الإيجاد في بيان أن قول الصحابي ليس بحجة فيما يجوز فيه الاجتهاد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعـده ، وعلى آله وصحبه ، أما بعد : فالصحابة خير هذه الأمة بعد النبي محمد r ،وقد قال الله فيهم : ﴿ ُّمحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾[1] ،وقد شهد النبي r للصحابة بالخيرية فقال : « خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم »[2]وهم الذين جعلهم الله سبب في نشر دينه ،وحفظه ، وقد اختارهم الله لمرافقة النبي r في إقامته وسفره ، وقد سمعوا أقواله r ،وشاهدوا أفعاله لذلك هم أعرف هذه الأمة بربها ، وأعلم الناس بسنة نبيها r ، والغالب في قول الصحابي فيما يجوز فيه الاجتهاد أن يكون قوله مما سمعه من النبي r ،ولكنه لم يصرح بالسماع من النبي r أو أن يكون قد سمعها ممن سمعها من النبي r أو يكون مما علمه بمشاهدته لأفعال النبي r أو تقريراته ، ولم يصرح بالمشاهدة أو يكون بمجموع ما حصله من العلوم بطول صحبته للنبي r ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته وسماع كلامه ، والصحابي عدل عالم باللغة وبأصول الاجتهاد ، وكل هذا يدل على أن اجتهاده أولى من اجتهاد غيره ،ولا تدل هذه الأدلة أن قوله حجة فمَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الخطأ وَالسَّهْوُ وَلَمْ تَثْبُتْ عِصْمَتُهُ من الخطأ والسهو فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِقَوْلِ الصحابة مع احترامهم وتقديرهم مَعَ جَوَازِ الْخَطَأِ منهم ؟ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ عصمتهم ،وهم يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الِاخْتِلَافُ ؟ وَكَيْفَ يَخْتَلِفُ الْمَعْصُومَانِ ؟ ، وهذا بحث مختصر في بيان عدم حجية قول الصحابي فيما يجوز فيه الاجتهاد مع تسليمنا بأن قوله أولى من قول غيره فأسأل الله أن يرشدنا إلى الصواب إنه ولي ذلك والقادر عليه .
[1] - سورة الفتح الآية 29
[2] - رواه البخاري في صحيحه 2/ 938 رقم 2509 ( الناشر : دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت الطبعة الثالثة ، 1407هـ - 1987 م ) ورواه مسلم في صحيحه 4/ 1962 رقم 2533 ( دار إحياء التراث العربي بيروت تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي )
الفصل الأول : تعرف الصحابي و تحرير محل النزاع
المطلب الأول : تعريف الصحابي :
الصحابي لغة : منسوب إلى الصحابة ،وهي مصدر صحبَ يَصحُبُ صُّحبَةً بمعنى لازم ملازمةً و رافق مرافقةً وعاشر معاشرة ،والصاحب هو المعاشر ، أو المنقاد ، أو المجالس ، أو المشايع ، أو المرافق ، أو القائم على الشيء ، أو الحافظ له . ويطلق ايضا على كل من تقلد مذهباً ، فيقال : اصحاب الامام جعفر ، وأصحاب أبي حنيفة ، وأصحاب الشافعي ... إلخ . ويقال : اصطحب القوم أي صحب بعضهم بعضاً ، واصطحب البعير أي انقاد له[1] ..،والصحابي اصطلاحاً عند جمهور علماء الأصول : كل من آمن بالنبي r ، وصحبه وطالت صحبته له ، ومات على الإسلام فخرج بقولنا : (( آمن بالنبي r )) من لقى النبي r قبل بعثته أو لقيه ،وهو كافر ، ولم يسلم في حياته r ،وإن أسلم بعد وفاته r ،وخرج به أيضا من أسلم ظاهرا وكان منافقا ، وخرج بقولنا : (( وطالت صحبته له )) من لقيه مرة أو مرتين أو رآه من بُعد ، وخرج بقولنا : (( ومات على الإسلام )) من اسلم ثم ارتد ، ومات على الكفر[2] .
