، يقال: قمت بالشيء: إذا وليته بالرعاية والمصلحة . وفي "القيوم" ثلاث لغات القيوم ، وبه قرأ الجمهور ، والقيام ، وبه قرأ عمر بن الخطاب ، وابن [ ص: 303 ] مسعود ، وابن أبي عبلة ، والأعمش . والقيم ، وبه قرأ أبو رزين ، وعلقمة . وذكر ابن الأنباري أنه كذلك في مصحف ابن مسعود ، قال: وأصل القيوم: القيووم: فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن ، جعلتا ياء مشددة . وأصل القيام: القوام ، قال الفراء: وأهل الحجاز يصرفون الفعال [إلى ] الفيعال ، فيقولون للصواغ: صياغ . فأما "السنة" فهي: النعاس من غير نوم ، ومنه: الوسنان . قال ابن الرقاع:
وكأنها بين النساء أعارها عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النعاس فرنقت
في عينه سنة ، وليس بنائم
قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض قال بعض العلماء: إنما لم يقل: والأرضين . لأنه قد سبق ذكر الجمع في السماوات ، فاستغنى بذلك عن إعادته ، ومثله (وجعل الظلمات والنور) ولم يقل: الأنوار .
قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه فيه رد على من قال: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ الزمر: 3 ] .
قوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ظاهر الكلام يقتضي الإشارة إلى جميع الخلق ، وقال مقاتل: المراد بهم الملائكة . وفي المراد بـ (ما بين أيديهم وما خلفهم) ثلاثة أقوال . أحدهما: أن الذي بين أيديهم أمر الآخرة ، والذي خلفهم أمر الدنيا ، روي عن ابن عباس ، وقتادة . والثاني: أن الذي بين أيديهم الدنيا ، والذي خلفهم الآخرة ، قاله السدي عن أشياخه ، ومجاهد ، وابن جريج ، والحكم بن عتيبة . والثالث: ما بين أيديهم: ما قبل خلقهم ، وما خلفهم ، ما بعد خلقهم ، قاله مقاتل .
[ ص: 304 ] قوله تعالى: ولا يحيطون بشيء قال الليث: يقال: لكل من أحرز شيئا ، أو بلغ علمه أقصاه: قد أحاط به . والمراد بالعلم هاهنا: المعلوم ، (وسع كرسيه) أي: احتمل وأطاق . وفي المراد بالكرسي ثلاثة أقوال . أحدها: أنه كرسي فوق السماء السابعة دون العرش ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة" وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء . والثاني: أن المراد بالكرسي علم الله تعالى ، رواه ابن جبير عن ابن عباس . والثالث: أن الكرسي هو العرش ، قاله الحسن .
قوله تعالى: (ولا يئوده) أي: لا يثقله ، يقال: آده الشيء يؤوده أودا وإيادا . والأود: الثقل ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والجماعة . والعلي: العالي القاهر ، "فعيل" بمعنى "فاعل" . وقال الخطابي: وقد يكون من العلو الذي هو مصدر: علا يعلوا ، فهو عال ، كقوله تعالى: الرحمن على العرش استوى [ طه: 5 ] . ويكون ذلك من علاء المجد والشرف ، يقال منه: على يعلى علاء . ومعنى العظيم: ذو العظمة والجلال ، والعظم في حقه تعالى ، منصرف إلى عظم الشأن ، وجلال القدر ، دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام .
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم [ ص: 305 ] قوله تعالى: لا إكراه في الدين في سبب نزولها أربعة أقوال . أحدها: أن المرأة من نساء الأنصار كانت في الجاهلية إذا لم يعش لها ولد ، تحلف: لئن عاش لها ولد لتهودنه . فلما أجليت يهود بني النضير ، كان فيهم ناس من أبناء الأنصار . فقال الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا ، فنزلت هذه الآية . هذا قول ابن عباس . وقال الشعبي: قالت الأنصار: والله لنكرهن أولادنا على الإسلام ، فإنا إنما جعلناهم في دين اليهود إذ لم نعلم دينا أفضل منه ، فنزلت هذه الآية . والثاني: أن رجلا من الأنصار تنصر له ولدان قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قدما المدينة ، فلزمهما أبوهما ، وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما ، فأبيا ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . هذا قول مسروق . والثالث: أن ناسا كانوا مسترضعين في اليهود ، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ، قالوا: والله ليذهبن معهم ، ولندينن بدينهم ، فمنعهم أهلوهم ، وأرادوا إكراههم على الإسلام ، فنزلت هذه الآية . والرابع: أن رجلا من الأنصار كان له غلام اسمه صبيح ، كان يكرهه على الإسلام ، فنزلت هذه الآية ، والقولان عن مجاهد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (57)
صــ306 إلى صــ 310
فصل
واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية ، فذهب قوم إلى أنه محكم ، وإنه من العام المخصوص ، فإنه خص منه أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام ، بل يخيرون بينه وبين أداء الجزية ، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة .
[ ص: 306 ] وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه ، ولم يشهد به القلب ، وتنطوي عليه الضمائر ، إنما الدين هو المنعقد بالقلب . وذهب قوم إلى أنه منسوخ ، وقالوا: هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال ، فعلى قولهم ، يكون منسوخا بآية السيف ، وهذا مذهب الضحاك ، والسدي ، وابن زيد . والدين هاهنا: أريد به الإسلام . والرشد: الحق ، والغي: الباطل . وقيل: هو الإيمان والكفر . فأما الطاغوت; فهو اسم مأخوذ من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد ، قال ابن قتيبة: الطاغوت: واحد وجمع ، ومذكر ، ومؤنث . قال الله تعالى: أولياؤهم الطاغوت وقال: والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها [ الزمر: 17 ] والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال . أحدها: أنه الشيطان ، قاله عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، والسدي ، ومقاتل في آخرين . والثاني: أنه الكاهن ، قاله سعيد بن جبير ، وأبو العالية . والثالث: أنه الساحر ، قاله محمد بن سيرين . والرابع: أنه الأصنام ، قاله اليزيدي ، والزجاج . والخامس: أنه مردة أهل الكتاب ، ذكره الزجاج أيضا .
قوله تعالى: فقد استمسك بالعروة الوثقى هذا مثل للإيمان ، شبه التمسك به بالتمسك بالعروة الوثيقة . وقال الزجاج: معنى الكلام: فقد عقد لنفسه عقدا وثيقا . والانفصام: كسر بالشيء من غير إبانة .
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
قوله تعالى: الله ولي الذين آمنوا أي: متولي أمورهم ، يهديهم ، وينصرهم ، ويعينهم . والظلمات: الضلالة ، والنور: الهدى ، والطاغوت: الشياطين ، هنا قول ابن عباس ، وعكرمة في آخرين . وقال مقاتل: الذين كفروا: هم اليهود ، والطاغوت: كعب بن [ ص: 307 ] الأشرف . قال الزجاج: والطاغوت هاهنا: واحد في معنى جماعة ، وهذا جائز في اللغة إذا كان في الكلام دليل على الجماعة . قال الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
أراد جلودها ، فإن قيل: متى كان المؤمنون في ظلمة؟ ومتى كان الكفار في نور؟ فعنه ثلاثة أجوبة . أحدها: أن عصمة الله للمؤمنين عن مواقعة الضلال ، إخراج لهم من ظلام الكفر ، وتزيين قرناء الكفار لهم الباطل الذي يحيدون به عن الهدى ، إخراج لهم من نور الهدى ، و"الإخراج" مستعار هاهنا . وقد يقال: للممتنع من الشيء: خرج منه ، وإن لم يكن دخل فيه . قال تعالى: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله [ يوسف: 37 ] وقال: ومنكم من يرد إلى أرذل العمر [ النحل: 70 ] . وقد سبقت شواهد هذا في قوله تعالى: وإلى الله ترجع الأمور [ البقرة: 210 ] . والثاني: أن إيمان أهل الكتاب بالنبي قبل أن يظهر نور لهم ، وكفرهم به بعد أن ظهر ، خروج إلى الظلمات . والثالث: أنه لما ظهرت معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان المخالف له خارجا من نور قد علمه ، والموافق له خارجا من ظلمات الجهل إلى نور العلم .
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين .
قوله تعالى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه قد سبق معنى "ألم تر" . وحاج: بمعنى خاصم ، وهو نمروذ في قول الجماعة . قال ابن عباس: ملك الأرض شرقها وغربها; [ ص: 308 ] مؤمنان ، وكافران ، فالمؤمنان سليمان بن داود ، وذو القرنين . والكافران: نمروذ ، وبختنصر . قال ابن قتيبة: معنى الآية: حاج إبراهيم ، لأن الله آتاه الملك ، فأعجب بنفسه [وملكه ] .
قوله تعالى: إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال بعضهم: هذا جواب سؤال سابق غير مذكور ، تقديره: أنه قال له: من ربك؟ فقال: ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ: أنا أحيي وأميت . قال ابن عباس: يقول: أترك من شئت ، وأقتل من شئت . فإن قيل: لم انتقل إبراهيم إلى حجة أخرى ، وعدل عن نصرة الأولى؟ فالجواب: أن إبراهيم رأى من فساد معارضته أمرا على ضعف فهمه ، فإنه عارض اللفظ بمثله ، ونسي اختلاف الفعلين ، فإن نقل إلى حجة أخرى ، قصدا لقطع المحاج ، لا عجزا عن نصرة الأولى .
قوله تعالى: فبهت الذي كفر أي: انقطعت حجته ، فتحير ، وقرأ أبو رزين العقيلي ، وابن السميفع : "فبهت" بفتح الباء والهاء . وقرأ أبو الجوزاء ، ويحيى بن يعمر ، وأبو حيوة: "فبهت" بفتح الباء ، وضم الهاء . قال الكسائي: ومن العرب من يقول: بهت ، وبهت ، بكسر الهاء وضمها ، والله لا يهدي القوم الظالمين يعني: الكافرين . قال مقاتل: لا يهديهم إلى الحجة ، وعنى بذلك نمروذ .
أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير .
قوله تعالى: أو كالذي مر على قرية قال الزجاج: هذا معطوف على معنى الكلام الذي قبله ، معناه: أرأيت كالذي حاج إبراهيم ، أو كالذي مر على قرية؟ وفي المراد بالقرية قولان . أحدهما: أنها بيت المقدس لما خربه بختنصر ، قاله وهب ، وقتادة ، والربيع بن [ ص: 309 ] أنس . والثاني: أنها التي خرج منها الألوف حذر الموت ، قاله ابن زيد: وفي الذي مر عليها ثلاثة أقوال . أحدها: أنه عزير ، قاله علي بن أبي طالب ، وأبو العالية ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وناجية بن كعب ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، ومقاتل . والثاني: أنه أرمياء ، قاله وهب ، ومجاهد ، وعبد الله بن عبيد بن عمير . والثالث: أنه رجل كافر شك في البعث ، نقل عن مجاهد أيضا . والخاوية: الخالية ، قاله الزجاج . وقال ابن قتيبة: الخاوية: الخراب ، والعروش: السقوف ، وأصل ذلك أن تسقط السقوف ، ثم تسقط الحيطان عليها (قال أنى يحيي هذه الله) أي: كيف يحييها . فإن قلنا: إن هذا الرجل نبي ، فهو كلام من يؤثر أن يرى كيفية الإعادة ، أو يستهو لها ، فيعظم قدرة الله ، وإن قلنا: إنه كان رجلا كافرا ، فهو كلام شاك ، والأول أصح .
قوله تعالى: فأماته الله مائة عام ثم بعثه .
الإشارة إلى قصته .
روى ناجية بن كعب عن علي رضي الله عنه قال: خرج عزير نبي الله من مدينته ، وهو رجل شاب ، فمر على قرية ، وهي خاوية على عروشها ، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها ، فأماته الله مائة عام ، ثم بعثه ، وأول ما خلق الله منه عيناه ، فجعل ينظر إلى عظامه تنضم بعضها إلى بعض ، ثم كسيت لحما ، ونفخ فيها الروح . قال الحسن: قبضه الله أول النهار ، وبعثه آخر النهار بعد مائة سنة . قال مقاتل: ونودي من السماء: كم لبثت؟ قال قتادة: فقال: لبثت يوما ، ثم نظر فرأى بقية من الشمس ، فقال: أو بعض يوم . فهذا يدل على أنه عزير ، وقال وهب بن منبه: أقام أرميا بأرض مصر فأوحى الله إليه أن الحق بأرض إيلياء ، فركب حماره ، وأخذ معه سلة من عنب وتين ، ومعه سقاء جديد ، فيه ماء ، فلما [ ص: 310 ] بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى [والمساجد ] نظر إلى خراب لا يوصف [فلما رأى هدم بيت المقدس كالجبل العظيم ] قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ثم نزل منها منزلا ، وربط حماره ، [وعلق سقاءه ] فألقى الله عليه النوم ، ونزع روحه مائة عام ، فلما مر منها سبعون عاما ، أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس ، عظيم ، فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك ، فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أعمر ما كانت ، [فقال الملك: أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب لهذا العمل ، ولما يصلحه من أداة العمل ، فأنظره ثلاثة أيام ] فانتدب ثلاثمائة قهرمان ، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل ، وما يصلحه من أداة العمل [فسار إليها قهارمته ومعهم ثلاثمائة ألف عامل ] فلما وقعوا في العمل ، رد الله روح الحياة في عيني أرميا ، وآخر جسده ميت ، فنظر إليها تعمر ، فلما تمت بعد ثلاثين سنة; رد الله إليه الروح ، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنه [ونظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب ، ونظر إلى الرمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة ، وقد أتى على ذلك ريح مائة عام ، وبرد مائة عام ، وحر مائة عام لم تتغير ولم تنتقص شيئا ، وقد نحل جسم أرميا من البلى ، فأنبت الله له لحما جديدا ، ونشز عظامه وهو ينظر ، فقال له الله: انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ، وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس ، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير ] . وزعم مقاتل أن هذه القصة كانت بعد رفع عيسى عليه السلام .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (58)
صــ311 إلى صــ 315
قوله تعالى: (كم لبثت) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم "لبثت" و"لبثتم" في كل القرآن بإظهار التاء ، وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بالإدغام [لبت ] قال أبو علي الفارسي: من بين "لبثت" فلتباين المخرجين ، وذلك أن الظاء والذال والثاء من حيز ، [ ص: 311 ] والطاء والتاء والدال من حيز ، فلما تباين المخرجان ، واختلف الحيزان ، لم يدغم . ومن أدغمها أجراها مجرى المثلين ، لاتفاق الحرفين في أنهما من طرف اللسان ، وأصول الثنايا ، واتفاقهما في الهمس ورأى الذي بينهما من الاختلاف يسيرا ، فأجراهما مجرى المثلين . فأما طعامه وشرابه ، فقال وهب: كان معه مكتل فيه عنب وتين ، وقلة فيها ماء . وقال السدي: كان معه تين وعنب ، وشرابه من العصير ، لم يحمض التين والعنب ، ولم يختمر العصير .
قوله تعالى: (لم يتسنه) قرأ ابن كثير ، ونافع: وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر: (يتسنه) و(اقتده) و(ما أغنى عني ماليه) و(سلطانيه) و(وماهيه) بإثبات الهاء في الوصل . وكان حمزة يحذفهن في الوصل ، ووافقه الكسائي في حذف موضعين (يتسنه) و(اقتده) وكلهم يقف على الهاء . ولم يختلفوا في (كتابيه) و(حسابيه) أنها بالهاء وصلا ووقفا . فأما معنى: (لم يتسنه) فقال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة في آخرين . لم يتغير . وقال ابن قتيبة: لم يتغير بمر السنين عليه ، واللفظ مأخوذ من السنه ، يقال: سانهت النخلة: إذا حملت عاما ، وحالت عاما .
قوله تعالى: وانظر إلى حمارك قال مقاتل: انظر إليه ، وقد ابيضت عظامه ، وتفرقت أوصاله ، فأعاده الله .
قوله تعالى: ولنجعلك آية للناس اللام صلة لفعل مضمر تقديره: فعلنا بك ذلك لنريك قدرتنا ، ولنجعلك آية للناس ، أي: علما على قدرتنا ، فأضمر الفعل لبيان معناه . قال ابن عباس: مات وهو ابن أربعين سنة ، وابنه ابن عشرين سنة ، ثم بعث وهو ابن أربعين ، وابنه ابن عشرين ومائة ، ثم أقبل حتى أتى قومه في بيت المقدس ، فقال لهم: أنا عزير ، فقالوا: [ ص: 312 ] حدثنا آباؤنا أن عزيرا مات بأرض بابل ، فقال لهم: أنا هو أرسلني الله إليكم أجدد لكم توراتكم ، وكانت قد ذهبت ، وليس منهم أحد يقرؤها ، فأملاها عليهم .
قوله تعالى: وانظر إلى العظام قيل: أراد عظام نفسه ، وقيل: عظام حماره ، وقيل: هما جميعا .
قوله تعالى: (كيف ننشزها) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو (ننشرها) بضم النون الأولى ، وكسر الشين وراء مضمومة . ومعناه: نحييها ، يقال: أنشز الله الميت ، فنشرهم . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، ننشزها ، بضم النون مع الزاي ، وهو من النشز الذي هو الارتفاع . والمعنى: نرفع بعضها إلى بعض للحياء . وقرأ الأعمش: ننشزها ، بفتح النون ، ورفع الشين مع الزاي . وقرأ الحسن ، وأبان عن عاصم: ننشرها ، بفتح النون مع الراء ، كأنه من النشر عن الطي ، فكأن الموت طواها ، والإحياء نشرها .
قوله تعالى: (فلما تبين له) أي: بان له إحياء الموتى (قال أعلم) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر: "أعلم" مقطوعة الألف ، مضمومة الميم . والمعنى: قد علمت ما كنت أعلمه غيبا مشاهدة . وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف ، وسكون الميم على معنى الأمر ، والابتداء على قراءتهما بكسر الهمزة ، وظاهر الكلام أنه أمر من الله له . وقال أبو علي: نزل نفسه منزلة غيره ، فأمرها وخاطبها . وقرأ الجعفي عن أبي بكر ، قال: "اعلم" بكسر اللام على معنى الأمر بإعلام الغيرش .
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم [ ص: 313 ] قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى في سبب سؤاله هذا أربعة أقوال . أحدها: أنه رأى ميتة تمزقها الهوام والسباع ، فسأل هذا السؤال ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وابن جريج ، ومقاتل . وما الذي كانت هذه الميتة؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها: كان رجلا ميتا ، قاله ابن عباس . والثاني: كان جيفة حمار ، قاله ابن جريج ، ومقاتل . والثالث: كان حوتا ميتا ، قاله ابن زيد . والثاني: أنه لما بشر باتخاذ الله له خليلا ، سأل هذا السؤال ليعلم صحة البشارة ، ذكره السدي عن ابن مسعود ، وابن عباس . وروي عن سعيد بن جبير أنه لما بشر بذلك ، قال: ما علامة ذلك؟ قال: أن يجيب الله دعاءك ، ويحيي الموتى بسؤالك ، فسأل هذا السؤال . والثالث: أنه سأل ذلك ليزيل عوارض الوسواس ، وهو قول عطاء بن أبي رباح . والرابع: أنه لما نازعه نمرود في إحياء الموتى ، سأل ذلك ليرى ما أخبر به عن الله ، وهذا قول محمد بن إسحاق .
قوله تعالى: (أولم تؤمن) أي: أولست قد آمنت أني أحيي الموتى؟ وقال ابن جبير: ألم توقن بالخلة؟
قوله تعالى: (بلى ولكن ليطمئن قلبي) "اللام" متعلقة بفعل مضمر ، تقديره: ولكن سألتك ليطمئن ، أو أرني ليطمئن قلبي ، ثم في المعنى أربعة أقوال . أحدها: لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، قاله ابن عباس . والثاني: ليزداد قلبي يقينا ، قاله سعيد بن جبير . وقال الحسن: كان إبراهيم موقنا ، ولكن ليس الخبر كالمعاينة . والثالث: ليطمئن قلبي بالخلة ، روي عن ابن جبير أيضا . والرابع: أنه كان قلبه متعلقا برؤية إحياء الموتى ، فأراد: ليطمئن قلبه بالنظر ، قاله ابن قتيبة . وقال غيره: كانت نفسه تائقة إلى رؤية ذلك ، وطالب الشيء قلق إلى أن يظفر بطلبته ، يدل على أنه لم يسأل لشك ، أنه قال: (أرني كيف تحي الموتى) وما قال: هل تحيي الموتى .
