الحمد لله، والصلاة والسلام عهلى رسول الله.
جزاك الله خيرًا أخي أبا الفداء.
كعادتك: أفدتَ فأجدت!
والاعتراض على قاعدة "الجزاء من جنس العمل"، باقتراح "الجزاء من جنس النية" بديلاً، كنت قرأته في مقال في إحدى المجلاّت الإسلامية منذ فترة بعيدة. وغاب عنّي الآن اسمها (وأظنّها مجلّة "المجتمع" الكويتية)، واسم الكاتب؛ بل غابت عنّي تفاصيل المقال. وما ذكرتُه من اعتراضات محتمَلة إنّما هو تفريع على ذلك.
ويضاف إلى ما تفضّلتَ به ردّا على تلك الاعتراضات:
/// توجد حالات، العمل فيها واحد؛ لكن حكم فاعله يختلف باختلاف فاعله، وكذا الجزاء المترتّب على ذلك. مثاله: تارك الصلاة تكاسُلاً، وتاركها عمدًا، وتاركها جحودًا بحكمها.
= ترك الصلاة في الحالات الثلاث المذكورة صورته مشتركة، لكن ماهية كلّ ترك تختلف عن الآخر. ومثال ذلك: إذا كنتَ موشكًا على الغرق، ومرّ بك ثلاثة أشخاص فلم يُنجدوك؛ لكنّك علمتَ أنّ الأوّل لم يهبّ لنجدتك لأنه لا يؤمن بجدوى نجدة الآخر ولا وجوبها، والثاني تعمّد ذلك لسبب خاص به، والثالث لم يفعله تكاسلاً. فإنّ نظرتك إلى هذا الفعل وحكمك على مرتكبه سيختلفان لا ريب من شخص إلى آخر.
فصورة الترك مشتركة، لكن ماهيّته مختلفة، والقصد هو الذي يحدّد الماهية؛ إذ لا فعل له اعتبار إلاّ بقصد، والقصد هو الذي يحدّد طبيعة الفعل.
/// قولنا "الجزاء من جنس العمل" يستبعد مسألة الاتباع والاقتداء. وقد نصّ الحديث على أنّ "كلّ أمر ليس عليه أمرنا فهو رَدّ". ولعلّك أومأتَ إلى شيء من ذلك في مشاركتك السابقة...
= العمل الناشئ عن غير اتّباع، هو عمل غير مشروع. وما كان غير مشروع لا يستتبع الجزاء، بل قد يكون جزاؤه جزاء مرتكب المنهيّ عنه.
/// ثبتت مشروعية قضاء بعض العبادات عن الميت (النذر، الحج... إلخ). وفي هذه الحالات يجازى المرء بما لم يعمله.
= هذا المثال يطابق صورة الدَّين. وبراءة ذمّة المدين مرتبطة بقضاء الدّين، سواء باشره المدين أو غيره. والعمل الصادر عمّن يقضي عن الميِّت من شرطه نيّة القضاء عن ذلك الميّت. فهو منسوب إلى فاعله من حيث الأداء، وإلى المقضيّ عنه من حيث الجزاء. بدليل أنّ الذي قضي الحج عن غيره – مثلا- لا ينسب ذلك الحج إلى نفسه، بل ينسبه إلى من حجّ عنه. كما أنّ قضاء الولد عن أحد والديه –مثلا- مرتبط أيضًا بعمل صالح سابقٍ لهما، هو تنشئته على طاعة الله، لولاه لما وقع ذلك القضاء؛ ففِعل الولد هو على وجهٍ ما من عمل أحد الوالدين.
/// ثبت أنّ الذي ينام عن صلاته بالليل غلبةً، يُكتَب له أجر تلك الصلاة.
= وإنّما أثيب لعلم الله بحاله، وأنّه لولا غلبة النوم لصلّى وِرْدَه. ومثال ذلك: الأجير الذي يتغيّب عن عمله لسبب طارئ، فينظر صاحب العمل العادل إلى سابق حاله واعتياده على مزاولة عمله بانتظام فيستصحبها...
/// ثبت أنّ الذي يهمّ بالحسنة ثم لا يعملها تكتَب له حسنة.
/// ثبت أنّ الذي يسأل الله الشهادةَ بصدق يبلَّغ منازل الشهداء، وإن مات على فراشه.
= الهَمُّ بالحسنة من أعمال القلوب، لذا كان مناط الجزاء.