[1] - انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي 1/ 91 ( الطبعة الأميرية الثالثة 1301هـ ) و لسان العرب لابن منظور 1/519 ( الناشر : دار صادر بيروت 1414هـ -1994م )،والمصباح المنير للفيومي ص127 ( الناشر مكتبة لبنان 1990م )،و المعجم الوسيط مادة صحب
[2]- انظر الواضح في أصول الفقه للدكتور محمد سليمان الأشقر ص 131-132 ( دار النفائس عمان الأردن دار السلام القاهرة الطبعة الأولى 1422هـ - 2001 م ) والوجيز في أصول الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان ص 260 ( مؤسسة الرسالة الطبعة السابعة 1421هـ 2000 م )، والوجيز في أصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي ص 105 ( دار الفكر بيروت الإعادة الحادية عشر 1427هـ - 2006م ) ، وقول الصحابي عند الأصوليين للدكتور على جمعة ص 9 ( دار الرسالة القاهرة الطبعة الأولى 1425هـ - 2004م )
المطلب الثاني : تحرير محل النزاع :
المطلب الثاني : تحرير محل النزاع :
المراد بقول الصحابي قول الصحابي الذي لم يعرف اشتهاره ولم يخالفه غيره، وكان في المسائل الاجتهادية فقد اتفق العلماء على الأخذ بقول الصحابي فيما لا مجال للرأي أو الاجتهاد فيه؛ لأنه من قبيل الخبر التوقيفي عن النبي r ،و لا خلاف فيما أجمع عليه الصحابةصراحة ، أو قول صحابي إذا اشتهر في مسألة عمت بها البلوى واحتاج إليها الناس ،ولم ينكر باقي الصحابة عليه فهذا إقراراً منهم على هذا القول ،ولا خلاف في أن قول الصحابي الاجتهادي ليس حجة على صحابي آخر ؛ لأنالصحابةاختلف وا في كثير من المسائل [1]، وإنما الخلاف في فتوى الصحابي بالاجتهاد المحض بالنسبة لمن بعده ، هل يعتبرحجة شرعية أم لا ، حيث اختلف الأصوليون في ذلك على أقوال كثيرة ترجع لقولين : القول الأول: حجة قول الصحابي ،وتقديمه على القياسمطلقا، وإليه ذهب أكثر الحنفية، والإمام مالك وأصحابه، وهو مذهب الشافعي في القديم،وبه قال الإمام أحمد في الرواية الثانية عنه، واختاره ابن قدامة، وهو مذهب أبي عليالجبائي من المعتزلة[2] القول الثاني: قول الصحابي ليسبحجة مطلقا، وإليه ذهب الإمام الشافعيفي القول الجديد، وجمهور الشافعية ، وبهقال أبو الحسن الكرخي وأبو زيد الدبوسي من الحنفية، وابن الحاجب من المالكية، وبهقال الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه واختاره أبو الخطاب وابن عقيل والفخر إسماعيل وهو مذهب جمهور المعتزلة واختاره الشوكاني والغزالي والآمدي من الشافعية [3] .
[1]- انظر الإحكام للآمدي 4/ 155 ( دار الكتاب العربي بيروت 1404هـ الطبعة الأولى تحقيق : الدكتور سيد الجميلي ) المدخل إلي مذهب الإمام أحمد لابن بدران ص 290 ( مؤسسة الرسالة بيروت 1401هـ الطبعة الثانية تحقيق : الدكتور عبد الله التركي ) وعلم أصول الفقه للدكتور محمد الزحيلي ص 58 ( دار القلم الطبعة الأولى 1425هـ 2004م ) و الوجيز في أصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي ص 105
[2] - انظر أصول السرخسي 2/110 ( الناشر : دار المعرفة بيروت 1372هـ ) و التبصرة في أصول الفقه لأبي إسحاق الشيرازي ص 395 ( الناشر : دار الفكر دمشق 1403هـ الطبعة الأولى تحقيق محمد حسن هيتو ) ،وفواتح الرحموت لابن نظام الأنصاري 2/186 ( طبع على هامش المستصفى للغزالي المطبعة الأميرية ببولاق 1322هـ )
[3] - انظر التبصرة في أصول الفقه لأبي إسحاق الشيرازي ص 395 و الإحكام للآمدي 4/ 155 و المسودة لآل تيمية وآخرون ص 337 ( مطبعة المدني 1983م )
الفصل الثاني : أدلة المحتجين بقول الصحابي ومناقشتها : الدليل الأول
الدليل الأول :
قوله تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ [1]أخبر سبحانه و تعالى أنه جعل الصحابة أمةً خياراً عدولاً ،وهذا حقيقة الوسط . فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإراداتهم و نياتهم ،والشهادة تشمل الشهادة على الأمم والشهادة على أحكام أعمالهم، والشهيد قوله مقبول فإذا كان مقبولا على أعمال الناس فهو مقبول على أحكام الأعمال من الحل والحرمة وغير ذلك .
مناقشة الاستدلال :
الآية ليست نصا في حجية المخاطبين بالآية ،والخطاب في الآية على التسليم بقولكم أن المخاطب به الصحابة فالخطاب لمجموعهم ،ولا يلزم من كون ما أجمعوا عليه حجة أن يكون قول الواحد والاثنين منهم حجة ، وكلمة ( وسطا ) لها عدة معاني ، فقد يعني الوسط : العدل أوالخيرية أو مجانبة الغلو فيكون المراد ما شرعه الله من الدين وسط لا إفراط فيه ،ولا تفريط فتكون وسطا بهذا المعنى ، و مجرد العدالة لا يوجب كون كل ما يصدر عن الواحد منهم من السنة ،و إلا لعممنا الحكم إلى كل عادل سواء كان صحابيا أم غير صحابي، وغاية ما تقتضيه العدالة أن الصحابة عندهم ملكة في أنفسهم تحملهم على ملازمة التقوى والمروءة والتقوى وامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه من كفر أو فسق أو بدعة فلا يرتكبون كبيرة ،ولا يصرون على صغيرة مع تحليهم بمحاسن الأخلاق وجميل العادات ، أما مطابقة ما يصدر عنهم للأحكام الواقعية ليكون سنة، فهذا أجنبي عن مفهوم العدالة تماما ،و لا تلازم بين صدور العمل الصالح ، وبين استقامة الشخص في بقيّة أعماله ، فضلا عن عصمته وإمامته في الدين ، وهل الصحابة فقط هم الذين يشهدون على الأمم أم كل الأمة ؟ وقبول شهادة شخص على شيء لا يستلزم حجية هذا الشخص .
[1]- سورة البقرة من الآية 143