[ ص: 314 ] قوله تعالى: فخذ أربعة من الطير في الذي أخذ سبعة أقوال . أحدها: أنها الحمامة ، والديك ، والكركي ، والطاووس ، رواه عبد الله بن هبيرة عن ابن عباس . والثاني: أنها الطاووس ، والديك ، والدجاجة السندية ، والأوزة ، رواه الضحاك عن ابن عباس . وفي لفظ آخر ، رواه الضحاك مكان الدجاجه السندية الرأل ، وهو فرخ النعام . والثالث: أنها الشعانين ، وكانت قرباهم يومئذ ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والرابع: أنها الطاووس ، والنسر ، والغراب ، والديك ، نقل عن ابن عباس أيضا . والخامس: أنها الديك ، والطاووس والغراب ، والحمام ، قاله عكرمة ، ومجاهد ، وعطاء وابن جريج ، وابن زيد . والسادس: أنها ديك ، وغراب ، وبط ، وطاووس ، رواه ليث عن مجاهد . والسابع: أنها الديك ، والبطة ، والغراب ، والحمامة ، قاله مقاتل . وقال عطاء الخراساني: أوحى الله إليه أن خذ بطة وغرابا أسود ، وحمامة بيضاء ، وديكا أحمر .
قوله تعالى: (فصرهن إليك) قرأ الجمهور بضم الصاد ، والمعنى: أملهن إليك ، يقال: صرت الشيء فانصار ، أي: أملته فمال ، وأنشدوا:
الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى جيراننا صور
فمعنى الكلام: اجمعهن إليك . ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا فيه إضمار قطعهن . قال ابن قتيبة: أضمر "قطعهن" واكتفى بقوله: ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا عن قوله "قطعهن" لأنه يدل عليه ، وهذا كما تقول: خذ هذا الثوب ، واجعل على كل رمح عندك منه علما . يريد: قطعه ، وافعل ذلك ، وقرأ أبو جعفر ، وحمزة ، وخلف ، [ ص: 315 ] والمفضل ، عن عاصم (فصرهن إليك) بكسر الصاد . قال اليزيدي: هما واحد ، وقال ابن قتيبة: الكسر والضم لغتان . قال الفراء: أكثر العرب على ضم الصاد ، وحدثني الكسائي أنه سمع بعض بني سليم يقول: صرته ، فأنا أصيره . وروي عن ابن عباس ، ووهب ، وأبي مالك ، وأبي الأسود الدؤلي ، والسدي ، أن معنى المكسورة الصاد: قطعهن . وروي عن أبي عبيدة أنه قال: معناه بالضم: اجمعهن ، وبالكسر: قطعهن .
قوله تعالى: ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا قال الزجاج: معناه: اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا . وروي عوف عن الحسن قال: اذبحهن ونتفهن ، ثم قطعهن أعضاء ، ثم خلط بينهن جميعا ، ثم جزئها أربعة أجزاء ، وضع على كل جبل جزءا . ثم تنحى عنهن ، فدعاهن ، فجعل يعدو كل عضو إلى صاحبه حتى استوين كما كن ، ثم أتينه يسعين . وقال قتادة: أمسك رؤوسها بيده ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبضعة إلى البضعة ، وهو يرى ذلك ، ثم دعاهن ، فأقبلن على أرجلهن يلقي لكل طائر رأسه . وفي عدد الجبال التي قسمن عليها قولان . أحدهما: أنه قسمهن على أربعة أجبل ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة . وروي عن ابن عباس قال: جعلهن أربعة أجزاء في أرباع الأرض ، كأنه يعني جهات الإنسان الأربع . والثاني: أنه قسمهن سبعة أجزاء على سبعة أجبل ، قاله ابن جريج ، والسدي .
قوله تعالى: ثم ادعهن يأتينك سعيا قال ابن قتيبة: يقال: عدوا ، ويقال: مشيا على أرجلهن ، ولا يقال: لطير إذا طار: سعى (واعلم أن الله عزيز) أي: منيع لا يغلب ، (حكيم) فيما يدبر . ويزعم مقاتل أن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشام قبل أن يكون له ولد ، وقبل نزول الصحف عليه ، وهو ابن خمس وسبعين سنة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (59)
صــ316 إلى صــ 320
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [ ص: 316 ] قوله تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله حدثنا عن ثعلب أنه قال: إنما المثل - والله أعلم - للنفقة ، لا للرجال ، ولكن العرب إذا دل المعنى على ما يريدون ، حذفوا ، مثل قوله تعالى: وأشربوا في قلوبهم العجل فأضمر "الحب" لأن المعنى معلوم ، فكذلك هاهنا . أراد: مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم . ونحو هذا قوله تعالى: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم [ آل عمران: 18 ] . يريد: بخل الباخلين ، فحذف البخل . وفي المراد: بـ "سبيل" الله قولان . أحدهما: أنه الجهاد . والثاني: أنه جميع أبواب البر . قال أبو سليمان الدمشقي . والآية مردودة على قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم وقد أعلم الله عز وجل بضرب هذا المثل ، أن الحسنة في النفقة في سبيله تضاعف بسبعمائة ضعف . وقال الشعبي: نفقة الرجل على نفسه وأهل بيته تضاعف سبعمائة ضعف . قال ابن زيد: (والله يضاعف لمن يشاء) أي: يزيد على السبعمائة .
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله قال ابن السائب ومقاتل: نزلت في عثمان بن عفان في نفقته في غزوة تبوك ، وشرائه بئر رومة ، ركية بالمدينة ، تصدق بها على المسلمين . وفي عبد الرحمن بن عوف حين تصدق بأربعة آلاف درهم ، وكانت [ ص: 317 ] نصف ماله . وأما المن ففيه قولان . أحدها: أنه المن على الفقير ، ومثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك ، وهو قول الجمهور . والثاني: أنه المن على الله بالصدقة ، روي عن ابن عباس . فإن قيل: كيف مدحهم بترك المن ، ووصف نفسه بالمنان؟ فالجواب: أنه يقال: من فلان على فلان: إذا أنعم عليه ، فهذا الممدوح ، قال الشاعر:
فمني علينا بالسلام فإن ما كلامك ياقوت ودر منظم
أراد بالمن الإنعام . وأما الوجه المذموم ، فهو أن يقال: من فلان على فلان: إذا استعظم ما أعطاه ، وافتخر بذلك ، قال الشاعر في ذلك:
أنلت قليلا ثم أسرعت منة فنيلك ممنون كذاك قليل
ذكر ذلك أبو بكر الأنباري . وفي الأذى قولان . أحدهما: أنه مواجهة الفقير بما يؤذيه ، مثل أن يقول له: أنت أبدا فقير ، وقد بليت بك ، وأراحني الله منك ، والثاني: [ ص: 318 ] أن يخبر بإحسانه إلى الفقير ، من يكره الفقير اطلاعه على ذلك ، وكلا القولين يؤذي الفقير وليس من صفة المخلصين في الصدقة . ولقد حدثنا عن حسان بن أبي سنان أنه كان يشتري أهل بيت الرجل وعياله ، ثم يعتقهم جميعا ، ولا يتعرف إليهم ، ولا يخبرهم من هو .
قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم .
قوله تعالى: (قول معروف) أي: قول جميل للفقير ، مثل أن يقول له: يوسع الله عليك (ومغفرة) أي: يستر على المسلم خلته وفاقته ، وقيل: أراد بالمغفرة التجاوز عن السائل إن استطال على المسؤول وقت رده (خير من صدقة يتبعها أذى) وقد سبق بيانه .
يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين .
قوله تعالى: لا تبطلوا صدقاتكم أي: لا تبطلوا ثوابها ، كما تبطل ثواب صدقة المرائي الذي لا يؤمن بالله ، وهو المنافق (فمثله) أي: مثل نفقته ، كمثل صفوان ، قال ابن قتيبة: الصفوان: الحجر ، والوابل: أشد المطر ، والصلد: الأملس . وقال الزجاج: الصفوان: الحجر الأملس ، وكذلك الصفا . وقال ثعلب: الصلد: النقي . وروي عن ابن عباس ، وقتادة (فتركه صلدا) قالا: ليس عليه شيء . وهذا مثل ضربه الله تعالى للمرائي بنفقته ، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء مما أنفق .
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير .
قوله تعالى: ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله أي: طلبا لرضاه . وفي معنى التثبيت قولان . أحدهما: أنه الإنفاق على يقين وتصديق ، وهذا قول الشعبي ، وقتادة ، [ ص: 319 ] والسدي ، في آخرين . والثاني: أنه التثبيت لارتياد محل الإنفاق ، فهم ينظرون أين يضعونها ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، وأبي صالح .
قوله تعالى: (كمثل جنة) الجنة: البستان وقرأ مجاهد ، وعاصم الجحدري "حبة" بالحاء . والربوة: ما ارتفع . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي "بربوة" بضم الراء . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، بفتح الراء ، وقرأ الحسن والأعمش بكسر الراء ، وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، برباوة ، بزيادة ألف ، وفتح الراء ، وقرأ أبي بن كعب ، وعاصم الجحدري كذلك ، إلا أنهما ضما الراء ، وكذلك خلافهم في "المؤمنين" قال الزجاج: يقال: ربوة وربوة وربوة ورباوة . والموضع المرتفع من الأرض ، إذا كان له ما يرويه من الماء ، فهو أكثر ريعا من السفل . وقال ابن قتيبة: الربوة الارتفاع ، وكل شيء ارتفع وزاد ، فقد ربا ، ومنه الربا في البيع .
قوله تعالى: (فآتت أكلها) قرأ ابن كثير ، ونافع: أكلها . والأكل بسكون الكاف حيث وقع ، ووافقهما أبو عمرو ، فيما أضيف إلى مؤنث ، مثل: (أكلها دائم) فأما ما أضيف إلى مذكر مثل: أكله؟ أو كان غير مضاف إلى مكنى: مثل (أكل خمط) فثقله أبو عمرو . وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي جميع ذلك مثقلا . وأكلها ، أي: ثمرها . (ضعفين) أي: مثلين . فأما "الظل" فقال ابن قتيبة: هو أضعف المطر ، وقال الزجاج: هو المطر الدائم ، الصغار القطر الذي لا تكاد تسيل منه المثاعب . قال ثعلب: وهذا لفظ مستقبل وهو لأمر ماض ، فمعناه: فإن لم يكن أصابها وابل فطل . ومعنى هذا المثل: أن صاحب [ ص: 320 ] هذه الجنة لا يخيب ، فإنها إن أصابها الطل حسنت ، وإن أصابها الوابل أضعفت ، فكذلك نفقة المؤمن المخلص . والبصير من أسماء الله تعالى معناه: المبصر . قال الخطابي: وهو فعيل بمعنى مفعل ، كقولهم: أليم بمعنى مؤلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (60)
صــ321 إلى صــ 325
أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون .
قوله تعالى: (أيود أحدكم) هذه الآية متصلة بقوله تعالى: لا تبطلوا صدقاتكم ومعنى: "أيود" أيحب ، وإنما ذكر النخيل والأعناب ، لأنهما من أنفس ما يكون في البساتين ، وخص ذلك بالكبير ، لأنه قد يئس من سعي الشباب في أكسابهم .
قوله تعالى: (وله ذرية ضعفاء) أي: ضعاف ، وإذا ضعفت الذرية كان أحنى عليهم ، وأكثر إشفاقا (فأصابها) يعني: الجنة (إعصار) وهي ريح شديدة ، تهب بشدة ، فترفع إلى السماء ترابا ، كأنه عمود .
قال الشاعر:
إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا
أي: لاقيت أشد منك . فإن قيل: كيف جاز في الكلام أن يكون له جنة فأصابها ، ولم يقل: فيصيبها؟ أفيجوز أن يقال: أتود أن يصيب مالا ، فضاع ، والمراد: فيضيع؟ فالجواب: أن ذلك جائز في "وددت" لأن العرب تلقاها مرة "أن" ومرة "لو" ، [ ص: 321 ] فيقولون: وددت لو ذهبت عنا ، وددت أن تذهب عنا ، قاله الفراء ، وثعلب .
فصل
وهذه الآية مثل ضربه الله تعالى في الحسرة بسلب النعمة عند شدة الحاجة . وفيمن قصد به ثلاثة أقوال . أحدها: أنه مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه مثل للمفرط في طاعة الله تعالى حتى يموت ، قاله مجاهد . والثالث: أنه مثل للمرائي في النفقة ، ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه ، قاله السدي .
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد .
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم في سبب نزولها قولان . أحدهما: أن الأنصار كانوا إذا جذوا النخل ، جاء كل رجل بشيء من ذلك فعلقه في المسجد ، فيأكل منه فقراء المهاجرين ، وكان أناس ممن لا يرغب في الخير يجيء أحدهم بالقنو فيه الحشف والشيص ، [ ص: 322 ] فيعلقه ، فنزلت هذه الآية . هذا قول البراء بن عازب . والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر بزكاة الفطر ، فجاء رجل بتمر رديء ، فنزلت هذه الآية . هذا قول جابر بن عبد الله . وفي المراد بهذه النفقة قولان . أحدهما: أنها الصدقة المفروضة ، قاله عبيدة السلماني في آخرين . والثاني: أنها التطوع . وفي المراد بالطيب هاهنا قولان . أحدهما: أنه الجيد الأنفس ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه الحلال ، قاله أبو معقل في آخرين .
قوله تعالى: (ولا تيمموا) أي: لا تقصدوا . والتيمم في اللغة: القصد . قال ميمون بن قيس الأعشى
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن
وفي الخبيث قولان . أحدهما: أنه الرديء ، قاله الأكثرون ، وسبب الآية يدل عليه . والثاني: أنه الحرام ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى: ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه قال ابن عباس: لو كان بعضكم يطلب من بعض حقا له ، ثم قضاه ذلك ، ولم يأخذه إلى أن يرى أنه قد أغمض عن بعض [ ص: 323 ] حقه . وقال ابن قتيبة: أصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء ، ويغمضه ، فسمي الترخص إغماضا . ومنه قول الناس للبائع: أغمض ، أي: لا تشخص ، وكن كأنك لا تبصر . وقال غيره: لما كان الرجل إذا رأى ما يكره ، أغمض عينيه ، لئلا يرى جميع ما يكره; جعل التجاوز والمساهلة في كل شيء إغماضا .
قوله تعالى: واعلموا أن الله غني قال الزجاج: لم يأمركم بالتصدق عن عوز ، لكنه بلا أخباركم ، فهو حميد على ذلك . يقال: قد غني زيد ، يغنى غنى مقصور: إذا استغنى ، وقد غني القوم: إذا نزلوا في مكان يغنيهم ، والمكان الذي ينزلون فيه مغنى . والغواني: النساء ، قيل: إنما سمين بذلك ، لأنهن غنين بجمالهن ، وقيل: بأزواجهن فأما "الحميد" فقال الخطابي: هو بمعنى المحمود ، فعيل بمعنى مفعول .
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم .
قوله تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر) قال الزجاج: يقال: وعدته أعده وعدا وعدة وموعدا وموعدة وموعودا ، ويقال: الفقر ، والفقر . ومعنى الكلام: يحملكم على أن تؤدوا في الصدقات الرديء ، يخوفكم الفقر بإعطاء الجيد . ومعنى: يعدكم الفقر ، أي: بالفقر ، وحذفت الباء . قال الشاعر:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وفي الفحشاء قولان . أحدهما: البخل . والثاني: المعاصي . قال ابن عباس: والله يعدكم مفغرة لفحشائكم ، وفضلا في الرزق .
[ ص: 324 ] يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب .
قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء في المراد بهذه الحكمة أحد عشر قولا . أحدها: أنها القرآن ، قاله ابن مسعود ، ومجاهد ، والضحاك ، ومقاتل في آخرين . والثاني: معرفة ناسخ القرآن ، ومنسوخه ، ومحكمه ، ومتشابهه ، ومقدمه ، ومؤخره ، ونحو ذلك ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث: النبوة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والرابع: الفهم في القرآن ، قاله أبو العالية ، وقتادة ، وإبراهيم . والخامس: العلم والفقه ، رواه ليث عن مجاهد . والسادس: الإصابة في القول ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد . والسابع الورع في دين الله ، قاله الحسن . والثامن: الخشية لله ، قاله الربيع بن أنس . والتاسع: العقل في الدين ، قاله ابن زيد . والعاشر: الفهم ، قاله شريك . والحادي عشر: العلم والعمل ، لا يسمى الرجل حكيما إلا إذا جمعهما ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى: ومن يؤت الحكمة قرأ يعقوب بكسر تاء "يؤت" ، ووقف عليها بهاء . والمعنى: ومن يؤته الله الحكمة . وكذلك هي في قراءة ابن مسعود بهاء بعد التاء .
قوله تعالى: (وما يذكر) قال الزجاج: أي: وما يتفكر فكرا يذكره به ما قص من آيات القرآن إلا ذوو العقول . قال ابن قتيبة: "أولو" بمعنى: ذوو ، وواحد "أولو" "ذو" و"أولات": "ذات" .
وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار .
قوله تعالى: (أو نذرتم من نذر) النذر: ما أوجبه الإنسان على نفسه ، وقد يكون مطلقا ، ويكون معلقا بشرط (فإن الله يعلمه) قال مجاهد: يحصيه ، وقال الزجاج: يجازى عليه . وفي المراد بالظالمين هاهنا ، قولان . أحدهما: أنهم المشركون ، قاله مقاتل . الثاني: [ ص: 325 ] المنفقون بالمن والأذى والرياء ، والمنذرون في المعصية ، قاله أبو سليمان الدمشقي . والأنصار: المانعون . فمعناه: ما لهم مانع يمنعهم من عذاب الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (61)
صــ326 إلى صــ 330
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير .
قوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي قال ابن السائب: لما نزل قوله تعالى: وما أنفقتم من نفقة قالوا: يا رسول الله ، صدقة السر أفضل ، أم العلانية؟ فنزلت هذه الآية قال الزجاج ، يقال: بدا الشيء يبدو: إذا ظهر ، وأبديته إبداء: إذا أظهرته ، وبدا لي بداء: إذا تغير رأيي عما كان عليه .
قوله تعالى: (فنعما هي) في "نعم" أربع لغات . "نعم" بفتح النون ، وكسر العين ، مثل: علم . و"نعم" بكسرها ، و"نعم" بفتح النون ، وتسكين العين ، و"نعم" بكسر النون وتسكين العين . وأما قوله (فنعما هي) فقرأ نافع في غير رواية "ورش" وأبو عمرو ، وعاصم في رواية أبي بكر ، والمفضل: "فنعما" بكسر النون ، والعين ساكنة . وقرأ ابن كثير ، وعاصم في رواية حفص ، ونافع في رواية "ورش" ، ويعقوب بكسر النون والعين . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف: "فنعما" بفتح النون ، وكسر العين ، وكلهم شددوا الميم . وكذلك خلافهم في سورة النساء . قال الزجاج: "ما" في تأويل الشيء ، أي: فنعم الشيء هي . وقال أبو علي: نعم الشيء إبداؤها . وقوله تعالى: (فهو خير لكم) يعني الإخفاء . واتفق العلماء على أن إخفاء الصدقة النافلة أفضل من إظهارها ، وفي الفريضة قولان . أحدهما: أن إظهارها [ ص: 326 ] أفضل ، قاله ابن عباس في آخرين . واختاره القاضي أبو يعلى . وقال الزجاج: كان إخفاء الزكاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن فأما اليوم ، فالناس يسيؤون الظن ، فإظهارها أحسن . والثاني: إخفاؤها أفضل ، قاله الحسن ، وقتادة ، ويزيد بن أبي حبيب . وقد حمل أرباب القول الأول الصدقات في الآية على الفريضة ، وحملوا (وإن تخفوها) على النافلة ، وهذا قول عجيب . وإنما فضلت صدقة السر لمعنيين . أحدهما: يرجع إلى المعطي ، وهو بعده عن الرياء ، وقربه من الإخلاص ، والإعراض عما تؤثر النفس من العلانية . والثاني: يرجع إلى المعطى ، وهو دفع الذل عنه بإخفاء الحال ، لأنه في العلانية ينكسر .