/// وورَدَ أنّ الذي يرجئ دفْع المهر وهو ينوي التنصُّلَ منه يلقى الله وهو زانٍ، وأنّ من يستدين وهو ينوي عدم سداد دَيْنه يلقى الله وهو سارق. فما الفرق بينه وبين الذي ينوي دفع المهر أو قضاء الدّين، إن لم تكن النيّة؟
= الفرقُ هو أنّ الأوّل لو عاش الدهرَ كلَّه لما دفع المهر ولما قضى الدَّيْن، بينما الثاني يفعل ذلك إذا تيسَّر له الأمر. وهذا ملموس في الشاهد؛ إذ حكمنا على المدين الذي تضافرت القرائن للدلالة على أنه لا ينوي قضاء دَينه يختلف عن حكمنا على المصمّم على قضائه متى تيسّر له ذلك. ولو وصل الأمر إلى مقاضاة الرجلين، لتشدّدنا مع الأول واعتبرناه سارقًا، ولتساهلنا مع الثاني أو عفونا عنه؛ فحكمنا على كليهما باعتبار المآل استنادًا إلى الحل.
/// وجاء في حديث الرجل الذي قتل مائة نفس، ثم تاب ومات أنه يدخل الجنة؛ مع أنّه لم يعمل أيّ عمل صالح!
بارك الله فيك.
= هذا الرجل مات على توبة، والتوبة تَجُبُّ ماقبلها. والتوبة عمل صالح. كما أنّه مات وهو في طريقه إلى موضع آخر بنية الاستزادة من فعل الخيرات، وهذا العمل في ذاته عملٌ صالح.
أمّا الاعتراض الكُلِّي على قاعدة "الجزاء من جنس العمل"، فيمكن الجواب عنه من عدّة أوجُه. منها:
////// العمل المعتبر شرعًا يشمل حركات القلب، ونطق اللسان، وعمل الجوارح. من أمثلة ذلك: حسن الظن بالناس: عمل مأمور به، وفاعله مثاب. والحسد: منهيٌّ عنه، وفاعله آثم. والذِّكر: عمل مأمور به، وفاعله مثاب. والغيبة: منهيٌّ عنها، ومقترفها آثم... إلخ.
////// النيّة موجِّه ومصحِّح للعمل. وهي بهذا جزء من العمل. فلا عمل له اعتبار شرعًا إلا مرتبطًا بالنية، ولا نيّة إلا مرتبطة بالعمل. وإذا انفردت النيّة وعرت عن العمل (عمل الجوارح أو اللسان)، كانت هي في حدّ ذاتها عملاً، اعتبارًا بمآلها وسابق حال صاحبها أو صدقِه.
////// لفظ العمل المعتبر شرعًا يقع على العمل الناشئ عن القصد. ولهذا –مثلاً- لم يُعتبَر المكرَه آثمًا بفعل المنهيِّ عنه، وإن وقع منه الفعل. ومثال ذلك أيضًا القتل، فإنّ مناط التمييز فيه بين العمد والخطأ إنّما هو القصد، ولتحديد هذا القصد التُفِت إلى القرائن المرجّحة لإلحاقه بأحد الصنفين.
////// قولنا "الجزاء من جنس العمل" لا يعني المماثلة بينهما في المقدار، بل بين جنس العمل وجنس الجزاء؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشرّ. ولهذا اعتبارات كثيرة، عدا تلك المرتبطة بفضل الله ورحمته وعدله. ومن هذا الباب: كون الوضوء على المكاره أعظم أجرًا؛ وكون الزاني بحليلة جاره، أو وهو في حال الشيخوخة، أكثر إثمًا من غيره... إلخ.
////// الحالات التي تكون النيّة فيها منقطعة عن العمل، ومع ذلك يقع الجزاء عليها: حالات محدودة ومحصورة. أمّا حالات النية المرتبطة بالعمل فمستفيضة، وهي الغالبة. لذا وجب الأخذ بالغالب في مسألة الجزاء، وهو ارتباطه بالعمل. هذا على التسليم بأنّ النيّة وحدها لا يقع عليها اسم العمل.
فمناط المسألة كلّها مرتبط بتعريف العمل. وإذا اعتبرنا القصدَ محدِّدًا لماهية العمل وجودًا وعدمًا (بدليل أحكام المكرَه والناسي...)، زال الإشكال. واختيار العمل بدلَ النيّة أرجح، تغليبًا؛ إذ الغالب عند تأخُّر العمل عن النية اعتبار العمل.
والله أعلم.