قوله تعالى: ويكفر عنكم من سيئاتكم قرأ ابن كثير ، وأبو عمر ، وأبو بكر عن عاصم (ونكفر عنك) بالنون والرفع ، والمعنى: ونحن نكفر عنكم ، ويجوز أن يكون مستأنفا . وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي: "ونكفر" بالنون وجزم الراء . قال أبو علي: وهذا على حمل الكلام على موضع قوله: (فهو خير لكم) لأن قوله: (فهو خير لكم) في موضع جزم ، ألا ترى أنه لو قال: وإن تخفوها يكون أعظم لأجركم لجزم ، ومثله لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن [ المنافقون: 10 ] . حمل قوله . "وأكن" على موضع "فأصدق" . وقرأ ابن عامر: "ويكفر" بالياء والرفع ، وكذلك عن حفص عن عاصم على الكناية عن الله عز وجل ، وقرأ أبان عن عاصم ، "وتكفر" بالتاء المرفوعة ، وفتح الفاء مع تسكين الراء .
قوله تعالى: (من سيئاتكم) في "من" قولان . أحدهما: أنها زائدة . والثاني: أنها داخلة للتبعيض . قال أبو سليمان الدمشقي: ووجه الحكمة في ذلك أن يكون العباد على خوف ووجل .
ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون [ ص: 327 ] قوله تعالى: ليس عليك هداهم) في سبب نزولها قولان . أحدهما: أن المسلمين كرهوا أن يتصدقوا على أقربائهم من المشركين ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول الجمهور . والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم" فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير . والخير في الآية ، أريد به المال ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . ومعنى: (فلأنفسكم) أي: فلكم ثوابه .
قوله تعالى: وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله قال الزجاج: هذا خاص للمؤمنين ، أعلمهم الله أنه قد علم أن مرادهم ما عنده ، وإذا أعلمهم بصحة قصدهم ، فقد أعلمهم بالجزاء عليه .
قوله تعالى: (يوف إليكم) أي: توفون أجره ومعنى الآية: ليس عليك أن يهتدوا ، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام ، فإن تصدقتم عليهم أثبتم ، والآية محمولة على صدقة التطوع ، إذ لا يجوز أن يعطى الكافر من الصدقة المفروضة شيئا .
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم .
قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لما حثهم على الصدقات والنفقات ، دلهم على خير من تصدق عليه . وقد تقدم تفسير الإحصار عند قوله: فإن أحصرتم [ البقرة: 11 ] وفي المراد بـ "الذين أحصروا" أربعة أقوال . أحدها: أنهم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله ، ولم يكن لهم شيء ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني: أنهم فقراء المهاجرين ، قاله مجاهد .
[ ص: 328 ] . والثالث: أنهم قوم حبسوا أنفسهم على الغزو ، فلا يقدرون على الاكتساب ، قاله قتادة . والرابع: أنهم قوم أصابتهم جراحات مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فصاروا زمنى ، قاله سعيد بن جبير ، واختاره الكسائي ، وقال: أحصروا من المرض ، ولو أراد الحبس ، لقال: حصروا ، وإنما الإحصار من الخوف ، أو المرض . والحصر: الحبس في غيرهما . وفي سبيل الله قولان . أحدهما: أنه الجهاد ، والثاني: الطاعة . وفي الضرب في الأرض قولان . أحدهما: أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم ، نقل عن ابن عباس . والثاني: الكسب ، قاله قتادة . وفي الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال . أحدها: الفقر ، قاله ابن عباس . والثاني: أمراضهم ، قاله ابن جبير ، وابن زيد . والثالث: التزامهم بالجهاد ، قاله الزجاج .
قوله تعالى: (يحسبهم الجاهل) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائي "يحسبهم" و"يحسبن" بكسر السين في جميع القرآن . وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وأبو جعفر بفتح السين في الكل . قاله أبو علي: فتح السين أقيس ، لأن الماضي إذا كان على "فعل" ، نحو: حسب ، كان المضارع على "يفعل" ، مثل: فرق يفرق ، وشرب يشرب ، والكسر حسن لموضع السمع . قاله ابن قتيبة: لم يرد الجهل الذي هو ضد العقل ، إنما أراد الجهل الذي هو ضد الخبر ، فكأنه قال: يحسبهم من لا يخبر أمرهم . والتعفف: ترك السؤال ، يقال: عف عن الشيء وتعفف . والسيما: العلامة التي يعرف بها الشيء ، وأصله من السمة . وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال . أحدها: تجملهم ، قاله ابن عباس . والثاني: خشوعهم ، قاله مجاهد . والثالث: أثر الفقر عليهم ، قاله السدي والربيع بن أنس ، وهذا يدل على أن للسيما حكما يتعلق بها . قال إمامنا أحمد في الميت يوجد في دار [ ص: 329 ] الحرب ، ولا يعرف أمره: ينظر إلى سيماه ، فإن كان عليه سيما الكفار من عدم الختان ، حكم له بحكمهم ، فلم يدفن في مقابر المسلمين ، ولم يصل عليه ، وإن كان عليه سيما المسلمين حكم له بحكمهم . وأما الإلحاف ، فهو: الإلحاح ، قال ابن قتيبة: يقال: ألحف في المسألة: إذا ألح ، وقال الزجاج: معنى ألحف: شمل بالمسألة ، ومنه اشتقاق اللحاف ، لأنه يشمل الإنسان بالتغطية ، فإن قيل: فهل كانوا يسألون غير ملحفين؟ فالجواب: أن لا ، وإنما معنى الكلام: أنه لم يكن منهم سؤال ، فيكون إلحاف .
قال الأعشى:
لا يغمز الساق من أين ولا وصب ولا يعض على شرسوفه الصفر
معناه: ليس بساقه أين ولا وصب ، فيغمزها لذلك . قال الفراء: ومثله أن تقول: قلما رأيت مثل هذا الرجل ، ولعلك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه ، فهم لا يسألون الناس إلحافا ، ولا غير إلحاف . وإلى نحو هذا ذهب الزجاج ، وابن الأنباري في آخرين .
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال . أحدها: أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله عز وجل ، رواه حنش الصنعاني عن ابن عباس [ ص: 330 ] وهو قول أبي الدرداء ، وأبي أمامة ، ومكحول ، والأوزاعي في آخرين . والثاني: نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإنه كان معه أربعة دراهم ، فأنفق في الليل درهما وبالنهار درهما ، وفي السر درهما ، وفي العلانية درهما ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وابن السائب ، ومقاتل . والثالث: أنها نزلت في علي ، وعبد الرحمن بن عوف ، فإن عليا بعث بوسق من تمر إلى أهل الصفة ليلا ، وبعث عبد الرحمن إليهم بدنانير كثيرة نهارا ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (62)
صــ331 إلى صــ 335
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
قوله تعالى: الذين يأكلون الربا الربا: أصله في اللغة: الزيادة ، ومنه الربوة والرابية ، وأربى فلان على فلان: زاد . وهذا الوعيد يشمل الآكل ، والعامل به ، وإنما خص الآكل بالذكر ، لأنه معظم المقصود . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه "لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه" .
قوله تعالى: (لا يقومون) قال ابن قتيبة أي: يوم البعث من القبور . والمس: الجنون ، يقال: رجل ممسوس . فالناس إذا خرجوا من قبورهم أسرعوا كما قال تعالى: يوم يخرجون من الأجداث سراعا [ المعارج: 43 ] . إلا أكلة الربا ، فإنهم يقومون ويسقطون ، لأن الله أربى الربا في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم ، فلا يقدرون على الإسراع . وقال سعيد بن جبير : تلك علامة آكل الربا إذا استحله يوم القيامة .
[ ص: 331 ] قوله تعالى: (ذلك) أي: هذا الذي ذكر من عقابهم (بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) وقيل: إن ثقيفا كانوا أكثر العرب ربا ، فلما نهوا عنه; قالوا: إنما هو مثل البيع .
قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه قال الزجاج: كل تأنيث ليس بحقيقي ، فتذكيره جائز ، ألا ترى أن الوعظ والموعظة معبران عن معنى واحد .
قوله تعالى: (فله ما سلف) أي: ما أكل من الربا .
وفي قوله تعالى: (وأمره إلى الله) قولان . أحدهما: أن "الهاء" ترجع إلى المربي ، فتقديره: إن شاء عصمه منه ، وإن شاء لم يفعل ، قاله سعيد بن جبير ، ومقاتل . والثاني: أنها ترجع إلى الربا ، فمعناه: يعفو الله عما شاء منه ، ويعاقب على ما شاء منه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
قوله تعالى: (ومن عاد) قاله ابن جبير: من عاد إلى الربا مستحلا محتجا بقوله تعالى: إنما البيع مثل الربا .
يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
قوله تعالى: (يمحق الله الربا) فيه قولان . أحدهما: أن معنى محقه: تنقيصه واضمحلاله ، ومنه: محاق الشهر لنقصان الهلال فيه . روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير . والثاني: أنه إبطال ما يكون منه من صدقة ونحوها ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
قوله تعالى: (ويربي الصدقات) قال ابن جبير: يضاعفها . والكفار: الذي يكثر فعل ما يكفر به ، والأثيم: المتمادي في ارتكاب الإثم المصر عليه .
[ ص: 332 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين .
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا في نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف ، وفي بني المغيرة من بني مخزوم ، وكان بنو المغيرة يأخذون الربا من ثقيف ، فلما وضع الله الربا ، طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم ، فنزلت هذه الآية ، والتي بعدها ، هذا قول ابن عباس . والثاني: أنها نزلت في عثمان بن عفان ، والعباس ، كانا قد أسلفا في التمر ، فلما حضر الجذاذ ، قال صاحب التمر: إن أخذتما مالكما ، لم يبق لي ولعيالي ما يكفي ، فهل لكما أن تأخذا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا ، فلما حل الأجل ، طلبا الزيادة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فنهاهما ، فنزلت هذه الآية ، هذا قول عطاء وعكرمة . والثالث: أنها نزلت في العباس ، وخالد بن الوليد ، وكانا شريكين في الجاهلية ، وكانا يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ، ولهما أموال عظيمة في الربا ، فنزلت هذه الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس" هذا قول السدي . قال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك: إنما قال: (ما بقي من الربا) لأن كل ربا كان قد ترك ، فلم يبق إلا ربا ثقيف . وقال قوم: الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه ، وقبض بعضه في كفره ، ثم أسلم ، فيجب عليه أن يترك ما بقي ، ويعفى له عما مضى . فأما المراباة بعد الإسلام ، فمردوده فيما قبض ، ويسقط ما بقي .
[ ص: 333 ] فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .
قوله تعالى: فإن لم تفعلوا فأذنوا قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر (فأذنوا) مقصورة ، مفتوحة الذال . وقرأ حمزة ، وأبو بكر عن عاصم: "فآذنوا" بمد الألف وكسر الذال . قال الزجاج: من قرأ: فأذنوا ، بقصر الألف ، وفتح الذال ، فالمعنى: أيقنوا . ومن قرأ بمد الألف ، وكسر الذال ، فمعناه: أعلموا كل من لم يترك الربا أنه حرب . قال ابن عباس: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب .
[ ص: 334 ] قوله تعالى: وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون أي: التي أقرضتموها ، لا تظلمون ، فتأخذون أكثر منها ، ولا تظلمون فتنقصون منها ، والجمهور على فتح "تاء" تظلمون الأولى ، وضم "تاء" تظلمون الثانية . وروى المفضل عن عاصم: ضم الأولى ، وفتح الثانية .
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون .
قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة) ذكر ابن السائب ، ومقاتل أنه لما نزل قوله تعالى: وذروا ما بقي من الربا قال بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا ، وندع لكم الربا ، فشكا بنو المغيرة العسرة ، فنزلت هذا الآية . فأما العسرة ، فهي الفقر ، والضيق . والجمهور على تسكين السين ، وضمها أبو جعفر هاهنا ، وفي (ساعة العسرة) وقرأ الجمهور بفتح سين "الميسرة" وضمها نافع ، وتابعه زيد عن يعقوب على ضم السين ، إلا أنه زاد ، فكسر الراء ، وقلب التاء هاء ، ووصلها بباء . قال الزجاج: ومعنى وإن كان: وإن وقع . والنظرة: التأخير ، فأمرهم بتأخير رأس المال بعد إسقاط الربا إذا كان المطالب معسرا ، وأعلمهم أن الصدقة عليه بذلك أفضل بقوله تعالى: (وأن تصدقوا) والأكثرون على تشديد الصاد ، وخففها عاصم مع تشديد الدال . وسكنها ابن أبي عبلة مع ضم الدال فجعله من الصدق .
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون قوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله قرأ أبو عمرو بفتح تاء "ترجعون" وضمها الباقون . قاله ابن عباس ، وأبو سعيد الخدري ، وسعيد بن جبير ، وعطية ، ومقاتل في آخرين: هذه آخر آية نزلت من القرآن . قال ابن عباس: وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها بأحد وثمانين [ ص: 335 ] يوما ، وقال ابن جريج: توفي بعدها بتسع ليال . وقال مقاتل: بسبع ليال . قوله تعالى: ثم توفى كل نفس ما كسبت أي: تعطى جزاء ما كسبت .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (63)
صــ336 إلى صــ 340
يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم [ ص: 336 ] قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين قال الزجاج: يقال: داينت الرجل إذا عاملته ، فأخذت منه بدين ، وأعطيته .
قال الشاعر:
داينت أروى والديون تقضى فماطلت بعضا وأدت بعضا
والمعنى: إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمى ، فاكتبوه ، فأمر الله تعالى بكتابة الدين ، وبالإشهاد ، حفظا منه للأموال ، وللناس من الظلم ، لأن من كانت عليه البينة ، قل تحديثه لنفسه بالطمع في إذهابه . وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في السلم خاصة . فإن قيل: ما الفائدة في قوله "بدين" و"تداينتم" يكفي عنه؟ فالجواب: أن تداينتم يقع على معنيين . أحدهما: المشاراة والمبايعة والإقراض . والثاني: المجازاة بالأفعال ، فالأول يقال فيه: الدين بفتح الدال ، والثاني: يقال منه: الدين بكسر الدال . قال تعالى: يسألون أيان يوم الدين [ الذاريات: 12 ] أي: يوم الجزاء .
وأنشدوا:
دناهم كما دانوا
[ ص: 337 ] فدل قوله "بدين" على المراد بقوله "تداينتم" ذكره ابن الأنباري . فأما العدل فهو الحق . قال قتادة: لا تدعن حقا ، ولا تزيدن باطلا .
قوله تعالى: (ولا يأب كاتب) أي: يمتنع أن يكتب كما علمه الله ، وفيه قولان . أحدهما: كما علمه الله الكتابة ، قاله سعيد بن جبير . وقال الشعبي: الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد . والثاني: كما أمره الله به الحق ، قاله الزجاج . قوله تعالى: وليملل الذي عليه الحق قال سعيد بن جبير : يعني المطلوب ، يقول: ليمل ما عليه من حق الطالب على الكاتب ، (ولا يبخس منه شيئا) أي: لا ينقص عند الإملاء . قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أمللت أمل ، وأمليت أملي لغتان ، فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال ، لأن الممل يطيل قوله على الكاتب ويكرره .
قوله تعالى: فإن كان الذي عليه الحق سفيها في المراد بالسفيه هاهنا أربعة أقوال . أحدها: أنه الجاهل بالأموال ، والجاهل بالإملاء . قاله مجاهد ، وابن جبير . والثاني: أنه الصبي والمرأة ، قاله الحسن . والثالث: أنه الصغير ، قاله الضحاك ، والسدي . والرابع: أنه المبذر ، قاله القاضي أبو يعلى . وفي المراد بالضعيف ثلاثة أقوال . أحدها: أنه العاجز والأخرس ، ومن به حمق ، قاله ابن عباس ، وابن جبير . والثاني: أنه الأحمق ، قاله مجاهد ، والسدي . والثالث: أنه الصغير قاله القاضي أبو يعلى .
قوله تعالى: أو لا يستطيع أن يمل هو قاله ابن عباس: لا يستطيع لعيه . وقال ابن جبير: لا يحسن أن يمل ما عليه ، وقال القاضي أبو يعلى: هو المجنون .
قوله تعالى: (فليملل وليه) في هاء الكناية قولان . أحدها: أنها تعود إلى الحق ، فتقديره: فليملل ولي الحق ، هذا قول ابن عباس ، وابن جبير ، والربيع بن أنس ، ومقاتل ، [ ص: 338 ] واختاره ابن قتيبة . والثاني: أنها تعود إلى الذي عليه الحق ، وهذا قول الضحاك ، وابن زيد ، واختاره الزجاج ، وعاب قول الأولين ، فقال: كيف يقبل قول المدعي؟! وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد ، والقول قوله؟! وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضا . والعدل: الإنصاف . وقي قوله تعالى: (من رجالكم) قولان . أحدهما: أنه يعني الأحرار ، قاله مجاهد ، والثاني: أهل الإسلام ، وهذا اختيار الزجاج ، والقاضي أبي يعلى ، ويدل عليه أنه خاطب المؤمنين في أول الآية .
قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين) أراد: فإن لم يكن الشهيدان رجلين (فرجل وامرأتان) ولم يرد به: إن لم يوجد رجلان .
قوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) قال ابن عباس: من أهل الفضل والدين . قوله تعالى: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ذكر الزجاج ، أن الخليل ، وسيبويه ، وسائر النحويين الموثوق بعلمهم ، قالوا: معناه: استشهدوا امرأتين ، لأن تذكر إحداهما الأخرى . ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى . وقرأ حمزة "إن تضل" بكسر الألف . والضلال هاهنا: النسيان ، قاله ابن عباس والضحاك ، والسدي ، والربيع ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة . وأما قوله: "فتذكر" فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بالتخفيف مع نصب الراء ، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف ، وقرأ الباقون بالنصب ، وتشديد الكاف ، فمن شدد أراد الإدكار عند النسيان ، وفي قراءة من خفف قولان . أحدهما: أنها بمعنى المشددة أيضا ، وهذا قول الجمهور . قال الضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي: ومعنى القراءتين واحد . والثاني: أنها بمعنى: تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر ، وهذا مذهب سفيان بن عيينة ، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو نحوه ، واختاره القاضي أبو يعلى ، وقد رده جماعة ، منهم ابن قتيبة . قال أبو علي: ليس مذهب ابن عيينة بالقوي ، لأنهن لو بلغن ما بلغن ، لم تجز شهادتهن إلا أن يكون معهن رجل ، ولأن الضلال هاهنا: النسيان ، فينبغي أن يقابل بما يعادله ، وهو التذكير .
[ ص: 339 ] قوله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا قال قتادة: كان الرجل يطوف في الحواء العظيم ، [فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة ] فلا يتبعه منهم أحد ، فنزلت هذه الآية . وإلى ماذا يكون هذا الدعاء؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها: إلى تحمل الشهادة ، وإثباتها في الكتاب ، قاله ابن عباس ، وعطية ، وقتادة ، والربيع . والثاني: إلى إقامتها وأدائها عند الحكام بعد أن تقدمت شهادتهم بها ، قاله سعيد بن جبير ، وطاووس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والشعبي ، وأبو مجلز ، والضحاك ، وابن زيد . ورواه الميموني عن أحمد بن حنبل . والثالث: إلى تحملها وإلى أدائها ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، واختاره الزجاج ، قال القاضي أبو يعلى: إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره ، فأما إن كان قد تحملها جماعة ، لم تتعين عليه ، وكذلك في حال تحملها ، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد ، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه .
قوله تعالى: (ولا تسأموا) أي: لا تملوا وتضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله ، أي: إلى محل أجله (ذلكم أقسط عند الله) أي: أعدل ، (وأقوم للشهادة) لأن الكتاب يذكر الشهود جميع ما شهدوا عليه (وأدنى) أي: أقرب (ألا ترتابوا) أي: لا تشكوا (إلا أن تكون) الأموال (تجارة) أي: إلا أن تقع تجارة . وقرأ عاصم "تجارة" بالنصب على معنى: إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة ، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل ، فأباح ترك الكتاب فيها توسعة ، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول أو مشروب .
قوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه .
[ ص: 340 ] فصل
وهذه الآية تتضمن الأمر بإثبات الدين في كتاب ، وإثبات شهادة في البيع والدين . واختلف العلماء ، هل هذا أمر وجوب ، أم على وجه الاستحباب؟ فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب فعلى هذا هو محكم ، وذهبت طائفة إلى أن الكتاب والإشهاد واجبان ، روي عن ابن عمر ، وأبي موسى ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وعطاء ، والضحاك ، وأبي قلابة ، والحكم ، وابن زيد . ثم اختلف هؤلاء ، هل هذا الحكم باق ، أم منسوخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (64)
صــ341 إلى صــ 345
قوله تعالى: ولا يضار كاتب ولا شهيد قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من "يضار" وسكونها . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها: أن معناه لا يضار بأن يدعي وهو [ ص: 341 ] مشغول ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، والربيع بن أنس ، والفراء ، ومقاتل . وقال الربيع: كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي ، فيقول: إني مشغول ، فيلزمه ، ويقول: إنك قد أمرت بالكتابة ، فيضاره ، ولا يدعه ، وهو يجد غيره ، وكذلك يفعل الشاهد ، فنزلت ولا يضار كاتب ولا شهيد . والثاني: أن معناه: النهي للكاتب أن يضار من يكتب له ، بأن يكتب غير ، ما يمل عليه وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه ، هذا قول الحسن ، وطاووس ، وقتادة ، وابن زيد ، واختاره ابن قتيبة ، والزجاج . واحتج الزجاج على صحته بقوله تعالى: وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم قال: ولا يسمى من دعا كاتبا ليكتب ، وهو مشغول ، أو شاهد; فاسقا ، إنما يسمى من حرف الكتاب ، أو كذب في الشهادة ، فاسقا . والثالث: أن معنى المضارة: امتناع الكاتب أن يكتب ، والشهادة أن يشهد ، وهذا قول عطاء في آخرين .
قوله تعالى: (وإن تفعلوا) يعني: المضارة .
وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم .
قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر) إنما خص السفر ، لأن الأغلب عدم الكاتب ، والشاهد فيه . ومقصود الكلام: إذا عدمتم التوثق بالكتاب ، والإشهاد ، فخذوا الرهن .
قوله تعالى: فرهان قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعبد الوارث (فرهن) بضم الراء والهاء من غير ألف ، وأسكن الهاء عبد الوارث . ووجهه التخفيف . وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي (فرهان) بكسر الراء ، وفتح الهاء ، وإثبات [ ص: 342 ] الألف . قال ابن قتيبة: من قرأ (فرهان) أراد: جمع رهن ، ومن قرأ (فرهن) أراد: جمع رهان ، فكأنه جمع الجمع .
قوله تعالى: (مقبوضة) يدل على أن من شرط لزوم الرهن القبض ، وقبض الرهن أخذه من راهنه منقولا ، فإن كان مما لا ينقل ، كالدور والأرضين ، فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه .
قوله تعالى: فإن أمن بعضكم بعضا أي: فإن وثق رب الدين بأمانة الغريم ، فدفع ماله بغير كتاب ، ولا شهود ، ولا رهن ، (فليؤد الذي اؤتمن) وهو المدين (أمانته وليتق الله ربه) أن يخون من ائتمنه .
قوله تعالى: (فإنه آثم قلبه) قال السدي عن أشياخه: فإنه فاجر قلبه . قال القاضي أبو يعلى: إنما أضاف الإثم إلى القلب ، لأن المآثم تتعلق بعقد القلب ، وكتمان الشهادة إنما هو عقد النية لترك أدائها .
لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير .
قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله أما إبداء ما في النفس ، فإنه العمل بما أضمره العبد ، أو النطق ، وهذا مما يحاسب عليه العبد ، ويؤاخذ به ، وأما ما يخفيه في نفسه ، فاختلف العلماء في المراد بالمخفي في هذه الآية على قولين . أحدهما: أنه عام في جميع المخفيات ، وهو قول الأكثرين . واختلفوا: هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة ، أم منسوخ؟ على قولين . أحدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة: 286 ] . هذا قول ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وابن عباس في رواية ، والحسن ، والشعبي ، وابن سيرين ، [ ص: 343 ] وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والسدي ، وابن زيد ، ومقاتل . والثاني: أنه ثابت في المؤاخذة على العموم ، فيؤاخذ به من يشاء ، ويغفره لمن يشاء ، وهذا مروي عن ابن عمر ، والحسن ، واختاره أبو سليمان الدمشقي ، والقاضي أبو يعلى . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية لم تنسخ ، ولكن الله عز وجل إذا جمع الخلائق ، يقول لهم: إني مخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ، ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم ، وهو قوله تعالى: (يحاسبكم به الله) يقول: يخبركم به الله ، وأما أهل الشرك والريب ، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، وهو قوله تعالى: فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء .
[ ص: 344 ] والأكثرون على تسكين راء "فيغفر" وباء "يعذب" منهم ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي . وإنما جزموا لإتباع هذا ما قبله ، وهو "يحاسبكم" وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وعاصم ويعقوب: برفع الراء ، والباء فيهما . فهؤلاء قطعوا الكلام عن الأول ، قال ابن الأنباري: وقد ذهب قوم إلى أن المحاسبة هاهنا هي إطلاع الله العبد يوم القيامة على ما كان حدث به نفسه في الدنيا ، ليعلم أنه لم يعزب عنه شيء . قال: والذي نختاره أن تكون الآية محكمة ، لأن النسخ إنما يدخل على الأمر والنهي . وقد روي عن عائشة أنها قالت: أما ما أعلنت ، فالله يحاسبك به ، وأما ما أخفيت ، فما عجلت لك به العقوبة في الدنيا . والقول الثاني: أنه أمر خاص في نوع من المخفيات ، ولأرباب هذا القول فيه قولان . أحدهما: أنه كتمان الشهادة ، قاله ابن عباس في رواية ، وعكرمة ، والشعبي . والثاني: أنه الشك واليقين ، قاله مجاهد . فعلى هذا المذكور تكون الآية محكمة .
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .
قوله تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث أبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه" قال أبو بكر النقاش: معناه: كفتاه عن قيام الليل .
[ ص: 345 ] وقيل: إنهما نزلتا على سبب ، وهو ما روى العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما أنزل الله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جثوا على الركب ] فقالوا: قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم ، أنزل الله في أثرها (آمن الرسول) . قال الزجاج: لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام ، ختمها بتصديق نبيه ، والمؤمنين . وقرأ ابن عباس (وكتابه) فقيل له في ذلك ، فقال: كتاب أكثر من كتب ، ذهب به إلى اسم الجنس ، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس ، وقد وافق ابن عباس وفي قراءته حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وكذلك في (التحريم) ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر (وكتبه) هاهنا بالجمع ، وفي (التحريم) بالتوحيد . وقرأ أبو عمرو بالجمع في الموضعين .
قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنى على حرفين مثل "رسلنا" و"رسلكم" بإسكان السين ، وثقل ما عدا ذلك . وعنه في قوله تعالى: (على رسلك) روايتان ، التخفيف والتثقيل . وقرأ الباقون كل ما في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل . ومعنى قوله: لا نفرق بين أحد من رسله أي: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب ، آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، وقرأ يعقوب (لا يفرق) بالياء ، وفتح الراء .
قوله تعالى: (غفرانك) أي: نسألك غفرانك . والمصير: المرجع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (65)
صــ346 إلى صــ 350
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .
قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الوسع: الطاقة . قاله ابن عباس ، وقتادة . ومعناه: لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته ، كتكليف الزمن السعي ، والأعمى النظر . فأما تكليف ما يستحيل من المكلف ، لفقد الآلات ، فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان ، فالآية محمولة على القول الأول . ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: في سياق الآية ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعا ، كان السؤال عبثا ، وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم: وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ الكهف: 57 ] وقال ابن الأنباري: المعنى: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه ، وإن كنا مطيقين له على تجشم ، وتحمل مكروه ، فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه ، ومثله قوله تعالى: ما كانوا يستطيعون السمع .
قوله تعالى: (لها ما كسبت) قال ابن عباس: لها ما كسبت من طاعة (وعليها ما اكتسبت) من معصية . قال أبو بكر النقاش: فقوله: "لها" دليل على الخير ، و"عليها" دليل على الشر . وقد ذهب قوم إلى أن "كسبت" لمرة ومرات ، و"اكتسبت" لا يكون إلا لشيء بعد شيء ، وهما عند آخرين لغتان بمعنى واحد ، كقوله عز وجل: فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ الطارق: 17 ] .
قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا) هذا تعليم من الله للخلق أن يقولوا ذلك ، قال ابن [ ص: 347 ] الأنباري: والمراد بالنسيان هاهنا: الترك مع العمد ، لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد أمنت الآثام من جهته . والخطأ أيضا هاهنا من جهة العمد ، لا من جهة السهو ، يقال: أخطأ الرجل: إذا تعمد ، كما يقال: أخطأ إذا غفل . وفي "الإصر" قولان . أحدهما: أنه العهد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي . والثاني: الثقل ، أي: لا تثقل علينا من الفروض ما ثقلته على بني إسرائيل ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى: ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به فيه خمسة أقوال . أحدهما: أنه ما يصعب ويشق من الأعمال ، قاله الضحاك ، والسدي ، وابن زيد ، والجمهور ، والثاني: أنه المحبة ، [ ص: 348 ] رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم . والثالث: الغلمة قاله مكحول . والرابع: حديث النفس ووساوسها . والخامس: عذاب النار .
قوله تعالى: (أنت مولانا) أي: أنت ولينا (فانصرنا) أي: أعنا . وكان معاذ إذا فرغ من هذه السورة قال: آمين .
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ .
ذكر أهل التفسير أنها مدنية ، وأن صدرا من أولها نزل في وفد نجران ، قدموا النبي صلى الله عليه وسلم في ستين راكبا ، فيهم العاقب ، والسيد ، فخاصموه في عيسى ، فقالوا: إن لم يكن ولد الله ، فمن أبوه؟ فنزلت فيهم صدر (آل عمران) إلى بضع وثمانين آية منها .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان .
قوله تعالى: (نزل عليك الكتاب) يعني: القرآن (بالحق) يعني: العدل . (مصدقا لما بين يديه) من الكتب . وقيل: إنما قال في القرآن: "نزل" بالتشديد ، وفي التوراة والإنجيل: أنزل ، لأن كل واحد منهما أنزل في مرة واحدة ، وأنزل القرآن في مرات كثيرة . فأما التوراة ، فذكر ابن قتيبة عن الفراء أنه يجلعها من: ورى الزند يرى: إذا خرجت ناره ، وأوريته ، يريد أنها ضياء . قال ابن قتيبة: وفيه لغة أخرى: ورى يري ، ويقال: وريت بك زنادي . والإنجيل ، من نجلت الشيء: إذا أخرجته ، وولد الرجل: نجله ، كأنه هو استخرجه ، يقال: قبح الله ناجليه ، أي: والديه ، وقيل للماء يقطر من البئر: نجل ، يقال: قد استنجل الوادي: [إذا ظهر نزوزه ] . وإنجيل: إفعيل من ذلك ، كأن الله أظهر به عافيا من الحق دارسا . قال شيخنا أبو منصور اللغوي: والإنجيل: أعجمي معرب ، قال: وقال بعضهم: إن كان عربيا ، فاشتقاقه من النجل ، وهو ظهور الماء على وجه الأرض ، واتساعه ، ونجلت الشيء: إذا استخرجته وأظهرته ، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم وقيل: هو إفعيل من النجل وهو الأصل: فالإنجيل أصل لعلوم وحكم وفي الفرقان [ ص: 350 ] هاهنا قولان . أحدهما: أنه القرآن ، قاله قتادة ، والجمهور . قال أبو عبيدة: سمي القرآن فرقانا ، لأنه فرق بين الحق والباطل ، والمؤمن والكافر ، والثاني: أنه الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى حين اختلفوا فيه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقال السدي: في الآية تقديم وتأخير ، تقديره: وأنزل التوراة ، والإنجيل ، والفرقان ، فيه هدى للناس .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ وَفْدَ نَجْرَانَ النَّصَارَى ، كَفَرُوا بِالْقُرْآَنِ ، وَبِمُحَمَّدٍ . وَالِانْتِقَامُ : الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُقُوبَةِ .
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: هَذَا تَعْرِيضٌ بِنَصَارَى أَهْلِ نَجْرَانَ فِيمَا كَانُوا يَنْطَوُونَ عَلَيْهِ مِنْ كَيْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْرُ التَّصْوِيرِ فِي الْأَرْحَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَمْرِ عِيسَى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (66)
صــ351 إلى صــ 355
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب .
قوله تعالى: (منه آيات محكمات) المحكم: المتقن المبين ، وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال . أحدها: أنه الناسخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والسدي في آخرين . والثاني: أنه الحلال والحرام ، روي عن ابن عباس ، ومجاهد . والثالث: أنه ما علم العلماء تأويله ، روي عن جابر بن عبد الله . والرابع: أنه الذي لم ينسخ ، قاله الضحاك . والخامس: أنه ما لم تتكرر ألفاظه ، قاله ابن زيد . والسادس: أنه ما استقل بنفسه ، ولم يحتج إلى بيان ، ذكره [ ص: 351 ] القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد . وقال الشافعي ، وابن الأنباري: هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا ، والسابع: أنه جميع القرآن غير الحروف المقطعة . والثامن: أنه الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والحلال والحرام ، ذكر هذا والذي قبله القاضي أبو يعلى . وأم الكتاب أصله . قاله ابن عباس ، وابن جبير ، فكأنه قال: هن أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهن في الأحكام ، ومجمع الحلال والحرام . وفي المتشابه سبعة أقوال . أحدها: أنه المنسوخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والسدي في آخرين . والثاني: أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل ، كقيام الساعة ، روي عن جابر بن عبد الله . والثالث: أنه الحروف المقطعة كقوله "ألم" ونحو ذلك ، قاله ابن عباس . والرابع: أنه ما اشتبهت معانيه ، قاله مجاهد . والخامس: أنه ما تكررت ألفاظه ، قاله ابن زيد . والسادس: أنه ما احتمل من التأويل وجوها . وقال ابن الأنباري: المحكم ما لا يحتمل التأويلات ، ولا يخفى على مميز ، والمتشابه: الذي تعتوره تأويلات . والسابع: أنه القصص ، والأمثال ، ذكره القاضي أبو يعلى . فإن قيل: فما فائدة إنزال المتشابه ، والمراد بالقرآن البيان والهدى؟ فعنه أربعة أجوبة . أحدها: أنه لما كان كلام العرب على ضربين . أحدهما: الموجز الذي لا يخفى على سامعه ، ولا يحتمل غير ظاهره . والثاني: المجاز ، والكنايات ، والإشارات ، والتلويحات ، وهذا الضرب الثاني: هو المستحلى عند العرب ، والبديع في كلامهم ، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين ، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله ، فكأنه قال: عارضوه بأي الضربين شئتم ، ولو نزل كله محكما واضحا ، لقالوا: هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا . ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية ، أو تعريض أو تشبيه ، كان أفصح وأغرب .
[ ص: 352 ] قال امرؤ القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل
فجعل النظر بمنزلة السهم على جهة التشبيه ، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد ، وزاد في بلاغته . وقال امرؤ القيس أيضا:
رمتني بسهم أصاب الفؤاد غداة الرحيل فلم أنتصر
وقال أيضا:
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل
فجعل لليل صلبا وصدرا على جهة التشبيه ، نحسن بذلك شعره . وقال غيره:
من كميت أجادها طابخاها لم تمت كل موتها في القدور
أراد بالطابخين: الليل والنهار على جهة التشبيه . وقال آخر:
تبكي هاشما في كل فجر كما تبكي على الفنن الحمام
[ ص: 353 ] قاله آخر:
عجبت لها أنى يكون غناؤها فصيحا ولم تفتح بمنطقها فما
فجعل لها غناء وفما على جهة الاستعارة . والجواب الثاني: أن الله تعالى أنزله مختبرا به عباده ، ليقف المؤمن عنده ، ويرده إلى عالمه ، فيعظم بذلك ثوابه ، ويرتاب به المنافق ، فيداخله الزيغ ، فيستحق بذلك العقوبة ، كما ابتلاهم بنهر طالوت . والثالث: أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردهم المتشابه إلى المحكم ، فيطول بذلك فكرهم ، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم ، فيثابون على تعبهم ، كما يثابون على سائر عباداتهم ، ولو جعل القرآن كله محكما لاستوى فيه العالم والجاهل ، ولم يفضل العالم على غيره ، ولماتت الخواطر ، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم . وقد قال الحكماء: عيب الغنى: أنه يورث البلادة ، وفضل الفقر: أنه يبعث على الحيلة ، لأنه إذا احتاج احتال . والرابع: أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة ، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلمون ، ويمرنوهم على انتزاع الجواب ، لأنهم إذا قدروا على الغامض ، كانوا على الواضح أقدر ، فلما كان ذلك حسنا عند العلماء ، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو ، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة ، وابن الأنباري .
قوله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ في الزيغ قولان . أحدهما: أنه الشك ، قاله مجاهد ، والسدي . والثاني: أنه الميل ، قاله أبو مالك . وعن ابن عباس كالقولين . وقيل: هو الميل عن الهدى . وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال . أحدها: أنهم الخوارج ، قاله الحسن . والثاني: المنافقون ، قاله ابن جريج . والثالث: وفد نجران من النصارى ، قاله الربيع . والرابع: اليهود ، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمة من حساب الجمل ، قاله ابن السائب .
قوله تعالى: فيتبعون ما تشابه منه قال ابن عباس: يحيلون المحكم على المتشابه ، [ ص: 354 ] والمتشابه على المحكم ، ويلبسون . و قال السدي: يقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا ، ثم نسخت؟! وفي المراد بالفتنة هاهنا ، ثلاثة أقوال . أحدها: أنها الكفر ، قاله السدي ، والربيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة . والثاني: الشبهات ، قاله مجاهد . والثالث: إفساد ذات البين ، قاله الزجاج . وفي التأويل وجهان . أحدهما: أنه التفسير . والثاني: العاقبة المنتظرة . والراسخ: الثابت ، يقال: رسخ يرسخ رسوخا . وهل يعلم الراسخون تأويله أم لا؟ فيه قولان . أحدهما: أنهم لا يعلمونه ، وأنهم مستأنفون ، وقد روى طاووس عن ابن عباس أنه قرأ (ويقول الراسخون في العلم آمنا به) وإلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن عباس ، وعروة ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز والفراء ، وأبو عبيدة ، وثعلب ، وابن الأنباري ، والجمهور . قال ابن الأنباري: في قراءة عبد الله (إن تأويله ، إلا عند الله والراسخون في العلم) وقي قراءة أبي ، وابن عباس (ويقول الراسخون) وقد أنزل الله تعالى في كتابه أشياء ، استأثر بعلمها ، كقوله تعالى: قل إنما علمها عند الله [ الأعراف: 187 ] . و قوله تعالى: وقرونا بين ذلك كثيرا [ الفرقان: 38 ] فأنزل الله تعالى المجمل ، ليؤمن به المؤمن ، فيسعد ، ويكفر به الكافر ، فيشقى . والثاني: أنهم يعلمون ، فهم داخلون في الاستثناء . وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله ، وهذا قول مجاهد ، والربيع ، واختاره ابن قتيبة ، وأبو سليمان الدمشقي . قال ابن الأنباري: الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح ، ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد .
قوله تعالى: ربنا لا تزغ قلوبنا أي يقولون: (ربنا لا تمل قلوبنا عن الهدى بعد إذ هديتنا) وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، وابن يعمر ، والجحدري "لا تزغ" بفتح التاء "قلوبنا" برفع الباء . ولدنك: بمعنى عندك . والوهاب: الذي يجود بالعطاء من غير [ ص: 355 ] استثابة ، والمخلوقون لا يملكون أن يهبوا شفاء لسقيم ، ولا ولدا لعقيم ، والله تعالى قادر على أن يهب جميع الأشياء .
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار .
قوله تعالى: لن تغني عنهم أموالهم أي: لن تدفع ، لأن المال يدفع عن صاحبه في الدنيا ، وكذلك الأولاد ، فأما في الآخرة ، فلا ينفع الكافر ماله ، ولا ولده . وقوله تعالى: (من الله) أي: من عذابه .
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب .
قوله تعالى: (كدأب آل فرعون) في الدأب قولان . أحدهما: أنه العادة ، فمعناه: كعادة آل فرعون ، يريد: كفر اليهود ، ككفر من قبلهم ، قاله ابن قتيبة ، وقال ابن الأنباري: و"الكاف" في "كدأب" متعلقة بفعل مضمر ، كأنه قال: كفرت اليهود ، ككفر آل فرعون . والثاني: أنه الاجتهاد ، فمعناه: أن دأب هؤلاء ، وهو اجتهادهم في كفرهم ، وتظاهرهم على النبي صلى الله عليه وسلم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام ، قاله الزجاج .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (67)
صــ356 إلى صــ 360
قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد .
قوله تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر (ستغلبون وتحشرون) بالتاء و(يرونهم) بالياء ، وقرأ نافع ثلاثتهن بالتاء ، وقرأهن حمزة ، والكسائي بالياء . وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن يهود المدينة [ ص: 356 ] لما رأوا وقعة بدر ، هموا بالإسلام ، وقالوا: هذا هو النبي الذي نجده في كتابنا ، لا ترد له راية ، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا له وقعة أخرى ، فلما كانت أحد ، شكوا ، وقالوا: ما هو به ، ونقضوا عهدا كان بينهم وبين النبي ، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة ، فقالوا: تكون كلمتنا واحدة ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس . والثاني: أنها نزلت في قريش قبل وقعة بدر ، فحقق الله وعده يوم بدر ، روي عن ابن عباس ، والضحاك . والثالث: أن أبا سفيان في جماعة من قومه ، جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد وقعة بدر ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السائب .
قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .
قوله تعالى: قد كان لكم آية في فئتين التقتا في المخاطبين بهذا ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم المؤمنون ، روي عن ابن مسعود ، والحسن . والثاني: الكفار ، فيكون معطوفا على الذي قبله ، وهو يتخرج على قول ابن عباس الذي ذكرناه آنفا . والثالث: أنهم اليهود ، ذكره الفراء ، وابن الأنباري ، وابن جرير . فإن قيل: لم قال: (قد كان لكم) ولم يقل: قد كانت لكم؟ فالجواب من وجهين . أحدهما: أن ما ليس بمؤنث حقيقي ، يجوز تذكيره . والثاني: أنه رد المعنى إلى البيان ، فمعناه: قد كان لكم بيان ، فذهب إلى المعنى ، وترك اللفظ ، وأنشدوا:
إن امرأ غره منكن واحدة ، بعدي وبعدك في الدنيا ، لمغرور
وقد سبق معنى "الآية" و"الفئة" وكل مشكل تركت شرحه ، فإنك تجده فيما سبق والمراد بالفئتين: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ومشركو قريش يوم بدر . قاله قتادة [ ص: 357 ] والجماعة . وفي قوله تعالى: (يرونهم مثليهم) قولان . أحدهما: يرونهم ثلاثة أمثالهم ، قاله الفراء ، واحتج بأنك إذا قلت: عندي ألف دينار ، وأحتاج إلى مثليه ، فإنك تحتاج إلى ثلاثة آلاف . والثاني: أن معناه يرونهم ومثلهم ، قال الزجاج: وهو الصحيح .
قوله تعالى: (رأي العين) أي: في رأي العين . قال ابن جرير: جاء هذا على مصدر رأيته ، ، يقال: رأيته رأيا ، ورؤية . واختلفوا في الفئة الرائية على ثلاثة أقوال ، هي التي ذكرناها في قوله تعالى: (قد كان لكم آية) فإن قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون ، فوجهه أن المشركين كانوا يضعفون على عدد المسلمين ، فرأوهم على ما هم عليه ، ثم نصرهم الله ، وكذلك إن قلنا: إنهم اليهود . وإن قلنا: إنهم المشركون ، فتكثير المسلمين في أعينهم من أسباب النصر . وقد قرأ نافع: "ترونهم" بالتاء . قال ابن الأنباري: ذهب إلى أن الخطاب لليهود . قال الفراء: ويجوز لمن قرأ "يرونهم" بالياء أن يجعل الفعل لليهود ، وإن كان قد خاطبهم في قوله تعالى: (قد كان لكم آية) لأن العرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى الخطاب . وقد شرحنا هذا في "الفاتحة" وغيرها . فإن قيل: كيف يقال: إن المشركين استكثروا المسلمين ، وإن المسلمين استكثروا المشركين ، وقد بين قوله تعالى: وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم [ الأنفال: 44 ] . أن الفئتين تساوتا في استقلال إحداهما للأخرى؟ فالجواب: أنهم استكثروهم في حال ، واستقلوهم في حال ، فإن [ ص: 358 ] قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون ، فإنهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ما هم عليه ، ثم قلل الله المشركين في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم ، فنصرهم الله بذلك السبب . قال ابن مسعود: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم ، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا . وقال في رواية أخرى: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة ، فأسرنا منهم رجلا ، فقلت: كم كنتم؟ قال: ألفا . وإن قلنا: إن الفئة الرائية المشركون ، فإنهم استقلوا المسلمين في حال ، فاجترؤوا عليهم ، واستكثروهم في حال ، فكان ذلك سبب خذلانهم ، وقد نقل أن المشركين لما أسروا يومئذ ، قالوا للمسلمين: كم كنتم؟ قالوا: كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر . قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا .
قوله تعالى: (والله يؤيد) أي: يقوي (إن في ذلك) في الإشارة قولان . أحدهما: أنها ترجع إلى النصر . والثاني: إلى رؤية الجيش مثليهم ، والعبرة: الدلالة الموصلة إلى اليقين ، المؤدية إلى العلم ، وهي من العبور ، كأنه طريق يعبر به ، ويتوصل به إلى المراد . وقيل: العبرة: الآية التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم . والأبصار: العقول والبصائر .
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب .
قوله تعالى: زين للناس حب الشهوات قرأ أبو رزين العقيلي ، وأبو رجاء العطاردي ، ومجاهد ، وابن محيصن "زين" بفتح الزاي "حب" بنصب الباء ، وقد سبق في "البقرة" بيان التزيين . والقناطير: جمع قنطار ، قال ابن دريد: ليست النون فيه أصلية ، وأحسب أنه معرب . واختلف العلماء: هل هو محدود أم لا؟ فيه قولان . أحدهما: أنه محدود ، ثم فيه [ ص: 359 ] أحد عشر قولا . أحدها: أنه ألف ومئتا أوقية ، رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال معاذ بن جبل ، وابن عمر ، وعاصم بن أبي النجود ، والحسن في رواية . والثاني: أنه اثنا عشر ألف أوقية ، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وعن أبي هريرة كالقولين ، وفي رواية عن أبي هريرة أيضا: اثنا عشر أوقية . والثالث: أنه ألف ومئتا دينار ، ذكره الحسن ورواه العوفي عن ابن عباس . والرابع: أنه اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وروي عن الحسن ، والضحاك ، كهذا القول ، والذي قبله . والخامس: أنه سبعون ألف دينار ، روي عن ابن عمر ، ومجاهد . والسادس: ثمانون ألف درهم ، أو مئة رطل من الذهب ، روي عن سعيد بن المسيب ، وقتادة . والسابع: أنه سبعة آلاف دينار ، قاله عطاء . والثامن: ثمانية آلاف مثقال ، قاله السدي . والتاسع: أنه ألف مثقال ذهب أو فضة ، قاله الكلبي . والعاشر: أنه ملء مسك ثور ذهبا ، قاله أبو نضرة ، وأبو عبيدة . والحادي عشر: القنطار: رطل من الذهب ، أو الفضة ، حكاه ابن الأنباري . والقول الثاني: أن القنطار ليس بمحدود . وقال الربيع بن أنس: القنطار: المال الكثير ، بعضه على بعض ، وروي عن أبي عبيدة أنه ذكر عن العرب أن القنطار وزن لا يحد ، وهذا اختيار ابن جرير الطبري . قاله ابن الأنباري: قال بعض اللغويين: القنطار: العقدة الوثيقة المحكمة من المال . وفي معنى المقنطرة ثلاثة أقوال . أحدها: أنها المضعفة ، قال ابن عباس: القناطير ثلاثة ، والمقنطرة تسعة ، وهذا قول الفراء . والثاني: أنها المكملة ، كما تقول: بدرة مبدرة ، وألف مؤلفة ، وهذا قول ابن قتيبة . والثالث: أنها المضروبة حتى صارت دنانير ودراهم ، قاله السدي . وفي المسومة ثلاثة أقوال [ ص: 360 ] أحدها: أنها الراعية ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، ومجاهد في رواية ، والضحاك ، والسدي ، والربيع ، ومقاتل . قال ابن قتيبة: يقال: سامت الخيل ، وهي سائمة: إذا رعت ، وأسمتها وهي مسامة ، وسومتها فهي مسومة: إذا رعيتها والمسومة في غير هذا: المعلمة في الحرب بالسومة وبالسيماء ، أي: بالعلامة . والثاني: أنها المعلمة ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، واختاره الزجاج ، وعن الحسن كالقولين . وفي معنى المعلمة ثلاثة أقوال . أحدها: أنها معلمة بالشية ، وهو اللون الذي يخالف سائر لونها ، روي عن قتادة . والثاني: بالكي ، روي عن المؤرج . والثالث: أنها البلق ، قاله ابن كيسان . والثالث: أنها الحسان ، قاله ابن عكرمة ، ومجاهد . فأما الأنعام ، فقال ابن قتيبة: هي: الإبل ، والبقر ، والغنم ، واحدها . نعم ، وهو جمع لا واحد له من لفظه . والمآب: المرجع . وهذه الأشياء المذكورة قد تحسن نية العبد بالتلبس بها ، فيثاب عليها ، وإنما يتوجه الذم إلى سوء القصد فيها وبها .
قل أأنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد .
قوله تعالى: (قل أأنبئكم بخير من ذلكم) روى عطاء بن السائب عن أبي بكر بن حفص قال: لما نزل قوله تعالى: زين للناس حب الشهوات قال عمر: يا رب الآن حين زينتها؟! فنزلت: قل أأنبئكم بخير من ذلكم ووجه الآية أنه خبر أن ما عنده خير مما في الدنيا ، وإن كان محبوبا ، ليتركوا ما يحبون لما يرجون . فأما الرضوان ، فقرأ عاصم ، إلا حفصا وأبان بن يزيد عنه ، برفع الراء في جميع القرآن ، واستثنى يحيى والعليمي كسر الراء في المائدة في قوله تعالى: من اتبع رضوانه [ المائدة: 16 ] . وقرأ الباقون بكسر الراء ، والكسر لغة قريش . قال الزجاج: يقال: رضيت الشيء أرضاه رضى ومرضاة ورضوانا ورضوانا . (والله بصير بالعباد) . يعلم من يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا ، فهو يجازيهم على أعمالهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (68)
صــ361 إلى صــ 365
الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار
قوله تعالى: (الصابرين) أي: على طاعة الله عز وجل ، وعن محارمه (والصادقين) في عقائدهم وأقوالهم (والقانتين) بمعنى المطيعين لله (والمنفقين) في طاعته . وقال ابن قتيبة يعني: بالنفقة الصدقة . وفي معنى استغفارهم قولان . أحدهما: أنه الاستغفار المعروف باللسان ، قاله ابن مسعود ، والحسن في آخرين . والثاني: أنه الصلاة . قاله مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل في آخرين . فعلى هذا إنما سميت الصلاة استغفارا ، لأنهم طلبوا بها المغفرة . فأما السحر ، فقال إبراهيم بن السري: السحر: الوقت الذي قبل طلوع الفجر ، وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر ، فوصفهم الله بهذه الطاعات ، ثم وصفهم بأنهم لشدة خوفهم يستغفرون .
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم .
قوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو سبب نزول هذه الآية أن حبرين من أحبار الشام قدما النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أبصرا المدينة ، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان ، فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم ، عرفاه بالصفة ، فقالا: أنت محمد؟ قال: "نعم" قالا: وأحمد؟ قال: "نعم" قالا: نسألك عن شهادة ، فإن أخبرتنا بها ، آمنا [ ص: 362 ] بك وصدقناك ، فقال: "سلاني" . فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله ، فنزلت هذه الآية ، فأسلما ، قاله ابن السائب . وقال غيره: هذه الآية رد على نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام ، وقد سبق ذكر خبرهم في أول السورة . وقال سعيد بن جبير : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، وكان لكل حي من العرب صنم أو صنمان ، فلما نزلت هذا الآية ، خرت الأصنام سجدا . وفي معنى (شهد الله) قولان . أحدهما: أنه بمعنى قضى وحكم ، قاله مجاهد ، والفراء ، وأبو عبيدة . والثاني: بمعنى بين ، قاله ثعلب والزجاج ، قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب ، وأموره المحكمات عند خلقه ، أنه لا إله إلا هو . وسئل بعض الأعراب: ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال: إن البعرة تدل على البعير ، وآثار القدم تدل على المسير ، فهيكل علوي بهذه اللطافة ، ومركز سفلي بهذه الكثافة ، أما يدلان على الصانع الخبير؟! وقرأ ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وابن السميفع ، وعاصم الجحدري (شهداء لله) بضم "الشين" وفتح "الهاء والدال" وبهمزة مرفوعة بعد المد ، وخفض "الهاء" من اسم الله تعالى (قائما بالقسط) أي: بالعدل . قال جعفر الصادق: وإنما كرر (لا إله إلا هو) لأن الأولى وصف وتوحيد ، والثاني: رسم وتعليم ، أي: قولوا: لا إله إلا هو .
إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب .
قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام الجمهور على كسر "إن" إلا الكسائي ، فإنه فتح "الألف" وهي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي رزين ، وأبي العالية ، وقتادة . قال أبو سليمان الدمشقي: لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية ، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية ، نزلت هذه الآية . قال الزجاج: الدين: اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه ، وأمرهم بالإقامة عليه ، وأن يكون [ ص: 363 ] عادتهم ، وبه يجزيهم . وقال شيخنا علي بن عبيد الله: الدين: ما التزمه العبد لله عز وجل . قال ابن قتيبة: والإسلام الدخول في السلم ، أي: في الانقياد والمتابعة ، ومثله الاستسلام ، يقال: سلم فلان لأمرك ، واستسلم ، وأسلم ، كما تقول: أشتى الرجل ، أي: دخل في الشتاء ، وأربع: دخل في الربيع . وفي الذين أوتوا الكتاب ثلاثة أقوال . أحدها: أنهم اليهود ، قاله الربيع . والثاني: أنهم النصارى ، قاله محمد بن جعفر بن الزبير . والثالث: أنهم اليهود ، والنصارى ، قاله ابن السائب . وقيل الكتاب هاهنا: اسم جنس بمعنى الكتب . وفي الذين اختلفوا فيه أربعة أقوال . أحدها: دينهم ، والثاني: أمر عيسى ، والثالث: دين الإسلام ، وقد عرفوا صحته . والرابع: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد عرفوا صفته .
قوله تعالى: إلا من بعد ما جاءهم العلم أي: الإيضاح لما اختلفوا فيه (بغيا بينهم) قال الزجاج: معناه: اختلفوا للبغي ، لا لقصد البرهان ، وقد ذكرنا في "البقرة" معنى: سريع الحساب .
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد .
قوله تعالى: (فإن حاجوك) أي: جادلوك ، وخاصموك . قال مقاتل: يعني اليهود ، وقال ابن جرير: يعني نصارى نجران في أمر عيسى ، وقال غيرهما: اليهود والنصارى . (فقل أسلمت وجهي لله) قال الفراء: معناه: أخلصت عملي ، وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى الله .
قوله تعالى: (ومن اتبعن) أثبت الياء في الوصل دون الوقف أهل المدينة والبصرة ، وابن شنبوذ عن قنبل ، ووقف ابن شنبوذ ويعقوب بياء . قال الزجاج: والأحب إلى اتباع المصحف . وما حذف من الياءات في مثل قوله تعالى: (ومن اتبعن) و(لئن أخرتن) و(ربي أكرمن) و(ربي أهانن) . فهو على ضربين . أحدهما: ما كان مع النون ، فإن [ ص: 364 ] كان رأس آية ، فأهل اللغة يجيزون حذف الياء ، ويسمون أواخر الآي الفواصل ، كما أجازوا ذلك في الشعر ،
قال الأعشى:
ومن شانئ كاسف باله إذا ما انتسبت له أنكرن
وهل يمنعني ارتيادي البلا
د من حذر الموت أن يأتين
فأما إذا لم يكن آخر آية أو قافية ، فالأكثر إثبات الياء ، وحذفها جيد أيضا ، خاصة مع النونات ، لأن أصل "اتبعني" "اتبعي" ولكن "النون" زيدت لتسلم فتحة العين ، فالكسرة مع النون تنوب عن الياء ، فأما إذا لم تكن النون ، نحو غلامي وصاحبي ، فالأجود إثباتها ، وحذفها عند عدم النون جائز على قلته ، تقول: هذا غلام ، قد جاء غلامي ، وغلامي بفتح الياء وإسكانها ، فجاز الحذف ، لأن الكسرة تدل عليها .
قوله تعالى: وقل للذين أوتوا الكتاب يريد اليهود والنصارى (والأميين) بمعنى مشركي العرب ، وقد سبق في البقرة شرح هذا الاسم .
قوله تعالى: (أأسلمتم) قال الفراء: هو استفهام ومعناه الأمر ، كقوله تعالى: فهل أنتم منتهون [ المائدة: 91 ] .
[ ص: 365 ] فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية ، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة ، وأن المراد بها تسكين نفس النبي صلى الله عليه وسلم عند امتناع من لم يجبه ، لأنه كان يحرص على إيمانهم ، ويتألم من تركهم الإجابة . وذهبت طائفة إلى أن المراد بها الاقتصار على التبليغ ، وهذا منسوخ بآية السيف .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (69)
صــ366 إلى صــ 370
إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين .
قوله تعالى: إن الذين يكفرون بآيات الله قال أبو سليمان الدمشقي: عنى بذلك اليهود والنصارى . قال ابن عباس: والمراد بآيات الله محمد والقرآن . وقد تقدم في "البقرة" شرح قتلهم الأنبياء ، والقسط ، والعدل . وقرأ الجمهور (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط) وقرأ حمزة "ويقاتلون" بألف . وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ، ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعا [ ص: 366 ] في آخر النهار ، فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم . وإنما وبخ بهذا اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم تولوا أولئك ، ورضوا بفعلهم (فبشرهم) بمعنى: أخبرهم ، وقد تقدم شرحه في "البقرة" ومعنى حبطت: بطلت .
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون .
قوله تعالى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب في سبب نزولها أربعة أقوال . أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من اليهود ، فدعاهم إلى الله فقال رجلان منهم: على أي دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم . قالا: فإنه كان يهوديا . قال: فهلموا إلى التوراة ، فأبيا عليه ، فنزلت هذه الآية . رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . والثاني: أن رجلا من اليهود ، وامرأة زنيا ، فكرهوا رجمهما لشرفهما ، فرفعوا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يكون عنده رخصة ، فحكم عليها بالرجم ، فقالوا: جرت علينا يا محمد ، ليس علينا الرجم . فقال: بيني وبينكم التوراة ، فجاء ابن صوريا ، فقرأ من التوراة ، فلما أتى على آية الرجم ، وضع كفه عليها ، وقرأ ما بعدها ، فقال ابن سلام: قد جاوزها ، ثم قام ، فقرأها ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين ، فرجما ، فغضب اليهود . فنزلت هذه الآية . رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإسلام ، فقال نعمان بن أبي [ ص: 367 ] أوفى: هلم نحاكمك إلى الأحبار . فقال: بل إلى كتاب الله ، فقال: بل إلى الأحبار ، فنزلت هذه الآية ، قاله السدي . والرابع: أنها نزلت في جماعة من اليهود ، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقالوا: نحن أحق بالهدى منك ، وما أرسل الله نبيا إلا من بني إسرائيل . قال: فأخرجوا التوراة ، فإني مكتوب فيها أني نبي ، فأبوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل بن سليمان .
فأما التفسير ، فالنصيب الذي أوتوه: العلم الذي علموه من التوراة . وفي الكتاب الذي دعوا إليه قولان . أحدهما: أنه التوراة ، رواه عكرمة ، عن ابن عباس ، وهو قول الأكثرين . والثاني: أنه القرآن ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وقتادة . وفي الذي أريد أن يحكم الكتاب بينهم فيه أربعة أقوال . أحدها: ملة إبراهيم . والثاني: حد الزنا . رويا عن ابن عباس . والثالث: صحة دين الإسلام ، قاله السدي . والرابع: صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل . فإن قيل: التولي هو الإعراض ، فما فائدة تكريره؟ فالجواب من أربعة أوجه . أحدها: التأكيد . والثاني: أن يكون المعنى: يتولون عن الداعي ، ويعرضون عما دعا إليه . والثالث: يتولون بأبدانهم ، ويعرضون عن الحق بقلوبهم . والرابع: أن يكون الذين تولوا علماءهم ، والذين أعرضوا أتباعهم ، قاله ابن الأنباري .
[ ص: 368 ] ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون .
قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا) يعني: الذي حملهم على التولي والإعراض أنهم قالوا: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) وقد ذكرناها في "البقرة" و(يفترون) يختلقون . وفي الذي اختلقوه قولان . أحدهما: أنه قولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ، قاله مجاهد ، والزجاج . والثاني: قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه ، قاله قتادة ، ومقاتل .
فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .
قوله تعالى: (فكيف إذا جمعناهم) معناه: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم (ليوم) أي: لجزاء يوم ، أو لحساب يوم . وقيل "اللام" بمعنى: "في" .
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير .
قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك) في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما فتح مكة ، ووعد أمته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود: هيهات ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس ، وأنس بن مالك ، والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته ، فنزلت هذه الآية ، حكاه قتادة . والثالث: أن اليهود قالوا: والله لا نطيع رجلا جاء ينقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو سليمان الدمشقي . فأما التفسير ، فقال الزجاج: قال الخليل ، وسيبويه ، وجميع النحويين الموثوق بعلمهم: "اللهم" بمعنى "يا الله" و"الميم" المشددة زيدت عوضا من "ياء" لأنهم لم يجدوا [ ص: 369 ] "يا" مع هذه "الميم" في كلمة ، ووجدوا اسم الله عز وجل مستعملا بـ"يا" إذا لم تذكر الميم ، فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة "يا" في أولها . والضمة التي في "الهاء" هي ضمة الاسم المنادى المفرد . قال أبو سليمان الخطابي: ومعنى "مالك الملك" أنه بيده ، يؤتيه من يشاء ، قال: وقد يكون معناه: مالك الملوك ، ويحتمل أن يكون معناه: وارث الملك يوم لا يدعيه مدع ، كقوله تعالى: الملك يومئذ الحق للرحمن [ الفرقان: 26 ] .
قوله تعالى: تؤتي الملك من تشاء في هذا الملك قولان . أحدهما: أنه النبوة ، قاله ابن جبير ، ومجاهد . والثاني: أنه المال ، والعبيد ، والحفدة ، ذكره الزجاج . وقال مقاتل: تؤتي الملك من تشاء ، يعني محمدا وأمته ، وتنزع الملك ممن تشاء ، يعني فارس والروم . (وتعز من تشاء) محمدا وأمته (وتذل من تشاء) فارس والروم . وبماذا يكون هذا العز والذل؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها: العز بالنصر ، والذل بالقهر ، والثاني: العز بالغنى ، والذل بالفقر ، والثالث: العز بالطاعة ، والذل بالمعصية .
قوله تعالى: (بيدك الخير) قال ابن عباس: يعني النصر والغنيمة ، وقيل: معناه بيدك الخير والشر ، فاكتفى بأحدهما ، لأنه المرغوب فيه .
تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب .
قوله تعالى: تولج الليل في النهار أي: تدخل ما نقصت من هذا في هذا . وقال ابن عباس ، ومجاهد: ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر . قال الزجاج: يقال: ولج الشيء يلج ولوجا وولجا وولجة .
قوله تعالى: وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) و (لبلد ميت) [ الأعراف: 57 ] ، و (أومن كان ميتا) [ الأنعام: 122 ] ، و (وإن يكن ميتة) [ ص: 370 ] [ الأنعام: 139 ] ، و (الأرض الميتة) [ يس: 33 ] : كله بالتخفيف . وقرأ نافع: وحمزة: والكسائي: (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) و(لبلد ميت) و(إلى بلد ميت) وخفف حمزة ، والكسائي غير هذه الحروف . وقرأ نافع (أومن كان ميتا) و(الأرض الميتة) و(لحم أخيه ميتا) [ الحجرات: 12 ] وخفف في سائر القرآن ما لم يمت . وقال أبو علي: الأصل التثقيل ، والمخفف محذوف منه ، وما مات ، وما لم يمت في هذا الباب مستويان في الاستعمال وأنشدوا:
ومنهل فيه الغراب ميت سقيت منه القوم واستقيت
فهذا قد مات وقال آخر:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
فخفف ما مات ، وشدد ما لم يمت . وكذلك قوله تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون [ الزمر: 30 ] . ثم في معنى الآية ثلاثة أقوال . أحدها: أنه إخراج الإنسان حيا من النطفة ، وهي ميتة . وإخراج النطفة من الإنسان ، وكذلك إخراج الفرخ من البيضة ، وإخراج البيضة من الطائر ، هذا قول ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والجمهور . والثاني: أنه إخراج المؤمن الحي بالإيمان من الكافر الميت بالكفر ، وإخراج الكافر الميت بالكفر من المؤمن الحي بالإيمان ، روى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وعطاء . والثالث: أنه إخراج السنبلة الحية من الحبة الميتة ، والنخلة الحية من النواة الميتة ، والنواة الميتة من النخلة الحية ، قاله السدي . وقال الزجاج: يخرج النبات الغض من الحب اليابس ، والحب اليابس من النبات الحي النامي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (70)
صــ371 إلى صــ 375
قوله تعالى: (بغير حساب) أي: بغير تقتير ، قال الزجاج: يقال: للذي ينفق موسعا: فلان ينفق بغير حساب ، كأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقا .
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير .
قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء في سبب نزولها أربعة أقوال . أحدها: أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود ، فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو ، فنزلت هذه الآية ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أبي ، وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود ، ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر من النبي صلى الله عليه وسلم ، فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: أن قوما من اليهود ، كانوا يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك ، وقالوا: اجتنبوا هؤلاء اليهود ، فأبوا فنزلت هذه الآية . روي عن ابن عباس أيضا . والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة ، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك ، هذا قول المقاتلين ، ابن سليمان ، وابن حيان . فأما التفسير ، فقال الزجاج: معنى قوله تعالى: من دون المؤمنين أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن ، أي: لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين ، وهذا كلام جرى على المثل في المكان ، كما تقول: زيد دونك ، ولست تريد المكان ، ولكنك جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان ، والخسة كالاستفال في المكان . ومعنى فليس من الله في شيء أي: فالله بريء منه .
قوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة قرأ يعقوب ، والمفضل عن عاصم "تقية" بفتح [ ص: 372 ] التاء من غير ألف ، قال مجاهد: إلا مصانعة في الدنيا . قال أبو العالية: التقاة باللسان ، لا بالعمل .
فصل
والتقية رخصة ، وليست بعزيمة . قال الإمام أحمد: وقد قيل: إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا . وقال: إذا أجاب العالم تقية ، والجاهل بجهل ، فمتى يتبين الحق؟ وسنشرح هذا المعنى في "النحل" عند قوله تعالى: إلا من أكره [ النحل: 106 ] ، إن شاء الله .
قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير .
قوله تعالى: قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه قال ابن عباس: يعني اتخاذ الكافرين أولياء .
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد .
قوله تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا قال الزجاج: نصب "اليوم" بقوله: ويحذركم الله نفسه في ذلك اليوم . قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون متعلقا بالمصير ، والتقدير: وإلى الله المصير ، يوم تجد . ويجوز أن يكون متعلقا بفعل مضمر ، والتقدير: اذكر يوم تجد . وفي كيفية وجود العمل وجهان . أحدهما: وجوده مكتوبا في الكتاب . والثاني: وجود الجزاء عليه . والأمد: الغاية .
[ ص: 373 ] قال الطرماح:
كل حي مستكمل عدة العم ر ومود إذا انقضى أمده
يريد غاية أجله .
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم .
قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله في سبب نزولها أربعة أقوال . أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقف على قريش ، وقد نصبوا أصنامهم يسجدون لها ، فقال: يا معشر قريش: "لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم" فقالوا: يا محمد إنما نعبد هذه حبا لله ، ليقربونا إلى الله زلفى . فنزلت هذه الآية ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثاني: أن اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه ، فنزلت هذه الآية ، فعرضها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، فلم يقبلوها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: أن ناسا قالوا: إنا لنحب ربنا حبا شديدا ، فأحب الله أن يجعل لحبه علما ، فأنزل هذه الآية ، قاله الحسن ، وابن جريج . والرابع: أن نصارى نجران ، قالوا: إنما تقول هذا في عيسى حبا لله ، وتعظيما له ، فنزلت هذه الآية ، ذكره ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، واختاره أبو سليمان الدمشقي .
قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين .
قوله تعالى: (قل أطيعوا الله والرسول) في سبب نزولها ثلاثة أقوال . أحدها: أن [ ص: 374 ] عبد الله بن أبي قال لأصحابه: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله: ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم ، فنزلت هذا الآية ، هذا قول ابن عباس . والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، دعا اليهود إلى الإسلام ، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أشد حبا لله مما تدعونا إليه ، فنزلت قل إن كنتم تحبون الله ونزلت هذه الآية ، هذا قول مقاتل . والثالث: أنها نزلت في نصارى نجران ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين .
قوله تعالى: إن الله اصطفى آدم قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ، ويعقوب ، ونحن على دينهم ، فنزلت هذه الآية . قال الزجاج: ومعنى اصطفاهم في اللغة: اختارهم ، فجعلهم صفوة خلقه ، وهذا تمثيل بما يرى ، لأن العرب تمثل المعلوم بالشيء المرئي ، فإذا سمع السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عيانا ، فنحن نعاين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر ، فكذلك صفوة الله من خلقه . وفيه ثلاث لغات: صفوة ، وصفوة ، وصفوة . وأما آدم فعربي ، وقد ذكرنا اشتقاقه في "البقرة" وأما نوح ، فأعجمي معرب ، قال أبو سليمان الدمشقي: اسم نوح: السكن ، وإنما سمي نوحا ، لكثرة نوحه . وفي سبب نوحه خمسة أقوال . أحدها: أنه كان ينوح على نفسه ، قاله يزيد الرقاشي ، والثاني: أنه كان ينوح لمعاصي أهله ، وقومه . والثالث: لمراجعته ربه في ولده . والرابع: لدعائه على قومه بالهلاك . والخامس: أنه مر بكلب مجذوم ، فقال: اخسأ يا قبيح ، فأوحى الله إليه: أعبتني يا نوح ، أم عبت الكلب؟ وفي آل إبراهيم ثلاثة أقوال . أحدها: أنه من كان على دينه ، قاله ابن عباس ، والحسن . والثاني: أنهم إسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، قاله مقاتل . والثالث: أن المراد بـ"آل إبراهيم" هو نفسه ، كقوله: وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون [ البقرة: 248 ] ، ذكره بعض أهل التفسير . وفي "عمران" [ ص: 375 ] قولان . أحدهما: أنه والد مريم ، قاله الحسن ، ووهب . والثاني: أنه والد موسى ، وهارون ، قاله مقاتل . وفي "آله" ثلاثة أقوال . أحدها: أنه عيسى عليه السلام ، قاله الحسن . والثاني: أن آله موسى وهارون ، قاله مقاتل . والثالث: أنه المراد بـ"آله" نفسه ، ذكره بعض المفسرين ، وإنما خص هؤلاء بالذكر ، لأن الأنبياء كلهم من نسلهم . وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال . أحدها: أن المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان ، قاله ابن عباس ، واختاره الفراء ، والدمشقي . والثاني: اصطفاهم بالنبوة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، ومقاتل . والثالث: اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم . والمراد بـ"العالمين" عالمو زمانهم ، كما ذكرنا في "البقرة" .
ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم .
قوله تعالى: ذرية بعضها من بعض قال الزجاج: نصبها على البدل ، والمعنى: اصطفى ذرية بعضها من بعض . قال ابن الأنباري: وإنما قال: بعضها ، لأن لفظ الذرية مؤنث ، ولو قال: بعضهم ، ذهب إلى معنى الذرية . وفي معنى هذه البعضية قولان . أحدهما: أن بعضهم من بعض في التناصر والدين ، لا في التناسل ، وهو معنى قول ابن عباس ، وقتادة . والثاني: أنه في التسلسل ، لأن جميعهم ذرية آدم ، ثم ذرية نوح ، ثم ذرية إبراهيم ، ذكره بعض أهل التفسير . قال أبو بكر النقاش: ومعنى قوله: (ذرية بعضها من بعض) أن الأبناء ذرية للآباء ، والآباء ذرية للأبناء ، كقوله تعالى: حملنا ذريتهم في الفلك المشحون [ يس: 41 ] ، فجعل الآباء ذرية للأبناء ، وإنما جاز ذلك ، لأن الذرية مأخوذة من: ذرأ الله الخلق ، فسمي الولد للوالد ذرية ، لأنه ذرئ منه ، وكذلك يجوز أن يقال للأب: ذرية للابن ، لأن ابنه ذرئ منه ، فالفعل يتصل به من الوجهين ، ومثله: يحبونهم كحب الله [ البقرة: 165 ] فأضاف الحب إلى الله ، والمعنى: كحب المؤمن لله ، ومثله ويطعمون الطعام على حبه [ الدهر: 8 ] ، فأضاف الحب للطعام .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (71)
صــ376 إلى صــ 380
إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم .
قوله تعالى: إذ قالت امرأت عمران في "إذ" قولان . أحدهما: أنها زائدة ، واختاره أبو عبيدة ، وابن قتيبة . والثاني: أنها أصل في الكلام ، وفيها ثلاثة أقوال . أحدها: أن المعنى: اذكر إذ قالت امرأة عمران ، قاله المبرد ، والأخفش . والثاني: أن العامل في (إذ قالت) معنى الاصطفاء ، فيكون المعنى: اصطفى آل عمران ، إذ قالت امرأة عمران ، واصطفاهم إذ قالت الملائكة: يا مريم ، هذا اختيار الزجاج . والثالث: أنها من صلة "سميع" تقديره: والله سميع إذ قالت ، وهذا اختيار ابن جرير الطبري . قال ابن عباس: واسم امرأة عمران حنة ، وهي أم مريم ، وهذا عمران بن ماتان ، وليس بـ "عمران أبي موسى " وليست هذه مريم أخت موسى . وبين عيسى وموسى ألف وثمانمائة سنة والمحرر . العتيق . قال ابن قتيبة: يقال: أعتقت الغلام ، وحررته: سواء . وأرادت: أي نذرت أن أجعل ما في بطني محررا من التعبيد للدنيا ، ليعبدك . وقال الزجاج: كان على أولادهم فرضا أن يطيعوهم في نذرهم ، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادما في متعبدهم . وقال ابن إسحاق: كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت ، فرأت طائرا يطعم فرخا له ، فدعت الله أن يهب لها ولدا ، وقالت: اللهم لك علي إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس ، فحملت بمريم ، وهلك عمران ، وهي حامل . قال القاضي أبو يعلى: والنذر في مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا ، فإنه إذا نذر الإنسان أن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته ، وأن يعلمه القرآن ، والفقه ، وعلوم الدين ، صح النذر .
فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم [ ص: 377 ] قوله تعالى: والله أعلم بما وضعت قرأ ابن عامر ، وعاصم إلا حفصا ويعقوب (بما وضعت) بإسكان العين ، وضم التاء . وقرأ الباقون بفتح العين ، وجزم التاء ، قال ابن قتيبة: من قرأ بجزم التاء ، وفتح العين ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره: إني وضعتها أنثى ، وليس الذكر كالأنثى ، والله أعلم بما وضعت . ومن قرأ بضم التاء ، فهو كلام متصل من كلام أم مريم .
قوله تعالى: وليس الذكر كالأنثى من تمام اعتذارها ، ومعناه: لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذكر ، من خدمته المسجد ، والإقامة فيه ، لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس . قال السدي: ظنت أن ما في بطنها غلام ، فلما وضعت جارية ، اعتذرت . ومريم: اسم أعجمي . وفي الرجيم قولان . أحدهما: الملعون ، قاله قتادة . والثاني: أنه المرجوم بالحجارة ، كما تقول: قتيل بمعنى مقتول ، قاله أبو عبيدة ، فعلى هذا سمي رجيما ، لأنه يرمى بالنجوم .
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب .
قوله تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن قرأ مجاهد (فتقبلها) بسكون اللام (ربها) بنصب الباء (وأنبتها) بكسر الباء وسكون التاء على معنى الدعاء . قال الزجاج: الأصل في العربية: فتقبلها بتقبل حسن ، ولكن "قبول" محمول على قبلها قبولا يقال: قبلت الشيء قبولا ، ويجوز قبولا: إذا رضيته . (وأنبتها نباتا حسنا) أي: جعل نشوءها نشوءا حسنا ، وجاء "نباتا" على غير لفظ أنبت ، على معنى: نبتت نباتا حسنا . وقال ابن الأنباري: لما كان "أنبت" يدل على "نبت" حمل الفعل على المعنى ، فكأنه قال: وأنبتها ، فنبتت هي نباتا حسنا .
[ ص: 378 ] قال امرؤ القيس:
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورضت فذلت صعبة أي إذلال
أراد: أي رياضة: فلما دل "رضت" على "أذللت" حمله على المعنى . وللمفسرين في معنى النبات الحسن ، قولان أحدهما: أنه كمال النشوء ، قال ابن عباس: كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام ، والثاني: أنه ترك الخطايا ، قال قتادة: حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب ، كما يصيب بنو آدم .
قوله تعالى: (وكفلها) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "وكفلها" بفتح الفاء خفيفة ، و"زكرياء" مرفوع ممدود . وروى أبو بكر عن عاصم: تشديد الفاء ، ونصب "زكرياء" ، وكان يمد "زكرياء" في كل القرآن في رواية أبي بكر . وروى حفص عن عاصم: تشديد الفاء و"زكريا" مقصور في كل القرآن . وكان حمزة والكسائي يشددان و"كفلها" ، ويقصران "زكريا" في كل القرآن . فأما "زكريا" فقال الفراء: فيه ثلاث لغات . أهل الحجاز يقولون: هذا زكريا قد جاء ، مقصور ، وزكرياء ، ممدود ، وأهل نجد يقولون: زكري ، فيجرونه ، ويلقون الألف . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي ، عن ابن دريد ، قال: زكريا اسم أعجمي ، يقال: زكري ، وزكرياء ممدود ، وزكريا مقصور ، وقال غيره: وزكري بتخفيف الياء ، فمن قال: زكرياء بالمد ، قال في التثنيه: زكرياوان ، وفي الجمع زكرياوون ، ومن قال: زكريا بالقصر ، قال في التثنيه زكريان ، كما [ ص: 379 ] تقول: مدنيان ، ومن قال: زكري بتخفيف الياء ، قال في التثنية: زكريان الياء خفيفة ، وفي الجمع: زكرون بطرح الياء .
الإشارة إلى كفالة زكريا مريم
قال السدي: انطلقت بها أمها في خرقها ، وكانوا يقترعون على الذين يؤتون بهم ، فقال زكريا وهو نبيهم يومئذ: أنا أحقكم بها ، عندي أختها ، فأبوا ، وخرجوا إلى نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها ، فجرت الأقلام ، وثبت قلم زكريا ، فكفلها . قال ابن عباس: كانوا سبعة وعشرين رجلا ، فقالوا: نطرح أقلامنا ، فمن صعد قلمه مغالبا للجرية فهو أحق بها ، فصعد قلمزكريا ، فعلى هذا القول كانت غلبة زكريا بمصاعدة قلمه ، وعلى قول السدي بوقوفه في جريان الماء وقال مقاتل: كان يغلق عليها الباب ، ومعه المفتاح ، لا يأمن عليه أحدا ، وكانت إذا حاضت ، أخرجها إلى منزله تكون مع أختها أم يحيى ، فإذا طهرت ، ردها إلى بيت المقدس . والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة . وقد ذهب قوم إلى أنه كفلها عند طفولتها بغير قرعة ، لأجل أن أمها ماتت ، وكانت خالتها عنده ، فلما بلغت ، أدخلوها الكنيسة لنذر أمها ، وإنما كان الاقتراع بعد ذلك بمدة ، لأجل سنة أصابتهم . فقال محمد بن إسحاق: كفلها زكريا إلى أن أصابت الناس سنة ، فشكا زكريا إلى بني إسرائيل ضيق يده ، فقالوا: ونحن أيضا كذلك ، فجعلوا يتدافعونها حتى اقترعوا ، فخرج السهم على جريج النجار ، وكان فقيرا ، وكان يأتيها باليسير ، فينمى ، فدخل زكريا ، فقال: ما هذا؟ على قدر نفقة جريج؟ فمن أين هذا؟ قالت: هو من عند الله . والصحيح ما عليه الأكثرون ، وأن القوم تشاحوا على كفالتها ، لأنها كانت بنت سيدهم وإمامهم عمران ، كذلك قال قتادة في آخرين ، وأن زكريا ظهر عليهم بالقرعة منذ طفولتها . فأما المحراب ، فقال أبو عبيدة: [ ص: 380 ] المحراب سيد المجالس ، ومقدمها ، وأشرفها ، وكذلك هو من المسجد . وقال الأصمعي: المحراب هاهنا: الغرفة . وقال الزجاج: المحراب في اللغة: الموضع العالي الشريف .
قال الشاعر:
ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلما
قوله تعالى: (وجد عندها رزقا) قال ابن عباس: ثمار الجنة ، فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، وهذا قول الجماعة .
قوله تعالى: (أنى لك هذا) أي: من أين؟ قال الربيع بن أنس: كان زكريا إذا خرج ، أغلق عليها سبعة أبواب ، فإذا دخل وجد عندها رزقا . وقال الحسن: لم ترتضع ثديا قط ، وكان يأتيها رزقها من الجنة ، فيقول زكريا: أنى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله ، فتكلمت وهي صغيرة . وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئرا ، وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون قوله لها: أنى لك هذا؟ لاستكثار ما يرى عندها . وما عليه الجمهور أصح . والحساب في اللغة: التقتير والتضييق .
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء .
قوله تعالى: هنالك دعا زكريا ربه قال المفسرون: لما عاين زكريا هذه الآية العجيبة من رزق الله تعالى مريم الفاكهة في غير حينها ، طمع في الولد على الكبر . و (من لدنك) بمعنى: من عندك . والذرية ، تقال للجمع ، وتقال للواحد ، والمراد بها هاهنا: الواحد . قال الفراء: وإنما قال طيبة ، لتأنيث الذرية ، والمراد بالطيبة: النقية الصالحة . والسميع: بمعنى السامع . وقيل: أراد مجيب الدعاء
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (72)
صــ381 إلى صــ 385
فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين .
قوله تعالى: (فنادته الملائكة) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر: فنادته بالتاء ، وقرأ حمزة ، والكسائي: فناداه بألف ممالة ، قال أبو علي: هو كقوله تعالى: (وقال نسوة) [ يوسف: 20 ] . وقرأ علي ، وابن مسعود ، وابن عباس: "فناداه" بألف . وفي الملائكة قولان . أحدهما: جبريل وحده ، قال السدي ، ومقاتل ، ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع ، تقول: ركبت في السفن ، وسمعت هذا من الناس . والثاني: أنهم جماعة من الملائكة ، وهو مذهب قوم ، منهم ابن جرير الطبري . وفي المحراب قولان . أحدهما: أنه المسجد . والثاني: أنه قبلة المسجد . وفي تسمية محراب الصلاة محرابا ، ثلاثة أقوال . أحدها: لانفراد الإمام فيه ، وبعده من الناس ، ومنه قولهم: فلان حرب لفلان: إذا كان بينهما مباغضة ، وتباعد ، ذكره ابن الأنباري عن أبيه ، عن أحمد بن عبيد . والثاني: أن المحراب في اللغة أشرف الأماكن ، وأشرف المسجد مقام الإمام . والثالث: أنه من الحرب فالمصلي محارب للشيطان .
قوله تعالى: (أن الله يبشرك بغلام) قرأ الأكثرون بفتح الألف على معنى: فنادته الملائكة بأن الله ، فلما حذف الجار منها ، وصل الفعل إليها ، فنصبها . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، بكسر "إن" فأضمر القول . والتقدير: فنادته ، فقالت: إن الله يبشرك . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو: يبشرك بضم الياء: وفتح الباء ، والتشديد في جميع القرآن إلا في (حم عسق) . (يبشر الله عباده) [ الشورى: 23 ] فإنهما فتحا الياء وضما الشين ، وخففاها . فأما نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، فشددا كل القرآن . وقرأ حمزة: "يبشر" خفيفا في كل القرآن ، إلا قوله تعالى: (فبم تبشرون) [ الحجر: 54 ] . وقرأ الكسائي "يبشر" مخففة في [ ص: 382 ] خمسة مواضع ، في (آل عمران) في قصة زكرياء ، وقصة مريم ، وفي بني (إسرائيل) ، وفي (الكهف) وفي (حم عسق) قال الزجاج: وفي "يبشرك" ثلاث لغات . أحدها: يبشرك ، بفتح الباء وتشديد الشين . والثانية: "يبشرك" بإسكان الباء ، وضم الشين . والثالثة: "يبشرك" بضم الياء وإسكان الباء ، فمعنى "يبشرك" بالتشديد و"يبشرك" بضم الياء: البشارة . ومعنى "يبشرك" بفتح الياء: يسرك ويفرحك ، يقال: بشرت الرجل أبشره: إذا أفرحته ، وبشر الرجل يبشر: إذا فرح .
وأنشد الأخفش والكسائي:
وإذا لقيت الباهشين إلى العلى غبرا أكفهم بقاع ممحل
فأعنهم وابشر بما بشروا به
وإذا هم نزلوا بضنك فانزل
فهذا على بشر يبشر: إذا فرح . وأصل هذا كله أن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور ، ومنه قولهم: يلقاني ببشر . أي: بوجه منبسط ، وفي معنى تسميته "يحيى" خمسة أقوال . أحدها: لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه ، قاله ابن عباس . والثاني: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان ، قاله قتادة . والثالث: لأنه أحياه بين شيخ وعجوز ، قاله مقاتل . والرابع: لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها ، قاله الزجاج . والخامس: لأن الله أحياه بالطاعة ، [ ص: 383 ] فلم يعص ، ولم يهم ، قاله الحسن بن الفضل . وفي "الكلمة" قولان . أحدهما: أنها عيسى ، وسمي كلمة ، لأنه بالكلمة كان ، وهي "كن" وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل . وقيل: إن يحيى كان أكبر من عيسى بستة أشهر ، وقتل يحيى قبل رفع عيسى . والثاني: أن الكلمة كتاب الله وآياته ، وهو قول أبي عبيدة في آخرين ووجهه أن العرب تقول: أنشدني فلان كلمة ، أي: قصيدة . وفي معنى السيد ثمانية أقوال . أحدها: أنه الكريم على ربه قاله ابن عباس ، ومجاهد . والثاني: أنه الحليم التقي ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال الضحاك . والثالث: أنه الحكيم ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، وأبو الشعثاء ، والربيع ، ومقاتل . والرابع: أنه الفقيه العالم ، قاله سعيد بن المسيب . والخامس: أنه التقي ، رواه سالم عن ابن جبير . والسادس: أنه الحسن الخلق ، رواه أبو روق عن الضحاك . والسابع: أنه الشريف ، قاله ابن زيد . والثامن: أنه الذي يفوق قومه في الخير ، قاله الزجاج . وقال ابن الأنباري: السيد هاهنا: الرئيس ، والإمام في الخير . فأما "الحصور" فقال ابن قتيبة: هو الذي لا يأتي النساء ، وهو فعول بمعنى مفعول ، كأنه محصور عنهن ، أي: محبوس عنهن . وأصل الحصر: الحبس . ومما جاء على "فعول" بمعنى "مفعول" ركوب بمعنى مركوب ، وحلوب بمعنى محلوب ، وهيوب بمعنى مهيب . واختلف المفسرون لماذا كان لا يأتي النساء؟ على أربعة أقوال . أحدها: أنه لم يكن له ما يأتي به النساء ، فروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا" قال: ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض ، فأخذ عودا صغيرا ، ثم قال: "وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، ولذلك سماه الله سيدا وحصورا" وقال سعيد بن المسيب: كان له كالنواة . [ ص: 384 ] . والثاني: أنه كان لا ينزل الماء ، قاله ابن عباس ، والضحاك . والثالث: أنه كان لا يشتهي النساء ، قاله الحسن ، وقتادة ، والسدي . والرابع: أنه كان يمنع نفسه من شهواتها ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى: (ونبيا من الصالحين) قال ابن الأنباري: معناه: من الصالحي الحال عند الله .
قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء .
قوله تعالى: (قال رب أنى يكون لي غلام) أي: كيف يكون؟! .
قال الكميت:
أنى ومن أين آبك الطرب
قال العلماء ، منهم الحسن ، وابن الأنباري ، وابن كيسان: كأنه قال: من أي: وجه يكون لي الولد؟ أيكون بإزالة العقر عن زوجتي ، ورد شبابي؟ أم يأتي ونحن على حالنا؟ فكان ذلك على سبيل الاستعلام ، لا على وجه الشك . قال الزجاج: يقال: غلام بين الغلومية ، وبين الغلامية ، وبين الغلومة . قال شيخنا أبو منصور اللغوي: الغلام: فعال ، من الغلمة ، وهي شدة شهوة النكاح . ويقال: للكهل: غلام .
قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج:
[ ص: 385 ]
غلام إذا هز القناة سقاها
وكأن قولهم للكهل: غلام ، أي: قد كان مرة غلاما . وقولهم للطفل: غلام على معنى التفاؤل ، أي: سيصير غلاما . قال: وقيل: الغلام الطار الشارب ، ويقال: للجارية: غلامة . قال الشاعر:
يهان لها الغلامة والغلام
قوله تعالى: وقد بلغني الكبر أي: وقد بلغت الكبر ، قال الزجاج: كل شيء بلغته فقد بلغك . وفي سنة يومئذ ستة أقوال . أحدها: أنه كن ابن مائة وعشرين سنة ، وامرأته بنت ثمان وتسعين سنة ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه كان ابن بضع وسبعين سنة ، قاله قتادة . والثالث: ابن خمس وسبعين ، قاله مقاتل . والرابع: ابن سبعين ، حكاه فضيل بن غزوان . والخامس: ابن خمس وستين . والسادس: ابن ستين ، حكاهما الزجاج . قال اللغويون: والعاقر من الرجال والنساء: الذي لا يأتيه الولد ، وإنما قال: "عاقرا" ولم يقل: عاقرة ، لأن الأصل في هذا الوصف للمؤنث ، والمذكر فيه كالمستعار ، فأجري مجرى "طالق" ، "حائض" هذا قول الفراء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (73)
صــ386 إلى صــ 390
قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار [ ص: 386 ] قوله تعالى: (رب اجعل لي آية) أي: علامة على وجود الحمل . وفي علة سؤاله "آية" قولان . أحدهما: أن الشيطان جاءه ، فقال هذا الذي سمعت من صوت الشيطان ، ولو كان من وحي الله ، لأوحاه إليك ، كما يوحي إليك غيره ، فسأل الآية ، قاله السدي عن أشياخه . والثاني: أنه إنما سأل الآية على وجود الحمل ليبادر بالشكر ، وليتعجل السرور ، لأن شأن الحمل لا يتحقق بأوله ، فجعل الله آية وجود الحمل حبس لسانه ثلاثة أيام . فأما "الرمز" فقال الفراء: الرمز بالشفتين ، والحاجبين ، والعينين ، وأكثره في الشفتين . قال ابن عباس: جعل يكلم الناس بيده . وإنما منع من مخاطبة الناس ، ولم يحبس عن الذكر لله تعالى . وقال ابن زيد: كان يذكر الله ، ويشير إلى الناس . وقال عطاء بن السائب: اعتقل لسانه من غير مرض . وجمهور العلماء على أنه إنما اعتقل لسانه آية على وجود الحمل . وقال قتادة ، والربيع بن أنس: كان ذلك عقوبة له إذ سأل الآية بعد مشافهة الملائكة بالبشارة .
قوله تعالى: (وسبح) قال مقاتل: صل . قال الزجاج: يقال: فرغت من سبحتي ، أي: من صلاتي . وسميت الصلاة تسبيحا ، لأن التسبيح تعظيم الله ، وتبرئته من السوء ، فالصلاة يوصف فيها بكل ما يبرئه من السوء .
قوله تعالى: (بالعشي) العشي: من حين نزول الشمس إلى آخر النهار (والإبكار): ما بين طلوع الفجر إلى وقت الضحى: قال الشاعر:
فلا الظل في برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي يذوق
قال الزجاج: يقال: أبكر الرجل يبكر إبكارا ، وبكر يبكر تبكيرا ، وبكر يبكر [ ص: 387 ] في كل شيء تقدم فيه .
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين .
قوله تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك) قال جماعة من المفسرين: المراد بالملائكة: جبريل وحده . وقد سبق معنى الاصطفاء . وفي المراد بالتطهير هاهنا أربعة أقوال . أحدها: أنه التطهير من الحيض ، قاله ابن عباس . وقال السدي: كانت مريم لا تحيض . وقال قوم: من الحيض والنفاس . والثاني: من مس الرجال ، روي عن ابن عباس أيضا . والثالث: من الكفر ، قاله الحسن ، ومجاهد . والرابع: من الفاحشة والإثم ، قاله مقاتل . وفي هذا الاصطفاء الثاني أربعة أقوال . أحدها: أنه تأكيد للأول . والثاني: أن الأول للعبادة ، والثاني: لولادة عيسى عليه السلام . والثالث: أن الاصطفاء الأول اختيار مبهم ، وعموم يدخل فيه صوالح من النساء ، فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين . والرابع: أنه لما أطلق الاصطفاء الأول ، أبان بالثاني: أنها مصطفاة على النساء دون الرجال . قال ابن عباس ، والحسن ، وابن جريج: اصطفاها على عالمي زمانها . قال ابن الأنباري: وهذا قول الأكثرين .
يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين .
قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك) قد سبق شرح القنوت في "البقرة" وفي المراد به هاهنا أربعة أقوال . أحدها: أنه العبادة ، قاله الحسن . والثاني: طول القيام في الصلاة ، قاله [ ص: 388 ] مجاهد . والثالث: الطاعة ، قاله قتادة ، والسدي ، وابن زيد . والرابع: الإخلاص ، قاله سعيد بن جبير . وفي تقديم السجود على الركوع أربعة أقوال . أحدها: أن الواو لا تقتضي الترتيب ، وإنما تؤذن بالجمع ، فالركوع مقدم ، قاله الزجاج في آخرين . والثاني: أن المعنى استعملي السجود في حال ، والركوع في حال ، لا أنها يجتمعان في ركعة ، فكأنه حث لها على فعل الخير . والثالث: أنه مقدم ومؤخر ، والمعنى: اركعي واسجدي ، كقوله تعالى: إني متوفيك ورافعك إلي [ آل عمران: 55 ] . ذكرهما ابن الأنباري . والرابع: أنه كذلك كان في شريعتهم تقديم السجود على الركوع ، ذكره أبو سليمان الدمشقي . قال مقاتل: ومعناه: اركعي مع المصلين قراء بيت المقدس . قال مجاهد: سجدت حتى قرحت .
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين .
قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب) "ذلك" إشارة على ما تقدم من قصة زكرياء ، ويحيى ، وعيسى ، ومريم . والأنباء: الأخبار . والغيب: ما غاب عنك . والوحي: كل شيء دللت به من كلام ، أو كتاب ، أو إشارة ، أو رسالة ، قاله ابن قتيبة . والوحي في القرآن على أوجه تراها في كتابنا الموسوم بـ"الوجوه والنظائر" مونقة . وفي الأقلام ثلاثة أقوال . أحدها: أنها التي يكتب بها ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي . والثاني: أنها العصي ، قاله الربيع بن أنس . والثالث: أنها القداح ، وهو اختيار ابن قتيبة ، وكذلك قال الزجاج: هي قداح جعلوا عليها علامات يعرفونها على جهة القرعة . وإنما قيل للسهم: [ ص: 389 ] القلم ، لأنه يقلم ، أي: يبرى . وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء ، فقد قلمته ، ومنه القلم الذي يكتب به ، لأنه قلم مرة بعد مرة ، ومنه: قلمت أظفاري . قال: ومعنى: (أيهم يكفل مريم) لينظروا أيهم تجب له كفالة مريم ، وهو الضمان للقيام بأمرها . ومعنى: (لديهم) عندهم وقد سبق شرح كفالتهم لها آنفا . وفي المراد بالكلمة هاهنا ثلاثة أقوال . أحدها: أنه قول الله له: "كن" فكان ، قاله ابن عباس ، وقتادة . والثاني: أنها بشارة الملائكة مريم بعيسى ، حكاه أبو سليمان . والثالث: أن الكلمة اسم لعيسى ، وسمي كلمة ، لأنه كان عن الكلمة . وقال القاضي أبو يعلى: لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من الله تعالى . وفي تسميته بالمسيح ستة أقوال . أحدها: أنه لم يكن لقدمه أخمص ، والأخمص: ما يتجافى عن الأرض من باطن القدم ، رواه عطاء عن ابن عباس . والثاني: أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والثالث: أنه مسح بالبركة ، قاله الحسن ، وسعيد . والرابع: أن معنى المسيح: الصديق قاله مجاهد ، وإبراهيم النخعي ، وذكره اليزيدي . قال أبو سليمان الدمشقي: ومعنى هذا أن الله مسحه ، فطهره من الذنوب . والخامس: أنه كان يمسح الأرض أي: يقطعها ، ذكره ثعلب . وبيانه: أنه كان كثير السياحة . والسادس: أنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن ، قاله أبو سليمان الدمشقي ، وحكاه ابن القاسم وقال أبو عبيد: المسيح في كلام العرب على معنيين . أحدهما: المسيح الدجال ، والأصل فيه: الممسوح ، لأنه ممسوح أحد العينين . والمسيح عيسى ، وأصله بالعبرانية "مشيحا" بالشين ، فلما عربته العرب ، أبدلت من شينه سينا ، كما قالوا: موسى ، وأصله بالعبرانية موشى . قال ابن الأنباري: وإنما بدأ بلقبه ، فقال: المسيح عيسى بن مريم ، لأن المسيح أشهر من عيسى ، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه به ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدمه لشهرته ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم . فأما قوله: عيسى بن مريم ، فإن ما نسبه إلى أمه ، لينفي ما قال عنه الملحدون من النصارى ، إذ أضافوه إلى الله تعالى .
[ ص: 390 ] قوله تعالى: (وجيها) قال ابن زيد: التوجيه في كلام العرب: المحبب المقبول . وقال ابن قتيبة: الوجيه: ذو الجاه . وقال الزجاج: هو ذو المنزلة الرفيعة عند ذوي القدر والمعرفة ، يقال: قد وجه الرجل يوجه وجاهة ، ولفلان جاه عند الناس ، أي: منزلة رفيعة .
قوله تعالى: (ومن المقربين) قال قتادة: عند الله يوم القيامة . والمهد: مضجع الصبي في رضاعه ، وهو مأخوذ من التمهيد ، وهو التوطئة . وفي تكليمه للناس في تلك الحال قولان . أحدهما: لتبرئه أمه مما قذفت به . والثاني: لتحقيق معجزاته الدالة على نبوته . قال ابن عباس: تكلم ساعة في مهده ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق . (وكهلا) قال: ابن ثلاثين سنة أرسله الله تعالى ، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ، ثم رفعه الله . وقال وهب بن منبه: جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة ، فمكث في نبوته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله . قال ابن الأنباري: كان عليه السلام قد زاد على الثلاثين ، ومن أربى عليها ، فقد دخل في الكهولة . والكهل عند العرب: الذي قد جاوز الثلاثين ، وإنما سمي الكهل كهلا ، لاجتماع قوته ، وكمال شبابه ، وهو من قولهم: قد اكتهل النبات . وقال ابن فارس: الكهل: الرجل حين وخطه الشيب . فإن قيل: قد علم أن الكهل يتكلم ، فعنه ثلاثة أجوبة . أحدها: أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره ، أي: أنه يبلغ الكهولة . وقد روي عن ابن عباس أنه قال: (وكهلا) قال: ذلك بعد نزوله من السماء . والثاني: أنه أخبرهم أن الزمان يؤثر فيه ، وأن الأيام تنقله من حال إلى حال ، ولو كان إلها لم يدخل عليه هذا التغير ، ذكره ابن جرير الطبري . والثالث: أن المراد بالكهل: الحليم ، قاله مجاهد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (74)
صــ391 إلى صــ 395
قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .
قوله تعالى: (قالت رب أنى يكون لي ولد) في علة قولها هذا قولان . أحدهما: أنها قالت هذا تعجبا واستفهاما ، لا شكا وإنكارا ، على ما أشرنا إليه في قصة زكريا ، وعلى هذا [ ص: 391 ] الجمهور . والثاني: أن الذي خاطبها كان جبريل ، وكانت تظنه آدميا يريد بها سوءا ، ولهذا قالت: أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا [ مريم: 18 ] ، فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله ، لأنها لم تعلم أنه ملك ، فلذلك قالت: (أنى يكون لي ولد) قاله ابن الأنباري .
قوله تعالى: (ولم يمسسني) أي: ولم يقربني زوج ، والمس: الجماع ، قاله ابن فارس . وسمي البشر بشرا ، لظهورهم ، والبشرة: ظاهر جلد الإنسان ، وأبشرت الأرض: أخرجت نباتها . وبشرت الأديم: إذا قشرت وجهه ، وتباشير الصبح: أوائله . قال: يعني جبريل: (كذلك الله يخلق ما يشاء) أي: بسبب ، وبغير سبب ، وباقي الآية مفسر في "البقرة" .
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل .
قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب) قرأ الأكثرون "ونعلمه" بالنون . وقرأ نافع ، وعاصم بالياء ، فعطفاه على قوله "يبشرك" وفي الكتاب قولان . أحدهما: أنه كتب النبيين وعلمهم ، قاله ابن عباس . والثاني: الكتابة ، قاله ابن جريج ومقاتل . قال ابن عباس: والحكمة: الفقه ، وقضاء النبيين .
ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين .
قوله تعالى: (ورسولا) قال الزجاج: ينتصب على وجهين . أحدهما: ونجعله رسولا ، والاختيار عندي: ويكلم الناس رسولا .
قوله تعالى: (أني أخلق) قرأ الأكثرون "أني" بالفتح ، فجعلوها بدلا من آية فكأنه قال: قد جئتكم بأني أخلق لكم ، وقرأ نافع بالكسر ، قال أبو علي: يحتمل وجهين . أحدهما: أن يكون مستأنفا . والثاني: أنه فسر الآية بقوله: أني أخلق ، أي: أصور وأقدر .
[ ص: 392 ] قال ابن عباس: أخذ طينا ، وصنع منه خفاشا ، ونفخ فيه ، فإذا هو يطير ، ويقال: لم يصنع غير الخفاش ، ويقال: إن بني إسرائيل نعتوه بذلك لأن الخفاش عجيب الخلق . وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا: الخفاش . فسألوه أشد الطير خلقا ، لأنه يطير بغير ريش . وقال وهب: كان الذي صنعه يطير ما دام الناس ينظرونه ، فإذا غاب عن أعينهم ، سقط ميتا ، ليميز فعل الخلق من فعل الخالق . والأكثرون قرؤوا (فيكون طيرا) وقرأ نافع هاهنا وفي (المائدة) طائرا . قال أبو علي: حجة الجمهور قوله تعالى: (كهيئة الطير) ولم يقل: كهيئة الطائر . ووجهة قراءة نافع: أنه أراد: يكون ما أنفخ فيه ، أو ما أخلقه ، طائرا . وفي "الأكمه" أربعة أقوال . أحدها: أنه الذي يولد أعمى ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وسعيد عن قتادة ، وبه قال اليزيدي ، وابن قتيبة ، والزجاج . والثاني: أنه الأعمى ، ذكره ابن جريج عن ابن عباس ، ومعمر عن قتادة ، وبه قال الحسن ، والسدي . وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه: هو الذي يولد أعمى ، وهو الذي يعمى ، وإن كان بصيرا . والثالث: أنه الأعمش ، قاله عكرمة . والرابع: أنه الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل ، قاله مجاهد والضحاك . والأبرص: الذي به وضح . وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام ، علم الطب ، فأراهم المعجزة من جنس ذلك ، إلا أنه ليس في الطب إبراء الأكمه والأبرص ، وكان ذلك دليلا على صدقه . قال وهب: ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا ، وإنما كان يداويهم بالدعاء . وذكر المفسرون أنه أحيا أربعة أنفس من الموت . وعن ابن عباس: أن الأربعة كلهم بقي حتى ولد له ، إلا سام بن نوح .
قوله تعالى: (وأنبئكم بما تأكلون) قال سعيد بن جبير : كان عيسى إذا كان في المكتب يخبرهم بما يأكلون ، ويقول للغلام: يا غلام إن أهلك قد هيئوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمني منه؟ وقال مجاهد: بما أكلتم البارحة ، وبما خبأتم منه . وعلى هذا المفسرون ، إلا أن [ ص: 393 ] قتادة كان يقول: وأنبئكم بما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم ، وما تدخرون منها ، وكان أخذ عليهم أن يأكلوا منها ، ولا يدخروا ، فلما خانوا ، مسخوا خنازير .
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم .
قوله تعالى: (ومصدقا لما بين يدي) قال الزجاج: نصب "مصدقا" على الحال ، أي: وجئتكم مصدقا (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) قال قتادة: كان قد حرم عليهم موسى الإبل والثروب وأشياء من الطير ، فأحلها عيسى .
قوله تعالى: (وجئتكم بآية) أي: بآيات تعلمون بها صدقي ، وإنما وحد ، لأن الكل من جنس واحد (من ربكم) أي: من عند ربكم .
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون .
قوله تعالى: (فلما أحس عيسى) أي: علم . قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أحسست بالشيء ، وحسست به ، وقول الناس في المعلومات "محسوسات" خطأ ، إنما الصواب "المحسات" فأما المحسوسات ، فهي المقتولات ، يقال: حسه: إذا قتله . والأنصار: الأعوان . و"إلى" بمعنى "مع" في قول الجماعة ، قال الزجاج: وإنما حسنت في موضع "مع" لأن "إلى" غاية و"مع" تضم الشيء بالشيء . قال ابن الأنباري: ويجوز أن [ ص: 394 ] يكون المعنى: من أنصاري إلى أن أبين أمر الله . واختلفوا في سبب استنصاره بالحواريين ، فقال مجاهد: لما كفر به قومه ، وأرادوا قتله ، استنصر الحواريين . وقال غيره: لما كفروا به ، وأخرجوه من قريتهم ، استنصر الحواريين . وقيل: استنصرهم لإقامة الحق ، وإظهار الحجة . والجمهور على تشديد "ياء" الحواريين . وقرأ الجوني ، والجحدري ، وأبو حيوة: الحواريون بتخفيف الياء . وفي معنى الحواريين ستة أقوال . أحدها: أنهم الخواص الأصفياء ، قال ابن عباس: الحواريون: أصفياء عيسى . وقال الفراء: كانوا خاصة عيسى . وقال الزجاج: الحواريون في اللغة: الذين أخلصوا ، ونقوا من كل عيب ، وكذلك الدقيق: الحواري ، إنما سمي بذلك ، لأنه ينقى من لباب البر وخالصه . قال حذاق اللغويين: الحواريون: صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في تصديقهم ونصرتهم . ويقال: عين حوراء: إذا اشتد بياضها . وخلص ، واشتد سوادها ، ولا يقال: امرأة حوراء ، إلا أن تكون مع حور عينها بيضاء . والثاني: أنهم البيض الثياب ، روى سعيد بن جبير . عن ابن عباس أنهم سموا بذلك ، لبياض ثيابهم . والثالث: أنهم القصارون ، سموا بذلك ، لأنهم كانوا يحورون الثياب ، أي: يبيضونها . قال الضحاك ، ومقاتل: الحواريون: هم القصارون . قال اليزيدي: ويقال: للقصارين: الحواريون ، لأنهم يبيضون الثياب ، ومنه سمي الدقيق: الحوارى ، والعين الحوراء: النقية المحاجر . والرابع: الحواريون: المجاهدون .
وأنشدوا:
ونحن أناس يملأ البيض هامنا ونحن حواريون حين نزاحف
[ ص: 395 ] جماجمنا يوم اللقاء تراسنا
إلى الموت نمشي ليس فينا تحانف
والخامس: الحواريون: الصيادون . والسادس: الحواريون: الملوك ، حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري . قال ابن عباس: وعدد الحواريين اثنا عشر رجلا . وفي صناعتهم قولان . أحدهما ، أنهم كانوا يصطادون السمك ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس . والثاني: أنهم كانوا يغسلون الثياب ، قاله الضحاك ، وأبو أرطأة .
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين .
قوله تعالى: (ربنا آمنا بما أنزلت) هذا قول الحواريين . والذي أنزل: الإنجيل والرسول: عيسى . وفي المراد بالشاهدين خمسة أقوال . أحدها: أنهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته ، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ، رواه عكرمة عن ابن عباس . والثاني: أنهم من آمن قبلهم من المؤمنين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثالث: أنهم الأنبياء ، لأن كل نبي شاهد أمته ، قاله عطاء . والرابع: أن الشاهدين: الصادقون ، قاله مقاتل . والخامس: أنهم الذين شهدوا للأنبياء بالتصديق . فمعنى الآية: صدقنا ، واعترفنا ، فاكتبنا مع من فعل فعلنا ، هذا قول الزجاج .
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين .
قوله تعالى: (ومكروا ومكر الله) قال الزجاج: المكر من الخلق: خبث وخداع ، ومن الله عز وجل: المجازاة ، فسمي باسم ذلك ، لأنه مجازاة عليه ، كقوله تعالى: الله يستهزئ بهم [ البقرة: 15 ] ، والله خير الماكرين [ آل عمران: 54 ] ، لأن مكره مجازاة ، ونصر للمؤمنين . قال ابن عباس: ومكرهم ، أن اليهود أرادوا قتل عيسى ، فدخل خوخة ، فدخل رجل منهم ، فألقى عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى إلى السماء ، فلما خرج إليهم ، ظنوه عيسى ، فقتلوه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
-
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ آَلِ عِمْرَانَ
الحلقة (75)
صــ396 إلى صــ 400
إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون .
قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك) قال ابن قتيبة: التوفي ، من استيفاء العدد ، يقال: توفيت ، واستوفيت ، كما يقال: تيقنت الخبر ، واستيقنته ، ثم قيل للموت: وفاة ، وتوف . وأنشد أبو عبيدة:
إن بني الأدرد ليسوا من أحد ليسوا إلى قيس وليسوا من أسد
ولا توفاهم قريش في العدد
أي: لا تجعلهم وفاء لعددها ، والوفاء: التمام . وفي هذا التوفي قولان . أحدهما: أنه الرفع إلى السماء . والثاني: أنه الموت . فعلى القول الأول يكون نظم الكلام مستقيما من غير تقديم وتأخير ، ويكون معنى "متوفيك" قابضك من الأرض وافيا تاما من غير أن ينال منك اليهود شيئا ، هذا قول الحسن ، وابن جريج ، وابن قتيبة ، واختاره الفراء ، ومما يشهد لهذا الوجه قوله تعالى: فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم [ المائدة: 117 ] ، أي: [ ص: 397 ] رفعتني إلى السماء من غير موت ، لأنهم إنما بدلوا بعد رفعه ، لا بعد موته . وعلى القول الثاني: يكون في الآية تقديم وتأخير ، تقديره: إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ، ومتوفيك بعد ذلك ، هذا قول الفراء ، والزجاج في آخرين . فتكون الفائدة في إعلامه بالتوفي تعريفه أن رفعه إلى السماء لا يمنع من موته . قال سعيد بن المسيب: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة . وقال مقاتل: رفع من بيت المقدس ليلة القدر في رمضان . وقيل: عاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين . ويقال: ماتت قبل رفعه .
قوله تعالى: (ومطهرك من الذين كفروا) فيه قولان . أحدهما: أنه رفعه من بين أظهرهم . والثاني: منعهم من قبله . وفي الذين اتبعوه قولان . أحدهما: أنهم المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهم صدقوا بنبوته ، وأنه روح الله وكلمته ، هذا قول قتادة ، والربيع ، وابن السائب . والثاني: أنهم النصارى ، فهم فوق اليهود ، واليهود مستذلون مقهورون ، قاله ابن زيد .
قوله تعالى: (فيما كنتم فيه تختلفون) يعني الدين .
فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين .
قوله تعالى: (فأما الذين كفروا) قيل: هم اليهود والنصارى ، وعذابهم في الدنيا بالسيف والجزية ، وفي الآخرة بالنار .
وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين .
قوله تعالى: (فيوفيهم أجورهم) قرأ الأكثرون بالنون ، وقرأ الحسن ، وقتادة ، وحفص عن عاصم: فيوفيهم بالياء معطوفا على قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى) .
ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم
[ ص: 398 ] قوله تعالى: (ذلك نتلوه عليك) يعني ما جرى من القصص . (من الآيات) يعني الدلالات على صحة رسالتك ، إذ كانت أخبارا لا يعلمها أمي . (والذكر الحكيم) قال ابن عباس: هو القرآن . قال الزجاج: معناه: ذو الحكمة في تأليفه ونظمه ، وإبانة الفوائد منه .
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون .
قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية ، مخاصمة وفد نجران من النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم ، في أمر عيسى ، وقد ذكرناه في أول السورة . فأما تشبيه عيسى بآدم ، فلأنهما جميعا من غير أب .
قوله تعالى: (خلقه من تراب) يعني: آدم . قال ثعلب: وهذا تفسير لأمر آدم . وليس بحال .
قوله تعالى: (ثم قال له) يعني لآدم ، وقيل لعيسى (كن فيكون) أي: فكان: فأريد بالمستقبل الماضي ، كقوله تعالى: واتبعوا ما تتلو الشياطين أي: ما تلت الشياطين .
الحق من ربك فلا تكن من الممترين .
قوله تعالى: (الحق من ربك) قال الزجاج: الحق مرفوع على خبر ابتداء محذوف ، المعنى: الذي أنبأتك به في قصة عيسى الحق من ربك (فلا تكن من الممترين) أي: الشاكين والخطاب للنبي خطاب للخلق ، لأنه لم يشك .
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين [ ص: 399 ] قوله تعالى: (فمن حاجك فيه) في "هاء" فيه قولان . أحدهما: أنها ترجع إلى عيسى . والثاني: إلى الحق . والعلم: البيان والإيضاح .
قوله تعالى: (فقل تعالوا) قال ابن قتيبة: تعالى: تفاعل ، من علوت ، ويقال للاثنين من الرجال والنساء: تعاليا ، وللنساء: تعالين ، قال الفراء: أصلها من العلو ، ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياها ، صارت عندهم بمنزلة "هلم" حتى استجازوا أن يقولوا للرجل ، وهو فوق شرف: تعالى ، أي: اهبط . وإنما أصلها: الصعود . قال المفسرون: أراد بأبنائنا: فاطمة والحسن ، والحسين . وروى مسلم في "صحيحه" من حديث سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية (تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: "اللهم هؤلاء أهلي" .
قوله تعالى: (وأنفسنا) فيه خمسة أقوال . أحدها: أراد علي بن أبي طالب ، قاله الشعبي . والعرب تخبر عن ابن العم بأنه نفس ابن عمه . والثاني: أراد الأخوان ، قاله ابن قتيبة . والثالث: أراد أهل دينه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . والرابع: أراد الأزواج . والخامس: أراد القرابة القريبة ، ذكرهما علي بن أحمد النيسابوري . فأما الابتهال ، فقال ابن قتيبة: هو التداعي باللعن ، يقال: عليه بهله الله . وبهلته أي: لعنته . وقال الزجاج: معنى الابتهال في اللغة: المبالغة في الدعاء ، وأصله: الالتعان ، يقال: بهله الله ، أي: لعنه . وأمر بالمباهلة بعد إقامة الحجة . قال جابر بن عبد الله: قدم وفد نجران فيهم السيد والعاقب ، فذكر الحديث . إلى أن قال: فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه أن يفادياه ، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين . ثم أرسل إليهما ، فأبيا أن يجيباه ، فأقرا له بالخراج ، فقال: [ ص: 400 ] والذي يعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهم نارا .
إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم .
قوله تعالى: (وما من إله إلا الله) قال الزجاج: دخلت "من" هاهنا توكيدا ودليلا على نفي جميع ما ادعى المشركون من الآلهة .
فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين .
قوله تعالى: (فإن تولوا) فيه ثلاثة أقوال . أحدها: عن الملاعنة ، قاله مقاتل . والثاني: أنه عن البيان الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله الزجاج . والثالث: عن الإقرار بوحدانية الله ، وتنزيهه عن الصاحبة والولد ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وفي الفساد هاهنا قولان . أحدهما: أنه العمل بالمعاصي ، قاله مقاتل . والثاني: الكفر ، ذكره الدمشقي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg