-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (600)
سُورَةُ الْقَدْر
صـ 23 إلى صـ 32
مسألة
بيان أولية الكتابة عامة والعربية خاصة ، وأول من خط بالقلم على الأرض :
جاء في المطالع النصرية للمطابع المصرية في الأصول الخطية المطبوع سنة 1304 هـ ما نصه : وإنما أصول الكتابة اثني عشر على ما قاله ابن خلكان ، وتبعه كثير من المؤلفين ، كالدميري في حياة الحيوان ، والحلبي في السيرة وغيرهما .
قال : إن جميع كتابات الأمم من سكان المشرق والمغرب اثنتي عشرة كتابة ، خمس منها ذهب من يعرفها وبطل استعمالها وهي : الحميرية ، والقبطية ، والبربرية ، والأندلسية ، واليونانية ، وثلاث منها فقد من يعرفها في بلاد الإسلام ومستعملة في بلادها ، وهي السريانية والفارسية والعبرانية والعربية . ا هـ . كلامه باختصار وفيه ما فيه .
قال : والحميرية : هي خط أهل اليمن قوم هود وهم عاد الأولى ، وهي عاد إرم ، وكانت كتابتهم تسمى المسند الحميري ، وكانت حروفها كلها منفصلة ، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم ، حتى جاءت دولة الإسلام ، وليس بجميع اليمن من يكتب ويقرأ .
وقال المقريزي في الخطط : القلم المسند ، هو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد . ا هـ .
والمعروف الآن أن الحروف المستعملة في الكتابة في العالم كله بصرف النظر عن اللغات المنطوق بها هي ثلاثة فقط ، الخط العربي بحروف ألف باء وبها لغات الشرق . والحروف اللاتينية وبها لغات أوروبا والحروف الصينية .
أما اللغات ، وهي فوق ألفي لغة " والأمهرية بحرف قريب من اللاتيني " .
أما أولية الكتابة العربية ، فقال صاحب المطالع النصرية : فقد اختلفت الروايات فيها ، كما قاله الحافظ السيوطي في الأوائل .
وكذا في المزهر في النوع الثاني والأربعين ، قال : إنه يرى أن آدم عليه السلام أول من كتب بالقلم ، وأن الكتابات كلها من وضعه ، كان قد كتبها في طين وطبخه ، يعني [ ص: 24 ] أحرقه ودفنه قبل موته بثلاثمائة سنة ، وبعد الطوفان وجد كل قوم كتابا فتعلموه ، وكانت اثني عشر كتابا ، فتعلموه بإلهام إلهي .
وقيل : إن أول من خط بالعربي إسماعيل عليه السلام . ا هـ .
وقد أطال السيوطي في المزهر الكلام في هذه المسألة ، نقلا عن ابن فارس الشدياقي .
وعن العسكري عن الأوائل في ذلك أقوال ، فقيل إسماعيل ، وقيل مرار بن مرة ، وهما من أهل الأنبار ، وفي ذلك يقول الشاعر :
كتبت أبا جاد وخطي مرامر وسورت سربالي ولست بكاتب
وقيل : أول من وضعه أبجد ، وهوز ، وحطي ، وكلمن ، وصعفص ، وقرشت ، وكانوا ملوكا فسمي الهجاء بأسمائهم .
وذكر عن الحافظ أبي طاهر السلفي بسنده عن الشعبي قال : أول من كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس ، تعلم من أهل الحيرة ، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار .
وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف : حدثنا عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي قال : سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا : تعلمنا من أهل الحيرة ، وسألنا أهل الحيرة : من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا : من أهل الأنبار ، ثم قال ابن فارس : والذي نقوله : إن الخط توقيفي ، وذلك لظاهر قوله تعالى : الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم .
وقوله : ن والقلم وما يسطرون [ 68 \ 1 ] .
وإذا كان هذا فليس ببعيد ، أن يوقف الله آدم أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتابة ، فأما أن يكون شيئا مخترعا اخترعه من تلقاء نفسه ، فهذا شيء لا نعلم صحته إلا من خبر صحيح .
قال السيوطي : قلت يؤيد ما قاله من التوقيف ، ما أخرجه ابن شقة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " أول كتاب أنزله الله من السماء أبا جاد " .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام " . ا هـ .
[ ص: 25 ] وقد أطال النقول في ذلك مما يرجع إلى الأول ، وليس فيه نقل صحيح يقطع به .
وقد أوردنا هذه النبذة بخصوص كلام ابن فارس ، من أن تعليم الكتابة أمر توقيفي ، وما استدل به السيوطي من أول كتاب أنزله الله من السماء ، فإن في القرآن ما يشهد لإمكان ذلك ، وهو أن الله تعالى أنزل الصحف لموسى مكتوبة . ***
وفي الحديث : " إن الله كتب الألواح لموسى بيده ، وغرس جنة عدن بيده " .
وإذا كان موسى تلقى ألواحا مكتوبة ، فلا بد أن تكون الكتابة معلومة له قبل إنزالها ، وإلا لما عرفها .
أما المشهور في الأحرف التي نكتب بها الآن ، فكما قال السيوطي في المزهر ، ونقله عنه صاحب المطالع المصرية ما نصه :
المشهور عند أهل العلم ما رواه ابن الكلبي عن عوانة ، قال : أول من كتب بخطنا هذا . وهو الجزم مرامر بن مرة ، وأسلم بن سدرة ، وعامر بن حدرة . كما في القاموس . وهم من عرب طيئ تعلموه من كتاب الوحي لسيدنا هود عليه السلام ، ثم علموه أهل الأنبار ، ومنهم انتشرت الكتابة في العراق والحيرة وغيرها ، فتعلمها بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل ، وكانت له صحبة بحرب بن أمية فتعلم حرب منه ، ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان . فتعلم منه جماعة من أهل مكة .
فبهذا كثر من يكتب بمكة من قريش قبيل الإسلام .
ولذا قال رجل كندي من أهل دومة الجندل ، يمن على قريش بذلك :
لا تجحدوا نعماء بشر عليكم فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو من المال ما قد كان شتى مبعثرا
وأتقنتمو ما كان بالمال مهملا وطمأنتمو ما كان منه مبقرا
فأجريتم الأقلام عودا وبدأة وضاهيتم كتاب كسرى وقيصرا
وأغنيتم عن مسند إلى حميرا وما زبرت في الصحف أقلام حميرا
قال : وكذلك ذكر النووي في شرح مسلم نقل عن الفراء ، أنه قال : إنما كتبوا الربا في المصحف بالواو ; لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ، ولغتهم الربوا ، فعلموهم صورة الخط على لغتهم . ا هـ .
[ ص: 26 ] تنبيه آخر
قوله تعالى : الذي علم بالقلم ، لا يمنع تعليمه تعالى بغير القلم ، كما في قصة الخضر مع موسى عليه السلام في قوله تعالى : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما [ 18 \ 65 ] .
وكما في حديث : " نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها " الحديث .
وكما في حديث الرقية بالفاتحة لمن لدغته العقرب في قصة السرية المعروفة ، فلما سأله صلى الله عليه وسلم : " وما يدريك أنها رقية ؟ قال : شيء نفث في روعي " .
وحديث علي لما سئل " هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم ؟ قال : لا ، إلا فهما يؤتيه الله من شاء في كتابه . وما في هذه الصحيفة " .
وقوله : واتقوا الله ويعلمكم الله [ 2 \ 282 ] . نسأل الله علم ما لم نعلم ، والعمل بما نعلم . وبالله التوفيق .
قوله تعالى : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى . ظاهر هذه الآية أن الاستغناء موجب للطغيان عند الإنسان ، ولفظ الإنسان هنا عام ، ولكن وجدنا بعض الإنسان يستغنى ولا يطغى ، فيكون هذا من العام المخصوص ، ومخصصه إما من نفس الآية أو من خارج عنها ، ففي نفس الآية ما يفيده قوله تعالى : أن رآه ، أي : إن رأى الإنسان نفسه ، وقد يكون رأيا واهما ويكون الحقيقة خلاف ذلك ، ومع ذلك يطغى ، فلا يكون الاستغناء هو سبب الطغيان .
ولذا جاء في السنة ذم العائل المتكبر ; لأنه مع فقره يرى نفسه استغنى ، فهو معني في نفسه لا بسبب غناه .
أما من خارج الآية ، فقد دل على هذا المعنى قوله تعالى : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [ 79 \ 37 - 39 ] ، فإيثار الحياة الدنيا هو موجب الطغيان ، وكما في قوله : الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا الآية [ 104 \ 2 - 4 ] .
[ ص: 27 ] ومفهومه : أن من لم يؤثر الحياة الدنيا ، ولم يحسب أن ماله أخلده ، فلن يطغيه ماله ولا غناه ، كما جاء في قصة النفر الثلاثة الأعمى والأبرص والأقرع من بني إسرائيل .
وقد نص القرآن على أوسع غنى في الدنيا في نبي الله سليمان ، آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، ومع هذا قال : إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي الآية [ 38 \ 32 ] .
وقصة الصحابي الموجودة في الموطأ : لما شغل ببستانه في الصلاة ، حين رأى الطائر لا يجد فرجة من الأغصان ، ينفذ منه ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " يا رسول الله ، إني فتنت ببستاني في صلاتي ، فهو في سبيل الله " فعرفنا أن الغنى وحده ليس موجبا للطغيان ، ولكن إذا صحبه إيثار الحياة الدنيا على الآخرة ، وقد يكون طغيان النفس من لوازمها لو لم يكن غنى إن النفس لأمارة بالسوء [ 12 \ 53 ] . وأنه لا يقي منه إلا التهذيب بالدين كما قال تعالى : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء الآية [ 42 \ 27 ] .
وقد ذكر عن فرعون تحقيق ذلك حين قال : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون [ 43 \ 51 ] ، وكذلك قال قارون : إنما أوتيته على علم عندي [ 28 \ 78 ] ، وقال ثالث الثلاثة من بني إسرائيل : " إنما ورثته كابرا عن كابر " بخلاف المسلم ، إلى آخره . فلا يزيده غناه إلا تواضعا وشكرا للنعمة ، كما قال نبي الله سليمان : قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم [ 27 \ 78 ] ، وقد نص في نفس السورة أنه شكر الله : فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين [ 27 \ 19 ] .
وفي العموم قوله : حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين [ 46 \ 15 ] .
وقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحاب المال الوفير فلم يزدهم إلا قربا لله ، كعثمان بن عفان رضي الله عنه ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأمثالهم ، وفي الآية [ ص: 28 ] ربط لطيف بأول السورة ، إذا كان خلق الإنسان من علق ، وهي أحوج ما يكون إلى لطف الله وعنايته ورحمته في رحم أمه ، فإذا بها مضغة ثم عظام ، ثم تكسى لحما ، ثم تنشأ خلقا آخر ، ثم يأتي إلى الدنيا طفلا رضيعا لا يملك إلا البكاء ، فيجري الله له نهرين من لبن أمه ، ثم ينبت له الأسنان ، ويفتق له الأمعاء ، ثم يشب ويصير غلاما يافعا ، فإذا ما ابتلاه ربه بشيء من المال أو العافية ، فإذا هو ينسى كل ما تقدم ، وينسى حتى ربه ويطغى ويتجاوز حده حتى مع الله خالقه ورازقه ، كما رد عليه تعالى بقوله : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 77 - 79 ] .
ومما في الآية من لطف التعبير قوله تعالى : أن رآه استغنى ، أي أن الطغيان الذي وقع فيه عن وهم ، تراءى له أنه استغنى سواء بماله أو بقوته ; لأن حقيقة المال ولو كان جبالا ، ليس له منه إلا ما أكل ولبس وأنفق .
وهل يستطيع أن يأكل لقمة واحدة إلا بنعمة العافية ، فإذا مرض فماذا ينفعه ماله ، وإذا أكلها وهل يستفيد منها إلا بنعمة من الله عليه .
ومن هذه الآية أخذ بعض الناس ، أن الغني الشاكر أعظم من الفقير الصابر ; لأن الغنى موجب للطغيان .
وقد قال بعض الناس : الصبر على العافية ، أشد من الصبر على الحاجة .
قوله تعالى : لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة
. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب : أسند الكذب إلى الناصية ، وفي مواضع أخرى أسنده إلى غير الناصية ، كقوله : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [ 16 \ 105 ] .
وذكر الجواب بأنه أطلق الناصية وأراد صاحبها على أسلوب لإطلاق البعض وإيراد الكل ، وذكر الشواهد عليه القرآن كقوله تعالى : تبت يدا أبي لهب وتب [ 111 \ 1 ] .
والذي ينبغي التنبيه عليه من جهة البلاغة : أن البعض الذي يطلق ويراد به الكل ، لا [ ص: 29 ] بد في هذا البعض من مزيد مزية للمعنى المساق فيه الكلام .
فمثلا هنا ذم الكذب وأخذ الكاذب بكذبه ، فجاء ذكر الناصية وهي مقدم شعر الرأس ; لأنها أشد نكارة على صاحبها ونكالا به ، إذ الصدق يرفع الرأس والكذب ينكسه ذلة وخزيا .
فكانت هي هنا أنسب من اليد أو غيرها ، بينما في أبي لهب تطاول بماله ، والغرض مذمة ماله وكسبه الذي تطاول به ، واليد هي جارحة الكسب وآلة التصرف في المال ، فكانت اليد أولى فيه من الناصية .
وهكذا كما يقولون : بث الأمير عيونه : يريدون جواسيس له ; لأن العين من الإنسان أهم ما فيه لمهمته تلك . ولم يقولوا : بث أرجله ولا رءوسا ولا أيد ، لأنها كلها ليست كالعين في ذلك .
ومن هذا القبيل قلوب يومئذ واجفة [ 79 \ 8 ] ، ياأيتها النفس المطمئنة [ 89 \ 27 ] .
لأن القلب هو مصدر الخوف والنفس هي محط الطمأنينة ، على أن النفس جزء من الإنسان ، وهكذا ، ومنه الآتي : واسجد واقترب [ 96 \ 19 ] ، أطلق السجود وأراد الصلاة ; لأن السجود أخص صفاتها .
قوله تعالى : واسجد واقترب [ 96 \ 19 ] .
ربط بين السجود والاقتراب من الله كما قال : ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا [ 76 \ 26 ] وقوله في وصف أصحابه رضي الله عنهم : تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا [ 48 \ 29 ] ، فقوله : يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، في معنى يتقربون إليه يبين قوله : واسجد واقترب .
وهذا مما يدل لأول وهلة أن الصلاة أعظم قربة إلى الله ، حيث وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من أول الأمر ، كما بين تعالى في قوله : واستعينوا بالصبر والصلاة [ 2 \ 45 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد " .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سُورَةُ الْقَدْر
قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر .
الضمير في أنزلناه للقرآن قطعا .
وحكى الألوسي عليه الإجماع ، وقال : ما يفيد أن هناك قولا ضعيفا لا يعتبر من أنه لجبريل .
وما قاله عن الضعف لهذا القول ، يشهد له السياق ، وهو قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها [ 97 \ 4 ] .
والمشهور : أن الروح هنا هو جبريل عليه السلام ، فيكون الضمير في أنزلنا لغيره ، وجيء بضمير الغيبة ، تعظيما لشأن القرآن ، وإشعارا بعلو قدره .
وقد يقال : ذكر سورة القدر قبلها مشعرة به في قوله : اقرأ باسم ربك ، ثم جاءت : إنا أنزلناه ، أي القرآن المقروء ، والضمير المتصل في إنا ، ونا في إنا أنزلناه مستعمل للجمع وللتعظيم ، ومثلها نحن ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر [ 15 \ 9 ] ، والمراد بهما هنا التعظيم قطعا لاستحالة التعدد أو إرادة معنى الجمع .
فقد صرح في موضع آخر باللفظ الصريح في قوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني [ 39 \ 23 ] ، والمراد به القرآن قطعا ، فدل على أن المراد بتلك الضمائر تعظيم الله تعالى .
وقد يشعر بذلك المعنى وبالاختصاص تقديم الضمير المتصل إنا ، وهذا المقام مقام تعظيم واختصاص لله تعالى سبحانه ، ومثله : إنا أعطيناك الكوثر [ 108 \ 1 ] ، وقوله : إنا أرسلنا نوحا [ 71 \ 1 ] ، إنا نحن نحيي ونميت [ 50 \ 43 ] ، وإنزال القرآن منة عظمى .
[ ص: 31 ] وقد دل على تعظيم المنة وتعظيم الله سبحانه في قوله : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته [ 38 \ 29 ] ، فقال : كتاب أنزلناه بضمير التعظيم ، ثم قال في وصف الكتاب : مبارك .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنصيص على أنه للتعظيم عند الكلام على آية ص هذه : كتاب أنزلناه إليك مبارك .
والواقع أنه جاءت الضمائر بالنسبة إلى الله تعالى بصيغ الجمع للتعظيم وبصيغ الإفراد ، فمن صيغ الجمع ما تقدم ، ومن صيغ الإفراد قوله : إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 \ 30 ] ، وقوله : إني خالق بشرا من طين [ 38 \ 71 ] ، وقوله : إني أعلم ما لا تعلمون [ 2 \ 30 ] .
ويلاحظ في صيغ الإفراد : أنها في مواضع التعظيم والإجلال ، كالأول في مقام خلق البشر من طين ، ولا يقدر عليه إلا الله .
والثاني : في مقام أنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة ، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه ، فسواء جيء بضمير بصيغة الجمع أو الإفراد ، ففيها كلها تعظيم لله سبحانه وتعالى سواء بنصها وأصل الوضع أو بالقرينة في السياق . ثم اختلف في المنزل ليلة القدر ، هل هو الكل أو البعض ؟
فقيل : وهو رأي الجمهور أنه أوائل تلك السورة فقط أي : بداية الوحي بالقرآن ، وهو مروي عن ابن عباس ، قال : " ثم تتالى نزول الوحي ، بعد ذلك وكان بين أوله وآخره عشرون سنة " .
وقيل : المنزل في تلك الليلة ، هو جميع القرآن جملة واحدة ، وكله إلى سماء الدنيا ، ثم صار ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجما حسب الوقائع .
وهذا الأخير هو رأي الجمهور كما قدمنا ، وقد اختاره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [ 2 \ 185 ] ، وحكاه الألوسي وحكى عليه الإجماع .
وعن ابن حجر في فتح الباري ، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول يجمع فيه بين القولين الأخيرين ، [ ص: 32 ] وهو أنه لا منافاة بين القولين ، ويمكن الجمع بينهما ، بأن يكون نزل جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، وبدء نزول أوله : اقرأ باسم ربك [ 96 \ 1 ] ، في ليلة القدر .
وقد أثير حول هذه المسألة جدال ونقاش كلامي حول كيفية نزول القرآن ، وأدخلوا فيها القول بخلق القرآن ، وأن جبريل نقله من اللوح المحفوظ ، وأن الله لم يتكلم به عند نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد سئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ذلك ، وكتب جوابه وطبع ، فكان كافيا . وقد نقل فيه كلام ابن تيمية ، وبين أن الله تعالى تكلم به عند وحيه ، ورد على كل شبهة في ذلك .
والواقع أنه لا تعارض كما تقدم ، بين كونه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا جملة ، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما ; لأن كونه في اللوح المحفوظ ، فإن اللوح فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة ، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم .
ونزوله جملة إلى سماء الدنيا ، فهو بمثابة نقل جزء مما في اللوح وهو جملة القرآن ، فأصبح القرآن موجودا في كل من اللوح المحفوظ كغيره مما هو فيه ، وموجودا في سماء الدنيا ثم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما .
ومعلوم أنه الآن هو أيضا موجود في اللوح المحفوظ ، لم يخل منه اللوح ، وقد يستدل لإنزاله جملة ثم تنزيله منجما بقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ; لأن نزل بالتضعيف تدل على التكرار كقوله : تنزل الملائكة [ 97 \ 4 ] ، أي : في كل ليلة قدر .
وقد جاء أنزلناه ، فتدل على الجملة .
وقد بينت السنة تفصيل تنزيله مفرقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم . قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق ، وهو العلي الكبير " الحديث في صحيح البخاري .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (601)
سُورَةُ الْبَيِّنَة
صـ 33 إلى صـ 42
[ ص: 33 ] وفي أبي داود وغيره : " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان " .
وعلى هذا يكون القرآن موجودا في اللوح المحفوظ حينما جرى القلم بما هو كائن وما سيكون ، ثم جرى نقله إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر ، ثم نزل منجما في عشرين سنة . وكلما أراد الله إنزال شيء منه تكلم سبحانه بما أراد أن ينزله ، فيسمعه جبريل عليه السلام عن الله تعالى . ولا منافاة بين تلك الحالات الثلاث . والله تعالى أعلم .
وقد قدمنا الكلام على صور كيفية نزول الوحي وتلقي الرسول صلى الله عليه وسلم للوحي .
وقيل : معنى أنزلناه في ليلة القدر أي : أنزلنا القرآن في شأن ليلة القدر تعظيما لها ، فلم تكن ظرفا على هذا الوجه .
والواقع : أن هذا القول وإن كان من حيث الأسلوب ممكنا إلا أن ما بعده يغني عنه ; لأن إعظام ليلة القدر وبيان منزلتها قد نزل فيها قرآن فعلا ، وهو ما بعدها مباشرة في قوله : وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر [ 97 \ 2 - 3 ] ، إلى آخر السورة .
وعليه ، فيكون أول السورة في شأن إنزال القرآن وبيان ظرف إنزاله ، وآخر السورة في ليلة القدر وبيان منزلتها .
وقد ذكرت ليلة القدر مبهمة ، ولكن جاء في القرآن ما بين الشهر التي هي فيه ، وهو شهر رمضان لقوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [ 2 \ 185 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان بيان ذلك ، وأنها الليلة التي فيها يبرم كل أمر حكيم ، وليست ليلة النصف من شعبان كما يزعم بعض الناس .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان الحكمة من إنزاله مفرقا عند قوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] .
قوله تعالى : ليلة القدر خير من ألف شهر .
القدر : الرفعة ، والقدر : بمعنى المقدار .
[ ص: 34 ] قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء ووجه تسميتها ليلة القدر فيه وجهان :
أحدهما : أن معنى القدر الشرف والرفعة ، كما تقول العرب : فلان ذو قدر ، أي : رفعة وشرف .
الوجه الثاني : أنها سميت ليلة القدر ; لأن الله تعالى يقدر فيها وقائع السنة ، ويدل لهذا التفسير الأخير قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا [ 44 \ 3 - 5 ] .
وهذا المعنى قد ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان من الأضواء .
والواقع أن في السورة ما يدل للوجه الأول وهو القدر والرفعة ، وهو قوله : وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر .
فالتساؤل بهذا الأسلوب للتعظيم كقوله : القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة [ 101 \ 1 - 3 ] ، وقوله : خير من ألف شهر ، فيه النص صراحة على علو قدرها ورفعتها ، إذ أنها تعدل في الزمن فوق ثلاث وثمانين سنة ، أي فوق متوسط أعمار هذه الأمة .
وأيضا كونها اختصت بإنزال القرآن فيها ، وبتنزل الملائكة والروح فيها ، وبكونها سلاما هي حتى مطلع الفجر ، لفيه الكفاية بما لم تختص وتشاركها فيه ليلة من ليالي السنة .
وعليه : فلا مانع من أن تكون سميت بليلة القدر ، لكونها محلا لتقدير الأمور في كل سنة ، وأنها بهذا وبغيره علا قدرها وعظم شأنها ، والله تعالى أعلم .
تذكير بنعمة كبرى : إذا كانت أعمال العبد تتضاعف في تلك الليلة ، حتى تكون خيرا من ألف شهر ، كما في هذا النص الكريم . فإذا صادفها العبد في المسجد النبوي يصلي ، وصلاة فيه بألف صلاة ، فكم تكون النعمة وعظم المنة ، من المنعم المتفضل سبحانه ، إنه لمما يعلي الهمة ويعظم الرغبة .
وقد اقتصرت على ذكر المسجد النبوي دون المسجد الحرام ، مع زيادة المضاعفة [ ص: 35 ] فيه ; لأن بعض المفسرين قال بمضاعفة السيئة فيه .
كذلك أي أن المعصية في ليلة القدر كالمعصية في ألف شهر ، والمسجد الحرام يحاسب فيه العبد على مجرد الإرادة ، فيكون الخطر أعظم ، وفي المدينة أسلم .
ولعل ما يؤيد ذلك أن ليالي القدر كلها ، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وقد أثبتها أهل السنة كافة ، وادعت الشيعة نسخها ورفعها كلية ، وهذا لا يلتفت إليه لصحة النصوص شبه المتواترة .
تنبيه
لم يأت تحديد لتلك الليلة من أي رمضان تكون ، وقد أكثر العلماء في ذلك القول وإيراد النصوص .
فالأقوال منها على أعم ما يكون ، من أنها من عموم السنة ، وهذا لم يأت بجديد ، وهو عن ابن مسعود وإنما أراد الاجتهاد .
ومنها : أنها في عموم رمضان ، وهذا حسب عموم نص القرآن .
ومنها : أنها في العشر الأواخر منه ، وهذا أخص من الذي قبله .
ومنها : أنها في الوتر من العشر الأواخر ، وهذا أخص من الذي قبله .
ومنها : أنها في آحاد الوتر من العشر الأواخر .
فقيل : في إحدى وعشرين .
وقيل : ثلاث وعشرين .
وقيل : خمس وعشرين .
وقيل : سبع وعشرين .
وقيل : تسع وعشرين .
وقيل : آخر ليلة من رمضان على التعيين ، وفي كل من ذلك نصوص .
ولكن أشهرها وأكثرها وأصحها ، ما جاء أنها في سبع وعشرين ، وإحدى [ ص: 36 ] وعشرين ، ولا حاجة إلى سرد النصوص الواردة في كل ذلك ، فلم يبق كتاب من كتب التفسير إلا ذكرها ، ولا سيما ابن كثير والقرطبي .
تنبيه
إذا كانت كل النصوص التي وردت في الوتر من العشر الأواخر صحيحة ، فإنه لا يبعد أن تكون ليلة القدر دائرة بينها ، وليست بلازمة في ليلة منها ولا تخرج عنها ، فقد تكون في سنة هي ليلة إحدى وعشرين ، بينما في سنة أخرى ليلة خمس أو سبع وعشرين ، وفي أخرى ليلة ثلاث أو تسع وعشرين ، وهكذا . والله تعالى أعلم .
وقد حكى هذا الوجه ابن كثير عن مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، وقال : وهو الأشبه ، والله تعالى أعلم .
وقد قيل : إنه صلى الله عليه وسلم قد أنسيها ، لتجتهد الأمة في الشهر كله أو في العشر كلها ، ومما يؤكد أنها في العشر الأواخر اعتكافه صلى الله عليه وسلم ، التماسا لليلة القدر .
وقد جاء في فضلها ما استفاضت به كتب الحديث والتفسير ، ويكفي فيها نص القرآن الكريم .
وفي هذه الليلة مباحث عديدة يطول تتبعها ، منها ما يذكر من أماراتها .
ومنها : محاولة البعض استخراجها من القرآن .
ومنها : علاقتها بحكم بني أمية ، وليس على شيء من ذلك نص يمكن التعويل عليه ، لذا لا حاجة إلى إيراده ، اللهم إلا ما جاء في بعض أمارات نهارها صبيحتها ، حيث جاء التنويه عن شيء منه في الحديث : " ورأيتني أسجد صبيحتها في ماء وطين " .
فذكروا من علامات يومها أن تطلع الشمس بيضاء ، وقالوا : لأن أنوار الملائكة عند صعودها ، تتلاقى مع أشعة الشمس فتحدث فيها بياض الضوء ، وهذا مروي عن أبي في صحيح مسلم .
ومنها : اعتدال هوائها وجوها ونحو ذلك ، ومما يمكن أن يكون له صلة بالسورة ذاتها ، ما حكاه ابن كثير أن بعض السلف ، أراد استخراجها من كتاب الله في نفس السورة ، فقال : إن كلمة " هي " في قوله : سلام هي [ 97 \ 5 ] ، تقع السابعة [ ص: 37 ] والعشرين من عد كلماتها ، فتكون ليلة سبع وعشرين .
وقيل أيضا : إن حروف كلمة ليلة القدر تسعة أحرف ، وقد تكررت ثلاث مرات ، فيكون مجموعها سبعة وعشرين حرفا ، فتكون ليلة سبع وعشرين .
ولعل أصوب ما يقال : هو ما قدمنا من أنها تتصل في ليالي الوتر من العشر الأواخر ، ولا تخرج عنها . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها .
قيل : الروح هو جبريل ، كما في قوله : فنفخنا فيها من روحنا [ 21 \ 91 ] ، ويكون فيها أي في جماعة الملائكة ، أو معطوف على الملائكة من عطف الخاص على العام .
وقيل : إن الروح نوع من الملائكة مستقل ، ويكون فيها ظرف للنزول أي في تلك الليلة .
قوله تعالى : من كل أمر .
الأمر يكون واحد الأمور وواحد الأوامر ، والذي يظهر أنه شامل لهما معا ; لأن الأمر من الأمور لا يكون إلا بأمر من الأوامر : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] .
ويشهد له ما جاء في شأنها في سورة الدخان : فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا [ 44 \ 4 - 5 ] .
والذي يفرق من الأمر ، هو أحد الأمور . حيث يفصل بين الخير والشر والضر والنفع إلى آخره ، ثم قال : أمرا من عندنا ، كما أشار إليه السياق : لا إله إلا هو يحيي ويميت [ 44 \ 8 ] ، فكل أمر من الأمور يقتضي أمرا من الأوامر ، وهذا يمكن أن يكون من الألفاظ المشتركة المستعملة في معنييها ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 38 ] قوله تعالى : سلام هي حتى مطلع الفجر .
قيل : سلام هي أي أن الملائكة تسلم على كل مؤمن لقيته .
وقيل : سلام هي أي كل أمر فيها فهو سلام ، ولا يصاب أحد فيها بسوء ، وعلى كل فلا تعارض بين القولين ، فالأول جزء من الثاني ; لأن الثاني يجعلها ظرفا لكل خير ، وينفي عنها كل شر ، ومن الخير العظيم ، سلام الملائكة على المؤمنين .
لطيفة
كون إنزال القرآن هنا في الليل دون النهار ، مشعر بفضل اختصاص الليل .
وقد أشار القرآن والسنة إلى نظائره ، فمن القرآن قوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا [ 17 \ 1 ] ، ومنه قوله : ومن الليل فتهجد به نافلة لك [ 17 \ 79 ] ، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود [ 50 \ 40 ] ، إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا [ 73 \ 6 ] . وقوله : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون [ 51 \ 17 ] .
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى سماء الدنيا " الحديث .
وهذا يدل على أن الليل أخص بالنفحات الإلهية ، وبتجليات الرب سبحانه لعباده ، وذلك لخلو القلب وانقطاع الشواغل وسكون الليل ، ورهبته أقوى على استحضار القلب وصفائه .
[ ص: 39 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْبَيِّنَة
قال الألوسي : وتسمى سورة القيامة ، وسورة البلد ، وسورة المنفكين ، وسورة البرية ، وسورة لم يكن .
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .
ذكر هنا الذين كفروا ، ثم جاءت من ، وجاء بعدها أهل الكتاب والمشركين ، مما يشعر بأن وصف الكفر يشمل كلا من أهل الكتاب والمشركين ، كما يشعر مرة أخرى أن المشركين ليسوا من أهل الكتاب لوجود العطف ، وأن أهل الكتاب ليسوا من المشركين .
وهذا المبحث معروف عند المتكلمين وعلماء التفسير ، واتفقوا على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وأن المشركين هم عبدة الأوثان ، والكفر يجمع القسمين .
وأهل الكتاب مختص باليهود والنصارى ، ولكن الخلاف هل الشرك يجمعهما أيضا أم لا ؟
فبين الفريقين عموم وخصوص ، عموم في الكفر وخصوص في أهل الكتاب لليهود والنصارى ، وخصوص في المشركين لعبدة الأوثان .
ولكن جاءت آيات تدل على أن مسمى الشرك يشمل أهل الكتاب أيضا ، كما في قوله تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [ 9 \ 30 - 31 ] .
[ ص: 40 ] فجعل مقالة كل من اليهود والنصارى إشراكا .
وجاء عن عبد الله بن عمر منع نكاح الكتابية وقال : " وهل أكبر إشراكا من قولها : اتخذ الله ولدا [ 2 \ 116 ] ، فهو وإن كان مخالفا للجمهور في منع الزواج من الكتابيات ، إلا أنه اعتبرهن مشركات .
ولهذا الخلاف والاحتمال وقع النزاع في مسمى الشرك ، هل يشمل أهل الكتاب أم لا ؟ مع أننا وجدنا فرقا في الشرع في معاملة أهل الكتاب ومعاملة المشركين ، فأحل ذبائح أهل الكتاب ولم يحلها من المشركين ، وأحل نكاح الكتابيات ولم يحله من المشركات ، كما قال تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ 2 \ 221 ] .
وقوله : ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ 60 \ 10 ] .
وقال : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ 60 \ 10 ] ، بين ما في حق الكتابيات قال : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن [ 5 \ 5 ] ، فكان بينهما مغايرة في الحكم .
وقد جمع والدنا الشيخ محمد الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه بين تلك النصوص في دفع إيهام الاضطراب عند قوله تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله المتقدم ذكرها جمعا مفصلا مفاده أن الشرك الأكبر المخرج من الملة أنواع ، وأهل الكتاب متصفون ببعض دون بعض ، إلى آخر ما أورده رحمة الله تعالى علينا وعليه .
ولعل في نفس آية وقالت اليهود عزير ابن الله ، فيها إشارة إلى ما ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه من وجهين :
الأول : قوله تعالى : يضاهئون قول الذين كفروا أي يشابهونهم في مقالتهم ، وهذا القدر اتصف به المشركون من أنواع الشرك .
الثاني : تذييل الآية بصيغة المضارع عما يشركون بينما وصف عبدة الأوثان في سورة البينة بالاسم " والمشركين " .
[ ص: 41 ] ومعلوم أن صيغة الفعل تدل على التجدد والحدوث ، وصيغة الاسم تدل على الدوام والثبوت ، فمشركو مكة وغيرهم دائمون على الإشراك وعبادة الأصنام ، وأهل الكتاب يقع منهم حينا وحينا .
وقد أخذ بعض العلماء : أن الكفر ملة واحدة ، فورث الجميع من بعض ، ومنع الآخرون على أساس المغايرة والعلم عند الله تعالى .
تنبيه
بقي المجوس وجاءت السنة أنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب لحديث : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " .
وقوله تعالى : منفكين حتى تأتيهم البينة ، اختلف في " منفكين " اختلافا كثيرا عند جميع المفسرين ، حتى قال الفخر الرازي عند أول هذه السورة ما نصه : قال الواحدي في كتاب البسيط : هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظما وتفسيرا ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء .
ثم إنه رحمه الله لم يلخص كيفية الإشكال فيها .
وأنا أقول وجه الإشكال : أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا ، لكنه معلوم ، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه .
فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول ، ثم قال بعد ذلك وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام ، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية تناقض في الظاهر ، هذا منتهى الإشكال فيما أظن . ا هـ . حرفيا .
وقد سقت كلامه لبيان مدى الإشكال في الآيتين ، وهو مبني على أن منفكين بمعنى تاركين : وعليه جميع المفسرين .
والذي جاء عن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : أن منفكين أي : [ ص: 42 ] مرتدعين عن الكفر والضلال ، حتى تأتيهم البينة ، أي : أتتهم .
ولكن في منفكين ، وجه يرفع هذا الإشكال ، وهو أن تكون منفكين بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين ، أي : لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة على معنى قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى [ 75 \ 36 ] ، وقوله : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون [ 29 \ 1 - 2 ] ، أي : لن يتركوا وقريب منه قوله تعالى : قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك [ 11 \ 53 ] .
وقد حكى أبو حيان قولا عن ابن عطية قوله : ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى ، وذلك أن يكون المراد : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم ، حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولا منذرا ، تقوم عليهم به الحجة ، ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه قال : ما كانوا ليتركوا سدى ، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى ا هـ .
فقول ابن عطية يتفق مع ما ذكرناه ، ويزيل الإشكال الكبير عن المفسرين ، كما أسلفنا .
ولابن تيمية رحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله ، وهو ضمن كلامه على هذه السورة في المجموع مجلد 61 ص 594 قال :
وفي معنى قوله تعالى : لم يكن هؤلاء وهؤلاء منفكين .
ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين .
هل المراد : لم يكونوا منفكين عن الكفر ؟
أو هل لم يكونوا مكذبين بمحمد حتى بعث ، فلم يكونوا منفكين من محمد والتصديق بنبوته حتى بعث .
أو المراد : أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (602)
سُورَةُ الْبَيِّنَة
صـ 43 إلى صـ 52
وناقش تلك الأقوال وردها كلها ثم قال : فقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ، أي : لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه [ ص: 43 ] لا حجر عليهم ، كما أن المنفك لا حجر عليه ، وهو لم يقل مف****ن ، بل قال : منفكين ، وهذا أحسن ، إلى أن قال : والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل .
والمعنى : أن الله لا يخليهم ولا يتركهم ، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولا ، وهذا كقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ، لا يؤمر ، ولا ينهى ، أي : أيظن أن هذا يكون ؟ هذا ما لا يكون البتة ، بل لا بد أن يؤمر وينهى .
وقريب من ذلك قوله تعالى : إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين [ 43 \ 3 - 5 ] . وهذا استفهام إنكار أي : لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر ، ونعرض عن إرسال الرسل .
تبين من ذلك كله أن الأصح في " منفكين " معنى " متروكين " وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي ، ويستقيم السياق ، ويتضح المعنى ، وبالله تعالى التوفيق .
قوله تعالى : حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة .
أجمل البينة ثم فصلها فيما بعدها رسول من الله يتلو صحفا .
وفي هذا قيل : إن البينة هي نفس الرسول في شخصه ، لما كانوا يعرفونه قبل مجيئه ، كما في قوله : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ 61 \ 6 ] ، وقوله : يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [ 2 \ 146 ] .
فكأن وجوده صلى الله عليه وسلم بذاته بينة لهم .
ولذا جاء في الآثار الصحيحة أنهم عرفوا يوم مولده بظهور نجم نبي الختان إلى آخر أخباره صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، وكذلك المشركون كانوا يعرفونه عن طريق أهل الكتاب ، وبما كان متصفا به صلى الله عليه وسلم ، ومن جميل الصفات كما قالت له خديجة عند بدء الوحي له وفزعه منه : " كلا والله لن يخزيك الله ، والله إنك لتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر " إلى آخره .
وقول عمه أبي طالب : " والله ما رأيته لعب مع الصبيان ولا علمت عليه كذبة " إلخ . وقد لقبوه بالأمين .
[ ص: 44 ] وحادثة شق الصدر في رضاعه ، بل وقيل ذلك في قصة أبيه عبد الله ، لما تعرضت له المرأة تريده لنفسها ، فأبى . ولما تزوج ودخل بآمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم لقيها بعد ذلك ، فقالت له : لا حاجة لي بك ، فقال : وكيف كنت تتعرضين لي ؟ فقالت : رأيت نورا في وجهك ، فأحببت أن يكون لي ، فلما تزوجت وضعته في آمنة ولم أره فيك الآن ، فلا حاجة لي فيك .
فكلها دلائل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في شخصه بينة لهم ، ثم أكرمه الله بالرسالة ، فكان رسولا يتلو صحفا مطهرة ، من الأباطيل والزيغ وما لا يليق بالقرآن .
ومما استدل به لذلك قوله تعالى عنه : وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ 33 \ 49 ] فعليه يكون " رسول من الله " بدل من " البينة " مرفوع على البدلية ، أو أن البينة ما يأتيهم به الرسول مما يتلوه عليهم من الصحف المطهرة فيها كتب قيمة .
فالتشريع الذي فيها والإخبار الذي أعلنه تكون البينة . وعلى كل ، فإن البينة تصدق على الجميع ، كما تصدق على المجموع ، ولا ينفك أحدهما عن الآخر ، فلا رسول إلا برسالة تتلى ، ولا رسالة تتلى إلا برسول يتلوها .
وقد عرف لفظ البينة ، للإشارة إلى وجود علم عنها مسبق عليها .
فكأنه قيل : حتى تأتيهم البينة الموصوفة لهم في كتبهم ، ويشير إليها ما قدمنا في أخبار عيسى عليه السلام عنه ، وآخر سورة الفتح : ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه الآية [ 48 \ 29 ] .
قوله تعالى : فيها كتب .
جمع كتاب ، وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : كتب : بمعنى مكتوبات .
وقال ابن جرير : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة . يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء .
وحكاه ابن كثير واقتصر عليه .
وقال القرطبي : إن الكتب بمعنى الأحكام ، مستدلا بمثل قوله تعالى : كتب عليكم الصيام [ 2 \ 183 ] وقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] .
[ ص: 45 ] وقيل : الكتب القيمة : هي القرآن ، فجعله كتبا ; لأنه يشتمل على أبواب من البيان .
وذكر الفخر الرازي : أنه يحتمل في كتب أي : الآيات المكتوبة في المصحف ، وهو قريب من قول الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه .
وقال الشوكاني : المراد : الآيات والأحكام المكتوبة فيها ، وهذه المعاني وإن كانت صحيحة ، إلا أن ظاهر اللفظ أدل على تضمن معنى كتب منه على معنى كتابة أحكام .
والذي يظهر أن مدلول " كتب " على ظاهرها ، وهو تضمن تلك الصحف المطهرة لكتب سابقة قيمة ، كما ينص عليه قوله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ 87 \ 16 - 17 ] ، ثم قال : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [ 87 \ 19 ] ، وكقوله في عموم الكتب الأولى : قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه [ 46 \ 30 ] ، وقوله : نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل [ 3 \ 3 - 4 ] .
ولذا قال : والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق [ 6 \ 114 ] ، أي : بما فيه من كتبهم القيمة المتقدم إنزالها ، كما في قوله : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم [ 24 \ 34 ] .
وقوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ 27 \ 76 ] .
وقال : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه [ 6 \ 92 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، مما يدل على أن آي القرآن متضمنة كتبا قيمة مما أنزلت من قبل ، وقد جاء عمليا في آية الرحمن ، وقوله : وكتبنا عليهم فيها أي : في التوراة أن النفس بالنفس والعين بالعين ، فهذه من الكتب القيمة التي تضمنها القرآن الكريم ، كما قال : ولكم في القصاص حياة [ 2 \ 179 ] .
ولعل هذا بين وجه المعنى فيما رواه المفسرون عن الإمام أحمد ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب : " أمرت أن أقرأ عليك سورة البينة ، فقال : أوذكرت ثم ؟ " .
[ ص: 46 ] وبكى رضي الله عنه ; لأن فيها زيادة طمأنينة له على إيمانه بأنه آمن بكتاب تضمن الكتب القيمة المتقدمة ، والتي يعرفها عبد الله بن سلام أن الرجم في التوراة لما غطاها الآتي بها ، كما هو معروف في القصة . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .
يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عموما من أهل الكتاب والمشركين معا ، وهنا الحديث عن أهل الكتاب فقط ، وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين ، وهو أنهم لأنهم أهل كتاب ، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم ، وبما سيأتي به ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به [ 2 \ 89 ] .
وكقوله صراحة : وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم [ 42 \ 14 ] ، فلمعرفتهم به قبل مجيئه ، واختلافهم فيه بعد مجيئه ، وخصهم هنا بالذكر في قوله : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .
تنبيه
مما يدل على ما ذكرنا من معنى " كتب قيمة " ، أمران من كتاب الله :
الأول منها : اختصاص أهل الكتاب هنا بعدم عموم الحديث من الذين كفروا ، وما قدمنا من نصوص .
الثاني : أن القرآن لما ذكر الرسول يتلو على المشركين قال : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته [ 62 \ 2 ] ، فهذا نفس الأسلوب ، ولكن قال : " آياته " ; لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى ، فاقتصر على الآيات .
قوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء .
وهذا لا يستوجب التفرق في أمره صلى الله عليه وسلم .
ولكن هنا لم يبين موضع الأمر عليهم بعبادة الله مخلصين له الدين ، هل هو في كتبهم السابقة ، أم في هذا القرآن الذي يتلى عليهم في صحف مطهرة ؟
وقد بين القرآن العظيم أن هذا الأمر موجود في كل من كتبهم والقرآن الكريم ، [ ص: 47 ] فمما في كتبهم قوله تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله [ 16 \ 36 ] .
وقوله : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ 42 \ 13 ] .
فإقامة الدين وعدم التفرقة فيه ، هو عين عبادة الله مخلصين له الدين .
ومما في القرآن قوله تعالى : يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين [ 2 \ 40 - 43 ] .
فقد نص على كامل المسألة هنا ، أن الكتب القيمة المنصوص عليها في الصحف المطهرة هي كتب أهل الكتاب ، لقوله تعالى : وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ، وأنهم أمروا في هذا القرآن بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع التعليمات المذكورة نفسها ، وإقام الصلاة لا يكون إلا عبادة الله بإخلاص .
وهذه الأوامر سواء كانت في كتبهم أو في القرآن لا تقتضي التفرق ، بل تستوجب الاجتماع والوحدة .
قوله تعالى : وذلك دين القيمة .
القيمة : فيعلة من القوامة ، وهي غاية الاستقامة .
وقد جاء بعد قوله : فيها كتب قيمة [ 98 \ 3 ] ، أي : مستقيمة بتعاليمها .
وقد نص تعالى على أن القرآن أقومها وأعدلها كما في قوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] ، وقال تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما [ 18 \ 1 - 2 ] ، فنفى عنه العوج ، وأثبت له الاستقامة .
وهذا غاية في القوامة كما قدمنا من قبل ، من أن المستقيم قد يكون فيه انحناء كالطريق المعبد المستقيم عن المرتفعات والمنخفضات ، لكنه ينحرف تارة يمينا وشمالا [ ص: 48 ] مع استقامته ، فهو مع الاستقامة لم يخل من العوج .
ولكن ما ينتفي عنه العوج وتثبت له الاستقامة ، هو الطريق الذي يمتد في اتجاه واحد بدون أي اعوجاج إلى أي الجانبين ، مع استقامته في سطحه .
وهكذا هو القرآن ، فهو الصراط المستقيم ، ولذا قال تعالى : وذلك دين القيمة [ 98 \ 5 ] الملة القيمة ، قيمة في ذاتها ، وقيمة على غيرها : ومهيمنة عليه ، وكقوله : ذلك الدين القيم [ 12 \ 40 ] ، وقوله : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [ 6 \ 161 - 163 ] .
تنبيه
إن في هذه الآية ردا صريحا على أولئك الذين ينادون بدون علم إلى دعوة لا تخلو من تشكيك ، حيث لم تسلم من لبس ، وهي دعوة وحدة الأديان ، ومحل اللبس فيها أن هذا القول منه حق ، ومنه باطل .
أما الحق فهو وحدة الأصول ، كما قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة [ 98 \ 5 ] ، وأما الباطل فهو الإبهام ، بأن هذا ينجر على الفروع مع الجزم عند الجميع ، بأن فروع كل دين قد لا تتفق كلها مع فروع الدين الآخر ، فلم تتحد الصلاة في جميع الأديان ولا الصيام ، ونحو ذلك .
وقد أجمع المسلمون على أن العبرة بما في القرآن من تفصيل للفروع ، والسنة تكمل تفصيل ما أجمل .
وهنا النص الصريح بأن ذلك الذي جاء به القرآن هو دين القيمة ، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وهي أفعل تفضيل ، فلا يمكن أن يعادل ويساوي مع غيره أبدا مع نصوص القرآن ، بأن الله أخذ العهد على جميع الأنبياء لئن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ، ولينصرنه وليتبعنه ، وأخذ عليهم العهد بذلك . وقد أخبر الرسل أممهم بذلك . فلم يبق مجال في هذا الوقت ولا غيره لدعوة الجاهلية بعنوان مجوف وحدة الأديان ، بل الدين الإسلامي وحده : إن الدين عند الله الإسلام [ 3 \ 19 ] ، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [ 3 \ 85 ] [ ص: 49 ] وبالله تعالى التوفيق .
قوله تعالى : إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية .
قرئت البرية بالهمزة وبالياء ، فقرأ بالهمز : نافع وابن ذكوان والباقون بالياء ، فاختلف في أخذها .
قال القرطبي : قال الفراء : إن أخذت البرية من البراءة بفتح الباء والراء : أي التراب . فأصله غير مهموز بقوله منه : براه الله يبروه بروا ، أي : خلقه ، وقيل : البرية من بريت القلم أي قدرته .
وقد تضمنت هذه الآية مسألتين : الأولى منهما : أن أولئك في نار جهنم خالدين فيها ، ومبحث خلود الكفار في النار ، تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وافيا .
والمسألة الثانية أنهم شر البرية ، والبرية أصلها البريئة ، قلبت الهمزة ياء تسهيلا ، وأدغمت الياء في الباء ، والبريئة الخليقة ، والله تعالى بارئ النسم ، هو الخالق البارئ المصور سبحانه .
ومن البرية الدواب والطيور ، وهنا النص على عمومه ، فأفهم أن أولئك شر من الحيوانات والدواب .
وقد جاء النص صريحا في هذا المعنى في قوله تعالى : إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون [ 8 \ 22 ] ، وقد بين أن المراد بهم الكفار في قوله : أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وقال عنهم : أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين [ 43 \ 40 ] ، فهم لصممهم وعماهم في ضلال مبين .
وقد ثبت أن الدواب ليست في ضلال مبين ; لأنها تعلم وتؤمن بوحدانية الله ، كما جاء في هدهد سليمان ، أنكر على بلقيس وقومها سجودهم للشمس والقمر من دون الله .
ونص مالك في الموطأ في فضل يوم الجمعة : " أنه وما من دابة إلا تصيخ بأذنها من [ ص: 50 ] فجر يوم الجمعة إلى طلوع الشمس خشية الساعة " ، وهذا كله ليس عند الكافر منه شيء ، ثم في الآخرة لما يجمع الله جميع الدواب ويقتص للعجماء من القرناء ، فيقول لها : كوني ترابا ، فيتمنى الكافر لو كان مثلها فلم يحصل له ، كما قال : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا [ 78 \ 40 ] .
وذلك والله تعالى أعلم : أن الدواب لم تعمل خيرا فتبقى لتجازى عليه ، ولم تعمل شرا لتعاقب عليه فكانت لا لها ولا عليها إلا ما كان فيما بينها وبين بعضها ، فلما اقتص لها من بعضها انتهى أمرها ، فكانت نهايتها عودتها إلى منبتها وهو التراب . بخلاف الكافر فإن عليه حساب التكاليف وعقاب المخالفة فيعاقب بالخلود في النار ، فكان شر البرية .
قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية .
الحكم هنا بالعموم ، كالحكم هناك ، ولكنه هنا بالخيرية والتفضيل .
أما من حيث الجنس فلا إشكال ; لأن الإنسان أفضل الأجناس ولقد كرمنا بني آدم [ 17 \ 70 ] .
وأما من حيث العموم ، فقال بعض العلماء فيها ما يدل على أن صالح المؤمنين أفضل من الملائكة .
ولعل مما يقوي هذا الاستدلال ، هو أن بعض أفراد جنس الإنسان أفضل من عموم أفراد جنس الملائكة ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا فضل بعض أفراد الجنس لا يمنع في البعض الآخر ، ولكن هل بعض أفراد الأمة بعده أفضل من عموم أو بعض أفراد الملائكة ؟ هذا هو محل الخلاف .
وللقرطبي مبحث في ذلك : مبناه على أصل المادة وورود النصوص من جهة أصل المادة إن كانت البرية مأخوذة من البري وهو التراب ، فلا تدخل الملائكة تحت هذا التفضيل وإلا فتدخل .
وأما من جهة النصوص ، فقال في سورة البقرة عند قوله : قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم [ 2 \ 33 ] ، قال المسألة الثالثة : اختلف العلماء في هذا الباب أيهما أفضل ، الملائكة أو بنو آدم ؟ على قولين : فذهب قول إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة ، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة .
[ ص: 51 ] وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل ، واحتج من فضل الملائكة بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .
وقوله : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] . وقوله : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [ 6 \ 50 ] .
وبما في البخاري يقول الله : " من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " وهذا نص على أن الملأ الأعلى خير من ملأ الأرض .
واحتج من فضل بني آدم بقوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية [ 98 \ 7 ] ، بالهمز من برأ الله الخلق ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم " أخرجه أبو داود .
وبأن الله يباهي بأهل عرفات الملائكة ، ولا يباهي إلا بالأفضل والله تعالى أعلم .
وقال بعض العلماء : ولا طريق إلى القطع بأن الملائكة خير منهم ; لأن طريق ذلك خبر الله ، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع الأمة .
وليس هاهنا شيء من ذلك خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر ، حيث قالوا : الملائكة أفضل . قال : وأما من قال من أصحابنا والشيعة : إن الأنبياء أفضل ; لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، إلى آخره .
ثم رد هذا الاستدلال .
وقد سقنا هذا البحث لبيان الخلاف في هذه المسألة المشتمل عليها لفظ البرية ، وأعتقد أن المفاضلة جزئية لا كلية ، وذلك أن جنس البشر خلاف جنس الملائكة ، والملائكة فيهم النص بأنهم : عباد مكرمون [ 21 \ 26 ] ، والبشر فيهم النص ولقد كرمنا بني آدم [ 17 \ 70 ] ، والفرق بينهما كالفرق بين الاسم والفعل في الدلالة .
ففي الملائكة بالاسم : مكرمون ، وهو يدل على الدوام والثبوت ، وفي بني آدم كرمنا ، وهو يدل على التجدد والحدوث .
وهذا هو الواقع ، فالتكريم ثابت ولازم ودائم للملائكة بخلافه في بني آدم إذ فيهم [ ص: 52 ] وفيهم ، ولا يبعد أن يقال : إن التفضيل في الأعمال من حيث صدورها من بني آدم ومن الملائكة ، إذ الملائكة تصدر عنهم أعمال الخير جبلة أو بدون نوازع شر ، بخلاف بني آدم ، وإن أعمال الخير تصدر عنها بمجهود مزدوج ، حيث ركبت فيهم النفس اللوامة والأمارة بالسوء . ونحو ذلك من الجانب الحيواني .
وازدواجية المجهود ، هو أنه ينازع عوامل الشر حتى يتغلب عليها ، ويبذل الجهد في فعل الخير ، فهو يجاهد للتخليص من نوازع الشر ، ثم هو يجاهد للقيام بفعل الخير ، وهذا مجهود يقتضي التفضيل على المجهود من جانب واحد .
وقد جاء في السنة ما يشهد لذلك ، لما ذكر صلى الله عليه وسلم لأصحابه في حق من يأتي بعدهم من أن العامل منهم له أجر خمسين ، فقالوا : خمسين منا أو منهم يا رسول الله قال : " بل خمسين منكم ، لأنكم تجدون أعوانا على الخير وهم لا يجدون " .
وحديث : " سبق درهم مائة ألف درهم " وبين صلى الله عليه وسلم ، أن الدرهم سبق الأضعاف المضاعفة ; لأنه ثاني اثنين فقط ، والمائة ألف جزء من مجموع كثير .
فالنفس التي تجود بنصف ما تملك ، ولا يتبقى لها إلا درهم ، خير بكثير ممن تنفق جزءا ضئيلا مما تملك ويتبقى لها المال الكثير ، فكانت عوامل التصدق ودوافعه مختلفة منزلة في النفس متضادة ; فالدرهم في ذاته وماهيته من جنس الدراهم الأخرى ، لم تتفاوت الماهية ولا الجنس ، ولكن تفاوتت الدوافع والعوامل لإنفاقه ، ولعل المفاضلة المقصودة تكون من هذا القبيل أولى . والله تعالى أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (603)
سُورَةُ الْعَادِيَات
صـ 53 إلى صـ 62
قوله تعالى : جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا .
فيه أربع مسائل ; ثلاثة مجملة جاء بيانها في القرآن . والرابعة مفصلة ولها شواهد .
وأما الثلاثة المجملة فأولها قوله : جزاؤهم عند ربهم ، إذ الجزاء في مقابل شيء يستوجبه ، وعند ربهم تشعر بأنه تفضل منه ، وإلا لقال : جزاؤهم على ربهم .
وقد بين ذلك صريح قوله تعالى : إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا [ 78 \ 31 - 36 ] ، فنص على أن هذا الجزاء كله من ربهم عطاء لهم من عنده .
[ ص: 53 ] الثانية والثالثة قوله : جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، فأجمل ما في الجنات ، ونص على أنها تجري من تحتها الأنهار ، مع إجمال تلك الأنهار ، وقد فصلت آية : عم يتساءلون [ 78 \ 1 ] ما أعد لهم في الجنة من حدائق وأعناب وكواعب وشراب وطمأنينة ، وعدم سماع اللغو إلى آخره . كما جاء تفصيل الأنهار في سورة القتال ، في قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم [ 47 \ 15 ] ، والخلود في هذا النعيم هو تمام النعيم .
قوله تعالى : رضي الله عنهم ورضوا عنه .
يعتبر هذا الإخبار من حيث رضوان الله تعالى على العباد في الجنة ، من باب العام بعد الخاص .
وقد تقدم في سورة الليل في قوله تعالى : وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى إلى قوله ولسوف يرضى [ 92 \ 17 - 21 ] ، واتفقوا على أنها في الصديق رضي الله عنه كما تقدم ، وجاء في التي بعدها سورة والضحى قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 5 ] ، أي : للرسول صلى الله عليه وسلم .
وهنا في عموم : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، فهي عامة في جميع المؤمنين الذين هذه صفاتهم ، ثم قال : رضي الله عنهم ، وقد جاء ما يبين سبب رضوان الله تعالى عليهم وهو بسبب أعمالهم ، كما في قوله تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [ 48 \ 1 ] فكانت المبايعة سببا للرضوان .
وفي هذه الآية الإخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه ، ولم يبين زمن هذا الرضوان أهو سابق في الدنيا أم حاصل في الجنة ، وقد جاءت آية تبين أنه سابق في الدنيا ، وهي قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [ 9 \ 100 ] ، فقوله تعالى : رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ثم يأتي بعدها : وأعد لهم جنات .
[ ص: 54 ] فهو في قوة الوعد في المستقبل ، فيكون الإخبار بالرضى مسبقا عليه .
وكذلك آية سورة الفتح في البيعة تحت الشجرة إذ فيها : لقد رضي الله عن المؤمنين [ 48 \ 18 ] ، وهو إخبار بصيغة الماضي ، وقد سميت " بيعة الرضوان " .
تنبيه
في هذا الأسلوب الكريم سؤال ، وهو أن العبد حقا في حاجة إلى أن يعلم رضوان الله تعالى عليه ; لأنه غاية أمانيه ، كما قال تعالى : ذلك الفوز العظيم .
أما الإخبار عن رضى العبد عن الله ، فهل من حق العبد أن يسأل عما إذا كان هو راضيا عن الله أم لا ؟ إنه ليس من حقه ذلك قطعا ، فيكون الإخبار عن ذلك بلازم الفائدة ، وهي أنهم في غاية من السعادة والرضى فيما هم فيه من النعيم إلى الحد الذي رضوا وتجاوز رضاهم حد النعيم إلى الرضى عن المنعم .
كما يشير إلى شيء من ذلك آخر آية النبأ : عطاء حسابا [ 78 \ 36 ] ، قالوا : إنهم يعطون حتى يقولوا : حسبنا حسبنا ، أي : كافينا .
قوله تعالى : ذلك لمن خشي ربه .
اسم الإشارة منصب على مجموع الجزاء المتقدم ، وقد تقدم أنه للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهنا يقول : إنه لمن خشي ربه ، مما يفيد أن تلك الأعمال تصدر منهم عن رغبة ورهبة . رغبة فيما عند الله ، ورهبة من الله ، ومثله قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان [ 55 \ 46 ] ، وقوله : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى .
[ 79 \ 40 - 41 ]
والواقع أن صفة الخوف من الله تعالى هي أجمع صفات الخير في الإنسان ; لأنها صفة للملائكة المقربين .
كما قال تعالى عنهم : يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون [ 16 \ 50 ] .
[ ص: 55 ] وقد عم الحكم في ذلك بقوله تعالى : إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير [ 67 \ 12 ] .
وفي هذه الآية السر الأعظم ، وهو كون الخشية في الغيبة عن الناس ، وهذا أعلى مراتب المراقبة لله ، والخشية أشد الخوف .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الزَّلْزَلَة
قوله تعالى : إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم
الزلزلة : الحركة الشديدة بسرعة ، ويدل لذلك فقه اللغة من وجهين :
الأول : تكرار الحروف ، أو ما يقال تكرار المقطع الواحد ، مثل صلصل وقلقل وزقزق ، فهذا التكرار يدل على الحركة .
والثاني : وزن فعل بالتضعيف كغلق وكسر وفتح ، فقد اجتمع في هذه الكلمة تكرار المقطع وتضعيف الوزن .
ولذا ، فإن الزلزال أشد ما شهد العالم من حركة ، وقد شوهدت حركات زلزال في أقل من ربع الثانية ، فدمر مدنا وحطم قصورا .
ولذا فقد جاء وصف هذا الزلزال بكونه شيئا عظيما في قوله تعالى : إن زلزلة الساعة شيء عظيم [ 22 \ 1 ] ، ويدل على هذه الشدة تكرار الكلمة في " زلزلت " وفي " زلزالها " ، كما تشعر به هذه الإضافة .
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، إيراد النصوص المبينة لذلك في أول سورة الحج كقوله تعالى : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة [ 69 \ 14 ] ، وقوله : إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا [ 56 \ 4 - 5 ] ، وقوله : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة [ 79 \ 6 - 7 ] ، وساق قوله : وأخرجت الأرض أثقالها [ 99 \ 2 ] .
واختلف في الأثقال ما هي على ثلاثة أقوال :
[ ص: 57 ] فقيل : موتاها . وقيل : كنوزها ، وقيل : التحدث بما عمل عليها الإنسان . ولعل الأول أرجح هذه الثلاثة ; لأن إخراج كنوزها سيكون قبل النفخة ، والتحدث بالأعمال منصوص عليه بذاته ، فليس هو الأثقال . ورجحوا القول الأول لقوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا [ 77 \ 25 - 26 ] .
وقالوا : الإنس والجن ثقلان على ظهرها ، فهما ثقل عليها ، وفي بطنها فهم ثقل فيها ، ولذا سميا بالثقلين . قاله الفخر الرازي وابن جرير .
وروي عن ابن عباس : أنه موتاها .
وشبيه بذلك قوله : وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت [ 48 \ 3 - 4 ] ، ولا يبعد أن يكون الجميع إذا راعينا صيغة الجمع أثقالها ، ولم يقل ثقلها ، وإرادة الجمع مروية أيضا عن ابن عباس . ذكره الألوسي ، وابن جرير عنه وعن مجاهد .
وحكى الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه القولين في إملائه : أي موتاها ، وقيل : كنوزها .
وقوله تعالى : وقال الإنسان ما لها ، لفظ الإنسان هنا عام وظاهره أن كل إنسان يقول ذلك ، ولكن جاء ما يدل على أن الذي يقول ذلك هو الكافر . أما المؤمن فيقول : هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ، وذلك في قوله : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون [ 36 \ 51 - 52 ] .
فالكافر يدعو بالويل والمؤمن يطمئن للوعد ، ومما يدل على أن الجواب من المؤمنين ، لا من الملائكة ، كما يقول بعض الناس ، ما جاء في آخر السياق قوله : فإذا هم جميع أي : كلا الفريقين لدينا محضرون .
وقوله : ما لها سؤال استيضاح وذهول من هول ما يشاهد .
وقوله : يومئذ تحدث أخبارها ، التحديث هنا صريح في الحديث وهو على حقيقته ; لأن في ذلك اليوم تتغير أوضاع كل شيء وتظهر حقائق كل شيء ، وكما أنطق الله الجلود ينطق الأرض ، فتحدث بأخبارها ، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [ 41 \ 21 ] [ ص: 58 ] وتقدم تفصيل ذلك عند أول سورة الحشر ; لأن الله أودع في الجمادات القدرة على الإدراك والنطق ، والمراد بإخبارها أنها تخبر عن أعمال كل إنسان عليها في حال حياته .
ومما يشهد لهذا المعنى حديث المؤذن " لا يسمع صوته حجر ولا مدر إلا وشهد له يوم القيامة " ، وذكر ابن جرير وجها آخر ، وهو أن إخبارها هو ما أخرجته من أثقالها بوحي الله لها ، والأول أظهر لأنه يثبت معنى جديدا . ويشهد له الحديث الصحيح .
قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
في هاتين الآيتين مبحثان أحدهما في معنى من لعمومه ، والآخر في صيغة " يعمل " .
أما الأول فهو مطروق في جميع كتب التفسير على حد قولهم : من للعموم المسلم والكافر ، مع أن الكافر لا يرى من عمل الخير شيئا ، لقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وفي حق المسلم ، قد لا يرى كل ما عمل من شر ، لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] .
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة بتوسع في دفع إيهام الاضطراب بما يغني عن إيراده .
أما المبحث الثاني فلم أر من تناوله بالبحث ، وهو في صيغة " يعمل " ; لأنها صيغة مضارع ، وهي للحال والاستقبال .
والمقام في هذا السياق يومئذ يصدر الناس أشتاتا ، وهو يوم البعث ، وليس هناك مجال للعمل ، وكان مقتضى السياق أن يقال : فمن عمل مثقال ذرة خيرا يره . ولكن الصيغة هنا صيغة مضارع ، والمقام ليس مقام عمل ، ولكن في السياق ما يدل على أن المراد " يعمل مثقال ذرة " أي من الصنفين ما كان من ذلك ; لقوله تعالى يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم ، فهم إنما يروا في ذلك اليوم أعمالهم التي عملوها من قبل ، فتكون صيغة المضارع هنا من باب الالتفات ، حيث كان السياق أولا من أول [ ص: 59 ] السورة في معرض الإخبار عن المستقبل : إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وإذا أخرجت الأرض أثقالها ، وإذا قال الإنسان ما لها . في ذلك اليوم الآتي تحدث أخبارها ، وفي ذلك اليوم يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم التي عملوها من قبل كما في قوله : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] ، وقوله : ووجدوا ما عملوا حاضرا [ 18 \ 49 ] .
ثم جاء الالتفات بمخاطبتهم على سبيل التنبيه والتحذير ، فمن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة شرا يره في الآخرة ، ومثقال الذرة ، قيل : هي النملة الصغيرة ، لقول الشاعر :
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الإتب منها لأثرا
والإتب : قال في القاموس : الإتب بالكسر ، والمئتبة كمكنسة برد يشق ، فتلبسه المرأة من غير جيب ولا كمين ، وقيل : هي الهباء التي ترى في أشعة الشمس ، وكلاهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وسيأتي زيادة إيضاح لكيفية الوزن في سورة القارعة إن شاء الله .
ولعل ذكر الذرة هنا على سبيل المثال لمعرفتهم لصغرها ; لأنه تعالى عمم العمل في قوله : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] ، أيا كان هو مثقال ذرة أو مثاقيل القناطير ، وقد جاء النص صريحا بذلك في قوله تعالى : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] .
وهنا تنبيهان : الأول من ناحية الأصول ، وهو أن النص على مثقال الذرة من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ، فلا يمنع رؤية مثاقيل الجبال ، بل هي أولى وأحرى .
وهذا عند الأصوليين ما يسمى الإلحاق بنفي الفارق ، وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به ، وقد يكون مساويا له ، فمن الأول هذه الآية وقوله :فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما [ 17 \ 23 ] ، ومن المساوي قوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا [ 4 \ 10 ] ، فإن إحراق ماله وإغراقه [ ص: 60 ] ملحق بأكله ، بنفي الفارق وهو مساو لأكله في عموم الإتلاف عليه ، وهو عند الشافعي ما يسمى القياس في معنى الأصل ، أي النص .
التنبيه الثاني في قوله تعالى : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك .
رد على بعض المتكلمين في العصر الحاضر ، والمسمى بعصر الذرة ، إذ قالوا : لقد اعتبر القرآن الذرة أصغر شيء ، وأنها لا تقبل التقسيم ، كما يقول المناطقة : إنها الجوهر الفرد ، الذي لا يقبل الانقسام .
وجاء العلم الحديث ففتت الذرة وجعل لها أجزاء . ووجه الرد على تلك المقالة الجديدة ، على آيات من كتاب الله هو النص الصريح من مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك إلا في كتاب .
فمعلوم ذلك عند الله ومثبت في كتاب ما هو أصغر من الذرة ، ولا حد لهذا الأصغر بأي نسبة كانت ، فهو شامل لتفجير الذرة ولأجزائها مهما صغرت تلك الأجزاء .
سبحانك ما أعظم شأنك ، وأعظم كتابك ، وصدق الله إذ يقول : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] .
[ ص: 61 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْعَادِيَات
قوله تعالى : والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا .
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه :
العاديات : جمع عادية ، والعاديات : المسرعات في مسيرها .
فمعنى العاديات : أقسم بالمسرعات في سيرها .
ثم قال : وأكثر العلماء على أن المراد به الخيل ، تعدو في الغزو ، والقصد تعظيم شأن الجهاد في سبيل الله .
وقال بعض العلماء : المراد بالعاديات : الإبل تعدو بالحجيج من عرفات إلى مزدلفة ومنى .
ومعنى قوله : ضبحا : أنها تضبح ضبحا ، فهو مفعول مطلق ، والضبح : صوت أجواف الخيل عند جريها .
وهذا يؤيد القول الأول الذي يقول هي الإبل ، ولا يختص الضبح بالخيل .
فالموريات قدحا : أي الخيل توري النار بحوافرها من الحجارة ، إذا سارت ليلا .
وكذلك الذي قال : العاديات : الإبل . قال : برفعها الحجارة فيضرب بعضها بعضا .
ويدل لهذا المعنى قول الشاعر :
تنفي يداها الحصا في كل هاجرة نفي الدراهم تنقاد الصياريف
[ ص: 62 ] فالمغيرات صبحا الخيل تغير على العدو وقت الصبح .
وعلى القول الثاني : فالإبل تغير بالحجاج صبحا من مزدلفة إلى منى يوم النحر .
فأثرن به نقعا : أي غبارا . قال به . أي : بالصبح أو به . أي بالعدو .
والمفهوم من العاديات : توسطن به جمعا ، أي دخلن في وسط جمع أي خلق كثير من الكفار .
ونظير هذا المعنى قول بشر بن أبي حازم :
فوسطن جمعهم وأفلت حاجب تحت العجاجة في الغبار الأقتم
وعلى القول الثاني الذي يقول : العاديات الإبل تحمل الحجيج .
فمعنى قوله : فوسطن به جمعا ، أي : صرن بسبب ذلك العدو وسط جمع . وهي المزدلفة ، وجمع اسم من أسماء المزدلفة .
ويدل لهذا المعنى قول صفية بنت عبد المطلب ، عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأم الزبير بن العوام رضي الله عنهما :
فلا والعاديات مغبرات جمع بأيديها إذا سطع الغبار
وهذا الذي ساقه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، قد جمع أقوال جميع المفسرين في هذه الآيات ، وقد سقته بحروفه لبيانه للمعنى كاملا .
ولكن مما قدمه رحمة الله تعالى علينا وعليه أن من أنواع البيان في الأضواء : أنه إذا اختلف علماء التفسير في معنى وفي الآية قرينة ترد أحد القولين أو تؤيد أحدهما فإنه يشير إليه .
وقد وجدت اختلاف المفسرين في هذه الآيات في نقطة أساسية من هذه الآيات مع اتفاقهم في الألفاظ ، ومعانيها والأسلوب وتراكيبه .
ونقطة الخلاف هي معنى الجمع الذي توسطن به ، أهو المزدلفة لأن من أسمائها جمعا كما في الحديث : " وقفت هاهنا وجمع كلها موقف " .
وهذا مروي عن علي رضي الله عنه ، في نقاش بينه وبين ابن عباس . ساقه ابن جرير .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (604)
سُورَةُ الْقَارِعَة
صـ 63 إلى صـ 72
[ ص: 63 ] أم بالجمع جمع الجيش في القتال على ما تقدم ، وهو قول ابن عباس وغيره . حكاه ابن جرير وغيره .
وقد وجدنا قرائن عديدة في الآية تمنع من إرادة المزدلفة بمعنى جمع ، وهي كالآتي : أولا وصف الخيل أو الإبل على حد سواء بالعاديات ، حتى حد الضبح ووري النار بالحوافر وبالحصا ، لأنها أوصاف تدل على الجري السريع .
ومعلوم أن الإفاضة من عرفات ثم من المزدلفة لا تحتمل هذا العدو ، وليس هو فيها بمحمود ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينادي : " السكينة السكينة " فلو وجد لما كان موضع تعظيم وتفخيم .
ثانيا : أن المشهور أن إثارة النقع من لوازم الحرب ، كما قاله بشار :
كأن مثار النقع فوق رءوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
أي : لشدة الكر والفر .
ثالثا : قوله تعالى : فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا ، جاء مرتبا بالفاء ، وهي تدل على الترتيب والتعقيب .
وقد تقدم المغيرات صبحا ، وبعدها فوسطن به جمعا .
وجمع هي المزدلفة ، وإنما يؤتى إليها ليلا . فكيف يقرن صبحا ، ويتوسطن المزدلفة ليلا .
وعلى ما حكاه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، أنهم يغيرون صبحا من المزدلفة إلى منى ، تكون تلك الإغارة صبحا بعد التوسط بجمع ، والسياق يؤخرها عن الإغارة ولم يقدمها عليها .
فتبين بذلك أن إرادة المزدلفة غير متأتية في هذا السياق .
ويبقى القول الآخر وهو الأصح . والله تعالى أعلم .
ولو رجعنا إلى نظرية ترابط السور لكان فيها ترجيحا لهذا المعنى ، وهو أنه في السورة السابقة ، ذكرت الزلزلة وصدور الناس أشتاتا ليروا أعمالهم .
[ ص: 64 ] وهنا حث على أفضل الأعمال التي تورث الحياة الأبدية والسعادة الدائمة في صورة مماثلة ، وهي عدوهم أشتاتا في سبيل الله لتحصيل ذاك العمل الذي يحبون رؤيته في ذلك الوقت ، وهو نصرة دين الله أو الشهادة في سبيل الله ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد .
هذا الجواب قال القرطبي : الكنود : الكفور الجحود لنعم الله ، وهو قول ابن عباس .
وقال الحسن : يذكر المصائب وينسى النعم ، أخذه الشاعر فنظمه :
أيا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم إلى متى أنت وحتى متى
تشكو المصيبات وتنسى النعم
وروى أبو أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكنود هو الذي يأكل وحده ، ويمنع رفده ، ويضرب عبده " .
وروى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أبشركم بشراركم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : من نزل وحده ، ومنع رفده ، وجلد عبده " خرجهما الترمذي الحكيم في نوادر الأصول .
وروى ابن عباس أيضا أنه قال : " الكنود بلسان كندة وحضرموت : العاصي ، وبلسان ربيعة ومضر : الكفور ، وبلسان كنانة : البخيل السيئ الملكة " .
وقال مقاتل : وقال الشاعر :
كنود لنعماء الرجال ومن يكن كنودا لنعماء الرجال يبعد
أي : كفور .
ثم قيل : هو الذي يكفر اليسير ، ولا يشكر الكثير .
وقيل : الجاحد للحق .
وقيل : سميت كندة كندة ; لأنها جحدت أباها .
[ ص: 65 ] وقال إبراهيم بن هرمة الشاعر :
دع البخلاء إن شمخوا وصدوا وذكرى بخل ثمانية كنود
في نقول كثيرة وشواهد .
ومنها : الكنود الذي ينفق نعم الله في معصية الله .
وعن ذي النون : الهلوع والكنود : هو الذي إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا .
وقيل : الحسود الحقود .
ثم قال القرطبي رحمه الله في آخر البحث :
قلت : هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود .
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة ، وأحوال غير محمودة ، فإن صح فهو أعلى ما يقال ، ولا يبقى لأحد معه مقال . ا هـ .
وهكذا كما قال : إن صح الأثر فلا قول لأحد ، ولكن كل هذه الصفات من باب اختلاف التنوع ، لأنها داخلة ضمن معنى الجحود للحق أو للنعم .
وقد استدل ذو النون المصري بالآية الكريمة ، وهي مفسرة للكنود على المعاني المتقدمة بأنه هو الهلوع إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا .
ومثلها قوله : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمني وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني [ 89 \ 15 - 16 ] .
وقد عقب عليه هناك بمثل ما عقب عليه هنا .
فهناك قال تعالى : كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما [ 89 \ 17 - 20 ] .
وهنا عقب عليه بقوله : وإنه لحب الخير لشديد ، والله تعالى أعلم .
وقوله : إن الإنسان عام في كل إنسان ، ومعلوم أن بعض الإنسان ليس كذلك ، [ ص: 66 ] كما قال تعالى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى [ 92 \ 5 ، 6 ] ، مما يدل على أنه من العام المخصوص .
وأن هذه الصفات من طبيعة الإنسان إلا ما هذبه الشرع ، كما قال تعالى : وأحضرت الأنفس الشح [ 4 \ 128 ] .
وقوله : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [ 59 \ 9 ] .
ونص الشيخ في إملائه أن المراد به الكافر .
قوله تعالى : وإنه على ذلك لشهيد .
اختلف في مرجع الضمير في : وإنه ، فقيل : راجع للإنسان ، ورجحه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب ، مستدلا بقوله تعالى بعده : وإنه لحب الخير لشديد .
وقيل : راجع إلى رب الإنسان .
واختار هذا القرطبي وقدمه .
وجميع المفسرين يذكرون الخلاف ، وقد عرفت الراجح منها ، وعليه ، فعلى أنه راجع لرب الإنسان فلا إشكال في الآية ، وعلى أنه راجع للإنسان ففيه إشكال أورده الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب وأجاب عليه .
وهو أنه جاءت نصوص تدل على أنه ينكر ذلك ، وأنه كان يحب أنه يحسن صنعا ، ونحو ذلك .
ومن الجواب عليه : أن شهادته بلسان الحال .
وقد أورد بعض المفسرين شهادتهم بلسان المقال في قوله تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر [ 9 \ 17 ] إلا أن هذه الشهادة بالكفر هي الشرك . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وإنه لحب الخير لشديد .
الخير عام ، كما تقدم في قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره .
ولكنه هنا خاص بالمال ، فهو من العام الذي أريد به الخاص من قصر العام على [ ص: 67 ] بعض أفراده ; لأن المال فرد من أفراد الخير ، كقوله تعالى : إن ترك خيرا [ 2 \ 180 ] ، أي : مالا ; لأن عمل الخير يصحبه معه ولا يتركه .
وفي معنى هذا وجهان : الأول وإنه لحب الخير أي بسبب حبه الخير لشديد بخيل ، شديد البخل .
كما قيل :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
أي : شديد البخل على هذه الرواية من هذا البيت .
والوجه الثاني : وإنه لشديد حب المال . قالهما ابن كثير .
وقال : كلاهما صحيح ، والواقع أن الثاني يتضمن الأول .
ويشهد للوجه الثاني ، قوله تعالى : وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما .
وقلنا : إن الثاني يتضمن الأول ; لأن من أحب المال حبا جما سيحمله حبه على البخل .
وفي هذا النص مذمة حب المال وهو جبلة في الإنسان ، إلا من هذبه الإسلام ، إلا أن الذم ينصب على شدة الحب التي تحمل صاحبها على ضياع الحقوق أو تعدي الحدود .
وهذه الآية وما قبلها نازلة في الكفار كما قدمنا كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه .
قوله تعالى : أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور .
البعثرة : الانتثار .
وقال الزمخشري : إن هذه الكلمة مأخوذة من أصلين : البعث والنثر .
فالبعث : خروجهم أحياء .
والنثر : الانتشار كنثر الحب ، فهي تدل على بعثهم منتشرين .
[ ص: 68 ] وقد نص تعالى على هذا المعنى في قوله : وإذا القبور بعثرت [ 82 \ 4 ] ، أي بعثر من فيها .
وقوله : يوم يخرجون من الأجداث سراعا [ 70 \ 43 ] .
وقوله : كأنهم جراد منتشر [ 54 \ 7 ] .
وقوله : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث [ 101 \ 4 ] . .
قوله تعالى : وحصل ما في الصدور .
قيل : حصل أي أبرز . قاله ابن عباس .
وقيل : ميز الخير من الشر .
والحاصل من كل شيء ما بقي .
قال لبيد :
وكل امرئ يوما سيعلم سعيه إذا حصلت عند الإله الحصائل
والمراد بما في الصدور الأعمال ، وهذا كقوله : يوم تبلى السرائر [ 86 \ 9 ] .
ونص على الصدور هنا ، مع أن المراد القلوب ; لأنها هي مناط العمل ومعقد النية .
والعقيدة وصحة الأعمال كلها مدارها على النية ، كما في حديث : " إنما الأعمال بالنيات " وحديث : " ألا إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله " الحديث .
وقال الفخر الرازي : خصص القلب بالذكر ; لأنه محل لأصول الأعمال .
ولذا ذكره في معرض الذم ، فإنه آثم قلبه [ 2 \ 283 ] ، وفي معرض المدح : وجلت قلوبهم [ 8 \ 2 ] .
ويشهد لما قاله قوله : إلا من أتى الله بقلب سليم [ 26 \ 89 ] .
وقوله : ثم قست قلوبكم [ 2 \ 74 ] .
[ ص: 69 ] وقال : ثم تلين جلودهم وقلوبهم [ 39 \ 23 ] .
وقوله : ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] ، ونحو ذلك .
ومما يدل على أن المراد بالصدور ما فيها هو القلب .
قوله : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ 22 \ 46 ] .
وقال الفخر الرازي : نص على الصدور ليشمل الخير والشر ; لأن القلب محل الإيمان .
والصدر محل الوسوسة لقوله تعالى : الذي يوسوس في صدور الناس [ 114 \ 5 ] .
وهذا وإن كان وجيها ، إلا أن محل الوسوسة أيضا هو القلب ، فيرجع إلى المعنى الأول والله أعلم .
قوله تعالى : إن ربهم بهم يومئذ لخبير .
ذكر الظرف هنا يشعر بقصر الوصف عليه مع أنه سبحانه خبير بهم في كل وقت في ذلك اليوم ، وقبل ذلك اليوم ، ولكنه في ذلك اليوم يظهر ما كان خفيا ، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى ، وهو سبحانه لا تخفى عليه خافية .
ولكن ذكر الظرف هنا للتحذير مع الوصف بخبير ، أخص من عليم ، كما في قوله : قال نبأني العليم الخبير [ 66 \ 3 ] .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْقَارِعَة
قوله تعالى : القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في أول سورة الواقعة ، وقال : كالطامة والصاخة ، والآزفة ، والقارعة . ا هـ . أي وكذلك الصاخة والساعة .
ومعلوم أن الشيء إذا عظم خطره كثرت أسماؤه .
أو كما روي عن الإمام علي : كثرة الأسماء تدل على عظم المسمى .
ومعلوم أن ذلك ليس من المترادفات ، فإن لكل اسم دلالة على معنى خاص به .
فالواقعة لصدق وقوعها ، والحاقة لتحقق وقوعها ، والطامة لأنها تطم وتعم بأحوالها ، والآزفة من قرب وقوعها " أزفت الآزفة " مثل " اقتربت الساعة " ، وهكذا هنا .
قالوا : القارعة : من قرع الصوت الشديد لشدة أهوالها .
وقيل : القارعة اسم للشدة .
قال القرطبي : تقول العرب : قرعتهم القارعة وفقرتهم الفاقرة ، إذا وقع بهم أمر فظيع .
قال ابن جرير :
وقارعة من الأيام لولا سبيلهم لزاحت عنك حينا
وقال تعالى : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة [ 13 \ 31 ] ، وهي الشديدة من شدائد الدهر .
[ ص: 71 ] وقوله : وما أدراك ما القارعة ، تقدم قولهم : إن كل ما جاء " وما أدراك " أنه يدريه ، وما جاء " وما يدريك " لا يدريه .
وقد أدراه هنا بقوله : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش [ 101 \ 4 - 5 ] ، وهذا حال من أحوالها .
وقد بين بعض الأحوال الأخرى في الواقعة بأنها خافضة رافعة [ 56 \ 3 ] ، وفي الطامة والصاخة : ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] .
وقوله : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه [ 80 \ 34 - 35 ] .
وأيضا فإن كل حالة يذكر معها الحال الذي يناسبها ، فالقارعة من القرع وهو الضرب ، ناسب أن يذكر معها ما يوهن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث ، ويفكك ترابط الجبال إلى هباء العهن المنفوش .
قوله تعالى : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث .
الفراش : جمع فراشة .
وقيل : هي التي تطير وتتهافت في النار .
وقيل : طير رقيق يقصد النار ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق .
وذكر الشيخ في إملائه قول جرير :
إن الفرزدق ما علمت وقومه مثل الفراش غشين نار المصطلى
وقال الفراء : هو غوغاء الجراد الذي ينتشر في الأرض ويركب بعضه بعضا من الهول .
ونقل القرطبي عن الفراء : أنه الهمج الطائر من بعوض وغيره .
ومنه الجراد . ويقال : هو أطيش من فراشة قال :
طويش من نفر أطياش أطيش من طائرة الفراش
وفي صحيح مسلم عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثلكم كمثل رجل [ ص: 72 ] أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها ، وهو يذبهن عنها . وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي " .
والمبثوث : المنتشر .
ومثله قوله : يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر [ 54 \ 7 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه في سورة " اقتربت الساعة " ، وسورة " ق والقرآن " ، وسورة " يس والقرآن الحكيم " . بما يغني عن إعادته هنا .
وقد قيل : إن وصفها بالفراش في أول حالها في الاضطراب والحيرة .
ووصفهم كالجراد في الكثرة ووحدة الاتجاه : مهطعين إلى الداعي [ 54 \ 8 ] .
قوله تعالى : وتكون الجبال كالعهن المنفوش .
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الواقعة بيان أحوال الجبال يوم القيامة من بدئها بكثيب مهيل ، ثم كالعهن المنفوش ، ثم تسير كالسراب .
وأحال فيها على غيرها ، كقوله : تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب [ 27 \ 88 ] .
وتقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة " سأل سائل " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (605)
سُورَةُ التَّكَاثُر
صـ 73 إلى صـ 82
قوله تعالى : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية .
في قوله : ثقلت موازينه دلالة على وقع الوزن لكل إنسان .
والموازين : يراد بها الموزون ، ويراد بها آلة الوزن ، كالمعايير ، وهما متلازمان .
وتقدم أن المعايير بالذرة وأقل منها .
وقد جاء نصوص على وضع الموازين وإقامتها بالعدل والقسط .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك عند قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] .
[ ص: 73 ] وقوله : فهو في عيشة راضية ، قالوا : بمعنى مرضية ، وراضية أصلها مرضية ، كما في قوله : وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية [ 88 \ 8 - 9 ] ، إسناد الرضى للعيشة ، على أنها هي فاعلة الرضى ; لأن كلمة العيشة جامعة لنعيم الجنة وأسباب النعيم ، راضية طائعة لينة لأصحاب الجنة ، فتفجر لهم الأنهار طواعية ، وتدنو الثمار طواعية ، كما في قوله : قطوفها دانية [ 69 \ 23 ] .
فالقول الأول : هو المعروف في البلاغة بإطلاق المحل وإرادة الحال ، كقوله تعالى : فليدع ناديه [ 96 \ 17 ] .
والنادي : مكان منتدى القوم ، أي ينادي بعضهم بعضا للاجتماع فيه .
والمراد : من يحل في هذا النادي ، ويكون هنا أطلق المحل وهو محل العيشة ، وأراد الحال فيها .
وعلى الثاني : فهو إسناد حقيقي من إسناد الرضى لمن وقع منه أو قام به . ومما هو جدير بالذكر أن حمله على الأسلوب البياني ليس متجها كالآية الأخرى ; لأن العيشة ليست محلا لغيرها بل هي حالة ، والمحل الحقيقي هو الجنة والعيشة حالة فيها ، وهي اسم لمعاني النعيم كما تقدم ، فيكون حمل الإسناد على الحقيقة أصح .
وقد جاءت الأحاديث : أن الجنة تحس بأهلها وتفرح بعمل الخير ، كما أنها تتزين وتبتهج في رمضان ، وأنها تناظرت مع النار . وكل يدلي بأهله وفرحه بهم ، حتى وعد الله كلا بملئها .
ونصوص تلقي الحور والولدان والملائكة في الجنة لأهل الجنة بالرضى والتحية معلومة .
وقوله : لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون [ 36 \ 57 ] ، أي : لا يتأخر عنهم شيء .
وقوله : وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 73 ] .
وقوله : فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [ 55 \ 56 ] .
وقاصرات الطرف عن رضى بأهلهن . ومنه حور مقصورات في الخيام [ 55 \ 72 ] ، أي على أزواجهن .
[ ص: 74 ] وقوله : ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا [ 76 \ 14 ] ، ونحو ذلك ، مما يشعر بأن نعيم الجنة بنفسه راض بأهل الجنة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
قوله تعالى : وأما من خفت موازينه فأمه هاوية .
وقع الخلاف في المراد من قوله : فأمه هاوية ، هل المراد بأمه مأواه وهي النار ، وأن هاوية من أسمائها ، أم المراد بأمه رأسه وأن هاوية من الهوي ، فيلقى في النار منكسا رأسه يهوي في النار .
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ذلك في دفع إيهام الاضطراب ، ولا يبعد من يقول إنه لا تعارض بين القولين .
فتكون " أمه هاوية " ، وهي النار ويلقى فيها منكسا تهوي رأسه والعياذ بالله .
وحكى القرطبي على أن الأم بمعنى قول لبيد :
فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد
وعلى معنى الهاوية البعيدة والداهية ، قول الشاعر :
يا عمرو لو نالتك رماحنا كنت كمن تهوي به الهاويه
والهاوية : مكان الهوي .
كما قيل :
أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط مياسة القد
أو طيبة النشر .
وفي الحديث : " إن أحدكم ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها في النار سبعين خريفا " .
نسأل الله السلام .
وقد فسر الهاوية بما بعدها : وما أدراك ما هيه نار حامية [ 101 \ 10 - 11 ] .
[ ص: 75 ] وقد فسر الهاوية بأنها أسفل دركات النار . عياذا بالله .
وقد جاء قوله تعالى : كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة [ 104 \ 4 - 6 ] .
والنبذ : الطرح ، مما يرجح ما قلناه من إمكان إرادة المعنيين كون أمه هي الهاوية أي النار ، يهوي فيها على أم رأسه ، وذلك بالنبذ في الهاوية بعيدة المهوى ، وعادة الجسم إذا ألقي من شاهق بعيدا يسبقه إلى أسفل أثقله ، وأثقل جسم الإنسان رأسه . والله تعالى أعلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ التَّكَاثُر
قوله تعالى : ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر .
ألهاكم : أي : شغلكم ، ولهاه : تلهيه ، أي علله .
ومنه قول امرئ القيس :
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول
أي : شغلتها .
والتكاثر : المكاثرة . ولم يذكر هنا في أي شيء كانت المكاثرة التي ألهتهم .
قال ابن القيم : ترك ذكره ، إما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشيء لا المتكاثر به ، وإما إرادة الإطلاق . ا هـ .
ويعني رحمه الله بالأول : ذم الهلع ، والنهم .
وبالثاني : ليعم كل ما هو صالح للتكاثر به ، مال وولد وجاه ، وبناء وغراس .
ولم أجد لأحد من المفسرين ذكر نظير لهذه الآية .
ولكنهم اتفقوا على ذكر سبب نزولها في الجملة ، من أن حيين تفاخرا بالآباء وأمجاد الأجداد ، فعددوا الأحياء ، ثم ذهبوا إلى المقابر ، وعدد كل منهما ما لهم من الموتى يفخرون بهم ، ويتكاثرون بتعدادهم .
وقيل : في قريش بين بني عبد مناف وبني سهم .
وقيل : في الأنصار .
وقيل : في اليهود وغيرهم ، مما يشعر بأن التكاثر كان في مفاخر الآباء .
[ ص: 77 ] وقال القرطبي : الآية تعم جميع ما ذكر وغيره .
وسياق حديث الصحيح : " لو أن لابن آدم واديا من ذهب ، لأحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " .
قال ثابت : عن أنس عن أبي : كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت : ألهاكم التكاثر .
وكأن القرطبي يشير بذلك إلى أن التكاثر بالمال أيضا .
وقد جاءت نصوص من كتاب الله تدل على أن التكاثر الذي ألهاهم ، والذي ذمهم الله بسببه أو حذرهم منه ، إنما هو في الجميع ، كما في قوله تعالى : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما إلى قوله وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ 57 \ 20 ] .
ففيه التصريح : بأن التفاخر والتكاثر بينهم في الأموال والأولاد .
ثم جاءت نصوص أخرى في هذا المعنى كقوله : وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون [ 6 \ 32 ] .
وقوله : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ 29 \ 64 ] .
ولكون الحياة الدنيا بهذه المثابة ، جاء التحذير منها والنهي عن أن تلههم ، في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [ 63 \ 9 ] .
وبين تعالى أن ما عند الله للمؤمنين خير من هذا كله في قوله : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين [ 62 \ 9 ] .
ومما يرجح أن التكاثر في الأموال والأولاد في نفس السورة ، ما جاء في آخرها من [ ص: 78 ] قوله : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ 102 \ 8 ] ، لمناسبتها لأول السورة .
كما هو ظاهر بشمول النعيم للمال شمولا أوليا .
وقوله : حتى زرتم المقابر .
أخذ منه من قال : إن تفاخرهم حملهم على الذهاب إلى المقابر ليتكاثروا بأمواتهم ، كما جاءت في أخبار أسباب النزول المتقدمة .
والصحيح في " زرتم المقابر " : يعني متم ; لأن الميت يأتي إلى القبر كالزائر لأن وجوده فيه مؤقتا .
وقد روي : أن أعرابيا سمع هذه الآية ، فقال : بعثوا ورب الكعبة ، فقيل له في ذلك ، فقال : لأن الزائر لا بد أن يرتحل .
تنبيه
قد بحث بعض العلماء مسألة زيارة القبور هنا لحديث : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة " .
وقالوا : إن المنع كان عاما من أجل ذكر مآثر الآباء والموتى ، ثم بعد ذلك رخص في الزيارة ، واختلفوا فيمن رخص له . فقيل : للرجال دون النساء لعدم دخولهن في واو الجماعة في قوله : " فزوروها " .
وقيل : هو عام للرجال وللنساء ، واستدل كل فريق بأدلة يطول إيرادها .
ولكن على سبيل الإجمال لبيان الأرجح ، نورد نبذة من البحث .
فقال المانعون للنساء : إنهن على أصل المنع ، ولم تشملهن الرخصة ، ومجيء اللعن بالزيارة فيهن .
وقال المجيزون : إنهن يدخلن ضمنا في خطاب الرجال ، كدخولهن في مثل قوله : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] ، فإنهن يدخلن قطعا .
وقالوا : إن اللعن المنوه عنه جاء في الحديث بروايتين رواية : " لعن الله زائرات القبور " .
وجاء : " لعن الله زوارات القبور والمتخذات عليهن السرج " إلى آخره .
[ ص: 79 ] فعلى صيغة المبالغة : زوارات لا تشمل مطلق الزيارة ، وإنما تختص للمكثرات ; لأنهن بالإكثار لا يسلمن من عادات الجاهلية من تعداد مآثر الموتى المحظور في أصل الآية .
أما مجرد زيارة بدون إكثار ولا مكث ، فلا .
واستدلوا لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها لما ذكر لها صلى الله عليه وسلم ، السلام على أهل البقيع ، فقالت : " وماذا أقول يا رسول الله إن أنا زرت القبور ؟ قال : قولي : السلام عليكم آل دار قوم مؤمنين " الحديث .
فأقرها صلى الله عليه وسلم ، على أنها تزور القبور وعلمها ماذا تقول إن هي زارت .
وكذلك بقصة مروره على المرأة التي تبكي عند القبر فكلمها ، فقالت : إليك عني ، وهي لا تعلم من هو ، فلما ذهب عنها قيل لها : إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاءت تعتذر فقال لها : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " .
ولم يذكر لها المنع من زيارة القبور ، مع أنه رآها تبكي .
وهذه أدلة صريحة في السماح بالزيارة . ومن ناحية المعنى ، فإن النتيجة من الزيارة للرجال من في حاجة إليها كذلك ، وهي كون زيارة القبور تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة .
وليست هذه بخاصة في الرجال دون النساء ، بل قد يكن أحوج إليه من الرجال .
وعلى كل ، فإن الراجح من هذه النصوص والله تعالى أعلم ، هو الجواز لمن لم يكثرن ولا يتكلمن بما لا يليق ، مما كان سببا للمنع الأول ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه آخر
من لطائف القول في التفسير ، ما ذكره أبو حيان عن التكاثر في قوله : حتى زرتم المقابر ، ما نصه :
وقيل هذا تأنيب على الإكثار من زيارة ، تكثيرا بمن سلف وإشادة بذكره ، وكان [ ص: 80 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ثم قال : " فزوروها " أمر إباحة للاتعاظ بها ، لا لمعنى المباهاة والتفاخر .
ثم قال : قال ابن عطية : كما يصنع الناس في ملازمتها وتسنيمها بالحجارة والرخام وتلوينها شرفا ، وبيان النواويس عليها ، أي الفوانيس ، وهي السرج .
ثم قال أبو حيان ، وابن عطية : لم ير إلا قبور أهل الأندلس ، فكيف لو رأى ما يتباهى به أهل مصر في مدافنهم بالقرافة الكبرى والقرافة الصغرى ، وباب النصر وغير ذلك . وما يضيع فيها من الأموال ، لتعجب من ذلك ولرأى ما لم يخطر ببال .
وأما التباهي بالزيارة : ففي هؤلاء المنتمين إلى الصوفية أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور : زرت قبر سيدي فلان بكذا ، وقبر فلان بكذا ، والشيخ فلان بكذا ، والشيخ فلان بكذا ، فيذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد .
وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ ، بحيث لو كتبت لجاءت أسفارا . وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه .
وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظن بهم وبذل المال لهم ، وأما من شذ منهم لأنه يتكلم للعامة فيأتي بعجائب ، يقولون : هذا فتح من العلم اللدني على الخضر .
حتى إن من ينتمي إلى العلم ، لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ، ونقل كثيرا من حكاياتهم ، ومزج ذلك بيسير من العلم طلبا للمال والجاه وتقبيل اليد .
ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته . ا هـ . بحروفه .
وهذا الذي قاله رحمه الله من أعظم ما افتتن به المسلمون في دينهم ودنياهم معا .
أما في دينهم : فهو الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ، صيانة للتوحيد من سؤال غير الله .
وأما في الدنيا فإن الكثير من هؤلاء يتركون مصالح دنياهم من زراعة أو تجارة أو صناعة ، ويطوف بتلك الأماكن تاركا ومضيعا من يكون السعي عليه أفضل من نوافل العبادات .
مما يلزم على طلبة العلم في كل مكان وزمان ، أن يرشدوا الجهلة منهم ، وأن يبينوا [ ص: 81 ] للناس عامة خطأ وجهل أولئك ، وأن الرحيل لتلك القبور ليس من سنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه " ، ولا كان من عمل الخلفاء الراشدين ، ولا من عامة الصحابة ولا التابعين ، ولا من عمل أئمة المذاهب الأربعة رحمهم الله .
وإنما كان عمل الجميع زيارة ما جاورهم من المقابر للسلام عليهم والدعاء لهم ، والاتعاظ بحالهم ، والاستعداد لما صاروا إليه .
نسأل الله الهداية والتوفيق لاتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاقتفاء بآثار سلف الأمة ، آمين .
قوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون .
كلا : زجر عن التلهي والتكاثر المذكور ، و " سوف تعلمون " : أي حقيقة الأمر ، ومغبة هذا التلهي ، " ثم كلا سوف تعلمون " تكرار للتأكيد .
وقيل : إنه لا تكرار ، لما روي عن علي رضي الله عنه : أن الأولى في القبر ، والثانية يوم القيامة . وهو معقول .
واستدل به بعضهم على عذاب القبر .
ومعلوم صحة حديث القبر : " إنما القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار " .
والسؤال فيه معلوم ، ولكن أرادوا مأخذه من القرآن .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في الكلام على سورة غافر ، عند : وحاق بآل فرعون سوء العذاب [ 40 \ 45 ] ، إثبات عذاب القبر من القرآن .
وكذلك بيان معناه في آخر سورة الزخرف عند الكلام على قوله تعالى : فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون [ 43 \ 89 ] .
وهذا الزجر هنا والتحذير لهم ردا على ما كانوا عليه في التكاثر .
كما قال الشاعر :
ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر
[ ص: 82 ] وأصرح دليل لإثبات عذاب القبر من القرآن ، هو قوله تعالى : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ; لأن الأول في الدنيا ، والثاني في الآخرة .
قوله تعالى : كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين .
لو : هنا شرطية ، جوابها محذوف باتفاق قدره ابن كثير أي لو علمتم حق العلم ، لما ألهاكم التكاثر عن طلب الآخرة ، حتى صرتم إلى المقابر ، وعلم اليقين : أجازأبو حيان إضافة الشيء لنفسه ، أي : لمغايرة الوصف ، إذ العلم هو اليقين ، ولكنه آكد منه .
وعن حسان قوله :
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
و " لترون الجحيم " : جواب لقسم محذوف .
وقال : المراد برؤيتها عند أول البعث ، أو عند الورود ، أو عند ما يتكشف الحال في القبر .
" ثم لترونها عين اليقين " : قيل : هذا للكافر عند دخولها ، هذا حاصل كلام المفسرين .
ومعلوم أن هذا ليس لمجرد الإخبار برؤيتها ، ولكن وعيد شديد وتخويف بها ; لأن مجرد الرؤية معلوم : " وإن منكم إلا واردها " [ 19 \ 71 ] ، ولكن هذه الرؤية أخص ، كما في قوله : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] ، أي : أيقنوا بدليل قوله : ولم يجدوا عنها مصرفا [ 18 \ 53 ] .
وقد يبدو وجه في هذا المقام ، وهو أن الرؤية هنا للنار نوعان :
الرؤية الأولى : رؤية علم وتيقن ، في قوله : لو تعلمون علم اليقين ، علما تستيقنون به حقيقة يوم القيامة لأصبحتم بمثابة من يشاهد أهواله ويشهد بأحواله ، كما في حديث الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (606)
سُورَةُ الْعَصْر
صـ 83 إلى صـ 92
[ ص: 83 ] وقد وقع مثله في قصة الصديق لما أخبر نبأ الإسراء ، فقال : " صدق محمد ، فقالوا : تصدقه وأنت لم تسمع منه ؟ قال : إني لأصدقه على أكثر من ذلك " .
فلعلمه علم اليقين بصدقه صلى الله عليه وسلم فيما يخبر ، صدق بالإسراء كأنه يراه .
وتكون الرؤية الثانية رؤية عين ومشاهدة ، فهو عين اليقين .
وقد قدمنا مراتب العلم الثلاث : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين .
فالعلم : ما كان عن دلائل .
وعين اليقين : ما كان عن مشاهدة .
وحق اليقين : ما كان عن ملابسة ومخالطة ، كما يحصل العلم بالكعبة ، وجهتها فهو علم اليقين ، فإذا رآها فهو عين اليقين بوجودها . فإذا دخلها وكان في جوفها فهو حق اليقين بوجودها . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم .
أصل النعيم كل حال ناعمة من النعومة والليونة ، ضد الخشونة واليبوسة ، والشدائد ، كما يشير إليه قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله [ 16 \ 53 ] .
ثم قال : إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [ 16 \ 53 ] ، فقابل النعمة بالضر .
ومثله قوله تعالى : ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني [ 11 \ 10 ] .
وعلى هذا فإن نعم الله عديدة ، كما قال : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ 16 \ 18 ] .
وبهذا تعلم أن كل ما قاله المفسرون ، فهو من قبيل التمثيل لا الحصر ، كما قال تعالى : لا تحصوها .
وأصول هذه النعم أولها الإسلام : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] .
ويدخل فيها نعم التشريع والتخفيف ، عما كان على الأمم الماضية .
[ ص: 84 ] كما يدخل فيها نعمة الإخاء في الله : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ 3 \ 103 ] ، وغير ذلك كثير .
وثانيها : الصحة ، وكمال الخلقة والعافية ، فمن كمال الخلقة الحواس ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين [ 90 \ 8 - 9 ] .
ثم قال : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ 17 \ 36 ] .
وثالثها : المال في كسبه وإنفاقه سواء ، ففي كسبه من حله نعمة ، وفي إنفاقه في أوجهه نعمة .
هذه أصول النعم ، فماذا يسأل عنه ، منها جاءت السنة بأنه سيسأل عن كل ذلك جملة وتفصيلا .
أما عن الدين والمال والصحة ، ففي مجمل الحديث : " إذا كان يوم القيامة ، لا تزول قدم عبد حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيم أبلاه ، وعن علمه فيم عمل به ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن شبابه فيم أفناه " .
ولعظم هذه الآية وشمولها ، فإنها أصبحت من قبيل النصوص مضرب المثل ، فقد فصلت السنة جزئيات ما كانت تخطر ببال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد أورد القرطبي ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر وعمر ، فقال : " ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ؟ " قالا : الجوع يا رسول الله ! قال : " وأنا ، والذي نفسي بيدها لأخرجني الذي أخرجكما ، قوموا " فقاموا معه ، فأتى رجلا من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت : مرحبا ! وأهلا ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين فلان ؟ " قالت : ذهب يستعذب لنا من الماء أي يطلب ماء عذبا . إذ جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، ثم قال : الحمد لله ، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني . قال : فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب ، فقال : كلوا من هذه ، وأخذ المدية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والحلوب ، فذبح لهم . فأكلوا من الشاة ، ومن ذلك العذق ، وشربوا ، [ ص: 85 ] فلما أن شبعوا ورووا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : " والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم " وخرجه الترمذي .
وقال فيه : " هذا والذي نفسي بيده ، من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ، ظل بارد ورطب طيب ، وماء بارد " وكنى الرجل الذي من الأنصار فقال : أبو الهيثم بن التيهان .
قال القرطبي : قلت : اسم هذا الرجل مالك بن التيهان ، ويكنى أبا الهيثم .
وقد ذكر ابن كثير هذه القصة من عدة طرق .
ومنها : عند أحمد أن عمر رضي الله عنه أخذ بالفرق وضرب به الأرض ، وقال : " إنا لمسئولون عن هذا يا رسول الله ؟ قال : نعم ، إلا من ثلاثة : خرقة لف الرجل بها عورته ، أو كسرة سد بها جوعته ، أو جحر يدخل فيه من الحر والقر " .
وقال سفيان بن عيينة : إن ما سد الجوع ، وستر العورة من خشن الطعام ، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة ، وإنما يسأل عن النعيم ، والدليل عليه أن الله أسكن آدم الجنة فقال له : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ 20 \ 119 ] .
فكانت هذه الأشياء الأربعة ما يسد به الجوع ، وما يدفع به العطش ، وما يسكن فيه من الحر ويستر به عورته ، لآدم عليه السلام بالإطلاق ، لا حساب عليه فيها لأنه لا بد له منها .
وذكر عن أحمد أيضا بسنده " أنهم كانوا جلوسا فطلع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء ، فقلنا :
يا رسول الله ، نراك طيب النفس ؟
قال : أجل ، قال : خاض الناس في ذكر الغنى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا بأس بالغنى لمن اتقى الله ، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى ، وطيب النفس من النعم " .
قال : ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة .
وبهذا ، فقد ثبت من الكتاب والسنة ، أن النعيم الذي هو محل السؤال يوم القيامة [ ص: 86 ] عام في كل ما يتنعم به الإنسان في الدنيا ، حسا كان أو معنى .
حتى قالوا : النوم مع العافية ، وقالوا : إن السؤال عام للكافر والمسلم ، فهو للكافر توبيخ وتقريع وحساب ، وللمؤمن تقرير بحسب شكر النعمة وجحودها وكيفية تصريفها . والعلم عند الله تعالى .
وكل ذلك يراد منه الحث على شكر النعمة ، والإقرار للمنعم والقيام بحقه سبحانه فيها ، كما قال تعالى عن نبي الله : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين [ 46 \ 15 ] .
اللهم أوزعنا شكر نعمتك ، واجعل ما أنعمت به علينا عونا لنا على طاعتك .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْعَصْر
قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر .
العصر : اسم للزمن كله أو جزء منه .
ولذا اختلف في المراد منه ، حيث لم يبين هنا .
فقيل : هو الدهر كله ، أقسم الله به لما فيه من العجائب ، أمة تذهب وأمة تأتي ، وقدر ينفذ ، وآية تظهر ، وهو هو لا يتغير ، ليل يعقبه نهار ، ونهار يطرده ليل ، فهو في نفسه عجب .
كما قيل :
موجود شبيه المعدوم ، ومتحرك يضاهي الساكن .
كما قيل :
وأرى الزمان سفينة تجري بنا نحو المنون ولا نرى حركاته
فهو في نفسه آية ، سواء في ماضيه لا يعلم متى كان ، أو في حاضره لا يعلم كيف ينقضي ، أو في مستقبله .
واستدل لهذا القول بما جاء موقوفا على علي رضي الله عنه ، ومرفوعا من قراءة شاذة : " والعصر ونوائب الدهر " . وحمل على التفسير إن لم يصح قرآنا ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس .
وعليه قول الشاعر :
سبيل الهوى وعر ، وبحر الهوى غمر ويوم الهوى شهر ، وشهر الهوى دهر
وقيل العصر : الليل والنهار .
[ ص: 88 ] قال حميد بن ثور :
ولم يلبث العصران يوم ليلة إذا طلبا أن يدركا ما يتمما
والعصران أيضا : الغداة والعشي .
كما قيل :
وأمطله العصرين حتى يملني ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
والمطل : التسويف وتأخير الدين .
كما قيل :
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزه ممطول معنى غريمها
وقيل : إن العشي ما بعد زوال الشمس إلى غروبها ، وهو قول الحسن وقتادة .
ومنه قول الشاعر :
تروح بنا يا عمرو قد قصر العصر وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر
وعن قتادة أيضا : هو آخر ساعة من ساعات النهار ، لتعظيم اليمين فيه ، وللقسم بالفجر والضحى .
وقيل : هو صلاة العصر لكونها الوسطى .
وقيل : عصر النبي صلى الله عليه وسلم أو زمن أمته ; لأنه يشبه عصر عمر الدنيا .
والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن أقرب هذه الأقوال كلها قولان : إما العموم بمعنى الدهر للقراءة الشاذة ، إذ أقل درجاتها التفسير ، ولأنه يشمل بعمومه بقية الأقوال .
وإما عصر الإنسان أي عمره ومدة حياته الذي هو محل الكسب والخسران لإشعار السياق ، ولأنه يخص العبد في نفسه موعظة وانتفاعا .
ويرجح هذا المعنى ما يكتنف هذه السورة من سور التكاثر قبلها ، والهمزة بعدها ، إذ الأولى تذم هذا التلهي والتكاثر بالمال والولد ، حتى زيارة المقابر بالموت ، ومحل ذلك هو حياة الإنسان .
[ ص: 89 ] وسورة الهمزة في نفس المعنى تقريبا ، في " الذي جمع مالا وعدده ، يحسب أن ماله أخلده " . [ 104 \ 2 - 3 ]
فجمع المال وتعداده في حياة الإنسان ، وحياته محدودة ، وليس مخلدا في الدنيا ، كما أن الإيمان وعمل الصالحات مرتبط بحياة الإنسان .
وعليه ، فإما أن يكون المراد بالعصر في هذه السورة العموم لشموله الجميع وللقراءة الشاذة ، وهذا أقواها .
وإما حياة الإنسان ، لأنه ألزم له في عمله ، وتكون كل الإطلاقات الأخرى من إطلاق الكل ، وإرادة البعض ، والله تعالى أعلم .
وقوله : إن الإنسان لفي خسر .
لفظ الإنسان وإن كان مفردا ، فإن أل فيه جعلته للجنس .
وقد بينه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب ، وتقدم التنبيه عليه مرارا ، فهو شامل للمسلم والكافر ، إلا من استثنى الله تعالى .
وقيل : خاص بالكافر ، والأول أرجح للعموم .
و " إن الإنسان لفي خسر " جواب القسم ، والخسر : قيل : هو الغبن ، وقيل : النقص ، وقيل : العقوبة ، وقيل : الهلكة ، والكل متقارب .
وأصل الخسر والخسران كالكفر والكفران ، النقص من رأس المال ، ولم يبين هنا نوع الخسران في أي شيء ، بل أطلق ليعم ، وجاء بحرف الظرفية ، ليشعر أن الإنسان مستغرق في الخسران ، وهو محيط به من كل جهة .
ولو نظرنا إلى أمرين وهما المستثنى والسورة التي قبلها ، لاتضح هذا العموم ; لأن مفهوم المستثنى يشمل أربعة أمور : عدم الإيمان وهو الكفر ، وعدم العمل الصالح وهو العمل الفاسد ، وعدم التواصي بالحق وهو انعدام التواصي كلية أو التواصي بالباطل ، وعدم التواصي بالصبر ، وهو إما انعدام التواصي كلية أو الهلع والجزع .
والسورة التي قبلها تلهي الإنسان بالتكاثر في المال والولد ، بغية الغنى والتكثر فيه ، وضده ضياع المال والولد وهو الخسران .
[ ص: 90 ] فعليه يكون الخسران في الدين من حيث الإيمان بسبب الكفر ، وفي الإسلام وهو ترك العمل ، وإن كان يشمله الإيمان في الاصطلاح والتلهي في الباطل وترك الحق ، وفي الهلع والفزع .
ومن ثم ترك الأمر والنهي بما فيه مصلحة العبد وفلاحه وصلاح دينه ودنياه ، وكل ذلك جاء في القرآن ما يدل عليه نجمله في الآتي :
أما الخسران بالكفر . فكما في قوله تعالى . لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ 39 \ 65 ] .
وقوله : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ، أي : لأنهم لم يعملوا لهذا اللقاء ، وقصروا أمرهم في الحياة الدنيا فضيعوا أنفسهم ، وحظهم في الآخرة .
وأما الخسران بترك العمل ، فكما في قوله تعالى : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم [ 7 \ 9 ] ، لأن الموازين هي معايير الأعمال كما تقدم : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [ 99 \ 7 ] .
ومثله : ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا [ 4 \ 119 ] ، لأنه سيكون من حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون [ 58 \ 19 ] ، أي بطاعتهم إياه في معصية الله .
وأما الخسران بترك التواصي بالحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، والحق هو الإسلام بكامله ، وقد قال تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [ 3 \ 85 ] .
وأما الخسران بترك التواصي بالصبر والوقوع في الهلع والفزع ، فكما قال تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] .
تحقيق المناط في حقيقة خسران الإنسان
اتفقوا على أن رأس مال الإنسان في حياته هو عمره ; كلف بإعماله في فترة وجوده في الدنيا ، فهي له كالسوق . فإن أعمله في خير ربح ، وإن أعمله في شر خسر .
[ ص: 91 ] ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة الآية [ 9 \ 111 ] .
وقوله : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله الآية [ 61 \ 10 - 11 ] .
وفي الحديث عند مسلم : " الطهور شطر الإيمان " .
وفي آخره " كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " مما يؤكد أن رأس مال الإنسان عمره .
ولأهمية هذا العمر جاء قسيم الرسالة والنذارة في قوله : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير [ 35 \ 37 ] .
وعلى هذا قالوا : إن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى .
وهدى كل إنسان النجدين ، وجعل لكل إنسان منزلة في الجنة ومنزلة في النار .
فمن آمن وعمل صالحا كان مآله إلى منزلة الجنة ، وسلم من منزلة النار ، ومن كفر كان مآله إلى منزلة النار ، وترك منزلته في الجنة .
كما جاء في حديث القبر : " أول ما يدخل في قبره إن كان مؤمنا يفتح له باب إلى النار ، ويقال له : ذاك مقعدك من النار لو لم تؤمن ثم يقفل عنه ، ويفتح له باب إلى الجنة ويقال له : هذا منزلك يوم تقوم الساعة ، فيقول : رب ، أقم الساعة " .
وإن كان كافرا كان على العكس تماما ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فيأخذ كل منزلته فيها ، وتبقى منازل أهل النار في الجنة خالية فيتوارثها أهل الجنة ، وتبقى منازل أهل الجنة في النار خالية ، فتوزع على أهل النار ، وهنا يظهر الخسران المبين ; لأن من ترك منزلة في الجنة وذهب إلى منزلة في النار ، فهو بلا شك خاسر ، وإذا ترك منزلته في الجنة لغيره وأخذ هو بدلا عنها منزلة غيره في النار ، كان هو الخسران المبين ، عياذا بالله .
أما في غير الكافر وفي عموم المسلمين ، فإن الخسران في التفريط بحيث لو دخل [ ص: 92 ] الجنة ولم ينل أعلى الدرجات يحس بالخسران في الوقت الذي فرط فيه ، ولم ينافس فعل الخير ، لينال أعلى الدرجات .
فهذه السورة فعلا دافع لكل فرد إلى الجد والعمل المربح ، ودرجات الجنة رفيعة ، ومنازلها عالية مهما بذل العبد من جهد ، فإن أمامه مجال للكسب والربح ، نسأل الله التوفيق والفلاح .
وقد قالوا : لا يخرج إنسان من الدنيا إلا حزينا ، فإن كان مسيئا فعلى إساءته ، وإن كان محسنا فلتقصيره ، وقد يشهد لهذا المعنى قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ 41 ] .
فالخوف من المستقبل أمامهم ، والحزن على الماضي خلفهم ، والله تعالى أعلم .
ويبين خطر هذه المسألة : أن الإنسان إذا كان في آخر عمره ، وشعر بأيامه المعدودة وساعاته المحدودة ، وأراد زيادة يوم فيها ، يتزود منها أو ساعة وجيزة يستدرك بعضا مما فاته ، لم يستطع لذلك سبيلا ، فيشعر بالأسى والحزن على الأيام والليالي والشهور والسنين التي ضاعت عليه في غير ما كسب ولا فائدة ، كان من الممكن أن تكون مربحة له ، وفي الحديث الصحيح : " نعمتان مغبون فيهما الإنسان : الصحة والفراغ " .
أي : أنهما يمضيان لا يستغلهما في أوجه الكسب المكتملة ، فيفوتان عليه بدون عوض يذكر ، ثم يندم ولات حين مندم .
كما قيل في ذلك :
بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدر دررا كما اشترى المسلم إذ تنصرا
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (607)
سُورَةُ الْهُمَزَةِ
صـ 93 إلى صـ 102
تنبيه
في سورة التكاثر تقبيح التلهي بالتكاثر بالمال والولد ونحوه ، ثم الإشعار بأن سببه الجهل ; لأنهم لو كانوا يعلمون علم اليقين لما ألهاهم ذلك حتى باغتهم الموت .
وهنا إشعار أيضا بأن سبب هذا الخسران الذي يقع فيه الإنسان ، هو الجهل الذي [ ص: 93 ] يجر إلى الكفر والتمادي في الباطل ، ويساعد على هذا قسوة القلب ، وطول الأمل . كما قال تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [ 57 \ 16 ] .
تنبيه آخر
إن الإنسان لفي خسر ، نص على الإنسان على ما تقدم وقد جاءت آية أخرى تدل على أن الجن كالإنس في قوله تعالى : أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين [ 46 \ 18 ] .
وتقدم بيان تكليف الجن بالدعوة واستجابتهم لها والدعوة إليها .
قوله تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر .
هذا هو المستثنى من الإنسان المتقدم ، مما دل على العموم كما قدمنا ، والإيمان لغة التصديق وشرعا الاعتقاد الجازم بأركان الإيمان الستة ، في حديث جبريل عليه السلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان .
" وعملوا الصالحات " : العطف يقتضي المغايرة .
ولذا قال بعض الناس : إن الأعمال ليست داخلة في تعريف الإيمان ، ومقالاتهم معروفة .
والجمهور : أن الإيمان اعتقاد بالجنان ، ونطق باللسان ، وعمل بالجوارح .
فالعمل داخل فيه ويزيد وينقص ، وقد قدمنا : أن العمل شرط أقرب من أن يكون جزءا ، أي أن الإيمان يصدق بالاعتقاد ، ولا يتوقف وجوده على العمل ، ولكن العمل شرط في الانتفاع بالإيمان ، إذا تمكن العبد من العمل ، ومما يدل لكون الإيمان يصدق عليه حد الاعتقاد والنطق ، ولو لم يتمكن العبد من العمل ، قصة الصحابي الذي أسلم عند بدء المعركة ، وقاتل ، واستشهد ولم يصل لله ركعة ، فدخل الجنة .
والجمهور على أن مجرد الاعتقاد لا ينفع صاحبه ، كما كان يعتقد عم النبي صلى الله عليه وسلم صحة رسالته ، ولكنه لم يقل كلمة يحاج له صلى الله عليه وسلم بها ، وكذلك لو اعتقد ونطق بالشهادتين ، ولم يعمل كان مناقضا لقوله .
[ ص: 94 ] وقد قدمنا هذه المسألة مفصلة .
والصالحات : جمع صالحة ، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه تعريفه وشروط كون العمل صالحا بأدلته من كونه موافقا لكتاب الله ، وعمله صاحبه خالصا لوجه الله وكونه صادرا من مؤمن بالله ، إلخ .
وقوله : وتواصوا بالحق .
يعتبر التواصي بالحق من الخاص بعد العام ; لأنه داخل في عمل الصالحات .
وقيل : إن التواصي أن يوصي بعضهم بعضا بالحق .
وقيل : الحق كل ما كان ضد الباطل ، فيشمل عمل الطاعات ، وترك المعاصي .
واعتبر هذا أساسا من أسس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بقرينة التواصي بالصبر ، أي على الأمر والنهي ، على ما سيأتي إن شاء الله .
وقيل : الحق هو القرآن ; لشموله كل أمر وكل نهي ، وكل خير ، ويشهد لذلك قوله تعالى في حق القرآن : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل [ 17 \ 105 ] .
وقوله : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين [ 39 \ 2 ] .
وقد جاءت آياته في القرآن تدل على أن الوصية بالحق تشمل الشريعة كلها ، أصولها وفروعها ، ماضيها وحاضرها ، من ذلك ما وصى الله به الأنبياء وعموما ، من نوح وإبراهيم ومن بعدهم في قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ 42 \ 13 ] .
وإقامة الدين القيام بكليته ، وقد كانت هذه الوصية عمل الرسل لأممهم ومن بعدهم ، فنفذها إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى : ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ 2 \ 132 ] .
ومن بعد إبراهيم يعقوب كما قال تعالى : أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون [ 2 \ 133 ] .
[ ص: 95 ] فهذا تواصي الأمم بأصل الإيمان وعموم الشريعة ، وكذلك بالعبادة من صلاة وزكاة ، كما في قوله تعالى عن نبي الله عيسى عليه السلام : وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي [ 19 \ 31 - 32 ] .
وكذلك الحالة الاجتماعية ماثلة في الوصية بالوالدين والأولاد ، لترابط الأسرة ، ففي الوالدين قوله تعالى : ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [ 31 \ 14 - 15 ] .
وفي الأبناء قال : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 11 ] .
وفي الحقوق العامة أوامر ونواهي ، عبادات ومعاملات ، جاءت آيات الوصايا العشر التي قال عنها ابن مسعود رضي الله عنه : " من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ 6 \ 151 - 153 ] .
تلك الوصايا الجامعة أبواب الخير الموصدة أبواب الشر والمذيلة بهذا التبيين والتعريف " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " .
ولو أردنا أن نربط بين هذا وبين التواصي بالحق وبينهما وبين فاتحة الكتاب ، لكانت النتيجة كالآتي في قوله : وتواصوا بالحق ، إحالة على تلك الوصايا ، وهي شاملة جامعة ومعنون لها بأنها صراط الله المستقيم .
[ ص: 96 ] فكأن قوله : وتواصوا بالحق ، مساويا لقوله : وتواصوا بالصراط المستقيم . واستقيموا عليه .
ثم في سورة الفاتحة : اهدنا الصراط المستقيم [ 1 \ 6 ] ، وهذا صراط الله المستقيم فاتبعوه .
فكانت سورة العصر مشتملة على التواصي بالاستقامة على صراط الله المستقيم واتباعه ، ويأتي عقبها قوله : وتواصوا بالصبر [ 103 \ 3 ] ، بمثابة التثبيت على هذا الصراط المستقيم إذ الصبر لازم على عمل الطاعات ، كما هو لازم لترك المنكرات .
وتلك الوصايا العشر جمعت أمرا ونهيا فعلا وتركا ، وكذلك فيه الإشارة إلى ما يقوله دعاة الإسلام من أن العمل الصالح والدعوة إلى الحق والتواصي به ، فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغالبا من يقوم به يتعرض لأذى الناس ، فلزمهم التواصي بالصبر ، كما قال لقمان لابنه يوصيه وجامعا في وصيته وصية سورة العصر إذ قال : يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور [ 31 \ 17 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتفصيل عند قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل [ 5 \ 105 ] ، في سورة المائدة .
فصارت هذه السورة بحق جامعة لأصول الرسالة .
كما روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال : لو تأمل الناس هذه السورة لكفتهم .
قوله : وتواصوا بالحق ، جاء الحث على التواصي بالرحمة أيضا مع الصبر ، في قوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة [ 90 \ 17 ] .
وبهذه الوصايا الثلاث : بالتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة ، تكتمل مقومات المجتمع المتكامل قوامه الفضائل المثلى ، والقيم الفضلى .
لأن بالتواصي بالحق إقامة الحق ، والاستقامة على الطريق المستقيم .
[ ص: 97 ] وبالتواصي بالصبر ، يستطيعون مواصلة سيرهم على هذا الصراط ، ويتخطون كل عقبات تواجههم .
وبالتواصي بالمرحمة : يكونون مرتبطين كالجسد الواحد ، وتلك أعطيات لم يعطها إلا القرآن وأعطاها في هذه السورة الموجزة . وبالله التوفيق .
تنبيه
قال الفخر الرازي : إن الله تعالى لما أخبر عن هؤلاء بالنجاة من الخسران ، وفوزهم بالعمل الصالح والإيمان ، أخبر عنهم أنهم لم يكتفوا بما يتعلق بهم أنفسهم بل تعدوا إلى غيرهم ، فدعوهم إلى ما فازوا به على حد قوله صلى الله عليه وسلم : " حب لأخيك ما تحب لنفسك " ا هـ . ملخصا .
ويشهد لهذا قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة إلى قوله ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ 41 - 35 ] .
فقد بين تعالى أن الناس أقسام ثلاثة إزاء دعوة الرسل .
قوم آمنوا وقالوا : ربنا الله ، واستقاموا على ذلك بالعمل الصالح .
وقوم ارتفعت همتهم إلى دعوة غيرهم وهم أحسن قولا بلا شك .
وقوم عادوا الدعاة وأساءوا إليهم .
ثم بين موقف الدعاة من أولئك المسيئين في غضون قوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع ، أي : إساءة المسيئين بالتي هي أحسن ، فيصبحوا أولياء لك ، وبين أن هذه المنزلة وما يلقاها إلا الذين صبروا ، ثم بين أن من ارتفع إليها وسلك مسلكها إنه لذو حظ عظيم .
[ ص: 98 ] تنبيه
كنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه قوله للدعاة عدوان : أحدهما من الإنس . والآخر من الشياطين .
وقد أرشدنا الله لكيفية التغلب عليهما واكتفاء شرهما .
أما عداوة الإنس فبمقابلة الإساءة بالإحسان ، فيصبح وليا حميما .
وأما عدو الجن فبالاستعاذة منه : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ 41 \ 36 ] .
نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق .
وقد أشرنا إلى أن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه قدم مبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] .
وذكر سورة العصر عندها ، وعقد مسائل متعددة في منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بما لا غنى عنه .
[ ص: 99 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْهُمَزَةِ
قوله تعالى : ويل لكل همزة لمزة .
اختلف في معنى كلمة " ويل " .
فقيل : هو واد في جهنم .
وقيل : هي كلمة عذاب وهلاك .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ذكر هذين المعنيين في سورة الجاثية عند قوله تعالى : ويل لكل أفاك أثيم [ 45 \ 7 ] ، وبين أنها مصدر لا لفظ له من فعله ، وأن المسوغ للابتداء بها مع أنها نكرة كونها في معرض الدعاء عليهم بالهلاك .
وقد استظهر رحمه الله تعالى هذا المعنى .
ومما يشهد لما استظهره رحمه الله ، ما جاء في حق أصحاب الجنة التي أصبحت كالصريم ، أنهم قالوا عند رؤيتهم إياها : قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين [ 21 \ 14 ] ، فهي كلمة تقال عند نزول المصائب ، وعند التقبيح .
وقال الفخر الرازي : أصل الويل لفظة السخط والذم ، وأصلها وي لفلان ، ثم كثرت في كلامهم فوصلت باللام ، ويقال : ويح بالحاء للترحم ا هـ .
ومما يدل لقول الرازي أيضا قول قارون : ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر [ 28 \ 82 ] .
ومثله للتعجب في قوله : قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا [ 11 \ 72 ] .
وقوله : قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي [ 5 \ 31 ] .
[ ص: 100 ] فالظاهر : أنها كلمة تقال عند الشدة والهلكة ، أو شدة التعجب مما يشبه المستبعد .
والذي يشهد له القرآن : هو هذا المعنى ، وسبب الخلاف قد يرجع لمجيئها تارة مطلقة كقوله : ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 15 ] ، وهنا ويل لكل همزة لمزة .
ويجيء مع ذكر ما يتوعد به كقوله : فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وقوله : فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم [ 43 \ 65 ] ، فذكر النار والعذاب الأليم .
وكذلك قوله : فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم [ 19 \ 37 ] ، فهي في هذا كله للوعيد الشديد ، مما ذكر معها من النار والعذاب الأليم ومشهد يوم عظيم ، وليست مقصودة بذاتها دون ما ذكر معها ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله : همزة لمزة ، قيل : هما بمعنى واحد ، وهو الغيبة .
وأنشد ابن جرير قول زياد الأعجم :
تدلي بودي إذا لاقيتني كذبا وإن أغيب فأنت الهامز الهمزه
وعزا هذا لابن عباس ، وهو الذي يصيب الناس ويطعن فيهم .
وقد جاء في القرآن استعمال كل من الكلمتين مفردة عن الأخرى ، بما يدل على المغايرة .
ففي الهمزة قوله : ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم [ 68 \ 11 ] ، مما يدل على الكذب والنميمة .
وفي الهمزة قوله تعالى : ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب [ 49 \ 11 ] .
وقوله : ومنهم من يلمزك في الصدقات [ 9 \ 58 ] ، مما يدل على أنها أقرب للتنقص والعيب في الحضور لا في الغيبة ، فتغاير الهمز في المعنى ، وفي الصفة ، والجمع بينهما جمع بين القبيحين ، فكان مستحقا لهذا الوعيد الشديد بكلمة " ويل " .
وقد قيل : الهمز باليد : وقيل : باللسان في الحضرة ، والهمز في الغيبة .
[ ص: 101 ] وقيل : الهمز باليد ، واللمز باللسان ، والغمز بالعين ، وكلها معان متقاربة تشترك في تنقص الآخرين .
قوله تعالى : الذي جمع مالا وعدده
. هذا الوصف يشعر بأنه علة فيما قبله ، إذ الموصول هنا يدل من كل المتقدمة ، وليس العيب في جمع مالا بل في " عدده يحسب أن ماله أخلده " . وفي " عدده " عدة معان :
قيل : عده كل وقت وآخر ، تحفظا عليه .
وقيل : عدده كنزه .
وقيل : عدده أعده للحاجة .
وقرئ : " جمع وعدد " بالتشديد وبالتخفيف . والمراد به من لم يؤد حق الله فيه شحا وبخلا ، كما تقدم في سورة ألهاكم التكاثر .
قوله تعالى : يحسب أن ماله أخلده
. هذا الحسبان هو المذموم عليه ، والمنصب عليه الوعيد ; لأنه كفر بالبعث . كما قال صاحب الجنة في الكهف : ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة [ 18 \ 35 - 36 ] .
قوله تعالى : كلا لينبذن في الحطمة . كلا : ردع وزجر له على حسبانه الباطل ، ولينبذن في جواب قسم محذوف دل عليه قوله : كلا .
وهذا يفسره ما تقدم في قوله : فأمه هاوية [ 101 \ 9 ] ، أي : ينبذ نبذا ، فيهوي على أم رأسه . عياذا بالله .
والحطمة : فعلة من الحطم ، وهو الكسر ، ثم الأكل الكثير .
وقد فسرت بما بعدها نار الله الموقدة [ 104 \ 6 ] ، وسميت حطمة لأنها تحطم كل ما ألقي فيها ، وتقول : هل من مزيد .
[ ص: 102 ] قوله تعالى : إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة .
قيل : مؤصدة في عمد . بأن العمد صارت وصدا للباب كالقفل ، والغلق له .
وقيل : في عمد : أنهم يدخلون في عمد كالقصبة ، مجوفة الداخل .
وقيل : في عمد : أي توضع أرجلهم في العمد على صورة القيد في الخشبة الممتدة ، يشد فيها عدد من الأشخاص في أرجلهم .
وكنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في ذلك : أن العمد بمعنى القصبة المجوفة تضيق عليهم ، كما في قوله : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا [ 25 \ 13 ] .
فيكون أرجح في هذا المعنى .
وقد نص عليه في إملائه رحمة الله تعالى علينا وعليه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (608)
سُورَةُ قُرَيْشٍ
صـ 103 إلى صـ 112
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْفِيل
قوله تعالى : وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل .
اختلف في معنى السجيل هنا .
فقال قوم : هو السجين ، أبدلت النون لاما ، والسجين النار .
وقيل : إن السجيل من السجل ، كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار ، كما أن سجينا لديوان أعمالهم واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال ، ومنه السجل الدلو المملوء ماء ، وهي حجارة مرسلة لقوله : وأرسل عليهم طيرا أبابيل .
وقوله : إن سجينا ، عن الديوان أعمالهم ، يعني قوله تعالى : كلا إن كتاب الفجار لفي سجين [ 83 \ 7 ] .
وقيل : معنى سجيل ستك وطين ، يعني بعض حجر وبعض طين .
وقيل : معناه الشديد .
وقيل : السجيل اسم لسماء الدنيا .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، ترجيح أنها من طين شديد القوة .
وهذا ما يشهد له القرآن لما في سورة الذاريات : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين [ 51 \ 32 - 34 ] فنص على أنها من طين .
والحجارة من الطين : هي الآجر وهو الطين المطبوخ حتى يتحجر .
وجاء النص الآخر أنها من سجيل منضوض في قوله : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود [ 11 \ 82 ] [ ص: 104 ]
وقيل فيها : كالحمصة والعدسة ، والضمير في عليهم راجع لأصحاب الفيل ، وقصتهم طويلة مشهورة .
تنبيه
قد أوردنا نصوص معنى سجيل ، وترجيح الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : أنها حجارة من طين شديد القوة تنبيها على ما قيل من استبعاد ذلك ، وردا على من صرف معناها إلى غير الحجارة المحسوسة .
أما من استبعدها ، فقد حكاه الفخر الرازي بقوله : واعلم أن من الناس من أنكر ذلك .
وقالوا : لو جوزنا أن يكون في الحجارة التي تكون مثل العدسة من الثقل ما يقوى به على أن ينفذ من رأس الإنسان ويخرج من أسفله ، لجوزنا أن يكون الجبل العظيم خاليا عن الثقل ، وأن يكون في وزن التبنة ، وذلك يرفع الأمان عن المشاهدات .
فإنه متى جاز ذلك فليجز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار ، ولا نراها ، وأن يحصل الإدراك في عين الضرير ، حتى يكون هو بالمشرق ، ويرى قطعة من الأرض بالأندلس ، وكل ذلك محال .
ثم قال : واعلم أن ذلك جائز في مذهبنا ، إلا أن العادة جارية بأنها لا تقع .
وهذا القول يحكيه الفخر الرازي المتوفى سنة 606 ستمائة وست ، فنرى استبعادهم إياها مبني على تحكيم العقل ، وهذا باطل ; لأن خوارق العادات دائما فوق قانون العقل ، بل إن تصورات العقل نفسه منشؤها من تصوراتنا لما نشاهده .
وإذا حدث العقل بما لم يشهده أو يعلم كنه وجوده لاستبعده كما هو في واقعنا اليوم ، لو حدثت به العقول سابقا من نقل الحديث ، والصورة على الأثير ، وتوجيه الطائرات وأمثالها ، لما قوي على تصورها لأنها فوق نطاق محسوساته ومشاهداته .
وحتى نحن لو لم يسايرها من علم بما يحمله الأثير من تيار كهربائي ، وما له من دور فعال في ذلك لما أمكننا تصوره .
ثم من يمنع شيئا من ذلك على قدرته تعالى .
وقد أخبرنا أن تلك الجبال سيأتي يوم تكون فيه كالعهن المنفوش أخف من التبنة ، [ ص: 105 ] التي مثلوا بها ، بل ستكون أقل من ذلك ، كما قال تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، فظهر بطلان هذا القول الذي استبعدها لعدم إدراك العقل لها .
أما من يؤول هذا المعنى إلى معنى آخر ، فهو قريب من الأول من حيث المبدأ ، إلا أنه أثبت الأصل وفسره بما يتناسب والعقل .
وهو محكي عن الإمام محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا ، إذ فسر الحجارة من سجيل ، بأنه وباء الجدري .
وبالتالي : فالطير الأبابيل : هي البعوض وما أشبهه .
وقد اعتذر له السيد قطب : بأن الدافع لذلك هو ما كان شائعا في عصره من موجات متضاربة ، موجة انحراف في التفكير نحو الإسلام واستغلال الإسرائيليات ، كمثال على ما يشبه الأباطيل في تشويه حقائق الإسلام عند غير المسلمين .
ومن ناحية أخرى طوفان علمي حديث ، من إنتاج العقل البشري فبدلا من أن تثبت حادثة كهذه صرفت إلى ما يألفه العقل من إيقاع ميكروب الجدري بجيش أبرهة حتى أهلكه ، لكي لا يتصادم في إثبات الحادثة على ما نص عليه القرآن بواقع العقلية العلمانية الحديثة .
هذا ملخص ما اعتذر به السيد قطب عن هذا القول .
ولكن من الناحية العلمية والنصوص القرآنية ، فقد تقدم : أن الحجارة التي من سجيل ، جاء النص على أنها ليست خاصة بهؤلاء القوم ، بل ألقيت على قوم لوط ، بعد أن جعل عاليها سافلها ، فما موقع الجدري منهم بعد إهلاكهم بإفكها المذكورة ؟
ثم جاء أيضا : أنها من طين ، فأين الطين من الجراثيم الجدرية ؟
ومن الناحية العلمية : من أين جيء بمكروب الجدري ؟ وأين كان قبل أن تأتي به الطير الأبابيل ؟
ومتى كان ميكروب الجدري أو غيره يميز بين قرشي وحبشي ؟
ومتى كان أي ميكروب يفتك بقوم وبسرعة ، فجعلهم كعصف مأكول ، مع أن : فجعلهم ، تشعر بالسرعة في إهلاكهم ، والعصف اليابس الذي تعصف به الريح لخفته .
[ ص: 106 ] ومتى كان وجود الجدري طفرة وفجاءة ، إنه يظهر في حالات فردية ، ثم ينتشر هذا من الناحية العلمية ، وإدراك العقل ، لما عرف من ميكروب الجدري .
ولكن ملابسات الحادثة تمنع من تصور ذلك عقلا لعدم انتشاره في جميع أفراد المنطقة ، ولعدم تأثيره فعلا بهذه الصورة ، ولعدم أيضا تصور مجيئه فجاءة ، فدل العقل نفسه على عدم صحة هذا القول .
ثم من ناحية أخرى إذا رددنا خوارق العادات لعدم تصور العقل لها ، فكيف نثبت مثل حنين الجذع ، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك ، وتسبيح الحصى في كفه صلوات الله وسلامه عليه ؟
وقد شاهد العقل الصورة ، وهي خروج الناقة من الصخرة لقوم صالح ، بل إننا الآن بالحس والعقل نشاهد ما لا ندرك كنهه في وسائل الإعلام ، ونسمع الصوت من الجماد مسجلا على شريط بسيط جدا .
فهل ينفي الباقي ؟ بل كيف أثبت النصارى لعيسى ابن مريم عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص . وإحياء الموتى ، وعمل الطير من الطين ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله .
وكيف أثبت اليهود لموسى أمر العصا وشق البحر ؟ وأين العقل من ذلك كله ؟
الواقع أننا في كل زمان ومع كل قضية ، يجب أن نلتزم جانب الاعتدال ، لا هو جري وراء كل خبر ، ولو كان إسرائيليا ولا هو رد لكل نص ولو كان صريحا قرآنيا ، بل كما قال السيد قطب في ذلك :
يجب أن نستمد فكرنا من نصوص القرآن ، وأن ما يقرره نعتقده ونقول به .
وقد ناقشنا هاتين الفكرتين القديمة التي استبعدت ذلك كلية ، والحديثة التي أولتها .
ونضيف شيئا آخر في جانب الفكرة الثانية ، وهي لعل مما حدا بأصحابها إلى ذلك ما جاء عن قتادة قوله : إنه لم ير الجدري بأرض العرب مثل تلك السنة .
وقيل أيضا : لم ير شجر الحنظل ، إلا في ذلك التاريخ .
فيقال أيضا : إن العقل لا يستبعد هنا أن يكون إهلاك هذا الجيش الكبير بتلك [ ص: 107 ] الحجارة في مكان معسكره في بطن الوادي ، ووقوع الجثث مصابة بها ، لا يمنع أن تتعفن ثم يتولد منها مكروب الجدري ، ولا مانع من ذلك . والعلم عند الله تعالى .
تنبيه آخر
قالوا : إن أصحاب هذا الجيش نصارى وهم أهل دين وكتاب ، وأهل مكة وثنيون لا دين لهم ، والكعبة ممتلئة بالأصنام ، فكيف أهلك الله النصارى أصحاب الدين ولم يسلطهم على الوثنيين ؟
وأجيب عن ذلك بعدة أجوبة .
منها : أن الجيش ظالم باغ ، والبغي مرتعه وخيم ، ولو كان المظلوم أقل من الظالم ، ويشهد لذلك الحديث " في نصرة المظلوم ، واستجابة دعوته ولو كان كافرا " .
ومنها : أن الوثنية اعتداء على حق الله في العبادة ، وغزو هذا الجيش اعتداء على حقوق العباد .
ومنها : أنه إرهاص لمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ ولد في هذا العام نفسه .
وكلها وإن كانت لها وجه من النظر ، إلا أنه يبدو لي وجه ، وهو أن الأصل في نشأة البيت وإقامته ، إنما هو الله رفع قواعده وأقام الصلاة في رحابه ، وكان طاهرا مطهرا للعاكفين فيه والركع السجود ، وإنما الوثنية طارئة عليه وإلى أمد قصير مداه ودنا منتهاه لدين جديد .
والمسيحية بنفسها تعلم ذلك وتنص عليه وتبشر به ، فكانت معتدية على الحقين معا ، حق الله في بيته ، والذي تعلم حرمته وما له ، وحق العباد الذين حوله .
وكانت لو سلطت عليه بمثابة المنتصر على مبدأ صحيح مع فسادها ، مبدأ صحة وسلامة بناء البيت ، ووضعه ، البيت الذي من خصائصه أن يكون مثابة للناس وأمنا .
فكيف لا يأمن هو نفسه من غزو الغزاة وطغيان الطغاة ، فصانه الله تعالى صيانة لمبدأ وجوده ، وحفاظا على أصل وضعه في الأرض ، ويكفي نسبته لله " بيت الله " .
وقد أدرك أبو طالب هذا المعنى بعينه إذ قال لأبرهة :
[ ص: 108 ] أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه . وأتى باب الكعبة فتعلق بها وقال :
لاهم إن العبد يمـ نع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم
ومحالهم عددا يوالك إن يدخلوا البلد الحرا
م فأمر ما بدا لك
وقيل : إنه قال :
يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا إنهم لن يقهروا قواكا
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ قُرَيْشٍ
قوله تعالى : لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف .
اختلف في اللام في " لإيلاف قريش " ، هل هي متعلقة بما قبلها ، وعلى أي معنى . أم متعلقة بما بعدها ، وعلى أي معنى .
فمن قال : متعلقة بما قبلها ، قال متعلقة بجعل في قوله : فجعلهم كعصف مأكول [ 105 \ 5 ] .
وتكون بمعنى لأجل إيلاف قريش يدوم لهم ويبقى تعظيم العرب إياهم ; لأنهم أهل حرم الله ، أو بمعنى إلى أي جعلنا العدو كعصف مأكول ، هزيمة له ونصرة لقريش نعمة عليهم ، إلى نعمة إيلافهم رحلة الشتاء والصيف .
ومن قال : متعلقة بما بعدها ، قال " لإيلاف قريش إيلافهم " الذي ألفوه أي بمثابة التقرير له ، ورتب عليه ، " فليعبدوا رب هذا البيت " . أي أثبته إليهم وحفظه لهم .
وهذا القول الأخير هو اختيار ابن جرير ، ورواه ابن عباس ، ورد جواز القول الأول ; لأنه يلزمه فصل السورتين عن بعض .
وقيل : إنها للتعجب ، أي اعجبوا لإيلاف قريش ، حكاه القرطبي عن الكسائي والأخفش ، والقول الأول لغيره .
وروي أيضا عن ابن عباس وغيره ، واستدلوا بقراءة السورتين معا في الصلاة في ركعة قرأ بهما عمر بن الخطاب ، وبأن السورتين في أبي بن كعب متصلتان ، ولا فصل بينهما .
وحكى القرطبي القولين ، ولم يرجح أحدهما ، ولا يبعد اعتبار الوجهين ، لأنه لا يعارض بعضها بعضا .
[ ص: 110 ] وما اعترض به ابن جرير بأنه يلزم عليه اتصال السورتين فليس بلازم ; لأنه إن أراد اتصالهما في المعنى ، فالقرآن كله متصلة سوره معنى .
ألا ترى إلى فاتحة الكتاب وفيها اهدنا الصراط المستقيم [ 1 \ 6 ] ، فجاءت سورة البقرة : ذلك الكتاب لا ريب فيه [ 2 \ 2 ] ، وبعدها ذكر أوصافهم وقال : أولئك على هدى من ربهم [ 2 \ 5 ] ، فأي ارتباط أقوى من هذا ، كأنه يقول : الهدى الذي تطلبونه في هذا الكتاب فهو هدى للمتقين ، وإن أراد اتصالا حسا بعدم البسملة ، فنظيرها سورة براءة مع الأنفال ، ولكن لا حاجة إلى ذلك ; لأن إجماع القراء على إثبات البسملة بينهما ، اللهم إلا مصحف أبي بن كعب ، وليس في هذين الوجهين وجه أرجح من وجه .
ولذا لم يرجح بينهما أحد من المفسرين ، سوى ابن جرير رحمه الله :
وصحة الوجهين أقوى وأعم في الامتنان وتعداد النعم .
والإيلاف : قيل من التأليف ، إذ كانوا في رحلتيهم يألفون الملوك في الشام واليمن ، أو كانوا هم في أنفسهم مؤلفين ومجمعين ، وهو امتنان عليهم بهذا التجمع والتألف ، ولو سلط عليهم لفرقهم وشتتهم ، وأنشدوا :
أبونا قصي كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من فهر
وقيل : من الإلف والتعود ، أي : ألفوا الرحلتين .
فللإبقاء لهم على ما ألفوه .
وقريش قال أبو حيان : علم على القبيلة .
وقيل : أصلها من النقرش ، وهو الاجتماع أو التكسب والجمع .
وقيل : من دابة البحر المسماة بالقرش وهي أخطر حيواناته ، وهو مروي عن ابن عباس في جوابه لمعاوية .
وأنشد قول الشاعر :
وقريش هي التي تسكن البحـ ـر بها سميت قريش قريشا
[ ص: 111 ] تأكل الرث والسمين ولا تترك فيها لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي يكثر القتل فيهم والخموشا
وقوله تعالى : رحلة الشتاء والصيف ، هو تفسير " لإيلاف " سواء على ما كانوا يؤالفون بين الملوك في تلك الرحلات ، أو ما كانوا يألفونه فيهما .
قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت .
المراد بالبيت : البيت الحرام ، كما جاء في دعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم .
وقوله تعالى : الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
بمثابة التعليل لموجب أمرهم بالعبادة ; لأنه سبحانه الذي هيأ لهم هاتين الرحلتين اللتين كانتا سببا في تلك النعم عليهم ، فكان من واجبهم أن يشكروه على نعمه ويعبدوه وحده .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذا المعنى ، عند قوله تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [ 29 \ 67 ] وساق النصوص بهذا المعنى بما أغنى عن إعادته .
تنبيه
في قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ، ربط بين النعمة وموجبها ، كالربط بين السبب والمسبب .
ففيه بيان لموجب عبادة الله تعالى وحده ، وحقه في ذلك على عباده جميعا ، وليس خاصا بقريش .
وهذا الحق قرره أول لفظ في القرآن ، وأول نداء في المصحف ، فالأول قوله تعالى : الحمد لله رب العالمين [ 1 \ 2 ] ، كأنه يقول هو سبحانه مستحق للحمد ، لأنه رب العالمين ، أي خالقهم ورازقهم ، وراحمهم إلى آخره .
[ ص: 112 ] والثاني : ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] .
ثم بين الموجب بقوله : الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ 2 \ 21 ] .
ثم عدد عليهم نعمه بقوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] .
فهذه النعم تعادل الإطعام من جوع ، والأمن من خوف ، في حق قريش ، ومن ذلك قوله تعالى : إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر [ 108 \ 1 - 2 ] .
وقد بين تعالى أن الشكر يزيد النعم والكفر يذهبها ، إلا ما كان استدراجا ، فقال في شكر النعمة : لئن شكرتم لأزيدنكم [ 14 \ 7 ] .
وقال في الكفران وعواقبه : وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون [ 16 \ 112 ] .
وبهذه المناسبة إن على كل مسلم أفرادا وجماعات ، أن يقابلوا نعم الله بالشكر ، وأن يشكروها بالطاعة والعبادة لله ، وأن يحذروا كفران النعم .
تنبيه آخر
في الجمع بين إطعامهم من جوع وأمنهم من خوف ، نعمة عظمى لأن الإنسان لا ينعم ولا يسعد إلا بتحصيل النعمتين هاتين معا ، إذ لا عيش مع الجوع ، ولا أمن مع الخوف ، وتكمل النعمة باجتماعهما .
ولذا جاء الحديث : " من أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه عنده قوت يومه ، فقد اجتمعت عنده الدنيا بحذافيرها " .
تنبيه آخر
إن في هذه السورة دليلا على أن دعوة الأنبياء مستجابة ; لأن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا لأهل الحرم بقوله : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات [ 14 \ 37 ] .
[ ص: 113 ] وقال : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك [ 2 \ 129 ] ، فأطعمهم الله من جوع وآمنهم من خوف ، وبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (609)
سُورَةُ الْمَاعُون
صـ 113 إلى صـ 122
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْمَاعُون
قوله تعالى : أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين .
الذي يكذب بالدين ، فيه اسم الموصول مبهم بينه ما بعده ، وهو الذي يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين .
وقد بين تعالى في آية أخرى ، أن الإيمان بيوم الدين يحمل صاحبه على إطعام اليتيم والمسكين في قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ 76 \ 8 ] .
ثم قال مبينا الدافع على إطعامهم إياهم : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا [ 76 \ 9 - 10 ] .
وهنا سؤال : وهو لم خص المكذبين بيوم الدين عمن يرتكب هذين الأمرين دع اليتيم ، وهو دفعه وزجره ، وعدم الحض على إطعام المسكين ، وبالتالي عدم إطعامه هو من عنده ؟
والجواب : أنهما نموذجان ، ومثالان فقط .
والأول منهما : مثال للفعل القبيح .
والثاني : مثال للترك المذموم .
ولأنهما عملان إن لم يكونا إسلاميين فهما إنسانيان قبل كل شيء .
وفي الآية الأخرى توجيه للجواب ، وهو أن المؤمن يخاف من الله يوما عبوسا ، وعبر بالعبوس في حق يوم القيامة ، لئلا يعبس هو في وجه اليتيم والمسكين لضعفهما .
ومن جانب آخر فإن كان التكذيب بيوم الدين يحمل على كل الموبقات ، إلا أنها [ ص: 115 ] قد تجد ما يمنع منها ، كالقتل والزنا والخمر لتعلق حق الآخرين ، وكذلك السرقة والنهب .
أما إيذاء اليتيم وضياع المسكين ، فليس هناك من يدفع عنه ، ولا يمنع إيذاء هؤلاء عنهما ، وليس لديهما الجزاء الذي ينتظره أولئك منهم على الإحسان إليهم .
وجبلت النفوس على ألا تبذل إلا بعوض ، ولا تكف إلا عن خوف ، فالخوف مأمون من جانبي اليتيم والمسكين ، والجزاء غير مأمول منهما ، فلم يبق دافع للإحسان إليهما ، ولا رادع عن الإساءة لهما إلا الإيمان بيوم الدين والجزاء ، فيحاسب الإنسان على مثقال الذرة من الخير .
وقيل : إن دع اليتيم : هو طرده عن حقه ، وعدم الحض على طعام المسكين : عدم إخراج الزكاة .
ولكن في الآية ما يمنع ذلك ; لأن الزكاة إنما يطالب بها المؤمن ، والسياق فيمن يكذب بيوم الدين فلا زكاة .
قوله تعالى : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون .
اختلف في المصلين الذين توجه إليهم الوعيد بالويل هنا .
والجمهور : على أنهم الذين يسهون عن أدائها ، ويتساهلون في أمر المحافظة عليها .
وقيل : عن الخشوع فيها وتدبر معانيها .
ولكن الصحيح أنه الأول .
وقد جاء عن عطاء وعن ابن عباس أنهما قالا : الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ، ولم يقل في صلاتهم ، كما أن السهو في الصلاة لم يسلم منه أحد ، حتى أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم من ركعتين في الظهر كما هو معلوم من حديث ذي اليدين ، وقال : " إني لا أنسى ، ولكني أنسى لأسن " فكيف ينسيه الله ليسن للناس أحكام السهو ، ويقع الناس في السهو بدون عمد منهم .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " [ ص: 116 ]
وقد عقد الفقهاء باب سجود السهو تصحيحا لذلك .
لذلك بقي من المراد بـ " الذين هم عن صلاتهم ساهون " .
قيل : نزلت في أشخاص بأعيانهم .
وقيل : في كل من أخر الصلاة عن أول وقتها ، أو عن وقتها كله ، إلى غير ذلك ، أو عن أدائها في المساجد وفي الجماعة .
وقيل : في المنافقين .
وفي السورة تفسير صريح لهؤلاء ، وهو قوله تعالى : الذين هم يراءون ويمنعون الماعون [ 107 \ 6 - 7 ] .
والمرائي في صلاته قد يكون منافقا ، وقد يكون غير منافق .
فالرياء أعم من جهة ، والنفاق أعم من جهة أخرى ، أي قد يرائي في عمل ما ، ويكون مؤمنا بالبعث والجزاء وبكل أركان الإيمان ، ولا يرائي في عمل آخر ، بل يكون مخلصا فيه كل الإخلاص .
والمنافق دائما ظاهره مخالف لباطنه في كل شيء ، لا في الصلاة فقط .
ولكن جاء النص : بأن المراءاة في الصلاة من أعمال المنافقين .
وجاء النص أيضا . بأن منع الماعون من طبيعة الإنسان إلا المصلين ، كما في قوله تعالى : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين [ 70 \ 19 - 22 ] .
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان السهو عنها وإضاعتها عند قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا [ 19 \ 59 - 60 ] .
وبين في آخر المبحث تحت عنوان : مسألة في حكم تاركي الصلاة جحدا أو كسلا . وزاده بيانا ، عند قوله تعالى : والذين هم على صلاتهم يحافظون [ 70 \ 34 ] في دفع إيهام الاضطراب للجمع بين هذه الآية وآية ما سلككم في سقر [ 74 \ 42 ] .
[ ص: 117 ] وذكر قول الشاعر :
دع المساجد للعباد تسكنها
على ما سنذكره بعد ، ثم نبه قائلا : إذا كان الوعيد عمن يسهو عنها فكيف بمن يتركها ؟ ! ا هـ .
وقد تساءل بعض المفسرين عن موجب اقتران هذه الآية بالتي قبلها .
وأجابوا : بأن الكل من دوافع عدم الإيمان بالبعث ، ومن موجبات التكذيب بيوم الدين ، فهي مع ما قبلها في قوة ، فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ، وعن صلاتهم ساهون فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون .
فجمعهم مع الأول ، ونص على وعيده الشديد ، وبين وصفا لهم ، وهو أنهم يمنعون الماعون .
تنبيه
في هذه السورة ، وفي آية : والذين هم على صلواتهم يحافظون [ 23 \ 9 ] ، التي هي من صفات المؤمنين معادلة كبيرة .
إحداهما : في المنافقين تاركي الصلاة أو مضيعيها .
والأخرى في المؤمنين المحافظين عليها ، أي أن الصلاة هي المقياس والحد الفاصل .
وعليه قوله صلى الله عليه وسلم : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن ترك الصلاة فقد كفر " .
أما أثر الصلاة في الإسلام ، وعلى الفرد والجماعة ، فهي أعظم من أن تذكر .
وقد وجدنا بعض آثارها وهو المراءاة في العمل ، أي ازدواج الشخصية والانعزال في منع الماعون ، أي لا يمد يد العون ولو باليسير لمجتمعه الذي يعيش فيه ، وقد جاءت نصوص صريحة في مهمة الصلاة عاجله وآجله .
ففي العاجل قوله تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [ 29 \ 45 ] ، ومن الفحشاء : دع اليتيم وعدم إطعام المسكين ، في الدرجة الأولى .
[ ص: 118 ] ومنها : كل رذيلة منكرة ، فهي إذن سياج للإنسان يصونه عن كل رذيلة . وهي عون على كل شديدة ، كما قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة [ 2 \ 45 ] فجعلها قرينة الصبر في التغلب على الصعاب ، وهي في الآخرة نور ، كما قال تعالى : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم الآية [ 57 \ 12 ] ، مع قوله صلى الله عليه وسلم : " إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء " .
وقوله : ويمنعون الماعون ، قيل : في الماعون الزكاة لقلتها ، والماعون : القليل ، والماعون : المال في لغة قريش .
وقيل : هو ما يعين على أي عمل ، ومنه الدلو والفأس والإبرة والقدر ، ونحو ذلك .
وإذا كان السهو عن الصلاة يحمل على منع الماعون ، فإن من يمنع الماعون وهو الآلة أو الإناء يقضي به الحاجة ثم يرد ، كما هو بدون نقصان ، فلأن يمنع الصدقة أو الزكاة من باب أولى .
ومن هنا : لم يكن المنافق ليزكي ماله ولا يتصدق على محتاج ، بل ولا يقرض آخر قرضا حسنا . ولذا نجد تفشي الربا في المنافقين أشد وأكثر .
وهنا يأتي مبحثان : الأول منهما : حكم الرياء وما حده ؟
والثاني : حكم العارية .
أما الرياء : فقيل هو مشتق من الرؤية ، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمد عليها ، وقد جاء في الحديث تسميته الشرك الخفي : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي ، قالوا : وما الشرك الخفي يا رسول الله ؟ قال : الرياء ، فإنه أخفى في نفوسكم من دبيب النمل " .
وجاء قوله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] .
وبيان الشرك فيه أنه يعمل العمل مما هو أصلا لله ، كالصلاة أو الصدقة أو الحج ، ولكنه يظهره لقصد أن يحمده الناس عليه .
[ ص: 119 ] فكأن هذا الجزء منه مشاركة مع الله ، حيث أصبح من عمله جزء لطلب الثناء من الناس عليه .
وقد جاء حديث أبي هريرة عند مسلم : يقول الله تعالى : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل عملا أشرك معي غيري تركته وشركه " .
أما حكم الرياء في العمل ، ففي هذا النص دلالة على رد العمل على صاحبه ، وتركه له .
فقيل : إنه يكون لا له فيه ، ولا عليه منه .
فقيل : لا يخلو من ذم ، كما حذر الله تعالى منه بقوله : ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس [ 8 \ 47 ] .
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من راءى راءى الله به ، ومن سمع سمع الله به " رواه مسلم .
والتسميع : هو العمل ليسمع الناس به كما في حديث الوليمة " في اليوم الأول والثاني والثالث سمعة . ومن سمع سمع به " .
فالرياء مرجعه إلى الرؤية ، والتسميع مرجعه إلى السماع .
ومعلوم أنها نزلت في قريش يوم بدر ، وقد أحبط الله عملهم ، وردهم على أعقابهم .
وفي حديث أبي هريرة ، وقيل : إنه محبط للأعمال لمسمى الشرك لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به [ 4 \ 48 ] .
وأجيب : بأنه يحبط العمل الذي هو فيه فقط ، فإن راءى في الصلاة أحبطها ولا يتعدى إلى الصوم ، وإن راءى في صلاة نافلة لا يتعدى إحباطها إلى صلاة فريضة ، وهكذا ، قد يبدأ عملا خالصا لله ، ثم يطرأ عليه شبح الرياء ، فهل يسلم له عمله أو يحبطه ما طرأ عليه من الرياء ؟
فقالوا : إن كان خاطرا ودفعه عنه فلا يضره ، وإن استرسل معه . فقد رجح أحمد [ ص: 120 ] وابن جرير عدم بطلان العمل نظرا لسلامة القصد ابتداء .
ودليلهم في ذلك : ما روى أبو داود في مراسيله عن عطاء الخراساني أن رجلا قال : يا رسول الله ، إن بني سلمة كلهم يقاتل ، فمنهم من يقاتل للدنيا ، ومنهم من يقاتل نجدة ، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله تعالى قال : " كلهم إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا " .
وذكر عن ابن جرير : أن هذا في العمل الذي يرتبط آخره بأوله ، كالصلاة والصيام .
أما ما كان مثل القراءة والعلم . فإنه يلزمه تجديد النية الخالصة لله ، أي لأن كل جزء من القراءة ، وكل جزء من طلب العلم مستقل بنفسه ، فلا يرتبط بما قبله .
وهناك مسألة : وهي أن العبد يعمل العمل لله خالصا ، ثم يطلع عليه بعض الناس ، فيحسنون الثناء عليه فيعجبه ذلك . فلا خلاف أنه ليس من الرياء في شيء لما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه ، أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل من الخير يحمده الناس عليه ، فقال صلى الله عليه وسلم " عاجل بشرى المسلم " رواه مسلم .
وقد ذكر بعض العلماء : أن من كان يعمل عملا خفيا ، ثم حضر بعض الناس فتركه من أجلهم خشية الرياء ، أنه يدخل في الرياء ; لأنه يضعف في نفسه أن يخلص النية لله ، وفي هذا بعد ومشقة .
أما منع الماعون وإعطاؤه ، وهو العارية كما تقدم .
فإن مبحث العارية في ناحيتين : ما هي العارية ، والثاني : حكمها أواجب أم مباح ، وحكم ضمانها مضمونة أم لا ؟
أما تعريفها عند الفقهاء : هي إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال ، مع بقاء عينه .
وقولهم مع بقاء عينه : كالقدر والفأس والإبرة والمنخل ، ونحو ذلك ، بخلاف ما يكون إتلافه في استعماله ، كالشمع للإضاءة ، والزيت للدهن ، والكحل للاكتحال ، ونحو ذلك ، مما تنفد عينه باستعماله ، فلا يكون عارية ، ولكن يكون قرضا ، والقرض يكون معاوضته بمثله .
أما حكم العارية . فقيل : جائز .
[ ص: 121 ] وقيل : بل واجب .
وقيل : مستحب .
وحكى ابن قدامة الإجماع على استحبابها ، ودليل من قال بالوجوب بنص الآية : ويمنعون الماعون ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه في حق الإبل لما ذكر الزكاة " وأن حقها إعارة دلوها ، وإطراق فحلها ، ومنحه لبنها يوم ورودها " .
والواقع أن هذا الحديث ذكر فيه ما ليس بعارية قطعا ، مثل طرق الفحل ومنح اللبن ، مما يضعف الاستدلال به .
وقد ساق المجد في المنتقى برواية أحمد ولهم .
أما الوعيد في الآية فقالوا : هو منصب على الصفات الثلاث : السهو عن الصلاة ، والرياء في العمل ، ومنع الماعون جميعا ، ومن اتصف بواحدة فله قدره من الوعيد بحسبه .
وأقل ما يقال فيها ما جاء في قوله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى [ 5 \ 2 ] ، والحديث الصحيح في حق الزكاة ، لما ذكر صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة والإبل والبقر والخيل ، وقال : " ولا ينسى حق الله في ظهرها " .
ثم سئل عن الحمر ، فقال : " لم أجد إلا الآية الشاذة الفاذة : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " [ 99 \ 7 ] .
وإعارة المتاع إباحة المنفعة وهي خير كثير .
والحديث الآخر : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس " .
ونقل الشوكاني عن الكشاف قولا : أنها تكون واجبة عند الاضطرار ، وقبيح في غير الضرورة مروءة . ا هـ .
والضرورة : مثل الدلو إذا وردت الماء ولا دلو معك ، وفي اضطرار إلى الماء .
وقياس الفقهاء : أنه لو تلف شيء بسبب ذلك لضمن المانع .
كما قالوا في الامتناع في بعض الصور : هل هو فعل أو ترك ؟ مثل من كان عنده [ ص: 122 ] خيط ، واحتيج إليه في خياطة جرح إنسان ، أو قطنة فمات ، فهل يعد ترك إعطاء الخيط مجرد ترك لا يؤاخذ عليه ، أو يعتبر فعلا لأنه تسبب عنه موت إنسان . ومثله منع الدلو ليروي أو يسقي إبله أو يشرب هو ؟
والصحيح عندهم : أن الترك في مثل هذه الحالة يؤاخذ عليه مؤاخذة الفعل ، كما قال صاحب مراقي السعود .
والترك فعل في صحيح المذهب
وهنا ما يشهد له الاستعمال العربي الصحيح ، كما قيل في بناء المسجد :
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
فسمي القعود عن العمل عملا مضللا ، فتحصل من هذا أن العارية مستحبة شرعا ومروءة وعرفا في حالة الاختيار ، وواجبة في حالة الاضطرار ، مع ملاحظة أن حالات الاستعارة أغلبها اضطرار ، إلا أن حالات الاضطرار تتفاوت ظروفها .
وقد امتدح الله الأنصار بأنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ 59 \ 9 ] ، فالعارية من باب أولى ، لأنه ينتفع بها وترد لصاحبها .
وقد امتدح الشاعر القوم بعدم منعهم الماعون ، بقوله :
قوم على الإسلام ولما يمنعوا ماعونهم ويضيع التهليلا
وإن كان بعض الناس حمل الماعون هنا على الزكاة ، ولكن قول الشاعر : قوم على الإسلام ، يتضمن إخراجهم الزكاة ضمن إسلامهم ، فيكون الباقي امتداد حالهم في خصوص الماعون .
بقي مبحث ضمانها : تختلف الأقوال في ضمان العارية ، فبعضهم يعتبرها أمانة ، وعليه فلا تكون مضمونة وهذا مذهب الحنفية والمالكية ، إذا لم يحصل منه تعد .
وعند الشافعي وأحمد : أنها مضمونة ، إلا إذا كانت على الوجه المأذون فيه .
كما قالوا في السيف : يستعيره فينكسر في القتال فلا ضمان فيه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (610)
سُورَةُ الْكَافِرُونَ
صـ 123 إلى صـ 132
واستدل من قال بضمانها بالحديث العام : " على اليد ما أخذت ، حتى تؤديه " رواه [ ص: 123 ] المجد في المنتقى ، وقال : رواه الخمسة إلا النسائي .
وبحديث صفوان بن أمية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أذرعا قيل ثلاثين ، وقيل ثمانين ، وقيل مائة . فقال : أغصبا يا محمد ؟ قال : " بل عارية مضمونة ، فقال : فضاع بعضها ، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له ، فقال : أنا اليوم في الإسلام أرغب " رواه أحمد وأبو داود .
ونص الفقهاء أن ضمانها بقيمتها يوم تلفت أو بمثلها ، إن كانت مثلية ، ويستدل له بما جاء في قصعة حفصة لما ضربتها عائشة فسقطت على الأرض فانكسرت ، وانتثر الطعام ، فأخذ صلى الله عليه وسلم قصعة عائشة وردها إلى حفصة ، وقال : " قصعة بقصعة ، وطعام بطعام " أي أن الضمان إما بالمثل إن كان مثليا ، أو بالقيمة إن كان مقوما .
وإذا كانت العارية مضمونة وحكمها الجواز ، فللمستعير طلب ردها متى شاء ، إلا إذا تعلقت بها مصلحة المستعير ، ولا يمكن ردها إلا بمضرة عليه .
قالوا : كمن أعار سفينة وتوسط بها المستعير عرض البحر ، فلا يملك المعير ردها لتعذر ذلك وسط البحر .
وقيل : له طلبها ، وتكون بالأجرة على المستعير ، والأول أرجح .
وكالذي أعار أرضا للزرع ، وقبل أن يستحصد الزرع يطلبها صاحبها ، وهكذا . والله تعالى أعلم .
حكم من جحد العارية
إن حديث المرأة المخزومية مشهور ، وهو أنها كانت تستعير المتاع وتجحده ، فاشتهرت بذلك ، ثم إنها سرقت فقطعت في السرقة ، لا في جحد المتاع المستعار ، وهذا هو الأصح . لأن السرقة لا تكون إلا على وجه التخفي ومن حرز .
والاستعارة خلاف ذلك ، وإنما تدخل في قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [ 4 \ 58 ] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " .
[ ص: 124 ] وحديث " أد الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك " رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن .
وهذا مجمل مباحث العارية ، وتفصيل فروعها في كتب الفقه أوجزنا منه ما يتعلق بمنع الماعون وعدم جواز منعه ، وما يتعلق ببذله ، وبالله تعالى التوفيق .
تنبيه
في هذه السورة بيان منهج علمي يلزم كل باحث ، وهو جمع أطراف النصوص ، وعدم الاقتصار على جزء منه ، وذلك في قوله تعالى : فويل للمصلين [ 107 \ 4 ] ، وهي آية مستقلة ، ولو أخذت وحدها لكانت وعيدا للمصلين .
كما قال الشاعر الماجن في قوله :
دع المساجد للعباد تسكنها وسر إلى خانة الخمار يسقينا ما قال ربك ويل للألى سكروا
وإنما قال ويل للمصلينا
ولذا لا بد من ضميمة ما بعدها للتفسير والبيان ، الذين هم عن صلاتهم ساهون ، ثم فسر هذا التفسير أيضا بقوله : الذين هم يراءون ويمنعون الماعون .
ومثل هذه الآية من الحديث ، ما جاء عند ابن ماجه ما نصه بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن ميسرة المسجد تعطلت : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر " .
هذا الحديث وإن كان في الزوائد ، قال عنه : في إسناده ليث بن أبي سليم ضعيف ، إلا أنه نص فيما تمثل له لأن من اقتصر على جوابه صلى الله عليه وسلم اعتبر ميسرة المسجد أفضل ، ومن جمع طرفي الحديث عرف المقصود منه .
ويتفرع على هذا ما أخذه مالك رحمه الله في باب الشهادة : أن الشخص لا يحق له أن يشهد على مجرد قول سمعه ، إلا إذا استشهدوه عليه ، وقالوا : اشهد عليه ، أو إلا إذا سمع الحديث من أوله مخافة أن يكون في أوله ما هو مرتبط بآخره ، كما لو قال المتكلم للآخر : لي عندك فرس ، ولك عندي مائة درهم ، فيسمع قوله : لك عندي مائة درهم ، [ ص: 125 ] ولم يسمع ما قبلها ، فإذا شهد على ما سمع كان إضرارا بالمشهود عليه ، وهذه السورة تدل لهذا المأخذ ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 126 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْكَوْثَر
قوله تعالى : إنا أعطيناك الكوثر .
الكوثر فوعل من الكثرة ، وأعطيناك قرئ : أنطيناك ، بإبدال العين نونا ، وليست النون مبدلة عن العين ، كإبدال الألف من الواو أو العين في الأجوف ونحوه ، ولكن كلا منهما أصل بذاته ، وقراءة مستقلة . قاله أبو حيان .
واختلف في الكوثر .
فقيل : علم .
وقيل : وصف .
وعلى العلمية قالوا : إنه علم على نهر في الجنة ، وعلى الوصف قالوا : الخير الكثير .
ومما استدل به على العلمية ، ما جاء في السنة من الأحاديث الصحاح ، ذكرها ابن كثير وغيره .
وفي صحيح البخاري عن أنس قال : لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال : " أتيت نهرا حافتاه قباب اللؤلؤ مجوفا . فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر " .
وبسنده أيضا عن عائشة رضي الله عنها " سئلت عن قوله تعالى : إنا أعطيناك الكوثر ، قالت : هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم ، شاطئاه عليهما در مجوف ، آنيته كعدد النجوم " .
وبسنده أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر : هو الخير الذي أعطاه الله إياه .
قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة ، فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه .
وذكر ابن كثير هذه الأحاديث وغيرها عن أحمد رحمه الله : ومنها بسند أحمد إلى [ ص: 127 ] أنس بن مالك قال : " أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة ، فرفع رأسه متبسما إما قال لهم ، وإما قالوا له : لم ضحكت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه نزلت علي آنفا سورة ، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، إنا أعطيناك الكوثر ، حتى ختمها ، فقال : هل تدرون ما الكوثر ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة ، عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم ، فأقول : يا رب إنه من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " .
وذكر ابن كثير ما جاء في صفة الحوض ، وهذه النصوص على أن الكوثر نهر في الجنة ، أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .
وفي الحديث الأخير عن الإمام أحمد قوله : " عليه خير كثير " يشعر بأن معنى الوصفية موجود .
ولذا قال بعض المفسرين : إنه الخير الكثير .
وممن قال ذلك ابن عباس ، كما تقدم في حديث البخاري عنه .
واستدلوا على المعنى ، بقول الشاعر الكميت :
وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن الفصائل
والذي تطمئن إليه النفس أن الكوثر ، هو الخير الكثير ، وأن الحوض أو النهر من جملة ذلك .
وقد أتت آيات تدل على إعطاء الله لرسوله الخير الكثير ، كما جاء في قوله تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم [ 15 \ 87 ] .
وفي القريب سورة الضحى وفيها : ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 5 ] ، أعقبها بنعم جليلة من شرح الصدور ، ووضع الوزر ، ورفع الذكر ، واليسر بعد العسر .
وبعدها في سورة التين جعل بلده الأمين ، وأعطى المؤمنين الذين يعملون الصالحات أجرا غير ممنون .
وبعدها سورة " اقرأ " امتن عليه القرآن ، وعلمه ما لم يكن يعلم .
[ ص: 128 ] وبعدها سورة القدر : أعطاه ليلة خيرا من ألف شهر .
وبعدها سورة البينة : جعل أمته خير البرية ، ومنحهم رضاه عنهم ، وأرضاهم عنه .
وبعدها سورة الزلزلة : حفظ لهم أعمالهم ، فلم يضيع عليهم مثقال الذرة من الخير .
وفي سورة العاديات : أكبر عمل الجهاد ، فأقسم بالعاديات في سبيل الله ، والنصر على الأعداء .
وفي سورة التكاثر : تربيتهم على نعمه ليشكروها ، فيزيدهم من فضله .
وفي سورة العصر : جعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، تؤمن بالله وتعمل الصالحات ، وتتواصى بالحق وتدعو إليه ، وتتواصى بالصبر ، وتصبر عليه .
وبعدها في سورة قريش : أكرم الله قومه ، فآمنهم وأعطاهم رحلتيهم .
وفي السورة التي قبلها مباشرة ، وهي سورة الماعون : يمكن عمل مقارنة تامة أولا .
وفي الجملة ، لئن كان المنافقون يمنعون الماعون ، فقد أعطيناك الخير الكثير ، ثانيا .
وعلى التفصيل ففي الأولى : وصف المنافقين والمكذبين بدع اليتيم ، وفي الضحى قد بين له حق اليتيم فأما اليتيم فلا تقهر [ 93 \ 9 ] ، فكان هو خير موكل ، وخير كافل ، ووصفهم هنا بأنهم لا يحضون على طعام المسكين .
وقد أوضح له في الضحى ، وأما السائل فلا تنهر ، فكان يؤثر السائل على نفسه ، وهؤلاء ساهون عن صلاتهم يراءون بأعمالهم .
وفي هذه السورة فصل لربك [ 108 \ 2 ] ، أداء الصلاة وخالصة لربه ، وإطعام المسكين بنحر الهدي والضحية والصدقة ، وكل ذلك خير كثير ، يضاف إليه ما جاءت به السنة ، كما في حديث : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة ، وحلت لي الغنائم ، ولم تكن تحل لأحد قبلي . وكان النبي يبعث لقومه خاصة ، فبعثت للناس كافة ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل " .
[ ص: 129 ] وقوله : " رفع لي عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .
وفي قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين [ 2 \ 286 ] .
قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى قال : قد فعلت ، قد فعلت " .
وقوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ 17 \ 79 ] ، وهو المقام الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون .
إلى غير ذلك من النصوص ، بما يؤكد قول ابن عباس ، عند البخاري : إن الكوثر : الخير الكثير .
وأن النهر في الجنة من هذا الكوثر الذي أعطيه صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : فصل لربك وانحر .
في هذا مع ما قبله ربط بين النعم وشكرها ، وبين العبادات وموجبها ، فكما أعطاه الكوثر فليصل لربه سبحانه ولينحر له ، كما تقدم في سورة لإيلاف قريش ، في قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف [ 106 \ 3 - 4 ] .
وهناك إنا أعطيناك الكوثر ، وهو أكثر من رحلتيهم وأمنهم ، فصل لربك مقابل فليعبدوا رب هذا البيت .
وقيل : إنه لما كان في السورة قبلها بيان حال المنافقين في السهو عن الصلاة والرياء في العمل ، جاء هنا بالقدوة الحسنة فصل لربك مخلصا له في عبادتك ، كما تقدم في السورة قبلها فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] .
وقوله تعالى في تعليم الأمة ، في خطاب شخصه صلى الله عليه وسلم لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] ، مع عصمته صلى الله عليه وسلم من أقل من ذلك ، والصلاة عامة والفريضة أخصها .
[ ص: 130 ] وقيل : صلاة العيد ، والنحر : قيل فيه أقوال عديدة :
أولها : في نحر الهدي أو نحر الضحية : وهي مرتبطة بقول من حمل الصلاة على صلاة العيد ، وأن النحر بعد الصلاة كما في حديث البراء بن عازب " لما ضحى قبل أن يصلي ، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم يحث على الضحية بعد الصلاة ، فقال : إني علمت اليوم يوم لحم فعجلت بضحيتي ، فقال له : شاتك شاة لحم ؟ فقال : إن عندنا لعناقا أحب إلينا من شاة ، أفتجزئ عني ؟ قال : اذبحها ، ولن تجزئ عن أحد غيرك " .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث الضحية وافيا عند قوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [ 22 \ 28 ] ، وقد ذكروا في معاني : وانحر : أي ضع يدك اليمنى على اليسرى على نحرك في الصلاة ، وهذا مروي عن علي رضي الله عنه .
وأقوال أخرى ليس عليها نص .
والنحر : هو طعن الإبل في اللبة عند المنحر ملتقى الرقبة بالصدر .
وأصح الأقوال في الصلاة وفي النحر هو ما تقدم من عموم الصلاة وعموم النحر أو الذبح لما جاء في قوله تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين [ 6 \ 162 ] .
واتفق الفقهاء على أن النحر للإبل ، والذبح للغنم ، والبقر متردد فيه بين النحر والذبح ، وأجمعوا على أن ذلك هو الأفضل ، ولو عمم النحر في الجميع ، أو عمم الذبح في الجميع لكان جائزا ، ولكنه خلاف السنة .
وقالوا : إن الحكمة في تخصيص الإبل بالنحر ، هو طول العنق ، إذ لو ذبحت لكان مجرى الدم من القلب إلى محل الذبح بعيدا فلا يساعد على إخراج جميع الدم بيسر ، بخلاف النحر في المنحر ، فإنه يقرب المسافة ويساعد القلب على دفع الدم كله ، أما الغنم فالذبح مناسب لها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن شانئك هو الأبتر [ 3 ] . قال البخاري ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : " شانئك " : عدوك ا هـ .
[ ص: 131 ] والأبتر : هو الأقطع الذي لا عقب له .
وأنشد أبو حيان ، قول الشاعر :
لئيم بدت في أنفه خنزوانة على قطع ذي القربى أجذ أباتر
وقال : " شانئك " : مبغضك .
وفي هذه الآية يخبر سبحانه وتعالى : أن مبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقطع .
فقيل : نزلت في العاص بن وائل .
قال لقريش : دعوه ، فإنه أبتر لا عقب له ، إذا مات استرحتم ، فأنزلها الله تعالى ردا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد جاء مصداقها بالفعل في قوله تعالى : في غزوة بدر في قوله تعالى : ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين [ 8 \ 7 ] فقتل صناديد قريش ، وصدق الوعيد فيهم .
ومثله عموم قوله تعالى : فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ 6 \ 45 ] .
وجاء : تبت يدا أبي لهب وتب [ 111 \ 1 ] .
فهي في معناها أيضا .
وبقي ذكر رسول صلى الله عليه وسلم في عقبه من آل بيته ، وفي أمته كلها .
كما تقدم في قوله تعالى : ورفعنا لك ذكرك [ 94 \ 4 ] .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْكَافِرُونَ
قوله تعالى : قل يا أيها الكافرون [ 1 ] . نداء للمشركين بمكة ، لما عرضوا عليه صلى الله عليه وسلم أن يترك دعوته ويملكوه عليهم أو يعطوه من المال ما يرضيه ونحوه فرفض ، فقالوا : تقبل منا ما نعرضه عليك : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فسكت عنهم فنزلت ، وقالوا له : إن يكن الخير معنا أصبته ، وإن يكن معك أصبناه .
وفي مجيء : قل ، مع أن مقول القول كان قد يكفي في البلاغ ، ولكن مجيئها لغاية فما هي ؟
قال الفخر الرازي : إما لأنهم عابوه صلى الله عليه وسلم في السورة التي قبلها بقولهم : إنه أبتر فجاء قوله : قل ، إشعارا بأن الله يرد عن رسوله بهذا الخطاب ، الذي ينادي عليهم في ناديهم بأثقل الأوصاف عليهم ، فقال له : قل ياأيها الكافرون .
أو أنه لما كان هذا الخطاب فيه مغايرة المألوف من تخاطبه معهم من أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة ، وكان فيه من التقريع لهم ومجابهتهم ، قال له : قل : إشعارا بأنه مبلغ عن الله ما أمر به ، وجاءت يا ، وهي لنداء البعيد ، لبعدهم في الكفر والعناد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (611)
سُورَةُ النصر
صـ 133 إلى صـ 142
قوله تعالى : لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد . قيل : تكرار في العبارات للتوكيد ، كتكرار ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 15 ] ، وتكرار : فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 13 ] .
ونظيره في الشعر أكثر من أن يحصر ، من ذلك ما أورده القرطبي رحمه الله :
[ ص: 133 ]
هلا سألت جموع كندة يوم ولو أين أينا
وقول الآخر :
يا علقمة يا علقمة يا علقمه خير تميم كلها وأكرمه
وقول الآخر :
يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع
وقول الآخر :
ألا يا سلمى ثم اسلمي ثمت اسلمي ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقد جاءت في أبيات لبعض تلاميذ الشيخ رحمه الله تعالى ، ضمن مساجلة له معه قال فيها :
تالله إنك قد ملأت مسامعي درا عليه قد انطوت أحشائي
زدني وزدني ثم زدني ولتكن منك الزيادة شافيا للداء
فكرر قوله : زدني ثلاث مرات
وقيل : ليس فيه تكرار ، على أن الجملة الأولى عن الماضي والثانية من المستقبل .
وقيل : الأولى عن العبادة ، والثانية عن المعبود .
وقيل غير ذلك ، على ما سيأتي إن شاء الله .
والسورة في الجملة نص على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد معبودهم ، ولا هم عابدون معبوده ، وقد فسره قوله تعالى : فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 10 \ 41 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على هذا المعنى ، عند آية يونس تلك ، وذكر هذه السورة هناك .
وقد ذكر أيضا في دفع إيهام الاضطراب جوابا على إشكال في السورة وهو قوله تعالى : لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ، نفي لعبادة كل منهما معبود [ ص: 134 ] الآخر مطلقا ، مع أنه قد آمن بعضهم فيما بعد وعبد ما يعبده صلى الله عليه وسلم ، وأجاب عن ذلك بأحد أمرين : موجزهما أنها من جنس الكفار ، وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا إلى آخره ، أو أنها من العام المخصوص ، فتكون في خصوص من حقت عليهم كلمات ربك . ا هـ . ملخصا .
وقد ذكر أبو حيان وجها عن الزمخشري : أن ما يتعلق بالكفار خاص بالحاضر ; لأن ما إذا دخلت على اسم الفاعل تعينه للحاضر .
وناقشه أبو حيان ، بأن ذلك في مغالب لا على سبيل القطع .
والذي يظهر من سياق السورة قد يشهد لما ذهب إليه الزمخشري ، وهو أن السورة تتكلم عن الجانبين على سبيل المقابلة جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجهة الكفار في عدم عبادة كل منهما معبود الآخر .
ولكنها لم تساو في اللفظ بين الطرفين ، فمن جهة الرسول صلى الله عليه وسلم جاء في الجملة الأولى : لا أعبد ما تعبدون عبر عن كل منهما بالفعل المضارع الدال على الحال أي : لا أعبد الآن ما تعبدون الآن بالفعل . ثم قال : ولا أنتم عابدون ما أعبد فعبر عنهم بالاسمية وعنه هو بالفعلية ، أي : ولا أنتم متصفون بعبادة ما أعبد الآن .
وفي الجملة الثانية قال : ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد . فعبر عنه بأنه ليس متصفا بعبادة ما يعبدون ولا هم عابدون ما يعبد ، فكان وصفه هو صلى الله عليه وسلم في الجملتين بوصفين مختلفين بالجملة الفعلية تارة وبالجملة الاسمية تارة أخرى ، فكانت إحداهما لنفي الوصف الثابت ، والأخرى لنفي حدوثه فيما بعد .
أما هم فلم يوصفوا في الجملتين إلا بالجملة الاسمية الدالة على الوصف الثابت ، أي في الماضي إلى الحاضر ، ولم يكن فيما وصفوا به جملة فعلية من خصائصها التجدد والحدوث ، فلم يكن فيها ما يتعرض للمستقبل فلم يكن إشكال ، والله تعالى أعلم .
فإن قيل : إن الوصف باسم الفاعل يحتمل الحال والاستقبال ، فيبقى الإشكال محتملا .
قيل : ما ذكره الزمخشري من أن دخول ما عليه تعينه للحال ، يكفي في نفي هذا الاحتمال ، فإن قيل : قد ناقشه أبو حيان .
وقال : إنها أغلبية وليست قطعية .
[ ص: 135 ] قلنا : يكفي في ذلك حكم الأغلب ، وهو ما يصدقه الواقع ، إذ آمن بعضهم وعبد معبوده صلى الله عليه وسلم ، وما في قوله : ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ، واقعة في الأولى على غير ذي علم ، وهي أصنامهم وهو استعمالها الأساسي .
وفي الثانية : في حق الله تعالى وهو استعمالها في غير استعمالها الأساسي ، فقيل : من أجل المقابلة ، وقد استعملت فيمن يعلم ، كقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 \ 3 ] ; لأنهن في معرض الاستمتاع بهن ، فللقرينة جاز ذلك .
وقيل : إنها مع ما قبلها مصدرية ، أي : ما مصدرية بمعنى عبادتكم الباطلة ، ولا تعبدون عباداتي الصحيحة .
وهذا المعنى قوي ، وإن تعارض مع ما ذكر من سبب النزول ، إلا أن له شاهدا من نفس السورة ويتضمن المعنى الأول ، ودليله من السورة قوله تعالى في آخر السورة : لكم دينكم ولي دين [ 109 \ 6 ] ، فأحالهم على عبادتهم ، ولم يحلهم على معبودهم .
قوله تعالى : لكم دينكم ولي دين .
هو نظير ما تقدم في سورة يونس أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 10 \ 41 ] .
وكقوله : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم [ 28 \ 55 ] .
وليس في هذا تقريرهم على دينهم الذي هم عليه ، ولكن من قبيل التهديد والوعيد كقوله : وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها [ 18 \ 29 ] .
وفي هذه السورة قوله : قل ياأيها الكافرون وصف يكفي بأن عبادتهم وديانتهم كفر .
وقد قال لهم الحق : لا أعبد ما تعبدون لأنها عبادة باطلة ، عبادة الكفار ، وبعد ذلك إن أبيتم إلا هي فلكم دينكم ولي دين .
[ ص: 136 ] تنبيه
في هذه السورة منهج إصلاحي ، وهو عدم قبول ولا صلاحية أنصاف الحلول ; لأن ما عرضوه عليه صلى الله عليه وسلم من المشاركة في العبادة ، يعتبر في مقياس المنطق حلا وسطا لاحتمال إصابة الحق في أحد الجانبين ، فجاء الرد حاسما وزاجرا وبشدة ; لأن فيه أي فيما عرضوه مساواة للباطل بالحق ، وفيه تعليق المشكلة ، وفيه تقرير الباطل ، إن هو وافقهم ولو لحظة .
وقد تعتبر هذه السورة مميزة وفاصلة بين الطرفين ، ونهاية المهادنة ، وبداية المجابهة .
وقد قالوا : إن ذلك بناء على ما أمره الله به في السورة قبلها : إنا أعطيناك الكوثر [ 108 \ 1 ] ، أي وإن كنت وصحبك قلة ، فإن معك الخير الكثير ، ولمجيء " قل " لما فيها من إشعار بأنك مبلغ عن الله ، وهو الذي ينصرك ، ولذا جاء بعدها حالا سورة النصر وبعد النصر : تب العدو .
وهذا في غاية الوضوح ، ولله الحمد .
[ ص: 137 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النصر
قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح .
فيه ذكر النصر والفتح ، مع أن كلا منهما مرتبط بالآخر : فمع كل نصر فتح ، ومع كل فتح نصر .
فهل هما متلازمان أم لا ؟
كما جاء النصر مضافا إلى الله تعالى ، والفتح مطلقا .
أولا : اتفقوا على نزول هذه السورة بعد فتح مكة .
ومعلوم : أنه سبق فتح مكة عدة فتوحات .
منها فتح خيبر ، ومنها صلح الحديبية ، سماه الله تعالى فتحا في قوله : فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا [ 48 \ 27 ] .
والنصر يكون في معارك القتال ويكون بالحجة والسلطان ، ويكون بكف العدو ، كما في الأحزاب . ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا [ 33 \ 25 ] .
وكما في اليهود قوله : وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا [ 33 \ 26 - 27 ] .
فالنصر حق من الله : وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم [ 3 \ 126 ] .
وقد علم المسلمون ذلك ، كما جاء في قوله تعالى : مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله [ 2 \ 214 ] ، فهم يتطلعون إلى النصر .
[ ص: 138 ] ويأتيهم الجواب : ألا إن نصر الله قريب [ 2 \ 214 ] .
وجاء قوله صلى الله عليه وسلم : " نصرت بالرعب مسيرة شهر " .
وقد قال تعالى لموسى وأخيه : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ 20 \ 46 ] ، فهو نصر معية وتأييد ، فالنصر هنا عام .
وكذلك الفتح في الدين بانتشار الإسلام ، وأعظم الفتح فتحان : فتح الحديبية ، وفتح مكة .
إذ الأول تمهيد للثاني ، والثاني قضاء على دولة الشرك في الجزيرة ، ويدل لإرادة العموم في النصر والفتح .
قوله تعالى : ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا . فكأن الناس يأتون من كل جهة حتى من اليمن ، وهذا يدل على كمال الدعوة ونجاح الرسالة .
ويدل لهذا مجيء آية : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] ، وكان نزولها في حج تلك السنة .
ويلاحظ أن النصر هنا جاء بلفظ نصر الله ، وفي غير هذا جاء نصر الله ، وما النصر إلا من عند الله [ 8 \ 10 ] .
ومعلوم أن هذه الإضافة هنا لها دلالة تمام وكمال ، كما في بيت الله . مع أن المساجد كلها بيوت لله ، فهو مشعر بالنصر كل النصر ، أو بتمام النصر كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
والفتح ، هنا قيل : هو فتح مكة ، وقيل فتح المدائن وغيرها .
وتقدمت الإشارة إلى فتوحات عديدة قبل مكة .
وهناك فتوحات موعود بها بعد فتح مكة نص صلى الله عليه وسلم عليها منها في غزوة الأحزاب وهم يحفرون الخندق ، لما اعترضتهم كدية وأعجزتهم ، ودعي إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأخذ ماء وتمضمض ودعا ما شاء الله أن يدعو ثم ضرب ، فكانت كالكثيب .
[ ص: 139 ] وقد جاء فيها ابن كثير بعدة روايات وطرق مختلفة ، وكلها تذكر أنه صلى الله عليه وسلم ضرب ثلاث ضربات ، فأبرقت تحت كل ضربة برقة ، وكبر صلى الله عليه وسلم عند كل واحدة منها ، فسألوه فقال " في الأولى : أعطيت مفاتيح فارس " وذكر اليمن والشام ، وكلها روايات لا تخلو من نقاش ، ولكن لكثرتها يقوي بعضها بعضا .
وأقواها رواية النسائي بسنده قال : " لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق ، عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق ، وقال : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم [ 6 \ 115 ] ، فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر ، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة ثم ضرب الثانية ، وقرأ ما قرأه أولا ، وبرقت أيضا . ثم الثالثة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تكسرت ، فأخذ رداءه صلى الله عليه وسلم وجلس ، فسأله سلمان لما رأى من البرقات الثلاث : فقال له : أرأيت ذلك ؟ قال : أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله ، فأخبرهم أنه رفعت له في الأولى مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رآها بعينه ، فقالوا : ادع الله لنا أن يفتح علينا . فدعا لهم ، وفي الثانية : رفعت له مدائن قيصر وما حولها ، وفي الثالثة مدائن الحبشة ، وكلها يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم فتفتح عليهم ، فدعا لهم إلا في الحبشة ، فقال صلى الله عليه وسلم : " دعوا الحبشة ما ودعوكم ، واتركوا الترك ما تركوكم " انتهى ملخصا .
وقد رواه كل من ابن كثير والنسائي مطولا ، فهذه الروايات وإن كانت تحتمل مقالا فقد جاء في الموطأ ما لا يحتمل مقالا ، ولا شك في صحته ، ولا في دلالته ، وهو ما رواه مالك عن هشام عن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وتفتح الشام ، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، ويفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " .
فهذا نص صحيح صريح منه صلى الله عليه وسلم في حياته بفتح اليمن والشام والعراق ، وما فتحت كلها إلا من بعده صلى الله عليه وسلم إلا اليمن .
[ ص: 140 ] ويؤيد هذا القول ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، إذ قال : الله أكبر ، الله أكبر ، جاء نصر الله والفتح ، جاء أهل اليمن ، قيل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية " رواه ابن كثير عنه .
وقد كان فتح مكة عام ثمان من الهجرة ، وجاءت الوفود في دين الله أفواجا عام تسع منها ، وجاء وفد اليمن وأرسل صلى الله عليه وسلم عماله إلى اليمن بعد فتح مكة ، وقدم عليه علي رضي الله عنه من اليمن في العام العاشر في موسم الحج ، ففتحت اليمن بعد فتح مكة في حياته صلى الله عليه وسلم .
وعليه : تكون فتوحات قد وقعت بعد فتح مكة ، يمكن أن يشملها هنا قوله تعالى : والفتح ، وليس مقصورا على فتح مكة كما قالوا .
وقد يؤخذ بدلالة الإيماء : الوعد بفتوحات شاملة ، لمناطق شاسعة من قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق [ 22 \ 27 ] ; لأن الإتيان من كل فج عميق ، يدل على الإتيان إلى الحج من بعيد ، والإتيان إلى الحج يدل على الإسلام ، وبالتالي يدل على مجيء المسلمين من بعيد ، وهو محل الاستدلال والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا . تقدم الكلام على التسبيح ومتعلقه وتصريفه .
وهنا قرن التسبيح بحمد الله ، وفيه ارتباط لطيف بأول السورة وموضوعها ، إذ هي في الدلالة على كمال مهمة الرسالة بمجيء نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولدينه . ومجيء الفتح العام على المسلمين لبلاد الله بالفعل أو بالوعد الصادق كما تقدم ، وهي نعمة تستوجب الشكر ويستحق موليها الحمد .
فكان التسبيح مقترنا بالحمد في مقابل ذلك وقوله : بحمد ربك ، ليشعر أنه سبحانه المولي للنعم ، كما جاء في سورة الضحى في قوله تعالى : ما ودعك ربك وما قلى [ 93 \ 3 ] .
[ ص: 141 ] وقوله في سورة اقرأ : اقرأ باسم ربك [ 96 \ 1 ] ، وتكرارها اقرأ وربك الأكرم [ 96 \ 3 ] ; لأن صفة الربوبية مشعرة بالإنعام .
وقوله : واستغفره ، قال بعضهم : إن الاستغفار عن ذنب فما هو . وتقدم الكلام على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند قوله تعالى : ووضعنا عنك وزرك [ 94 \ 2 ] .
ومما تجدر الإشارة إليه أن التوبة دعوة الرسل ، ولو بدأنا مع آدم عليه السلام مع قصته ففيها : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [ 2 \ 37 ] ، ومعلوم موجب تلك التوبة .
ثم نوح عليه السلام يقول : رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات الآية [ 71 \ 28 ] .
وإبراهيم عليه السلام يقول : وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم [ 2 \ 128 ] .
وبناء عليه قال بعض العلماء : إن الاستغفار نفسه عبادة كالتسبيح ، فلا يلزم منه وجود ذنب .
وقيل : هو تعليم لأمته .
وقيل : رفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم .
وقد جاء في السنة ، أنه صلى الله عليه وسلم قال : " توبوا إلى الله ، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة " ، فتكون أيضا من باب الاستكثار من الخير ، والإنابة إلى الله .
تنبيه
جاء في التفسير عند الجميع أنه صلى الله عليه وسلم منذ أن نزلت هذه السورة وهو لم يكن يدع قوله : " سبحانك اللهم وبحمدك " تقول عائشة رضي الله عنها : " يتأول القرآن " أي : يفسره ، ويعمل به .
ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنه قال : والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر [ ص: 142 ] بما هو قوام أمر الدين ، من الجمع بين الطاعة والاحتراز من المعصية ، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفا لأمته ، ولأن الاستغفار من التواضع وهضم النفس فهو عبادة في نفسه .
وفي هذا لفت نظر لأصحاب الأذكار والأوراد الذين يحرصون على دوام ذكر الله تعالى ، حيث هذا كان من أكثر ما يداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في أذكار الصباح والمساء دون الملازمة على ذكر اسم من أسماء الله تعالى وحده ، منفردا مما لم يرد به نص صحيح ولا صريح .
ولا شك أن الخير كل الخير في الاتباع لا في الابتداع ، وأي خير أعظم مما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته ، ويأمره به ، ويلازم هو عليه .
وقلنا في آخر حياته : لأنه صلى الله عليه وسلم توفي بعدها بمدة يسيرة .
وفي هذه الآية دلالة الإيماء ، كما قالوا : ودلالة الالتزام كما جاء عن ابن عباس في قصة عمر رضي الله عنه مع كبار المهاجرين والأنصار ، حينما كان يسمح له بالجلوس معهم ، ويرى في وجوههم ، وسألوه وقالوا : إن لنا أولادا في سنه ، فقال : إنه من حيث علمتم .
وفي يوم اجتمعوا عنده فدعاه عمر ، قال ابن عباس : فعلمت أنه ما دعاني إلا لأمر ، فسألهم عن قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح ، السورة .
فقالوا : إنها بشرى بالفتح وبالنصر ، فقال : ما تقول أنت يا ابن عباس ؟
قال : فقلت ، لا والله ، إنها نعت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا .
فقال عمر : وأنا لا أعرف فيها إلا كما قلت ، أي : أنه صلى الله عليه وسلم جاء لمهمة ، وقد تمت بمجيء النصر والفتح والدخول في الدين أفواجا .
وعليه يكون قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة . فعليه أن يتأهب لملاقاة ربه ليلقى جزاء عمله ، وهو مأخذ في غاية الدقة ، وبيان لقول علي رضي الله عنه : أو فهم أعطاه الله من شاء في كتاب الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (612)
سُورَةُ الْإِخْلَاص
صـ 143 إلى صـ 152
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْمَسَد
قوله تعالى : تبت يدا أبي لهب وتب . التب : القطع .
ومن المادة : بت بتقديم الباء ، فهي تدور على معنى القطع ، كما يفيده فقه اللغة في دوران المادة على معنى واحد .
وقال : التب ، والتبب ، والتباب ، والتبيب ، والتتبيب : النقص والخسار ، إلى أن قال : وتبت يداه : ضلتا وخسرتا .
وقال الفخر الرازي : التبات : الهلاك ، ونظيره قوله تعالى : وما كيد فرعون إلا في تباب [ 40 \ 37 ] ، أي : في هلاك .
وذلك لأن أبا لهب أهلك نفسه بفساد اعتقاده وسوء فعاله ، كما جاء في السنة قول الأعرابي : هلكت وأهلكت : أي بوقاعه أهله في رمضان ، وجاء قوله تعالى : فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب [ 11 \ 101 ] .
فقالوا : غير خسران ، والخسران يؤدي إلى الهلاك ، والقطع .
كما جاء في معناه في قصة صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام . قوله تعالى : فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير [ 11 \ 63 ] ، فظهر من هذا كله أن معنى : تبت يدا أبي لهب ، دائر بين معنى القطع والهلاك والخسران .
أما قطعها فلم يقدر عليه قطع يديه قبل موته .
وأما الهلاك والخسران : فقد هلك بالغدة .
وأما الخسران : فما أشد خسرانه بعد هذا الحكم عليه من الله تعالى .
[ ص: 144 ] وإذا كان المعنى قد تعين بنص القرآن في الهلاك والخسران ، فما معنى إسناد التب لليدين ؟
الجواب : أن ذلك من باب إطلاق البعض وإرادة الكل كما تقدم في قوله تعالى : ناصية كاذبة [ 96 \ 16 ] ، مع أن الكاذب هو صاحبها .
وقد قدمنا هناك أن مثل هذا الأسلوب لا بد فيه من زيادة اختصاص للجزء المنطوق في المعنى المراد .
فلما كان الكذب يسود الوجه ويذل الناصية ، وعكسه الصدق يبيض الوجه ويعز الناصية ، أسند هناك الكذب إلى الناصية لزيادة اختصاصها بالكذب عن اليد مثلا .
ولما كان الهلاك والخسران غالبا بما تكسبه الجوارح ، واليد أشد اختصاصا في ذلك أسند إليها البت .
ومما يدل على أن المرد صاحب اليدين ، ما جاء بعدها ، قوله تعالى : وتب ، أي : أبو لهب نفسه .
وسواء كان قوله تعالى : تبت يدا أبي لهب ، على سبيل الإخبار أو الإنشاء ، فإنه محتمل من حيث اللفظ .
ولكن قوله تعالى بعده : وتب ، فهو إخبار ، فيكون الأول للإنشاء كقوله : قتل الإنسان ما أكفره [ 80 \ 17 ] .
ثم جاء الثاني تصديقا له ، وجاءت قراءة ابن مسعود " وقد تب " .
قوله تعالى : ما أغنى عنه ماله وما كسب . سواء كانت ما استفهامية فهو استفهام إنكار ، أو كانت نافية فإنه نص على أن ماله لم يغن عنه شيئا .
وقوله : وما كسب .
فقيل : أي من المال الأول ما ورثه أو ما كسب من عمل جر عليه هذا الهلاك ، وهو عداؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونظير هذه الآية المتقدمة : وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 11 ] .
[ ص: 145 ] وتقدم الكلام عليه هناك .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان معنى ما أغنى عنه ماله وما كسب ، عند قوله تعالى : من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم [ 45 \ 10 ] .
وساق كل النصوص في هذا المعنى بتمامها .
تنبيه
في هذه الآية سؤالان هما :
أولا : لقد كان صلى الله عليه وسلم مع قومه في مكة ملاطفا حليما ، فكيف جابه عمه بهذا الدعاء : تبت يدا أبي لهب ؟ والجواب : أنه كان يلاطفهم ما دام يطمع في إسلامهم ، فلما يئس من ذلك ، كان هذا الدعاء في محله ، كما وقع من إبراهيم عليه السلام ، كان يلاطف أباه : ياأبت لا تعبد الشيطان [ 19 \ 44 ] . ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا [ 19 \ 43 ] ، فلما يئس منه تبرأ منه كما قال تعالى : فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم [ 9 \ 114 ] .
والسؤال الثاني : وهو مجيء قوله تعالى : وتب ، بعد قوله : تبت يدا أبي لهب ، مع أنها كافية سواء كانت إنشاء للدعاء عليه أو إخبارا بوقوع ذلك منه .
والجواب ، والله تعالى أعلم : أن الأول لما كان محتملا الخبر ، وقد يمحو الله ما يشاء ويثبت ، أو إنشاء وقد لا ينفذ كقوله : قتل الإنسان ما أكفره [ 80 \ 17 ] ، أو يحمل على الذم فقط ، والتقبيح فجاء " وتب " لبيان أنه واقع به لا محالة ، وأنه ممن حقت عليهم كلمات ربك لييأس صلى الله عليه وسلم ، والمسلمون من إسلامه . وتنقطع الملاطفة معه ، والله تعالى أعلم .
وقد وقع ما أخبر الله به ، فهو من إعجاز القرآن أن وقع ما أخبر به كما أخبر ولم يتخلف .
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا [ 6 \ 115 ] ، وقوله : كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون [ 10 \ 33 ] .
[ ص: 146 ] نسأل الله العافية ، إنه سميع مجيب .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْإِخْلَاص
قوله تعالى : قل هو الله أحد . الأحد : قال القرطبي : أي : الواحد الوتر ، الذي لا شبيه له ولا نظير ، ولا صاحبة ، ولا ولد ، ولا شريك . ا هـ .
ومعلوم أن كل هذه المعاني صحيحة في حقه تعالى .
وأصل أحد : وحد ، قلبت الواو همزة .
ومنه قول النابعة :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد
وقال الفخر الرازي في أحد وجهان :
أحدهما : أنه بمعنى واحد .
قال الخليل : يجوز أن يقال : أحد اثنان ثلاثة ، ثم ذكر أصلها وحد ، وقلبت الواو همزة للتخفيف .
والثاني : أن الواحد والأحد ليسا اسمين مترادفين .
قال الأزهري : لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى ، لا يقال : رجل أحد ولا درهم أحد ، كما يقال : رجل واحد أي فرد به ، بل أحد صفة من صفات الله تعالى استأثر بها فلا يشركه فيها شيء .
ثم قال : ذكروا في الفرق بين الواحد والأحد وجوها :
أحدها : أن الواحد يدخل في الأحد ، والأحد لا يدخل فيه .
وثانيها : أنك لو قلت : فلان لا يقاومه واحد ، جاز أن يقال : لكنه يقاومه اثنان بخلاف الأحد .
[ ص: 148 ] فإنك لو قلت : فلان لا يقاومه أحد ، لا يجوز أن يقال : لكنه يقاومه اثنان .
وثالثها : أن الواحد يستعمل في الإثبات ، والأحد يستعمل في النفي .
تقول في الإثبات رأيت رجلا واحدا .
وتقول في النفي : ما رأيت أحدا ، فيفيد العموم .
أما ما نقله عن الخليل ، وقد حكاه صاحب القاموس فقال : ورجل واحد وأحد ، أي : خلافا لما قاله الأزهري .
وأما قوله : إن أحدا تستعمل في النفي فقد جاء استعمالها في الإثبات أيضا .
كقوله : أو جاء أحد منكم من الغائط [ 4 \ 43 ] .
فتكون أغلبية في استعمالها ودلالتها في العموم واضحة .
وقال في معجم مقاييس اللغة في باب الهمزة والحاء وما بعدها : أحد ، إنها فرع والأصل الواو وحد .
وقد ذكر في الواو وفي مادة وحد . قال : الواو والحاء والدال أصل واحد يدل على الانفراد من ذلك الوحدة بفتح الواو وهو واحد قبيلته ، إذا لم يكن فيهم مثله قال :
يا واحد العرب الذي ما في الأنام له نظير
وقيل : إن هذا البيت لبشار يمدح عقبة بن مسلم ، أو لابن المولى يزيد بن حاتم ، نقلا عن الأغاني .
فيكون بهذا ثبت أن الأصل بالواو والهمزة فرع عنه .
وتقدم أن دلالتها على العموم أوضح أي أحد .
وقد دلت الآية الكريمة ، على أن الله سبحانه وتعالى أحد ، أي في ذاته وصفاته لا شبيه ولا شريك ، ولا نظير ولا ند له ، سبحانه وتعالى .
وقد فسره ضمنا قوله : ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 4 ] .
[ ص: 149 ] وقوله : ليس كمثله شيء ، أما المعنى العام فإن القرآن كله ، والرسالة المحمدية كلها ، بل وجميع الرسالات : إنما جاءت لتقرير هذا المعنى ، بأن الله سبحانه واحد أحد . بل كل ما في الوجود شاهد على ذلك .
كما قيل :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
أما نصوص القرآن على ذلك فهي أكثر من أن تحصى ; لأنها بمعنى لا إله إلا الله .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، إشارة إلى ذلك في أول الصافات وفي غيرها ، وفي البقرة وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [ 2 \ 163 ] .
وفي التوبة : وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو [ 9 \ 31 ] ، فجاء مقرونا بلا إله إلا الله .
وفي ص قوله : قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار [ 38 \ 65 ] .
وكما قدمنا أن الرسالة كلها جاءت لتقرير هذا المعنى ، كما في قوله : هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد [ 14 \ 52 ] ، سبحانه جل جلاله وتقدست أسماؤه ، وتنزهت صفاته ، فهو واحد أحد في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته وفي أفعاله .
وقد جاء القرآن بتقرير هذا المعنى عقلا كما قرره نقلا ، وذلك في قوله تعالى : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا [ 17 \ 42 - 43 ] .
وقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] .
فدل على عدم فسادهما بعدم تعددهما ، وجمع العقل والنقل في قوله : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون [ 23 \ 91 ] .
[ ص: 150 ] قوله تعالى : الله الصمد .
قال بعض المفسرين : يفسره ما بعده لم يلد ولم يولد [ 112 \ 3 ] .
وقال ابن كثير ، وهذا معنى حسن .
وقال بعض العلماء : هو المتناهي في السؤدد ، وفي الكمال من كل شيء .
وقيل : من يصمد الخلائق إليه في حاجاتهم ، ولا يحتاج هو إلى أحد .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، معنى الصمد في سورة الأنعام عند قوله تعالى : وهو يطعم ولا يطعم [ 6 \ 14 ] فذكر شواهد هذه الأقوال كلها .
وبإمعان النظر في مبدأ يفسره ما بعده ، يتضح أن السورة كلها تفسير لأولها قل هو الله أحد لأن الأحدية هي تفرده سبحانه بصفات الجلال والكمال كلها ، ولأن المولود ليس بأحد ، لأنه جزء من والده .
والوالد ليس بأحد ; لأن جزءا منه في ولده .
وكذلك من يكون له كفء ، فليس بأحد لوجود الكفء ، وهكذا السورة كلها لتقرير قل هو الله أحد .
قوله تعالى : لم يلد ولم يولد .
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان شواهده عند قوله تعالى : الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك الآية [ 25 \ 2 ] من سورة الإسراء .
تنبيه
ففي اتخاذ الولد لا يستلزم نفي الولادة ; لأن اتخاذ الولد قد يكون بدون ولادة كالتبني أو غيره ، كما في قصة يوسف في قوله تعالى عن عزيز مصر : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا [ 12 \ 21 ] .
ففي هذه السورة نفي أخص ، فلزم التنبيه عليه في هذه السورة الكريمة وهي سورة [ ص: 151 ] الإخلاص . والتي تعدل ثلث القرآن لاختصاصها بحق الله تعالى في ذاته وصفاته من الوحدانية والصمدية ، ونفي الولادة والولد ، ونفي الكفء ، وكلها صفات انفراد لله سبحانه .
وقد جاء فيها النص الصريح بعدم الولادة ، وأنه سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد ، فهي أخص من تلك ، وهذا من المسلمات عند المسلمين جميعا بدون شك ولا نزاع ولم يؤثر فيها أي خلاف .
ولكن غير المسلمين لم يسلموا بذلك ، فاليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله ، والمشركون قالوا : الملائكة بنات الله .
فاتفقوا على ادعاء الولد لله ، ولم يدع أحد أنه سبحانه مولود .
وقد جاءت النصوص الصريحة في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى ، إلا أن مجرد النص الذي لم يؤمن به الخصم لا يكفي لإقناعه ، وفي هذه السورة وهي المختصة بصفات الله ، لم يأت التنويه فيها عن المانع من اتخاذ الله للولد ، ومن كونه سبحانه لم يولد .
ولما كان بيان المانع أو الموجب من منهج هذا الكتاب ، إذا كان يوجد للحكم موجب أو مانع ولم تتقدم الإشارة إلى ذلك ، فيما تقدم من كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مع أنه رحمه الله ، قد تكلم على آيات الأسماء والصفات جملة وتفصيلا ، بما يكفي ويشفي .
ولكن جاء في القرآن الكريم ذكر ادعاء الولد لله ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .
وجاء الرد من الله تعالى مع بيان المانع مفصلا مع الإشعار بالدليل العقلي ، ولذا لزم التنويه عليه ، وذلك في قوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [ 2 \ 116 - 117 ] .
فهذا نص صريح فيما قالوه : اتخذ الله ولدا .
[ ص: 152 ] ونص صريح في تنزيه الله سبحانه وتسبيحه عما قالوا .
ثم جاء حرف الإضراب عن قولهم : بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ، ففيه بيان المانع عقلا من اتخاذ الولد بما يلزم الخصم ، وذلك أن غاية اتخاذ الولد أن يكون بارا بوالده ، وأن ينتفع الوالد بولده . كما في قوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا [ 18 \ 46 ] ، أو يكون الولد وارثا لأبيه كما في قوله تعالى عن نبي الله تعالى زكريا عليه السلام : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب الآية [ 19 \ 5 - 6 ] .
والله سبحانه وتعالى حي باق يرث ولا يورث كما قال تعالى : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك الآية [ 55 \ 26 - 27 ] .
وقوله : ولله ميراث السماوات والأرض [ 3 \ 180 ] .
فإذا كان لله سبحانه وتعالى كل ما في السماوات والأرض في قنوت وامتثال طوعا أو كرها ، كما قال تعالى : وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 92 - 93 ] .
فهو سبحانه وتعالى ليس في حاجة إلى الولد لغناه عنه .
ثم بين سبحانه قدرته على الإيجاد والإبداع في قوله تعالى : بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [ 2 \ 117 ] .
وهذا واضح في نفي الولد عنه سبحانه وتعالى .
وقد تمدح سبحانه في قوله : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا [ 17 \ 111 ] .
أما أنه لم يولد . فلم يدع أحد عليه ذلك ; لأنه ممتنع عقلا ، بدليل الممانعة المعروف وهو كالآتي :
لو توقف وجوده سبحانه على أن يولد لكان في وجوده محتاجا إلى من يوجده ، ثم يكون من يلده في حاجة إلى والد ، وهكذا يأتي الدور والتسلسل وهذا باطل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (613)
سُورَةُ الْفَلَق
صـ 153 إلى صـ 162
[ ص: 153 ] وكذلك فإن الحاجة إلى الولد بنفيها معنى الصمدية المتقدم ذكره ، ولو كان له والد لكان الوالد أسبق وأحق ، تعالى الله عن ذلك .
وقد يقال : من جانب الممانعة العقلية لو افترض على حد قوله : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ 43 \ 81 ] .
فنقول على هذا الافتراض : لو كان له ولد فما مبدأ وجود هذا الولد وما مصيره ؟ فإن كان حادثا فمتى حدوثه ؟ وإن كان قديما تعدد القدم ، وهذا ممنوع .
ثم إن كان باقيا تعدد البقاء ، وإن كان منتهيا فمتى انتهاؤه ؟
وإذا كان مآله إلى الانتهاء فما الحاجة إلى إيجاده مع عدم الحاجة إليه ، فانتفى اتخاذ الولد عقلا ونقلا ، كما انتفت الولادة كذلك عقلا ونقلا .
وقد أورد بعض المفسرين سؤالا في هذه الآية ، وهو لماذا قدم نفي الولد على نفي الولادة ؟ مع أن الأصل في المشاهد أن يولد ثم يلد ؟
وأجاب بأنه من تقديم الأهم لأنه رد على النصارى في قولهم : عيسى ابن الله ، وعلى اليهود في قولهم : عزير ابن الله ، وعلى قول المشركين : الملائكة بنات الله ، ولأنه لم يدع أحد أنه سبحانه مولود لأحد ، فكانت دعواهم الولد لله فرية عظمى . ا هـ .
كما قال تعالى : كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا [ 18 \ 5 ] .
وقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا [ 19 \ 88 - 91 ] .
فلشناعة هذه الفرية قدم ذكرها ، ثم الرد على عدم إمكانها بقوله : وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 92 - 93 ] .
وقد قدمنا دليل المنع عقلا ونقلا .
[ ص: 154 ] وهنا سؤال أيضا ، وهو إذا كان ادعاء الولد قد وقع ، وجاء الرد عليه : فإن ادعاء الولادة لم يقع ، فلماذا ذكر نفيه مع عدم ادعائه ؟
والجواب والله تعالى أعلم : أن من جوز الولادة له وأن يكون له ولد ، فقد يجوز الولادة عليه ، وأن يكون مولودا فجاء نفيها تتمة للنفي والتنزيه ، كما في حديث البحر ، كان السؤال عن الوضوء من مائه فقط ، فجاء الجواب عن مائه وميتته ; لأن ما احتمل السؤال في مائه يحتمل الاشتباه في ميتته . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : ولم يكن له كفوا أحد . قالوا : كفؤا وكفوا وكفاء ، بمعنى واحد ، وهو المثل .
وقد تعددت أقوال المفسرين في معنى الآية ، وكلها تدور على معنى نفي المماثلة .
فعن كعب وعطاء : لم يكن له مثل ولا عديل .
وروى ابن جرير عن ابن عباس : أنه بمعنى ليس كمثله شيء .
وعن مجاهد : أي لا صاحبة له .
وقد جاء نفي الكفء والمثل والند والعدل ، فالكفء في هذه السورة والمثل في قوله : ليس كمثله شيء ، وقوله : فلا تضربوا لله الأمثال [ 16 \ 74 ] .
والند في قوله : فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 22 ] .
والعدل في قوله : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ 6 \ 1 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند آية الأنعام بيان لذلك ، أي يساوونه بغيره من العدل بكسر أوله ، وهو أحد شقي حمل البعير على أحد التفسيرين ، والآخر من العدول عنه إلى غيره .
وفي هذه السورة مبحثان يوردهما المفسرون . أحدهما : أسباب نزولها ، والآخر : ما جاء في فضلها ، ولم يكن من موضوع هذا الكتاب تتبع ذلك ، إلا ما كان له دوافع تتعلق بالمعنى .
[ ص: 155 ] أما ما جاء في فضلها ، فقد قال أبو حيان في تفسيره : لقد أكثر المفسرون إيراد الآثار في ذلك ، وليس هذا محلها ، وهو كما قال ، فقد أوردها ابن كثير والفخر الرازي والقرطبي وابن حجر في الإصابة في ترجمة معاذ بن جبل وغيرهم ، وليس هذا محل إيرادها ، اللهم إلا ما جاء في الصحيح : أن تلاوتها تعدل ثلث القرآن لتعلق موضوعها بالتوحيد .
أما المبحث الآخر وهو سبب نزولها ، فقيل فيه . إن المشركين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن ينسب لهم ربه ، فنزلت .
وقوله فيها : لم يلد ولم يولد ، رد على إثبات النسب له سبحانه وتعالى .
وقد جاء مثل هذا المعنى حينما سأل فرعون موسى عن ربه ، فقال له : وما رب العالمين [ 26 \ 23 ] .
فجاء جوابه : قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون [ 26 \ 24 - 27 ] .
وكنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، أن موجب قول فرعون عن موسى " لمجنون " ; لأنه سأله بما في قوله : قال فرعون وما رب العالمين ، وما يسأل بها عن شرح الماهية فكان مقتضى السؤال بها أن يبين ماهية الرب سبحانه وتعالى ، من أي شيء هو ، كما يقال في جواب : ما الإنسان ؟ إنه حيوان ناطق .
ولكن موسى عليه السلام أعرض عن سؤال فرعون لجهله عن حقيقة الله تعالى أو لتجاهله ، كما في قوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم [ 27 \ 14 ] ، وأجابه عما يخصه ويلزمه الاعتراف به من أنه سبحانه رب السماوات والأرض وما بينهما ، لا ربوبية فرعون الكاذبة .
ومثل ذلك في القرآن ، لما سألوا عن الأهلة ، ما بالها تبدو صغيرة ، ثم تكبر ؟ فهو سؤال عن حقيقة تغيرها ، فترك القرآن جوابهم على سؤالهم وأجابهم بما يلزمهم وينفعهم .
وكذلك جواب الخليل عليه السلام للنمروذ حينما حاجه في ربه : إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت [ 2 \ 258 ] .
[ ص: 156 ] فذكره سبحانه بصفاته ، وفي هذه السورة لما سألوا عن حقيقة الله ونسبه جاء الجواب بصفاته ; لأن ما يسألون عنه إنما يكون في المخلوقات لا في الخالق سبحانه ، وفي الممكن لا في الواجب الوجود لذاته ، سبحان من لا يدرك كنهه غيره ، وصدق الله العظيم في قوله : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ 42 \ 11 ] ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 110 ] .
[ ص: 157 ] المعوذتان سورة الفلق وسورة الناس
يذكر المفسرون عن ابن مسعود أنه كان يراهما معوذتين من غير القرآن ، ولكن أبي بن كعب قال : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل عليه السلام قال له : قل أعوذ برب الفلق [ 113 \ 1 ] فقلتها وقال قل أعوذ برب الناس [ 114 \ 1 ] فقلتها فنحن نقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره ابن كثير عن الإمام أحمد . وذكر نحوه عن البخاري ثم قال : ثم قد رجع عن قوله إلى قول الجماعة ، فإن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوهما في المصاحف الأئمة ، ونفذوها إلى سائر الآفاق . وروي عن الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في الصلاة وساق عدة طرق في إثبات أنهما قرآن ، مما ينفي أي خلاف بعد ذلك في إثباتهما . وقد اعتذر القرطبي عن ابن مسعود ، بأنه لم يسمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم ، على أنهما قرآن وسمعهما فظنهما أنهما دعاء من الأدعية ، كقوله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " . ولما بلغه إثباتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول الجمهور . ومن الجدير بالذكر التنويه عن ارتباطهما بسورة الإخلاص قبلهما . وهو أنه سبحانه لما ذكر أنه سبحانه وتعالى الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، والصمد من معانيه الذي تصمد الخلائق إليه في حاجاتهم ، جاء في هاتين السورتين توجيه العباد إلى من يستعيذون ويلوذون به ، وهو الله الصمد سبحانه ، فهو وحده الذي يعيذهم ويحفظهم وهو الذي يلجئون إليه سبحانه . وقل أعوذ برب الفلق : تعادل الاستعاذة بالخالق مما خلق ; لأن كل منغلق عن غيره ، إلا الله الواحد الذي لم يلد ولم يولد . الثانية بعدها : قل أعوذ برب الناس ، إله الناس . وسيأتي إن شاء الله تعالى تنبيه على ما يعطيه السياق من ختم المصحف الشريف بهاتين السورتين الكريمتين ، والمقارنة بينهما لبيان عظم منزلتهما . كما أن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، قد أحال على سورة الناس لإتمام مبحث إفراد الله تعالى بالعبادة ، كما سنوضحه كله إن شاء الله في محله ، وبالله تعالى التوفيق .
[ ص: 157 ] الْمُعَوِّذَتَا نِ سُورَةُ الْفَلَقِ وَسُورَةُ النَّاس
يذكر المفسرون عن ابن مسعود أنه كان يراهما معوذتين من غير القرآن ، ولكن أبي بن كعب قال : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل عليه السلام قال له : قل أعوذ برب الفلق [ 113 \ 1 ] فقلتها وقال قل أعوذ برب الناس [ 114 \ 1 ] فقلتها فنحن نقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره ابن كثير عن الإمام أحمد . وذكر نحوه عن البخاري ثم قال : ثم قد رجع عن قوله إلى قول الجماعة ، فإن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوهما في المصاحف الأئمة ، ونفذوها إلى سائر الآفاق . وروي عن الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في الصلاة وساق عدة طرق في إثبات أنهما قرآن ، مما ينفي أي خلاف بعد ذلك في إثباتهما . وقد اعتذر القرطبي عن ابن مسعود ، بأنه لم يسمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم ، على أنهما قرآن وسمعهما فظنهما أنهما دعاء من الأدعية ، كقوله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " . ولما بلغه إثباتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول الجمهور . ومن الجدير بالذكر التنويه عن ارتباطهما بسورة الإخلاص قبلهما . وهو أنه سبحانه لما ذكر أنه سبحانه وتعالى الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، والصمد من معانيه الذي تصمد الخلائق إليه في حاجاتهم ، جاء في هاتين السورتين توجيه العباد إلى من يستعيذون ويلوذون به ، وهو الله الصمد سبحانه ، فهو وحده الذي يعيذهم ويحفظهم وهو الذي يلجئون إليه سبحانه . وقل أعوذ برب الفلق : تعادل الاستعاذة بالخالق مما خلق ; لأن كل منغلق عن غيره ، إلا الله الواحد الذي لم يلد ولم يولد . الثانية بعدها : قل أعوذ برب الناس ، إله الناس . وسيأتي إن شاء الله تعالى تنبيه على ما يعطيه السياق من ختم المصحف الشريف بهاتين السورتين الكريمتين ، والمقارنة بينهما لبيان عظم منزلتهما . كما أن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، قد أحال على سورة الناس لإتمام مبحث إفراد الله تعالى بالعبادة ، كما سنوضحه كله إن شاء الله في محله ، وبالله تعالى التوفيق .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْفَلَق
قيل : إنه لما صرح تعالى بخالص التوحيد في سورة الإخلاص ، وهي معركة الإيمان والشرك ، ومثار الخلاف والخصومة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأعدائه ، أمر صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من شرور الخلق فلا يضروه . إلخ .
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى : قل أعوذ برب الفلق
. قال أبو حيان وغيره : الفلق فعل بمعنى مفعول أي مفلوق ، واختلف في المراد بذلك .
فقيل : إنه الصبح يتفلق عنه الليل .
وقيل : الحس والنوى .
وقيل : هو جب في جهنم .
وقال بعض المفسرين : كل ما فلقه الله عن غيره ، كالليل عن الصبح ، والحب والنوى عن النبت ، والأرض عن النبات ، والجبال عن العون ، والأرحام عن الأولاد ، والسحاب عن المطر .
وقال ابن جرير : إن الله أطلق ولم يقيد ، فتطلق كذلك كما أطلق .
والذي يظهر أن كل الأقوال ما عدا القول بأنه جب في جهنم من قبيل اختلاف التنوع ، وأنها كلها محتملة ، قال ابن جرير على الإطلاق .
أما القول بأنه جب في جهنم ، فلم يثبت فيه نص ، وليست فيه أية مشاهدة يحال عليها للدلالة على قدرة الله تعالى ، كما في الأشياء الأخرى المشاهدة .
[ ص: 159 ] والذي يشهد له القرآن هو الأول ، كما جاء النص الصريح في الصبح والحب والنوى ، كقوله تعالى : إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم [ 6 \ 95 - 96 ] .
وكلها آيات دالة على قدرة الله ، وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي ، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يرى رؤيا ، إلا جاءت كفلق الصبح .
والفلق : بمعنى الصبح معروف في كلام العرب .
وعليه قول الشاعر :
يا ليلة لم أنمها بت مرتقبا أرعى النجوم إلى أن قدر الفلق
وقول الآخر مثله وفيه : إلى أن نور الفلق بدل قدر ، والواقع أنه في قوة الإقسام برب الكون كله يتفلق بعضه عن بعض .
قوله تعالى : من شر ما خلق . وهذا عام وهو على عمومه ، حتى قال الحسن : إن إبليس وجهنم مما خلق .
وللمعتزلة في هذه الآية كلام حول خلق أفعال العباد ، وأن الله لا يخلق الشر ، وقالوا : كيف يخلقه ويقدره ، ثم يأمر بالاستعاذة به سبحانه مما خلقه وقدره ؟
وأجيب من أهل السنة : بأنه لا مانع من ذلك ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " وأعوذ بك منك " .
وقد قال تعالى : الله خالق كل شيء [ 13 \ 16 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، ئيمناقشة هذه المسألة في مناظرة الإسفراييني مع الجبائي في القدر .
ومعلوم أن المخلوق لا يتأتى منه شيء قط إلا بمشيئة الخالق ، وما تشاءون إلا أن يشاء الله .
قوله تعالى : ومن شر غاسق إذا وقب .
[ ص: 160 ] الغاسق : قيل الليل ، لقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل [ 17 \ 78 ] .
ووقب : أي دخل .
وعليه قول الشاعر :
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
وقول الآخر :
يا طيف هند قد أبقيت لي أرقا إذ جئتنا طارقا والليل قد غسقا
قال القرطبي : وهذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم .
وقيل : الغاسق : القمر إذا كان في آخر الشهر ، لحديث عائشة عند الترمذي " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها : تعوذي من هذا فإنه الغاسق إذا وقب " . أي القمر .
وقائل هذا القول يقول : إنه أنسب لما يجيء بعده من السحر ، لأنه أكثر ما يكون عندهم في آخر الشهر .
ونقل القرطبي عن ثعلب ، عن ابن الأعرابي ، أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر ، أي سقوطه وغيوبته .
وأنشد قول الشاعر :
أراحني الله من أشياء أكرهها منها العجوز ومنها الكلب والقمر
هذا يبوح وهذا يستضاء به وهذه ضمرز قوامة السحر
والضمرز : الناقة المسنة ، والمرأة الغليظة .
والصحيح الأول : الذي هو الليل بشهادة القرآن .
والثاني : تابع له ; لأن القمر في ظهوره واختفائه مرتبط بالليل ، فهو بعض ما يكون في الليل ، وفي الليل تنتشر الشياطين وأهل الفساد ، من الإنسان والحيوان ويقل فيه المغيث إلا الله .
[ ص: 161 ] وفي الحديث : " أطفئوا السرج فإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم ليلا " . أي : الفأرة .
قوله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد
. المراد به السحرة قطعا ، سواء كان النفث من النساء كما هو ظاهر اللفظ ، أو من الرجال على معنى الجماعات ، أو النفوس الشريرة فتشمل النوعين .
وأجمع المفسرون : أنها نزلت في لبيد بن الأعصم ، لما سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتاه جبريل عليه السلام وأخبره .
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث السحر وأقسامه وأحكامه وكل ما يتعلق به ، عند الكلام على قوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى [ 20 \ 69 ] ، من سورة طه ، ما عدا مسألة واحدة ، وهي حكم ما لو قتل أو أتلف شيئا بسحره ، فما يكون حكمه ، ونوردها موجزة .
مسألة
ذكر ابن قدامة في المغني رحمه الله النوع السادس من أنواع القتل : أن يقتله بسحر يقتل غالبا فيلزمه القود ، وإن كان مما لا يقتل غالبا ، ففيه الدية ا هـ .
وذكر النووي في المنهاج شرح مغني المحتاج للشافعية : التنبيه على أنه يقتل كذلك .
وذكر مثله ابن حجر في الفتح : أن الساحر يقتل إذا قتل بسحره .
تنبيه
يقع تأثير السحر على الحيوان كما يقع على الإنسان .
قال أبو حيان : أخبرني من رأى في بعض الصحراء عند بعضهم خيطا أحمر ، قد عقدت فيه عقد على فصلان ، أي جمع فصيل ، فمنعت من رضاع أمهاتها بذلك ، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع . ا هـ .
كما يقع الحسد أيضا على الحيوان ، بل وعلى الجماد أي عين العائن تؤثر في [ ص: 162 ] الحيوان والجماد والنبات ، كما تؤثر في الإنسان على ما سيأتي إن شاء الله .
قوله تعالى : ومن شر حاسد إذا حسد .
اقتران الحسد بالسحر هنا ، يشير إلى وجود علاقة بين كل من السحر والحسد ، وأقل ما يكون هو التأثير الخفي الذي يكون من الساحر بالسحر ، ومن الحاسد بالحسد مع الاشتراك في عموم الضرر ، فكلاهما إيقاع ضرر في خفاء ، وكلاهما منهي عنه .
وقد أوضح فضيلة الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، أنواع السحر وأحكامه وأورد فيه كلاما وافيا .
وقد ظهر بما قدمنا : أن الحسد له علاقة بالسحر نوعا ما ، فلزم إيضاحه وبيان أمره بقدر المستطاع ، إن شاء الله .
أولا : تعريفه : قالوا : إن الحسد هو تمني زوال نعمة الغير ، أو عدم حصول النعمة للغير شحا عليه بها .
وقد قيدت الاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد ، أي عند إيقاعه الحسد بالفعل ، ولم يقيدها من شر الساحر إذا سحر .
وذلك والله تعالى أعلم : أن النفث في العقد هو عين السحر ، فتكون الاستعاذة واقعة موقعها عند سحره الواقع منه بنفثه الحاصل منه في العقد .
أما الحاسد فلم يستعذ منه إلا عند إيقاعه الحسد بالفعل ، أي : عند توجهه إلى المحسود ; لأنه قبل توجهه إلى المحسود بالحسد لا يتأتى منه شر ، فلا محل للاستعاذة منه .
أما حقيقة الحسد : فيتعذر تعريفه منطقيا .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه أنه قال في السحر : لا يمكن تعريفه لخفائه .
ومعلوم أن الحسد أشد خفاء ; لأنه عمل نفسي وأثر قلبي ، وقد قيل فيه : إنه كإشعاع غير مرئي ، ينتقل من قلب الحاسد إلى المحسود ، عند تحرقه بقلبه على المحسود ، وقد شبه حسد الحاسد بالنار في قولهم :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (614)
سُورَةُ النَّاس
صـ 163 إلى صـ 174
اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها
إن لم تجد ما تأكله
وقد أنكر بعض الفلاسفة وقوع الحسد ، حيث إنه غير مشاهد وهم محجوجون بكل موجود غير مشاهد ، كالنفس والروح والعقل .
وقد شوهدت اليوم أشعة إكس وهي غير مرئية ، ولكنها تنفذ إلى داخل الجسم من إنسان وحيوان ، بل وخشب ونحوه . ولا يردها إلا مادة الرصاص لكثافة معدنه ، فتصور داخل جسم الإنسان من عظام وأمعاء وغيرها ، فلا معنى لرد شيء لعدم رؤيته .
تنبيه
قد أطلق الحسد هنا ولم يبين المحسود عليه ، ما هو مع أنه كما تقدم زوال النعمة عن الغير .
وقد نبه القرآن الكريم على أعظم النعمة التي حسد عليها المسلمون عامة ، والرسول صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهي نعمة الإسلام ونعمة الوحي وتحصيل الغنائم .
فأهل الكتاب حسدوا المسلمين على الإسلام في قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ 2 \ 109 ] .
والمشركون حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نعمة الوحي إليه ، كما في قوله تعالى : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله [ 4 \ 54 ] .
والناس هنا عام أريد به الخصوص ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم [ 3 \ 173 ] .
فالناس الأولى عام أريد به خصوص رجل واحد ، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي .
ومما جاء فيه الحسد عن نعمة متوقعة . قوله تعالى : سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا [ 48 \ 15 ] .
[ ص: 164 ] فتبين بنص القرآن أن الحسد يكون في نعمة موجودة ، ويكون في نعمة متوقع وجودها .
تنبيه آخر
توجد العين كما يوجد الحسد ، ولم أجد من فرق بينهما مع وجود الفرق .
وقد جاء في الصحيح : " إن العين لحق " .
كما جاء في السنن : " لو أن شيئا يسبق القدر لسبقته العين " .
ويقال في الحسد : حاسد ، وفي العين : عائن ، ويشتركان في الأثر ، ويختلفان في الوسيلة والمنطلق .
فالحاسد : قد يحسد ما لم يره ، ويحسد في الأمر المتوقع قبل وقوعه ، ومصدره تحرق القلب واستكثار النعمة على المحسود ، وبتمني زوالها عنه أو عدم حصولها له وهو غاية في حطة النفس .
والعائن : لا يعين إلا ما يراه والموجود بالفعل ، ومصدره انقداح نظرة العين ، وقد يعين ما يكره أن يصاب بأذى منه كولده وماله .
وقد يطلق عليه أيضا الحسد ، وقد يطلق الحسد ويراد به الغبطة ، وهو تمني ما يراه عند الآخرين من غير زواله عنهم .
وعليه الحديث : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها بين الناس " .
وقال القرطبي : روي مرفوعا " المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد " .
وقال : الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء ، وأول ذنب عصي به في الأرض ، فحسد إبليس آدم وحسد قابيل هابيل ا هـ .
تحذير
كنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه قوله : إن أول معصية وقعت هي الحسد ، وجر شؤمها إلى غيرها ، وذلك لما حسد إبليس أبانا آدم على ما آتاه الله من [ ص: 165 ] الكرامات من خلقه بيديه ، وأمر الملائكة بالسجود له ، فحمله الحسد على التكبر ، ومنعه التكبر من امتثال الأمر بالسجود ، فكانت النتيجة طرده ، عياذا بالله .
أسباب الحسد
وبتأمل القصة ، يظهر أن الحامل على الحسد أصله أمران :
الأول : ازدراء المحسود .
والثاني : إعجاب الحاسد بنفسه ، كما قال إبليس معللا لامتناعه من السجود : أنا خير منه [ 7 \ 12 ] .
ثم فصل معنى الخيرية المزعومة بقوله : خلقتني من نار وخلقته من طين [ 7 \ 12 ] ، ويلحق بذلك جميع الأسباب .
وقد ذكروا منها التعزز في نفسه ، ولا يريد لأحد أن يرتفع عليه ، والتعجب بأن يعجب بنفسه ، ولا يرى أحدا أولى منه ، والخوف من فوات المقاصد عند شخص إذا رآه سيستغني عنه ، وحب الرئاسة ممن لا يريد لأحد أن يتقدم عليه في أي فن أو مجال .
وذكرها الرازي نقلا عن الغزالي .
ومن هنا لا نرى معجبا بنفسه قط ، إلا ويزدري الآخرين ويحسدهم على أدنى نعمة أنعمها الله عليهم . عافانا الله من ذلك .
تنبيه
إذا كان أول معصية وقعت هي حسد إبليس لأبينا آدم على ما أنعم الله به عليه ، وجاء حسد المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم على نعمة الوحي ، وحسدأهل الكتاب للمسلمين على نعمة الإسلام ، وجاءت هذه السورة في أواخر القرآن ، فكأنها جاءت في أعقاب القرآن لتذكر المسلمين بعظم نعمته عليهم وشدة حسدهم عليه ، ليحذروا أعداءهم الذين يكيدون لهم في دينهم ، من كل من الجنة والناس ، على ما سيأتي في السورة بعدها والأخيرة ، إن شاء الله .
[ ص: 166 ] مسألة في حكم من قتل أو كسر أو أتلف شيئا بالعين
تقدم بيان ذلك في حق السحر ، أما في حق العين ، فقد قال ابن حجر في فتح الباري في كتاب الطب ما نصه : وقد اختلف في جريان القصاص بذلك ، يعني بالعين .
فقال القرطبي : لو أتلف العائن شيئا ضمنه لو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه ، بحيث يصير عادة وهو في ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا . ا هـ .
ولم يتعرض الشافعية للقصاص في ذلك بل منعوه ، وقالوا : إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا .
وقال النووي في الروضة : ولا دية فيه ولا كفارة ، لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الأحوال ، مما لا انضباط له ، كيف ولم يقع منه فعل أصلا ، وإنما غايته حسد وتمن لزوال نعمة .
وأيضا ، فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص ، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة ، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين . ا هـ .
ولا يعكر على ذلك إلا الحكم بقتل الساحر ، فإنه في معناه ، والفرق بينهما عسير .
ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم : أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس ، وأنه يلزمه بيته ، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به ، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر رضي الله عنه بمنعه من مخالطة الناس ، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة .
قال النووي : وهذا القول صحيح متعين ، لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه . ا هـ . من فتح الباري .
وبتأمل قول القرطبي والنووي بدقة لا يوجد بينهما خلاف في الأصل ، إذ القرطبي يقيد كلامه بما يتكرر منه بحيث يصير عادة له .
والنووي يقول : إنه لا يقتل غالبا ، وعليه فلو ثبت أنه يقتل غالبا وتكرر ذلك منه ، [ ص: 167 ] فإنه يتفق مع كلام القرطبي تماما في أن من أتلف بعينه وكان معتادا منه ذلك فهو ضامن ، وهذا معقول المعنى ، والله تعالى أعلم .
وعند الحنابلة في كشاف القناع ما نصه : والمعيان الذي يقتل بعينه .
قال ابن نصر الله في حواشي الفروع : ينبغي أن يلحق بالساحر الذي يقتل بسحره غالبا ، فإذا كانت عينه يستطيع القتل بها ويفعله باختياره وجب به القصاص ا هـ .
مسألة : بيان ما تعالج به العين
لما كان الحسد أضر ما يكون على الإنسان ، والإصابة بالعين حق لا شك فيها وجاء فيها : " لو أن شيئا يسبق القدر لسبقته العين " .
وحديث : " إن العين لحق " فقد فصلت السنة كيفية اتقائها قبل وقوعها ، والعلاج منها إذا وقعت .
وذلك فيما رواه مالك في الموطأ وغيره من الصحاح ، في حديث سهل بن حنيف ، وبوب البخاري في صحيحه باب رقية العين ، وذكر حديث عائشة أنها قالت : " أمرني النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أمر أن يسترقى من العين " .
وعقد مالك في الموطأ بابا بعنوان الوضوء من العين ، وبابا آخر بعده بعنوان الرقية من العين ، وساق حديث سهل بتمامه وفيه بيان كيفية اتقائها وعلاجها ، ولذا نكتفي بإيراده لشموله .
قال : عن محمد بن أبي أسامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول : اغتسل أبي سهل بن حنيف بالحرار فنزع جبة كانت عليه ، وعامر بن ربيعة ينظر ، قال : وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد ، قال : فقال له عامر بن ربيعة : ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء ، قال : فوعك سهل مكانه واشتد وعكه ، فأتي رسول الله فأخبروه أن سهلا وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علام يقتل أحدكم أخاه ، ألا بركت ؟ إن العين حق ، توضأ له ، فتوضأ له عامر ، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس " .
[ ص: 168 ] وساق مرة أخرى وفيه ، فقال صلى الله عليه وسلم " هل تتهمون له أحدا ؟ قالوا : نتهم عامر بن ربيعة ، قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا فتغيظ عليه ، وقال : علام يقتل أحدكم أخاه ، ألا بركت ، اغتسل له ، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه ، وداخل إزاره في قدح ثم صب عليه فراح سهل مع الناس ، ليس به بأس " .
فهذه القصة تثبت قطعا وقوع العين ، وهذا أمر مجمع عليه من أهل السنة وسلف الأمة ، كما أنها ترشد إلى أن من برك ، أي قال : تبارك الله .
وفي بعض الروايات لغير مالك : هلا كبرت ، أي يقول : الله أكبر ثلاثا ، فإن ذلك يرد عين العائن .
كما جاء في السنة " أن الدعاء يرد البلاء " فإذا لم تدفع عند صدورها وأصابت ، فإن العلاج منها كما جاء هنا " توضأ له " ، واللفظ الآخر : " اغتسل له " .
وقد فصل المراد بالغسل له : أنه غسل الوجه واليدين أي : الكفين فقط ، والمرفقين والركبتين والقدمين وطرف الإزار الداخلي ، ويكون ذلك في إناء لا يسقط الماء على الأرض ، ويفرغ هذا الماء على المصاب من الخلف ويكفأ الإناء خلفه .
وقد ذكرها مفصلة القاضي الباجي في شرح الموطأ فقال : وروي عن يحيى بن يحيى عن ابن نافع في معنى الوضوء الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
يغسل الذي يتهم بالرجل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه ورجليه وداخلة إزاره ، وقال : ولا يغسل ما بين اليد والمرفق ، أي : لا يغسل الساعد من اليد .
وروي عن الزهري أنه قال : الغسل الذي أدركنا علماءنا يصفونه : أي يؤتى العائن بقدح فيه ماء ، فيمسك مرتفعا من الأرض فيدخل فيه كفه فيمضمض ، ثم يمجه في القدح ، ثم يغسل وجهه في القدح صبة واحدة ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على كفه اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على ظهر كفه اليسرى صبة واحدة ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على مرفقه الأيمن ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على قدمه اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على قدمه الأيسر ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على ركبته اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على ركبته اليسرى ، كل ذلك في قدح ثم يدخل داخلة إزاره في القدح ولا يوضع القدح [ ص: 169 ] في الأرض ، فيصب على رأس المعين من خلفه صبة واحدة ، وقيل : يغتفل ويصب عليه ، أي : في حالة غفلته ، ثم يكفأ القدح على ظهر الأرض وراءه .
وأما داخلة إزاره : فهو الطرف المتدلي الذي يفضي من مأزره إلى جلده مكانه ، إنما يمر بالطرف الأيمن على الأيسر ، حتى يشده بذلك الطرف المتدلي الذي يكون من داخل . ا هـ .
ومما يرشد إليه هذا الحديث تغيظه صلى الله عليه وسلم على عامر بن ربيعة .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " علام يقتل أحدكم أخاه " مما يبين شناعة هذا العمل ، وأنه قد يقتل .
ومما ينبغي مراعاته من كل من الطرفين من ابتلي بالعين ، فليبارك عند رؤيته ما يعجبه لئلا يصيب أحدا بعينه ، ولئلا تسبقه عينه .
وكذلك من اتهم أحدا بالعين ، فليكبر ثلاثا عند تخوفه منه . فإن الله يدفع العين بذلك . والحمد لله .
وقد ذكروا للحسد دواء كذلك ، أي يداوي به الحاسد نفسه ليستريح من عناء الحسد المتوقد في قلبه المنغص عليه عيشه الجالب عليه حزنه ، وهو على سبيل الإجمال في أمرين . العلم ثم العمل .
والمراد بالعلم هو أن يعلم يقينا أن النعمة التي يراها على المحسود ، إنما هي عطاء من الله بقدر سابق وقضاء لازم ، وأن حسده إياه عليها لا يغير من ذلك شيئا ، ويعلم أن ضرر الحسد يعود على الحاسد وحده في دينه لعدم رضائه بقدر الله وقسمته لعباده ; لأنه في حسده كالمعترض على قوله تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا [ 43 \ 32 ] ، وفي دنياه لأنه يورث السقام والأحزان والكآبة ونفرة الناس منه ومقتهم إياه ، ومن وراء هذا وذاك العقاب في الآخرة .
أما العمل فهو مجاهدة نفسه ضد نوازع الحسد ، كما تقدمت الإشارة إليه في الأسباب ، فإذا رأى ذا نعمة فازدرته عينه ، فليحاول أن يقدره ويخدمه .
وإن راودته نفسه بالإعجاب بنفسه ، ردها إلى التواضع وإظهار العجز والافتقار .
وإن سولت له نفسه تمني زوال النعمة عن غيره ، صرف ذلك إلى تمني مثلها لنفسه . وفضل الله عظيم .
[ ص: 170 ] وإن دعاه الحسد إلى الإساءة إلى المحسود ، سعى إلى الإحسان إليه ، وهكذا فيسلم من شدة الحسد ، ويسلم غيره من شره .
وكما في الأثر : " المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد " .
نسأل الله العافية والمعافاة .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ النَّاس
قوله تعالى : قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس .
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، الإحالة على هذه السورة عند كلامه على قوله تعالى : ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير [ 11 \ 2 ] ، في سورة هود ، فقال على تلك الآية : فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها هي أن يعبد الله تعالى وحده ولا يشرك به في عبادته شيء .
وساق الآيات المماثلة لها ثم قال : وقد أشرنا إلى هذا البحث في سورة الفاتحة ، وسنتقصى الكلام عليه إن شاء الله تعالى في سورة الناس ، لتكون خاتمة هذا الكتاب المبارك حسنى ا هـ .
وإن في هذه الإحالة منه رحمة الله تعالى علينا وعليه لتنبيها على المعاني التي اشتملتها هذه السورة الكريمة ، وتوجيها لمراعاة تلك الخاتمة .
كما أن في تلك الإحالة تحميل مسئولية الاستقصاء حيث لم يكتف بما قدمه في سورة الفاتحة ، ولا فيما قدمه في سورة هود ، وجعل الاستقصاء في هذه السورة ، ومعنى الاستقصاء : الاستيعاب إلى أقصى حد .
وما أظن أحدا يستطيع استقصاء ما يريده غيره ، ولا سيما ما كان يريده الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وما يستطيعه هو .
ولكن على ما قدمنا في البداية : أنه جهد المقل ووسع الطاقة . فنستعين الله ونستهديه مسترشدين بما قدمه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورتي الفاتحة وهود ، ثم نورد وجهة نظر في السورتين معا الفلق والناس ، ثم منهما وفي نسق المصحف الشريف ، آمل من الله تعالى وراج توفيقه ومعونته .
[ ص: 172 ] أما الإحالة فالذي يظهر أن موجبها هو أنه في هذه السورة الكريمة اجتمعت ثلاث صفات لله تعالى من صفات العظمة والكمال : " رب الناس " ، ملك الناس ، إله الناس " ، ولكأنها لأول وهلة تشير إلى الرب الملك هو الإله الحق الذي يستحق أن يعبد وحده .
ولعله ما يرشد إليه مضمون سورة الإخلاص قبلها : هو الله أحد ، الله الصمد ، وهذا هو منطق العقل والقول الحق ; لأن مقتضى الملك يستلزم العبودية ، والعبودية تستلزم التأليه والتوحيد في الألوهية ; لأن العبد المملوك تجب عليه الطاعة والسمع لمالكه بمجرد الملك ، وإن كان مالكه عبدا مثله ، فكيف بالعبد المملوك لربه وإلهه ، وكيف بالمالك الإله الواحد الأحد الفرد الصمد ؟
وقد جاءت تلك الصفات الثلاث : الرب الملك الإله ، في أول افتتاحية أول المصحف : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين [ 1 \ 2 - 4 ] ، والقراءة الأخرى : " ملك يوم الدين " [ 1 \ 4 ] .
وفي أول سورة البقرة أول نداء يوجه للناس بعبادة الله تعالى وحده ، لأنه ربهم مع بيان الموجبات لذلك في قوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] .
ثم بين الموجب لذلك بقوله : الذي خلقكم والذين من قبلكم [ 2 \ 21 ] .
وقوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] .
وهذا كله من آثار الربوبية واستحقاقه تعالى على خلقه العبادة ، ثم بين موجب إفراده وحده بذلك بقوله : فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 22 ] .
أي : كما أنه لا ند له في الخلق ولا في الرزق ولا في شيء مما ذكر ، فلا تجعلوا لله أندادا أيضا في عبادة ، وأنتم تعلمون حقيقة ذلك .
وعبادته تعالى وحده ونفي الأنداد ، هو ما قال عنه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا .
فالإثبات في قوله تعالى : واعبدوا الله [ 5 \ 72 ] .
[ ص: 173 ] والنفي في قوله : فلا تجعلوا لله أندادا .
وكون الربوبية تستوجب العبادة ، جاء صريحا في قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف [ 106 \ 3 - 4 ] .
فالموصول وصلته في معنى التعليل لموجب العبادة ، وسيأتي لذلك زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى في نهاية السورة .
وقد جاء هنا لفظ : رب الناس ، بإضافة الرب إلى الناس ، بما يشعر بالاختصاص ، مع أنه سبحانه رب العالمين ورب كل شيء ، كما في أول الفاتحة : الحمد لله رب العالمين .
وفي قوله : قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء [ 6 \ 164 ] .
فالإضافة هنا إلى بعض أفراد العام .
وقد أضيف إلى بعض أفراد أخرى كالسماوات والأرض وغيرها من بعض كل شيء ، كقوله : قل من رب السماوات والأرض قل الله [ 13 \ 16 ] .
وقوله : رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا [ 73 \ 9 ] .
وإلى البيت فليعبدوا رب هذا البيت [ 106 \ 3 ] .
وإلى البلد الحرام إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة [ 27 \ 91 ] .
وإلى العرش : رب العرش الكريم [ 23 \ 116 ] .
وإلى الرسول : اتبع ما أوحي إليك من ربك [ 6 \ 106 ] .
وقوله : وربك فكبر [ 47 \ 3 ] ، إلى غير ذلك .
ولكن يلاحظ أنه مع كل إضافة من ذلك ما يفيد العموم ، وأنه مع إضافته لفرد من أفراد العموم ، فهو رب العالمين ، ورب كل شيء ، ففي إضافته إلى السماوات والأرض جاء معها قل الله .
وفي الإضافة إلى المشرق والمغرب جاء لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا [ 73 \ 9 ] .
[ ص: 174 ] وفي الإضافة إلى البيت جاء : الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
وفي الإضافة إلى البلدة جاء الذي حرمها [ 27 \ 91 ] ، وهو الله تعالى .
وفي الإضافة إلى العرش جاء قوله تعالى : فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش [ 23 \ 116 ] .
وفي الإضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جاء قوله : ما ودعك ربك [ 93 \ 3 ] ، وغير ذلك من الإضافة إلى أي فرد من أفراد العموم يأتي معها ما يفيد العموم ، وأن الله رب العالمين .
وهنا رب الناس جاء معها : ملك الناس إله الناس ، ليفيد العموم أيضا ; لأن إطلاق الرب قد يشارك فيه السيد المطاع ، كما في قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ 9 \ 31 ] .
وقول يوسف لصاحبه في السجن اذكرني عند ربك [ 12 \ 42 ] ، أي : الملك على أظهر الأقوال ، وقوله : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الآية [ 12 \ 50 ] .
فجاء بالملك والإله للدلالة على العموم ، في معنى رب الناس ، فهو سبحانه رب العالمين ورب كل شيء ، ولكن إضافته هنا إلى خصوص الناس إشعار بمزيد اختصاص ، ورعاية الرب سبحانه لعبده الذي دعاه إليه ليستعيذ به من عدوه ، كما أن فيه تقوية رجاء العبد في ربه بأنه سبحانه بربوبيته سيحمي عبده لعبوديته ويعيذه مما استعاذ به منه .
ويقوي هذا الاختصاص إضافة الرب للرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أطواره منذ البدأين : بدء الخلقة وبدء الوحي ، في قوله : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق [ 96 \ 1 - 2 ] ، ثم في نشأته ما ودعك ربك وما قلى إلى قوله ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى [ 93 \ 3 - 8 ] .
وجعل الرغبة إليه في السورة بعدها وإلى ربك فارغب [ 94 \ 8 ] ، تعداد النعم عليه من شرح الصدر ، ووضع الوزر ، ورفع الذكر ، ثم في المنتهى قوله : إن إلى ربك الرجعى [ 96 \ 8 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (615)
سُورَةُ النَّاس
صـ 175 إلى صـ 188
[ ص: 175 ] قوله تعالى : ملك الناس ، في مجيء ملك الناس بعد رب الناس ، تدرج في التنبيه على تلك المعاني العظام ، وانتقال بالعباد من مبدأ الإيمان بالرب لما شاهدوه من آثار الربوبية في الخلق والرزق ، وجميع تلك الكائنات ، كما تقدم في أول نداء وجه إليهم : اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 21 - 22 ] .
كل هذه الآثار التي لمسوها وأقروا بموجبها ، بأن الذي أوجدها هو ربهم ، ومن ثم ينتقلون إلى الدرجة الثانية ، وهي أن ربه الذي هذه أفعاله هو ملكه وهو المتصرف في تلك العوالم ، وملك لأمره وجميع شئونه ، وملك لأمر الدنيا والآخرة جميعا .
فإذا وصل بإقراره إلى هذا الإدراك ، أقر له ضرورة بالألوهية وهي المرتبة النهاية
" إله الناس " أي : مألوههم ومعبودهم وهو ما خلقهم إليه ، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] .
وفي إضافة الملك إلى الناس من إشعار الاختصاص ، مع أنه سبحانه ملك كل شيء ، فيه ما في إضافة الرب للناس المتقدم بحثه ، فهو سبحانه مالك الملك كما في قوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء [ 3 \ 26 ] .
وقوله تعالى : له الملك وله الحمد [ 64 \ 1 ] .
وقوله : له ملك السماوات والأرض [ 2 \ 107 ] ، وقوله : الملك القدوس [ 59 \ 23 ] .
فهو سبحانه وتعالى المتفرد بالملك لا شريك له في ملكه ، كما قال تعالى : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك [ 17 \ 111 ] فبدأ بالحمد أولا .
ومثله قوله : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء [ 36 \ 83 ] ، بدأ بتسبيح نفسه وتنزيهه لعموم الملك ومطلق التصرف ونفي الشريك ; لأن ملكه ملك تصرف وتدبير مع الكمال في الحمد والتقديس .
[ ص: 176 ] وكقوله : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير [ 67 \ 1 ] .
وبهذه النصوص يعلم كمال ملكه تعالى ، ونقص ملك ما سواه من ملوك الدنيا ، ونعلم أن ملكهم بتمليك الله تعالى إياهم كما في قوله تعالى : والله يؤتي ملكه من يشاء [ 3 \ 26 ] .
وقوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء [ 3 \ 26 ] .
ومن المعلوم أن ملوك الدنيا ملكهم ملك سياسة ورعاية ، لا ملك تملك وتصرف ، وكما في قوله تعالى : وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم [ 2 \ 247 ] .
والجدير بالتنبيه عليه بهذه المناسبة أن " بريطانيا " تحترم نظام الملكية إلى هذا الوقت الحاضر ، بدافع من هذا المعتقد ، وأنه لا ملك إلا بتمليك الله إياه ، وأن ملوك الدنيا باصطفاء من الله .
والآية تشير إلى ما نحن بصدد بيانه ، من أن ملوك الدنيا لا يملكون أمر الرعية لأن طالوت ملكا ، وليس مالكا لأموالهم .
بينما ملك الله تعالى ملك خلق وإيجاد وتصرف ، كما في قوله تعالى : لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 - 50 ] .
وعليم قدير هنا من خصائصه سبحانه وتعالى ، فيتصرف في ملكه بعلم وعن قدرة كاملين سبحانه ، له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير [ 57 \ 2 ] .
وتظهر حقيقة ذلك إذا جاء اليوم الحق ، فيتلاشى كل ملك قل أو كثر ، ويذل كل ملك كبر أو صغر ، ولم يبق إلا ملكه تعالى يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] .
[ ص: 177 ] وفي سورة الفاتحة : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] .
والقراءة الأخرى : " ملك يوم الدين " [ 1 \ 4 ] .
في القراءتين معا إشعار بالفرق بين ملك الله وملك العباد ، كالفرق بين الملك المطلق والملك النسبي ، إذ الملك النسبي لا يملك ، والملك المطلق ، فهو الملك القدوس ، والذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجع الخلائق كلهم .
ومن كانت هذه صفاته ، فهو المستحق لأن يعبد وحده سبحانه ، ولا يشرك معه أحد ، وهذا هو شعار العبد في الركن الخامس من أركان الإسلام ، حين يهل بالتلبية : إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .
قوله تعالى : إله الناس
. هذه هي المرتبة الثالثة في كمال العبودية ، وإفراد الله تعالى بالألوهية .
وهذا هو محل الإحالة ، التي عناها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فيما يظهر ، لأن العبد إذا أقر بأن الله ربه وخالقه ، ومنعم عليه أوجده من العدم ، ورباه بالنعم ، لا رب له سواه ، ثم تدرج بعلمه ويقينه إلى الإقرار بأن ربه هو مليكه والمتصرف في أمره وحده ، وأنه لا يملك هو نفسه مع الله شيئا ، ولا يملك له أحد من الله شيئا .
وأن كل تصرفات العالم كله بأمره فلا يصل إليه خير إلا بإذنه ، ولا يصرف عنه ضرر إلا بأمره .
وعرف في يقين : أنه عبد مملوك لمن بيده ملكوت السماوات والأرض ، توصل بعلمه هذا أن من كانت هذه صفاته ، كان هو وحده المستحق لإفراده بالعبادة وبالألوهية ، لا إله إلا هو .
فيكون في خاتمة المصحف الشريف انتزاع الإقرار من العبد لله سبحانه بطريق الإلزام ، بالمعنى الذي أرسل الله به رسله ، وأنزل من أجله كتبه ، وهو أن يعبد الله وحده ، وهو ما صرح الشيخ به في الإحالة السابقة .
وإذا كان الشيخ رحمه الله ، قد نبه على مراعاة خاتمة المصحف ، فإنا لو رجعنا إلى أول المصحف وآخره لوجدنا ربطا بديعا ، إذ تلك الصفات الثلاث في سورة الناس [ ص: 178 ] موجودة في سورة الفاتحة ، فاتفقت الخاتمة مع الفاتحة في هذا المعنى العظيم ، إذ في الفاتحة الحمد لله رب العالمين ، وملك يوم الدين ، فجاءت صفة الربوبية والملك والألوهية في لفظ الجلالة .
وتكون الخاتمة الشريفة من باب عود على بدء ، وأن القرآن كله فيما بين ذلك شرح وبيان لتقدير هذا المعنى الكبير .
وسيأتي لذلك زيادة إيضاح في النهاية ، إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : من شر الوسواس الخناس
. كلاهما صيغة مبالغة من الوسوسة والخنس ، بسكون النون .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان معنى الوسوسة والوسواس لغة وشرعا ، أي المراد عند كلامه على قوله تعالى : فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد الآية [ 20 \ 120 ] .
وبين مشتقاتهما وأصل اشتقاقهما ، وهو يدور على أن الوسوسة : الحديث الخفي . والخنس : التأخر ، كما تكلم على ذلك في دفع إيهام الاضطراب ، حيث اجتمع المعنيان المتنافيان .
لأن الوسواس : كثير الوسوسة ، ليضل بها الناس . والخناس : كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس .
والجواب أن لكل مقام مقالا ، فهو يوسوس عند غفلة العبد عن ذكر ربه ، خانس عند ذكر العبد ربه تعالى ، كما دل عليه قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين [ 43 \ 36 ] ، إلى آخره . ا هـ .
قوله تعالى : الذي يوسوس في صدور الناس
. اختلف في الظرف هنا ، هل هو ظرف للوسواس حينما يوسوس ، فيكون موجودا في الصدور ، ويوسوس للقلب ، أو هو ظرف للوسوسة . ويكون المراد بالصدور القلوب ; لكونها حالة في الصدور من باب إطلاق المحل وإرادة الحال على ما هو جار في الأساليب البلاغية .
[ ص: 179 ] وعلى حد قوله تعالى : فليدع ناديه [ 96 \ 17 ] ، أطلق النادي ، وأراد من يحل فيه من القوم .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحث تعدية الوسوسة تارة بإلى وتارة باللام ، ففي سورة الأعراف : فوسوس لهما الشيطان [ 7 \ 20 ] ، وفي طه : فوسوس إليه الشيطان [ 20 \ 120 ] .
وحاصل ما ذكره في الجمع بينهما أحد أمرين : إما أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض ، وذكر شواهده ، وإما أن يكون وسوس ، أي : لأجله ووسوس إليه أي أنهى إليه الوسوسة ، ولكن هنا قال : في صدور الناس ، ولم يقل : إلى صدور الناس ، فهل هو من باب نيابة حروف الجر بعضها عن بعض أيضا ؟ أم هي ظرف محض ؟
والظاهر أنها ظرف ، ولكن هل من الظرف للوسواس ، أو ظرف للوسوسة نفسها ؟
وبالنظر إلى كلام المفسرين ، فإن كلام ابن جرير يحتمل اعتبار المعنيين بدون تعيين .
وأما القرطبي ، والألوسي ، فصرحا بما ظهر لهما ووصلا إليه .
فقال القرطبي ، قال مقاتل : إن الشيطان في صورة خنزير يجري من مجرى الدم في العروق ، سلطه الله على ذلك وذكر الحديث : " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه " .
وقال : إن أبا ثعلبة الخشني قال : سألت ربي أن يريني الشيطان ، ومكانه من ابن آدم ، فرأيته يداه في يديه ، ورجلاه في رجليه ، ومشاعيه في جسده ، غير أن له خطما كخطم الكلب ؟ فإذا ذكر الله خنس ، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه .
أما الألوسي فقد صرح بالتقسيم الذي أوردناه ، فقال : الذي يوسوس في صدور الناس . قيل : أريد قلوبهم مجازا .
وقال بعضهم : إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز ، فيلقي منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه ، ولا مانع عقلا من دخوله في جوف إنسان . وساق الحديث أيضا : " إن الشيطان يجري " إلى آخره .
[ ص: 180 ] ومراده بالمجاز ما قدمنا من إطلاق المحل وإرادة الحال .
وذكر ابن كثير عن ابن عباس ومجاهد أن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس .
والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن الصدر ظرف للوسواس ، وأنه يوقع الوسوسة في القلب . على ما قاله ابن عباس ومجاهد رحمهم الله .
وفي لفظ الناس هنا المضاف إليه الصدور : اختلاف في المراد منه ، فقيل : الإنس الظاهر الاستعمال .
وقيل : الثقلان : الإنس والجن .
وإن إطلاق الناس على الجنس مسموع ، كما حكاه القرطبي . قال عن بعض العرب : إنه كان يحدث فجاء قوم من الجن فوقفوا ، فقيل : من أنتم : فقالوا : ناس من الجن ، وهذا معنى قول الفراء .
واستدل صاحب هذا القول بطريق القياس باستعمال لفظي رجال ونفر في قوله تعالى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن [ 72 \ 6 ] ، وقوله : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن .
وعليه يكون الوسواس المستعاذ منه يوسوس في صدور الجن والإنس .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الوجه : ولكنه رده وضعفه ; لأن لفظ الناس أظهر وأشهر في الإنس ، وهو المعروف في استعمال القرآن ، ولأنه على هذا يكون قسم الشيء قسما منه ; لأنه يجعل الناس قسيم الجن ، ويجعل الجن نوعا من الناس ا هـ . ملخصا .
وعلى كل فإن منهج الأضواء أن ما كان محتملا ، وكان أكثر استعمالات القرآن لأحد الاحتمالين ، فإن كثرة استعماله إياه تكون مرجحا ، وجميع استعمالات القرآن للفظ الناس إنما هو في خصوص الإنس فقط ، ولم تستعمل ولا مرة واحدة في حق الجن مع مراعاة استعمالها في هذه السورة وحدها خمس مرات ، حتى سميت سورة الناس .
[ ص: 181 ] أما القياس على لفظتي رجل ونفر ، فقد رده شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا بأنهما وردا مقيدين " رجال من الجن " ، " نفرا من الجن " .
أما على الإطلاق فلم يردا ، وهكذا لفظ الناس فلا مانع من استعماله مقيدا ناس من الجن . أما على الإطلاق فلا .
وعليه فحيث ورد لفظ الناس هنا مطلقا فلا يصح حمله على الجن والإنس معا ، بل يكون خاصا بالإنس فقط ، ويكون في صدور الناس أي : في صدور الإنس .
وقد ذكر أبو السعود معنى آخر في لفظ الناس : وهو أن الناسي عن النسيان ، حذفت الياء تخفيفا لأن الوسواس لا يوسوس إلا في حين النسيان والغفلة .
وعليه يكون حذف الياء كحذفها من " الداع " في قوله : يوم يدعو الداعي [ 54 \ 6 ] ونحوه .
ولكن يبقى على هذا القول بيان من المراد بالناسي ، أهو من الإنس أم من الجن ، فلم يخرج عن الاحتمالين السابقين ، مع أن هذا القول من لوازم معنى الوسواس الخناس .
ويرد على هذا القول جمع الصدور وإفراد الناس ، والجمع لا يضاف إلا إلى جمع ، أي جمع الصدور ، لأن الفرد ليس له جمع من الصدور ، فيقابل الجمع بجمع ، أو يكتفي بالمفرد بمفرد .
وقد جاء في إضافة الجمع إلى المثنى في قوله : فقد صغت قلوبكما [ 66 \ 4 ] .
قال أبو حيان : وحسنه أن المثنى جمع في المعنى ، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالا من المثنى ، والتثنية دون الجمع .
كما قال الشاعر :
فتخالسا نفسيهما بنوافذ كنوافذ العبط التي لا ترفع
[ ص: 182 ] وهذا كان القياس وذلك أن المعبر عن المثنى بالمثنى ، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع بأن التثنية جمع في المعنى والإفراد ، لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر .
كقوله :
حمامة بطن الواديين ترنمي
يريد بطني ، وغلط ابن مالك في التسهيل إذ قال : ونختار الإفراد على لفظ التثنية ، فتراه غلط ابن مالك في اختياره جواز إضافة الجمع إلى المفرد ، كما أنه قال : ولا يجوز ذلك إلا في الشعر ، وأنه مع المثنى لكراهية اجتماع التثنيتين ، فظهر بطلان قول أبي السعود .
أما الراجح في الوجهين في معنى الناس المتقدم ذكرهما . فهو الوجه الأول ، وهو أنهم الإنس ، وأن قوله تعالى : من الجنة والناس [ 114 \ 6 ] ، بيان لمن يقوم بالوسوسة ، أي : بيان للوسواس الخناس وأنه من كل من وسواس الجنة ووسواس الناس .
ويظهر ذلك من أمور : منها : أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته تبعا له فهو في حق الناس أظهر .
ومنها : أننا لو جعلنا الناس الأولى عامة لمن يوسوس إليه كان من الجنة والناس مصدر الوسوسة ، فيكون من وسواس الناس من يوسوس في صدور الجن . وهذا بعيد .
ومنها : أنه لو كان لفظ الناس يشمل الجن والإنس ، لما احتيج إلى هذا التقسيم " الجنة والناس " ، واكتفى في الثانية بما اكتفى به في الأولى ، وكان يكون الذي يوسوس في صدور الناس من الناس ، ولكن جاء بيان محل الوسوسة " صدور الناس " ، ثم جاء مصدر الوسوسة " الجنة والناس " ، والله تعالى أعلم .
تنبيه
ذكر أبو حيان في آخر تفسيره مقارنة لطيفة بين سورتي المعوذتين ، فقال : ولما كانت مضرة الدين ، وهي آفة الوسوسة أعظم من مضرة الدنيا وإن عظمت ، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث : الرب ، والملك ، والإله ، وإن اتحد المطلوب .
[ ص: 183 ] وفي الاستعاذة من ثلاث : الغاسق ، والنفاثات ، والحاسد ، بصفة واحدة وهي الرب ، وإن تكثر الذي يستعاذ منه .
وهذه الأخرى لفتة كريمة ، طالما كنت تطلعت إليها في وجهتي نظر ، إحداهما : بين السورتين ، والأخرى بين سورة الناس ونسق المصحف الشريف ، سيأتي إيرادهما إن شاء الله .
إلا أنه على وجهة نظر أبي حيان ، وهي أنه تعالى في سورة الفلق جاء في الاستعاذة بصفة واحدة وهي " برب الفلق " .
وفي سورة الناس جاء في الاستعاذة بثلاث صفات ، مع أن المستعاذ منه في الأولى ثلاثة أمور ، والمستعاذ منه في الثانية أمر واحد ، فلخطر الأمر الواحد جاءت الصفات الثلاث .
ويقال أيضا من جهة أخرى : إن المستعاذ منه في السورة الأولى أمور تأتي من خارج الإنسان ، وتأتيه اعتداء عليه من غيره ، وقد تكون شرورا ظاهرة ، ومثل ذلك قد يمكن التحرز منه أو اتقاؤه قبل وقوعه ، وتجنبه إذا علم به . بينما الشر الواحد في الثانية يأتيه من داخليته وقد تكون هواجس النفس وما لا يقدر على دفعه ، إذ الشيطان يرانا ولا نراه ، كما في قوله : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم [ 7 \ 27 ] .
وقد يثير عليه خلجات نفسه ونوازع فكره ، فلا يجد له خلاصا إلا بالاستعاذة واللجوء إلى رب الناس ملك الناس إله الناس .
أما الوجهتان اللتان نوهنا عنهما ، فالأولى بين السورتين وهي مما أورده أبو حيان : إذ في سورة الفلق قال : قل أعوذ برب الفلق [ 113 \ 1 ] ، ورب الفلق تعادل قوله : رب العالمين لأنه ما من موجود في هذا الكون إلا وهو مفلوق عن غيره .
ففي الزرع : فالق الحب والنوى [ 6 \ 95 ] .
وفي الزمن فالق الإصباح [ 6 \ 96 ] .
[ ص: 184 ] وفي الحيوانات : الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] .
وفي الجمادات يشير إليه قوله تعالى : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم [ 21 \ 30 - 31 ] .
فرب الفلق تعادل رب العالمين ، فقابلها في الاستعاذة بعموم المستعاذ منه ، من شر ما خلق .
ثم جاء ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به ، وهو " من شر غاسق إذا وقب " ، و " النفاثات في العقد " ، " وحاسد إذا حسد " .
فالمستعاذ به صفة واحدة ، والمستعاذ منه عموم ما خلق جملة وتفصيلا ، بينما في السورة الثانية جاء بالمستعاذ به ثلاث صفات هي صفات العظمة لله تعالى : الرب والملك والإله .
فقابل المستعاذ منه وهو شيء واحد فقط ، وهو الوسواس الخناس ، وهذا يدل على شدة خطورة المستعاذ منه .
وهو كذلك ; لأننا لو نظرنا في واقع الأمر لوجدنا مبعث كل فتنة ومنطلق كل شر عاجلا أو آجلا ، لوجدناه بسبب الوسواس الخناس . وهو مرتبط بتاريخ وجود الإنسان .
وأول جناية وقعت على الإنسان الأول ، إنما هي من هذا الوسواس الخناس ، وذلك أن الله تعالى لما كرمآدم ، فخلقه بيده وأسجد الملائكة له وأسكنه الجنة هو وزوجه لا يجوع فيها ولا يعرى ، ولا يظمأ فيها ولا يضحى ، يأكلان منها رغدا حيث ما شاءا ، إلا من الشجرة الممنوعة ، فوسوس إليهما الشيطان حتى أكلا منها ودلاهما بغرور ، حتى أهبطوا منها جميعا بعضهم لبعض عدو .
وبعد سكناهما الأرض أتى ابنيهما قابيل وهابيل فلاحقهما أيضا بالوسوسة ، حتى طوعت نفس أحدهما قتل أخيه فأصبح من النادمين .
وهكذا بسائر الإنسان في حياته بالوسوسة حتى يربكه في الدنيا ، ويهلكه في [ ص: 185 ] الآخرة ، ولقد اتخذ من المرأة جسرا لكل ما يريد . وها هو يعيد الكرة في نزع اللباس عن أبوينا في الجنة ، فينتزعه عنهما في ظل بيت الله الحرام في طوافهم قبل البعثة ولا يزال يغويه ، وعن طريق المرأة في كل زمان ومكان ليخرجه عن الاستقامة كما أخرج أبويه من الجنة .
ولا يزال يجلب على الإنسان بخيله ورجله بارا بقسمه بين يدي الله بعزته ليغوينهم أجمعين .
وإن أخطر أبواب الفساد في المجتمعات لهي عن المال أو الدم أو العرض ، كما في الحديث في حجة الوداع : " ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا " إلى آخره .
وهل وجدت جناية على واحد منها إلا من تأثير الوسواس الخناس ؟ اللهم لا .
وهكذا في الآخرة .
وقد بين تعالى الموقف جليا في مقالة الشيطان البليغة الصريحة : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل الآية [ 14 \ 22 ] .
ولقد علم عدو المسلمين أن أخطر سلاح على الإنسان هو الشك ولا طريق إليه إلا بالوسوسة ، فأخذ عن إبليس مهمته وراح يوسوس للمسلمين في دينهم وفي دنياهم ، ويشككهم في قدرتهم على الحياة الكريمة مستقلين عنه ، ويشككهم في قدرتهم على التقدم والاستقلال الحقيقي ، بل وفي استطاعتهم على الإبداع والاختراع ، ليظلوا في فلكه ودائرة نفوذه ، فيبقى المسلمون يدورون في حلقة مفرغة ، يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى .
والمتشكك في نتيجة عمل لا يقدم عليه أبدا ، بل ما يبنيه اليوم يهدمه غدا ، وقد أعلن عن هذه النتيجة الخطيرة رئيس مؤتمر المستشرقين في الشرق الأوسط ، منذ أكثر من ثلاثين عاما ، حينما انعقد المؤتمر في ( بيروت ) لعرض نتائج أعمالهم ودراسة أساليب تبشيرهم .
[ ص: 186 ] فتشكى المؤتمرون من أن لهم زهاء أربعين سنة من عملهم المتواصل ، لم يستطيعوا أن ينصروا مسلما واحدا ، فقال رئيس المؤتمر : إذا لم نستطع أن ننصر مسلما ، ولكن استطعنا أن نوجد ذبذبة في الرأي ، فقد نجحنا في عملنا .
وهكذا منهج العدو ، تشكيك في قضايا الإسلام ليوجد ذبذبة في عقيدة المسلمين ، فعن طريق الميراث تارة ، وعن طريق تعدد الزوجات أخرى ، وعن دوافع القتال ، وعن استرقاق الرقيق ، وعن وعن .
حتى وجد من أبناء المسلمين من يتخطى حدود الشك إلى التصديق ، وأخذ يدعو إلى ما يدعو إليه العدو ، وما ذاك كله إلا حصاد ونتائج الوسواس الخناس .
فلا غرو إذا أن تجمع الصفات الجليلة الثلاث : برب الناس 30 ملك الناس 30 إله الناس .
هذه وجهة النظر الأولى بين سورتي الفلق والناس .
أما الوجهة الثانية وهي بين سورة الناس ونسق المصحف الشريف ، بقوله تعالى : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم [ 1 \ 2 - 7 ] .
وفي هذه البداية الكريمة بث الطمأنينة في القلب المعبر عنها بالحمد ، عنوان الرضى والسعادة والإقرار لله بالربوبية ، ثم الإيمان بالبعث والإقرار لله بملك يوم الدين ، ثم الالتزام بالعبادة لله وحده والالتجاء إليه مستعينا به ، مستهديا الصراط المستقيم ، سائلا صحبة الذين أنعم عليهم .
ثم يأتي بعدها مباشرة في أول سورة البقرة : ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] أي : إن الهدى الذي تنشده إلى الصراط المستقيم ، فهو في هذا الكتاب لا ريب فيه ، ثم بين المتقين الذين أنعم الله عليهم بقوله : الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون [ 2 \ 3 - 4 ] .
ومرة أخرى للتأكيد : أولئك لا سواهم على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ 2 \ 5 ] .
[ ص: 187 ] ثم تترسل السورة في تقسيم الناس إلى الأقسام الثلاثة : مؤمنين ، وكافرين ، ومذبذبين بين بين ، وهم المنافقون .
ثم يأتي النداء الصريح وهو أول نداء في المصحف لعموم الناس ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] ، ويقيم البراهين على استحقاقه للعبادة وعلى إمكان البعث بقوله : الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 21 - 22 ] .
وبعد تقرير الأصل وهي العقيدة ، تمضي السورة في ذكر فروع الإسلام ، فتشتمل على أركان الإسلام كلها وعلى كثير من مسائل المعاملات والجهاد ، وقل باب من أبواب الفقه إلا وله ذكر في هذه السورة ، ويأتي ما بعدها مبينا لما أجمل فيها أو لما يذكر ضمنها .
وهكذا حتى ينتهي القرآن بكمال الشريعة وتمام الدين .
ولما جاء في وصف المتقين المهتدين في أول المصحف ، أنهم يؤمنون بالغيب ومنه الإيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب - أمور الغيب تستلزم اليقين - لترتب الجزاء عليه ثوابا أو عقابا .
والثواب والعقاب هما نتيجة الفعل والترك .
والفعل والترك : هما مناط التكليف ، لأن الإنسان يمتثل الأمر رجاء الثواب ، ويكف عن متعلق النهي مخافة العقاب .
فلكأن نسق المصحف الشريف يشير إلى ضرورة ما يجب الانتباه إليه من أن القرآن بدأ بالحمد ثناء على الله بما أنعم على الإنسان بإنزاله ، وإرسال الرسول صاحبه به ، ثم نقله من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ، وهو الأعظم قدرا وخطرا ، ثم رسم له الطريق الذي سلكه المهتدون أهل الإنعام والرضى ، ثم أوقفه عليه ليسلك سبيلهم .
وهكذا إلى أن جاء به بعد كمال البيان والإرشاد والهداية ، جاء به إلى نهاية هذا الصراط المستقيم ، فاستوقفه ليقول له إذا اطمأننت لهذا الدين ، وآمنت بالله رب [ ص: 188 ] العالمين ، واعتقدت مجيء يوم الدين ، وعرفت طريق المهتدين ورأيت أقسام الناس الثلاث مؤمنين وكافرين ومنافقين ، ونهاية كل منهم ، فالزم هذا الكتاب ، وسر على هذا الصراط ورافق أهل الإنعام ، وجانب المغضوب عليهم والضالين ، واحذر من مسلك المنافقين المتشككين ، وحاذر كل الحذر من موجب ذلك كله ، وهو الوسواس الخناس ، أن يشككك في متعلقات الإيمان ، أو في استواء طريقك واستقامته أو في عصمة كتابك وكماله ، وكن على يقين مما أنت عليه ، ولا تنس خطره على أبويك من قبل ، إذ هما في الجنة دار السلام ولم يسلما منه ، ودلاهما بغرور فحاذر منه ولذ بي كلما ألم بك أو مسك طائف منه ، وكن كسلفك الصالح إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [ 8 \ 201 ] .
وقد علمت عداوته لك من بعد ، وعداوته ناشئة عن الحسد .
ولكأن ارتباط السورتين ليشير إلى منشأ تلك العداوة وارتباطها بهذا التحذير ، إذ في الأولى : ومن شر حاسد إذا حسد ، فحسد الشيطان آدم على إكرام الله إياه كما أسلفنا .
والعدو الحاسد لا يرضيه إلا زوال النعمة عن المحسود ، ولئن كانت توبة آدم هي سبيل نجاته ، كما في قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [ 2 \ 37 ] .
فنجاتك أيضا في كلمات تستعيذ بها من عدوك : برب الناس ملك الناس إله الناس ; لأن الرب هو الذي يرحم عباده ، وملك الناس هو الذي يحميهم ويحفظهم ويحرسهم . وإله الناس الذي يتألهون إليه ويتضرعون ويلوذون به سبحانه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (616)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 189 إلى صـ 203
تنبيه
إذا كان هذا كله خطر الوسواس الخناس من الجنة والناس ، وهما عدو مشترك ومتربص حاقد حاسد ، فما طريق النجاة منه ؟
الذي يظهر ، والله تعالى أعلم : أن طريق النجاة تعتمد على أمرين :
الأول : يؤخذ من عمومات الكتاب والسنة .
[ ص: 189 ] والثاني : سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه .
أما الأول فهو : إذا كانت مهمة الوسوسة التشكيك والذبذبة والتردد ، فإن عمومات التكليف تلزم المسلم بالعزم واليقين والمضي دون تردد كما في قوله : فإذا عزمت فتوكل على الله [ 3 \ 159 ] ، وامتدح بعض الرسل بالعزم وأمر بالاقتداء بهم : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ 46 \ 35 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .
والقاعدة الفقهية " اليقين لا يرفع بشك " .
والحديث : " يأتي الشيطان لأحدكم وهو في الصلاة فينفخ في مقعدته ، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا ، أو يجد ريحا " .
ومن هنا كانت التكاليف كلها على اليقين ، فالعقائد لا بد فيها من اليقين .
والفروع في العبادات لا بد فيها من النية " إنما الأعمال بالنيات " .
والشرط في النية الجزم واليقين ، فلو نوى الصلاة على أنه إن حضر فلان تركها ، لا تنعقد نيته ، ولو نوى صوما أنه إن شاء أفطر ، لا ينعقد صومه .
ونص مالك في الموطأ : أنه إن نوى ليوم الشك في ليلته الصوم غدا ، على أنه إن صح من رمضان فهو لرمضان ، وإلا فهو نافلة ، لا ينعقد صومه لا فرضا ولا نفلا حتى لو جاء رمضان لا يعتبر له منه ، وعليه قضاؤه لعدم الجزم بالنية .
والحج : لو نواه لزمه ولزمه المضي فيه ، ولا يملك الخروج منه باختياره .
وهكذا المعاملات في جميع العقود مبناها على الجزم حتى في المزح واللعب ، يؤاخذ في البعض كالنكاح والطلاق والعتاق .
فمن هذا كله كانت دوافع العزيمة مستقاة من التكاليف ، مما يقضي على نوازع الشك والتردد ، ولم يبق في قلب المؤمن مجال لشك ولا محل لوسوسة .
وقد كان الشيطان يفر من طريق عمر رضي الله عنه .
[ ص: 190 ] أما الذي كنت سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فقوله : لقد علمنا الله كيفية اتقاء العدو من الإنس ومن الجن .
أما العدو من الإنس ففي قوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [ 41 \ 34 ] .
فدل على أن مقابلة إساءة العدو بالإحسان إليه تذهب عداوته ، وتكسب صداقته ، كما قال تعالى : ادفع بالتي هي أحسن السيئة .
وأما عدو الجن ففي قوله تعالى : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ 41 \ 36 ] .
وهو ما يدل عليه ما تقدم من الآثار من أن الشيطان يخنس إذا سمع ذكر الله .
وعلى قوله رحمه الله : فإن شيطان الجن يندفع بالاستعاذة منه بالله ، ويكفيه ذلك ; لأن كيد الشيطان كان ضعيفا .
أما شيطان الإنس فهو في حاجة إلى مصانعة ومدافعة والصبر عليه ، كما يرشد إليه قوله تعالى : وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ 41 \ 35 ] .
رزقنا الله تعالى وجميع المسلمين حظا عظيما في الدنيا والآخرة ، إنه المسئول ، وخير مأمول .
روى ابن كثير حديث أبي سعيد رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يتعوذ من أعين الجن والإنس ، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما " رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
وروي عن عبد الله الأسلمي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال : " قل " : فلم أدر ما أقول . ثم قال لي : " قل " . فقلت : هو الله أحد ، ثم قال لي : قل . قلت : أعوذ برب الفلق من شر ما خلق حتى فرغت منها ، ثم قال لي قل . قلت : أعوذ برب الناس حتى فرغت منها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هكذا فتعوذ ; وما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط " .
[ ص: 191 ] والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على أفضل خلقه وأكرمهم عليه ، من اصطفاه لرسالته وشرفنا ببعثته ، وختم به رسله وكرمنا به وهدانا لاتباعه ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعلينا معهم أجمعين ، إنه سميع مجيب .
بيان الناسخ والمنسوخ من آي الذكر الحكيم
كتبها فضيلة الوالد الشيخ الأمين رحمه الله على أبيات للسيوطي في الإتقان ونقلتها عن خطه وقرأتها عليه
نص الأبيات من الإتقان :
قد أكثر الناس من المنسوخ من عدد وأدخلوا فيه أباليس تنحصر وهاك تحرير آي لا مزيد لها
عشرين حررها الحذاق والكبر ( آي التوجه 1 ) حيث المرء كان ( وأن
يوصى لأهليه 2 ) عند الموت مختصر ( وحرمة الأكل بعد النوم مع رفث 3 )
( وفدية لمطيق 4 ) الصوم مشتهر ( وحق تقواه 5 ) فيما صح من أثر
( وفي الحرام قتال 6 ) للأولى كفروا ( والاعتداد بحول مع وصيتها 7 )
( وأن يدان حديث النفس والفكر 8 ) ( والحلف 9 ) ( والحبس للزاني 10 ) ( وترك أولى
كفر 11 ) ( وإشهادهم 12 ) ( والصبر 13 ) ( والنفر 14 ) ( ومنع عقد لزان أو لزانية 15 )
( وما على المصطفى في العقد محتظر 16 ) ( ودفع مهر لمن جاءت 17 ) ( وآية نجـ
ـواه 18 ) ( كذلك قيام الليل 19 ) مستطر [ ص: 196 ] ( وزيد آية الاستئذان من ملكت 20 )
( وآية القسمة 21 ) الفضلى لمن حضروا
شرحها الشيخ رحمه الله بقوله :
1 - قوله : " آي التوجه " ، يشير إلى أن قوله تعالى : فأينما تولوا فثم وجه الله منسوخة على رأي ابن عباس بقوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام .
2 - وقوله : " وأن يوصى لأهليه " : أشار به إلى أن آية كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية . منسوخة ، قيل بآية المواريث ، وقيل بحديث : " لا وصية لوارث " ، وقيل : بالإجماع . حكاه ابن العربي .
3 - وقوله : " وحرمة الأكل بعد النوم مع رفث " يشير إلى أن آية : كتب عليكم الصيام المتضمنة حرمة الأكل والجماع بعد النوم كما في صوم من قبلنا منسوخة بآية أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم .
4 - وقوله : " وفدية لمطيق " يشير إلى أن آية وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين منسوخة بآية فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، وقيل محكمة و " لا " مقدرة ، يعني : وعلى الذين لا يطيقونه .
5 - وقوله : " وحق تقواه " يشير إلى أن قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته منسوخ بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم وقيل محكمة .
6 - وقوله : " وفي الحرام قتال " يشير إلى قوله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه وقوله : ولا الشهر الحرام منسوخان بقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة الآية . أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسرة .
7 - وقوله : " والاعتداد بحول مع وصيتها " يعني أن قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم الآية ، منسوخ بقوله : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا .
[ ص: 197 ] 8 - قوله : " وأن يدان حديث النفس والفكر " ، يشير إلى قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، منسوخ بقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
9 - قوله : " والحلف " أي المحالفة ، يشير إلى قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم منسوخة بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله الآية .
10 - وقوله : " والحبس للزاني " يشير إلى أن قوله تعالى : فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت منسوخ بقوله تعالى : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة .
11 - قوله : " وترك أولى كفر " يشير إلى قوله تعالى : فاحكم بينهم أو أعرض عنهم منسوخ بقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله .
12 - وقوله : " وإشهادهم " يشير إلى قوله تعالى : أو آخران من غيركم منسوخ بقوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم .
13 - وقوله : " والصبر " يشير به إلى قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، الآية . منسوخ بما بعده وهو قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين .
14 - قوله " والنفر " يشير إلى أن قوله تعالى : انفروا خفافا وثقالا منسوخ بقوله تعالى : ليس على الضعفاء ولا على المرضى أو ليس على الأعمى حرج الآية ، أو قوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية .
15 - قوله : " ومنع عقد لزان أو لزانية " يشير إلى قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك الآية ، منسوخ بقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم .
16 - وقوله : " وما على المصطفى في العقد محتظر " يشير إلى قوله تعالى : لا يحل لك النساء من بعد . . . الآية . منسوخ بقوله تعالى : إنا أحللنا لك أزواجك الآية .
[ ص: 198 ] 17 - قوله : " ودفع مهر لمن جاءت " يشير إلى أن قوله تعالى : فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا منسوخ ، قيل بآيات السيف ، وقيل : بآيات الغنيمة .
18 - وقوله " وآية نجواه " يشير إلى أن قوله تعالى : فقدموا بين يدي نجواكم صدقة منسوخ بقوله تعالى : فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم وبقوله فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم .
19 - وقوله : " كذلك قيام الليل " يشير إلى أن قوله : ياأيها المزمل قم الليل منسوخ بقوله تعالى : علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، وبقوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر منه .
وهذا الناسخ أيضا منسوخ بالصلوات الخمس .
20 - قوله : " وزيد آية الاستئذان من ملكت " . آية الاستئذان ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والأصح فيها عدم النسخ ، لكن تساهل الناس بالعمل بها .
21 - " وآية القسمة " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه والصحيح فيها أيضا عدم النسخ .
ومثال نسخ الناسخ آخر سورة المزمل ، فإنه منسوخ بفرض الصلوات الخمس .
وقوله انفروا خفافا وثقالا فإنه ناسخ لآية الكف ، منسوخ بآية العذر .
تمت بحول الله رسالة فضيلة الشيخ محمد الأمين المختصرة في بيان أبيات السيوطي الرمزية تقريبا في هذا الفن . وهي على إيجازها واختصارها كافية شافية للطالب الدارس أملاها علي فضيلته في ذي الحجة سنة 1373 هـ .
أما المدرس والباحث المدقق والمناقش للأقوال فإن هناك المطولات لتتمة البحث لبيان إثبات النسخ على منكريه ، وبيان حكمة النسخ وبيان أقسامه ، وقوة الناسخ من كتاب أو سنة ، ومراتبه من شدة إلى ضعف والعكس . إلى غير ذلك .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
قوله تعالى : الم ذلك الكتاب .
أشار الله تعالى إلى القرءان في هذه الآية إشارة البعيد ، وقد أشار له في آيات أخر إشارة القريب كقوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 71 9 ] ، وكقوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل الآية [ 27 76 ] .
وكقوله : وهذا كتاب أنزلناه مبارك [ 6 92 ] .
وكقوله : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن [ 12 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وللجمع بين هذه الآيات أوجه :
الوجه الأول : ما حرره بعض علماء البلاغة من أن وجه الإشارة إليه بإشارة الحاضر القريب ، أن هذا القرءان قريب حاضر في الأسماع والألسنة والقلوب ، ووجه الإشارة إليه بإشارة البعيد هو بعد مكانته ومنزلته من مشابهة كلام الخلق ، وعما يزعمه الكفار من أنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين .
الوجه الثاني : هو ما اختاره ابن جرير الطبري في تفسيره من أن ذلك إشارة إلى ما تضمنه قوله : الم ، وأنه أشار إليه إشارة البعيد لأن الكلام المشار إليه منقض ، ومعناه في الحقيقة القريب لقرب انقضائه ، وضرب له مثلا بالرجل يحدث الرجل فيقول له مرة : والله إن ذلك لكما قلت ، ومرة يقول : والله إن هذا لكما قلت ، فإشارة البعيد نظرا إلى أن الكلام مضى وانقضى ، وإشارة القريب نظرا إلى قرب انقضائه .
الوجه الثالث : أن العرب ربما أشارت إلى القريب إشارة البعيد ، فتكون الآية على [ ص: 200 ] أسلوب من أساليب اللغة العربية ، ونظيره قول خفاف بن ندبة السلمي ، لما قتل مالك بن حرملة الفزاري :
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
يعني أنا هذا ، وهذا القول الأخير حكاه البخاري عن عمر بن المثنى أبي عبيدة ، قاله ابن كثير ، وعلى كل حال فعامة المفسرين على أن ذلك الكتاب بمعنى هذا الكتاب .
قوله تعالى : لا ريب فيه .
هذه نكرة في سياق النفي ركبت مع " لا " ، فبنيت على الفتح .
والنكرة إذا كانت كذلك فهي نص في العموم ، كما تقرر في علم الأصول و " لا " هذه التي هي نص في العموم هي المعروفة عند النحويين : " لا " التي لنفي الجنس ، أما " لا " العاملة عمل ليس فهي ظاهرة في العموم لا نص فيه ، وعليه فالآية نص في نفي كل فرد من أفراد الريب عن هذا القرءان العظيم ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجود الريب فيه لبعض من الناس ، كالكفار الشاكين كقوله تعالى : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا [ 2 ] .
وكقوله : وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون [ 9 45 ] .
وكقوله : بل هم في شك يلعبون [ 44 \ 9 ] .
ووجه الجمع في ذلك أن القرءان بالغ من وضوح الأدلة وظهور المعجزة ما ينفي تطرق أي ريب إليه ، وريب الكفار فيه إنما هو لعمى بصائرهم ، كما بينه بقوله تعالى : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى [ 13 \ 19 ] ، فصرح بأن من لا يعلم أنه الحق أن ذلك إنما جاءه من قبل عماه ، ومعلوم أن عدم رؤية الأعمى للشمس لا ينافي كونها لا ريب فيها لظهورها :
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
وأجاب بعض العلماء : بأن قوله : لا ريب فيه خبر أريد به الإنشاء ، أي : لا ترتابوا فيه ، وعليه فلا إشكال .
قوله تعالى : هدى للمتقين .
خصص في هذه الآية هدى هذا الكتاب بالمتقين ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن هداه عام لجميع الناس ، وهي قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس الآية [ 2 \ 185 ] . ووجه الجمع بينهما أن الهدى يستعمل في القرءان استعمالين : أحدهما عام ، والثاني خاص ، أما الهدى العام فمعناه إبانة طريق الحق وإيضاح المحجة ، سواء سلكها المبين له أم لا ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم [ 41 \ 17 ] ، أي بينا لهم طريق الحق على لسان نبينا صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، مع أنهم لم يسلكوها بدليل قوله عز وجل : فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .
ومنه أيضا قوله تعالى : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] ، أي بينا له طريق الخير والشر ، بدليل قوله : إما شاكرا وإما كفورا [ 76 \ 3 ] .
وأما الهدى الخاص فهو تفضل الله بالتوفيق على العبد ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : أولئك الذين هدى الله الآية [ 6 ] .
وقوله : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ 6 \ 125 ] .
فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص ، وهو التفضل بالتوفيق عليهم ، والهدى العام للناس هو الهدى العام ، وهو إبانة الطريق وإيضاح المحجة ، وبهذا يرتفع الإشكال أيضا بين قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] ، مع قوله : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] ، لأن الهدى المنفي عنه صلى الله عليه وسلم هو الهدى الخاص ، لأن التوفيق بيد الله وحده : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا [ 5 \ 41 ] .
والهدى المثبت له هو الهدى العام الذي هو إبانة الطريق ، وقد بينها صلى الله عليه وسلم حتى تركها محجة بيضاء ليلها كنهارها : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] .
قوله تعالى : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون .
[ ص: 202 ] هذه الآية تدل بظاهرها على عدم إيمان الكفار ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الكفار يؤمن بالله ورسوله كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف الآية [ 8 \ 38 ] ، وكقوله : كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم [ 4 \ 94 ] ، وكقوله : ومن هؤلاء من يؤمن به [ 29 \ 47 ] .
ووجه الجمع ظاهر ، وهو أن الآية من العام المخصوص ، لأنها في خصوص الأشقياء الذين سبقت لهم في علم الله الشقاوة المشار إليهم بقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] ، ويدل لهذا التخصيص قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم الآية [ 2 \ 7 ] .
وأجاب البعض بأن المعنى لا يؤمنون ، ما دام الطبع على قلوبهم وأسماعهم والغشاوة على أبصارهم ، فإن أزال الله عنهم ذلك بفضله آمنوا .
قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم مجبورون لأن من ختم على قلبه وجعلت الغشاوة على بصره سلبت منه القدرة على الإيمان ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن كفرهم واقع بمشيئتهم وإرادتهم ، كقوله تعالى : فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .
وكقوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة [ 2 \ 175 ] .
وكقوله : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الآية [ 18 \ 29 ] ، وكقوله ذلك بما قدمت أيديكم الآية [ 3 \ 182 ] .
وكقوله : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم الآية [ 5 \ 80 ] .
والجواب أن الختم والطبع والغشاوة المجعولة على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم ، كل ذلك عقاب من الله لهم على مبادرتهم للكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم ، فعاقبهم الله بعدم التوفيق جزاء وفاقا ، كما بينه تعالى بقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] .
[ ص: 203 ] وقوله : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [ 63 \ 3 ] .
وبقوله : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة [ 6 \ 110 ] .
وقوله : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] .
وقوله : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] .
وقوله : بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ 83 \ 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية .
أفرد في هذه الآية الضمير في قوله : استوقد وفي ما حوله ، وجمع الضمير في قوله : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون [ 2 \ 17 ] ، مع أن مرجع كل هذه الضمائر شيء واحد وهو لفظة " الذي " من قوله : مثلهم كمثل الذي .
والجواب عن هذا أن لفظة : " الذي " مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها وقد تقرر في علم الأصول أن الأسماء الموصولة كلها من صيغ العموم ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن إفراد الضمير باعتبار لفظة : " الذي " وجمعه باعتبار معناها ، ولهذا المعنى جرى على ألسنة العلماء أن : " الذي " تأتي بمعنى الذين ، ومن أمثلة ذلك في القرءان هذه الآية الكريمة ، فقوله : كمثل الذي استوقد أي كمثل الذي استوقدوا بدليل قوله : ذهب الله بنورهم وتركهم الآية [ 2 \ 17 ] .
وقوله : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون الآية [ 39 \ 33 ] . وقوله : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ 2 \ 264 ] ، أي كالذين ينفقون بدليل قوله : لا يقدرون على شيء مما كسبوا [ 2 \ 264 ] .
وقوله : وخضتم كالذي خاضوا [ 9 ] ، بناء على الصحيح ، من أن : " الذي " فيها موصولة لا مصدرية ، ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز :
يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد إلا الذي قاموا بأطراف المسد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (617)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 204 إلى صـ 216
[ ص: 204 ] وقول الشاعر وهو أشهب بن رميلة ، وأنشده سيبويه لإطلاق الذي وإرادة الذين :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وزعم ابن الأنباري أن لفظة الذي في بيت أشهب جمع ألذ بالسكون ، وأن " الذي " في الآية مفرد أريد به الجمع ، وكلام سيبويه يرد عليه ، وقول عديل بن الفرخ العجلي :
وبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي
وقال بعضهم : المستوقد واحد لجماعة معه ، ولا يخفى ضعفه .
قوله تعالى : صم بكم عمي فهم لا يرجعون الآية .
هذه الآية يدل ظاهرها على أن المنافقين لا يسمعون ، ولا يتكلمون ، ولا يبصرون ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [ 2 \ 20 ] .
وكقوله : وإن يقولوا تسمع لقولهم الآية [ 63 \ 4 ] ، أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم .
وقوله فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، ووجه الجمع ظاهر ، وهو أنهم بكم عن النطق بالحق ، وإن تكلموا بغيره ، صم عن سماع الحق وإن سمعوا غيره ، عمي عن رؤية الحق وإن رأوا غيره ، وقد بين تعالى هذا الجمع بقوله : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة الآية [ 46 \ 26 ] ، لأن ما لا يغني شيئا فهو كالمعدوم ، والعرب ربما أطلقت الصمم على السماع الذي لا أثر له ، ومنه قول قعنب بن أم صاحب :
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقول الشاعر :
أصم عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد
وقول الآخر :
فأصممت عمرا وأعميته عن الجود والفخر يوم الفخار
[ ص: 205 ] وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم .
قال هبيرة بن أبي وهب المخزومي :
وإن كلام المرء في غير كنهه لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
قوله تعالى : فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة الآية .
هذه الآية تدل على أن هذه النار كانت معروفة عندهم ؛ بدليل أل العهدية ، وقد قال تعالى في سورة " التحريم " : قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة [ 66 \ 6 ] .
فتنكير النار هنا يدل على أنها لم تكن معروفة عندهم بهذه الصفات ووجه الجمع أنهم لم يكونوا يعلمون أن من صفاتها كون الناس والحجارة وقودا لها فنزلت آية " التحريم " فعرفوا منها ذلك من صفات النار ، ثم لما كانت معروفة عندهم نزلت آية " البقرة " ، فعرفت فيها النار بأل العهدية لأنها معهودة عندهم في آية " التحريم " .
ذكر هذا الجمع البيضاوي والخطيب في تفسيريهما ، وزعما أن آية " التحريم " نزلت بمكة ، وظاهر القرءان يدل على هذا الجمع لأن تعريف النار هنا بأل العهدية يدل على عهد سابق ، والموصول وصلته دليل على العهد وعدم قصد الجنس ، ولا ينافي ذلك أن سورة " التحريم " مدنية ، وأن الظاهر نزولها بعد " البقرة " .
كما روي عن ابن عباس لجواز كون الآية مكية في سورة مدنية كالعكس .
قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية .
هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء بدليل لفظة : " ثم " التي هي للترتيب والانفصال ، وكذلك آية " حم السجدة " ، تدل أيضا على خلق الأرض قبل خلق السماء لأنه قال فيها : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [ 41 \ 9 ] ، إلى أن قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ 41 \ 11 ] . مع أن آية " النازعات " تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ، لأنه قال فيها : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها [ 75 \ 27 ] . [ ص: 206 ] ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 ] .
اعلم أولا أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية " السجدة " وآية " النازعات " ، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك ، فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء ، ويدل لهذا أنه قال : والأرض بعد ذلك دحاها ولم يقل خلقها ، ثم فسر دحوه إياها بقوله : أخرج منها مآءها ومرعاها الآية [ 79 \ 31 ] . وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه ، مفهوم من ظاهر القرءان العظيم ، إلا أنه يرد عليه إشكال من آية " البقرة " هذه ، وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء .
وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية [ 21 \ 129 ] . وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال ، حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرءان العظيم ، وإيضاحه أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين ، كل منهما تدل عليه آية من القرءان :
الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء : الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود ، والعرب تسمي التقدير خلقا ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض القوم يخلق ثم لا يفري
والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير ، أنه تعالى نص على ذلك في سورة " فصلت " حيث قال : وقدر فيها أقواتها [ 41 \ 11 ] ، ثم قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ 41 \ 11 ] .
الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مدحوة ، وهي أصل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا ، والدليل من القرءان على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، وإن لم يكن موجودا بالفعل .
[ ص: 207 ] قوله تعالى : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة [ 7 \ 11 ] .
قوله : خلقناكم ثم صورناكم بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم .
وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 ] ، أي مع ذلك ، فلفظة " بعد " بمعنى مع ، ونظيره قوله تعالى : عتل بعد ذلك زنيم [ 68 \ 13 ] .
وعليه فلا إشكال في الآية ، ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة ، وبها قرأ مجاهد : " والأرض مع ذلك دحاها " ، وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض ، وهو خلاف التحقيق منها أن " ثم " بمعنى الواو ، ومنها أنها للترتيب الذكري كقوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا الآية [ 90 \ 17 ] .
قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات الآية .
أفرد هنا تعالى لفظ " السماء " ، ورد عليه الضمير بصيغة الجمع ، في قوله : " فسواهن " ، وللجمع بين ضمير الجمع ومفسره المفرد وجهان :
الأول : أن المراد بالسماء جنسها الصادق بسبع سماوات ، وعليه فأل جنسية .
الثاني : أنه لا خلاف بين أهل اللسان العربي في وقوع إطلاق المفرد وإرادة الجمع مع تعريف المفرد وتنكيره وإضافته ، وهو كثير في القرءان العظيم وفي كلام العرب . فمن أمثلته في القرآن واللفظ معرف ، قوله تعالى : وتؤمنون بالكتاب كله [ 3 \ 119 ] ، أي بالكتب كلها بدليل قوله تعالى : كل آمن بالله وملائكته وكتبه [ 2 \ 285 ] ، وقوله وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب [ 42 \ 15 ] ، قوله تعالى : سيهزم الجمع ويولون الدبر ، [ 54 \ 45 ] ، يعني الأدبار ، كما هو ظاهر ، وقوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة [ 25 ] ، يعني الغرف ، بدليل قوله تعالى : لهم غرف من فوقها غرف مبنية [ 39 \ 20 ] وقوله تعالى : وهم في الغرفات آمنون ، [ 34 \ 37 ] ، وقوله تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا ، [ 89 \ 22 ] ، أي الملائكة ، بدليل قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، [ 2 \ 210 ] ، وقوله تعالى : أو الطفل الذين لم يظهروا ، الآية [ 24 \ 31 ] ، يعني الأطفال الذين لم يظهروا ، وقوله تعالى : هم العدو فاحذرهم [ ص: 208 ] الآية [ 63 \ 4 ] ، يعني الأعداء .
ومن أمثلته واللفظ منكر ، قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر [ 54 \ 54 ] يعني وأنهار ، بدليل قوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن الآية [ 47 \ 15 ] ، وقوله تعالى : واجعلنا للمتقين إماما [ 25 ] ، يعني أئمة ، وقوله تعالى : مستكبرين به سامرا تهجرون يعني سامرين ، وقوله : ثم نخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] ، يعني أطفالا ، وقوله : لا نفرق بين أحد منهم [ 2 \ 136 ] ، أي بينهم ، وقوله تعالى : وحسن أولئك رفيقا [ 4 ] أي رفقاء ، وقوله : وإن كنتم جنبا فاطهروا [ 5 \ 6 ] ، أي جنبين أو أجنابا ، وقوله : والملائكة بعد ذلك ظهير [ 66 \ 4 ] ، أي مظاهرون لدلالة السياق فيها كلها على الجمع . واستدل سيبويه لهذا بقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا [ 4 \ 4 ] أي أنفسا .
ومن أمثلته واللفظ مضاف قوله تعالى : إن هؤلاء ضيفي [ 15 \ 68 ] الآية ، يعني أضيافي ، وقوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية [ 24 \ 63 ] ، أي أوامره .
وأنشد سيبويه لإطلاق المفرد وإرادة الجمع قول الشاعر ، وهو علقمة بن عبدة التميمي :
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
يعني وأما جلودها فصليبة .
وأنشد له أيضا قول الآخر :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
يعني في بعض بطونكم .
ومن شواهده قول عقيل بن علفة المري :
وكان بنو فزارة شر عم وكنت لهم كشر بني الأخينا
يعني شر أعمام ، وقول العباس بن مرداس السلمي :
فقلنا أسلموا إنا أخوكم وقد سلمت من الإحن الصدور
[ ص: 209 ] يعني إنا إخوانكم ، وقول الآخر :
يا عاذلاتي لا تردن ملامة إن العواذل ليس لي بأمير
يعني لسن لي بأمراء .
وهذا في النعت بالمصدر مطرد كقول زهير :
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم هم بيننا هم رضى وهم عدل
ولأجل مراعاة هذا لم يجمع في القرءان السمع والطرف والضيف لأن أصلها مصادر كقوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم [ 2 \ 7 ] ، وقوله : لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ، [ 14 \ 43 ] ، وقوله تعالى : ينظرون من طرف خفي [ 42 \ 45 ] ، وقوله : إن هؤلاء ضيفي [ 15 \ 68 ] .
قوله تعالى : ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة الآية .
يتوهم معارضته مع قوله : حيث شئتما [ 2 \ 35 ] .
والجواب : أن قوله : " اسكن " أمر بالسكنى لا بالسكون الذي هو ضد الحركة ، فالأمر باتخاذ الجنة مسكنا لا ينافي التحرك فيها وأكلهما من حيث شاءا .
قوله تعالى : ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا الآية .
جاء في هذه الآية بصيغة خطاب الجمع في قوله : " ولا تكونوا " و " لا تشتروا " .
وقد أفرد لفظة " كافر " ، ولم يقل ولا تكونوا أول كافرين . ووجه الجمع بين الإفراد والجمع في شيء واحد ، أن معنى : " ولا تكونوا أول كافر " أي أول فريق كافر ، فاللفظ مفرد والمعنى جمع ، فيجوز مراعاة كل منها ، وقد جمع اللغتين قول الشاعر :
فإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع
وقيل : هو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع ، كقول ابن علفة :
وكان بنو فزارة شر عم
. . . . . . . . كما تقدم قريبا .
قوله تعالى : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم . [ ص: 210 ] هذه الآية تدل بظاهرها على أن الظن يكفي في أمور المعاد ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى : إن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 10 \ 36 ] وكقوله : إن هم إلا يظنون [ 2 \ 78 ] ووجه الجمع أن الظن بمعنى اليقين والعرب تطلق الظن بمعنى اليقين ومعنى الشك ، وإتيان الظن بمعنى اليقين كثير في القرءان وفي كلام العرب . فمن أمثلته في القرءان هذه الآية ، وقوله تعالى قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة . . . . . . الآية [ 2 \ 249 ] ، وقوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] ، أي أيقنوا ، وقوله تعالى : إني ظننت أني ملاق حسابيه [ 69 \ 20 ] ، أي أيقنت .
ونظيره من كلام العرب قول عميرة بن طارق :
بأن تغتروا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما
أي أجعل مني اليقين غيبا .
وقول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
فقوله : ظنوا أي أيقنوا .
قوله تعالى لبني إسرائيل : وأني فضلتكم على العالمين .
لا يعارض قوله تعالى في تفضيل هذه الأمة : كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية [ 3 \ 110 ] ، لأن المراد بالعالمين عالمو زمانهم بدليل الآيات والأحاديث المصرحة بأن هذه الأمة أفضل منهم ، كحديث معاوية بن حيدة القشيري في المسانيد والسنن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله .
ألا ترى أن الله جعل المقتصد منهم هو أعلاهم منزلة حيث قال : منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون [ 5 \ 66 ] ، وجعل في هذه الأمة درجة أعلى من درجة المقتصدة وهي درجة السابق بالخيرات ، حيث قال تعالى : ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات الآية [ 35 ] .
[ ص: 211 ] قوله تعالى : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم الآية .
ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أن استحياء النساء من جملة العذاب الذي كان يسومهم فرعون ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن الإناث هبة من هبات الله لمن أعطاهن له ، وهي قوله تعالى : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور [ 42 \ 49 ] ، فبقاء بعض الأولاد على هذا خير من موتهم كلهم ، كما قال الهذيل :
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا خراش وبعض الشر أهون من بعض
والجواب عن هذا ، أن الإناث وإن كن هبة من الله لمن أعطاهن له ، فبقاؤهن تحت يد العدو يفعل بهن ما يشاء من الفاحشة والعار ، ويستخدمهن في الأعمال الشاقة نوع من العذاب ، وموتهن راحة من هذا العذاب ، وقد كان العرب يتمنون موت الإناث خوفا من مثل هذا .
قال بعض شعراء العرب في ابنة له تسمى مودة :
مودة تهوى عمر شيخ يسره لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جفوة الناس بعده ولا ختن يرجى أود من القبر
وقال الآخر :
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم
وقال بعض راجزيهم :
إني وإن سيق إلي المهر عبد وألفان وذود عشر
أحب أصهاري إلي القبر
وقال بعض الأدباء : وفي القرءان الإشارة إلى أن الإنسان يسوءه إهانة ذريته الضعاف بعد موته في قوله تعالى : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم [ 4 \ 9 ] .
[ ص: 212 ] قوله تعالى : وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الله أكرم بني إسرائيل بنوعين من أنواع الطعام ، وهما المن والسلوى ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنهم لم يكن عندهم إلا طعام واحد ، وهي قوله تعالى : وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد [ 2 \ 61 ] ، وللجمع بينهما أوجه :
الأول : أن المن وهو الترنجبين على قول الأكثرين من جنس الشراب ، والطعام الواحد هو السلوى ، وهو على قول الأكثرين السمانى أو طائر يشبهه .
الوجه الثاني : أن المجعول على المائدة الواحدة تسميه العرب طعاما واحدا وإن اختلفت أنواعه ، ومنه قولهم : أكلنا طعام فلان ، وإن كان أنواعا مختلفة . والذي يظهر أن هذا الوجه أصح من الأول لأن تفسير المن بخصوص الترنجبين يرده الحديث المتفق عليه : الكمأة من المن . . . الحديث
الثالث : أنهم سموه طعاما واحدا لأنه لا يتغير ولا يتبدل كل يوم ، فهو مأكل واحد وهو ظاهر .
قوله تعالى : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون .
هذه الآية تدل على أنهم قتلوا بعض الرسل ، ونظيرها قوله تعالى : قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم الآية [ 3 \ 183 ] .
وقوله : كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون [ 5 \ 70 ] .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن الرسل غالبون منصورون كقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] ، وكقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] ، وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [ 14 \ 13 - 14 ] ، وبين تعالى أن هذا النصر في دار الدنيا أيضا كما في هذه الآية الأخيرة ، وكما في [ ص: 213 ] قوله : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا الآية [ 40 \ 51 ] .
والذي يظهر في الجواب من هذا أن الرسل قسمان : قسم أمروا بالقتال في سبيل الله ، وقسم أمروا بالصبر والكف عن الناس ، فالذين أمروا بالقتال وعدهم الله بالنصر والغلبة في الآيات المذكورة ، والذين أمروا بالكف والصبر هم الذين قتلوا ليزيد الله رفع درجاتهم العلية بقتلهم مظلومين ، وهذا الجمع مفهوم من الآيات لأن النصر والغلبة فيه الدلالة بالالتزام على جهاد ومقاتلة ، ولا يرد على هذا الجمع قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير الآية [ 3 \ 146 ] .
وأما على قراءة " قاتل " بصيغة الماضي من فاعل فالأمر واضح ، وأما على قراءة " قتل " بالبناء للمفعول فنائب الفاعل قوله : " ربيون " لا ضمير " نبي " وتطرق الاحتمال يرد الاستدلال ، وأما على القول بأن غلبة الرسل ونصرتهم بالحجة والبرهان ، فلا إشكال في الآية ، والله أعلم .
قوله تعالى : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه الآية .
الاستفهام في هذه الآية إنكاري ومعناه النفي ، فالمعنى : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، وقد جاءت آيات أخر يفهم منها خلاف هذا ، كقوله تعالى : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا الآية [ 6 \ 144 ] .
وقوله : فمن أظلم ممن كذب على الله [ 39 ] ، وقوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه . . . . . . الآية [ 18 \ 57 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وللجمع بين هذه الآيات أوجه :
منها تخصيص كل موضع بمعنى صلته ، أي لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وإذا تخصصت بصلاتها زال الإشكال .
ومنها أن التخصيص بالنسبة إلى السبق ، أي لما لم يسبقهم أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقهم ، وهذا يؤول معناه إلى ما قبله ، لأن المراد السبق إلى المانعية والافترائية مثلا .
[ ص: 214 ] ومنها ، وادعى أبو حيان أنه الصواب ، هو ما حاصله أن نفي التفضيل لا يستلزم نفي المساواة ، فلم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنهم يتساوون في الأظلمية ، فيصير المعنى : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، ومن افترى على الله كذبا ، ومن كذب بآيات الله ، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ، ولا يدل على أن أحدهم أظلم من الآخر ، كما إذا قلت : لا أحد أفقه من فلان وفلان مثلا . ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان .
وما ذكره بعض المتأخرين من أن الاستفهام في قوله : " " ومن أظلم " المقصود منه التهويل والتفظيع من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ولا نفيها عن غيره ، كما ذكره عنه صاحب الإتقان ، يظهر ضعفه لأنه خلاف ظاهر القرءان .
قوله تعالى : ولله المشرق والمغرب . . . . . الآية .
أفرد في هذه الآية المشرق والمغرب وثناهما في سورة " الرحمن " في قوله : رب المشرقين ورب المغربين [ 55 \ 17 ] ، وجمعهما في سورة " سأل سائل " في قوله : فلا أقسم برب المشارق والمغارب [ 70 \ 40 ] ، وجمع المشارق في سورة " الصافات " في قوله : رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق [ 37 \ 5 ] .
والجواب أن قوله هنا : ولله المشرق والمغرب المراد به جنس المشرق والمغرب ، فهو صادق بكل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستون ، وكل مغرب من مغاربها التي هي كذلك ، كما روي عن ابن عباس وغيره .
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية ما نصه :
وإنما معنى ذلك : " ولله المشرق " الذي تشرق منه الشمس كل يوم " والمغرب " الذي تغرب فيه كل يوم ، فتأويله إذا كان ذلك معناه : والله ما بين قطري المشرق وقطري المغرب إذا كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحلول الذي بعده وكذلك غروبها ، انتهى منه بلفظه .
وقوله : رب المشرقين ورب المغربين يعني مشرق الشتاء ومشرق الصيف ومغربهما ، كما عليه الجمهور ، وقيل : مشرق الشمس والقمر ومغربهما ، وقوله : برب المشارق والمغارب : [ ص: 215 ] أي مشارق الشمس ومغاربها كما تقدم ، وقيل مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون .
عبر في هذه الآية بـ : " ما " الموصولة الدالة على غير العقلاء ، ثم عبر في قوله : " قانتون " بصيغة الجمع المذكر الخاص بالعقلاء .
ووجه الجمع أن ما في السماوات والأرض من الخلق منه العاقل وغير العاقل ، فغلب في الاسم الموصول غير العاقل ، وغلب في صيغة الجمع العاقل ، والنكتة في ذلك أنه قال : بل له ما في السماوات والأرض ، وجميع الخلائق بالنسبة لملك الله إياهم سواء عاقلهم وغيره ، فالعاقل في ضعفه وعجزه بالنسبة إلى ملك الله كغير العاقل ، ولما ذكر القنوت ، وهو الطاعة وكان أظهر في العقلاء من غيرهم ، عبر بما يدل على العقلاء تغليبا لهم .
قوله تعالى : قد بينا الآيات لقوم يوقنون [ 2 \ 118 ] .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن البيان خاص بالموقنين .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أن البيان عام لجميع الناس كقوله تعالى كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون [ 2 \ 187 ] ، وكقوله : هذا بيان للناس [ 3 \ 138 ] ، ووجه الجمع أن البيان عام لجميع الخلق ، إلا أنه لما كان الانتفاع به خاصا بالمتقين ، خص في هذه الآية بهم لأن ما لا نفع فيه كالعدم ، ونظيرها قوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] وقوله : إنما تنذر من اتبع الذكر الآية [ 36 \ 11 ] ، مع أنه منذر للأسود والأحمر ، وإنما خص الإنذار بمن يخشى ومن يتبع الذكر لأنه المنتفع به .
قوله تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه الآية .
قوله تعالى في هذه الآية : " إلا لنعلم " يوهم أنه لم يكن عالما بمن يتبع الرسول [ ص: 216 ] ممن ينقلب على عقبيه ، مع أنه تعالى عالم بكل شيء قبل وقوعه ، فهو يعلم ما سيعمله الخلق ، كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم [ 53 ] ، وقوله تعالى : ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون [ 23 \ 63 ] : والجواب عن هذا أن معنى قوله تعالى : " إلا لنعلم " أي علما يترتب عليه الثواب والعقاب ، فلا ينافي كونه عالما به قبل وقوعه ، وقد أشار تعالى إلى أنه لا يستفيد بالاختبار علما جديدا لأنه عالم بما سيكون حيث قال تعالى : وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور [ 3 \ 154 ] . فقوله : والله عليم بذات الصدور بعد قوله : " ليبتلي " : دليل على أنه لا يفيده الاختبار علما لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك ، بل هو تعالى عالم بكل ما سيعمله خلقه وعالم بكل شيء قبل وقوعه ، كما لا خلاف فيه بين المسلمين : لا يعزب عنه مثقال ذرة الآية [ 34 \ 3 ] .
قوله تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الشهداء أحياء غير أموات ، وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء صلى الله عليه وسلم إنك ميت وإنهم ميتون [ 39 ] .
والجواب عن هذا ، أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية فتورث أموالهم وتنكح نساؤهم بإجماع المسلمين ، وهذه الموتة هي التي أخبر الله نبيه أنه يموتها صلى الله عليه وسلم .
وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصديق رضي الله عنه أنه قال لما توفي صلى الله عليه وسلم : " بأبي أنت وأمي ، والله لا يجمع عليك الله موتتين ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها " ، وقال : " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات " ، واستدل على ذلك بالقرآن ، ورجع إليه جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما الحياة التي أثبتها الله للشهداء في القرءان ، وحياته صلى الله عليه وسلم التي ثبت في الحديث أنه يرد بها السلام على من سلم عليه فكلتاهما حياة برزخية ليست معقولة لأهل الدنيا .
ما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله : ولكن لا تشعرون [ 2 \ 154 ] ، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة وتأوي [ ص: 217 ] إلى قناديل معلقة تحت العرش فهم يتنعمون بذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (618)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 217 إلى صـ 229
وأما ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسلم عليه أحد إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ، وأن الله وكل ملائكة يبلغونه سلام أمته ، فإن تلك الحياة أيضا لا يعقل حقيقتها أهل الدنيا لأنها ثابتة له صلى الله عليه وسلم ، مع أن روحه الكريمة في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى فوق أرواح الشهداء ، فتعلق هذه الروح الطاهرة التي هي في أعلى عليين بهذا البدن الشريف الذي لا تأكله الأرض يعلم الله حقيقته ولا يعلمها الخلق .
كما قال في جنس ذلك : ولكن لا تشعرون ولو كانت كالحياة التي يعرفها أهل الدنيا لما قال الصديق رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مات ، ولما جاز دفنه ولا نصب خليفة غيره ، ولا قتل عثمان ولا اختلف أصحابه ولا جرى على عائشة ما جرى ، ولسألوه عن الأحكام التي اختلفوا فيها بعده كالعول ، وميراث الجد والإخوة ، ونحو ذلك .
وإذا صرح القرءان بأن الشهداء أحياء في قوله تعالى : بل أحياء ، وصرح بأن هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدنيا بقوله : ولكن لا تشعرون ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السلام ويرده ، وأصحابه الذين دفنوه صلى الله عليه وسلم لا تشعر حواسهم بتلك الحياة ، عرفنا أنها حياة لا يعقلها أهل الدنيا أيضا ، ومما يقرب هذا للذهن حياة النائم ، فإنه يخالف الحي في جميع التصرفات مع أنه يدرك الرؤيا ، ويعقل المعاني ، والله تعالى أعلم .
قال ابن القيم في كتاب الروح ما نصه : ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى الله عليه وسلم في الأرض طري مطرا ، وقد سأله الصحابة : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ فقال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ولو لم يكن جسده في ضريحه ، لما أجاب بهذا الجواب .
وقد صح عنه أن الله وكل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام .
وصح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال : هكذا نبعث ، هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء .
وقد صح عنه أنه رأى موسى يصلي في قبره ليلة الإسراء ورآه في السماء السادسة أو السابعة ، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه ، وتعلق به بحيث [ ص: 218 ] يصلي في قبره ويرد سلام من يسلم عليه ، وهي في الرفيق الأعلى ولا تنافي بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان . انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم بلفظه . وهو يدل على أن الحياة المذكورة غير معلومة الحقيقة لأهل الدنيا ، قال تعالى : بل أحياء ولكن لا تشعرون والعلم عند الله .
قوله تعالى : أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن الكفار لا عقول لهم أصلا ، لأن قوله : " شيئا " نكرة في سياق النفي ، فهي تدل على العموم ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الكفار لهم عقول يعقلون بها في الدنيا كقوله تعالى : وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين [ 29 38 ] .
والجواب أنهم يعقلون أمور الدنيا دون أمور الآخرة ، كما بينه تعالى بقوله : وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ 30 6 - 7 ] .
قوله تعالى : إنما حرم عليكم الميتة والدم الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن جميع أنواع الدم حرام ، ومثلها قوله تعالى في سورة " النحل " : إنما حرم عليكم الميتة والدم الآية [ 16 115 ] .
وقد ذكر في آية أخرى ما يدل على أن الدم لا يحرم إلا إذا كان مسفوحا ، وهي قوله تعالى في سورة " الأنعام " : إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا الآية [ 6 \ 145 ] .
والجواب أن هذه المسألة من مسائل تعارض المطلق والمقيد ، والجاري على أصول مالك والشافعي وأحمد حمل المطلق على المقيد لا سيما مع اتحاد الحكم والسبب ، كما هنا ، وسواء عندهم تأخر المطلق عن المقيد كما هنا أو تقدم ، وإنما قلنا هنا إن المطلق متأخر عن المقيد ، لأن القيد في سورة " الأنعام " ، وهي نزلت قبل " النحل " مع أنهما مكيتان إلا آيات معروفة ، والدليل على أن " الأنعام " قبل " النحل " ، قوله تعالى في " النحل " : وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك الآية [ 16 \ 118 ] ، والمراد به ما قص [ ص: 219 ] عليه في " الأنعام " بقوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية [ 6 146 ] .
وأما كون " الأنعام " نزلت قبل " البقرة " و " المائدة " فواضح ، لأن " الأنعام " مكية بالإجماع إلا آيات منها ، و " البقرة " مدنية بالإجماع و " المائدة " من آخر ما نزل من القرآن ولم ينسخ منها شيء لتأخرها .
وعلى هذا فالدم إذا كان غير مسفوح كالحمرة التي تظهر في القدر من أثر تقطيع اللحم فهو ليس بحرام لحمل المطلق على المقيد ، وعلى هذا كثير من العلماء ، وما ذكرنا من عدم النسخ في " المائدة " ، قال به جماعة وهو على القول بأن قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم الآية [ 5 42 ] .
وقوله : أو آخران من غيركم [ 5 106 ] غير منسوخين صحيح ، وعلى القول بنسخهما لا يصح على الإطلاق ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الله لا يكلم الكفار يوم القيامة ، لأن قوله تعالى : ولا يكلمهم فعل في سياق النفي ، وقد تقرر في علم الأصول أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم ، وسواء كان الفعل متعديا أو لازما على التحقيق ، خلافا للغزالي القائل بعمومه في المتعدي دون اللازم ، وخلاف الإمام أبي حنيفة رحمه الله في ذلك خلاف في حال لا في حقيقة لأنه يقول : إن الفعل في سياق النفي ليس صيغة للعموم ، ولكنه يدل عليه بالالتزام ، أي لأنه يدل على نفي الحقيقة ونفيها يلزمه نفي جميع الأفراد .
فقوله : لا أكلت مثلا ينفي حقيقة أكل فيلزمه نفي جميع أفراده ، وإيضاح عموم الفعل في سياق النفي أن الفعل ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين ، وعن مصدر وزمن ونسبة عند بعض البلاغيين ، فالمصدر داخل في معناه إجماعا ، فالنفي داخل على الفعل ينفي المصدر الكامن في الفعل فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي .
ومن العجيب أن أبا حنيفة رحمه الله يوافق الجمهور على أن الفعل في سياق النفي إن أكد بمصدر نحو لا شربت شربا مثلا أفاد العموم ، مع أنه لا يوافق على إفادة النكرة في سياق النفي للعموم .
[ ص: 220 ] وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الله يكلم الكفار يوم القيامة كقوله تعالى : ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 107 - 108 ] .
والجواب عن هذا بأمرين :
الأول : وهو الحق ، أن الكلام الذي نفى الله أنه يكلمهم به هو الكلام الذي فيه خير ، وأما التوبيخ والتقريع والإهانة ، فكلام الله لهم به من جنس عذابه لهم ، ولم يقصد بالنفي في قوله : " ولا يكلمهم " .
الثاني : أنه لا يكلمهم أصلا وإنما تكلمهم الملائكة بإذنه وأمره .
قوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن القصاص أمر حتم لا بد منه ، بدليل قوله تعالى : " كتب عليكم " لأن معناه فرض وحتم عليكم ، مع أنه تعالى ذكر أيضا أن القصاص ليس بمتعين ، لأن ولي الدم بالخيار ، في قوله تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء الآية [ 2 \ 178 ] .
والجواب ظاهر ، وهو أن فرض القصاص وإلزامه فيما إذا لم يعف أولياء الدم أو بعضهم ، كما يشير إليه قوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل الآية [ 17 \ 33 ] .
قوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية .
هذه الآية تعارض آيات المواريث بضميمة بيان النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن المقصود منها إبطال الوصية للوارثين منهم ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث .
والجواب ظاهر ، وهو أن آية الوصية هذه منسوخة بآيات المواريث ، والحديث المذكور بيان للناسخ ، وذهب بعض العلماء إلى أنها محكمة لا منسوخة ، وانتصر لهذا القول ابن حزم غاية الانتصار ؟ وعلى القول بأنها محكمة فهي من العام المخصوص ، فالوالدان والأقربون الذين لا يرثون لا وصية لهم ، بدليل آيات المواريث والحديث ، وأما [ ص: 221 ] الوالدان اللذان لا ميراث لهما كالرقيقين ، والأقارب الذين لا يرثون فتجب لهم الوصية على هذا القول ، ولكن مذهب الجمهور خلافه .
وحكى العبادي في الآيات البينات الإجماع على أنها منسوخة ، مع أن جماعة من العلماء قالوا بعدم النسخ .
قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق أن النسخ واقع فيها يقينا في البعض ، لأن الوصية للوالدين الوارثين والأقارب الوارثين رفع حكمها بعد تقرره إجماعا ، وذلك نسخ في البعض لا تخصيص ، لأن التخصيص قصر العام على بعض أفراده الدليل ، أما رفع حكم معين بعد تقرره فهو نسخ لا تخصيص كما هو ظاهر ، وقد تقرر في علم الأصول أن تخصيص بعض العمل بالعام نسخ ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود :
وإن أتى ما خص بعد العمل نسخ والغير مخصصا جلى
والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن القادر على صوم رمضان مخير بين الصوم والإطعام ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على تعيين وجوب الصوم ، وهي قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه الآية [ 2 185 ] .
والجواب عن هذا بأمرين :
أحدهما : وهو الحق ، أن قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية منسوخ بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه الآية [ 2 185 ] .
الثاني : أن معنى " يطيقونه " لا يطيقونه بتقدير لا النافية ، وعليه فتكون الآية محكمة ، ويكون وجوب الإطعام على العاجز عن الصوم كالهرم والزمن ، واستدل لهذا القول بقراءة بعض الصحابة " يطوقونه " بفتح الياء وتشديد الطاء والواو المفتوحتين بمعنى يتكلفونه مع عجزهم عنه ، وعلى هذا القول فيجب على الهرم ونحوه الفدية وهو اختيار البخاري ، مستدلا بفعل أنس بن مالك رضي الله عنه .
قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا الآية .
[ ص: 222 ] هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم لم يؤمروا بقتال الكفار إلا إذا قاتلوهم ، وقد جاءت آيات أخر تدل على وجوب قتال الكفار مطلقا قاتلوا أم لا ، كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 2 193 ] .
وقوله : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد [ 9 5 ] .
وكقوله تعالى : تقاتلونهم أو يسلمون [ 48 6 ] .
والجواب عن هذا بأمور :
الأول : وهو أحسنها وأقربها ، أن المراد بقوله : " الذين يقاتلونكم " تهييج المسلمين وتحريضهم على قتال الكفار ، فكأنه يقول لهم : هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم وأعداؤكم الذين يقاتلونكم ، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [ 9 36 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
الوجه الثاني : أنها منسوخة بقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وهذا من جهة النظر ظاهر حسن جدا ، وإيضاح ذلك أن من حكمة الله البالغة في التشريع ، أنه إذا أراد تشريع أمر عظيم على النفوس ربما يشرعه تدريجا لتخف صعوبته بالتدريج ، فالخمر مثلا لما كان تركها شاقا على النفوس التي اعتادتها ، ذكر أولا بعض معائبها بقوله : قل فيهما إثم كبير [ 2 219 ] .
ثم بعد ذلك حرمها في وقت دون وقت ، كما دل عليه قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية [ 2 43 ] .
ثم لما استأنست النفوس بتحريمها في الجملة حرمها تحريما باتا بقوله : رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [ 5 90 ] .
وكذلك الصوم لما كان شاقا على النفوس شرعه أولا على سبيل التخيير بينه وبين الإطعام ثم رغب في الصوم مع التخيير بقوله : وأن تصوموا خير لكم [ 2 184 ] ، ثم لما استأنست به النفوس أوجبه إيجابا حتما بقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه الآية [ 2 185 ] .
[ ص: 223 ] وكذلك القتال على هذا القول شاق على النفوس ، أذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الآية [ 22 39 ] .
ثم أوجب عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم .
ثم استأنست نفوسهم بالقتال أوجبه عليهم إيجابا عاما بقوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم الآية .
الوجه الثالث : وهو اختيار ابن جرير ، ويظهر لي أنه الصواب ، أن الآية محكمة وأن معناها : قاتلوا الذين يقاتلونكم ، أي من شأنهم أن يقاتلوكم .
أما الكافر الذي ليس من شأنه القتال كالنساء والذراري والشيوخ الفانية والرهبان وأصحاب الصوامع ، ومن ألقى إليكم السلم فلا تعتدوا بقتالهم لأنهم لا يقاتلونكم ، ويدل لهذا الأحاديث المصرحة بالنهي عن قتل الصبي ، وأصحاب الصوامع ، والمرأة والشيخ الهرم إذا لم يستعن برأيه .
وأما صاحب الرأي فيقتل كدريد بن الصمة ، وقد فسر هذه الآية بهذا المعنى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وابن عباس والحسن البصري .
قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم الآية .
هذه الآية تدل على طلب الانتقام ، وقد أذن الله في الانتقام في آيات كثيرة كقوله تعالى : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس الآية [ 42 41 ] .
وكقوله : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ 4 148 ] .
وكقوله ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله الآية [ 22 \ 60 ] .
وقوله : والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون [ 42 39 ] .
وقوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 40 ] .
[ ص: 224 ] وقد جاءت آيات أخر تدل على العفو وترك الانتقام ، كقوله : فاصفح الصفح الجميل [ 15 85 ] .
وقوله : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس [ 3 134 ] .
وكقوله : ادفع بالتي هي أحسن [ 41 34 ] .
وقوله : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 43 ] .
وقوله : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ 7 199 ] .
وكقوله : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 63 ] .
والجواب عن هذا بأمرين :
أحدهما : أن الله بين مشروعية الانتقام ، ثم أرشد إلى أفضلية العفو ، ويدل لهذا قوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 126 ] ، وقوله : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ 4 \ 148 ] ، فأذن في الانتقام بقوله : " إلا من ظلم " .
ثم أرشد إلى العفو بقوله : إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 149 ] .
الوجه الثاني : أن الانتقام له موضع يحسن فيه ، والعفو له موضع كذلك ، وإيضاحه أن من المظالم ما يكون في الصبر عليه انتهاك حرمة الله ، ألا ترى أن من غصبت منه جاريته مثلا إذا كان الغاصب يزني بها فسكوته وعفوه عن هذه المظلمة قبيح وضعف وخور تنتهك به حرمات الله ، فالانتقام في مثل هذا واجب ، وعليه يحمل الأمر في قوله : فاعتدوا الآية .
أي كما إذا بدأ الكفار بالقتال فقتالهم واجب ، بخلاف من أساء إليه بعض إخوانه المسلمين بكلام قبيح ونحو ذلك ، فعفوه أحسن وأفضل ، وقد قال أبو الطيب المتنبي :
إذا قيل حلم فللحلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهل
[ ص: 225 ] قوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الردة لا تحبط العمل إلا بقيد الموت على الكفر ، بدليل قوله : فيمت وهو كافر .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الردة تحبط العمل مطلقا ، ولو رجع إلى الإسلام فكل ما عمل قبل الردة أحبطته الردة ، كقوله تعالى : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله الآية [ 5 5 ] .
وقوله : لئن أشركت ليحبطن عملك الآية [ 39 \ 65 ] .
وقوله : ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [ 6 \ 88 ] .
والجواب عن هذا أن هذه من مسائل تعارض المطلق والمقيد ، فيحمل المطلق على المقيد ، فتقيد الآيات المطلقة بالموت على الكفر وهذا مقتضى الأصول ، وعليه الإمام الشافعي ومن وافقه ، وخالف مالك في هذه المسألة وقدم آيات الإطلاق ، وقول الشافعي في هذه المسألة أجرى على الأصول ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على تحريم نكاح كل كافرة ، ويدل لذلك أيضا قوله تعالى : ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ 60 \ 10 ] ، وقد جاءت آية أخرى تدل على جواز نكاح بعض الكافرات وهن الحرائر والكتابيات وهي قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب [ 5 \ 5 ] .
والجواب أن هذه الآية الكريمة تخصص قوله : ولا تنكحوا المشركات أي ما لم يكن كتابيات بدليل قوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب وحكى ابن جرير الإجماع على هذا .
وأما ما روي عن عمر من إنكاره على طلحة تزويج يهودية وعلى حذيفة تزويج [ ص: 226 ] نصرانية ، فإنه إنما كره نكاح الكتابيات لئلا يزهد الناس في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، قاله ابن جرير .
قوله تعالى . والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء الآية .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن كل مطلقة تعتد بالأقراء ، وقد جاء في آيات أخر أن بعض المطلقات يعتد بغير الأقراء ، كالعجائز والصغائر المنصوص عليها بقوله : واللائي يئسن من المحيض - إلى قوله - واللائي لم يحضن [ 65 4 ] وكالحوامل المنصوص عليها بقوله : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 4 ] ، مع أنه جاء في آية أخرى أن بعض المطلقات لا عدة عليهن أصلا ، وهن المطلقات قبل الدخول ، وهي قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها الآية [ 33 \ 49 ] .
والجواب عن هذا ظاهر وهو أن آية : " والمطلقات " عامة ، وهذه الآيات المذكورة أخص منها فهي مخصصة لها ، فهي إذا من العام المخصوص .
قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا .
هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج [ 2 240 ] ، والجواب ظاهر وهو أن الأولى ناسخة لهذه ، وإن كانت قبلها في المصحف لأنها متأخرة عنها في النزول ، وليس في القرآن آية هي الأولى في المصحف وهي ناسخة لآية بعدها فيه إلا في موضعين : أحدهما هذا الموضع ، الثاني آية : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك [ 33 50 ] ، هي الأولى في المصحف وهي ناسخة لقوله : لا يحل لك النساء من بعد الآية [ 33 52 ] ، لأنها وإن تقدمت في المصحف فهي متأخرة في النزول ، وهذا على القول بالنسخ ويأتي إن شاء الله تحرير المقام في سورة " الأحزاب " .
قوله تعالى : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .
هذه الآية تدل بظاهرها على أنه لا يكره أحد على الدخول في الدين ، ونظيرها قوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 99 ] .
[ ص: 227 ] وقوله تعالى : فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ [ 42 48 ] ، وقد جاء في آيات كثيرة ما يدل على إكراه الكفار على الدخول في الإسلام بالسيف كقوله تعالى : تقاتلونهم أو يسلمون [ 48 16 ] ، وقوله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 2 193 ] ، أي شرك .
ويدل لهذا التفسير الحديث الصحيح : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله الحديث ، والجواب عن هذا بأمرين :
الأول : وهو الأصح ، أن هذه الآية في خصوص أهل الكتاب ، والمعنى أنهم قبل نزول قتالهم لا يكرهون على الدين مطلقا وبعد نزول قتالهم لا يكرهون عليه إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
والدليل على خصوصها بهم ما رواه أبو داود وابن أبي حاتم والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير ، كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فأنزل الله : لا إكراه في الدين .
المقلاة : التي لا يعيش لها ولد ، وفي المثل : أحر من دمع المقلاة .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال نزلت : لا إكراه في الدين في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له : الحصين ، كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلما ، فقال للنبي : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله الآية .
وروى ابن جرير أن سعيد بن جبير سأله أبو بشر عن هذه الآية ، فقال : نزلت في الأنصار ، فقال : خاصة ؟ قال : خاصة .
وأخرج ابن جرير عن قتادة بإسنادين في قوله : لا إكراه في الدين قال : أكره عليه هذا الحي من العرب لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه ، فلم يقبل منهم غير الإسلام ، ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج ولم يفتنوا عن دينهم فيخلى سبيلهم .
وأخرج ابن جرير أيضا عن الضحاك في قوله : لا إكراه في الدين أو قال : أمر [ ص: 228 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان فلم يقبل منهم إلا : لا إله إلا الله أو السيف ، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل منهم الجزية ، فقال : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا في قوله : لا إكراه في الدين قال : وذلك لما دخل الناس في الإسلام وأعطى أهل الكتاب الجزية ، فهذه النقول تدل على خصوصها بأهل الكتاب المعطين الجزية ومن في حكمهم ، ولا يرد على هذا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن التخصيص فيها عرف بالنقل عن علماء التفسير لا بمطلق خصوص السبب ، ومما يدل للخصوص أنه ثبت في الصحيح : عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل .
الأمر الثاني : أنها منسوخة بآيات القتال كقوله : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الآية [ 9 5 ] ، ومعلوم أن سورة " البقرة " من أول ما نزل بالمدينة ، وسورة " براءة " من آخر ما نزل بها ، والقول بالنسخ مروي عن ابن مسعود وزيد بن أسلم ، وعلى كل حال فآيات السيف نزلت بعد نزول السورة التي فيها : " لا إكراه " الآية ، والمتأخر أولى من المتقدم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الوسوسة وخواطر القلوب يؤاخذ بها الإنسان مع أنه لا قدرة له على دفعها ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الإنسان لا يكلف إلا بما يطيق كقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 286 ] ، وقوله : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] .
والجواب أن آية : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه منسوخة بقوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
[ ص: 229 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن من القرآن محكما ومنه متشابها .
وقد جاءت آية أخرى تدل على أن كله محكم وآية تدل على أن كله متشابه ، أما التي تدل على إحكامه كله فهي قوله تعالى : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، وأما التي تدل على أن كله متشابه فهي قوله تعالى : كتابا متشابها مثاني [ 39 \ 23 ] ، ووجه الجمع بين هذه الآيات أن معنى كونه كله محكما ، أنه في غاية الإحكام أي الإتقان في ألفاظه ومعانيه وإعجازه ، أخباره صدق وأحكامه عدل ، لا تعتريه وصمة ولا عيب ، لا في الألفاظ ولا في المعاني .
ومعنى كونه متشابها ، أن آياته يشبه بعضها بعضا في الحسن والصدق ، والإعجاز والسلامة من جميع العيوب ، ومعنى كون بعضه محكما وبعضه متشابها ، أن المحكم منه هو واضح المعنى لكل الناس كقوله : ولا تقربوا الزنا [ 17 ] ، ولا تجعل مع الله إلها آخر [ 17 \ 39 ] .
والمتشابه هو ما خفي علمه على غير الراسخين في العلم ، بناء على أن الواو في قوله تعالى : والراسخون في العلم [ 3 \ 7 ] ، عاطفة أو هو ما استأثر الله بعلمه ، كمعاني الحروف المقطعة في أوائل السور بناء على أن الواو في قوله تعالى : والراسخون في العلم استئنافية لا عاطفة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (619)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 230 إلى صـ 242
قوله تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين الآية .
[ ص: 230 ] هذه الآية الكريمة توهم أن اتخاذ الكفار أولياء ، إذا لم يكن من دون المؤمنين ، لا بأس به بدليل قوله :من دون المؤمنين .
وقد جاءت آيات أخر تدل على منع اتخاذهم أولياء مطلقا كقوله تعالى : ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [ 4 \ 89 ] ، وكقوله : لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء الآية [ 5 \ 57 ] .
والجواب عن هذا أن قوله : " من دون المؤمنين " لا مفهوم له .
وقد تقرر في علم الأصول أن دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة له موانع تمنع اعتباره ، منها كون تخصيص المنطوق بالذكر لأجل موافقته للواقع ، كما في هذه الآية لأنها نزلت في قوم والوا اليهود دون المؤمنين ، فنزلت ناهية عن الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها ، بل موالاة الكفار حرام مطلقا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة الآية .
هذه الآية تدل على أن زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس عنده شك في قدرة الله على أن يرزقه الولد على ما كان منه من كبر السن ، وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك وهي قوله تعالى : قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر الآية [ 3 \ 40 ] .
والجواب عن هذا بأمور :
الأول : ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة والسدي من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب : أن الله يبشرك بيحيى ، قال له الشيطان ليس هذا نداء الملائكة ، وإنما هو نداء الشيطان فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان ، فقال عند ذلك الشك الناشئ عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله : أنى يكون لي غلام ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله : رب اجعل لي آية الآية [ 3 \ 41 ] .
الثاني : أن استفهامه استفهام استعلام واستخبار ، لأنه لا يدري هل الله يأتيه بالولد من زوجه العجوز أم يأمره بأن يتزوج شابة أو يردهما شابين .
[ ص: 231 ] الثالث : أنه استفهام استعظام وتعجب من كمال قدرة الله تعالى ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير الآية .
هذه الآية يوهم ظاهرها أن بعض المخلوقين ربما خلق بعضهم ، ونظيرها قوله تعالى : وتخلقون إفكا الآية [ 29 \ 17 ] .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الله هو خالق كل شيء ، كقوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] ، وقوله : الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل [ 39 \ 62 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب ظاهر ، وهو أن معنى خلق عيسى كهيئة الطير من الطين هو : أخذه شيئا من الطين وجعله إياه على هيئة - أي صورة - الطير وليس المراد الخلق الحقيقي لأن الله متفرد به جل وعلا ، وقوله : وتخلقون إفكا : معناه تكذبون ، فلا منافاة بين الآيات كما هو ظاهر .
قوله تعالى : إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي الآية .
هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها وفاة عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك كقوله : وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم [ 4 \ 157 ] ، وقوله : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته الآية [ 4 \ 159 ] .
على ما فسرها به ابن عباس في إحدى الروايتين وأبو مالك والحسن وقتادة وابن . . . . . . وأبو هريرة ، ودلت على صدقه الأحاديث المتواترة ، واختاره ابن جرير وجزم ابن كثير ، بأنه الحق من أن قوله : " قبل موته " أي موت عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن قوله تعالى : " متوفيك " لا يدل على تعيين الوقت ، ولا يدل على كونه قد مضى وهو متوفيه قطعا يوما ما ، ولكن لا دليل على أن ذلك اليوم قد مضى ، وأما [ ص: 232 ] عطفه : " ورافعك " إلى قوله : " متوفيك " ، فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع ، وإنما تقتضي مطلق التشريك .
وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك ، وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق . خلافا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمر والزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه .
وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال : لم أجده في كتابه .
وقال ولي الدين : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي ، حكاه عنه صاحب الضياء اللامع .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ابدأ بما بدأ الله به يعني الصفا لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب ، وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكر عنه صاحب الضياء اللامع وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية فكذلك لا تقتضي المنع منهما ، فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 158 ] . بدليل الحديث المتقدم ، وقد يكون المعطوف بها مرتبا كقول حسان :
هجوت محمدا وأجبت عنه
على رواية الواو وقد يراد بها المعية كقوله : فأنجيناه وأصحاب السفينة [ 29 \ 15 ] ، وقوله : وجمع الشمس والقمر [ 75 \ 9 ] ، ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل .
الوجه الثاني : أن معنى " متوفيك " أي : منيمك " ورافعك إلي " ، أي : في تلك النومة .
وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار [ 6 \ 60 ] ، وقوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ 39 \ 42 ] .
وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين ، واستدل بالآيتين المذكورتين وقوله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا . . . . . الحديث .
[ ص: 233 ] الوجه الثالث : إن " متوفيك " اسم فاعل توفاه إذا قبضه وحازه إليه ، ومنه قولهم : توفى فلان دينه ، إذا قبضه إليه ، فيكون معنى " متوفيك " على هذا قابضك منهم إلي حيا .
وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياما ، ثم أحياه ، فالظاهر أنه من الإسرائيليات ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها .
قوله تعالى : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين الآية .
هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تدل على أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم يكن مشركا يوما ما ، لأن نفي الكون الماضي في قوله : وما كان من المشركين يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي كما دل عليه قوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل الآية [ 21 \ 15 ] .
وقد جاء في موضع آخر ما يوهم خلاف ذلك وهو قوله : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون الآية [ 6 - 78 ] .
ومن ظن ربوبية غير الله فهو مشرك بالله كما دل عليه قوله تعالى عن الكفار وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] .
والجواب عن هذا من وجهين : أحدهما أنه مناظر لا ناظر ومقصوده التسليم الجدلي أي : هذا ربي على زعمكم الباطل ، والمناظر قد يسلم المقدمة الباطلة تسليما جدليا ليفحم بذلك خصمه .
فلو قال لهم إبراهيم في أول الأمر : الكوكب مخلوق لا يمكن أن يكون ربا ، لقالوا له ، كذبت ، بل الكوكب رب ومما يدل لكونه مناظرا لا ناظرا :
قوله تعالى : وحاجه قومه [ 6 \ 80 ] .
وهذا الوجه هو الأظهر ، وما استدل به ابن جرير على أنه غير مناظر من قوله تعالى :
[ ص: 234 ] لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين [ 6 \ 77 ] .
لا دليل فيه على التحقيق لأن الرسل يقولون مثل ذلك تواضعا وإظهارا لالتجائهم إلى الله ، كقول إبراهيم : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] ، وقوله هو وإسماعيل : ربنا واجعلنا مسلمين لك الآية [ 2 \ 128 ] .
الوجه الثاني : أن الكلام على حذف همزة الاستفهام أي : أهذا ربي ؟ وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز ، وهو قياسي عند الأخفش مع أم ودونها ذكر الجواب أم لا ، فمن أمثلته دون أم ودون ذكر الجواب قول الكميت :
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب
يعني أو ذو الشيب يلعب ؟ وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد :
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
يعني أهم هم ، كما هو الصحيح ، وجزم به الألوسي في تفسيره ، وذكره ابن جرير عن جماعة ويدل له قوله : وأنكرت الوجوه .
ومن أمثلته دون أم مع ذكر الجواب ، قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصى والتراب
يعني أتحبها على القول الصحيح وهو مع أم كثير جدا ، ومن أمثلته قول الأسود بن يعفر التميمي وأنشده سيبويه لذلك :
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
يعني أشعيث بن سهم ؟ وقول ابن أبي ربيعة المخزومي :
بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان
يعني أبسبع ، وقول الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
[ ص: 235 ] يعني أكذبتك عينك ؟ كما نص سيبويه على جواز ذلك في بيت الأخطل هذا وإن خالف الخليل زاعما أن كذبتك صيغة خبرية ، وأن أم بمعنى بل ، ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي ، يسمى بالرجوع عند البلاغيين .
وقول الخنساء :
قذى بعينيك أم بالعين عوار أم خلت إذ أقفرت من أهلها الدار
تعني أقذى بعينيك ؟ وقول أحيحة بن الجلاح الأنصاري :
وما تدري وإن ذمرت سقبا لغيرك أم يكون لك الفصيل
يعني ألغيرك ؟ وقول امرئ القيس :
تروح من الحي أم تبتكر وماذا عليك بأن تنتظر
يعني أتروح ؟ .
وعلى هذا القول فقرينة الاستفهام المحذوف علو مقام إبراهيم عن ظن ربوبية غير الله وشهادة القرآن له بالبراءة من ذلك ، والآية على هذا القول تشبه قراءة ابن محيصن : ( سواء عليهم أنذرتهم ) [ 2 \ 6 ] ونظيرها على هذا القول قوله تعالى : أفإن مت فهم الخالدون [ 21 ] يعني أفهم الخالدون ؟ .
وقوله تعالى : وتلك نعمة تمنها [ 26 22 ] ، على أحد القولين ، وقوله : فلا اقتحم العقبة [ 90 \ 11 ] ، على أحد القولين .
وما ذكره بعض العلماء غير هذين الوجهين فهو راجع إليهما كالقول بإضمار القول ، أي يقول الكفار هذا ربي ، فإنه راجع إلى الوجه الأول .
وأما ما ذكره ابن إسحاق واختاره ابن جرير الطبري ونقله عن ابن عباس من أن إبراهيم كان ناظرا يظن ربوبية الكوكب فهو ظاهر الضعف ، لأن نصوص القرآن ترده كقوله : ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين [ 3 \ 67 ] . وقوله تعالى : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ 16 \ 123 ] ، وقوله : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل [ 21 \ 51 ] .
[ ص: 236 ] وقد بين المحقق ابن كثير في تفسيره رد ما ذكره ابن جرير بهذه النصوص القرآنية وأمثالها ، والأحاديث الدالة على مقتضاها كقوله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة " الحديث .
قوله تعالى : إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون .
هذه الآية الكريمة تدل على أن المرتدين بعد إيمانهم المزدادين كفرا لا يقبل الله توبتهم إذا تابوا لأنه عبر بلن الدالة على نفي الفعل في المستقبل مع أنه جاءت آيات أخر دالة على أن الله يقبل توبة كل تائب قبل حضور الموت وقبل طلوع الشمس من مغربها كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وقوله : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده [ 42 \ 25 ] ، وقوله : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل [ 6 \ 158 ] .
فإنه يدل بمفهومه على أن التوبة قبل إتيان بعض الآيات مقبولة من كل تائب ، وصرح تعالى بدخول المرتدين في قبول التوبة قبل هذه الآية مباشرة في قوله تعالى : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق - إلى قوله - إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم [ 3 \ 86 - 89 ] .
فالاستثناء في قوله تعالى إلا الذين تابوا راجع إلى المرتدين بعد الإيمان المستحقين للعذاب واللعنة إن لم يتوبوا ويدل له أيضا قوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر الآية [ 2 \ 217 ] .
لأن مفهومه أنه تاب قبل الموت قبلت توبته مطلقا ، والجواب من أربعة أوجه :
الأول : وهو اختيار ابن جرير ونقله عن رفيع أبي العالية أن المعنى : إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم حتى يتوبوا من كفرهم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : وأولئك هم الضالون لأنه يدل على أن توبتهم مع بقائهما على ارتكاب الضلال وعدم قبولها حينئذ ظاهر .
[ ص: 237 ] الثاني : وهو أقربها عندي ، أن قوله تعالى : لن تقبل توبتهم يعني إذ تابوا عند حضور الموت ، ويدل لهذا الوجه أمران :
الأول : أنه تعالى بين في مواضع أخر أن الكافر الذي لا تقبل توبته هو الذي يصر على الكفر حتى يحضره الموت فيتوب في ذلك الوقت ، كقوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار [ 4 18 ] .
فجعل التائب عند حضور الموت والميت على كفره سواء .
وقوله تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية [ 40 \ 85 ] .
وقوله في فرعون : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 91 ] .
فالإطلاق الذي في هذه الآية يقيد بقيد تأخير التوبة إلى حضور الموت لوجوب حمل المطلق على المقيد ، كما تقرر في الأصول .
والثاني : أنه تعالى أشار إلى ذلك بقوله : ثم ازدادوا كفرا فإنه يدل على عدم توبتهم في وقت نفعها ونقل ابن جرير هذا الوجه الثاني الذي هو التقييد بحضور الموت عن الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي .
الثالث : أن معنى لن تقبل توبتهم أي إيمانهم الأول ، لبطلانه بالردة بعده ، ونقل خرجه ابن جرير هذا القول عن ابن جريح ولا يخفى ضعف هذا القول وبعده عن ظاهر القرآن .
الرابع : أن المراد بقوله : لن تقبل توبتهم أنهم لم يوفقوا للتوبة النصوح حتى تقبل منهم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [ 4 \ 137 ] .
فإن قوله تعالى : ولا ليهديهم سبيلا ، يدل على أن عدم غفرانه لهم لعدم توفيقهم للتوبة والهدى .
كقوله : إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم [ 4 \ 168 ] .
[ ص: 238 ] وكقوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون الآية [ 10 \ 96 ] .
ونظير الآية على هذا القول قوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين [ 74 \ 48 ] ، أي لا شفاعة لهم أصلا حتى تنفعهم ، وقوله تعالى : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية [ 23 \ 117 ] .
لأن الإله الآخر لا يمكن وجوده أصلا ، حتى يقوم عليه برهان أو لا يقوم عليه .
قال مقيده عفا الله عنه : مثل هذا الوجه الأخير هو المعروف عند النظار ، بقولهم السالبة لا تقضي بوجود الموضوع ، وإيضاحه أن القضية السالبة عندهم صادقة في صورتين ، لأن المقصود منها عدم اتصاف الموضوع بالمحمول وعدم اتصافه به يتحقق في صورتين :
الأولى : أن يكون الموضوع موجودا إلا أن المحمول منتف عنه ، كقولك : ليس الإنسان بحجر ، فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه .
والثانية : أن يكون الموضوع من أصله معدوما لأنه إذا عدم تحقق عدم اتصافه بالمحمول الموجودي ، لأن العدم لا يتصف بالوجود كقولك : لا نظير لله يستحق العبادة ، فإن الموضوع الذي هو النظير ليس مستحيلا من أصله ، وإذا تحقق عدمه تحقق انتفاء اتصافه باستحقاق العبادة ضرورة وهذا النوع من أساليب اللغة العربية ، ومن شواهده قول امرئ القيس :
على لاحب لا يهتدي بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا
لأن المعنى على لاحب لا منار له أصلا حتى يهتدى به .
وقول الآخر :
لا تفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر
لأنه يصف فلاة بأنها ليس فيها أرانب ولا ضباب حتى تفزع أهوالها الأرنب ، أو ينجحر فيها الضب أي يدخل الجحر أو يتخذه ، وقد أوضحت مسألة أن السالبة لا تقتضي وجود الموضوع في أرجوزتي في المنطق في مبحث انحراف السور ، وأوضحت فيها أيضا في مبحث التحصيل والعدول أن من الموجبات ما لا يقتضي وجود الموضوع نحو : بحر من زئبق ممكن ، والمستحيل معدوم فإنها موجبتان وموضوع كل منهما معدوم ، وحررنا [ ص: 239 ] هناك التفصيل فيما يقتضي وجود الموضوع وما لا يقتضيه ، وهذا الذي قررنا من أن المرتد إذا تاب قبلت توبته ولو بعد تكرر الردة ثلاث مرات أو أكثر ، لا منافاة بينه وبين ما قاله جماعة من العلماء الأربعة وغيرهم ، وهو مروي عن علي وابن عباس : من أن المرتد إذا تكرر منه ذلك يقتل ولا تقبل توبته ، واستدل بعضهم على ذلك بهذه الآية ، لأن هذا الخلاف في تحقيق المناط مع اتفاقهما على أصل المناط ، وإيضاحه أن المناط مكان النوط وهو التعليق ، ومنه قول حسان رضي الله عنه :
وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
والمراد به مكان تعليق الحكم ، وهو العلة فالمناط والعلة مترادفان اصطلاحا إلا أنه غلب التعبير بلفظ المناط في المسلك الخامس من مسالك العلة ، الذي هو المناسبة والإحالة فإنه يسمى تخريج المناط وكذلك في المسلك التاسع الذي هو تنقيح المناط ، فتخريج المناط هو استخراج العلة بمسلك المناسبة والإحالة ، وتنقيح المناط هو تصفية العلة وتهذيبها حتى لا يخرج شيء صالح لها ولا يدخل شيء غير صالح لها ، كما هو معلوم في محله ، وأما تحقيق المناط وهو الغرض هنا فهو أن يكون مناط الحكم متفقا عليه بين الخصمين .
إلا أن أحدهما يقول هو موجود في هذا الفرع .
والثاني : يقول : لا ومثاله الاختلاف في قطع النباش ، فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يوافق الجمهور على أن السرقة هي مناط القطع ، ولكنه يقول لم يتحقق المناط في النباش لأنه غير سارق ، بل هو آخذ مال عارض للضياع كالملتقط من غير حرز ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن مراد القائلين أنه لا تقبل توبته ، أن أفعاله دالة على خبث نيته وفساد عقيدته وأنه ليس تائبا في الباطل توبة نصوحا فهم موافقون على التوبة النصوح مناط القبول كما ذكرنا ، ولكن يقولون أفعال هذا الخبيث دلت على عدم تحقيق المناط .
ومن هنا اختلف العلماء في توبة الزنديق أعني المستسر بالكفر ، فمن قائل لا تقبل توبته ومن قائل تقبل ومن مفرق بين إتيانه تائبا قبل الاطلاع عليه وبين الاطلاع على نفاقه قبل التوبة ، كما هو معروف في فروع مذاهب الأئمة الأربعة لأن الذين يقولون يقتل ولا تقبل توبته يرون أن نفاقه الباطل دليل على أن توبته تقية لا حقيقة واستدلوا بقوله تعالى : إلا الذين تابوا وأصلحوا [ 2 160 ] .
[ ص: 240 ] فقالوا : الإصلاح شرط والزنديق لا يطلع على إصلاحه ، لأن الفساد إنما أتى مما أسره فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع لم يزل في الباطن على ما كان عليه ، والذي يظهر أن أدلة القائلين بقبول توبته مطلقا أظهر وأقوى ، كقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه : هلا شققت عن قلبه ، وقوله للذي ساره في قتل رجل قال : أليس يصلي ؟ قال : بلى . قال : أولئك الذين نهيت عن قتلهم ، وقوله لخالد لما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة : إني لم أومر بأن أنقب عن قلوب الناس وهذه الأحاديث في الصحيح ويدلك لذلك أيضا إجماعهم على أن أحكام الدنيا على الظاهر ، والله يتولى السرائر .
وقد نص تعالى على أن الأيمان الكاذبة جنة للمنافقين في الأحكام الدنيوية بقوله : اتخذوا أيمانهم جنة [ 58 \ 16 ] ، وقوله : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس [ 9 \ 95 ] . وقوله : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم الآية [ 9 \ 56 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وما استدل به بعضهم من قتل ابن مسعود لابن النواحة صاحب مسيلمة فيجاب عنه بأنه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا لمسيلمة : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك فقتله ابن مسعود تحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم .
فقد روي أنه قتله لذلك فإن قيل هذه الآية الدالة على عدم قبول توبتهم أخص من غيرها لأن فيها القيد بالردة وازدياد الكفر ، فالذي تكررت منه الردة أخص من مطلق المرتد ، والدليل على الأعم ليس دليلا على الأخص لأن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص .
فالجواب أن القرآن دل على قبول توبة من تكرر منه الكفر ، إذا أخلص في الإنابة إلى الله ، ووجه دلالة القرآن على ذلك أنه تعالى قال : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [ 4 \ 37 ] .
ثم بين أن المنافقين داخلون فيهم بقوله تعالى : بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الآية [ 4 \ 138 ] .
ودلالة الاقتران وإن ضعفها الأصوليون فقد صححتها جماعة من المحققين ، ولا سيما إذا اعتضدت بالأدلة القرينة عليها كما هنا لقوله تعالى : [ ص: 241 ] لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما فيه الدلالة الواضحة على دخولهم في المراد بالآية ، بل كونها في خصوصهم قال به جماعة من العلماء ، فإذا حققت ذلك ، فاعلم أن الله تعالى نص على أن من أخلص التوبة من المنافقين تاب الله عليه بقوله : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما [ 4 145 - 147 ] .
وقد كان مخشي بن حمير رضي الله عنه من المنافقين الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [ 9 \ 65 - 66 ] .
فتاب إلى الله بإخلاص ، فتاب الله عليه وأنزل الله فيه : إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة الآية [ 9 \ 66 ] ، فتحصل أن القائلين بعدم قبول توبة من تكررت منه الردة ، يعنون الأحكام الدنيوية ولا يخالفون في أنه إذا أخلص التوبة إلى الله قبلها منه ، لأن اختلافهم في تحقيق المناط كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته الآية .
هذه الآية تدل على التشديد البالغ في تقوى الله تعالى ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، والجواب بأمرين :
الأول : أن آية : فاتقوا الله ما استطعتم ، ناسخة لقوله : اتقوا الله حق تقاته وذهب إلى هذا القول سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم ، قاله ابن كثير .
الثاني : أنها مبينة للمقصود بها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الأنصار ما كان بينهم وبين النار إلا أن يموتوا مع أنهم [ ص: 242 ] كانوا أهل فترة ، والله تعالى يقول : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 15 ] .
ويقول : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل الآية [ 4 \ 165 ] ، وقد بين تعالى هذه الحجة بقوله في سورة " طه " : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [ 20 134 ] . والآيات بمثل هذا كثيرة .
والذي يظهر في الجواب ، والله تعالى أعلم ، أنه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق عذر لأحد ، فكل من لم يؤمن به فليس بينه وبين النار إلا أن يموت .
كما بينه تعالى بقوله : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده الآية [ 11 \ 17 ] ، وما أجاب به بعضهم من أن عندهم بقية من إنذار الرسل الماضين ، تلزمهم بها الحجة فهو جواب باطل ، لأن نصوص القرآن مصرحة بأنهم لم يأتهم نذير كقوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 6 ] .
وقوله : أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك الآية [ 32 \ 3 ] .
وقوله : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك [ 28 \ 46 ] .
وقوله : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير الآية [ 5 19 ] .
وقوله تعالى . وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير [ 34 44 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (620)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 243 إلى صـ 256
قوله تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة .
وصف الله المؤمنين في هذه الآية بكونهم أذلة حال نصره لهم ببدر ، وقد جاء في آية أخرى وصفه تعالى لهم بأن لهم العزة وهي قوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ 63 \ 8 ] ، ولا يخفى ما بين العزة والذلة من التنافي والتضاد .
والجواب ظاهر ، وهو أن معنى وصفهم بالذلة هو قلة عددهم وعددهم يوم بدر ، [ ص: 243 ] وقوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين نزل في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وذلك بعد أن قويت شوكة المسلمين وكثر عددهم وعددهم مع أن العزة والذلة يمكن الجمع بينهما باعتبار آخر ، وهو أن الذلة باعتبار حال المسلمين من قلة العدد والعدد ، والعزة باعتبار نصر الله وتأييده كما يشير إلى هذا قوله تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره [ 8 \ 26 ] .
وقوله : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة [ 3 \ 123 ] ، فإن زمان الحال هو زمان عاملها ، فزمان النصر هو زمان كونهم أذلة ، فظهر أن وصف الذلة باعتبار ، ووصف النصر والعزة باعتبار آخر ، فانفكت الجهة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة .
هذه الآية تدل على أن المدد من الملائكة يوم بدر من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف ، وقد ذكر تعالى في سورة " الأنفال " أن هذا المدد ألف بقوله : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة [ 8 9 ] .
والجواب عن هذا من وجهين :
الأول : أنه وعدهم بألف أولا ثم صارت ثلاثة آلاف ثم صارت خمسة ، كما في هذه الآية .
الوجه الثاني : أن آية " الأنفال " لم تقتصر على الألف بل أشارت إلى الزيادة المذكورة في " آل عمران " ولا سيما في قراءة نافع : " بألف من الملائكة مردفين " [ 8 \ 9 ] ، بفتح الدال على صيغة المفعول لأن معنى " مردفين " متبوعين بغيرهم ، وهذا هو الحق .
وأما على من قال : إن المدد المذكور في " آل عمران " في يوم أحد ، والمذكور [ ص: 344 ] في " الأنفال " في يوم بدر ، فلا إشكال على قوله ، إلا في أن غزوة أحد لم يأت فيها مدد من الملائكة .
والجواب : أن إتيان المدد فيها على القول به مشروط بالصبر والتقوى في قوله : بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم الآية [ 3 \ 125 ] ، ولما لم يصبروا ويتقوا لم يأت المدد ، وهذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم ، قاله ابن كثير .
قوله تعالى : فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم الآية .
قوله تعالى : فأثابكم غما بغم أي غما على غم يعني حزنا على حزن أو أثابكم غما بسبب غمكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيان أمره ، والمناسب لهذا الغم بحسب ما يسبق الذهن أن يقول لكي تحزنوا . أما قوله : " لكيلا تحزنوا " فهو مشكل لأن الغم سبب للحزن لا لعدمه .
والجواب عن هذا من أوجه :
الأول : أن قوله : " لكيلا تحزنوا " متعلق بقوله تعالى : ولقد عفا عنكم [ 3 \ 152 ] ، وعليه فالمعنى أنه تعالى عفا عنكم لتكون حلاوة عفوه تزيل عنكم ما نالكم من غم القتل والجراح ، وفوت الغنيمة والظفر والجزع من إشاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتله المشركون .
الوجه الثاني : أن معنى الآية ، أنه تعالى غمكم هذا الغم لكي تتمرنوا على نوائب الدهر ، فلا يحصل لكم الحزن في المستقبل ، لأن من اعتاد الحوادث لا تؤثر عليه .
الوجه الثالث : أن " لا " وصلة وسيأتي الكلام على زيادتها بشواهده العربية إن شاء الله تعالى في الجمع بين قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 ] ، وقوله : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] .
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء
قوله تعالى : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن وهو قوله تعالى : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم الآية [ 4 \ 129 ] .
والجواب عن هذا : أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكن هو العدل في توفية الحقوق الشرعية . والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي ، لأن هذا انفعال لا فعل فليس تحت قدرة البشر ، والمقصود أن من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية ، كما يدل عليه قوله : فلا تميلوا كل الميل الآية [ 4 \ 129 ] .
وهذا الجمع روي معناه عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم نقله عنهم ابن كثير في تفسير قوله : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء الآية .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة أن آية : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء نزلت في عائشة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يميل إليها بالطبع أكثر من غيرها .
وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ، يعني القلب ، انتهى من ابن كثير .
قوله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت الآية .
[ ص: 246 ] هذه الآية تدل على أن الزانية لا تجلد بل تحبس إلى الموت أو إلى جعل الله لها سبيلا .
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنها لا تحبس بل تجلد مائة إن كانت بكرا ، وجاء في آية منسوخة التلاوة باقية الحكم أنها إن كانت محصنة ترجم .
والجواب ظاهر ، وهو أن حبس الزواني في البيوت منسوخ بالجلد والرجم ، أو أنه كانت له غاية ينتهى إليها هي جعل الله لهن السبيل ، فجعل الله السبيل بالحد ، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الحديث .
قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين الآية .
هذه الآية تدل بعمومها على منع الجمع بين كل أختين سواء كانتا بعقد أم بملك يمين ، وقد جاءت آية تدل بعمومها على جواز جمع الأختين بملك اليمين وهي قوله تعالى في سورة " قد أفلح " وسورة " سأل سائل " : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [ 23 \ 5 - 6 ] .
فقوله : وأن تجمعوا بين الأختين اسم مثنى محلى بأل والمحلى بها من صيغ العموم كما تقرر خرجه في علم الأصول ، وقوله : أو ما ملكت أيمانهم اسم موصول وهو أيضا من صيغ العموم ، كما تقرر في علم الأصول أيضا .
فبين هاتين الآيتين عموم وخصوص من وجه يتعارضان بحسب ما يظهر في صورة هي جمع الأختين بملك اليمين ، فيدل عموم وأن تجمعوا بين الأختين على التحريم ، وعموم : أو ما ملكت أيمانهم على الإباحة ، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : أحلتهما آية وحرمتهما أخرى .
وحاصل تحرير الجواب عن هاتين الآيتين أنهما لا بد أن يخصص عموم إحداهما بعموم الأخرى ، فيلزم الترجيح بين العمومين ، والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر لوجوب العمل بالراجح إجماعا ، وعليه فعموم : وأن تجمعوا بين الأختين ، أرجح من عموم : أو ما ملكت أيمانهم من خمسة أوجه :
الأول : أن عموم : وأن تجمعوا بين الأختين نص في محل المدرك المقصود [ ص: 247 ] بالذات لأن السورة سورة " النساء " وهي التي بين الله فيها من تحل منهن ومن تحرم ، وآية أو ما ملكت أيمانهم لم تذكر من أجل تحريم النساء ولا تحليلهن ، بل ذكر الله صفات المتقين ، فذكر من جملتها حفظ الفرج ، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية ، وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها .
الثاني : أن آية : أو ما ملكت أيمانهم ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين لأن الأخت من الراضع لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم : وأخواتكم من الرضاعة [ 4 23 ] ، وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم : أو ما ملكت أيمانهم يخصصه ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية [ 4 22 ] .
والأصح عن الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص مع العام الذي لم يدخله التخصيص هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص ووجهه ظاهر .
الثالث : أن عموم : وأن تجمعوا بين الأختين غير وارد في معرض مدح ولا ذم ، وعموم أو ما ملكت أيمانهم وارد في معرض مدح المتقين .
والعام الوارد في معرض المدح أو الذم اختلفت العلماء في اعتبار عمومه ، فأكثر العلماء على أن عمومه معتبر كقوله : إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ 82 \ 13 - 14 ] ، فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح ، وكل فاجر مع أنه للذم .
وخالف في ذلك بعض العلماء منهم الإمام الشافعي رحمه الله قائلا : إن العام الوارد في معرض المدح أو الذم لا عموم له ، لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم .
ولذا لم يأخذ الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله [ 9 ] ، في الحلي المباح لأن الآية سيقت للذم فلا تعم عنده الحلي المباح ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه عند بعض العلماء .
الرابع : أنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين فالأصل في الفروج التحريم ، حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة .
[ ص: 248 ] الخامس : أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله في سورة " المائدة " ، والعلم عند الله تعالى .
فهذه الأوجه الخمسة التي بينا يرد بها استدلال داود الظاهري بهذه الآية الكريمة على جمع الأختين في الوطء بملك اليمين ولكنه يحتج بآية أخرى وهي قوله تعالى : إلا ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 24 ] ، فإنه يقول : الاستثناء راجع أيضا إلى قوله : وأن تجمعوا بين الأختين فيكون المعنى على قوله : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما ملكت أيمانكم ، فإنه لا يحرم فيه الجمع بين الأختين .
ورجوع الاستثناء لكل ما قبله من المتعاطفات جملا كانت أو مفردات هو الجاري على أصول مالك والشافعي وأحمد ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود [ الرجز ] :
وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثناء فكلا يقف
دون دليل العقل أو ذي السمع .
خلافا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط ، ولذلك لا يرى قبول شهادة القاذف ولو تاب وأصلح لأن قوله تعالى : إلا الذين تابوا [ 24 \ 5 ] ، يرجع عنده لقوله تعالى : وأولئك هم الفاسقون [ 24 \ 4 ] ، فقط أي إلا الذين تابوا ، فقد زال فسقهم بالتوبة ولا يقول برجوعه لقوله : ولا تقبلوا لهم شهادة إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم ، بل يقول : لا تقبلوها لهم مطلقا لاختصاص الاستثناء بالأخيرة عنده .
ولم يخالف أبو حنيفة أصله في قوله برجوع الاستثناء في قوله تعالى : إلا من تاب وآمن وعمل صالحا [ 25 \ 70 ] ، لجميع الجمل قبله أعني قوله : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون [ 25 \ 68 ] ، لأن جميع هذه الجمل معناها في الجملة الأخيرة وهي قوله تعالى : ومن يفعل ذلك يلق أثاما [ 25 \ 68 ] ، لأن الإشارة في قوله : " ذلك " شاملة لكل من الشرك والقتل والزنى ، فبرجوعه للأخيرة رجع للكل ، فظهر أن أبا حنيفة لم يخالف فيها أصله .
[ ص: 249 ] ولأجل هذا الأصل المقرر في الأصول لو قال رجل : هذه الدار حبس على الفقراء والمساكين وبني زهرة وبني تميم إلا الفاسق منهم ، فإنه يخرج فاسق الكل عند المالكية والشافعية والحنابلة خلافا للحنفية القائلين يخرج فاسق الأخيرة فقط .
وعلى هذا ، فاحتجاج داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة جار على أصول المالكية والشافعية والحنابلة .
قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق في هذه المسألة هو ما حققه بعض المتأخرين كابن الحاجب من المالكية والغزالي من الشافعية والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف ، وأن لا يحكم برجوعه إلى الجميع ولا إلى الأخيرة ، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق ، لأن الله تعالى يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] .
وإذا رددنا هذا النزاع إلى الله وجدنا القرآن دالا على قول هؤلاء ، الذي ذكرنا أنه هو التحقيق في آيات كثيرة منها قوله تعالى : فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا [ 4 \ 92 ] ، فالاستثناء راجع للدية فهي تسقط بتصدق مستحقها بها ولا يرجع لتحرير الرقبة قولا واحدا لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ ، ومنها قوله تعالى : فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا [ 24 4 - 5 ] .
فالاستثناء لا يرجع لقوله : فاجلدوهم ثمانين جلدة لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف .
ومنها أيضا قوله تعالى : فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق [ 4 \ 89 - 95 ] .
فالاستثناء في قوله : إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق لا يرجع قولا واحدا إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل إليه ، أعني قوله تعالى : ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ، ولو وصلوا إلى قوم [ ص: 250 ] بينكم وبينهم ميثاق ، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله : فخذوهم واقتلوهم والمعنى فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فليس لكم أخذهم بأسر ولا قتلهم لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم وقتلهم ، كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذه الآية نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة بن عامر .
وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز ، تبين أنه ليس نصا في الرجوع إلى غيرها .
ومنها أيضا قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا [ 4 \ 83 ] .
فالاستثناء ليس راجعا للجملة الأخيرة التي يليها أعني : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان لأنه لولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان كلا ولم ينج من ذلك قليل ولا كثير حتى يخرج بالاستثناء .
واختلف العلماء في مرجع هذا الاستثناء فقيل راجع لقوله : أذاعوا به [ 4 \ 83 ] . وقيل راجع لقوله : لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ 4 \ 83 ] ، وإذا لم يرجع للجملة التي تليها فلا يكون نصا في رجوعه لغيرها ، وقيل إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها فلا يكون نصا في رجوعه لغيرها وقيل إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها .
وعليه فالمعنى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد لاتبعتم الشيطان في ملة آبائكم من الكفر وعبادة الأوثان إلا قليلا . كمن كان على ملة إبراهيم كورقة بن نوفل وزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وأضرابهم ، وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله : لاتبعتم الشيطان إلا قليلا أن معناه لاتبعتم الشيطان كلا . قال : والعرب تطلق القلة وتريد بها العدم . واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب [ المتقارب ] :
أشم ندي كثير النوادي قليل المثالب والقادحه
يعني لا مثلبة فيه ولا قادحة .
[ ص: 251 ] قال مقيده عفا الله عنه : إطلاق القلة وإرادة العدم كثيرة في كلام العرب ومنه قول الشاعر :
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها
يعني أنه لا صوت في تلك الفلاة غير بغام راحلته ، وقول الآخر :
فما بأس لو ردت علينا تحية قليلا لدى من يعرف الحق عابها
يعني لا عاب فيها عند من يعرف الحق ، وعلى هذين القولين الأخيرين فلا شاهد في الآية . وبهذا التحقيق الذي حررنا يرد استدلال داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة أيضا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب .
هذه الآية تدل على أن الإماء إذا زنين جلدن خمسين جلدة وقد جاءت آية أخرى تدل بعمومها على أن كل زانية تجلد مائة جلدة ، وهي قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، والجواب ظاهر ، وهو أن هذه الآية مخصصة لآية " النور " ، لأنه لا يتعارض عام وخاص .
قوله تعالى : يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، ونظيرها قوله تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 ] .
وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك هي قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا الآية [ 5 \ 48 ] ، ووجه الجمع بين ذلك مختلف فيه اختلافا مبينا على الاختلاف في حكم هذه المسألة .
فجمهور العلماء على أن شرع من قبلنا إن ثبت بشرعنا فهو شرع لنا ما لم يدل دليل من شرعنا على نسخه ، لأنه ما ذكر لنا في شرعنا إلا لأجل الاعتبار والعمل ، وعلى هذا القول فوجه الجمع بين الآيتين أن معنى قوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا أن شرائع الرسل ربما ينسخ في بعضها حكم كان في غيرها أو يزاد في بعضها حكم لم يكن في غيرها .
[ ص: 252 ] فالشرعة إذن إما بزيادة أحكام لم تكن مشروعة قبل وإما بنسخ شيء كان مشروعا قبل ، فتكون الآية لا دليل فيها على أن ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ، ولم ينسخ أنه ليس من شرعنا لأن زيادة ما لم يكن قبل أو نسخ ما كان من قبل كلاهما ليس من محل النزاع .
وأما على قول الشافعي ومن وافقه : أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا إلا بنص من شرعنا أنه مشروع لنا .
فوجه الجمع أن المراد بسنن من قبلنا وبالهدى في قوله : أولئك الذين هدى الله أصول الدين التي هي التوحيد لا الفروع العلمية بدليل قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا الآية .
ولكن هذا الجمع الذي ذهبت إليه الشافعية يرد عليه ما رواه البخاري في صحيحه في تفسير سورة " ص " عن مجاهد أنه سأل ابن عباس : من أين أخذت السجدة في " ص " فقال ابن عباس : ومن ذريته داود [ 6 \ 84 ] ، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أن سجود التلاوة من الفروع لا من الأصول ، وقد بين ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجدها اقتداء بداود ، وقد بينت هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتي ، فلذلك اختصرتها هنا .
قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم الآية .
هذه الآية تدل على إرث الحلفاء من حلفائهم ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [ 8 75 ] .
والجواب أن هذه الآية ناسخة لقوله : والذين عقدت أيمانكم الآية . ونسخها لها هو الحق خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه في القول بإرث الحلفاء اليوم إن لم يكن له وارث .
وقد أجاب بعضهم بأن معنى : فآتوهم نصيبهم ، أي من الموالاة والنصرة ، وعليه فلا تعارض بينهما ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا .
[ ص: 253 ] هذه الآية تدل على أن الكفار لا يكتمون من خبرهم شيئا يوم القيامة ، وقد جاءت آيات أخرى تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله تعالى : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] .
وقوله : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا [ 40 ] .
ووجه الجمع في ذلك هو ما بينه ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن قوله : والله ربنا ما كنا مشركين مع قوله : ولا يكتمون الله حديثا ، وهو أن ألسنتهم تقول : والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون .
فكتم الحق باعتبار اللسان وعدمه باعتبار الأيدي والأرجل ، وهذا الجمع يشير إليه قوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 65 ] .
وأجاب بعض العلماء بتعدد الأماكن فيكتمون في وقت ولا يكتمون في وقت آخر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله .
لا تعارض بينه وبين قوله تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ 4 79 ] .
والجواب ظاهر ، وهو أن معنى قوله : وإن تصبهم حسنة أي مطر وخصب وأرزاق وعافية يقولوا هذا أكرمنا الله به ، وإن تصبهم سيئة أي جدب وقحط وفقر وأمراض ، يقولوا هذه من عندك أي من شؤمك يا محمد وشؤم ما جئت به . قل لهم : كل ذلك من الله .
ومعلوم أن الله هو الذي يأتي بالمطر والرزق والعافية ، كما أنه يأتي بالجدب والقحط والفقر والأمراض والبلايا ، ونظير هذه الآية قول الله في فرعون وقومه مع [ ص: 254 ] موسى : وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [ 7 131 ] .
وقوله تعالى في قوم صالح مع صالح : قالوا اطيرنا بك وبمن معك الآية [ 27 \ 47 ] ، وقول أصحاب القرية للرسل الذين أرسلوا إليهم : قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم الآية [ 36 \ 18 ] .
وأما قوله : ما أصابك من حسنة فمن الله أي لأنه هو المتفضل بكل نعمة وما أصابك من سيئة فمن نفسك أي من قبلك ومن قبل عملك أنت إذ لا تصيب الإنسان سيئة إلا بما كسبت يداه ، كما قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ 42 ] .
وسيأتي إن شاء الله تحرير المقام في قضية أفعال العباد بما يرفع الإشكال في سورة " الشمس " في الكلام على قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 8 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قيد في هذه الآية الرقبة المعتقة في كفارة القتل خطأ بالإيمان ، وأطلق الرقبة التي في كفارة الظهار واليمين عن قيد الإيمان ، حيث قال في كل منهما : فتحرير رقبة ولم يقل : مؤمنة .
وهذه المسألة من مسائل تعارض المطلق والمقيد وحاصل تحرير المقام فيها أن المطلق والمقيد لهما أربع حالات :
الأولى : أنه يتفق حكمهما وسببهما كآية الدم التي تقدم الكلام عليها ، فجمهور العلماء يحملون المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معا ، وهو أسلوب من أساليب اللغة العربية لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالا على المثبت ، كقول الشاعر وهو قيس بن الخطيم :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
فحذف راضون لدلالة راض عليها ، ونظيره أيضا قول ضابئ بن الحارث البرجمي :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيارا بها لغريب
[ ص: 255 ]
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني
وقال بعض العلماء : إن حمل المطلق على المقيد بالقياس ، وقيل بالعقل وهو أضعفها ، والله تعالى أعلم .
الحالة الثانية : أن يتحد الحكم ويختلف السبب ، كما في هذه الآية فإن الحكم متحد وهو عتق رقبة ، والسبب مختلف وهو قتل خطأ وظهار مثلا ، ومثل هذا المطلق يحمل على المقيد عند الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية ، ولذا أوجبوا الإيمان في كفارة الظهار حملا للمطلق على المقيد خلافا لأبي حنيفة ، ويدل لحمل هذا المطلق على المقيد ، قوله صلى الله عليه وسلم في قصة معاوية بن الحكم السلمي : أعتقها فإنها مؤمنة ولم يستفصله عنها هل هي كفارة أو لا ، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال ، قال في مراقي السعود :
ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال
الحالة الثالثة : عكس هذه ، وهي الاتحاد في السبب مع الاختلاف في الحكم ، فقيل : يحمل فيها المطلق على المقيد ، وقيل : لا ، وهو أكثر العلماء ، ومثاله صوم الظهار وإطعامه فسببهما واحد وهو الظهار ، وحكمهما مختلف لأن هذا صوم وهذا إطعام ، وأحدهما مقيد بالتتابع وهو الصوم ، والثاني مطلق عن قيد التتابع وهو الإطعام ، فلا يحمل هذا المطلق على هذا المقيد .
والقائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة مثلوا له بإطعام الظهار ، فإنه لم يقيد بكونه قبل أن يتماسا ، مع أن عتقه وصومه قيدا بقوله : من قبل أن يتماسا [ 58 \ 3 ] ، فيحمل هذا المطلق على المقيد فيجب كون الإطعام قبل المسيس .
ومثل له اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين حيث قيد بقوله : من أوسط ما تطعمون أهليكم [ 5 \ 89 ] .
وأطلق الكسوة عن القيد بذلك حيث قال : أو كسوتهم [ 5 \ 89 ] ، فيحمل المطلق على المقيد فيشترط في الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم .
الحالة الرابعة : أن يختلفا في الحكم والسبب معا ولا حمل فيها إجماعا وهو واضح ، وهذا فيما إذا كان المقيد واحدا .
[ ص: 256 ] أما إذا ورد مقيدان بقيدين مختلفين فلا يمكن حمل المطلق على كليهما لتنافي قيديهما ، ولكنه ينظر فيهما ، فإن كان أحدهما أقرب للمطلق من الآخر حمل المطلق على الأقرب له منهما عند جماعة من العلماء فيقيد بقيده ، وإن لم يكن أحدهما أقرب له فلا يقيد بقيد واحد منهما ، ويبقى على إطلاقه لاستحالة الترجيح بلا مرجح .
مثال كون أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم كفارة اليمين ، فإنه مطلق عن قيد التتابع والتفريق ، مع أن صوم الظهار مقيد بالتتابع ، وصوم التمتع مقيد بالتفريق ، واليمين أقرب إلى الظهار من التمتع لأن كلا من اليمين والظهار صوم كفارة بخلاف صوم التمتع ، فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع عند من يقول بذلك ، ولا يقيد بالتفريق الذي في صوم التمتع .
وقراءة ابن مسعود : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " لم تثبت لإجماع الصحابة على عدم كتب " متتابعات " في المصحف ، ومثال كونهما ليس أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم قضاء رمضان ، فإن الله قال فيه : فعدة من أيام أخر [ 2 \ 84 ] ، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق مع أنه قيد صوم الظهار بالتتابع وصوم التمتع بالتفريق ، وليس أحدهما أقرب إلى قضاء رمضان من الآخر ، فلا يقيد بقيد واحد منهما ، بل يبقى على الاختيار إن شاء تابعه وإن شاء فرقه ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (621)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 257 إلى صـ 270
قوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما الآية .
هذه الآية تدل على أن القاتل عمدا لا توبة له وأنه مخلد في النار ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 116 ] .
وقوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق - إلى قوله - إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات الآية [ 25 70 ] .
وقوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا [ 39 \ 53 ] .
[ ص: 257 ] وقوله : وإني لغفار لمن تاب وآمن الآية [ 25 82 ] .
وللجمع بين ذلك أوجه منها أن قوله : فجزاؤه جهنم خالدا فيها أي إذا كان مستحلا لقتل المؤمن عمدا لأن مستحل ذلك كافر .
قاله عكرمة وغيره ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جبير وابن جرير عن ابن جريج من أنها نزلت في مقيس بن صبابة ، فإنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه قتيلا في بني النجار ولم يعرف قاتله ، فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بالدية فأعطتها له الأنصار مائة من الإبل ، وقد أرسل معه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من قريش من بني فهر ، فعمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله وارتد عن الإسلام ، وركب جملا من الدية ، وساق معه البقية ، ولحق بمكة مرتدا ، وهو يقول في شعر له :
قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع وأدركت ثأري واضجعت موسدا
وكنت إلى الأوثان أول راجع
ومقيس هذا هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : لا أؤمنه في حل ولا حرم وقتل متعلقا بأستار الكعبة يوم الفتح ، فالقاتل الذي هو كمقيس بن صبابة المستحل للقتل المرتد عن الإسلام ، لا إشكال في خلوده في النار .
وعلى هذا فالآية مختصة بما يماثل سبب نزولها بدليل النصوص المصرحة بأن جميع المؤمنين لا يخلد أحد منهم في النار .
الوجه الثاني : أن المعنى : " فجزاؤه " أن جوزي مع إمكان ألا يجازى إذا تاب أو كان له عمل صالح يرجح بعمله السيئ ، وهذا قول أبي هريرة وأبي مجلز وأبي صالح وجماعة من السلف .
الوجه الثالث : أن الآية للتغليظ في الزجر ذكر هذا الوجه الخطيب والألوسي في تفسيريهما ، وعزاه الألوسي لبعض المحققين واستدلا عليه بقوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] ، على القول بأن معناه ومن لم يحج .
وبقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين للمقداد حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد [ ص: 258 ] أن قطع يده في الحرب : لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال .
وهذا الوجه من قبيل كفر دون كفر ، وخلود دون خلود ، فالظاهر أن المراد به عند القائل به أن معنى الخلود المكث الطويل ، والعرب ربما تطلق اسم الخلود على المكث ومنه قول لبيد :
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا صما خوالد ما يبين كلامها
إلا أن الصحيح في معنى الآية الوجه الثاني والأول ، وعلى التغليظ في الزجر ، حمل بعض العلماء كلام ابن عباس أن هذه الآية ناسخة لكل ما سواها ، والعلم عند الله تعالى .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر أن القاتل عمدا مؤمن عاص له توبة ، كما عليه جمهور علماء الأمة ، وهو صريح قوله تعالى : إلا من تاب وآمن الآية وادعاء تخصيصها بالكفار لا دليل عليه ، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
وقوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا .
وقد توافرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان .
وصرح تعالى بأن القاتل أخو المقتول في قوله : فمن عفي له من أخيه شيء الآية [ 2 \ 178 ] ، وليس أخو المؤمن إلا المؤمن ، وقد قال تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا [ 49 9 ] فسماهم مؤمنين مع أن بعضهم يقتل بعضا .
ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ، لأن هذه الأمة أولى بالتخفيف من بني إسرائيل ، لأن الله رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم .
[ ص: 259 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة
قوله تعالى : اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل بعمومها على إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا ولو سموا عليها غير الله أو سكتوا ولم يسموا الله ولا غيره لأن الكل داخل في طعامهم .
وقد قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيان : أن المراد بطعامهم ذبائحهم .
كما نقله عنهم ابن كثير ونقله البخاري عن ابن عباس ، ودخول ذبائحهم في طعامهم أجمع عليه المسلمون مع أنه جاءت آيات أخر تدل على أن ما سمي عليه غير الله لا يجوز أكله ، وعلى أن ما لم يذكر اسم الله عليه لا يجوز أكله أيضا .
أما التي دلت على منع أكل ما ذكر عليه اسم غير الله ، فكقوله تعالى : وما أهل به لغير الله [ 2 \ 173 ] في سورة " البقرة " .
وقوله : وما أهل لغير الله به [ 5 3 ] في المائدة ، والنحل [ 16 \ 15 ] .
وقوله في " الأنعام " : أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 145 ] .
والمراد بالإهلال رفع الصوت باسم غير الله عند الذبح .
وأما التي دلت على منع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ، فكقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه الآية [ 6 121 ] .
وقوله تعالى : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه [ 6 \ 118 - 119 ] ، فإنه يفهم منه عدم الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه .
[ ص: 260 ] والجواب عن مثل هذا مشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : في وجه الجمع بين عموم آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب مع عموم الآيات المحرمة لما أهل به لغير الله فيما إذا سمى الكتابي على ذبيحته غير الله ، بأن أهل بها للصليب أو عيسى أو نحو ذلك .
المبحث الثاني : في وجه الجمع بين آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب أيضا مع قوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فيما إذا لم يسم الكتابي الله ولا غيره على ذبيحته .
أما المبحث الأول فحاصله أن بين قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وبين قوله : وما أهل لغير الله به عموما وخصوصا من وجه ، تنفرد آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب في الخبز والجبن من طعامهم مثلا ، وتنفرد آية : وما أهل لغير الله به في ذبح الوثني لوثنه ويجتمعان في ذبيحة الكتابي التي أهل بها لغير الله ، كالصليب أو عيسى فعموم قوله : وما أهل لغير الله به يقتضي تحريمها ، وعموم قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب يقتضي حليتها .
وقد تقرر في علم الأصول أن الأعمين من وجه يتعارضان في الصورة التي يجتمعان فيها ، فيجب الترجيح بينهما ، والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر .
كما قدمنا في سورة " النساء " في الجمع بين قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين [ 4 \ 23 ] ، مع قوله تعالى : أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 6 ] ، وكما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :
وإن يك العموم من وجه ظهر فالحكم بالترجيح حتما معتبر
فإذا حققت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذين العمومين أيهما أرجح ، فالجمهور على ترجيح الآيات المحرمة وهو مذهب الشافعي ورواية عن مالك ورواه إسماعيل بن سعيد عن الإمام أحمد .
كما ذكره صاحب المغني وهو قول ابن عمر وربيعة ، كما نقله عنهما البغوي في تفسيره وذكره النووي في شرح المهذب عن علي وعائشة ورجح بعضهم عموم آية [ ص: 261 ] التحليل ، بأن الله أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون . كما احتج به الشعبي وعطاء على إباحة ما أهلوا به لغير الله .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر والله تعالى أعلم ، أن عموم آيات المنع أرجح وأحق بالاعتبار من طرق متعددة . منها قوله صلى الله عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك . وقوله صلى الله عليه وسلم : والإثم ما حاك في النفس الحديث . وقوله صلى الله عليه وسلم : فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه .
ومنها أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما تقرر في الأصول ، وينبني على ذلك أن النهي إذا تعارض مع الإباحة كما هنا ، فالنهي أولى بالتقديم والاعتبار ، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام .
بل صرح جماهير من الأصوليين بأن النص الدال على الإباحة في المرتبة الثالثة من النص الدال على نهي التحريم لأن نهي التحريم مقدم على الأمر الدال على الوجوب لما ذكرنا من تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، والدال على الأمر مقدم على الدال على الإباحة للاحتياط في البراءة من عهدة الطلب .
وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار المدلول بقوله :
وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر
على إباحة إلخ . . .
فإن معنى قوله : " والآمر بعد النواهي " ، أن ما دل على الأمر بعدما دل على النهي ، فالدال على النهي هو المقدم وقوله : " ثم هذا الآخر على إباحة " ، يعني أن النص الدال على الأمر مقدم على الإباحة كما ذكرنا فتحصل أن الأول النهي فالأمر فالإباحة ، فظهر تقديم النهي عما أهل به لغير الله على إباحة طعام أهل الكتاب .
واعلم أن العلماء اختلفوا فيما حرم على أهل الكتاب كشحم الجوف من البقر والغنم المحرم على اليهود ، هل يباح للمسلم مما ذبحه اليهودي ؟ فالجمهور على إباحة ذلك للمسلم لأن الذكاة لا تتجزأ ، وكرهه مالك ومنعه بعض أصحابه كابن القاسم وأشهب ، واحتج عليهم الجمهور بحجج لا ينهض الاحتجاج بها عليهم فيما يظهر ، وإيضاح ذلك أن أصحاب مالك احتجوا بقوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قالوا : [ ص: 262 ] المحرم عليهم ليس من طعامهم حتى يدخل فيما أحلته الآية .
فاحتج عليهم الجمهور بما ثبت في صحيح البخاري من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مغفل رضي الله عنه على أخذه جرابا من شحم اليهود يوم خيبر .
وبما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة أي ودك متغير الريح ، وبقصة الشاة المسمومة التي سمتها اليهودية له صلى الله عليه وسلم ونهش من ذراعها ومات منها بشر بن البراء بن معرور ، وهي مشهورة صحيحة قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم عزم على أكلها هو ومن معه ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أو لا .
وقد تقرر في الأصول أن ترك الاستفصال بمنزلة العموم في الأقوال ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في المقال
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن هذه الأدلة ليس فيها حجة على أصحاب مالك .
أما حديث عبد الله بن مغفل وحديث أنس رضي الله عنهما فليس في واحد منهما النص على خصوص الشحم المحرم عليهم ، ومطلق الشحم ليس حراما عليهم بدليل قوله تعالى : إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم [ 6 146 ] ، فما في الحديثين أعم من محل النزاع والدليل على الأعم ليس دليلا على الأخص لأن وجود الأعم لا يقتضي وجود الأخص بإجماع العقلاء .
ومثل رد هذا الاحتجاج بما ذكرنا هو القادح في الدليل المعروف عند الأصوليين بالقول بالموجب ، وأشار له صاحب مراقي السعود بقوله :
والقول بالموجب قدحه جلا وهو تسليم الدليل مسجلا
من مانع أن الدليل استلزما لما من الصور فيه اختصما
أما القول بالموجب عند البيانيين فهو من أقسام البديع المعنوي وهو ضربان معروفان في علم البلاغة ، وقصدنا هنا القول بالموجب بالاصطلاح الأصولي لا البياني ، وأما [ ص: 263 ] تركه صلى الله عليه وسلم الاستفصال في شاة اليهودية فلا يخفى أنه لا دليل فيه ، لأنه صلى الله عليه وسلم ينظر بعينه ولا يخفى عليه شحم الجوف ولا شحم الحوايا ولا الشحم المختلط بعظم ، كما هو ضروري فلا حاجة إلى السؤال عن محسوس حاضر .
وأجرى الأقوال على الأصول في مثل الشحم المذكور الكراهة التنزيهية لعدم دليل جازم على الحل أو التحريم ، لأن ما يعتقد الشخص أنه حرام عليه ليس من طعامه ، والذكاة لا يظهر تجزؤها فحكم المسألة مشتبه ومن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه .
وأما المبحث الثاني وهو الجمع بين قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم مع قوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فيما إذا لم يذكر الكتابي على ذبيحته اسم الله ولا اسم غيره .
فحاصله أن في قوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وجهين من التفسير :
أحدهما : وإليه ذهب الشافعي ، وذكر ابن كثير في تفسيره لها أنه قوي ، أن المراد بما لم يذكر اسم الله عليه هو ما أهل به لغير الله ، وعلى هذا التفسير ، فمبحث هذه الآية هو المبحث الأول بعينه لا شيء آخر .
الوجه الثاني : أنها على ظاهرها ، وعليه فبين الآيتين أيضا عموم وخصوص من وجه تنفرد آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب فيما ذبحه الكتابي وذكر عليه اسم الله فهو حلال بلا نزاع .
وتنفرد آية : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فيما ذبحه وثني أو مسلم لم يذكر اسم الله عليه ، فما ذبحه الوثني حرام بلا نزاع ، وما ذبحه المسلم من غير تسمية يأتي حكمه إن شاء الله ، ويجتمعان فيما ذبحه كتابي ولم يسم الله عليه فيعارضان فيه .
فيدل عموم : وطعام الذين أوتوا الكتاب على الإباحة ، ويدل عموم : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه على التحريم ، فيصار إلى الترجيح كما قدمنا .
واختلف في هذين العمومين أيضا أيهما أرجح ، فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم : وطعام الذين أوتوا الكتاب الآية .
وقال بعضهم بترجيح عموم : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه .
[ ص: 264 ] قال النووي في شرح المهذب : ذبيحة أهل الكتاب حلال سواء ذكروا اسم الله عليها أم لا ، لظاهر القرآن العزيز ، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور .
وحكاه ابن المنذر عن علي واللخمي وحماد بن سليمان وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق وغيرهم ، فإن ذبحوا على صنم أو غيره لم يحل ، انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وحكى النووي القول الآخر عن علي أيضا وأبي ثور وعائشة وابن عمر .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر والله تعالى أعلم ، أن لعموم كل من الآيتين مرجحا ، وأن مرجح آية التحليل أقوى وأحق بالاعتبار أما آية التحليل فيرجح عمومها بأمرين :
الأول : أنها أقل تخصيصا ، وآية التحريم أكثر تخصيصا ، لأن الشافعي ومن وافقه خصصوها بما ذبح لغير الله ، وخصصها الجمهور بما تركت فيه التسمية عمدا قائلين إن تركها نسيانا لا أثر له وآية التحليل ليس فيها من التخصيص غير صورة النزاع إلا تخصيص واحد ، وهو ما قدمنا من أنها مخصوصة بما لم يذكر عليه اسم غير الله على القول الصحيح .
وقد تقرر في الأصول أن الأقل تخصيصا مقدم على الأكثر تخصيصا ، كما أن ما لم يدخله التخصيص أصلا مقدم على ما دخله ، وعلى هذا جمهور الأصوليين . وخالف فيه السبكي والصفي الهندي ، وبين صاحب نشر البنود في شرح مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي في شرح قوله :
تقديم ما خص على ما لم يخص وعكسه كل أتى عليه نص
أن الأقل تخصصا مقدم على الأكثر تخصيصا ، وأن ما لم يدخله التخصيص مقدم على ما دخله عند جماهير الأصوليين ، وأنه لم يخالف فيه إلا السبكي وصفي الدين الهندي .
والثاني : ما نقله ابن جرير ونقله عنه ابن كثير عن عكرمة والحسن البصري ومكحول أن آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب ناسخة لآية : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه .
[ ص: 265 ] وقال ابن جرير وابن كثير : إن مرادهم بالنسخ التخصيص ، ولكنا قدمنا أن التخصيص بعد العمل بالعام نسخ لأن التخصيص بيان والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت العمل .
ويدل لهذا أن آية : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه من سورة " الأنعام " وهي مكية بالإجماع وآية : وطعام الذين أوتوا الكتاب من " المائدة " وهي من آخر ما نزل من القرآن بالمدينة ، وأما آية التحريم فيرجح عمومها بما قدمنا من مرجحات قوله تعالى : وما أهل لغير الله به لأن كلتاهما دلت على نهي يظهر تعارضه مع إباحة ، وحاصل هذه المسألة أن ذبيحة الكتابي لها خمس حالات لا سادسة لها :
الأولى : أن يعلم أنه سمى الله عليها ، وفي هذه تؤكل بلا نزاع ، ولا عبرة بخلاف الشيعة في ذلك ، لأنهم لا يعتد بهم في الإجماع .
الثانية : أن يعلم أنه أهل بها لغير الله ففيها خلاف ، وقد قدمنا أن التحقيق أنها لا تؤكل لقوله تعالى : وما أهل لغير الله به .
الثالثة : أن يعلم أنه جمع بين اسم الله واسم غيره ، وظاهر النصوص أنها لا تؤكل أيضا لدخولها فيما أهل لغير الله به .
الرابعة : أن يعلم أنه سكت ولم يسم الله ولا غيره ، فالجمهور على الإباحة وهو الحق ، والبعض على التحريم كما تقدم .
الخامسة : أن يجهل الأمر لكونه ذبح حالة انفراده فتؤكل على ما عليه جمهور العلماء ، وهو الحق إن لم يعرف الكتابي بأكل الميتة كالذي يسل عنق الدجاجة بيده ، فإن عرف بأكل الميتة لم يؤكل ما غاب عليه عند بعض العلماء ، وهو مذهب مالك ، ويجوز أكله عند البعض ، بل قال ابن العربي المالكي : إذا عايناه يسل عنق الدجاجة بيده ، قلنا الأكل منها لأنها مع طعامه ، والله أباح لنا طعامه . واستبعده ابن عبد السلام .
قال مقيده عفا الله عنه : هو جدير بالاستبعاد ، فكما أن نساءهم يجوز نكاحهن ولا تجوز مجامعتهن في الحيض ، فكذلك طعامهم يجوز لنا من غير إباحة الميتة ، لأن غاية الأمر أن ذكاة الكتابي تحل مذكاة كذكاة المسلم .
[ ص: 266 ] وما وعدنا به من ذكر حكم ما ذبحه المسلم ولم يسم عليه . فحاصله أن فيه ثلاثة أقوال :
أرجحها : وهو مذهب الجمهور : أنه إن ترك التسمية عمدا لم تؤكل لعموم قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإن تركها نسيانا أكلت لأنه لو تذكر لسمى الله .
قال ابن جرير من حرم ذبيحة الناسي فقد خرج من قول الحجة وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير : إن ابن جرير يعني بذلك ما رواه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله .
ثم قال ابن كثير : إن رفع الحديث خطأ أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزري ، والصواب وقفه على ابن عباس .
كما رواه بذلك سعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي .
ومما استدل به البعض على أكل ذبيحة الناسي للتسمية دلالة الكتاب والسنة والإجماع على العذر بالنسيان .
ومما استدل به البعض لذلك حديث رواه الحافظ أبو أحمد بن عدي عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اسم الله على كل مسلم ذكر ابن كثير هذا الحديث وضعفه بأن في إسناده مروان بن سالم أبا عبد الله الشامي وهو ضعيف .
القول الثاني : أن ذبيحة المسلم تؤكل ولو ترك التسمية عمدا ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله كما تقدم ، لأنه يرى أنه ما لم يذكر اسم الله عليه يراد به ما أهل به لغير الله لا شيء آخر ، وقد ادعى بعضهم انعقاد الإجماع قبل الشافعي على أن متروك التسمية عمدا لا يؤكل ، ولذلك قال أبو يوسف وغيره : لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ لمخالفته الإجماع . واستغرب ابن كثير حكاية الإجماع على ذلك قائلا : إن الخلاف فيه قبل الشافعي معروف .
[ ص: 267 ] القول الثالث : أن المسلم إذا لم يسم على ذبيحته لا تؤكل مطلقا تركها عمدا أو نسيانا . وهو مذهب داود الظاهري .
وقال ابن كثير : ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي ومحمد بن سيرين أنهما كرها متروك التسمية نسيانا والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيرا .
ثم ذكر ابن كثير أن ابن جرير لا يعتبر مخالفة الواحد أو الاثنين للجمهور فيعده إجماعا مع مخالفة الواحد أو الاثنين ، ولذلك حكى الإجماع على أكل متروك التسمية نسيانا مع أنه نقل خلاف ذلك عن الشعبي وابن سيرين .
مسائل مهمة تتعلق بهذه المباحث
المسألة الأولى : اعلم أن كثيرا من العلماء من المالكية والشافعية وغيرهم يفرقون بين ما ذبحه أهل الكتاب لصنم ، وبين ما ذبحوه لعيسى أو جبريل ، أو لكنائسهم ، قائلين : إن الأول مما أهل به لغير الله دون الثاني عندهم كراهة تنزيه ، مستدلين بقوله تعالى : وما ذبح على النصب [ 5 3 ] .
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن هذا الفرق باطل بشهادة القرآن لأن الذبيح على وجه القربة عبادة بالإجماع ، وقد قال تعالى : فصل لربك وانحر [ 108 ] .
وقال تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله الآية [ 6 162 ] .
فمن صرف شيئا من ذلك لغير الله فقد جعله شريكا مع الله في هذه العبادة التي هي الذبح ، سواء كان نبيا أو ملكا أو بناء أو شجرا أو حجرا أو غير ذلك ، لا فرق في ذلك بين صالح وطالح ، كما نص عليه تعالى بقوله : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا [ 3 \ 80 ] .
ثم بين أن فاعل ذلك كافر بقوله تعالى : أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 80 ] .
وقال تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله الآية [ 3 \ 79 ] .
[ ص: 268 ] وقال تعالى : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله الآية [ 3 64 ] ، فإن قيل : قد رخص في أكل ما ذبحوه لكنائسهم أبو الدرداء وأبو أمامة الباهلي والعرباض بن سارية والقاسم بن مخيمرة وحمزة بن حبيب وأبو سلمة الخولاني وعمر بن الأسود ومكحول والليث بن سعد وغيرهم .
فالجواب : أن هذا قول جماعة من العلماء من الصحابة ومن بعدهم ، وقد خالفهم فيه غيرهم . وممن خالفهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والإمام الشافعي رحمه الله ، والله تعالى يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله الآية [ 4 59 ] ، فنرد هذا النزاع إلى الله فنجده حرم ما أهل به لغير الله .
وقوله : لغير الله ، يدخل فيه الملك والنبي ، كما يدخل فيه الصنم والنصب والشيطان وقد وافقونا في منع ما ذبحوه باسم الصنم ، وقد دل الدليل على أنه لا فرق في ذلك بين النبي والملك ، وبين الصنم والنصب ، فلزمهم القول بالمنع .
وأما استدلالهم بقوله : وما ذبح على النصب فلا دليل فيه لأن قوله تعالى : وما ذبح على النصب ليس بمخصص لقوله : وما أهل لغير الله به ، لأنه ذكر فيه بعض ما دل عليه عموم وما أهل لغير الله به .
وقد تقرر في علم الأصول أن ذكر بعض أفراد الحكم العام بحكم العام ، لا يخصص على الصحيح وهو مذهب الجمهور خلافا لأبي ثور محتجا بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة ، وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن ذكر البعض لا يخصص العام سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ 2 \ 238 ] أو ذكر كل واحد منهما على حدة ، كحديث الترمذي وغيره : أيما إهاب دبغ فقد طهر من حديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال : هلا أخذتم إهابها الحديث .
فذكر الصلاة الوسطى الأول لا يدل على عدم المحافظة على غيرها من الصلوات ، [ ص: 269 ] وذكر إهاب الشاة في الأخير لا يدل على عدم الانتفاع بإهاب غير الشاة ، لأن ذكر البعض لا يخصص العام .
وكذلك رجوع ضمير البعض لا يخصص أيضا على الصحيح كقوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك [ 2 228 ] ، فإن الضمير راجع إلى قوله : والمطلقات يتربصن [ 2 \ 228 ] ، وهو لخصوص الرجعيات من المطلقات مع أن تربص ثلاثة قروء عام للمطلقات من رجعيات وبوائن ، وإلى هذا أشار في مراقي السعود مبينا معه أيضا أن سبب الواقعة لا يخصصها وأن مذهب الراوي لا يخصص مرويه على الصحيح فيهما أيضا بقوله :
ودع ضمير البعض والأسبابا
وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد
وروي عن الشافعي وأكثر الحنفية التخصيص بضمير البعض ، وعليه فتربص البوائن ثلاثة قروء مأخوذ من دليل آخر .
أما عدم التخصيص بذكر البعض فلم يخالف فيه إلا أبو ثور ، وتقدم رد مذهبه .
ولو سلمنا أن الآية معارضة بقوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فإنا نجد النبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك مثل هذا الذي تعارضت فيه النصوص بقوله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
المسألة الثانية : اختلف العلماء في ذكاة نصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهراء وجذام ولخم وعاملة ونحوهم ، فالجمهور على أن ذبائحهم لا تؤكل ، قاله ابن كثير وهو مذهب الشافعي ونقله النووي في شرح المهذب عن علي وعطاء وسعيد بن جبير .
ونقل النووي أيضا إباحة ذكاتهم عن ابن عباس والنخعي والشعبي وعطاء الخراساني والزهري والحكم وحماد وأبي حنيفة وإسحاق بن راهويه وأبي ثور ، وصحح هذا القول ابن قدامة في المغني محتجا بعموم قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم .
وحجة القول الأول ما روي عن عمر رضي الله عنه قال : ما نصارى العرب بأهل كتاب لا تحل لنا ذبائحهم .
[ ص: 270 ] وما روي عن علي رضي الله عنه : لا تحل ذبائح نصارى بني تغلب لأنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل ، ولا يعلم هل دخلوا في دين من بدل منهم أو في دين من لم يبدل فصاروا كالمجوس لما أشكل أمرهم في الكتاب لم تؤكل ذبائحهم ، ذكر هذا صاحب المهذب وسكت عليه النووي في الشرح قائلا : إنه حجة الشافعية في منع ذبائحهم ، ويفهم منه عدم إباحة كل ذكاة اليهود والنصارى اليوم لتبديلهم لا سيما فيمن عرفوا منهم بأكل الميتة كالنصارى .
المسألة الثالثة : ذبائح المجوس لا تحل للمسلمين ؟ قال النووي في شرح المهذب : هي حرام عندنا ، وقال به جمهور العلماء ، ونقله ابن المنذر عن أكثر العلماء ، قال : وممن قال به سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى والنخعي وعبيد الله بن يزيد ومرة الهمداني ومالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق .
وقال ابن كثير في تفسيره قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم .
وأما المجوس فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل ، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه ، يعني في هذه المسألة وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، ولكن لم يثبت بهذا اللفظ .
وإنما الذي في صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ، ولو سلم صحة هذا الحديث فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فدل بمفهومه مفهوم المخالفة على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل ، انتهى كلام ابن كثير بلفظه واعترض عليه في الحاشية الشيخ السيد محمد رشيد رضا بما نصه فيه : إن هذا مفهوم لقب وهو ليس بحجة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (622)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 271 إلى صـ 284
قال مقيده عفا الله عنه : الصواب مع الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى ، واعتراض الشيخ عليه سهو منه ، لأن مفهوم قوله : الذين أوتوا الكتاب مفهوم علة لا مفهوم [ ص: 271 ] لقب ، كما ظنه الشيخ لأن مفهوم اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما علق فيه الحكم باسم جامد سواء كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع ، وضابطه أنه هو الذي ذكر ليمكن الإسناد إليه فقط لاشتماله على صفة تقتضي تخصيصه بالذكر دون غيره .
أما تعليق هذا الحكم الذي هو إباحة طعامهم بالوصف بإيتاء الكتاب فهو تعليق الحكم بعلته لأن الوصف بإيتاء الكتاب صالح لأن يكون مناط الحكم بحلية طعامهم .
وقد دل المسلك الثالث من مسالك العلة المعروف بالإيماء والتنبيه على أن مناط حلية طعامهم هو إيتاؤهم الكتاب ، وذلك بعينه هو المناط لحلية نكاح نسائهم ، لأن ترتيب الحكم بحلية طعامهم ونسائهم على إيتائهم الكتاب لو لم يكن لأنه علته لما كان في التخصيص بإيتاء الكتاب فائدة ، ومعلوم أن ترتيب الحكم على وصف لو لم يكن علته لكان حشوا من غير فائدة يفهم منه أنه علته بمسلك الإيماء والتنبيه .
قال في مراقي السعود في تعداد صور الإيماء :
كما إذا سمع وصفا فحكم وذكره في الحكم وصفا قد ألم
إن لم يكن علته لم يفد ومنعه مما يفيت استفد
ترتيبه الحكم عليه واتضح
إلخ .
ومحل الشاهد منه قوله : " استفد ترتيبه الحكم عليه " ، وقوله : " وذكره في الحكم وصفا إن لم يكن علته لم يفد " .
ومما يوضح ما ذكرنا أن قوله : الذين أوتوا الكتاب موصول وصلته جملة فعلية ، وقد تقرر عند علماء النحو في المذهب الصحيح المشهور أن الصفة الصريحة كاسم الفاعل واسم المفعول الواقعة صلة أل بمثابة الفعل مع الموصول ، ولذا عمل وصف المقترن بأل الموصولة في الماضي لأنه بمنزلة الفعل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وإن يكن صلة أل ففي المضي وغيره إعماله قد ارتضي
فإذا حققت ذلك علمت أن الذين أوتوا الكتاب بمثابة ما لو قلت وطعام المؤتين الكتاب بصيغة اسم المفعول ولم يقل أحد أن مفهوم اسم المفعول مفهوم لقب لاشتماله على أمر هو المصدر يصلح أن يكون المتصف به مقصودا للمتكلم دون غيره ، كما ذكروا في مفهوم الصفة .
[ ص: 272 ] فظهر أن إيتاء الكتاب صفة خاصة بهم دون غيرهم ، وهي العلة في إباحة طعامهم ونكاح نسائهم ، فادعاء أنها مفهوم لقب سهو ظاهر .
وظهر من التحقيق أن المفهوم في قوله : الذين أوتوا الكتاب مفهوم علة ومفهوم العلة قسم من أقسام مفهوم الصفة ، فالصفة أعم من العلة وإيضاحه كما بينه القرافي أن الصفة قد تكون مكملة للعلة لا علة تامة كوجوب الزكاة في السائمة فإن علته ليست السوم فقط ، ولو كان كذلك لوجبت في الوحوش لأنها سائمة ولكن العلة ملك ما يحصل به الغنى وهي مع السوم أتم منها مع العلف وهذا عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة .
وظهر أن ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هو الصواب .
وقد تقرر في علم الأصول أن المفهوم بنوعيه من مخصصات العموم ، أما تخصيص العام بمفهوم الموافقة بقسميه فلا خلاف فيه .
وممن حكى الإجماع عليه : الآمدي والسبكي في شرح المختصر ، ودليل جوازه أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
ومثاله تخصيص حديث : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته أي يحل العرض بقوله مطلني والعقوبة بالحبس فإنه مخصص بمفهوم الموافقة الذي هو الفحوى في قوله : فلا تقل لهما أف [ 17 23 ] ، لأن فحواه تحريم أذاهما فلا يحبس الوالد بدين الولد .
وأما تخصيصه بمفهوم المخالفة ففيه خلاف ، والأرجح منه هو ما مشى عليه الحافظ ابن كثير تغمده الله برحمته الواسعة وهو التخصيص به .
والدليل عليه ما قدمنا من أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
وقيل : لا يجوز التخصيص به ، ونقله الباجي عن أكثر المالكية .
وحجة هذا القول أن دلالة العام على ما دل عليه المفهوم بالمنطوق وهو مقدم على المفهوم ، ويجاب بأن المقدم عليه منطوق خاص لا ما هو من إفراد العام ، فالمفهوم مقدم عليه لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
واعتمد التخصيص به صاحب مراقي السعود في قوله في مبحث الخاص في الكلام على المخصصات المنفصلة : [ ص: 273 ]
واعتبر الإجماع جل الناس وقسمي المفهوم كالقياس
ومثال التخصيص بمفهوم المخالفة تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم : في أربعين شاة شاة الذي يشمل عمومه السائمة والمعلوفة بمفهوم قوله : في الغنم السائمة زكاة عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة ، وهم أكثر لأنه يفهم منه أن غير السائمة لا زكاة فيها ، فيخصص بذلك عموم : في أربعين شاة شاة والعلم عند الله تعالى .
المسألة الرابعة : ما صاده الكتابي بالجوارح والسلاح حلال للمسلم ، لأن العقر ذكاة الصيد وعلى هذا القول الأئمة الثلاثة ، وبه قال عطاء والليث والأوزاعي وابن المنذر وداود وجمهور العلماء ، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب .
وحجة الجمهور واضحة وهي قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وخالف مالك وابن القاسم ففرقا بين ذبح الكتابي وصيده مستدلين بقوله تعالى : تناله أيديكم ورماحكم [ 5 \ 94 ] ، لأنه خص الصيد بأيدي المسلمين ورماحهم دون غير المسلمين .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله أعلم ، أن هذا الاحتجاج لا ينهض على الجمهور ، وأن الصواب مع الجمهور .
وقد وافق الجمهور من المالكية أشهب وابن هارون وابن يونس والباجي واللخمي ، ولمالك في الموازنة كراهته ، قال ابن بشير : ويمكن حمل المدونة على الكراهة .
المسألة الخامسة : ذبائح أهل الكتاب في دار الحرب كذبائحهم في دار الإسلام ، قال النووي : وهذا لا خلاف فيه ، ونقل ابن المنذر الإجماع عليه .
قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ تحاكم إليه أهل الكتاب مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله الآية [ 5 \ 49 ] .
والجواب : أن قوله تعالى : وأن احكم بينهم ناسخ لقوله : أو أعرض عنهم وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم [ ص: 274 ] وعطاء الخراساني وغير واحد ، قاله ابن كثير .
وقيل : معنى وأن احكم أي إذا حكمت بينهم ، فاحكم بما أنزل الله لا باتباع الهوى ، وعليه فالأولى محكمة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أو آخران من غيركم الآية .
هذه الآية تدل على قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [ 16 105 ] .
وقوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون [ 24 \ 4 ] ، أي فالكافرون أحرى برد شهادتهم .
وقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 2 ] .
وقوله : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء الآية [ 2 282 ] .
والجواب عن هذا على قول من لا يقبل شهادة الكافرين على الإيصاء في السفر أنه يقول : إن قوله أو آخران من غيركم ، منسوخ بآيات اشتراط العدالة ، والذي يقول بقبول شهادتهما يقول هي محكمة مخصصة لعموم غيرها ، وهذا الخلاف معروف ووجه الجواب على كلا القولين ظاهر .
وأما على قول من قال : إن معنى قوله : ذوا عدل منكم [ 5 \ 95 ] ، أي من قبيلة الموصي ، وقوله : أو آخران من غيركم أي من غير قبيلة الموصي من سائر المسلمين ، فلا إشكال في الآية .
ولكن جمهور العلماء على أن قوله : من غيركم أي من غير المسلمين ، وأن قوله : منكم أي من المسلمين . وعليه فالجواب ما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب
[ ص: 275 ] هذه الآية يفهم منها أن الرسل لا يشهدون يوم القيامة ، على أممهم .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أنهم يشهدون على أممهم كقوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] .
وقوله تعالى : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء [ 16 \ 89 ] .
والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : وهو اختيار ابن جرير ، وقال فيه ابن كثير : لا شك أنه حسن ، أن المعنى : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا ، فلا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن عرفنا من أجابنا فإنما نعرف الظواهر ولا علم لنا بالبواطن ، وأنت المطلع على السرائر وما تخفي الضمائر فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علم .
الثاني : وبه قال مجاهد والسدي والحسن البصري ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره أنهم قالوا : لا علم لنا لما اعتراهم من شدة هول يوم القيامة ، ثم زال ذلك عنهم فشهدوا على أممهم .
والثالث : وهو أضعفها ، أن معنى قوله : ماذا أجبتم ، ماذا عملوا بعدكم ؟ وما أحدثوا بعدكم ؟ قالوا لا علم لنا . ذكر ابن كثير وغيره هذا القول ، ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن .
قوله تعالى : قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين .
هذه الآية الكريمة تدل على أن أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة .
وقد جاء في بعض الآيات ما يوهم خلاف ذلك كقوله : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ 4 \ 145 ] ، وقوله : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ 40 \ 46 ] .
والجواب : أن آية : أدخلوا آل فرعون وآية : إن المنافقين لا منافاة بينهما ، لأن كلا من آل فرعون والمنافقين في أسفل دركات النار في أشد العذاب ، وليس [ ص: 276 ] في الآيتين ما يدل على أن بعضهم أشد عذابا من الآخر .
وأما قوله : فإني أعذبه الآية ، فيجاب عنه من وجهين :
الأول : وهو ما قاله ابن كثير : أن المراد بـ : العالمين عالمو زمانهم وعليه فلا إشكال ، ونظيره قوله تعالى : وأني فضلتكم على العالمين [ 2 \ 147 ] ، كما تقدم .
الثاني : ما قاله البعض من أن المراد به العذاب الدنيوي الذي هو - مسخهم خنازير ، ولكن يدل لأنه عذاب الآخرة ما رواه ابن جرير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال : " أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون " .
وهذا الإشكال في أصحاب المائدة لا يتوجه إلا على القول بنزول المائدة ، وأن بعضهم كفر بعد نزولها ، أما على قول الحسن ومجاهد أنهم خافوا من الوعيد فقالوا : لا حاجة لنا في نزولها فلم تنزل فلا إشكال .
ولكن ظاهر قوله تعالى : إني منزلها [ 5 \ 15 ] يخالف ذلك ، وعلى القول بنزولها لا يتوجه الإشكال إلا إذا ثبت كفر بعضهم كما لا يخفى .
[ ص: 277 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام
قوله تعالى : ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الله مولى الكافرين ونظيرها قوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 ] .
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ 47 \ 11 ] .
والجواب عن هذا أن معنى كونه مولى الكافرين أنه مالكهم المتصرف فيهم بما شاء ، ومعنى كونه مولى المؤمنين دون الكافرين ، أي ولاية المحبة والتوفيق والنصر ، والعلم عند الله تعالى .
وأما على قول من قال : إن الضمير في قوله : ردوا وقوله : مولاهم عائد إلى الملائكة فلا إشكال في الآية أصلا ، ولكن الأول أظهر .
قوله تعالى : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون
هذه الآية الكريمة يفهم منها أنه لا إثم على من جالس الخائضين في آيات الله بالاستهزاء والتكذيب .
وقد جاءت آية تدل على أن من جالسهم كان مثلهم في الإثم ، وهي قوله تعالى : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها - إلى قوله - إنكم إذا مثلهم [ 4 \ 140 ] ، اعلم أولا أن في معنى قوله : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء [ 6 ] ، وجهين للعلماء :
[ ص: 278 ] الأول : أن المعنى وما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شيء ، وعلى هذا الوجه فلا إشكال في الآية أصلا .
الوجه الثاني : أن معنى الآية : وما على الذين يتقون ما يقع من الكفار من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء .
وعلى هذا القول فهذا الترخيص في مجالسة الكفار للمتقين من المؤمنين كان في أول الإسلام للضرورة ، ثم نسخ بقوله تعالى : إنكم إذا مثلهم .
وممن قال بالنسخ فيه مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير ، فظهر أن لا إشكال على كلا القولين .
ومعنى قوله تعالى : ولكن ذكرى لعلهم يتقون [ 6 ] ، على الوجه الأول أنهم إذا اجتنبوا مجالسهم سلموا من الإثم ، ولكن الأمر باتقاء مجالستهم عند الخوض في الآيات لا يسقط وجوب تذكيرهم ووعظهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لعلهم يتقون الله بسبب ذلك .
وعلى الوجه الثاني فالمعنى أن الترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير لعلهم يتقون الخوض في آيات الله بالباطل إذا وقعت منكم الذكرى لهم ، وأما جعل الضمير للمتقين فلا يخفى بعده ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها .
يتوهم منه الجاهل أن إنذاره صلى الله عليه وسلم مخصوص بأم القرى وما يقرب منها دون الأقطار النائية عنها لقوله تعالى : ومن حولها ونظيره قوله تعالى في سورة " الشورى " وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه [ 42 \ 7 ] .
وقد جاءت آيات أخر تصرح بعموم إنذاره صلى الله عليه وسلم لجميع الناس كقوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 ] ، وقوله تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] ، وقوله : [ ص: 279 ] قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] ، وقوله : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 28 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : أن المراد بقوله : ومن حولها شامل لجميع الأرض كما رواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس .
الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن قوله : ومن حولها لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة حرمها الله كجزيرة العرب مثلا ، فإن الآيات الأخر نصت على العموم كقوله : ليكون للعالمين نذيرا .
وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه عند عامة العلماء ولم يخالف فيه إلا أبو ثور ، وقد قدمنا ذلك واضحا بأدلته في سورة " المائدة " .
فالآية على هذا القول كقوله : وأنذر عشيرتك الأقربين [ 26 \ 214 ] ، فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم ، كما هو واضح ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه .
وقوله أيضا : والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه [ 6 141 ] ، أثبت في هاتين الآيتين التشابه للزيتون والرمان ونفاه عنهما .
والجواب ما قاله قتادة رحمه الله من أن المعنى متشابها ورقها مختلفا طعمها ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : لا تدركه الأبصار الآية .
هذه الآية الكريمة توهم أن الله تعالى لا يرى بالأبصار ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه يرى بالأبصار ، كقوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ 75 \ 22 - 23 ] ، وكقوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، فالحسنى : الجنة ، والزيادة : النظر إلى وجه الله الكريم .
وكذلك قوله : لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد [ 50 \ 35 ] ، على أحد القولين ، وكقوله تعالى في الكفار : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ ص: 280 ] [ 83 \ 15 ] ، يفهم من دليل خطابه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم .
والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن المعنى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا فلا ينافي الرؤية في الآخرة .
الثاني : أنه عام مخصوص برؤية المؤمنين له في الآخرة ، وهذا قريب في المعنى من الأول .
الثالث : وهو الحق ، أن المنفي في هذه الآية الإدراك المشعر بالإحاطة بالكنه ، أما مطلق الرؤية فلا تدل الآية على نفيه بل هو ثابت بهذه الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك .
وحاصل هذا الجواب : أن الإدراك أخص من مطلق الرؤية لأن الإدراك المراد به الإحاطة ، والعرب تقول : رأيت الشيء وما أدركته ، فمعنى : لا تدركه الأبصار لا تحيط به ، كما أنه تعالى يعلمه الخلق ولا يحيطون به علما .
وقد اتفق العقلاء على أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، فانتفاء الإدراك لا يلزم منه انتفاء مطلق الرؤية ، مع أن الله تعالى لا يدرك كنهه على الحقيقة أحد من الخلق .
والدليل على صحة هذا الوجه ما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى مرفوعا : حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .
فالحديث صريح في عدم الرؤية في الدنيا ، ويفهم منه عدم إمكان الإحاطة مطلقا .
والحاصل : أن رؤيته تعالى بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة لأن كل موجود يجوز أن يرى عقلا ، ويدل لجوازها عقلا قول موسى : رب أرني أنظر إليك [ 7 \ 143 ] ، لأنه لا يجهل الجائز في حق الله تعالى عقلا .
وأما في الشرع فهي جائزة وواقعة في الآخرة ممتنعة في الدنيا ومن أصرح الأدلة في ذلك ما رواه مسلم وابن خزيمة مرفوعا : إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا والأحاديث برؤية المؤمنين له يوم القيامة متواترة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأعرض عن المشركين الآية .
[ ص: 281 ] لا يعارض آيات السيف لأنها ناسخة له .
قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله الآية .
هذه الآية الكريمة يفهم منها كون عذاب أهل النار غير باق بقاء لا انقطاع له أبدا ونظيرها قوله تعالى : فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك [ 11 106 - 107 ] ، وقوله تعالى : لابثين فيها أحقابا [ 78 23 ] .
وقد جاءت آيات تدل على أن عذابهم لا انقطاع له كقوله : خالدين فيها أبدا [ 4 \ 57 ] .
والجواب عن هذا من أوجه :
أحدها : أن قوله تعالى : إلا ما شاء الله معناه إلا من شاء الله عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين .
وقد ثبت فى الأحاديث الصحيحة أن بعض أهل النار يخرجون منها وهم أهل الكبائر من الموحدين ، ونقل ابن جرير هذا القول عن قتادة والضحاك وأبي سنان وخالد بن معدان ، واختاره ابن جرير ، وغاية " ما " في هذا القول إطلاق " ما " وإرادة من ونظيره في القرآن : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 3 ]
الثاني : أن المدة التي استثناها الله هي المدة التي بين بعثهم من قبورهم واستقرارهم في مصيرهم قاله ابن جرير أيضا .
الوجه الثالث : أن قوله : إلا ما شاء الله فيه إجمال وقد جاءت الآيات والأحاديث الصحيحة مصرحة بأنهم خالدون فيها أبدا ، وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له ، والظهور من المرجحات فالظاهر مقدم على المجمل ، كما تقرر في الأصول .
ومنها أن " إلا " في سورة " هود " بمعنى : سوى ما شاء الله من الزيادة على مدة دوام السماوات والأرض .
وقال بعض العلماء : إن الاستثناء على ظاهره وأنه يأتي على النار زمان ليس فيها أحد .
[ ص: 282 ] وقال ابن مسعود : ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعدما يلبثون أحقابا .
وعن ابن عباس : أنها تأكلهم بأمر الله .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله أعلم ، أن هذه النار التي لا يبقى فيها أحد يتعين حملها على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين ، كما جزم به البغوي في تفسيره ، لأنه يحصل به الجمع بين الأدلة ، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
وقد أطبق العلماء على وجوب الجمع إذا أمكن ، أما ما يقوله كثير من العلماء من الصحابة ، ومن بعدهم من أن النار تفنى وينقطع العذاب عن أهلها ، فالآيات القرآنية تقتضي عدم صحته ، وإيضاحه أن المقام لا يخلو من إحدى خمس حالات بالتقسيم الصحيح ، وغيرها راجع إليها .
الأولى : أن يقال بفناء النار ، وأن استراحتهم من العذاب بسبب فنائها .
الثانية : أن يقال إنهم ماتوا وهي باقية .
الثالثة : أن يقال إنهم أخرجوا منها وهي باقية .
الرابعة : أن يقال إنهم باقون فيها إلا أن العذاب يخف عليهم .
وذهاب العذاب رأسا واستحالته لذا لم نذكرهما من الأقسام ، لأنا نقيم البرهان على نفي تخفيف العذاب ، ونفي تخفيفه يلزمه نفي ذهابه واستحالته لذا فاكتفينا به لدلالة نفيه على نفيهما ، وكل هذه الأقسام الأربعة يدل القرآن على بطلانه .
أما فناؤها فقد نص تعالى على عدمه بقوله : كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] .
وقد قال تعالى : إلا ما شاء ربك [ 11 \ 107 ] ، في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار وبين عدم الانقطاع في خلود أهل الجنة بقوله : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] ، وبقوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] ، وقوله : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] .
[ ص: 283 ] وبين عدم الانقطاع في خلود أهل النار بقوله : كلما خبت زدناهم سعيرا .
فمن يقول إن للنار خبوة ليس بعدها زيادة سعير ، رد عليه بهذه الآية الكريمة ، ومعلوم أن كلما تقتضي التكرار بتكرار الفعل الذي بعدها ، ونظيرها قوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها الآية [ 4 56 ] .
وأما موتهم فقد نص تعالى على عدمه بقوله : لا يقضى عليهم فيموتوا [ 35 \ 36 ] ، وقوله : لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 ] ، وقوله : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت [ 14 \ 17 ] ، وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الموت يجاء به يوم القيامة في صورة كبش أملج فيذبح ، وإذا ذبح الموت حصل اليقين بأنه لا موت ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ويقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت .
وأما إخراجهم منها فنص تعالى على عدمه بقوله : وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] ، وبقوله : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها [ 32 20 ] ، وبقوله : وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] .
وأما تخفيف العذاب عنهم فنص تعالى على عدمه بقوله : ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 35 \ 13 ] ، وقوله : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 ] ، وقوله : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ 43 ] ، وقوله : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] ، وقوله : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] ، وقوله تعالى : فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون [ 16 \ 85 ] .
وقوله : ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] ، ولا يخفى أن قوله : ولا يخفف عنهم من عذابها وقوله : لا يفتر عنهم كلاهما فعل في سياق النفي ، فحرف النفي بنفي المصدر الكامن في الفعل فهو في معنى لا تخفيف للعذاب عنهم ، ولا تفتير له ، والقول بفنائها يلزمه تخفيف العذاب وتفتيره المنفيان في هذه الآيات بل يلزمه ذهابهما رأسا ، كما أنه يلزمه نفي ملازمة العذاب المنصوص عليها بقوله : فسوف يكون لزاما وقوله : إن عذابها كان غراما وإقامته المنصوص عليها بقوله : ولهم عذاب مقيم .
[ ص: 284 ] فظاهر هذه الآيات عدم فناء النار المصرح به في قوله : كلما خبت زدناهم سعيرا وما احتج به بعض العلماء من أنه لو فرض أن الله أخبر بعدم فنائها أن ذلك لا يمنع فناءها لأنه وعيد ، وإخلاف الوعيد من الحسن لا من القبيح ، وأن الله تعالى ذكر أنه لا يخلف وعده ولم يذكر أنه لا يخلف وعيده ، وأن الشاعر قال :
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فالظاهر عدم صحته لأمرين :
الأول : أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر ، لأن الخبر بذلك وعيد ، وإخلافه على هذا القول لا بأس به .
الثاني : أنه تعالى صرح بحق وعيده على من كذب رسله حيث قال : كل كذب الرسل فحق وعيد [ 50 \ 14 ] .
وقد تقرر في مسلك النص من مسالك العلة أن الفاء من حروف التعليل كقولهم : سها فسجد ، أي سجد لعلة سهوه ، وسرق فقطعت يده أي لعلة سرقته ، فقوله : كل كذب الرسل فحق وعيد أي وجب وقوع الوعيد عليهم لعلة تكذيب الرسل ، ونظيرها قوله تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] .
ومن الأدلة الصريحة في ذلك تصريحه تعالى بأن قوله لا يبدل فيما أوعد به أهل النار حيث قال \ 47 لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد [ 50 \ 28 - 29 ] .
ويستأنس لذلك بظاهر قوله تعالى : واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده - إلى قوله - إن وعد الله حق [ 31 \ 33 ] ، وقوله : إن عذاب ربك لواقع [ 52 \ 7 ] ، فالظاهر أن الوعيد الذي يجوز إخلافه وعيد عصاة المؤمنين لأن الله بين ذلك بقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] .
فإذا تبين بهذه النصوص بطلان جميع هذه الأقسام تعين القسم الخامس الذي هو خلودهم فيها أبدا بلا انقطاع ولا تخفيف بالتقسيم والسبر الصحيح .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (623)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 285 إلى صـ 298
ولا غرابة في ذلك لأنه خبثهم الطبيعي دائم لا يزول ، فكان جزاؤهم دائما لا يزول [ ص: 285 ] والدليل على أن خبثهم لا يزول قوله تعالى : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم الآية [ 8 \ 23 ] .
فقوله : خيرا نكرة في سياق الشرط فهي تعم ، فلو كان فيهم خير ما في وقت ما لعلمه الله ، وقوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه [ 6 28 ] ، وعودهم بعد معاينة العذاب ، لا يستغرب بعده عودهم بعد مباشرة العذاب لأن رؤية العذاب عيانا كالوقوع فيه لا سيما وقد قال تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] ، وقال : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 38 ] .
وعذاب الكفار للإهانة والانتقام لا للتطهير والتمحيص ، كما أشار له تعالى بقوله ولا يزكيهم [ 2 \ 174 ] ، وبقوله : ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء الآية .
هذا الكلام الذي قالوه بالنظر إلى ذاته كلام صدق لا شك فيه لأن الله لو شاء لم يشركوا به شيئا ، ولم يحرموا شيئا مما لم يحرمه كالبحائر والسوائب .
وقد قال تعالى : ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] وقال : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها [ 32 \ 13 ] ، وقال : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى [ 6 \ 35 ] ، وإذا كان هذا الكلام الذي قاله الكفار حقا فما وجه تكذيبه تعالى لهم بقوله : كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] ، ونظير هذا الإشكال بعينه في سورة " الزخرف " في قوله تعالى : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ 43 \ 20 ] .
والجواب أن هذا الكلام الذي قاله الكفار كلام حق أريد به باطل فتكذيب الله لهم واقع على باطلهم الذي قصدوه بهذا الكلام الحق وإيضاحه : أن مرادهم أنهم لما كان كفرهم وعصيانهم بمشيئة الله وأنه لو شاء لمنعهم من ذلك فعدم منعه لهم دليل على رضاه بفعلهم فكذبهم الله في ذلك مبينا أنه لا يرضى بكفرهم كما نص عليه بقوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ ص: 286 ] [ 39 \ 7 ] ، فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية يلزمها الرضا ، وهو زعم باطل بل الله يريد بإرادته الكونية ما لا يرضاه بدليل قوله : ختم الله على قلوبهم [ 2 \ 7 ] ، مع قوله : ولا يرضى لعباده الكفر والذي يلازم الرضى حقا إنما هو الإرادة الشرعية ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآية .
هذه الآية تدل على أن هذا الذي يتلوه عليهم حرمه ربهم عليهم ، فيوهم أن معنى قوله : ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا [ 6 \ 151 ] ، أن الإحسان بالوالدين وعدم الشرك حرام ، والواقع خلاف ذلك ، كما هو ضروري .
وفي هذه الآية الكريمة كلام كثير للعلماء ، وبحوث ومناقشات كثيرة لا تتسع هذه العجالة لاستيعابها ، منها أنها صلة كما يأتي ، ومنها أنها بمعنى أبينه لكم لئلا تشركوا .
ومن أطاع الشيطان مستحلا فهو مشرك بدليل قوله : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 121 ] .
ومنها أن الكلام تم عند قوله : حرم ربكم وأن قوله : عليكم ألا تشركوا : اسم فعل يتعلق بما بعده على أن معموله منها غير ذلك ، وأقرب تلك الوجوه عندنا هو ما دل عليه القرآن لأن خير ما يفسر به القرآن القرآن ، وذلك هو أن قوله تعالى : أتل ما حرم ربكم عليكم ، مضمن معنى ما وصاكم ربكم به تركا وفعلا ، وإنما قلنا إن القرآن دل على هذا لأن الله رفع هذا الإشكال وبين مراده بقوله : ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون [ 6 \ 151 ] ، فيكون المعنى : وصاكم ألا تشركوا ، ونظيره من كلام العرب قول الراجز :
حج وأوصى بسليمى عبدا أن لا ترى ولا تكلم أحدا
ومن أقرب الوجوه بعد هذا وجهان :
الأول : أن المعنى : يبينه لكم لئلا تشركوا .
والثاني : أن " أن " من قوله : ألا تشركوا مفسرة للتحريم ، والقدح فيه بأن قوله : وأن هذا صراطي مستقيما [ 6 \ 153 ] ، معطوف عليه ، وعطفه عليه ينافي [ ص: 287 ] التفسير مدفوع بعدم تعيين العطف لاحتمال حذف حرف الجر فيكون المعنى : ولأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه كما ذهب إليه بعضهم ، ولكن القول الأول هو الصحيح إن شاء الله تعالى ، وعليه فلا إشكال في الآية أصلا .
[ ص: 288 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعراف
قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الله يسأل جميع الناس يوم القيامة ، ونظيرها قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] ، وقوله : وقفوهم إنهم مسئولون [ 37 \ 24 ] ، وقوله : ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ 28 \ 65 ] .
وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [ 55 \ 39 ] ، وكقوله : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : وهو أوجهها لدلالة القرآن عليه هو أن السؤال قسمان :
سؤال توبيخ وتقريع وأداته غالبا : لم ، وسؤال استخبار واستعلام وأداته غالبا : هل ، فالمثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع ، والمنفي هو سؤال الاستخبار والاستعلام ، وجه دلالة القرآن على هذا أن سؤاله لهم المنصوص في كله توبيخ وتقريع كقوله : وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون [ 37 24 - 25 ] ، وقوله : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون [ 52 \ 15 ] ، ألم يأتكم رسل منكم [ 39 \ 71 ] ، وكقوله : ألم يأتكم نذير [ 67 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وسؤال الله للرسل : ماذا أجبتم [ 5 \ 109 ] لتوبيخ الذين كذبوهم كسؤال الموءودة : بأي ذنب قتلت [ 81 \ 9 ] لتوبيخ قاتلها .
[ ص: 289 ] الوجه الثاني : أن في القيامة مواقف متعددة ، ففي بعضها يسألون ، وفي بعضها لا يسألون .
الوجه الثالث : هو ما ذكره الحليمي من أن إثبات السؤال محمول على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل وعدم السؤال محمول على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه ، ويدل لهذا قوله تعالى : فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ 28 \ 65 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك .
في هذه الآية إشكال بين قوله : منعك مع لا النافية لأن المناسب في الظاهر لقوله : منعك بحسب ما يسبق إلى ذهن السامع لا ما في نفس الأمر ، هو حذف لا فيقول : ما منعك أن تسجد دون ألا تسجد ، وأجيب عن هذا بأجوبة : من أقربها هو ما اختاره ابن جرير في تفسيره ، وهو أن بالكلام حذفا دل المقام عليه .
وعليه فالمعنى : ما منعك من السجود ، فأحوجك ألا تسجد إذ أمرتك ، وهذا الذي اختاره ابن جرير ، قال ابن كثير : إنه حسن قوي .
ومن أجوبتهم أن " لا " صلة ويدل قوله تعالى في سورة " ص " ما منعك أن تسجد لما خلقت الآية [ 38 ] ، وقد وعدنا فيما مضى أنا إن شاء الله نبين القول بزيادة " لا " مع شواهده العربية في الجمع بين قوله : لا أقسم بهذا البلد [ 90 ] ، وبين قوله : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] .
قوله تعالى : قل إن الله لا يأمر بالفحشاء .
هذه الآية الكريمة يتوهم خلاف ما دلت عليه من ظاهر آية أخرى ، وهي قوله تعالى : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها الآية [ 17 \ 16 ] .
والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه :
الأول : وهو أظهرها أن معنى قوله : أمرنا مترفيها أي بطاعة الله وتصديق الرسل ففسقوا ، أي بتكذيب الرسل ومعصية الله تعالى ، فلا إشكال في الآية أصلا .
[ ص: 290 ] الثاني : أن الأمر في قوله : أمرنا مترفيها أمر كوني قدري لا أمر شرعي ، أي قدرنا عليهم الفسق بمشيئتنا ، والأمر الكوني القدري كقوله تعالى : كونوا قردة خاسئين [ 2 65 ] ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] ، والأمر في قوله : قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أمر شرعي ديني فظهر أن الأمر المنفي غير الأمر المثبت .
الوجه الثالث : أن معنى : أمرنا مترفيها : أي كثرناهم حتى بطروا النعمة ففسقوا ، ويدل لهذا المعنى الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد مرفوعا من حديث سويد بن هبيرة رضي الله عنه : خير مال امرئ مهرة مأمورة أو سكة مأبورة فقوله : " مأمورة " أي كثيرة النسل ، وهي محل الشاهد .
قوله تعالى : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم الآية .
وأمثالها من الآيات كقوله : نسوا الله فنسيهم [ 9 \ 67 ] ، وقوله : وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] ، وقوله : وقيل اليوم ننساكم الآية [ 45 34 ] ، لا يعارض قوله تعالى : لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، وقوله : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] ؛ لأن معنى : فاليوم ننساهم ونحوه ، أي نتركهم في العذاب محرومين من كل خير ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى . فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين الآية .
هذه الآية تدل على شبه العصا بالثعبان وهو لا يطلق إلا على الكبير من الحيات ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : فلما رآها تهتز كأنها جان الآية [ 27 \ 10 ] ، لأن الجان هو الحية الصغيرة .
والجواب عن هذا أنه شبهها بالثعبان في عظم خلقتها ، وبالجان في اهتزازها وخفتها وسرعة حركتها ، فهي جامعة بين العظم ، وخفة الحركة على خلاف العادة .
[ ص: 291 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنفال
قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية .
هذه الآية تدل على أن وجل القلوب عند سماع ذكر الله من علامات المؤمنين .
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] .
فالمنافاة بين الطمأنينة ووجل القلوب ظاهرة .
والجواب عن هذا أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا الآية [ 13 \ 8 ] .
وقوله تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ 23 \ 60 ] .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول التي هي طاعته لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا ، ونظيرها قوله تعالى : ولا يعصينك في معروف [ 60 \ 12 ] .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقا من غير قيد ، قوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ ص: 292 ] الآية [ 3 \ 31 ] . وقوله : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] .
والظاهر أن وجه الجمع ، والله تعالى أعلم ، أن آيات الإطلاق مبينة أنه صلى الله عليه وسلم لا يدعونا إلا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة ، فالشرط المذكور في قوله : إذا دعاكم ، متوفر في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمكان عصمته ، كما دل عليه قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] .
والحاصل أن آية : إذا دعاكم لما يحييكم ، مبينة أنه لا طاعة إلا لمن يدعو إلى ما يرضي الله ، وأن الآيات الأخر بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أبدا إلا إلى ذلك صلوات الله وسلامه عليه .
قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون هذه الآية الكريمة تدل على أن لكفار مكة أمانين يدفع الله عنهم العذاب بسببهما :
أحدهما : كونه صلى الله عليه وسلم فيهم لأن الله لم يهلك أمة ونبيهم فيهم .
والثاني : استغفارهم الله وقوله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام [ 8 ] ، يدل على خلاف ذلك .
والجواب من أربعة أوجه :
الأول : وهو اختيار ابن جرير نقله عن قتادة والسدي ، وابن زيد أن الأمانين منتفيان ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من بين أظهرهم مهاجرا واستغفارهم معدوم لإصرارهم على الكفر .
فجملة الحال أريد بها أن العذاب لا ينزل بهم في حالة استغفارهم لو استغفروا ولا في حالة وجود نبيهم فيهم ، لكنه خرج من بين أظهرهم ، ولم يستغفروا لكفرهم .
ومعلوم أن الحال قيد لعاملها وصف لصاحبها ، فالاستغفار مثلا قيد في نفي العذاب ، لكنهم لم يأتوا بالقيد ، فتقرير المعنى : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون لو استغفروا ، وبعد انتفاء الأمرين عذبهم بالقتل والأسر ، يوم بدر كما يشير [ ص: 293 ] إليه قوله تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر [ 32 \ 21 ] .
الوجه الثاني : أن المراد بقوله : " يستغفرون " استغفار المؤمنين المستضعفين بمكة ، وعليه فالمعنى أنه بعد خروجه صلى الله عليه وسلم كان استغفار المؤمنين سببا لرفع العذاب الدنيوي عن الكفار المستعجلين للعذاب بقولهم : فأمطر علينا حجارة من السماء الآية [ 8 ] .
وعلى هذا القول فقد أسند الاستغفار إلى مجموع أهل مكة الصادق بخصوص المؤمنين منهم ، ونظير الآية عليه قوله تعالى : فعقروا الناقة [ 7 \ 77 ] ، ومع أن العاقر واحد منهم بدليل قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] ، وقوله تعالى : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 15 - 16 ] ، أي جعل القمر في مجموعهن الصادق بخصوص السماء التي فيها القمر ، لأنه لم يجعل في كل سماء قمرا ، وقوله تعالى : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم [ 6 \ 130 ] ، أي من مجموعكم الصادق بخصوص الإنس على الأصح ، إذ ليس من الجن رسل .
وأما تمثيل كثير من العلماء لإطلاق المجموع مرادا بعضه بقوله تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ 55 \ 22 ] ، زاعمين أن معنى قوله : " منهما " أي من مجموعهما الصادق بخصوص البحر الملح ، لأن العذب لا يخرج منه لؤلؤ ولا مرجان ، فهو قول باطل بنص القرآن العظيم .
فقد صرح تعالى باستخراج اللؤلؤ والمرجان من البحرين كليهما حيث قال : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها [ 35 \ 12 ] .
فقوله تعالى : ومن كل ، نص صريح في إرادة العذب والملح معا ، وقوله : حلية تلبسونها هي اللؤلؤ والمرجان .
وعلى هذا القول فالعذاب الدنيوي يدفعه الله عنهم باستغفار المؤمنين الكائنين بين أظهرهم ، وقوله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله [ 8 ] . أي بعد خروج المؤمنين الذين كان استغفارهم سببا لدفع العذاب الدنيوي ، فبعد خروجهم عذب الله أهل [ ص: 294 ] مكة في الدنيا بأن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة ، ويدل لكونه تعالى يدفع العذاب الدنيوي عن الكفار بسبب وجود المسلمين بين أظهرهم ما وقع في صلح الحديبية كما بينه تعالى بقوله : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما [ 48 \ 25 ] .
فقوله : لو تزيلوا أي لو تزيل الكفار من المسلمين لعذبنا الكفار بتسليط المسلمين عليهم ، ولكنا رفعنا عن الكفار هذا العذاب الدنيوي لعدم تميزهم من المؤمنين ، كما بينه بقوله : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الآية .
ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس والضحاك وأبي مالك وابن أبزى ، وحاصل هذا القول أن كفار مكة لما قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة الآية [ 8 ] . أنزل الله قوله : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بقيت طائفة من المسلمين بمكة يستغفرون الله ويعبدونه ، فأنزل الله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ، فلما خرجت بقية المسلمين من مكة أنزل الله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله [ 8 ] ، أي : أي شيء ثبت لهم يدفع عنهم الله ، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من بين أظهرهم ، فالآية على هذا كقوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [ 9 \ 14 ] .
الوجه الثالث : أن المراد بقوله : وهم يستغفرون كفار مكة ، وعليه فوجه الجميع أن الله تعالى يرد عنهم العذاب الدنيوي بسبب استغفارهم ، أما عذاب الآخرة فهو واقع بهم لا محالة فقوله : وما كان الله ليعذبهم ، أي في الدنيا في حالة استغفارهم ، وقوله : وما لهم ألا يعذبهم الله أي في الآخرة ، وقد كانوا كفارا في الدنيا . ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس .
وعلى هذا القول فعمل الكافر ينفعه في الدنيا ، كما فسر به جماعة قوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] ، أي أثابه من عمله الطيب في الدنيا ، وهو صريح قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها الآية [ 11 15 ] ، وقوله تعالى أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ 9 ] ، [ ص: 295 ] وقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ونحو ذلك من الآيات يدل على بطلان عمل الكافر من أصله ، كما أوضحه تعالى بقوله : حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ 2 \ 217 ] ، فجعل كلتا الدارين ظرفا لبطلان أعمالهم واضمحلالها ، وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام في سورة " هود " .
الوجه الرابع : أن معنى قوله : وهم يستغفرون أي يسلمون ، أي : وما كان الله معذبهم ، وقد سبق في علمه أن منهم من يسلم ويستغفر الله من كفره ، وعلى هذا القول فقوله : وما لهم ألا يعذبهم الله ، في الذين سبقت لهم الشقاوة كأبي جهل وأصحابه الذين عذبوا بالقتل يوم بدر .
ونقل ابن جرير معنى هذا القول عن عكرمة ومجاهد ، وأما ما رواه ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري من أن قوله : وما لهم ألا يعذبهم الله ناسخ لقوله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فبطلانه ظاهر ، لأن قوله تعالى : وما كان الله معذبهم الآية ، خبر من الله بعدم تعذيبه لهم في حالة استغفارهم ، والخبر لا يجوز نسخه شرعا بإجماع المسلمين ، وأظهر هذه الأقوال الأولان .
منها قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 65 ] .
ظاهر هذه الآية أن الواحد من المسلمين يجب عليه مصابرة عشرة من الكفار ، وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك بقوله : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 66 ] .
والجواب عن هذا ، أن الأول منسوخ بالثاني ، كما دل عليه قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم الآية [ 8 \ 66 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا .
هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يهاجر لا ولاية بينه وبين المؤمنين حتى يهاجر ، وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى [ ص: 296 ] والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] . فإنها تدل على ثبوت الولاية بين المؤمنين وظاهرها العموم .
والجواب من وجهين :
الأول : أن الولاية المنفية في قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء هي ولاية الميراث ، أي ما لكم شيء من ميراثهم حتى يهاجروا لأن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالمؤاخاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فمن مات من المهاجرين ورثه أخوه الأنصاري دون أخيه المؤمن ، الذي لم يهاجر ، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض الآية [ 8 ] .
وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، كما نقله عنهم أبو حيان وابن جرير ، والولاية في قوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، ولاية النصر والمؤازرة والتعاون والتعاضد ، لأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وكالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
وهذه الولاية لم تقصد بالنفي في قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء بدليل تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر الآية [ 8 ] ، فأثبت ولاية النصر بينهم بعد قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء يدل على أن الولاية المنفية غير ولاية النصر ، فظهر أن الولاية المنفية غير المثبتة ، فارتفع الإشكال .
الثاني : هو ما اقتصر عليه ابن كثير مستدلا عليه بحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم أن معنى قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء يعني لا نصيب لكم في المغانم ولا في خمسها إلا فيما حضرتم فيه القتال ، وعليه فلا إشكال في الآية ، ولا مانع من تناول الآية للجميع ، فيكون المراد بها نفي الميراث بينهم ، ونفي القسم لهم في الغنائم والخمس .
[ ص: 297 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة براءة
قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .
اعلم أولا أن المراد بهذه الأشهر الحرم أشهر المهلة المنصوص عليها بقوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر [ 9 ] ، لا الأشهر الحرم التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب على الصحيح ، وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه .
وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم واستظهر هذا القول ابن كثير لدلالة سياق القرآن عليه ، ولأقوال هؤلاء العلماء خلافا لابن جرير .
وعليه فالآية تدل بعمومها على قتال الكفار في الأشهر الحرم المعروفة بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة وقد جاءت آية أخرى تدل على عدم القتال فيها وهي قوله تعالى إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم [ 9 \ 36 ] .
والجواب أن تحريم الأشهر الحرم منسوخ بعموم آيات السيف ومن يقول بعدم النسخ يقول : هو مخصص لها ، والظاهر أن الصحيح كونها منسوخة ، كما يدل عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حصار ثقيف في الشهر الحرام ، الذي هو ذو القعدة ، كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم لجأوا إلى الطائف ، فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما وانصرف ولم يفتحها ، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام وهذا القول هو المشهور عند العلماء وعليه فقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ناسخ لقوله منها أربعة حرم وقوله : لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام [ 5 ] ، وقوله : الشهر الحرام بالشهر الحرام الآية [ 2 \ 194 ] .
[ ص: 298 ] والمنسوخ من هذه ومن قوله : أربعة حرم ، هو تحريم الشهر في الأولى والأشهر في الثانية فقط دون ما تضمنتاه من الخبر ، لأن الخبر لا يجوز نسخه شرعا .
قوله تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله - إلى قوله - سبحانه عما يشركون .
هذه الآية فيها التنصيص الصريح على أن كفار أهل الكتاب مشركون بدليل قوله فيهم : سبحانه عما يشركون بعد أن بين وجوه شركهم ، بجعلهم الأولاد لله واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به [ 4 \ 48 ] ، لإجماع العلماء أن كفار أهل الكتاب داخلون فيها .
وقد جاءت آيات أخر تدل بظاهرها على أن أهل الكتاب ليسوا من المشركين كقوله تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين الآية [ 98 ] ، وقوله : إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم الآية [ 98 \ 6 ] وقوله : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم الآية [ 2 \ 105 ] ، والعطف يقتضي المغايرة .
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن وجه الجمع أن الشرك الأكبر المقتضي للخروج من الملة أنواع ، وأهل الكتاب متصفون ببعضها وغير متصفين ببعض آخر منها ، أما البعض الذي هم غير متصفين به فهو ما اتصف به كفار مكة من عبادة الأوثان صريحا ، ولذا عطفهم عليهم لاتصاف كفار مكة بما لم يصف به أهل الكتاب من عبادة الأوثان ، وهذه المغايرة هي التي سوغت العطف ، فلا ينافي أن يكون أهل الكتاب مشركين بنوع آخر من أنواع الشرك الأكبر ، وهو طاعة الشيطان والأحبار والرهبان ، فإن مطيع الشيطان إذا كان يعتقد أن ذلك صواب فهو عابد الشيطان مشرك بعبادة الشيطان الشرك الأكبر المخلد في النار ، كما بينته النصوص القرآنية كقوله : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، فقوله : وإن يدعون إلا شيطانا . . . صح . . . معناه وما يعبدون إلا شيطانا لأن عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما حرمه الله عليهم ، وقوله تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (624)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 299 إلى صـ 312
وقوله تعالى عن خليله إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا [ ص: 299 ] [ 19 \ 44 ] ، وقوله تعالى : بل كانوا يعبدون الجن الآية [ 34 \ 41 ] .
وقوله تعالى : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم الآية [ 6 137 ] ، فكل هذا الكفر بشرك الطاعة في معصية الله تعالى ، ولما أوحى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من قتلها وأنه إذا قال صلى الله عليه وسلم الله قتلها أن يقولوا : ما قتلتموه بأيديكم حلال وما قتله الله حرام فأنتم إذا أحسن من الله ، أنزل الله في ذلك قوله تعالى : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] ، فأقسم تعالى في هذه الآية على أن من أطاع الشيطان في معصية الله أنه مشرك بالله ، ولما سأل عدي بن حاتم النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا [ 9 \ 31 ] ، كيف اتخذوهم أربابا ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألم يحلوا لهم ما حرم الله ويحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم ؟ ، قال : بلى ، قال : بذلك اتخذوهم أربابا ، فبان أن أهل الكتاب مشركون من هذا الوجه الشرك الأكبر ، وإن كانوا كفار مكة في صريح عبادة الأوثان ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : انفروا خفافا وثقالا الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الخروج للجهاد في سبيل الله على كل حال ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج الآية [ 9 \ 19 ] ، وقوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة [ 9 \ 122 ] .
والجواب أن آية : انفروا خفافا وثقالا منسوخة بآيات العذر المذكورة ، وهذا الموضع من أمثلة ما نسخ فيه الناسخ لأن قوله : انفروا خفافا وثقالا ناسخ لآيات الإعراض عن المشركين وهو منسوخ بآيات العذر ، كما ذكرنا آنفا ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 300 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يونس
قوله تعالى : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أنهم يرجون شفاعة أصنامهم يوم القيامة وقد جاء في آيات أخر ما يدل على إنكارهم لأصل يوم القيامة كقوله تعالى : وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، وقوله : وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] ، وقوله : من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب أنهم يرجون شفاعتها في الدنيا لإصلاح معاشهم وفي الآخرة على تقدير وجودها لأنهم شاكون فيها ، نص على هذا ابن كثير في سورة " الأنعام " في تفسير قوله : وما نرى معكم شفعاءكم الآية [ 6 \ 94 ] ، ويدل له قوله تعالى عن الكافر : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، وقوله : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] ، لأن إن الشرطية تدل على الشك في حصول الشرط ، ويدل له قوله : وما أظن الساعة قائمة [ 18 \ 36 ] ، في الآيتين المذكورتين .
قوله تعالى : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .
نص الله تعالى في هذه الآية ، على أن هذا دعاء موسى ولم يذكر معه أحدا ثم قال : قد أجيبت دعوتكما فاستقيما .
والجواب : أن موسى لما دعا أمن هارون على دعائه والمؤمن أحد الداعين ، وهذا الجمع مروي عن أبي العالية وأبي صالح وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس ، قاله ابن كثير ، وبهذه الآية استدل بعض العلماء على أن قراءة الإمام تكفي المأموم إذا أمن له على قراءته ، لأن تأمينه بمنزلة قراءته .
[ ص: 301 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة هود
قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الكافر يجازى بحسناته كالصدقة وصلة الرحم وقرى الضيف والتنفيس عن المكروب في الدنيا دون الآخرة ، لأنه تعالى قال : نوف إليهم أعمالهم فيها يعني الحياة الدنيا ؛ ثم نص على بطلانها في الآخرة بقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها الآية [ 11 \ 16 ] .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها الآية [ 42 \ 20 ] ، وقوله تعالى : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية [ 46 \ 20 ] .
وعلى ما قاله ابن زيد وقوله : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] ، على أحد القولين ، وقوله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون [ 8 \ 33 ] ، على أحد الأقوال الماضية في سورة " الأنفال " وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا مع أنه جاءت آيات أخر تدل على بطلان عمل الكافر واضمحلاله من أصله ، وفي بعضها التصريح ببطلانه في الدنيا مع الآخرة في كفر الردة وفي غيره .
أما الآيات الدالة على بطلانه من أصله فكقوله : أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [ 14 \ 18 ] ، وكقوله : أعمالهم كسراب الآية [ 24 \ 39 ] ، وقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] .
وأما الآيات الدالة على بطلانه في الدنيا مع الآخرة فكقوله في كفر المرتد : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ ص: 302 ] [ 2 \ 217 ] ، وكقوله في كفر غير المرتد : إن الذين يكفرون بآيات الله - إلى قوله أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين [ 3 \ 22 ] ، وبين الله تعالى في آيات أخر أن الإنعام عليهم في الدنيا ليس للإكرام بل للاستدراج والإهلاك .
كقوله تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 7 \ 182 - 183 ] ، وكقوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] وكقوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ 6 \ 44 ] ، وقوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 - 56 ] ، وقوله : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا [ 19 ] ، وقوله : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة - إلى قوله - والآخرة عند ربك للمتقين [ 43 33 - 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب من أربعة أوجه :
الأول : ويظهر لي صوابه لدلالة ظاهر القرآن عليه ، أن من الكفار من يثيبه الله بعمله في الدنيا كما دلت عليه آيات وصح به الحديث ، ومنهم من لا يثيبه في الدنيا كما دلت عليه آيات أخر ، وهذا مشاهد فيهم في الدنيا .
فمنهم من هو في عيش رغد ، ومنهم من هو في بؤس وضيق .
ووجه دلالة القرآن على هذا أنه تعالى أشار إليه بالتخصيص بالمشيئة في قوله :
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد [ 17 \ 18 ] .
فهي مخصصة لعموم قوله تعالى : نوف إليهم أعمالهم [ 11 \ 15 ] ، وعموم قوله تعالى : ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها [ 42 \ 20 ] .
وممن صرح بأنها مخصصة لهما الحافظ ابن حجر في فتح الباري في كتاب الرقاق في الكلام على قول البخاري : " باب المكثرون هم المقلون " ، وقوله تعالى : [ ص: 303 ] من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها الآيتين .
ويدل لهذا التخصيص قوله في بعض الكفار : خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] .
وجمهور العلماء على حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد ، كما تقرر في الأصول .
الثاني : وهو وجيه أيضا ، أن الكافر يثاب عن عمله بالصحة وسعة الرزق والأولاد ونحو ذلك كما صرح به تعالى في قوله : نوف إليهم أعمالهم فيها يعني الدنيا ، وأكد ذلك بقوله : وهم فيها لا يبخسون وبظاهرها المتبادر منها كما ذكرنا .
فسرها ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك كما نقله عنهم ابن جرير ، وعلى هذا فبطلان أعمالهم في الدنيا بمعنى أنها لم يعتد بها شرعا في عصمة دم ولا ميراث ولا نكاح ولا غير ذلك ، ولا تفتح لها أبواب السماء ، ولا تصعد إلى الله تعالى بدليل قوله : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ 35 \ 10 ] ، ولا تدخر لهم في الأعمال النافعة ولا تكون في كتاب الأبرار في عليين ، وكفى بهذا بطلانا .
أما مطلق النفع الدنيوي بها فهو عند الله كلا شيء ، فلا ينافي بطلانها بدليل قوله : وما الحياة الدنيا إلا متاع [ 3 \ 185 ] .
وقوله : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ 29 \ 64 ] .
وقوله : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة - إلى قوله - للمتقين [ 43 33 - 35 ] ، والآيات في مثل هذا كثيرة .
ومما يوضح هذا المعنى حديث : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء .
ذكر ابن كثير هذا الحديث في تفسير قوله تعالى : ولولا أن يكون الناس أمة الآيات .
[ ص: 304 ] ثم قال : أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره .
ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم : لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما أعطى كافرا منها شيئا .
قال مقيده عفا الله عنه : لا يخفى أن مراد الحافظ ابن كثير رحمه الله بما ذكرناه عنه أن كلتا الطريقتين ضعيفة إلا أن كل واحدة منهما تعتضد بالأخرى فيصلح المجموع للاحتجاج كما تقرر في علم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يشد بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج .
لا تخاصم بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قويا
لأن زكريا بن منظور بن ثعلبة القرظي وزمعة بن صالح الجندي كلاهما ضعيف ، وإنما روى مسلم عن زمعة مقرونا بغيره لا مستقلا بالرواية كما بينه الحافظ ابن حجر في التقريب .
الثالث : أن معنى نوف إليهم أعمالهم أي نعطيهم الغرض الذي عملوا من أجله في الدنيا ، كالذي قاتل ليقال جريء ، والذي قرأ ليقال قارئ ، والذي تصدق ليقال جواد ، فقد قيل لهم ذلك ، وهو المراد بتوفيتهم أعمالهم على هذا الوجه .
ويدل له الحديث الذي رواه أبو هريرة مرفوعا في المجاهد والقارئ والمتصدق أنه يقال لكل واحد منهم : إنما عملت ليقال ، فقد قيل ، أخرجه الترمذي مطولا وأصله عند مسلم كما قاله ابن حجر ورواه أيضا ابن جرير ، وقد استشهد معاوية رضي الله عنه لصحة حديث أبي هريرة هذا بقوله تعالى : نوف إليهم أعمالهم فيها وهو تفسير منه رضي الله عنه لهذه الآية بما يدل لهذا الوجه الثالث .
الرابع : أن المراد بالآية المنافقون الذين يخرجون للجهاد لا يريدون وجه الله ، وإنما يريدون الغنائم فإنهم يقسم لهم فيها في الدنيا ولا حظ لهم من جهادهم في الآخرة ، والقسم لهم منها هو توفيتهم أعمالهم على هذا القول ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق الآية .
[ ص: 305 ] هذه الآية الكريمة تدل على أن هذا الابن من أهل نوح عليه السلام ، وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك حيث قال : يانوح إنه ليس من أهلك [ 11 \ 46 ] .
والجواب أن معنى قوله : ليس من أهلك أي الموعود بنجاتهم في قوله : إنا منجوك وأهلك [ 29 \ 33 ] ، لأنه كافر لا مؤمن .
وقول نوح : إن ابني من أهلي يظنه مسلما من جملة المسلمين الناجين كما يشير إليه قوله تعالى : فلا تسألني ما ليس لك به علم [ 11 \ 46 ] ، وقد شهد الله أنه ابنه حيث قال : ونادى نوح ابنه [ 11 \ 42 ] ، إلا أنه أخبره بأن هذا الابن عمل غير صالح لكفره ، فليس من الأهل الموعود بنجاتهم وإن كان من جملة الأهل نسبا .
قوله تعالى : ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام .
هذه الآية الكريمة تدل على أن إبراهيم رد السلام على الملائكة ، وقد جاء في سورة " الحجر " ما يوهم أنهم لما سلموا عليه أجابهم بأنه وجل منهم من غير رد السلام وذلك قوله تعالى : فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون [ 15 \ 52 ] .
والجواب ظاهر وهو أن إبراهيم أجابهم بكلا الأمرين : رد السلام ، والإخبار بوجله منهم ، فذكر أحدهما في " هود " والآخر في " الحجر " ، ويدل لذلك ذكره تعالى ما يدل عليهما معا في سورة " الذاريات " في قوله : فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون [ 51 \ 25 ] ، لأن قوله : منكرون يدل على وجله منهم ، ويوضح ذلك قوله تعالى : فأوجس منهم خيفة [ 51 \ 28 ] ، في " هود " و " الذاريات " ، مع أن في كل منهما قال : " " سلام " .
قوله تعالى : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض الآية .
تقدم وجه الجمع بينه وبين الآيات التي يظن تعارضها معه كقوله تعالى : خالدين فيها أبدا [ 4 \ 57 ] ، في سورة " الأنعام " ، وسيأتي له إن شاء الله زيادة إيضاح في سورة " النبأ " .
قوله تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم .
اختلف العلماء في المشار إليه بقوله : " ذلك " فقيل : إلا من رحم ربك ، [ ص: 306 ] وللرحمة " خلقهم " ، والتحقيق أن المشار إليه هو اختلافهم إلى شقي وسعيد المذكور في قوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك الاختلاف خلقهم فخلق فريقا للجنة وفريقا للسعير ، كما نص عليه بقوله تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس الآية [ 7 \ 179 ] ، وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه : ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات : فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ، وروى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها : يا عائشة ! إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا ، وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم .
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء .
وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : كل ميسر لما خلق له .
وإذا تقرر أن قوله تعالى : ولذلك خلقهم معناه أنه خلقهم لسعادة بعض وشقاوة بعض ، كما قال : ولقد ذرأنا لجهنم الآية وقال : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] فلا يخفى ظهور التعارض بين هذه الآيات مع قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : ونقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان أن معنى الآية : إلا ليعبدون أي يعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء ، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم ، كما أشار له قوله تعالى : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] .
وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق المجموع وأراد بعضهم ، وقد بينا أمثال ذلك من الآيات التي أطلق فيها المجموع مرادا بعضه في سورة " الأنفال " .
[ ص: 307 ] الوجه الثاني : هو ما رواه ابن جرير عن ابن عباس واختاره ابن جرير أن معنى قوله : إلا ليعبدون أي إلا ليقروا إلي بالعبودية طوعا أو كرها ، لأن المؤمن يطيع باختياره ، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبرا عليه .
الوجه الثالث : ويظهر لي أنه هو الحق ، لدلالة القرآن عليه ، أن الإرادة في قوله : ولذلك خلقهم إرادة كونية قدرية ، والإرادة في قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون إرادة شرعية دينية ، فبين في قوله : ولذلك خلقهم وقوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس أنه أراد بإرادته الكونية القدرية صيرورة قوم إلى السعادة ، وآخرين إلى الشقاوة .
وبين بقوله : إلا ليعبدون أنه يريد العبادة بإرادته الشرعية الدينية من الجن والإنس ، فيوفق من شاء بإرادته الكونية فيعبده ويخذل من شاء فيمتنع من العبادة .
ووجه دلالة القرآن على هذا أنه تعالى بينه بقوله : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [ 4 \ 64 ] ، فعمم الإرادة الشرعية بقوله : إلا ليطاع وبين التخصيص في الطاعة بالإرادة الكونية ، بقوله : بإذن الله فالدعوة عامة والتوفيق خاص .
وتحقيق النسبة بين الإرادة الكونية والقدرية والإرادة الشرعية الدينية أنه بالنسبة إلى وجود المراد وعدم وجوده ، فالإرادة الكونية أعم مطلقا ، لأن كل مراد شرعا يتحقق وجوده في الخارج إذا أريد كونا وقدرا ، كإيمان أبي بكر ، وليس يوجد ما لم يرد كونا وقدرا ولو أريد شرعا كإيمان أبي لهب ، فكل مراد شرعي حصل فبالإرادة الكونية وليس كل مراد كوني حصل مرادا في الشرع .
وأما بالنسبة إلى تعلق الإرادتين بعبادة الإنس والجن لله تعالى ، فالإرادة الشرعية أعم مطلقا والإرادة الكونية أخص مطلقا ، لأن كل فرد من أفراد الجن والإنس أراد الله منه العبادة شرعا ولم يردها من كلهم كونا وقدرا ، فتعم الإرادة الشرعية عبادة جميع الثقلين ، وتختص الإرادة الكونية بعبادة السعداء منهم كما قدمنا من أن الدعوة عامة والتوفيق خاص ، كما بينه تعالى بقوله : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] ، فصرح بأنه يدعو الكل ويهدي من شاء منهم .
وليست بالنسبة بين الإرادة الشرعية والقدرية العموم والخصوص من وجه بل هي [ ص: 308 ] العموم والخصوص المطلق ، كما بينا إلا أن إحداهما أعم مطلقا من الأخرى باعتبار ، والثانية أعم مطلقا باعتبار آخر ، كما بينا ، والعلم عند الله تعالى .
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يوسف
قوله تعالى : وجاء بكم من البدو الآية .
هذه الآية يدل ظاهرها على أن بعض الأنبياء ربما بعث من البادية ، وقد جاء في موضع آخر ما يدل على خلاف ذلك وهو قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [ 12 \ 109 ] .
وأجيب عن هذا بأجوبة : منها أن يعقوب نبئ من الحضر ، ثم انتقل بعد ذلك إلى البادية .
ومنها أن المراد بالبدو نزول موضع اسمه بدا ، هو المذكور في قول جميل أو كثير :
وأنت الذي حببت شغبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما حللت بهذا مرة ثم مرة
بهذا فطاب الواديان كلاهما
وهذا القول مروي عن ابن عباس ، ولا يخفى بعد هذا القول كما نبه عليه الألوسي في تفسيره .
ومنها أن البدو الذي جاءوا منه مستند للحضر ، فهو في حكمه ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 310 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد
قوله تعالى : إنما أنت منذر ولكل قوم هاد .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن لكل قوم هاديا ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد ، سواء فسرنا الهدى بمعناه الخاص أو بمعناه العام ، فمن الآيات الدالة على أن بعض الناس لم يكن لهم هاد بالمعنى الخاص ، قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك [ 6 \ 116 ] ، فهؤلاء المضلون لم يهدهم هاد الهدى الخاص ، الذي هو التوفيق ، لما يرضي الله ، ونظيرها قوله تعالى : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ 11 \ 17 ] ، وقوله : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [ 12 \ 103 ] ، وقوله : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومن الآيات الدالة على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد بالمعنى العام ، الذي هو إبانة الطريق ، قوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] ، بناء على التحقيق من أن " ما " نافية لا موصولة وقوله تعالى : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل الآية [ 5 \ 19 ] .
فالذين ماتوا في هذا الفترة ، لم يكن لهم هاد بالمعنى الأعم أيضا .
والجواب عن هذا من أربعة أوجه :
الأول : أن معنى قوله : ولكل قوم هاد أي داع يدعوهم ويرشدهم إما إلى خير كالأنبياء ، وإما إلى شر كالشياطين ، أي وأنت يا رسول الله منذر هاد إلى كل خير ، وهذا القول مروي عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وقد جاء في القرآن استعمال الهدى في الإرشاد إلى الشر أيضا كقوله تعالى : كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ ص: 311 ] [ 22 \ 4 ] ، وقوله تعالى : فاهدوهم إلى صراط الجحيم [ 37 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم [ 4 \ 168 ] ، كما جاء في القرآن أيضا إطلاق الإمام على الداعي إلى الشر في قوله : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار الآية [ 28 \ 41 ] .
الثاني : أن معنى الآية ، أنت يا محمد - صلى الله عليه وسلم - منذر ، وأنا هادي كل قوم ، ويروى هذا عن ابن عباس من طريق العوفي وعن محمد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد ، قاله ابن كثير .
وعلى هذا القول فقوله : ولكل قوم هاد يعني به نفسه جل وعلا ، ونظيره في القرآن قوله تعالى : ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 14 ] ، يعني نفسه ، كما قاله قتادة ، ونظيره من كلام العرب قول قتادة بن سلمة الحنفي :
ولئن بقيت لأرحلن بغزوة تحوي الغنائم أو يموت كريم
يعني نفسه .
وسيأتي تحرير هذا المبحث إن شاء الله في سورة " القارعة " ، وتحرير المعنى على هذا القول : أنت يا محمد منذر وأنا هادي كل قوم سبقت لهم السعادة والهدى في علمي ، لدلالة آيات كثيرة على أنه تعالى هدى قوما وأضل آخرين ، على وفق ما سبق به العلم الأزلي ، كقوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل [ 16 \ 37 ] .
الثالث : أن معنى ولكل قوم هاد أي قائد ، والقائد الإمام ، والإمام العمل ، قاله أبو العالية ، كما نقله عنه ابن كثير .
وعلى هذا القول فالمعنى : ولكل قوم عمل يهديهم إلى ما هم صائرون إليه من خير وشر ، ويدل لمعنى هذا الوجه قوله تعالى : " هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت " [ 10 \ 30 ] ، على قراءة من قرأها بتائين بمعنى تتبع كل نفس ما أسلفت من خير وشر .
وأما على القول بأن معنى : " تتلو " ، تقرأ في كتاب عملها ما قدمت من خير وشر [ ص: 312 ] فلا دليل في الآية . ويدل له أيضا حديث : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت الحديث .
الرابع : وبه قال مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد : إن المراد بالقوم الأمة والمراد بالهادي النبي ، فيكون معنى قوله : ولكل قوم هاد أي ولكل أمة نبي ، كقوله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ 35 \ 24 ] ، وقوله : ولكل أمة رسول [ 10 \ 47 ] .
وكثيرا ما يطلق في القرآن اسم القوم على الأمة ، كقوله : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه [ 11 \ 25 ] ، وقوله : وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم [ 7 \ 65 ] ، وقوله : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم [ 7 \ 73 ] ، ونحو ذلك .
وعلى هذا القول فالمراد بالقوم في قوله : ولكل قوم هاد أعم من مطلق ما يصدق عليه اسم القوم لغة ، ومما يوضح ذلك حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه في السنن والمسانيد : أنتم توفون سبعين أمة الحديث .
ومعلوم أن ما يطلق عليه اسم القوم لغة أكثر من سبعين بأضعاف ، وحاصل هذا الوجه الرابع أن الآية كقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ، وقوله : ولكل أمة رسول ، وهذا لا إشكال فيه لحصر الأمم في سبعين ، كما بين في الحديث ، فآباء القوم الذين لم ينذروا مثلا المذكورون في قوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] ، ليسوا أمة مستقلة حتى يرد الإشكال في عدم إنذارهم ، مع قوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير بل هم بعض أمة ، وقوله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير لا يشكل عليه قوله تعالى : ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا [ 25 \ 51 ] ، لأن المعنى أرسلنا إلى جميع القرى ، بل إلى الأسود والأحمر رسولا واحدا ، هو محمد صلى الله عليه وسلم ، مع أنا لو شئنا أرسلنا إلى كل قرية بانفرادها رسولا ، ولكن لم نفعل ذلك ليكون الإرسال إلى الناس كلهم فيه الإظهار لفضله صلى الله عليه وسلم على غيره من الرسل ، بإعطائه ما لم يعطه أحد قبله من الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام .
كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح من أن عموم رسالته إلى الأسود والأحمر ، مما خصه الله به دون غيره من الرسل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (625)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 313 إلى صـ 326
[ ص: 313 ] وأقرب الأوجه المذكورة عندنا ، هو ما يدل عليه القرآن العظيم وهو الوجه الرابع ، وهو أن معنى الآية : ولكل قوم هاد ، أي لكل أمة نبي ، فلست يا نبي الله بدعا من الرسل .
ووجه دلالة القرآن على هذا كثرة إتيان مثله في الآيات ، كقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، وقوله : ولكل أمة رسول وقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وعليه فالحكمة في الإخبار بأن لكل أمة نبيا أن المشركين عجبوا من إرساله صلى الله عليه وسلم إليهم ، كما بينه تعالى بقوله : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ 10 \ 2 ] ، وقوله : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 50 \ 2 ] ، وقوله : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا فأخبرهم أن إنذاره لهم ليس بعجب ولا غريب لأن لكل أمة منذرا ، فالآية كقوله : قل ما كنت بدعا من الرسل [ 46 \ 9 ] ، وقوله : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده [ 4 \ 163 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك الآية .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على إيمان أهل الكتاب ، لأن الفرح بما أنزل على النبي دليل الإيمان .
ونظيرها قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته [ 2 \ 121 ] ، وقوله : قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله الآية [ 17 \ 107 ] .
وقد جاءت آيات تدل على خلاف ذلك كقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين - إلى أن قال - إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم [ 98 \ 1 - 6 ] ، وبين في موضع آخر أن الكافرين من أهل الكتاب أكثر ، وهو قوله : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [ 3 \ 110 ] .
والجواب أن الآية من العام المخصوص ، فهي في خصوص المؤمنين من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام ومن أسلم من اليهود وكالثمانين الذين أسلموا من النصارى [ ص: 314 ] المشهورين ، كما قاله الماوردي وغيره ، وهو ظاهر ، ويدل عليه التبعيض في قوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله الآية [ 3 \ 199 ] .
[ ص: 315 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة إبراهيم
قوله تعالى : ويأتيه الموت من كل مكان الآية .
يفهم من ظاهره موت الكافر في النار ، وقوله : وما هو بميت [ 14 \ 17 ] ، يصرح بنفي ذلك .
والجواب أن معنى : ويأتيه الموت أي أسبابه المقتضية له عادة ، إلا أن الله يمسك روحه في بدنه مع وجود ما يقتضي موته عادة ، وأوضح هذا المعنى بعض المتأخرين ممن لا حجة في قوله بقوله :
لقد قتلتك بالهجاء فلم تمت إن الكلاب طويلة الأعمار
قوله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض الآية .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بتبديل الأرض يوم القيامة ، وقد جاء في آية أخرى ما يتوهم منه أنها تبقى ولا تتغير ، وهي قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا [ 18 \ 7 - 8 ] ، فإنه تعالى في هذه الآية صرح بأنه جعل ما على الأرض زينة لها لابتلاء الخلق ، ثم بين أنه يجعل ما على الأرض صعيدا جرزا ، ولم يذكر أنه يغير نفس الأرض ، فيتوهم منه أن التغيير حاصل في ما عليها دون نفسها .
والجواب هو أن حكمة ذكر ما عليها دونها ، لأن ما على الأرض من الزينة والزخارف ومتاع الدنيا ، هو سبب الفتنة والطغيان ، ومعصية الله تعالى .
فالإخبار عنه بأنه فان زائل فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر ، عن الافتتان به ، ولهذه الحكمة خص بالذكر ، فلا ينافي تبديل الأرض المصرح به في الآية الأخرى ، كما هو [ ص: 316 ] ظاهر ، مع أن مفهوم قوله : ما عليها مفهوم لقب لأن الموصول الذي هو واقع على جميع الأجناس الكائنة على الأرض زينة لها ، ومفهوم اللقب لا يعتبر عند الجمهور ، وإذا كان لا اعتبار به لم تظهر منافاة أصلا ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 317 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجر
قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون .
ظاهر هذه الآية أن آدم خلق من صلصال ، أي طين يابس .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : من طين لازب [ 37 \ 11 ] وكقوله : كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] .
والجواب أنه ذكر أطوار ذلك التراب ، فذكر طوره الأول بقوله : من تراب ، ثم بل فصار طينا لازبا ، ثم خمر فصار حمأ مسنونا ، ثم يبس فصار صلصالا كالفخار .
وهذا واضح ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 318 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النحل
قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن هؤلاء الضالين يحملون أوزارهم كاملة ، ويحملون أيضا من أوزار الأتباع الذين أضلوهم .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه لا يحمل أحد وزر غيره ، كقوله تعالى : وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 6 \ 164 ] .
والجواب أن هؤلاء الضالين ما حملوا إلا أوزار أنفسهم ، لأنهم تحملوا وزر الضلال ووزر الإضلال .
فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ، لأن تشريعه لها لغيره ذنب من ذنوبه فأخذ به .
وبهذا يزول الإشكال أيضا في قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم الآية [ 29 \ 13 ] .
قوله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا .
هذه الآية الكريمة يفهم منها أن السكر المتخذ من ثمرات النخيل والأعناب لا بأس به ، لأن الله امتن به على عباده في سورة الامتنان التي هي سورة " النحل " .
وقد حرم الله تعالى الخمر بقوله : رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون الآية [ 5 \ 90 ] ، لأنه وصفها بأنها رجس ، وأنها من عمل الشيطان وأمر [ ص: 319 ] باجتنابها ورتب عليه رجاء الفلاح ، ويفهم منه أن من لم يجتنبها لم يفلح ، وهو كذلك ، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن كل ما خامر العقل فهو خمر ، وأن كل مسكر حرام ، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام .
والجواب ظاهر ، وهو أن آية تحريم الخمر ناسخة لقوله : تتخذون منه سكرا الآية ، ونسخها له هو التحقيق خلافا لما يزعمه كثير من الأصوليين أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها الأولى ، لأن إباحتها الأولى إباحة عقلية وهي المعروفة عند الأصوليين بالبراءة الأصولية ، وتسمى استصحاب العدم الأصلي .
والإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخا ، ولو كان رفعها نسخا لكان كل تكليف في الشرع ناسخا للبراءة الأصلية من التكليف به وإلى كون الإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية ، أشار في مراقي السعود بقوله :
وما من الإباحة العقلية قد أخذت فليست الشرعية
كما أشار إلى أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها ، لأنها إباحة عقلية ، وليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخا بقوله :
أباحها في أول الإسلام براءة ليست من الأحكام
وإنما قلنا : إن التحقيق هو كون تحريم الخمر ناسخا لإباحتها ، لأن قوله تتخذون منه سكرا يدل على إباحة الخمر شرعا ، فرفع هذه الإباحة المدلول عليها بالقرآن رفع حكم شرعي فهو نسخ بلا شك ولا يمكن أن تكون إباحتها عقلية إلا قبل نزول هذه الآية كما هو ظاهر .
ومعلوم عند العلماء أن الخمر نزلت في شأنها أربع آيات من كتاب الله :
الأولى : هذه الآية الدالة على إباحتها .
الثانية : الآية التي ذكر فيها بعض معائبها ، وأن فيها منافع وصرحت بأن إثمها أكبر من نفعها ، وهي قوله تعالى : قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ، فشربها بعد نزولها قوم للمنافع المذكورة وتركها آخرون للإثم الذي هو أكبر من المنافع .
[ ص: 320 ] الثالثة : الآية التي دلت على تحريمها في أوقات الصلاة دون غيرها ، وهي قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون الآية [ 4 \ 43 ] .
الرابعة : الآية التي حرمتها تحريما باتا مطلقا وهي قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر - إلى قوله - فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] ، والعلم عند الله تعالى .
وأما على قول من زعم أن السكر الطعم ، كما اختاره ابن جرير وأبو عبيدة أو أنه الخل ، فلا إشكال في الآية .
قوله تعالى : إنما سلطانه على الذين يتولونه الآية .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الشيطان له سلطان على أوليائه ، ونظيرها الاستثناء في قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] .
وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على نفي سلطانه عليهم ، كقوله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان الآية [ 34 \ 20 - 21 ] .
وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان الآية [ 14 \ 22 ] .
والجواب هو أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه ، وذلك من وجهين :
الأول : أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه ، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان ، وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن .
الثاني : أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ، ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعته ودخولهم في حزبه ، فلم يتسلط عليهم بقوة لأن الله يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ ص: 321 ] الآية [ 4 \ 76 ] ، وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم ، ذكر هذا الجواب بوجهيه ابن القيم .
قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن معية الله خاصة بالمتقين المحسنين .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على عمومها وهي قوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم [ 58 \ 7 ] .
وقوله : وهو معكم أين ما كنتم [ 57 \ 4 ] .
وقوله : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] .
وقوله : وما تكون في شأن الآية [ 10 \ 61 ] .
والجواب أن لله معية خاصة ومعية عامة ، فالمعية الخاصة بالنصر والتوفيق والإعانة ، وهذه لخصوص المتقين المحسنين ، كقوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا الآية [ 16 \ 128 ] .
وقوله : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم الآية [ 8 \ 12 ] .
وقوله : إنني معكما أسمع وأرى [ 20 \ 46 ] .
وقوله : لا تحزن إن الله معنا [ 9 \ 40 ] .
ومعية عامة بالإحاطة والعلم ، لأنه تعالى أعظم وأكبر من كل شيء ، محيط بكل شيء ، فجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ، وله المثل الأعلى ، وسيأتي له زيادة إيضاح في سورة " الحديد " إن شاء الله ، وهي عامة لكل الخلائق ، كما دلت عليه الآيات المتقدمة .
[ ص: 322 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة بني إسرائيل
قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى ينذره على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام .
ونظيرها قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .
وقوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك الآية [ 20 \ 134 ] .
وقوله : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون [ 6 \ 131 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ويؤيده تصريحه تعالى بأن كل أفواج أهل النار جاءتهم الرسل في دار الدنيا في قوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا الآية [ 67 \ 8 - 9 ] .
ومعلوم أن " كلما " صيغة عموم ونظيرها قوله تعالى : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا - إلى قوله - قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ 39 \ 71 ] .
فقوله : وسيق الذين كفروا يعم كل كافر لما تقرر في الأصول ، من أن الموصولات من صيغ العموم لعمومها كلما تشمله صلاتها ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
[ ص: 323 ]
صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع
ومعنى قوله : " وقد تلا الذي إلخ . . . " أن الذي والتي وفروعها صيغ عموم ككل وجميع .
ونظيره أيضا قوله تعالى : وهم يصطرخون فيها - إلى قوله - وجاءكم النذير [ 35 \ 37 ] ، فإنه عام أيضا لأن أول الكلام : والذين كفروا لهم نار جهنم [ 35 \ 36 ] .
وأمثال هذا كثيرة في القرآن مع إنه جاء في بعض الآيات ما يفهم منه أن أهل الفترة في النار ، كقوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ، [ 9 \ 113 ] فإن عمومها يدل على دخول من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك عموم قوله تعالى : ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [ 4 \ 18 ] .
وقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين [ 2 \ 161 ] .
وقوله : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا الآية [ 3 \ 91 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
اعلم أولا أن من لم يأته نذير في دار الدنيا وكان كافرا حتى مات ، اختلف العلماء فيه ، هل هو من أهل النار لكفره ، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير ؟ كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
ذو فترة بالفرع لا يراع وفي الأصول بينهم نزاع
وسنذكر إن شاء الله جواب أهل كل واحد من القولين ، ونذكر ما يقتضي الدليل رجحانه ، فنقول وبالله نستعين :
قد قال قوم : إن الكافر في النار ، ولو مات في زمن الفترة ، وممن جزم بهذا القول النووي في شرح مسلم لدلالة الأحاديث على تعذيب بعض أهل الفترة .
[ ص: 324 ] وحكى القرافي في شرح التفيح الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار لكفرهم ، كما حكاه عنه صاحب نشر البنود .
وأجاب أهل هذا القول عن آية : وما كنا معذبين وأمثالها من ثلاثة أوجه :
الأول : أن التعذيب المنفي في قوله : وما كنا معذبين وأمثالها هو التعذيب الدنيوي ، فلا ينافي ثبوت التعذيب في الآخرة .
وذكر الشوكاني في تفسيره : أن اختصاص هذا التعذيب المنفي بالدنيا دون الآخرة ، ذهب إليه الجمهور واستظهر هو خلافه ، ورد التخصيص بعذاب الدنيا بأنه خلاف الظاهر من الآيات ، وبأن الآيات المتقدمة الدالة على اعتراف أهل النار جميعا ، بأن الرسل أنذروهم في دار الدنيا صريح في نفيه .
الثاني : أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله : وما كنا معذبين الآية ، وأمثالها في غير الواضح الذي لا يلتبس على عاقل .
أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد ، لأن جميع الكفار يقرون بأن الله هو ربهم وهو خالقهم ورازقهم ، ويتحققون أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر ، لكنهم غالطوا أنفسهم ، فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى ، وأنها شفعاؤهم عند الله ، مع أن العقل يقطع بنفي ذلك .
الثالث : أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبله صلى الله عليه وسلم تقوم عليهم بها الحجة ، ومال إليه بعض الميل ابن قاسم في الآيات البينات .
وقد قدمنا في سورة " آل عمران " أن هذا القول يرده القرءان في آيات كثيرة مصرحة بنفي أصل النذير عنهم ، كقوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] .
وقوله : أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك .
وقوله : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك [ 28 \ 46 ] .
[ ص: 325 ] وقوله : وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير [ 34 \ 44 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأجاب القائلون : بأن أهل الفترة معذورون عن مثل قوله : ما كان للنبي - إلى قوله - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ 9 \ 113 ] .
من الآيات المتقدمة بأنهم لا يتبين لهم أنهم من أصحاب الجحيم ولا يحكم لهم بالنار ولو ماتوا كفارا إلا بعد إنذارهم وامتناعهم من الإيمان ، كأبي طالب ، وحملوا الآيات المذكورة على هذا المعنى .
واعترض هذا الجواب بما ثبت في الصحيح من دخول بعض أهل الفترة النار ، كحديث : إن أبي وأباك في النار الثابت في صحيح مسلم وأمثاله من الأحاديث ، واعترض هذا الاعتراض بأن الأحاديث وإن صحت فهي أخبار آحاد ، يقدم عليها القاطع كقوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
واعترض هذا الاعتراض أيضا بأنه لا يتعارض عام وخاص ، فما أخرجه حديث صحيح خرج من العموم ، وما لم يخرجه نص صحيح بقي داخلا في العموم .
واعترض هذا الاعتراض أيضا بأن هذا التخصيص يبطل علة العام لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف وصرح بأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا ، وبين أن ذلك الإنصاف التام علة لعدم التعذيب ، فلو عذب إنسانا واحدا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة ، ولثبتت لذلك المعذب الحجة التي بعث الله الرسل لقطعها ، كما صرح به في قوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .
وهذه الحجة بينهما في سورة " طه " بقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله [ 20 \ 134 ] .
وأشار لها في سورة " القصص " بقوله : ولولا أن تصيبهم مصيبة - إلى قوله - ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] .
وهذا الاعتراض الأخير يجري على الخلاف في النقض هل هو قادح في العلة أو [ ص: 326 ] تخصيص لها ؟ وهو اختلاف كثير معروف في الأصول عقده في مراقي السعود بقوله في تعداد القوادح في الدليل :
منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض رعاة العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح
وقد روي عن مالك تخصيص إن يك الاستنباط لا التنصيص
وعكس هذا قد رآه البعض ومنتقى ذي الاختصار النقض
إن لم يكن منصوصه بظاهر وليس فيما استنبطت بضائر
إن جاء لفقد الشرط أو لما منع والوفق في مثل العرايا قد وقع
والمحققون من أهل الأصول على أن عدم تأثير العلة ، إن كان لوجود مانع من التأثير أو انتفاء شرط التأثير ، فوجودها من تخلف الحكم لا ينقضها ، ولا يقدح فيها ، وخروج بعض أفراد الحكم حينئذ تخصيص للعلة لا نقض لها ، كالقتل عمدا عدوانا ، فإنه علة القصاص إجماعا ، ولا يقدح في هذه العلة تخلف الحكم عنها في قتل الوالد لولده ، لأن تأثيرها منع منه مانع هو الأبوة ، وأما إن كان عدم تأثيرها لا لوجود مانع أو انتفاء شرط فإنه يكون نقضا لها وقدحا فيها ، ولكن يرد على هذا التحقيق ما ذكره بعض العلماء من أن قوله تعالى : ذلك بأنهم شاقوا الله ، [ 8 \ 13 ] ، علة منصوصة لقوله : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم الآية [ 59 \ 3 ] .
مع أن هذه العلة قد توجد ولا يوجد ما عذب به بنو النضير من جلاء أو تعذيب دنيوي ، وهو يؤيد كون النقض تخصيصا مطلقا لا قدحا .
ويجاب عن هذا بأن بعض المحققين من الأصوليين قال : إن التحقيق المذكور محله في العلة المستنبطة دون المنصوصة وهذه منصوصة ، كما قدمنا ذلك في أبيات مراقي السعود في قوله :
. . . . . . وليس فيما استنبطت بضائر إن جاء لفقد الشرط أو لما منع . . . . .
هذا ملخص كلام العلماء وحججهم في المسألة ، والذي يظهر رجحانه بالدليل هو الجمع بين الأدلة لأن الجمع واجب إذا أمكن بلا خلاف ، كما أشار له في المراقي بقوله :
[ ص: 327 ]
والجمع واجب إذا ما أمكنا
إلخ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (626)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 327 إلى صـ 340
ووجه الجمع بين هذه الأدلة هو عذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة بالأمر باقتحام نار فمن اقتحمها دخل الجنة ، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا ، ومن امتنع عذب بالنار ، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا ، لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل .
وبهذا الجمع تتفق الأدلة فيكون أهل الفترة معذورين ، وقوم منهم من أهل النار بعد الامتحان ، وقوم منهم من أهل الجنة بعده أيضا ، ويحمل كل واحد من القولين على بعض منهم علم الله مصيرهم ، وأعلم به نبيه صلى الله عليه وسلم فيزول التعارض .
والدليل على هذا الجمع ورود الأخبار به عنه صلى الله عليه وسلم ، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا بعد أن ساق الأحاديث الدالة على عذرهم وامتحانهم يوم القيامة رادا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم ما نصه :
والجواب عما قال : إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح ، كما نص على ذلك كثير من أئمة العلماء ، ومنها ما هو حسن ، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن ، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة علم هذا النمط ، أفادت الحجة عند الناظر فيها ، انتهى محل الغرض بلفظه .
ثم قال : إن هذا قال به جماعة من محققي العلماء والحفاظ والنقاد وما احتج به البعض لرد هذه الأحاديث من أن الآخرة دار جزاء لا دار عمل وابتلاء ، فهو مردود من وجهين :
الأول : أن ذلك لا ترد به النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم ، ولو سلمنا عموم من قال : من أن الآخرة ليست دار عمل ، لكانت الأحاديث المذكورة مخصصة لذلك العموم .
الثاني : أنا لا نسلم انتفاء الامتحان في عرصات المحشر ، بل نقول : دل القاطع عليه لأن الله تعالى صرح في سورة " القلم " بأنهم يدعون إلى السجود في قوله جل وعلا : يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود الآية [ 68 \ 42 ] .
ومعلوم أن أمرهم بالسجود تكليف في عرصات المحشر ، وثبت في الصحيح أن [ ص: 328 ] المؤمنين يسجدون يوم القيامة وأن المنافق لا يستطيع ذلك ، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة ، طبقا واحدا كلما أراد السجود خر قفاه .
وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها ، أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه ويتكرر ذلك مرارا ويقول الله تعالى : يا ابن آدم ما أغدرك ثم يأذن له في دخول الجنة ، ومعلوم أن تلك العهود والمواثيق تكليف في عرصات المحشر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا .
هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين [ 18 \ 55 ] ووجه الجمع أن الحصر في آية " الإسراء " ، حصر في المانع العادي .
والحصر في آية " الكهف " في المانع الحقيقي ، وإيضاحه هو ما ذكره ابن عبد السلام من أن معنى آية " الكهف " : وما منع الناس أن يؤمنوا إلا أن الله أراد أن يأتيهم سنة الأولين من أنواع الهلاك في الدنيا أو يأتيهم العذاب قبلا في الآخرة ، فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين ، ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي مراده ، فهذا حصر في المانع الحقيقي ، لأن الله هو المانع في الحقيقة .
ومعنى آية : سبحان الذي أسرى [ 17 \ 1 ] ، أنه ما منع الناس من الإيمان إلا استغرابهم أن الله يبعث رسولا من البشر ، واستغرابهم لذلك ليس مانعا حقيقيا بل عاديا يجوز تخلفه فيوجد الإيمان معه بخلاف الأول فهو حقيقي لا يمكن تخلفه ، ولا وجود الإيمان معه ، ذكر هذا الجمع صاحب الإتقان ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما .
هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن الكفار يبعثون يوم القيامة عميا وبكما وصما .
وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [ 19 \ 38 ] [ ص: 329 ] وكقوله : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] ، وكقوله : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا [ 32 \ 12 ] . والجواب عن هذا من أوجه :
الوجه الأول : هو ما استظهره أبو حيان من كون المراد مما ذكر حقيقته ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع .
الوجه الثاني : أنهم لا يرون شيئا يسرهم ، ولا يسمعون كذلك ولا ينطقون بحجة ، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه ، وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وروي أيضا عن الحسن كما ذكره الألوسي في تفسيره ، فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به ، كما تقدم نظيره .
الوجه الثالث : أن الله إذا قال لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 108 ] ، وقع بهم ذاك العمى والصم والبكم من شدة الكرب واليأس من الفرج ، قال تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] وعلى هذا القول تكون الأحوال الثلاثة مقدرة .
[ ص: 330 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكهف
قوله تعالى : إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن المكره على الكفر لا يفلح أبدا .
وقد جاءت آية أخرى تدل على أن المكره على الكفر معذور إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ، وهي قوله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا [ 16 : 106 ] .
والجواب عن هذا من وجهين :
الأول : أن رفع المؤاخذة مع الإكراه من خصائص هذه الأمة فهو داخل في قوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ 7 \ 157 ] ، ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه فهو يدل بمفهومه على خصوصه بأمته صلى الله عليه وسلم .
وليس مفهوم لقب لأن مناط التخصيص هو اتصافه بالأفضلية على من قبله من الرسل ، واتصاف أمته بها على من قبلها من الأمم ، والحديث وإن أعله أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديما وحديثا بالقبول ، ومن أصرح الأدلة في أن من قبلنا ليس لهم عذر بالإكراه حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه لصنم ، مع أنه قربه ليتخلص من شر عبدة الصنم ، وصاحبه الذي امتنع من ذلك قتلوه فعلم أنه لو لم يفعل لقتلوه كما قتلوا صاحبه ، ولا إكراه أكبر من خوف القتل ، ومع هذا دخل النار ولم ينفعه الإكراه ، وظواهر الآيات تدل على ذلك ، فقوله : ولن تفلحوا إذا أبدا . ظاهر في عدم فلاحهم مع الإكراه ، لأن قوله : يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ، صريح في [ ص: 331 ] الإكراه ، وقوله : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 : 286 ] مع أنه تعالى قال : " قد فعلت " ، كما ثبت في صحيح مسلم ، يدل بظاهره على أن التكليف بذلك كان معهودا قبل ، وقوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي [ 20 \ 115 ] مع قوله : وعصى آدم ربه [ 20 \ 121 ] ، فأسند إليه النسيان والعصيان معا ، يدل على ذلك أيضا ، وعلى القول بأن المراد بالنسيان الترك ، فلا دليل في الآية .
وقوله : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، مع قوله : كما حملته على الذين من قبلنا [ 2 \ 286 ] ، ويستأنس لهذا بما ذكره البغوي في تفسيره عن الكلبي من أن المؤاخذة بالنسيان كانت من الإصر على من قبلنا ، وكان عقابها يعجل لهم في الدنيا فيحرم عليهم بعض الطيبات ، وقال بعض العلماء : إن الإكراه عذر لمن قبلنا ، وعليه فالجواب هو :
الوجه الثاني : أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه ، كما يفهم من مفهوم قوله تعالى : وقلبه مطمئن بالإيمان [ 16 \ 106 ] وإلى هذا الوجه جنح صاحب روح المعاني ، والأول أظهر عندي وأوضح ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فأردت أن أعيبها .
هذه الآية تدل على أن عيبها يكون سببا لترك الملك الغاصب لها ، ولذلك خرقها الخضر ، وعموم قوله : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] يقتضي أخذ الملك للمعيبة والصحيحة معا .
والجواب أن في الكلام حذف الصفة ، وتقديره كل سفينة صالحة صحيحة ، وحذف النعت إذا دل المقام عليه جائز ، كما أشار له ابن مالك في الخلاصة بقوله :
وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل
ومن شواهد حذف الصفة قول الشاعر :
ورب أسيلة الخدين بكر مهفهفة لها فرع وجيد
أي لها فرع فاحم وجيد طويل .
[ ص: 332 ] وقول عبيد بن الأبرص الأسيدي :
من قوله قول ومن فعله فعل ومن نائله نائل
يعني من قوله قول فصل ، وفعله فعل جميل ، ونائله نائل جزل .
[ ص: 333 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة مريم
قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها .
هذه الآية الكريمة تدل على أن كل الناس لا بد لهم من ورود النار ، وأكد ذلك بقوله : كان على ربك حتما مقضيا [ 19 \ 71 ] ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن بعض الناس مبعد عنها لا يسمع لها حسا ، وهي قوله تعالى : أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها الآية [ 21 \ 101 - 102 ] .
والجواب هو ما ذكره الألوسي وغيره من أن معنى قوله : " مبعدون " أي عن عذاب النار وألمها ، وقيل : المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبا منها ، ويدل للوجه الأول ما أخرجه الإمام أحمد والحكيم الترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه ، وجماعة عن أبي سمية قال : اختلفنا هاهنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال آخرون : يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله عنه فذكرت ذلك له ، فقال وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه : صمتا ، إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه السلام حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا .
وروى جماعة عن ابن مسعود : أن ورود النار هو المرور عليها ، لأن الناس تمر على الصراط ، وهو جسر منصوب على متن جهنم .
وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري والبيهقي عن الحسن : الورود المرور عليها من غير دخول ، وروي ذلك أيضا عن قتادة ، قاله الألوسي .
واستدل القائلون بأن الورود نفس الدخول كابن عباس بقوله تعالى : فأوردهم النار [ 11 \ 98 ] ، [ ص: 334 ] وقوله : لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها [ 21 \ 99 ] ، وقوله : حصب جهنم أنتم لها واردون [ 21 \ 98 ] ، فالورود في ذلك كله بمعنى الدخول ، واستدل القائلون بأن الورود القرب منها من غير دخول ، بقوله تعالى : ولما ورد ماء مدين [ 28 \ 23 ] .
وقول زهير :
فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم
[ ص: 335 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة طه
قوله تعالى : إن الساعة آتية أكاد أخفيها .
هذه الآية الكريمة يتوهم منها أنه جل وعلا لم يخفها بالفعل ولكنه قارب أن يخفيها لأن كاد فعل مقاربة .
وقد جاء في آيات أخر التصريح بأنه أخفاها كقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] .
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة الآية [ 31 ] .
وكقوله : قل إنما علمها عند ربي [ 7 \ 187 ] وقوله : فيم أنت من ذكراها [ 79 \ 43 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب من سبعة أوجه :
الأول : وهو الراجح ، أن معنى الآية : أكاد أخفيها من نفسي ، أي لو كان ذلك يمكن ، وهذا على عادة العرب ، لأن القرءان نزل بلغتهم ، والواحد منهم إذا أراد المبالغة في كتمان أمر قال : كتمته من نفسي ، أي لا أبوح لأحد ، ومنه قول الشاعر :
أيام تصحبني هند وأخبرها ما كدت أكتمه عني من الخبر
ونظير هذا من المبالغة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله : رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وهذا القول مروي عن أكثر المفسرين ، وممن قال به ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح كما نقله عنهم ابن جرير وجعفر الصادق ، كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ، ويؤيد هذا القول أن في مصحف أبي : " أكاد أخفيها من نفسي " ، [ ص: 336 ] كما نقله الألوسي وغيره .
وروى ابن خالويه أنها في مصحف أبي كذلك بزيادة : " فكيف أظهركم عليها " ، وفي بعض القراءات بزيادة : " فكيف أظهرها لكم " وفي مصحف عبد الله بن مسعود بزيادة : " فكيف يعلمها مخلوق " كما نقله الألوسي وغيره .
الوجه الثاني : أن معنى الآية أكاد أخفيها أي أخفي الأخبار بأنها آتية ، والمعنى أقرب أن أترك الإخبار عن إتيانها من أصله لشدة إخفائي لتعيين وقت إتيانها .
الوجه الثالث : أن الهمزة في قوله : أخفيها ، هي همزة السلب لأن العرب كثيرا ما تجعل الهمزة أداة لسلب الفعل ، كقولهم : شكا إلي فلان فأشكيته أي أزلت شكايته ، وقولهم : عقل البعير فأعقلته ، أي أزلت عقاله .
وعلى هذا فالمعنى : أكاد أخفيها أي أزيل خفاءها بأن أظهرها لقرب وقتها ، كما قال تعالى : اقتربت الساعة الآية [ 54 ] ، وهذا القول مروي عن أبي علي ، كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ، ونقله النيسابوري في تفسيره عن أبي الفتح الموصلي .
ومنه قول امرئ القيس بن عابس الكندي :
فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
على رواية ضم النون من : لا نخفه ، وقد نقل ابن جرير في تفسير هذه الآية عن معمر بن المثنى أنه قال : أنشدنيه أبو الخطاب عن أهله في بلده بضم النون من : لا نخفه ، ومعناه : لا نظهره .
أما على الرواية المشهورة بفتح النون من : لا نخفه ، فلا شاهد في البيت إلا على قراءة من قرأ : " أكاد أخفيها " بفتح الهمزة وممن قرأ بذلك أبو الدرداء وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وحميد ، وروي مثل ذلك عن ابن كثير وعاصم ، وإطلاق خفاه يخفيه بفتح الياء بمعنى أظهره إطلاق مشهور صحيح ، إلا أن القراءة به لا تخلو من شذوذ .
ومنه البيت المذكور على رواية فتح النون وقول كعب بن زهير أو غيره :
دأب شهرين ثم شهرا دميكا بأريكين يخفيان غميرا
أي يظهرانه . وقول امرئ القيس :
[ ص: 337 ]
خفاهن من إنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
الوجه الرابع : أن خبر كاد محذوف ، والمعنى على هذا القول أن الساعة آتية أكاد أظهرها ، فحذف الخبر ثم ابتدأ الكلام بقوله : أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى [ 20 \ 15 ] ، ونظير ذلك من كلام العرب قول ضابئ بن الحارث البرجمي :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
يعني : وكدت أفعل .
الوجه الخامس : أن كاد تأتي بمعنى أراد ، وعليه فمعنى : أكاد أخفيها أريد أن أخفيها ، وإلى هذا القول ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم كما نقله عنهم الألوسي وغيره .
قال ابن جني في المحتسب ، ومن مجيء كاد بمعنى أراد ، قول الشاعر :
كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
كما نقله الألوسي ، وقال بعض العلماء : إن من مجيء كاد بمعنى أراد قوله تعالى كذلك كدنا ليوسف [ 12 ] ، أي أردنا له كما ذكره النيسابوري وغيره .
ومنه قول العرب لا أفعل كذا ولا أكاد أي لا أريد كما نقله بعضهم .
الوجه السادس : أن كاد من الله تدل على الوجوب ، كما دلت عليه عسى في كلامه تعالى نحو : قل عسى أن يكون قريبا [ 17 \ 51 ] ، أي هو قريب .
وعلى هذا فمعنى : أكاد أخفيها أنا أخفيها .
الوجه السابع : أن كاد صلة ، وعليه فالمعنى إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى الآية ، واستدل قائل هذا القول بقول زيد الخيل :
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما أن يكاد قرنه يتنفس
أي فما يتنفس قرنه ، قالوا : ومن هذا القبيل قوله تعالى : لم يكد يراها [ 24 \ 40 ] ، أي لم يرها ، وقول ذي الرمة :
[ ص: 338 ]
إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح
أي لم يبرح على قول هذا القائل .
قالوا : ومن هذا المعنى قول أبي النجم :
وإن أتاك نعي فاندبن أبا قد كاد يطلع الأعداء والخطبا
أي قد اطلع الأعداء .
وقد قدمنا أن أرجح الأقوال الأول ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي .
لا يخفى أنه من سؤل موسى الذي قال له ربه إنه آتاه إياه بقوله : قال قد أوتيت سؤلك ياموسى [ 20 \ 36 ] ، وذلك صريح في حل العقدة من لسانه ، وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على بقاء شيء من الذي كان بلسانه كقوله تعالى عن فرعون : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 \ 52 ] .
وقوله تعالى عن موسى : وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي الآية [ 28 ] .
والجواب أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، لم يسأل زوال ما كان بلسانه بالكلية ، وإنما سأل زوال القدر المانع من أن يفقهوا قوله ، كما يدل عليه قوله : يفقهوا قولي .
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني ، ما نصه : وما سأل أن يزول ذلك بالكلية ، بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه ، وهو قدر الحاجة ، ولو سأل الجميع لزال ، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت بقية ، قال تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 52 ] ، أي يفصح بالكلام .
وقال الحسن البصري : واحلل عقدة من لساني ، قال : حل عقدة واحدة ، ولو سأل أكثر من ذلك أعطي .
[ ص: 339 ] وقال ابن عباس : شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون ردءا له ، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه سؤله ، فحل عقدة من لسانه .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عمر بن عثمان ، حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر ، حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه ، قال : أتاه ذو قرابة له فقال له : ما بك بأس ، لولا أنك تلحن في كلامك ، ولست تعرب في قراءتك ، فقال القرظي : يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك ؟ قال نعم ، قال : فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل قوله ، ولم يزد عليها ، انتهى كلام ابن كثير بلفظه .
وقد نقل فيه عن الحسن البصري وابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ما ذكرنا من الجواب ، ويمكن أن يجاب أيضا بأن فرعون كذب عليه في قوله : هو أفصح مني لسانا [ 28 ] ، يدل على اشتراكه مع هارون في الفصاحة ، فكلاهما فصيح ، إلا أن هارون أفصح ، وعليه فلا إشكال ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فقولا إنا رسولا ربك الآية .
يدل على أنهما رسولان وهما موسى وهارون ، وقوله تعالى : فقولا إنا رسول رب العالمين [ 26 \ 16 ] ، يوهم كون الرسول واحدا .
والجواب من وجهين :
الأول : أن معنى قوله : إنا رسول رب العالمين أي كل واحد منا رسول رب العالمين ، كقول البرجمي : [ الطويل ]
فإني وقيارا بها لغريب
وإنما ساغ هذا لظهور المراد من سياق الكلام .
الوجه الثاني : أن أصل الرسول مصدر كالقبول والولوع ، فاستعمل في الاسم فجاز جمعه ، وتثنيته نظرا إلى كونه بمعنى الوصف وساغ إفراده مع إرادة المثنى أو الجمع نظرا إلى أن الأصل من كونه مصدرا ، ومن إطلاق الرسول على غير المفرد ، قول الشاعر :
[ ص: 340 ]
ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر
يعني وخير الرسل ، وإطلاق الرسول مرادا به المصدر كثير ، ومنه قوله :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بقول ولا أرسلتهم برسول
يعني برسالة .
قوله تعالى : قال فمن ربكما يا موسى .
قوله تعالى : قال فمن ربكما يقتضي أن المخاطب اثنان ، وقوله : ياموسى : يقتضي أن المخاطب واحد ، والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن فرعون أراد خطاب موسى وحده ، والمخاطب إن اشترك معه في الكلام غير مخاطب غلب المخاطب على غيره ، كما لو خاطبت رجلا اشترك معه آخر في شأن والثاني غائب فإنك تقول للحاضر منهما : ما بالكما فعلتما كذا والمخاطب واحد ، وهذا ظاهر .
الوجه الثاني : أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء ، لكونه الأصل في الرسالة .
الثالث : أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء لمطابقة رءوس الآي مع ظهور المراد ، ونظير الآية قوله تعالى : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 20 \ 117 ] ، ويجاب عنه بأن المرأة تبع لزوجها ، وبأن شقاء الكد والعمل يتولاه الرجال أكثر من النساء ، وبأن الخطاب لآدم وحده ، والمرأة ذكرت فيما خوطب به آدم بدليل قوله : إن هذا عدو لك ولزوجك [ 20 \ 117 ] فهي ذكرت فيما خوطب به آدم والمخاطب هو وحده ، ولذا قال : " فتشقى " لأن الخطاب لم يتوجه إليها هي ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي .
ظاهر هذه الآية أن آدم ناس للعهد بالنهي عن أكل الشجرة ، لأن الشيطان قاسمه بالله أنه له ناصح حتى دلاه بغرور وأنساه العهد ، وعليه فهو معذور لا عاص .
[ ص: 341 ] وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] .
والجواب عن هذا من وجهين :
الأول : هو ما قدمنا من عدم العذر بالنسيان لغير هذه الأمة .
الثاني : أن نسي بمعنى ترك ، والعرب ربما أطلقت النسيان بمعنى الترك ومنه قوله تعالى : فاليوم ننساهم الآية [ 7 \ 51 ] ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (627)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 341 إلى صـ 354
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنبياء
قوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون .
هذه الآية تدل على أن جميع المعبودات مع عابديها في النار .
وقد أشارت آيات أخر إلى أن بعض المعبودين كعيسى والملائكة ليسوا من أهل النار ، كقوله تعالى : ولما ضرب ابن مريم مثلا [ 43 \ 57 ] وقوله تعالى : ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون [ 43 \ 40 ] وقوله : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب الآية [ 17 : 57 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : أن هذه الآية لم تتناول الملائكة ولا عيسى لتعبيره بـ : " ما " الدالة على غير العاقل .
وقد أشار تعالى إلى هذا الجواب بقوله : ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون [ 43 \ 58 ] لأنهم لو أنصفوا لما ادعوا دخول العقلاء في لفظ لا يتناولهم لغة .
الثاني : أن الملائكة وعيسى نص الله على إخراجهم من هذا دفعا للتوهم ولهذه الحجة الباطلة بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون الآية [ 21 \ 101 ] ، ، وقوله تعالى : قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [ 21 \ 108 ] .
عبر في هذه الآية الكريمة بلفظ : " إنما " وهي تدل على الحصر عند الجمهور ، [ ص: 343 ] وعليه فهي تدل على حصر الوحي في توحيد الألوهية .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه أوصى إليه غير ذلك كقوله : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن الآية [ 72 ] ، وقوله : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك [ 11 \ 49 ] ، وقوله : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك الآية [ 12 \ 3 ] .
والجواب أن حصر الوحي في توحيد الألوهية حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع ، لأن شرائع كل الأنبياء داخلة في ضمن لا إله إلا الله ، لأن معناها خلع كل الأنداد سوى الله في جميع أنواع العبادات ، وإفراد الله بجميع أنواع العبادات ، فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية .
[ ص: 344 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحج
قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا .
هذه الآية الكريمة تدل على أن قتال الكفار مأذون فيه لا واجب ، وقد جاءت آيات تدل على وجوبه كقوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الآية [ 9 \ 5 ] .
وقوله : وقاتلوا المشركين كافة الآية [ 9 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب ظاهر ، وهو أنه أذن فيه أولا من غير إيجاب ، ثم أوجب بعد ذلك كما تقدم في سورة " البقرة " ، ويدل لهذا ما قاله ابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره من أن آية : أذن للذين يقاتلون هي أول آية نزلت في الجهاد ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
ظاهر هذه الآية أن الأبصار لا تعمى ، وقد جاءت آيات أخر تدل على عمى الأبصار كقوله : أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وكقوله : ليس على الأعمى حرج [ 24 \ 61 ] .
والجواب أن التمييز بين الحق والباطل ، وبين الضار والنافع ، وبين القبيح والحسن ، لما كان كله بالبصائر لا بالأبصار ، صار العمى الحقيقي هو عمى البصائر لا عمى الأبصار ، ألا ترى أن صحة العينين لا تفيد مع عدم العقل كما هو ضروري ، وقوله : فأصمهم وأعمى أبصارهم يعني بصائرهم أو أعمى أبصارهم عن الحق وإن رأت غيره .
[ ص: 345 ] قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .
هذه الآية الكريمة تدل على أن مقدار اليوم عند الله ألف سنة ، وكذلك قوله تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] .
وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، هي قوله تعالى في سورة " سأل سائل " : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة الآية [ 70 \ 4 ] .
اعلم أولا أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس وسعيد بن المسيب سئل عن هذه الآيات فلم يدر ما يقول فيها ، ويقول : لا أدري .
وللجمع بينهما وجهان :
الأول : هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس ، من أن يوم الألف في سورة " الحج " هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، ويوم الألف في سورة " السجدة " ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ، ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة .
الوجه الثاني : أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر ، ويدل لهذا قوله تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] ، ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن كل رسول وكل نبي يلقي الشيطان في أمنيته ، أي تلاوته إذا تلا .
ومنه قول الشاعر في عثمان رضي الله عنه :
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
[ ص: 346 ] وقول الآخر :
تمنى كتاب الله آخر ليلة تمني داود الزبور على رسل
ومعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال : إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ، إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه .
وقال بعض العلماء : إذا تمنى أحب شيئا وأراده ، فكل نبي يتمنى إيمان أمته ، والشيطان يلقي عليهم الوساوس والشبه ، ليصدهم عن سبيل الله ، وعلى أن تمنى بمعنى قرأ وتلا ، كما عليه الجمهور ، فمعنى إلقاء الشيطان في تلاوته ، إلقاؤه الشبه والوساوس فيما يتلوه النبي ليصد الناس عن الإيمان به ، أو إلقاؤه في المتلو ما ليس منه ليظن الكفار أنه منه .
وهذه الآية لا تعارض بينها وبين الآية المصرحة بأن الشيطان لا سلطان له على عباد الله المؤمنين المتوكلين ، ومعلوم أن خيارهم الأنبياء كقوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] ، وقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، وقوله : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 38 \ 82 - 83 ] . وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 22 ] .
ووجه كون الآيات لا تعارض بينها ، أن سلطان الشيطان المنفي عن المؤمنين المتوكلين في معناه وجهان للعلماء :
الأول : أن معنى السلطان الحجة الواضحة ، وعليه فلا إشكال ، إذ لا حجة مع الشيطان البتة ، كما اعترف به فيما ذكر الله عنه في قوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي .
الثاني : أن معناه أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه ، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء وغيرهما ، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة منه ، فإلقاء الشيطان في أمنية النبي سواء فسرناها بالقراءة أو التمني لإيمان أمته ، لا يتضمن [ ص: 347 ] سلطانا للشيطان على النبي ، بل من جنس الوسوسة وإلقاء الشبه لصد الناس عن الحق كقوله : وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل الآية [ 27 \ 24 ] .
فإن قيل : ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة " النجم ، بمكة ، فلما بلغ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ 53 \ 19 - 20 ] ، ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترجى ، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون ، وقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع المهاجرون من الحبشة ، ظنا منهم أن قومهم أسلموا ، فوجدوهم على كفرهم .
وعلى هذا الذي ذكره كثير من المفسرين ، فسلطان الشيطان بلغ إلى حد أدخل به في القرآن ، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الكفر البواح ، حسبما يقتضيه ظاهر القصة المزعومة .
فالجواب أن قصة الغرانيق مع استحالتها شرعا لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج ، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من العلماء ، كما بيناه بيانا شافيا في رحلتنا .
والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ومعلوم أن الكلبي متروك .
وقد بين البزار أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله .
وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره لثبوت هذه القصة ، بأن طرقها كلها ، إما منقطعة أو ضعيفة ، إلا طريق سعيد بن جبير .
وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير لم يروها بها أحد متصلة إلا أمية بن خالد ، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها ، فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ، ثم ساق حديث القصة المذكورة ، وقال : البزار لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور .
وقال البزار : وإنما يروى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، والكلبي [ ص: 348 ] متروك ، فتحصل أن قصة الغرانيق لم ترد متصلة إلا من هذا الطريق الذي شك راويه في الوصل ، وما كان كذلك فضعفه ظاهر .
ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره إنه لم يرها مسندة من وجه صحيح . وقال العلامة الشوكاني في هذه القصة : ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه ومع عدم صحته بل بطلانه ، فقد دفعه المحققون بكتاب الله كقوله : ولو تقول علينا بعض الأقاويل الآية [ 69 \ 44 ] ، وقوله : وما ينطق عن الهوى [ 53 3 ] ، وقوله : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم الآية [ 17 ] .
فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون ، ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل ، وعن البيهقي أنه قال : هي غير ثابتة من جهة النقل .
وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة أن هذه القصة من وضع الزنادقة ، وأبطلها عياض وابن العربي المالكيين والفخر الرازي وجماعات كثيرة .
ومن أصرح الأدلة القرآنية في بطلانها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد ذلك في سورة " النجم " قوله تعالى : إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] ، فلو فرضنا أنه قال تلك الغرانيق العلا ، ثم أبطل ذلك بقوله : إن هي إلا أسماء سميتموها فكيف يفرح المشركون بعد هذا الإبطال والذم التام لأصنامهم ، بأنها أسماء بلا مسميات ، وهذا هو الأخير .
وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة " النجم " بمكة وسجود المشركين ثابت في الصحيح ، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق ، وعلى القول ببطلانها فلا إشكال .
وأما على القول بثبوت القصة ، كما هو رأي الحافظ ابن حجر ، فإنه قال في فتح الباري : إن هذه القصة ثبتت بثلاثة أسانيد ، كلها على شرط الصحيح ، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها ، دل ذلك على أن لها أصلا .
فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة ، من أحسنها وأقربها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة ترتيلا تتخلله سكتات فلما قرأ : ومناة الثالثة الأخرى ، قال الشيطان لعنه الله محاكيا [ ص: 349 ] لصوته صلى الله عليه وسلم : تلك الغرانيق العلا إلخ . . . فظن المشركون أن الصوت صوته صلى الله عليه وسلم ، وهو بريء من ذلك براءة الشمس من اللمس .
وقد بينا هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتنا ، فلذلك اختصرناها هنا ، فظهر أنه لا تعارض بين الآيات ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 350 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة قد أفلح المؤمنون
قوله تعالى : قال رب ارجعون .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من رجوع الضمير إلى الرب ، والضمير بصيغة الجمع والرب جل وعلا واحد .
والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : وهو أظهرها ، أن الواو لتعظيم المخاطب ، وهو الله تعني كما في قول الشاعر :
ألا فارحموني يا إله محمد فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل
وقول الآخر :
وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
الوجه الثاني : أن قوله : " رب " استغاثة به تعالى ، وقوله : " ارجعون " خطاب للملائكة ، ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير عن ابن جريج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة : إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا : نرجعك إلى دار الدنيا ؟ فيقول : إلى دار الهموم والأحزان ؟ فيقول : بل قدموني إلى الله ، وأما الكفار فيقولون له : نرجعك ، فيقول : رب ارجعون .
الوجه الثالث : وهو قول المازني ، أنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال : رب ارجعني ارجعني . ولا يخلو هذا القول عندي من بعد ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون .
هذه الآية الكريمة تدل على أنهم لا أنساب بينهم يومئذ ، وأنهم لا يتساءلون يوم [ ص: 351 ] القيامة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على ثبوت الأنساب بينهم ، كقوله : يوم يفر المرء من أخيه الآية [ 80 ] ، وآيات أخرى تدل على أنهم يتساءلون كقوله تعالى : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ 37 \ 27 ] .
والجواب عن الأول : أن المراد بنفي الأنساب انقطاع فوائدها وآثارها التي كانت مترتبة عليها في الدنيا ، من العواطف والنفع والصلات والتفاخر بالآباء لا نفي حقيقتها .
والجواب عن الثاني من ثلاثة أوجه :
الأول : أن نفي السؤال بعد النفخة الأولى ، وقبل الثانية وإثباته بعدهما معا .
الثاني : أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط ، وإثباته فيما عدا ذلك وهو عن السدي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
الثالث : أن السؤال المنفي سؤال خاص ، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض فيما بينهم من الحقوق لقنوطهم من الإعطاء ، ولو كان المسؤول أبا أو ابنا أو أما أو زوجة ، ذكر هذه الأوجه الثلاثة أيضا صاحب الإتقان .
قوله تعالى : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يزعمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا إلا يوما أو بعض يوم ، وقد جاءت آيات أخر يفهم منها خلاف ذلك ، كقوله تعالى : يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا [ 20 ] ، وقوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة [ 30 ] .
والجواب عن هذا بما دل عليه القرءان ، وذلك أن بعضهم يقول : لبثنا يوما أو بعض يوم [ 18 \ 19 ] . وبعضهم يقول : لبثنا ساعة . وبعضهم يقول : لبثنا عشرا .
ووجه دلالة القرءان على هذا أنه بين أن أقواهم إدراكا وأرجحهم عقلا وأمثلهم طريقة ، هو من يقول : إن مدة لبثهم يوم ، وذلك قوله تعالى : إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما [ 20 \ 104 ] ، فدل ذلك على اختلاف أقوالهم في مدة لبثهم ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 352 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النور
قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين هذه الآية الكريمة تدل على تحريم نكاح الزواني والزناة على الأعفاء والعفائف ، ويدل لذلك قوله : محصنات غير مسافحات الآية [ 4 \ 25 ] ، وقوله : محصنين غير مسافحين الآية [ 4 \ 24 ] .
وقد جاءت آيات أخر تدل بعمومها على خلاف ذلك كقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم الآية [ 24 ] ، وقوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] .
والجواب عن هذا مختلف فيه ، اختلافا مبنيا على الاختلاف في حكم تزوج العفيف للزانية أو العفيفة للزاني ، فمن يقول هو حرام ، يقول : هذه الآية مخصصة لعموم : وأنكحوا الأيامى منكم وعموم : وأحل لكم ما وراء ذلكم .
والذين يقولون بعدم المنع ، وهم الأكثر ، أجابوا بأجوبة :
منها أنها منسوخة بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم واقتصر صاحب الإتقان على النسخ ، وممن قال بالنسخ : سعيد بن المسيب والشافعي .
ومنها أن النكاح في هذه الآية الوطء ، وعليه فالمراد بالآية أن الزاني لا يطاوعه على فعله ويشاركه في مراده إلا زانية مثله ، أو مشركة لا ترى حرمة الزنا .
ومنها أن هذا خاص ، لأنه كان في نسوة بغايا كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تنفق عليه مما كسبته من الزنا ، لأن ذلك هو سبب نزول الآية ، فزعم بعضهم أنها مختصة بذلك السبب بدليل قوله : وأحل لكم الآية ، وقوله : وأنكحوا الأيامى الآية ، وهذا أضعفها ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 353 ] قوله تعالى : الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات .
هذه الآية الكريمة نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما رميت به ، وذلك يؤيد ما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من أن معناها : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء ، أي فلو كانت عائشة رضي الله عنها غير طيبة لما جعلها الله زوجة لأطيب الطيبين صلوات الله عليه وسلامه .
وعلى هذا فالآية الكريمة يظهر تعارضها مع قوله تعالى : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط - إلى قوله - مع الداخلين [ 66 \ 10 ] .
وقوله أيضا : وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون الآية [ 66 \ 11 ] .
إذ الآية الأولى دلت على خبث الزوجتين الكافرتين مع أن زوجيهما من أطيب الطيبين ، وهما نوح ولوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ، والآية الثانية دلت على طيب امرأة فرعون مع خبث زوجها .
والجواب أن في معنى الآية وجهين للعلماء :
الأول : وبه قال ابن عباس وروي عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك ، كما نقله عنهم ابن كثير واختاره ابن جرير : أن معناها الخبيثات من القول ، للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول ، والطيبات من القول للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من القول ، أي فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة من كلام خبيث هم أولى به ، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم ، ولذا قال تعالى : أولئك مبرءون مما يقولون [ 24 \ 26 ] ، وعلى هذا الوجه فلا تعارض أصلا بين الآيات .
الوجه الثاني : هو ما قدمنا عن عبد الرحمن بن زيد ، وعليه فالإشكال ظاهر بين الآيات ، والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه أن قوله الخبيثات للخبيثين إلى آخره على هذا القول من العام المخصوص ، بدليل امرأة نوح وامرأة فرعون .
[ ص: 354 ] وعليه فالغالب تقييض كل من الطيبات والطيبين والخبيثات والخبيثين لجنسه وشكله الملائم له في الخبث أو الطيب ، مع أنه تعالى ربما قيض خبيثة لطيب كامرأة نوح ولوط ، أو طيبة لخبيث كامرأة فرعون لحكمة بالغة ، كما دل عليه قوله : ضرب الله مثلا للذين كفروا وقوله : وضرب الله مثلا للذين آمنوا مع قوله : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] .
فدل ذلك على أن تقييض الخبيثة للطيب أو الطيبة للخبيث فيه حكمة لا يعقلها إلا العلماء ، وهي في تقييض الخبيثة للطيب أن يبين للناس أن القرابة من الصالحين لا تنفع الإنسان ، وإنما ينفعه عمله ، ألا ترى أن أعظم ما يدافع عنه الإنسان زوجته ، وأكرم الخلق على الله رسله ، فدخول امرأة نوح وامرأة لوط النار ، كما قال تعالى : فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين [ 66 \ 10 ] فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن الاغترار بالقرابة من الصالحين والأعلام ، بأن الإنسان إنما ينفعه عمله : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به الآية [ 4 \ 123 ] .
كما أن دخول امرأة فرعون الجنة يعلم منه أن الإنسان إذا دعته الضرورة لمخالطة الكفار من غير اختياره ، وأحسن عمله وصبر على القيام بدينه أنه يدخل الجنة ولا يضره خبث الذين يخالطهم ويعاشرهم ، فالخبيث خبيث وإن خالط الصالحين ، كامرأة نوح ولوط ، والطيب طيب وإن خالط الأشرار كامرأة فرعون ، ولكن مخالطة الأشرار لا تجوز اختيارا ، كما دلت عليه أدلة أخر .
قوله تعالى : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من أن الضمير في قوله : " جاءه " يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء ، لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل ، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضائفين ، فلا تدرك إلا بإدراكهما ، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل إلا بإدراك فاعل وقع منه المجيء ، وقوله تعالى : لم يجده شيئا يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى : " جاءه " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (628)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 355 إلى صـ 368
والجواب عن هذا من وجهين ، ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية ، قال : فإن قائل : وكيف قيل : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، فإن لم يكن السراب شيئا ، فعلام [ ص: 355 ] دخلت الهاء في قوله : حتى إذا جاءه ؟ .
قيل : إنه شيء يرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفا من بعيد ، والهباء فإذا قرب منه دق وصار كالهواء ، وقد يحتمل أن يكون معناه : حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه ، انتهى منه بلفظه .
والوجه الأول أظهر عندي وعنده بدليل قوله ، وقد يحتمل أن يكون معناه . . . إلخ .
قوله تعالى : فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم .
هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم له الإذن لمن شاء ، وقوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم الآية [ 9 \ 43 ] يوهم خلاف ذلك .
والجواب ظاهر ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم له الإذن لمن شاء من أصحابه الذين كانوا معه على أمر جامع ، كصلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك ، كما بينه تعالى بقوله : وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم [ 24 \ 62 ] .
وأما الإذن في خصوص التخلف عن الجهاد ، فهو الذي بين الله لرسوله أن الأولى فيه ألا يبادر بالإذن حتى يتبين له الصادق في عذره من الكاذب ، وذلك في قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين [ 9 : 43 ] .
فظهر أن لا منافاة بين الآيات ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 356 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفرقان
قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا .
هذه الآية الكريمة تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار ، لأن المقيل للقيلولة أو مكانها ، وهي الاستراحة نصف النهار في الحر .
وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار : ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وابن جبير لدلالة هذه الآية على ذلك ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره .
وفي تفسير الجلالين ما نصه : وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار ، كما ورد في حديث ، انتهى منه ، مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ 70 \ 4 ] .
والظاهر في الجواب : أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين ، ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل : الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا [ 25 \ 26 ] فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين يدل على أن المؤمنين ليسوا كذلك ، وقوله تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] ، يدل بمفهومه أيضا على أنه يسير على المؤمنين غير عسير .
كما دل عليه قوله تعالى : مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 8 ] ، وقال ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وأنهم يتقلبون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ، وذلك قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ونقله عنه ابن كثير في تفسيره ، ومن المعلوم أن السرور يقصر به الزمن ، والكروب والهموم سبب لطوله ، كما قال أبو سفيان بن الحارث يرثي النبي صلى الله عليه وسلم [ الوافر ] :
[ ص: 357 ]
أرقت فبات ليلي لا يزول وليل أخي المصيبة فيه طول
وقال الآخر :
فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار
ولقد أجاد من قال :
ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما في الطول والطول طوبى لي لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
ومثل هذا كثير في كلام العرب جدا ، وأما على قول من فسر المقيل بأنه المأوى والمنزل ، كقتادة رحمه الله فلا تعارض بين الآيتين أصلا ، لأن المعنى على هذا القول : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مأوى ومنزلا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أنهم يجزون غرفة واحدة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : لهم غرف من فوقها غرف مبنية ، [ 39 \ 20 ] ، وكقوله : وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] .
والجواب أن الغرفة هنا بمعنى الغرف ، كما تقدم مستوفى بشواهده في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن ، الآية [ 2 \ 29 ] .
وقيل : إن المراد بالغرفة ، الدرجة العليا في الجنة ، وعليه فلا إشكال وقيل : الغرفة الجنة ، سميت غرفة لارتفاعها .
[ ص: 358 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشعراء
قوله تعالى : كذبت قوم نوح المرسلين .
هذه الآية تدل على أن قوم نوح كذبوا جماعة من المرسلين بدليل صيغة الجمع في قوله : " المرسلين " ثم بين ذلك بما يدل على خلاف ذلك وأنهم إنما كذبوا رسولا واحدا وهو نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، بقوله : إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون - إلى قوله - قال رب إن قومي كذبون [ 26 \ 106 - 117 ] .
والجواب عن هذا ، أن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه ، لما كانت دعوتهم واحدة وهي لا إله إلا الله ، صار مكذب واحد منهم مكذبا لجميعهم ، كما يدل لذلك قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا الآية [ 16 \ 36 ] ، وقد بين تعالى أن مكذب بعضهم مكذب للجميع بقوله : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا [ 4 \ 150 - 151 ] .
ويأتي مثل هذا الإشكال ، والجواب في قوله : كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود إلى آخره [ 26 \ 123 - 124 ] ، وقوله : كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح [ 26 \ 141 - 142 ] .
وكذلك في قصة لوط وشعيب ، على الجميع وعلى نبينا الصلاة والسلام .
[ ص: 359 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النمل
قوله تعالى إخبارا عن بلقيس : وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون .
يدل على تعدد رسلها إلى سليمان وقوله : فلما جاء سليمان [ 27 \ 36 ] ، بإفراد فاعل جاء ، وقوله تعالى إخبارا عن سليمان أنه قال : ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود الآية [ 27 \ 37 ] ، يدل على أن الرسول واحد .
والظاهر في الجواب ، هو ما ذكره غير واحد من أن الرسل جماعة ، وعليهم رئيس منهم ، فالجمع نظرا إلى الكل والإفراد نظرا إلى الرئيس ، لأن من معه تبع له ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا .
هذه الآية يدل ظاهرها على أن الحشر خاص بهؤلاء الأفواج المكذبة ، وقوله بعد هذا بقليل : وكل أتوه داخرين [ 27 \ 87 ] ، يدل على أن الحشر عام ، كما صرحت به الآيات القرآنية عن كثرة .
والجواب عن هذا ، هو ما بينه الألوسي في تفسيره من أن قوله : وكل أتوه داخرين يراد به الحشر العام وقوله : ويوم نحشر من كل أمة فوجا أي بعد الحشر العام يجمع الله المكذبين للرسل من كل أمة لأجل التوبيخ المنصوص عليه بقوله : أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون [ 27 \ 84 ] ، فالمراد بالفوج من كل أمة الفوج المكذب للرسل يحشر للتوبيخ حشرا خاصا ، فلا ينافي حشر الكل لفصل القضاء ، وهذا الوجه أحسن من تخصيص الفوج بالرؤساء كما ذهب إليه بعضهم .
قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب .
[ ص: 360 ] هذه الآية تدل بظاهرها على أن الجبال يظنها الرائي ساكنة وهي تسير ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الجبال راسية ، والراسي هو الثابت في محل ، كقوله تعالى : والجبال أرساها [ 79 ] ، وقوله : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [ 16 \ 15 ] .
وقوله : والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي [ 15 \ 19 ] ، وقوله : وجعلنا فيها رواسي شامخات [ 77 \ 27 ] .
ووجه الجمع ظاهر وهو أن قوله : " أرساها " ونحوه ، يعني في الدنيا ، وقوله . وهي تمر مر السحاب يعني في الآخرة ، بدليل قوله : ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات [ 27 \ 87 ] ثم عطف على ذلك قوله : وترى الجبال الآية .
ومما يدل على ذلك النصوص القرآنية على أن سير الجبال في يوم القيامة ، كقوله تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة [ 18 \ 47 ] ، وقوله : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] .
[ ص: 361 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القصص
قوله تعالى : وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه الآية .
الخطاب في قوله : " ولك " يدل على أن المخاطب واحد ، وفي قوله : " لا تقتلوه " يدل على أنه جماعة .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن صيغة الجمع للتعظيم .
الثاني : أنها تعني فرعون وأعوانه الذين هموا معه بقتل موسى ، فأفردت الضمير في قولها : " لك " ، لأن كونه : " قرة عين " في زعمها يختص بفرعون دونهم وجمعته في قولها : " لا تقتلوه " ، لأنهم شركاء معه في الهم بقتله .
الثالث : أنها لما استعطفت فرعون على موسى التفتت إلى المأمورين بقتل الصبيان قائلة لهم : لا تقتلوه . معللة ذلك بقولها : عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا .
قوله تعالى : قال لأهله امكثوا الآية .
أهله زوجته بدليل قوله : وسار بأهله [ 28 \ 29 ] ، لأن المعروف أنه سار من عند شعيب بزوجته ابنة شعيب أو غير شعيب على القول بذلك ، وقوله : " امكثوا " : خطاب جماعة الذكور ، فما وجه خطاب المرأة بخطاب جماعة الذكور .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الإنسان يخاطب المرأة بخطاب الجماعة ، تعظيما لها ، ونظيره قول الشاعر :
[ ص: 362 ]
فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
الثاني : أن معها خادما ، والعرب ربما خاطبت الاثنين خطاب الجماعة .
الثالث : أنه كان له مع زوجته ولدان له اسم الأكبر منهما : جيرشوم واسم الأصغر اليعازر .
والجواب الأول ظاهر ، والثاني والثالث محتملان لأنهما من الإسرائيليات ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت .
قد قدمنا أن وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] أن الهدى المنفي عنه صلى الله عليه وسلم هو منح التوفيق والهدى المثبت له هو إبانة الطريق .
[ ص: 363 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العنكبوت
قوله تعالى : وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء الآية .
لا يعارضه قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم [ 29 \ 13 ] ، كما تقدم بيانه مستوفى في سورة " النحل " ، فأثقالهم أوزار ضلالهم ، والأثقال التي معها أوزار إضلالهم ولا ينقص ذلك شيئا من أوزار أتباعهم الضالين .
قوله تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب .
هذه الآية الكريمة تدل على أن النبوة والكتاب في خصوص ذرية إبراهيم ، وقد ذكر في سورة " الحديد " ما يدل على اشتراك نوح معه في ذلك في قوله : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب [ 57 \ 26 ] .
والجواب أن وجه الاقتصار على إبراهيم أن جميع الرسل بعده من ذريته وذكر نوح معه لأمرين :
أحدهما : أن كل من كان من ذرية إبراهيم فهو من ذرية نوح .
والثاني : أن بعض الأنبياء من ذرية نوح ولم يكن من ذرية إبراهيم : كهود وصالح ولوط ويونس على خلاف فيه ، ولا ينافي ذلك الاقتصار على إبراهيم ، لأن المراد من كان بعد إبراهيم لا من كان قبله أو في عصره ، كلوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام .
[ ص: 364 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الروم
قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا الآية .
هذا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال تعالى بعده : منيبين إليه واتقوه [ 30 \ 31 ] ، فقوله : منيبين إليه حال من ضمير الفاعل المستتر في قوله : فأقم وجهك الواقع على النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقرير المعنى فأقم وجهك يا نبي الله صلى الله عليه وسلم في حال كونكم منيبين إليه ، وقد تقرر عند علماء العربية أن الحال إن لم تكن سببية لا بد أن تكون مطابقة لصاحبها إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا ، فما وجه الجمع بين هذه الحال وصاحبها ؟ فالحال جمع وصاحبها مفرد ، والجواب أن الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، يعم حكمه جميع الأمة ، فالأمة تدخل تحت خطابه صلى الله عليه وسلم ، فتكون الحالة من الجميع الداخل تحت خطابه صلى الله عليه وسلم .
ونظير هذه الآية في دخول الأمة تحت الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم ، قوله تعالى : ياأيها النبي إذا طلقتم النساء [ 65 ] . فقوله : طلقتم النساء بعد ياأيها النبي دليل على دخول الأمة تحت لفظ " النبي " . وقوله : ياأيها النبي لم تحرم [ 66 ] ، ثم قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] وقوله : ياأيها النبي اتق الله [ 33 \ 1 ] ، ثم قال : إن الله كان بما تعملون خبيرا [ 33 \ 2 ] .
وقوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [ 33 \ 37 ] ، ثم قال : لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ 33 \ 37 ] .
وقوله : وما تكون في شأن [ 10 \ 61 ] ، ثم قال : ولا تعملون من عمل [ 10 \ 61 ] .
ودخول الأمة في الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم هو مذهب الجمهور وعليه مالك وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله تعالى ، خلافا للشافعي رحمه الله .
[ ص: 365 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة لقمان
قوله تعالى : وصاحبهما في الدنيا معروفا .
هذه الآية الكريمة تدل على الأمر ببر الوالدين الكافرين ، وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك وهي قوله تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله [ 58 \ 22 ] .
ثم نص على دخول الآباء في هذا بقوله : ولو كانوا آباءهم [ 58 \ 22 ] ، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم ، أنه لا معارضة بين الآيتين .
ووجه الجمع بينهما أن المصاحبة بالمعروف أعم من الموادة ، لأن الإنسان يمكنه إسداء المعروف لمن يوده ومن لا يوده ، والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم ، فكأن الله حذر من المودة المشعرة بالمحبة والموالاة بالباطن لجميع الكفار يدخل في ذلك الآباء وغيرهم ، وأمر الإنسان بأن لا يفعل لوالديه إلا المعروف وفعل المعروف لا يستلزم المودة لأن المودة من أفعال القلوب لا من أفعال الجوارح .
ومما يدل لذلك إذنه صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق أن تصل أمها وهي كافرة ، وقال بعض العلماء : إن قصتها سبب لنزول قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين الآية [ 60 \ 8 ] .
قوله تعالى : ياأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن يوم القيامة لا ينفع فيه والد ولده ، وقد جاءت آية أخرى تدل على رفع درجات الأولاد بسبب صلاح آبائهم حتى يكونوا في درجة الآباء مع أن عملهم - أي الأولاد - لم يبلغهم تلك الدرجة إقرارا لعيون الآباء بوجود الأبناء معهم في منازلهم من الجنة وذلك نفع لهم ، وهي قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء الآية [ 52 \ 21 ] .
[ ص: 366 ] ووجه الجمع أشير إليه بالقيد الذي في هذه الآية وهو قوله تعالى : واتبعتهم ذريتهم بإيمان وعين فيها النفع بأن إلحاقهم بهم في درجاتهم يقيد الإيمان ، فهي أخص من الآية الأخرى والأخص لا يعارض الأعم ، وعلى قول من فسر الآية بأن معنى قوله : لا يجزي والد عن ولده لا يقضي عنه حقا لزمه ولا يدفع عنه عذابا حق عليه ، فلا إشكال في الآية .
وسيأتي لهذا زيادة إيضاح في سورة " النجم " في الكلام على : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى الآية [ 53 \ 39 ] ، إن شاء الله تعالى .
[ ص: 367 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة السجدة
قوله تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم الآية .
أسند في هذه الآية الكريمة التوفي إلى ملك واحد وأسنده في آيات أخر إلى جماعة الملائكة كقوله : إن الذين توفاهم الملائكة الآية [ 8 \ 50 ] .
وقوله : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم الآية [ 6 \ 93 ] .
وأسنده في آية أخرى إلى نفسه جل وعلا وهي قوله تعالى . الله يتوفى الأنفس حين موتها الآية [ 39 \ 42 ] .
والجواب عن هذا ظاهر ، وهو أن إسناده التوفي إلى نفسه ، لأن ملك الموت لا يقدر أن يقبض روح أحد إلا بإذنه ومشيئته تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] ، وأسنده لملك الموت لأنه هو المأمور بقبض الأرواح ، وأسنده للملائكة لأن ملك الموت له أعوان من الملائكة تحت رئاسته ، يفعلون بأمره وينزعون الروح إلى الحلقوم ، فيأخذها ملك الموت ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 368 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحزاب
قوله تعالى : ياأيها النبي .
لا منافاة بينه وبين قوله في آخر الآية : إن الله كان بما تعملون خبيرا [ 33 \ 2 ] ، بصيغة الجمع لدخول الأمة تحت الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قدوتهم كما تقدم بيانه مستوفى في سورة " الروم " .
قوله تعالى : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .
هذه الآية الكريمة تدل بفحوى خطابها أنه لم يجعل لامرأة من قلبين في جوفها .
وقد جاءت آية أخرى يوهم ظاهرها خلاف ذلك وهي قوله تعالى في حفصة وعائشة : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما الآية [ 66 \ 4 ] ، فقد جمع القلوب لهاتين المرأتين .
والجواب عن هذا من وجهين :
أحدهما : أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزآه ، جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع والتثنية والإفراد ، وأفصحها الجمع فالإفراد فالتثنية على الأصح سواء كانت الإضافة لفظا أو معنى .
فاللفظ مثاله : شويت رءوس الكبشين أو رأسهما أو رأسيهما .
والمعنى : قطعت الكبشين رأسهما أو رأسيهما .
والمعنى : قطعت الكبشين رءوسا وقطعت منها الرءوس ، فإن فرق المثنى فالمختار الإفراد نحو : على لسان داود وعيسى ابن مريم [ 5 \ 78 ] ، وإن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه ، أي كانا غير جزأيه ، فالقياس الجمع وفاقا للفراء ، وفي الحديث : ما أخرجكما من بيوتكما إذ أويتما إلى مضاجعكما و : هذه فلانة وفلانة يسألانك عن إنفاقهما على أزواجهما ألهما فيه أجر ، و : لقي عليا وحمزة فضرباه بأسيافهما .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (629)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 369 إلى صـ 382
[ ص: 369 ] واعلم أن الضمائر الراجعة إلى هذا المضاف ، يجوز فيهما الجمع نظرا إلى اللفظ ، والتثنية نظرا إلى المعنى فمن الأول قوله :
خليلي لا تهلك نفوسكما أسا فإن لها فيما دهيت به أسا
ومن الثاني قوله :
قلوبكما يغشاهما الأمن عادة إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر
الثاني : هو ما ذهب إليه مالك بن أنس رحمه الله تعالى : من أن أقل الجمع اثنان ، ونظيره قوله تعالى : فإن كان له إخوة [ 4 \ 11 ] أي أخوان فصاعدا .
قوله تعالى : وأزواجه أمهاتهم .
هذه الآية الكريمة تدل بدلالة الالتزام على أنه صلى الله عليه وسلم أب لهم ، لأن أمومة أزواجه لهم تستلزم أبوته صلى الله عليه وسلم لهم .
وهذا المدلول عليه بدلالة الالتزام مصرح به في قراءة أبي بن كعب رضي الله عنه لأنه يقرؤها : " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " . وهذه القراءة مروية أيضا عن ابن عباس .
وقد جاءت آية أخرى تصرح بخلاف هذا المدلول عليه بدلالة الالتزام والقراءة الشاذة ، وهي قوله تعالى : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم الآية [ 33 \ 40 ] .
والجواب ظاهر ، وهو أن الأبوة المثبتة دينية والأبوة المنفية طينية ، وبهذا يرتفع الإشكال في قوله : وأزواجه أمهاتهم مع قوله : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب [ 33 \ 53 ] ، إذ يقال كيف يلزم الإنسان أن يسأل أمه من وراء حجاب .
والجواب ما ذكرناه الآن فهن أمهات في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام ، لا في الخلوة بهن ولا في حرمة بناتهن ونحو ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الآية .
يظهر تعارضه مع قوله : لا يحل لك النساء من بعد الآية [ 33 \ 52 ] .
والجواب أن قوله : لا يحل لك النساء ، منسوخ بقوله : إنا أحللنا لك أزواجك وقد قدمنا في سورة " البقرة " أنه أحد الموضعين اللذين في المصحف ناسخهما [ ص: 370 ] قبل منسوخهما ، لتقدمه في ترتيب المصحف ، مع تأخره في النزول على القول بذلك .
وقيل الآية الناسخة لها هي قوله تعالى : ترجي من تشاء منهن الآية [ 33 \ 51 ] .
وقال بعض العلماء هي محكمة ، وعليه فالمعنى لا يحل لك النساء من بعد ، أي من بعد النساء التي أحلهن الله لك في قوله : إنا أحللنا لك أزواجك الآية .
فتكون آية : لا يحل لك النساء محرمة ما لم يدخل في آية : إنا أحللنا لك أزواجك كالكتابيات والمشركات والبدويات على القول بذلك فيهن ، وبنات العم والعمات ، وبنات الخال والخالات ، اللاتي لم يهاجرن معه على القول بذلك فيهن أيضا .
والقول بعدم النسخ قال به أبي بن كعب ومجاهد في رواية عنه ، وعكرمة والضحاك في رواية ، وأبو رزين في رواية عنه وأبو صالح والحسن وقتادة في رواية ، والسدي وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره ، واختار عدم النسخ ابن جرير وأبو حيان .
والذي يظهر لنا أن القول بالنسخ أرجح ، وليس المرجح لذلك عندنا أنه قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم منهم : علي وابن عباس وأنس وغيرهم ، ولكن المرجح له عندنا أنه قول أعلم الناس بالمسألة ، أعني أزواجه صلى الله عليه وسلم لأن حلية غيرهن من الضرات وعدمها ، لا يوجد من هو أشد اهتماما بها منهن ، فهن صواحبات القصة .
وقد تقرر في علم الأصول ، أن صاحب القصة يقدم على غيره ، ولذلك قدم العلماء رواية ميمونة وأبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال ، على رواية ابن عباس المتفق عليها ، أنه تزوجها محرما ، لأن ميمونة صاحبة القصة وأبا رافع سفير فيها .
فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن ممن قال بالنسخ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، قالت : ما مات صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء ، وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم .
أما عائشة فقد روى عنها ذلك الإمام أحمد والترمذي وصححه والنسائي في سننيهما ، والحاكم وصححه ، وأبو داود في ناسخه ، وابن المنذر وغيرهم .
[ ص: 371 ] وأما أم سلمة فقد رواه عنها ابن أبي حاتم كما نقله عنه ابن كثير وغيره ، ويشهد لذلك ما رواه جماعة عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة وجويرية رضي الله عنهما بعد نزول : لا يحل لك النساء .
قال الألوسي في تفسيره : إن ذلك أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 372 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة سبأ
قوله تعالى : وهل نجازي إلا الكفور .
هذه الآية الكريمة على كلتا القراءتين ، قراءة ضم الياء مع فتح الزاي مبنيا للمفعول ، مع رفع " الكفور " على أنه نائب الفاعل ، وقراءة " نجازي " بضم النون وكسر الزاي مبنيا للفاعل مع نصب " الكفور " ، على أنه مفعول به تدل على خصوص الجزاء بالمبالغين في الكفر .
وقد جاءت آيات أخر تدل على عموم الجزاء كقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة الآية [ 99 \ 7 ] .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن المعنى ما نجازي هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا المبالغ في الكفران .
الثاني : أن ما يفعل بغير الكافر من الجزاء ليس عقابا في الحقيقة ، لأنه تطهير وتمحيص .
الثالث : أنه لا يجازى بجميع الأعمال مع المناقشة التامة إلا الكافر ، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : من نوقش الحساب فقد هلك وأنه لما سألته عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا [ 84 \ 8 - 9 ] ، قال لها ذلك الغرض ، وبين لها أن من نوقش الحساب ، لا بد أن يهلك .
قوله تعالى : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يسأل أمته أجرا على تبليغ ما جاءهم به من خير الدنيا والآخرة ، ونظيرها قوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ 38 \ 86 ] ، وقوله تعالى : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون [ ص: 373 ] [ 52 \ 40 ] في سورة " الطور " و " القلم " [ 68 \ 46 ] . وقوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [ 25 \ 57 ] ، وقوله : قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين [ 6 \ 90 ] .
وعدم طلب الأجرة على التبليغ هو شأن الرسل كلهم عليهم صلوات الله وسلامه كما قال تعالى : اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا [ 36 \ 20 - 21 ] ، وقال تعالى في سورة " الشعراء " : وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ 26 \ 109 ] ، في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام .
وقال في سورة " هود " عن نوح : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا الآية [ 11 \ 29 ] .
وقال فيها أيضا عن هود : ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني الآية [ 11 \ 51 ] . وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [ 42 \ 23 ] .
اعلم أولا أن في قوله تعالى : إلا المودة في القربى أربعة أقوال :
الأول : رواه الشعبي وغيره عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن جرير وغيره أن معنى الآية : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم .
وكان صلى الله عليه وسلم له في كل بطن من قريش رحم ، فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ ، لأنه مبذول لكل أحد لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس ، وقد فعل له ذلك أبو طالب ، ولم يكن أجرا على التبليغ ، لأنه لم يؤمن وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر ، تحقق أنه لا يسأل أجرا كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
[ ص: 374 ] ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح ، بما يشبه الذم ، وهذا القول هو الصحيح في الآية ، واختاره ابن جرير وعليه فلا إشكال .
الثاني : أن معنى الآية إلا المودة في القربى ، أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم . ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين وعليه فلا إشكال أيضا ، لأن الموادة بين المسلمين واجبة فيما بينهم ، وأحرى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] .
وفي الحديث : مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد ، إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وقال صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا . وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين تبين أنه غير عوض عن التبليغ .
وقال بعض العلماء : الاستثناء منقطع على كلا القولين ، وعليه فلا إشكال .
فمعناه على القول الأول : لا أسألكم عليه أجرا ، لكن أذكركم قرابتي فيكم .
وعلى الثاني : لكن أذكركم الله في قرابتي فاحفظوني فيهم .
القول الثالث : وبه قال الحسن : إلا المودة في القربى ، أي إلا تتوادوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وعليه فلا إشكال ، لأن التقرب إلى الله ليس أجرا على التبليغ .
القول الرابع : إلا المودة في القربى ، أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم ، ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن قاسم .
وعليه أيضا فلا إشكال ، لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية ، وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال .
وأما القول بأن قوله تعالى : إلا المودة في القربى ، منسوخ بقوله تعالى : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] ، فهو ضعيف ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 375 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فاطر
قوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب .
الضمير في قوله : " عمره " يظهر رجوعه إلى المعمر ، فيشكل معنى الآية ، لأن المعمر والمنقوص من عمره ضدان ، فيظهر تنافي الضمير ومفسره .
والجواب أن المراد بالمعمر هنا جنس المعمر الذي هو مطلق الشخص ، فيصدق بالذي لم ينقص من عمره ، وبالذي نقص من عمره ، فصار المعنى : لا يزاد في عمر شخص ولا ينقص من عمر شخص إلا في كتاب .
وهذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة : عندي درهم ونصفه ، أي نصف درهم آخر .
قال ابن كثير في تفسيره : الضمير عائد على الجنس لا على العين ، لأن طويل العمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره ، وإنما عاد الضمير على الجنس ، انتهى منه .
قوله تعالى : ومكر السيئ .
يدل على أن المكر هنا شيء غير السيئ أضيف إلى السيئ للزوم المغايرة بين المضاف والمضاف إليه .
وقوله تعالى : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] ، يدل على أن المراد بالمنكر هنا هو السيئ بعينه لا شيء آخر ، فالتنافي بين التركيب الإضافي والتركيب التقييدي ظاهر .
والذي يظهر والله تعالى أعلم أن التحقيق جواز إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلفت الألفاظ ، لأن المغايرة بين الألفاظ ربما كفت في المغايرة بين المضاف والمضاف إليه ، كما جزم به ابن جرير في تفسيره في غير هذا الموضع .
ويشير إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله :
[ ص: 376 ]
وإن يكونا مفردين فأضف حتما وإلا أتبع الذي ردف
وأما قوله :
ولا يضاف اسم لما به اتحد معنى وأول موهما إذا ورد
فالذي يظهر فيه بعد البحث أنه لا حاجة إلى تأويله مع كثرته في القرءان واللغة العربية ، فالظاهر أنه أسلوب من أساليب العربية بدليل كثرة وروده ، كقوله هنا ومكر السيئ والمكر هو السيئ بدليل قوله : ولا يحيق المكر السيئ الآية ، وكقوله : والدار الآخرة [ 7 \ 169 ] ، والدار هي الآخرة ، وكقوله : شهر رمضان [ 2 \ 185 ] ، والشهر هو رمضان على التحقيق ، وكقوله : من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] ، والحبل هو الوريد .
ونظيره من كلام العرب قول عنترة في معلقته :
ومشك سابغة هتكت فروجها بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
فأصل المشك بالكسر السير الذي تشد به الدرع ، ولكن عنترة هنا أراد به نفس الدرع وأضافه إليها ، كما هو واضح من كلامه ، لأن الحكم بهتك الفروج واقع على الدرع لا على السير الذي تشد به ، كما جزم به بعض المحققين وهو ظاهر خلافا لظاهر كلام صاحب تاج العروس ، فإنه أورد بيت عنترة شاهدا لأن المشك السير الذي تشد به الدرع ، بل المشك في بيت عنترة هذا على التحقيق هو السابغة وأضيف إليها على ما ذكرنا ، وقول امرئ القيس :
كبكر المقاناة البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل
فالبكر هي المقاناة على التحقيق ، وأما على ما ذهب إليه ابن مالك فالجواب تأويل المضاف بأن المراد به مسمى المضاف إليه .
[ ص: 377 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يس
قوله تعالى : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن الآية .
ظاهرها خصوص الإنذار بالمنتفعين به ، ونظيرها قوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] .
وقد جاءت آيات أخر تدل على عموم الإنذار كقوله : وتنذر به قوما لدا [ 19 97 ] ، وقوله : ليكون للعالمين نذيرا [ 25 ] ، وقوله : فأنذرتكم نارا تلظى [ 92 14 ] .
وقد قدمنا وجه الجمع بأن الإنذار في الحقيقة عام ، وإنما خص في بعض الآيات بالمؤمنين لبيان أنهم هم المنتفعون به دون غيرهم ، كما قال تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 ] .
وبين أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى إيمان الأشقياء بقوله : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 2 \ 6 ] .
[ ص: 378 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصافات
قوله تعالى : فنبذناه بالعراء وهو سقيم .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بنبذ يونس بالعراء ، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وقد جاءت آية أخرى يتوهم منها خلاف ذلك وهي قوله : لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء الآية [ 68 \ 49 ] .
والجواب أن الامتناع المدلول عليه بحرف الامتناع الذي هو : " لولا " منصب على الجملة الحالية لا على جواب " لولا " .
وتقرير المعنى : لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء في حال كونه مذموما لكنه تداركته نعمة ربه ، فنبذ بالعراء غير مذموم ، فهذه الحال عمدة لا فضلة ، أو أن المراد بالفضلة ما ليس ركنا في الإسناد ، وإن توقفت صحة المعنى عليه ، ونظيرها قوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين [ 44 38 ] ، وقوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا الآية [ 38 27 ] ، لأن النفي فيهما منصب على الحال لا على ما قبلهما .
[ ص: 379 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ص
قوله تعالى : وهل أتاك نبأ الخصم الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الخصم مفرد ، ولكن الضمائر بعده تدل على خلاف ذلك .
والجواب أن الخصم في الأصل مصدر خصمه ، والعرب إذا نعتت بالمصدر أفردته وذكرته .
وعليه فالخصم يراد به الجماعة والواحد والاثنان ، ويجوز جمعه وتثنيته لتناسي أصله الذي هو المصدر وتنزيله منزلة الوصف .
[ ص: 380 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزمر
قوله تعالى : والذي جاء بالصدق .
ظاهر في الإفراد .
وقوله : أولئك هم المتقون [ 39 \ 33 ] ، يدل على خلاف ذلك ، وقد قدمنا وجه الجمع محررا بشواهده في سورة " البقرة " في الكلام على قوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية [ 2 \ 17 ] .
قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أمرين :
الأول : أن المسرفين ليس لهم أن يقنطوا من رحمة الله ، مع أنه جاءت آية تدل على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : وأن المسرفين هم أصحاب النار [ 40 43 ] .
والجواب أن الإسراف يكون بالكفر ويكون بارتكاب المعاصي دون الكفر ، فآية وأن المسرفين هم أصحاب النار في الإسراف الذي هو كفر .
وآية : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم في الإسراف بالمعاصي دون الكفر ، ويجاب أيضا بأنه آية : وأن المسرفين هم أصحاب النار فيما إذا لم يتوبوا ، وأن قوله : قل ياعبادي الذين أسرفوا فيما إذا تابوا .
والأمر الثاني : أنها دلت على غفران جميع الذنوب مع أنه دلت آيات أخر على أن من الذنوب ما لا يغفر ، وهو الشرك بالله تعالى .
والجواب أن آية : إن الله لا يغفر أن يشرك به [ 4 \ 48 ] ، مخصصة لهذه ، وقال بعض العلماء : هذه مقيدة بالتوبة بدليل قوله تعالى : وأنيبوا إلى ربكم [ ص: 381 ] [ 39 54 ] ، فإنه عطف على قوله لا تقنطوا [ 39 53 ] ، وعليه فلا إشكال ، وهو اختيار ابن كثير .
[ ص: 382 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة غافر
قوله تعالى : ويستغفرون للذين آمنوا .
هذه الآية الكريمة تدل على أن استغفار الملائكة لأهل الأرض خاص بالمؤمنين منهم ، وقد جاءت آية أخرى يدل ظاهرها على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : ويستغفرون لمن في الأرض الآية [ 42 \ 5 ] .
والجواب أن آية " غافر " مخصصة لآية " الشورى " ، والمعنى : ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين لوجوب تخصيص العام بالخاص .
وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن في هذه الآية من توهم المنافاة بين الشرط والجزاء في البعض ، لأن المناسب لاشتراط الصدق هو أن يصيبهم جميع الذي يعدهم لا بعضه ، مع أنه تعالى لم يقل : وإن يك صادقا يصبكم كل الذي يعدكم ، وأجيب عن هذا بأجوبة من أقربها عندي : أن المراد بالبعض الذي يصيبهم هو البعض العاجل الذي هو عذاب الدنيا ، لأنهم أشد خوفا من العذاب العاجل ، ولأنهم أقرب إلى التصديق بعذاب الدنيا منهم بعذاب الآخرة .
ومنها أن المعنى إن يك صادقا فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وعلى هذا فالنكتة المبالغة في التحذير ، لأنه إذا حذرهم من إصابة البعض ، أفاد أنه مهلك مخوف ، فما بال الكل وفيه إظهار لكمال الإنصاف وعدم التعصب ، ولذا قدم احتمال كونه كاذبا .
ومنها أن لفظة البعض يراد بها الكل ، وعليه فمعنى بعض الذي يعدكم : كل الذي يعدكم ، ومن شواهد هذا في اللغة العربية قول الشاعر :
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (630)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 383 إلى صـ 396
يعني : ترى فيها خللا .
وقول القطامي :
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
يعني : قد يدرك المتأني حاجته .
وأما استدلال أبي عبيدة لهذا ، بقول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يعتلق بعض النفوس حمامها
فغلط منه ، لأن مراد لبيد ببعض النفوس نفسه ، كما بينته في رحلتي في الكلام على قوله : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الآية [ 13 31 ] .
[ ص: 384 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فصلت
قوله تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض - إلى قوله - ثم استوى إلى السماء .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 30 ] في الكلام على قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية [ 2 29 ] .
قوله تعالى : فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من منافاة هذه الحال وصاحبها ، لأنها جمع مذكر عاقل وصاحبها ضمير تثنية لغير عاقل ، ولو طابقت صاحبها في التثنية حسب ما يسبق إلى الذهن ، لقال : أتينا طائعتين .
والجواب عن هذا من وجهين :
أحدهما وهو الأظهر عندي ، أن جمعه للسماوات والأرض ، لأن السماوات سبع والأرضين كذلك ، بدليل قوله : ومن الأرض مثلهن [ 65 \ 12 ] ، فالتثنية لفظية تحتها أربعة عشر فردا .
وأما إتيان الجمع على صيغة جمع العقلاء ، فلأن العادة في اللغة العربية أنه إذا وصف غير العاقل بصفة تختص بالعاقل أجري عليه حكمه ، ومنه قوله تعالى : إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين [ 12 4 ] ، لما كان السجود في الظاهر من خواص العقلاء أجرى حكمهم على الشمس والقمر والكواكب لوصفها به ، ونظيره قوله تعالى : قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون [ 26 \ 71 - 73 ] .
[ ص: 385 ] فأجرى على الأصنام حكم العقلاء لتنزيل الكفار لها منزلتهم ، ومن هذا المعنى قول قيس بن الملوح :
أسرب القطا هل من يعير جناحه . . . . .
البيت .
فإنه لما طلب الإعارة من القطا ، وهي من خواص العقلاء أجرى على القطا اللفظ المختص بالعقلاء لذلك ووجه تذكير الجمع أن السماوات والأرض تأنيثها غير حقيقي .
الوجه الثاني : أن المعنى : قالتا أتينا بمن فينا طائعين فيكون فيه تغليب العاقل على غيره ، والأول أظهر عندي ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 386 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشورى
قوله تعالى : وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يوم القيامة ينظرون بعيون خفية ضعيفة النظر ، وقد جاءت آية أخرى يتوهم منها خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] .
والجواب هو ما ذكره صاحب الإتقان ، من أن المراد بحدة البصر : العلم وقوة المعرفة ، قال قطرب : " فبصرك " أي علمك ، ومعرفتك بها قوية من قولهم : بصر بكذا أي علم ، وليس المراد رؤية العين ، قال الفارسي : ويدل على ذلك قوله : فكشفنا عنك غطاءك .
وقاله بعض العلماء : فبصرك اليوم حديد أي تدرك به ما عميت عنه في دار الدنيا ، ويدل لهذا قوله تعالى : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا الآية [ 32 \ 12 ] ، وقوله : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها الآية [ 18 \ 53 ] ، وقوله : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين [ 19 \ 38 ] .
ودلالة القرءان على هذا الوجه الأخير ظاهرة ، فلعله هو الأرجح ، وإن اقتصر صاحب الإتقان على الأول .
[ ص: 387 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزخرف
قوله تعالى : قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم .
كلامهم هذا حق ، لأن كفرهم بمشيئة الله الكونية ، وقد صرح الله بأنهم كاذبون حيث قال : ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ 43 \ 20 ] .
وقد قدمنا الجواب واضحا في سورة الأنعام " في الكلام على قوله : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا [ 6 \ 148 ] .
قوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله .
هذا العطف مع التنكير في هذه الآية يتوهم الجاهل منه تعدد الآلهة ، مع أن الآيات القرآنية مصرحة بأنه واحد كقوله : فاعلم أنه لا إله إلا الله [ 47 \ 19 ] ، وقوله : وما من إله إلا إله واحد الآية [ 5 ] .
والجواب أن معنى الآية ، أنه تعالى هو معبود أهل السماوات والأرض ، فقوله : وهو الذي في السماء إله أي معبود وحده في السماء ، كما أنه المعبود بالحق في الأرض ، سبحانه وتعالى .
[ ص: 388 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الدخان
قوله تعالى : ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم .
هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها ثبوت العزة والكرم لأهل النار ، مع أن الآيات القرآنية مصرحة بخلاف ذلك كقوله : سيدخلون جهنم داخرين [ 40 \ 60 ] ، أي صاغرين أذلاء وكقوله : ولهم عذاب مهين [ 3 178 ] ، وكقوله هنا : خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم [ 44 \ 47 ] .
والجواب أنها نزلت في أبي جهل لما قال : أيوعدني محمد صلى الله عليه وسلم وليس بين جبليها أعز ولا أكرم مني ، فلما عذبه الله بكفره قال له : ذق إنك أنت العزيز الكريم : في زعمك الكاذب ، بل أنت المهان الخسيس الحقير ، فهذا التقريع نوع من أنواع العذاب .
[ ص: 389 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجاثية
قوله تعالى : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا .
لا يعارض قوله تعالى : لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، ولا قوله : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] .
وقد قدمنا الجواب واضحا في سورة " الأعراف " .
[ ص: 390 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحقاف
قوله تعالى : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم مصير أمره ، وقد جاءت آية أخرى تدل أنه عالم بأن مصيره إلى الخير ، وهي قوله تعالى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ 48 وما تأخر تنصيص على حسن العاقبة والخاتمة .
والجواب ظاهر ، وهو أن الله تعالى علمه ذلك بعد أن كان لا يعلمه ويستأنس له بقوله تعالى : وعلمك ما لم تكن تعلم الآية [ 4 \ 113 ] ، وقوله : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا الآية [ 42 \ 52 ] ، وقوله : ووجدك ضالا فهدى [ 93 7 ] وقوله : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 86 ] .
وهذا الجواب ، هو معنى قول ابن عباس ، وهو مراد عكرمة والحسن وقتادة بأنها منسوخة بقوله : ليغفر لك الله ما تقدم الآية [ 48 ] .
ويدل له أن " الأحقاف " مكية ، وسورة " الفتح " نزلت عام ست في رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية .
وأجاب بعض العلماء : بأن المراد ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من الحوادث والوقائع ، وعليه فلا إشكال ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم .
هذه الآية يفهم من ظاهرها أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه وإجارته من عذاب أليم ، لا دخوله الجنة .
[ ص: 391 ] وقد تمسك جماعة من العلماء منهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بظاهر هذه الآية فقالوا : إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة ، مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة وهي قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان [ 55 \ 46 ] ، لأنه تعالى بين شموله للجن والإنس بقوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 47 ] ، ويستأنس لهذا بقوله تعالى : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [ 55 \ 56 ] ، لأنه يشير إلى أن في الجنة جنا يطمثون النساء كالإنس .
والجواب عن هذا ، أن آية " الأحقاف " نص فيها على الغفران والإجارة من العذاب ، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات ، وآية " الرحمن " نص فيها على دخولهم الجنة لأنه تعالى قال فيها : ولمن خاف مقام ربه .
وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم ، فقوله : " لمن خاف " يعم كل خائف مقام ربه ، ثم صرح بشمول ذلك للجن والإنس معا بقوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان ، فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه ، أي نعمه على الإنس والجن ، فلا تعارض بين الآيتين لأن إحداهما بينت ما لم تتعرض له الأخرى ، ولو سلمنا أن قوله : يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم يفهم منه عدم دخولهم الجنة ، فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم .
وقوله : ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ، يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق ، والمنطوق مقدم على المفهوم ، كما تقرر في الأصول .
ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدعى ، وجدناه معدوما من أصله للإجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية ، إما أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة ولا ثالث ، ولا يدخل هذا المفهوم المدعى في شيء من أقسام المفهومين ، أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه فواضح ، وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة ، فلأن عدم دخوله في مفهوم الحصر أو العلة أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف واضح .
فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب ، وليس داخلا في واحد منهما فظهر عدم دخوله فيه أصلا .
أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط فلأن قوله : يغفر لكم من ذنوبكم ، فعل [ ص: 392 ] مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب ، وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر لا بالجملة قبله كما قيل به .
وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور ، فتقرير المعنى : أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، إن تفعلوا ذلك يغفر لكم ، فيتوهم في الآية ، مفهوم هذا الشرط المقدر .
والجواب عن هذا ، أن مفهوم الشرط عند القائل به ، إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه ، وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته فمفهوم إن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به لم يغفر لهم ، وهو كذلك . أما جزاء الشرط فلا مفهوم له لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة فيذكر بعضها جزاء له فلا يدل على نفي غيره . كما لو قلت لشخص مثلا : إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت ، فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع لأن قطع اليد مرتب أيضا على السرقة كالغرم . فكذلك الغفران والإجارة من العذاب ، ودخول الجنة كلها مرتبة على إجابة داعي الله والإيمان به ، فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض ، ثم بين في موضع آخر ، وهذا لا إشكال فيه .
وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب ، فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يمكن انتظام الكلام العربي دونه ، أغنى المسند إليه سواء كان لقبا أو كنية أو اسما أو اسم جنس أو غير ذلك ، وقد أوضحنا اللقب غاية في " المائدة " .
والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب ، أن الغفران والإجارة من العذاب المدعى بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما ، وأن تخصيصهما بالذكر يدل على نفي غيرهما في الآية ، مسندان لا مسند إليهما ، بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ولا يسند إلى الفعل إجماعا ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية .
ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندا إليه ، لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره ، وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة ، كما عللوا به مفهوم الصفة .
وأجيب من جهة الجمهور بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم لا لتخصيصه بالحكم ، إذ لا [ ص: 393 ] يمكن الإسناد بدون مسند إليه ، ومما يوضح ذلك أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به ، إنما هو في المسند إليه لا في المسند ، لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها فيقصد بعضها بالذكر دون بعض ، فيختص الحكم بالمذكور .
أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد ولا الأوصاف أصلا ، وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية .
فلو حكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان ، فإنه المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال يقصد به جميع أفراده ، لأن كل فرد منها حيوان ، بخلاف المسند الذي هو الحيوان في هذا المثال فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد ، لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرس مثلا .
والحكم بالمباين على المباين باطل ، إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء وعامة النظار ، على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الإفراد باعتبار الوجود الخارجي إن كانت خارجية ، أو الذهني أن كانت حقيقية .
وأما المحمول من حيث هو ، فلا تراعى فيه الأفراد البتة ، وإنما يراعى فيه مطلق الماهية .
ولو سلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب ، فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به وربما كان اعتباره كفرا كما لو اعتبر معتبر مفهوم اللقب في قوله تعالى : محمد رسول الله [ 48 \ 29 ] ، فقال : يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد يخيل ولم يكن رسول الله ، فهذا كفر بإجماع المسلمين .
فالتحقيق أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ، ولا عقلا سواء كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع ، أو غير ذلك .
فقولك : جاء زيد ، لا يفهم منه عدم مجيء عمرو . وقولك : رأيت أسدا ، لا يفهم منه عدم رؤيتك غير الأسد .
والقول بالفرق بين اسم الجنس فيعتبر ، واسم العين فلا يعتبر ، لا يظهر ، فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية ، ولا بقول ابن خويز منداد وابن [ ص: 394 ] القصار من المالكية ، ولا بقول بعض الحنابلة باعتبار مفهوم اللقب لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به إلا أنه يقول : لو لم يكن اللقب مختصا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة ، كما علل به مفهوم الصفة .
لأن الجمهور يقولون : ذكر اللقب ليسند إليه وهو واضح لا إشكال فيه ، وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي وأنه أضعف المفاهيم بقوله :
أضعفها اللقب وهو ما أبى من دونه نظم الكلام العربي
وحاصل فقه المسألة ، أن الجن مكلفون على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين وهو صريح قوله تعالى : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
وقوله تعالى : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون [ 26 \ 94 - 95 ] .
وقوله تعالى : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار [ 7 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ، ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين ، والظاهر دخولهم الجنة كما بينا ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 395 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القتال
قوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى . هذه الآية الكريمة تدل على تعدد الأنهار مع تعدد أنواعها .
وقد جاءت آية أخرى يوهم ظاهرها أنه نهر واحد ، وهي قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر [ 54 \ 54 ] ، وقد تقدم الجمع واضحا في سورة " البقرة " في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن الآية [ 2 29 ] .
وبينا أن قوله : " ونهر " : يعني وأنهار .
[ ص: 396 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفتح
قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من تنافي هذه العلة ومعلولها ، لأن فتح الله لنبيه لا يظهر كونه علة لغفرانه له .
والجواب عن هذا من وجهين :
الأول : وهو اختيار ابن جرير لدلالة الكتاب والسنة عليه أن المعنى إن فتح الله لنبيه يدل بدلالة الالتزام على شكر النبي لنعمة الفتح ، فيغفر الله له ما تقدم وما تأخر بسبب شكره بأنواع العبادة على تلك النعمة ، فكأن شكر النبي لازم لنعمة الفتح ، والغفران مرتب على ذلك اللازم .
أما دلالة الكتاب على هذا ففي قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ 110 - 3 ] .
فصرح في هذه السورة الكريمة بأن تسبيحه بحمد ربه واستغفاره لربه شكرا على نعمة الفتح سبب لغفران ذنوبه ، لأنه رتب تسبيحه بحمده واستغفاره بالفاء على مجيء الفتح والنصر ترتيب المعلول على علته ، ثم بين أن ذلك الشكر سبب الغفران بقوله : إنه كان توابا .
وأما دلالة السنة ففي قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض أصحابه لا تجهد نفسك بالعمل ، فإن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر : أفلا أكون عبدا شكورا .
فبين صلى الله عليه وسلم أن اجتهاده في العمل لشكر تلك النعمة وترتب الغفران على الاجتهاد في العمل لا خفاء به .
[ ص: 397 ] الوجه الثاني : أن قوله : إنا فتحنا يفهم منه بدلالة الالتزام الجهاد في سبيل الله ، لأنه السبب الأعظم في الفتح ، والجهاد سبب لغفران الذنوب ، فيكون المعنى : ليغفر لك الله بسبب جهادك المفهوم من ذكر الفتح ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (631)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 397 إلى صـ 410
[ ص: 398 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجرات
قوله تعالى : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى .
هذه الآية الكريمة تدل على أن خلق الناس ابتداؤه من ذكر وأنثى .
وقد دلت آيات أخر على خلقهم من غير ذلك كقوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب [ 40 \ 67 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] .
والجواب واضح ، وهو أن التراب هو الطور الأول ، وقد قال تعالى : وقد خلقكم أطوارا [ 71 \ 14 ] .
وقد بين الله أطوار خلق الإنسان من مبدئه إلى منتهاه بقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين [ 23 \ 12 - 13 ] ، إلى آخره .
[ ص: 399 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ق
قوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد .
هذه الآية تدل على خصوص التذكير بالقرآن بمن يخاف وعيد الله .
وقد جاءت آيات أخر تدل على عمومه كقوله تعالى : فذكر إنما أنت مذكر [ 88 \ 21 ] ، وقوله تعالى : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 20 \ 113 ] .
والجواب أن التذكير بالقرآن عام ، إلا أنه لما كان المنتفع به هو من يخاف وعيد الله ، صار كأنه مختص به ، كما أشار إليه قوله تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 ] ، كما تقدم نظيره مرارا .
[ ص: 400 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الذاريات
قوله تعالى : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين .
لا يخفى ما بين هذا النعت ومنعوته من التنافي في الظاهر ، لأن النعت صيغة جمع والمنعوت لفظ مفرد .
والجواب أن لفظة الضيف تطلق على الواحد والجمع ، لأن أصلها مصدر ضاف ، فنقلت من المصدرية إلى الاسمية ، كما تقدم في سورة " البقرة " .
[ ص: 401 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطور
قوله تعالى : كل امرئ بما كسب رهين .
هذه الآية تقتضي عموم رهن كل إنسان بعمله ، ولو كان من أصحاب اليمين ، نظرا للشمول المدلول عليه بلفظة : " كل " ، وقد جاءت آية أخرى تدل على عدم شمولها لأصحاب اليمين ، وهي قوله تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين [ 74 \ 38 - 39 ] .
والجواب ظاهر ، وهو أن آية " الطور " هذه تخصصها آية " المدثر " .
[ ص: 402 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النجم
قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجتهد في شيء ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه صلى الله عليه وسلم ربما اجتهد في بعض الأمور ، كما دل عليه قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ 9 43 ] .
وقوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية [ 8 \ 67 ] .
والجواب عن هذا من وجهين :
الأول : هو الذي اقتصر عليه ابن جرير ، وصدر به ابن الحاجب في مختصره الأصولي أن معنى قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى أي في كل ما يبلغه عن الله ، إن هو أي كل ما يبلغه عن الله إلا وحي من الله ، لأنه لا يقول على الله شيئا إلا وحي منه ، فالآية رد على الكفار حيث قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرءان ، كما قال ابن الحاجب .
الوجه الثاني : أنه إن اجتهد ، فإنه إنما يجتهد بوحي من الله يأذن له به في ذلك الاجتهاد ، وعليه فاجتهاده بوحي فلا منافاة .
ويدل لهذا الوجه أن اجتهاده في الإذن للمتخلفين عن غزوة تبوك ، أذن الله له فيه حيث قال : فأذن لمن شئت منهم [ 24 62 ] ، فلما أذن للمنافقين عاتبه بقوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين [ 9 43 ] .
فالاجتهاد في الحقيقة إنما هو الإذن قبل التبين لا في مطلق الإذن للنص عليه .
ومسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وعدمه من مسائل الخلاف المشهورة عند علماء الأصول ، [ ص: 403 ] وسبب اختلافهم هو تعارض الآيات في ظاهر الأمر .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر أن التحقيق في هذه المسألة أنه صلى الله عليه وسلم ربما فعل بعض المسائل من غير وحي في خصوصه ، كإذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك قبل أن يتبين صادقهم من كاذبهم ، وكأسره لأسارى بدر ، وكأمره بترك تأبير النخل ، وكقوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت الحديث ، إلى غير ذلك .
وأن معنى قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى لا إشكال فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق بشيء من أجل الهوى ولا يتكلم بالهوى .
وقوله تعالى : إن هو إلا وحي يوحى يعني أن كل ما يبلغه عن الله فهو وحي من الله لا بهوى ولا بكذب ولا افتراء ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى .
هذه الآية الكريمة تدل على أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره .
وقد جاءت آية أخرى تدل على أن بعض الناس ربما انتفع بعمل غيره وهي قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان الآية [ 52 \ 21 ] ، فرفع درجات الأولاد سواء قلنا : إنهم الكبار أو الصغار نفع حاصل لهم ، وإنما حصل لهم بعمل آبائهم لا بعمل أنفسهم .
اعلم أولا أن ما روي عن ابن عباس من أن هذا كان شرعا لمن قبلنا ، فنسخ في شرعنا غير صحيح ، بل آية : وأن ليس للإنسان محكمة ، كما أن القول بأن المراد بالإنسان خصوص الكافر غير صحيح أيضا .
والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الآية إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه ، ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره ، لأنه لم يقل وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى ، وإنما قال : وأن ليس للإنسان . وبين الأمرين فرق ظاهر ، لأن سعي الغير ملك لساعيه ، إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير ، وإن شاء أبقاه لنفسه .
وقد أجمع العلماء على انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه ونحو ذلك ، مما ثبت الانتفاع بعمل الغير فيه .
[ ص: 404 ] الثاني : أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم ، إذ لو كانوا كفارا لما حصل لهم ذلك ، فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين ، كما وقع في الصلاة في الجماعة ، فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا ، وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة ، وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى : واتبعتهم ذريتهم بإيمان .
الثالث : أن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نص قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولكنه من سعي الآباء فهو سعي للآباء أقر الله عيونهم بسببه ، بأن رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم ، فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها ، لأن المقصود بالرفع إكراه الآباء لا الأولاد ، فانتفاع الأولاد تبع ، فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم ، كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين والخلق الذين ينشؤهم للجنة ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 405 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القمر
قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر .
يدل على أن عاقر الناقة واحد ، وقد جاءت آيات أخر تدل على كونه غير واحد ، كقوله : فعقروا الناقة الآية [ 7 \ 77 ] ، وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : أنهم تمالئوا كلهم على عقرها فانبعث أشقاهم لمباشرة الفعل ، فأسند العقر إليهم لأنه برضاهم وممالأتهم .
الوجه الثاني : هو ما قدمنا في سورة " الأنفال " من إسناد الفعل إلى المجموع مرادا به بعضه ، وذكرنا في " الأنفال " نظائره في القرءان العظيم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن الآية [ 47 \ 15 ] .
[ ص: 406 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرحمن
قوله تعالى : يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن إرسال شواظ النار الذي هو لهبها ، والنحاس الذي هو دخانها ، أو النحاس المذاب ، وعدم الانتصار ليس في شيء منه إنعام على الثقلين . وقوله لهم : فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 36 ] ، يفهم منه أن إرسال الشواظ والنحاس وعدم الانتصار من آلاء الله ، أي نعمه على الجن والإنس .
والجواب من وجهين :
الأول : أن تكرير : فبأي آلاء ربكما تكذبان ، للتوكيد ، ولم يكرره متواليا لأن تكريره بعد كل آية أحسن من تكريره متواليا ، وإذا كان للتوكيد فلا إشكال لأن المذكور منه بعد ما ليس من الآلاء مؤكد للمذكور بعد ما هو من الآلاء .
الوجه الثاني : أن فبأي آلاء ربكما تكذبان لم تذكر إلا بعد ذكر نعمة أو موعظة أو إنذار وتخويف ، وكلها من آلاء الله التي لا يكذب بها إلا كافر جاحد ، أما في ذكر النعمة فواضح .
وأما في الموعظة ، فلأن الوعظ تلين له القلوب فتخشع وتنيب ، فالسبب الموصل إلى ذلك من أعظم النعم ، فظهر أن الوعظ من أكبر الآلاء .
وأما في الإنذار والتخويف كهذه الآية ، ففيه أيضا أعظم نعمة على العبد ، لأن إنذاره في دار الدنيا من أهوال يوم القيامة ، من أعظم نعم الله عليه .
ألا ترى أنه لو كان أمام إنسان مسافر مهلكة كبرى وهو مشرف على الوقوع فيها من غير أن يعلم بها ، فجاءه إنسان فأخبره بها وحذره من الوقوع فيها ، أن هذا يكون يدا له عنده وإحسانا يجازيه عليه جزاء أكبر الإنعام .
[ ص: 407 ] وهذا الوجه الأخير هو مقتضى الأصول ، لأنه قد تقرر في علم الأصول أن النص إذا احتمل التوكيد والتأسيس فالأصل حمله على التأسيس لا على التوكيد ، لأن في التأسيس زيادة معنى ليست في التوكيد .
وعلى هذا القول فتكرير : فبأي آلاء ربكما تكذبان إنما هو باعتبار أنواع النعم المذكور قبلها من إنعام أو موعظة أو إنذار .
وقد عرفت أن كلها من آلاء الله ، فالمذكورة بعد نعمه كالمذكورة بعد قوله : وله الجواري المنشآت الآية [ 55 \ 24 ] .
وبعد قوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الآية [ 55 \ 22 ] ، لأن السفن واللؤلؤ والمرجان من آلاء الله كما هو ضروري ، والمذكورة بعد موعظة كالمذكورة بعد قوله : فإذا انشقت السماء الآية [ 55 37 ] ، والمذكورة بعد إنذار أو تخويف ، كالمذكورة بعد قوله : يرسل عليكما شواظ الآية ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 92 - 93 ] .
وقوله : فلنسألن الذين أرسل إليهم الآية [ 7 \ 6 ] في سورة " الأعراف " .
[ ص: 408 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الواقعة
قوله تعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم .
يقتضي أنه لم يقسم بهذا القسم ، وقوله تعالى : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم [ 56 ] ، يدل على خلاف ذلك .
والجواب على وجهين :
الأول : أن " لا " النافية يتعلق نفيها بكلام الكفار ، فمعناها إذا ليس الأمر كما يزعمه الكفار المكذبون للرسول ، وعليه فقوله : " أقسم " إثبات مؤتنف .
الثاني : أن لفظة " لا " صلة ، وقد وعدنا ببيان ذلك بشواهده في الجمع بين قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 ] ، مع قوله تعالى : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] .
[ ص: 409 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحديد
قوله تعالى : ثم استوى على العرش .
يدل على أنه تعالى مستو على عرشه عال على جميع خلقه ، وقوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم [ 57 ] ، يوهم خلاف ذلك .
والجواب أنه تعالى مستو على عرشه كما قال بلا كيف ولا تشبيه ، استواء لائقا بكماله وجلاله ، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل ، فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام ، ونفوذ القدرة سبحانه وتعالى علوا كبيرا ، فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق .
ألا ترى ولله المثل الأعلى أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل أنه ليس داخلا في شيء من أجزاء تلك الحبة مع أنه محيط بجميع أجزائها ومع جميع أجزائها ، والسماوات والأرض ومن فيهما في يده تعالى أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى علوا كبيرا ، فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته بل من حبل وريده ، مع أنه مستو على عرشه لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه ، جل وعلا .
[ ص: 410 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المجادلة
قوله تعالى : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا .
لا يخفى أن ترتيبه تعالى الكفارة بالعتق على الظهار والعود معا يفهم منه أن الكفارة لا تلزم إلا بالظهار والعود معا .
وقوله : من قبل أن يتماسا ، صريح في أن التكفير يلزم كونه قبل العود إلى المسيس .
اعلم أولا أن ما رجحه ابن حزم من قول داود وحكاه ابن عبد البر عن بكير بن الأشج والفراء وفرقة من أهل الكلام ، وقال به شعبة من أن معنى ثم يعودون لما قالوا هو عودهم إلى لفظ الظهار ، فيكررونه مرة أخرى قول باطل ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار ، هل كرر زوجها صيغة الظهار أم لا ، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم مرارا .
والتحقيق ، أن الكفارة ومنع الجماع قبلها لا يشترط فيهما تكرير صيغة الظهار وما زعمه البعض أيضا من أن الكلام فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، ثم يعودون لما قالوا سالمين من الإثم بسبب الكفارة غير صحيح أيضا ، لما تقرر في الأصول من وجوب الحمل على بقاء الترتيب إلا لدليل ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود :
كذلك ترتيب لإيجاب العمل بما له الرجحان مما يحتمل
وسنذكر إن شاء الله الجواب عن هذا الإشكال على مذاهب الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ، فنقول وبالله نستعين :
معنى العود عند مالك فيه قولان ؟ تؤولت المدونة على كل واحد منهما وكلاهما مرجح .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (632)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 411 إلى صـ 424
[ ص: 411 ] الأول : أنه العزم على الجماع فقط .
الثاني : أنه العزم على الجماع وإمساك الزوجة معا ، وعلى كلا القولين فلا إشكال في الآية لأن المعنى حينئذ : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعزمون على الجماع ، أو عليه مع الإمساك فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فلا منافاة بين العزم على الجماع أو عليه مع الإمساك ، وبين الإعتاق قبل المسيس .
وغاية ما يلزم على هذا القول حذف الإرادة وهو واقع في القرءان ، كقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة [ 5 \ 6 ] ، أي أردتم القيام إليها .
وقوله : فإذا قرأت القرآن [ 16 \ 98 ] ، أي أردت قراءته فاستعذ بالله الآية [ 16 98 ] .
ومعنى العود عند الشافعي أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق ، وعليه فلا إشكال في الآية أيضا ، لأن إمساكه إياها الزمن المذكور لا ينافي التكفير قبل المسيس كما هو واضح .
ومعنى العود عند أحمد هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه ، أما العزم فقد بينا أنه لا إشكال في الآية على القول به .
وأما على القول بأنه الجماع ، فالجواب أنه إن ظاهر وجامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر ولا يلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير لأن الآية على هذا القول ، إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير وأنه وجوب التكفير قبل مسيس آخر .
أما الإقدام على المسيس الأول فحرمته معلومة من عموم قوله : من قبل أن يتماسا .
ومعنى العود عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو العزم على الوطء وعليه فلا إشكال كما تقدم .
وما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن مالك من أنه حكى عنه أن العود الجماع ، فهو خلاف المعروف من مذهبه .
[ ص: 412 ] وكذلك ما حكاه عن أبي حنيفة من أن العود هو العود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية فهو خلاف المقرر في فروع الحنفية من أنه العزم على الوطء كما ذكرنا ، وغالب ما قيل في معنى العود راجع إلى ما ذكرنا من أقوال الأئمة رحمهم الله .
وقال بعض العلماء ؟ المراد بالعود الرجوع إلى الاستمتاع بغير الجماع ، والمراد بالمسيس في قوله : من قبل أن يتماسا خصوص الجماع .
وعليه فلا إشكال ، ولكن لا يخفى عدم ظهور هذا القول ، والتحقيق عدم جواز الاستمتاع وطء أو غيره قبل التكفير لعموم قوله : من قبل أن يتماسا .
وأجاز بعضهم الاستمتاع بغير الوطء قائلا : إن المراد بالمسيس في قوله : من قبل أن يتماسا نفس الجماع لا مقدماته .
وممن قال بذلك الحسن البصري والثوري .
وروي عن الشافعي أحد القولين ، وقال بعض العلماء : اللام في قوله : لما قالوا بمعنى في ، أي يعودون فيما قالوا بمعنى يرجعون عنه كقوله صلى الله عليه وسلم الواهب العائد في هبته الحديث ، وقيل : اللام بمعنى عن ، أي يعودون عما قالوا ، أي يرجعون عنه وهو قريب مما قبله .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر والله تعالى أعلم أن العود له مبدأ ومنتهى ، فمبدؤه العزم على الوطء ومنتهاه الوطء بالفعل ، فمن عزم على الوطء فقد عاد بالنية فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء ، ومن وطئ بالفعل تحتم في حقه اللزوم وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير ، ويدلك لهذا أنه صلى الله عليه وسلم لما قال : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه فبين أن العزم على الفعل عمل يؤاخذ به الإنسان .
فإن قيل : ظاهر الآية المتبادر منها يوافق قول الظاهرية الذي قدمنا بطلانه لأن الظاهر المتبادر من قوله : لما قالوا أنه صيغة الظهار فيكون العود لها تكريرها مرة أخرى .
فالجواب أن المعنى " لما قالوا " أنه حرام عليهم وهو الجماع ، ويدل لذلك وجود نظيره في القرآن في قوله تعالى : ونرثه ما يقول [ 19 80 ] ، أي ما يقول إنه يؤتاه [ ص: 413 ] من مال وولد في قوله : لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وما ذكرنا من أن من جامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر ، هو التحقيق خلافا لمن قال : تسقط الكفارة بالجماع قبل المسيس .
كما روي عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف ولمن قال : تلزم به كفارتان .
كما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن مهدي ولمن قال : تلزم به ثلاث كفارات ، كما رواه سعيد بن منصور عن الحسن وإبراهيم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة .
هذه الآية تدل على طلب تقديم الصدقة أمام المناجاة .
وقوله تعالى : أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم الآية [ 58 13 ] ، يدل على خلاف ذلك .
والجواب ظاهر ، وهو أن الأخير ناسخ للأول ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 414 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحشر
قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه .
تقدم وجه الجمع بين الإطلاق الذي في هذه الآية ، والتقييد الذي في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [ 8 \ 24 ] . وقوله تعالى : ولا يعصينك في معروف [ 60 \ 12 ] ، في سورة " الأنفال " .
سورة الممتحنة
قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الكافر إذا لم يقاتل المؤمن في الدين ولم يخرجه من داره لا يحرم بره ، والإقساط إليه ، وقد جاءت آية أخرى تدل على منع موالاة الكفار وموادتهم مطلقا . كقوله تعالى : ومن يتولهم منكم فإنه منهم [ 5 \ 51 ] .
وقوله تعالى : ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون [ 60 \ 9 ] .
وقوله تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر الآية [ 58 \ 22 ] .
والجواب هو أن من يقول بنسخ هذه الآية فلا إشكال فيها على قوله ، وعلى القول بأنها محكمة فوجه الجمع مفهوم منها لأن الكافر الذي لم ينه عن بره والإقساط إليه مشروط فيه عدم القتال في الدين ، وعدم إخراج المؤمنين من ديارهم ، والكافر المنهي عن ذلك فيه هو المقاتل في الدين المخرج للمؤمنين من ديارهم المظاهر للعدو على إخراجهم ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 415 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصف
قوله تعالى : والله لا يهدي القوم الفاسقين .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن الخارج عن طاعة الله لا يهديه الله .
وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا الآية [ 8 \ 38 ] .
وقوله تعالى : كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم [ 4 \ 94 ] .
والجواب أن الآية من العام المخصوص ، فهي في خصوص الأشقياء الذين أزاغ الله قلوبهم عن الهدى لشقاوتهم الأزلية .
وقيل : المعنى لا يهديهم ما داموا على فسقهم ، فإن تابوا منه هداهم .
سورة الجمعة
قوله تعالى : والله لا يهدي القوم الظالمين .
فيه الإشكال ، والجواب مثل ما ذكرنا آنفا في قوله تعالى : والله لا يهدي القوم الظالمين [ 5 108 ] .
قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها الآية .
لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الحد الدائر بين التجارة واللهو لدلالة لفظة " أو " على ذلك ، ولكن هذا الضمير راجع إلى التجارة وحدها دون اللهو ، فبينه وبين مفسره بعض منافاة في الجملة .
[ ص: 416 ] والجواب أن التجارة أهم من اللهو وأقوى سببا في الانفضاض عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم انفضوا عنه من أجل العير ، واللهو كان من أجل قدومها ، مع أن اللغة العربية يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله .
أما في العطف بأو فواضح ، لأن الضمير في الحقيقة راجع إلى الحد الدائر الذي هو واحد لا بعينه ، كقوله تعالى : ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا الآية [ 4 112 ] .
وأما الواو فهو فيها كثير .
ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها الآية [ 2 45 ] .
وقوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها " الآية [ 9 34 ] .
وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه الآية [ 8 20 ] .
ونظيره من كلام العرب قول نابغة ذبيان :
وقد أراني ونعما لاهيين بها والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
[ ص: 417 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المنافقون
قوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية .
هذا الذي شهدوا عليه حق لأن رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم حق لا شك فيها ، وقد كذبهم الله بقوله : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون [ 63 ] . مع أن قوله : والله يعلم إنك لرسوله [ 63 ] ، كأنه تصديق لهم .
والجواب أن تكذيبه تعالى لهم منصب على إسنادهم الشهادة إلى أنفسهم في قولهم : " نشهد " ، وهم في باطن الأمر لا يشهدون برسالته ، بل يعتقدون عدمها ، أو يشكون فيه ، كما يدل للأول قوله تعالى عنهم : أنؤمن كما آمن السفهاء - إلى قوله - ولكن لا يعلمون [ 2 13 ] .
ويدل للثاني قوله تعالى : وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون [ 9 \ 45 ] .
قوله تعالى : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم الآية .
ظاهر هذه الآية الكريمة أنه لا يغفر للمنافقين مطلقا ، وقد جاءت آية توهم الطمع في غفرانه لهم إذا استغفر لهم رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين مرة وهي قوله تعالى : إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم [ 9 80 ] .
والجواب أن هذه الآية هي الأخيرة بينت أنه لا يغفر لهم على كل حال لأنهم كفار في الباطن .
[ ص: 418 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التغابن
قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم . تقدم رفع الإشكال بينه وبين قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ 3 \ 102 ] ، في سورة " آل عمران " .
سورة الطلاق
قوله تعالى : يا أيها النبي الآية .
ظاهر في خصوص الخطاب به صلى الله عليه وسلم ، وقوله : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن الآية [ 65 1 ] ، يقتضي خلاف ذلك .
والجواب هو ما تقدم محررا في سورة " الروم " من أن الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم حكمه عام لجميع الأمة .
قوله تعالى : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا .
إفرد الضمير في هذه الآية في قوله : " يؤمن " وقوله : " يعمل " وقوله : " يدخله " وقوله : " له " . وجمع في قوله : " خالدين " .
والجواب : أن الإفراد باعتبار لفظ : " من " والجمع باعتبار معناها وهو كثير في القرءان العظيم . وفي هذه الآية الكريمة رد على من زعم أن مراعاة المعنى لا تجوز بعدها مراعاة اللفظ لأنه في هذه الآية راعى المعنى في قوله : " خالدين " ثم راعى اللفظ في قوله : قد أحسن الله له رزقا .
[ ص: 419 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التحريم
قوله تعالى : ياأيها النبي .
مع قوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] ، يجري فيه من الإشكال .
والجواب ما تقدم في سورة " الطلاق " .
قوله تعالى : وكانت من القانتين .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن المرأة ليست من الرجال ، وهو تعالى لم يقل من القانتات .
الجواب هو إطباق أهل اللسان العربي على تغليب الذكر على الأنثى في الجمع ، فلما أراد أن يبين أن مريم من عباد الله القانتين وكان منهم ذكور وإناث غلب الذكور كما هو الواجب في اللغة العربية ، ونظيره قوله تعالى : إنك كنت من الخاطئين [ 12 \ 29 ] ، وقوله : إنها كانت من قوم كافرين [ 27 \ 43 ] .
[ ص: 420 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الملك
قوله تعالى : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير .
ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أنهم ما كانوا يسمعون في الدنيا ولا يعقلون ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا [ 46 \ 26 ] .
وقوله : فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين [ 29 \ 38 ] .
وقد قدمنا الجواب عن هذا محررا في الكلام على قوله : صم بكم [ 2 \ 18 ] ، وعلى قوله : أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا الآية [ 2 \ 170 ] .
سورة القلم
قوله تعالى : لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء الآية .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله : فنبذناه بالعراء الآية [ 37 \ 145 ] .
[ ص: 421 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحاقة
قوله تعالى : إني ظننت أني ملاق حسابيه .
تقدم رفع الإشكال بينه وبين الآيات الدالة على أن الظن لا يكفي ، كقوله : إن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 10 \ 36 ] ، في الكلام على قوله : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [ 2 \ 46 ] في سورة " البقرة " .
قوله تعالى : ولا طعام إلا من غسلين .
ظاهر هذا الحصر أنه لا طعام لأهل النار إلا الغسلين ، وهو ما يسيل من صديد أهل النار على أصح التفسيرات ، لأنه فعلين من الغسل لأن الصديد كأنه غسالة قروح أهل النار ، أعاذنا الله والمسلمين منها .
وقد جاءت آية أخرى تدل على حصر طعامهم في غير الغسلين وهي قوله تعالى : ليس لهم طعام إلا من ضريع [ 88 \ 6 ] ، وهو الشبرق اليابس على أصح التفسيرات ، ويدل لهذا قول أبي ذؤيب :
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى وصار ضريعا بان عنه النحائص
وللعلماء عن هذا أجوبة كثيرة أحسنها عندي اثنان منها :
الأول : أن العذاب ألوان ، والمعذبون طبقات ، فمنهم من لا طعام له إلا من غسلين ، ومنهم من لا طعام له إلا من ضريع ، ومنهم من لا طعام له إلا الزقوم ، ويدل لهذا قوله تعالى : لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 15 \ 44 ] .
الثاني : أن المعنى في جميع الآيات أنهم لا طعام لهم أصلا لأن الضريع لا يصدق عليه اسم الطعام ولا تأكله البهائم فأحرى الآدميون .
[ ص: 422 ] وكذلك الغسلين ليس من الطعام ، فمن طعامه الضريع لا طعام له ، ومن طعامه الغسلين كذلك . ومنه قولهم : فلان لا ظل له إلا الشمس ، ولا دابة إلا دابة ثوبان يعنون القمل ، ومرادهم لا ظل له أصلا ولا دابة له أصلا ، وعليه فلا إشكال ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 423 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة سأل سائل
قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله : في يوم كان مقداره ألف سنة [ 32 \ 5 ] .
وقوله : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] ، في سورة " الحج " .
وقوله : أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 6 ] ، تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين [ 4 \ 23 ] في سورة " النساء " . [ ص: 424 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة نوح
قوله تعالى : إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا .
هذه الآية الكريمة تدل على أن نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عالم بما يصير إليه الأولاد من الفجور والكفر قبل ولادتهم ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله ، كقوله : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] .
وكقول نوح نفسه فيما ذكره الله عنه في سورة " هود " : ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب الآية [ 11 \ 31 ] .
والجواب عن هذا ظاهر ، وهو أنه علم بوحي من الله أن قومه لا يؤمن منهم أحد إلا من آمن ، كما بينه بقوله تعالى : وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن الآية [ 11 \ 36 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (633)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 425 إلى صـ 438
[ ص: 425 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجن
قوله تعالى : وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا .
لا يعارض قوله : إن الله يحب المقسطين [ 5 \ 42 ] .
لأن القاسط هو الجائر ، والمقسط هو العادل ، فهما ضدان .
قوله تعالى : ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا الآية .
أفرد الضمير في قوله : " له " وجمع قوله : " خالدين " .
والجواب هو ما تقدم من أن الإفراد باعتبار لفظ : " من " والجمع باعتبار معناها ، وهو ظاهر .[ ص: 426 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المزمل
قوله تعالى : ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا .
وقوله : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل - إلى قوله - وطائفة من الذين معك الآية [ 73 \ 20 ] ، يدل على وجوب قيام الليل على الأمة ، لأن أمر القدوة أمر لأتباعه .
وقوله : وطائفة من الذين معك دليل على عدم الخصوص به صلى الله عليه وسلم .
وقد ذكر الله ما يدل على خلاف ذلك في قوله : فاقرءوا ما تيسر من القرآن [ 73 20 ] ، وقوله : فاقرءوا ما تيسر منه [ 73 20 ] ، والجواب ظاهر ، وهو أن الأخير ناسخ للأول ثم نسخ الأخير أيضا بالصلوات الخمس .
قوله تعالى : وكانت الجبال كثيبا مهيلا .
لا يعارض قوله : وتكون الجبال كالعهن المنفوش [ 101 5 ] ، لأن قوله : وكانت الجبال كثيبا مهيلا تشبيه بليغ ، والجبال بعد طحنها المنصوص عليه بقوله : وبست الجبال بسا [ 56 \ 15 ] تشبه الرمل المتهايل وتشبه أيضا الصوف المنفوش .
[ ص: 427 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المدثر
قوله تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة الآية .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : كل امرئ بما كسب رهين الآية [ 52 \ 21 ] .سورة القيامة
قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة .
لا يعارض إقسامه به في قوله : واليوم الموعود [ 85 ] ، والجواب من وجهين :
أحدهما : أن " لا " نافية لكلام الكفار .
الثاني : أنها صلة كما تقدم ، وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ 6 103 ] .[ ص: 428 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإنسان
قوله تعالى : وحلوا أساور من فضة .
لا يعارضه قوله تعالى : يحلون فيها من أساور من ذهب الآية [ 18 \ 31 ] .
ووجه الجمع ظاهر وهو أنهما جنتان أوانيهما وجميع ما فيهما من فضة ، وأخريان أوانيهما وجميع ما فيهما من ذهب ، والعلم عند الله تعالى .سورة المرسلات
قوله تعالى : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون .
هذه الآية الكريمة تدل على أن أهل النار لا ينطقون ولا يعتذرون .
وقد جاءت آيات تدل على أنهم ينطقون ويعتذرون ، كقوله تعالى : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، وقوله : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا [ 40 ] ، وقوله : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون [ 26 \ 97 - 99 ] ، وقوله : ربنا هؤلاء أضلونا [ 7 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب عن هذا من أوجه :
الأول : أن القيامة مواطن ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون .
الثاني : أنهم لا ينطقون بما لهم فيه فائدة وما لا فائدة فيه كالعدم .
الثالث : أنهم بعد أن يقول الله لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 108 ] .
[ ص: 429 ] ينقطع نطقهم ولم يبق إلا الزفير والشهيق .
قال تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 85 ] ، وهذا الوجه الثالث راجع للوجه الأول .[ ص: 430 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النبأ
قوله تعالى : لابثين فيها أحقابا .
تقدم وجه الجمع بينه هو والآيات المشابهة له كقوله تعالى : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك [ 11 107 ] ، مع الآيات المقتضية لدوام عذاب أهل النار بلا انقطاع كقوله : خالدين فيها أبدا [ 4 \ 57 ] ، في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله الآية [ 6 \ 128 ] ، فقد بينا هناك أن العذاب لا ينقطع عنهم وبينا وجه الاستثناء بالمشيئة ، وأما وجه الجمع بين الأحقاب المذكورة هنا مع الدوام الأبدي الذي قدمنا الآيات الدالة عليه فمن ثلاثة أوجه :
الأول : وهو الذي مال إليه ابن جرير وهو الأظهر عندي لدلالة ظاهر القرءان عليه هو أن قوله : لابثين فيها أحقابا متعلق بما بعده ، أي : لابثين فيها أحقابا في حال كونهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا [ 79 23 - 25 ] ، فإذا انقضت تلك الأحقاب عذبوا بأنواع أخر من أنواع العذاب غير الحميم والغساق . ويدل لهذا تصريحه تعالى بأنهم يعذبون بأنواع أخر من أنواع العذاب غير الحميم والغساق في قوله : هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج [ 38 \ 57 - 58 ] .
وغاية ما يلزم على هذا القول تداخل الحال وهو جائز حتى عند من منع ترادف الحال كابن عصفور ومن وافقه ، وإيضاحه أن جملة : لا يذوقون : حال من ضمير اسم الفاعل المستكن ، ونعني باسم الفاعل قوله : لابثين الذي هو حال ، ونظيره من إتيان جملة فعل مضارع منفي بلا حالا في القرءان قوله تعالى : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا [ 16 \ 78 ] ، أي في حال كونكم لا تعلمون .
الثاني : أن هذه الأحقاب لا تنقضي أبدا ، رواه ابن جرير عن قتادة والربيع بن أنس [ ص: 431 ] وقال : إنه أصح من جعل الآية في عصاة المسلمين ، كما ذهب إليه خالد بن معدان .
الثالث : أنا لو سلمنا دلالة قوله : " أحقابا " على التناهي والانقضاء ، فإن ذلك إنما فهم من مفهوم الظرف والتأبيد مصرح به منطوقا والمنطوق مقدم على المفهوم ، كما تقرر في الأصول ، وقول خالد بن معدان : إن هذه الآية في عصاة المسلمين ، يرده ظاهر القرءان لأن الله قال : وكذبوا بآياتنا كذابا [ 78 \ 28 ] ، وهؤلاء الكفار .
[ ص: 432 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النازعات
قوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين - إلى قوله - ثم استوى إلى السماء [ 41 \ 9 - 11 ] ، في سورة " البقرة " في الكلام على قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية [ 2 \ 29 ] .
قوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها .
تقدم وجه الجمع بينه وبين الآيات الدالة على عموم الإنذار كقوله : ليكون للعالمين نذيرا [ 25 ] ، في سورة " يس " وغيرها .[ ص: 433 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة عبس
قوله تعالى : أن جاءه الأعمى .
عبر الله تعالى عن هذا الصحابي الجليل الذي هو عبد الله ابن أم مكتوم بلقب يكرهه الناس مع أنه قال : ولا تنابزوا بالألقاب [ 49 \ 11 ] .
والجواب هو ما نبه عليه بعض العلماء ، من أن السر في التعبير عنه بلفظ : " الأعمى " للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار ، لما قطع كلامه .[ ص: 434 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكوير
قوله تعالى : إنه لقول رسول كريم .
ظاهر هذه الآية يتوهم منه الجاهل أن القرءان كلام جبريل مع أن الآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأنه كلام الله كقوله : فأجره حتى يسمع كلام الله وكقوله : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 ] .
والجواب واضح من نفس الآية لأن الإيهام الحاصل من قوله : إنه لقول يدفعه ذكر الرسول ، لأنه يدل على أن الكلام لغيره لكنه أرسل بتبليغه فمعنى قوله : لقول رسول أي تبليغه عمن أرسله من غير زيادة ولا نقص .
[ ص: 435 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانفطار
قوله تعالى : علمت نفس ما قدمت وأخرت .
هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن الذي يعلم يوم القيامة ما قدم وما أخر نفس واحدة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن كل نفس تعلم ما قدمت وأخرت كقوله : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت [ 10 ] ، وقوله : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا [ 17 \ 13 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب أن المراد بقوله : " نفس " ، كل نفس ، والنكرة وإن كانت لا تعم إلا في سياق النفي أو الشرط أو الامتنان كما تقرر في الأصول ، فإن التحقيق أنها ربما أفادت العموم بقرينة السياق من غير نفي أو شرط أو امتنان ، كقوله : علمت نفس [ 81 \ 14 ] ، في " التكوير " و " الانفطار " وقوله : أن تبسل نفس ، وقوله : أن تقول نفس ياحسرتا والعلم عند الله تعالى .[ ص: 436 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التطفيف
قوله تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون .
يفهم منه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم يوم القيامة ، وقد قدمنا وجه الجمع بين هذا المفهوم ، وبين قوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ 6 ] .سورة الانشقاق
قوله تعالى : وأما من أوتي كتابه وراء ظهره الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يعط كتابه بيمينه ، أنه يعطاه وراء ظهره ، وقد جاءت آية يفهم منها أنه يؤتاه بشماله ، وهي قوله تعالى : وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني الآية [ 69 \ 25 ] .
والجواب ظاهر ، وهو أنه لا منافاة بين أخذه بشماله ، وإيتائه وراء ظهره ، لأن الكافر تغل يمناه إلى عنقه ، وتجعل يسراه وراء ظهره ، فيأخذ بها كتابه .
[ ص: 437 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البروج
قوله تعالى : واليوم الموعود .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة .
قوله تعالى : هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من توهم المنافاة بين لفظة : " الجنود " ، مع لفظة " فرعون " ، لأن فرعون ليس جندا ، وإنما هو رجل بعينه .
والجواب ظاهر ، وهو أن المراد بفرعون هو وقومه فاكتفى بذكره لأنهم تبع له ، وتحت طاعته .
سورة الطارق
قوله تعالى : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا .
هذا الإمهال المذكور هنا ينافيه قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية [ 9 \ 5 ] .
والجواب أن الإمهال منسوخ بآيات السيف ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 438 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعلى
قوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ينسى من القرءان ما شاء الله أن ينساه ، وقد جاءت آيات كثيرة تدل على حفظ القرءان من الضياع كقوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 16 - 17 ] ، وقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] .
والجواب أن القرءان وإن كان محفوظا من الضياع فإن بعضه ينسخ بعضا ، وإنساء الله نبيه بعض القرءان في حكم النسخ ، فإذا أنساه آية فكأنه نسخها ، ولا بد أن يأتي بخير منها أو مثلها ، كما صرح به تعالى في قوله : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] .
وقوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل الآية [ 16 \ 101 ] .
وأشار هنا لعلمه بحكمة النسخ بقوله : إنه يعلم الجهر وما يخفى [ 87 \ 7 ] .
وقوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى .
هذه الآية الكريمة يفهم منها أن التذكير ، لا يطلب إلا عند مظنة نفعه ، بدليل أن الشرطية .
وقد جاءت آيات كثيرة تدل على الأمر بالتذكير مطلقا ، كقوله : فذكر إنما أنت مذكر [ 88 \ 21 ] وقوله : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 17 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (634)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 439 إلى صـ 452
وأجيب عن هذا بأجوبة كثيرة :
[ ص: 439 ] منها أن في الكلام حذفا أي : إن نفعت الذكرى ، وإن لم تنفع ، كقوله : سرابيل تقيكم الحر [ 16 \ 81 ] ، أي والبرد ، وهو قول الفراء والنحاس والجرجاني وغيرهم .
ومنها أنها بمعنى : إذ ، وإتيان : " إن " بمعنى : إذ مذهب الكوفيين خلافا للبصريين .
وجعل منه الكوفيون قوله تعالى : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين [ 5 \ 112 ] .
وقوله تعالى : وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 139 ] ، وقوله تعالى : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين [ 5 \ 23 ] ، وقوله : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [ 48 \ 27 ] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : وإنا إن شاء الله بكم لاحقون .
وقول الفرزدق :
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا جهارا ولم تغضب لقتل ابن حازم
وأجاب البصريون عن آيات إن كنتم مؤمنين ، بأن فيها معنى الشرط ، جيء به للتهييج ، وعن آية إن شاء الله ، والحديث بأنهما تعليم للعباد كيف يتكلمون ، إذا أخبروا عن المستقبل ، وعن البيت بجوابين :
أحدهما : أنه من إقامة السبب مقام المسبب ، والأصل : أتغضب إن افتخر مفتخر بحز أذني قتيبة ، إذ الافتخار بذلك يكون سببا للغضب ، ومسببا عن الحز .
الثاني : تغضب إن تبين في المستقبل ، أن أذني قتيبة حزتا .
ومنها أن معنى إن نفعت الذكرى الإرشاد إلى التذكير بالأهم ، أي ذكر بالمهم الذي فيه النفع دون ما لا نفع فيه ، فيكون المعنى ذكر الكفار مثلا بالأصول التي هي التوحيد ، لا بالفروع ، لأنها لا تنفع دون الأصول ، وذكر المؤمن التارك لفرض مثلا بذلك الفرض المتروك لا بالعقائد ونحو ذلك لأنه أنفع .
ومنها أن " إن " ، بمعنى : قد وهو قول قطرب .
[ ص: 440 ] ومنها أنها صيغة شرط أريد بها ذم الكفار واستبعاد تذكرهم ، كما قال الشاعر :
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
ومنها غير ذلك .
والذي يظهر لمقيد هذه الحروف عفا الله عنه ، هو بقاء الآية الكريمة على ظاهرها ، وأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن يكرر لذكري تكريرا تقوم به حجة الله على خلقه مأمور بالتذكير عند ظن الفائدة ، أما إذا علم الفائدة فلا يؤمر بشيء هو عالم أنه لا فائدة فيه ، لأن العاقل لا يسعى إلى ما لا فائدة فيه .
وقد قال الشاعر :
لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن لشيء بعيد نفعه الدهر ساعيا
وهذا ظاهر ولكن الخفاء في تحقيق المناط ، وإيضاحه أن يقال : بأي وجه يتيقن عدم إفادة الذكرى ، حتى يباح تركها .
وبيان ذلك أنه تارة يعلمه بإعلام الله به ، كما وقع في أبي لهب ، حيث قال تعالى فيه : سيصلى نارا ذات لهب وامرأته الآية [ 111 \ 3 - 4 ] .
فأبو لهب هذا وامرأته لا تنفع فيهما الذكرى ، لأن القرءان نزل بأنهما من أهل النار بعد تكرار التذكير لهما تكرارا تقوم عليهما به الحجة ، فلا يلزم النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك أن يذكرهما بشيء ، لقوله تعالى في هذه الآية : فذكر إن نفعت الذكرى .
وتارة يعلم ذلك بقرينة الحال ، بحيث يبلغ على أكمل وجه ، ويأتي بالمعجزات الواضحة ، فيعلم أن بعض الأشخاص عالم بصحة نبوته ، وأنه مصر على الكفر عنادا ولجاجا ، فمثل هذا لا يجب تكرير الذكرى له دائما ، بعد أن تكرر عليه تكريرا تلزمه به الحجة .
وحاصل إيضاح هذا الجواب أن الذكرى تشتمل على ثلاث حكم :
الأولى : خروج فاعلها من عهدة الأمر بها .
الثانية : رجاء النفع لمن يوعظ بها ، وبين الله تعالى هاتين الحكمتين بقوله تعالى : [ ص: 441 ] قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [ 7 \ 164 ] ، وبين الأولى منهما بقوله تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم [ 51 \ 54 ] ، وقوله تعالى : إن عليك إلا البلاغ [ 42 \ 48 ] ، ونحوها من الآيات . وبين الثانية بقوله : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 ] .
الثالثة : إقامة الحجة على الخلق ، وبينها تعالى بقوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] وبقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا الآية [ 20 \ 134 ] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كرر الذكرى حصلت الحكمة الأولى والثالثة ، فإن كان في الثانية طمع استمر على التذكير وإلا لم يكلف بالدوام ، والعلم عند الله تعالى .
وإنما اخترنا بقاء الآية على ظاهرها مع أن أكثر المفسرين على صرفها عن ظاهرها المتبادر منها ، وأن معناها : فذكر مطلقا إن نفعت الذكرى ، وإن لم تنفع ، لأننا نرى أنه لا يجوز صرف كتاب الله عن ظواهره المتبادرة منه ؟ إلا لدليل يجب الرجوع له ، وإلى بقاء هذه الآية على ظاهرها .
جنح ابن كثير حيث قال في تفسيرها : أي ذكر حيث تنفع التذكرة ، ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم ، فلا يضعه في غير أهله ، كما قال علي رضي الله عنه : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم ، إلا كان فتنة لبعضهم ، وقال : حدث الله الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله .
تنبيه
هذا الإشكال الذي في هذه الآية ، إنما هو على قول من يقول باعتبار دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة ، وأما على قول من لا يعتبر مفهوم المخالفة شرطا كان أو غيره ، كأبي حنيفة ؟ فلا إشكال في الآية ، وكذلك لا إشكال فيها على قول من لا يعتبر مفهوم الشرط كالباقلاني ، فتكون الآية نصت على الأمر بالتذكير عند مظنة النفع ، وسكتت عن حكمه عند عدم مظنة النفع فيطلب من دليل آخر ، فلا تعارض الآية الآيات الدالة على التذكير مطلقا .
[ ص: 442 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الغاشية
قوله تعالى : ليس لهم طعام إلا من ضريع .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : ولا طعام إلا من غسلين [ 69 \ 36 ] ، وقوله تعالى : فيها عين جارية الآية [ 88 \ 12 ] .
ظاهر هذه الآية أن الجنة فيها عين واحدة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله : إن المتقين في جنات وعيون [ 15 \ 45 ] .
والجواب هو ما تقدم في الجمع بين قوله : إن المتقين في جنات ونهر [ 54 \ 54 ] ، مع قوله : فيها أنهار من ماء غير آسن الآية [ 47 \ 15 ] .
فالمراد بالعين العيون ، كما تقدم نظيره في سورة " البقرة " وغيرها .
[ ص: 443 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفجر
قوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا .
يوهم أنه ملك واحد ، وقوله " صفا صفا " : يقتضي أنه غير ملك واحد بل صفوف من جماعات الملائكة .
والجواب أن قوله تعالى : " والملك " ، معناه : والملائكة ، ونظيره قوله تعالى : والملك على أرجائها [ 69 \ 17 ] ، وتقدم بيانه بشواهده العربية في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن الآية [ 2 \ 29 ] .سورة البلد
قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد .
هذه الآية الكريمة يتبادر من ظاهرها أنه تعالى أخبر بأنه لا يقسم بهذا البلد الذي هو مكة المكرمة ، مع أنه تعالى أقسم به في قوله : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] .
الأول : وعليه الجمهور ، أن " لا " هنا صلة على عادة العرب ، فإنها ربما لفظت " لا " من غير قصد معناها الأصلي ، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله : " ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني [ 20 \ 92 - 93 ] ، يعني أن تتبعني ، وقوله : ما منعك ألا تسجد [ 7 \ 12 ] ، أي أن تسجد على أحد القولين .
ويدل له قوله في سورة " ص " : ما منعك أن تسجد لما خلقت الآية [ 38 ] ، وقوله : لئلا يعلم أهل الكتاب [ 57 \ 29 ] ، أي ليعلم أهل الكتاب ، وقوله : فلا وربك لا يؤمنون [ 4 \ 65 ] ، أي فوربك ، وقوله : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة [ ص: 444 ] [ 21 ] ، أي والسيئة وقوله : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ 21 \ 95 ] على أحد القولين .
وقوله : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] ، على أحد القولين ، وقوله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا [ 6 \ 151 ] ، على أحد الأقوال الماضية .
وكقول أبي النجم :
فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا
يعني أن تسخر ، وكقول الشاعر :
وتلحينني في اللهو أن لا أحبه وللهو داع دائب غير غافل
يعني أن أحبه و : لا ، زائدة .
وقول الآخر :
أبى جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
يعني أبى جوده البخل ، و " لا " ، زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير ، ولا سيما على رواية " البخل " بالجر لأن : لا ، عليها مضاف بمعنى لفظة لا ، فليست زائدة على رواية الجر .
وقول امرئ القيس :
فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أنى أفر
يعني وأبيك .
وأنشد الفراء لزيادة " لا " في الكلام الذي فيه معنى الجحد قول الشاعر :
ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر
يعني وعمر ، و : لا ، صلة .
وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج :
[ ص: 445 ]
في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح جشر
فالحور الهلكة يعني في بئر هلكة ، و " لا " صلة ، قاله أبو عبيدة وغيره .
وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي :
أفعنك لا برق كأن وميضه غاب تسنمه ضرام مثقب
ويروى أفمنك ، وتشيمه بدل أفعنك ، وتسنمه .
يعني أعنك برق و " لا " ، صلة .
ومن شواهد زيادتها قول الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يقطع
يعني كاد يتقطع .
وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ :
أعائش ما لقومك لا أراهم يضيعون الهجان مع المضيع
فغلط منه لأن : لا ، في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله مع أن أهلها يحفظون مالهم ، أي لا أرى قومك يضيعون مالهم ، وأنت تعاتبينني في حفظ مالي .
وما ذكره الفراء من أن لفظة : لا ، لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، فهو أغلبني لا يصح على الإطلاق ، بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها ، كهذه الآية على القول بأن " لا " فيها صلة ، وكبيت ساعدة الهذلي .
وما ذكره الزمخشري من زيادة " لا " في أول الكلام دون غيره فلا دليل عليه .
الوجه الثاني : أن " لا نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : " أقسم " إثبات مستأنف ، وهذا القول وإن قال به كثير من العلماء فليس بوجيه عندي لقوله تعالى في سورة " القيامة " : ولا أقسم بالنفس اللوامة [ 75 ] ، لأن قوله تعالى : [ ص: 446 ] ولا أقسم بالنفس اللوامة يدلا على أنه لم يرد الإثبات المؤتنف بعد النفي بقوله : " أقسم " ، والله تعالى أعلم .
الوجه الثالث : أنها حرف نفي أيضا ، ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به ، فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية ، والمراد أنه لا يعظم بالقسم بل هو نفسه عظيم أقسم به أولا .
وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني ، ولا يخلو عندي من بعد .
الوجه الرابع : أن اللام لام الابتداء أشبعت فتحتها ، والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو .
فمثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي :
وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترا قبلي أسيرا يمانيا
فالأصل كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت .
وقول الراجز :
إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملقي
فالأصل ترضها ، لأن الفعل مجزوم بلا الناهية .
وقول عنترة في معلقته :
ينباع من ذفرى غضوب جسرة زيافة مثل الفنـيق المكدم
فالأصل ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته ، فأشبع الفتحة فصار ينباع على الصحيح .
وقول الراجز :
قلت وقد خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجالي
فقوله : " الكلكال " ، يعني الكلكل ، وليس إشباع الفتحة في هذه الشواهد من ضرورة [ ص: 447 ] الشعر ، لتصريح علماء العربية بأن إشباع الحركة بحرف يناسبها أسلوب من أساليب اللغة العربية ، ولأنه مسموع في النثر كقولهم : كلكال ، وخاتام ، وداناق ، يعنون : كلكلا وخاتما ودانقا .
ومثله في إشباع الضمة بالواو ، وقولهم : برقوع ومعلوق ، يعنون : برقعا ومعلقا .
ومثال إشباع الكسرة بالياء قول قيس بن زهير :
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
فالأصل يأتك لمكان الجازم ، وأنشد له الفراء :
لا عهد لي بنيضال أصبحت كالشن البال
ومنه قول امرئ القيس :
كأني بفتخاء الجناحين لقوة على عجل مني أطأطئ شيمالي
ويروى : " صيود من العقبان طأطأن شيمالي " .
ويروى " دفوف من العقبان " . إلخ .
ويروى " شملال " بدل شيمال " ، وعليه فلا شاهد في البيت ، إلا أن رواية الياء مشهورة . ومثال إشباع الضمة بالواو قول الشاعر :
هجوت زبان ثم جئت معتذرا من هجو زبان لم تهج ولم تدع
وقول الآخر :
الله أعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى إخواننا صور
وإنني حيثما يثني الهوى بصري من حيثما سلكوا أدنو فأنظور
يعني فأنظر ، وقول الراجز :
لو أن عمرا هم أن يرقودا فانهض فشد المئزر المعقودا
يعني " يرقد " ، ويدل لهذا الوجه قراءة قنبل : " لأقسم بهذا البلد " بلام الابتداء ، وهو مروي عن البزي والحسن ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 448 ] قوله تعالى : أو مسكينا ذا متربة .
يدل ظاهره على أن المسكين لاصق بالتراب ليس عنده شيء ، فهو أشد فقرا من مطلق الفقير ، كما ذهب إليهمالك وكثير من العلماء .
وقوله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون الآية [ 18 \ 79 ] ، يدل على خلاف ذلك لأنه سماهم مساكين مع أن لهم سفينة عاملة للإيجار .
والجواب عن هذا محتاج إليه عن كلا القولين .
أما على قول من قال إن المسكين من عنده ما لا يكفيه كالشافعي ، فالذي يظهر لي أن الجواب أنه يقول : المسكين عند الإطلاق ينصرف إلى من عنده شيء لا يكفيه ، فإذا قيد بما يقتضي أنه لا شيء عنده ، فذلك يعلم من القيد الزائد لا من مطلق لفظ المسكين .
وعليه ، فالله في هذه الآية قيد المسكين بكونه : ذا متربة ، فلو لم يقيده لانصرف إلى من عنده ما لا يكفيه ، فمدلول اللفظ حالة الإطلاق لا يعارض بمدلوله حالة التقييد .
وأما على قول من قال : بأن المسكين أحوج من مطلق الفقير ، وأنه لا شيء عنده فيجاب عن آية الكهف بأجوبة : منها أن المراد بقوله : " مساكين " ؛ أنهم قوم ضعاف لا يقدرون على مدافعة الظلمة ، ويزعمون أنهم عشرة ، خمسة منهم زمنى .
ومنها أن السفينة لم تكن ملكا لهم ، بل كانوا أجراء فيها أو أنها عارية واللام للاختصاص .
ومنها أن اسم المساكين أطلق عليهم ترحما لضعفهم .
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن هذه الأجوبة لا دليل على شيء منها ، فليس فيها حجة يجب الرجوع إليها ، وما احتج به بعضهم - من قراءة علي رضي الله عنه " لمساكين " ، بتشديد السين جمع تصحيح لمساك بمعنى الملاح أو دابة المسوك التي هي الجلود ، فلا يخفى سقوطه لضعف هذه القراءة وشذوذها . والذي يتبادر إلى ذهن المنصف أن مجموع الآيتين دل على أن لفظ المسكين مشكك لتفاوت أفراده فيصدق بمن عنده ما لا يكفيه بدليل آية " الكهف " ، ومن هو لاصق بالتراب لا شيء عنده بدليل آية " البلد " ، [ ص: 449 ] كاشتراك الشمس والسراج في النور مع تفاوتهما ، واشتراك الثلج والعاج في البياض مع تفاوتهما .
والمشكك إذا أطلق ولم يقيد بوصف الأشدية انصرف إلى مطلقه ، هذا ما ظهر ، والعلم عند الله تعالى .
والفقير أيضا قد تطلقه العرب على من عنده بعض المال ، كقول مالك ، ومن شواهده قول راعي نمير :
أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد
فسماه فقيرا مع أن عنده حلوبة قدر عياله .[ ص: 450 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشمس
قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها .
يدل على أن الله هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب ، وقد جاءت آيات تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته كقوله تعالى : فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .
وقوله تعالى : اشتروا الضلالة بالهدى [ 2 \ 16 ] ، ونحو ذلك ، وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية .
أما القدرية فضلوا بالتفريط حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا من غير تأثير لقدرة الله فيه .
وأما الجبرية فضلوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به .
وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا ، فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية ، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الاتعاشية ليست كالحركة الاختيارية ، وأثبتوا أن الله خالق كل شيء فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته ، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى .
فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى ؛ مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب .
ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا فقال الجبري : حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل ، وإني لا بد أن تنفذ في مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي ، فأنا مجبور ، فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه ؟ فإن السني يقول له : كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك ، جعل لك سمعا تسمع به ، وبصرا تبصر به ، وعقلا تعقل به ، [ ص: 451 ] وأرسل لك رسولا ، وجعل لك اختيارا وقدرة ، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض ، إن أعطاه ففضل ، وإن منعه فعدل .
كما أشار له تعالى بقوله : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] ، يعني أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق ، فمن أعطيه ففضل ، ومن منعه فعدل .
ولما تناظر أبو إسحاق الاسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي ، قال عبد الجبار : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله ، لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم .
فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل ، ثم قال : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء .
فقال عبد الجبار : أتراه يخلقه ويعاقبني عليه ؟
فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبرا عليه ؟ أأنت الرب وهو العبد ؟
فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى علي بالردى أتراه أحسن إلي أم أساء ؟
فقال أبو إسحاق : إن كان الذي منعك منه ملكا لك فقد أساء ، وإن كان له فإن أعطاك ففضل ، وإن منعك فعدل . فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب .
وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال له : ادع الله لي أن يرد علي حمارة سرقت مني ، فقال : اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه ، فقال له الأعرابي : يا هذا كف عني دعائك الخبيث ، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد .
وقد رفع الله إشكال هذه المسألة بقوله تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] ، فأثبت للعبد مشيئة ، وصرح بأنه لا مشيئة للعبد إلا بمشيئة الله جل وعلا ، فكل شيء صادر عن قدرته ومشيئته جل وعلا .
وقوله : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين .
[ ص: 452 ] وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى : فألهمها فجورها وتقواها أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر ، فلا إشكال في الآية : وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (635)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 453 إلى صـ 467
[ ص: 453 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الليل
قوله تعالى : إن علينا للهدى .
يدل على أن الله التزم على نفسه الهدى للخلق مع أنه جاءت آيات كثيرة تدل على عدم هداه لبعض الناس كقوله : والله لا يهدي القوم الفاسقين [ 5 \ 108 ] .
وقوله : والله لا يهدي القوم الظالمين [ 2 \ 258 ] .
وقوله : كيف يهدي الله قوما كفروا الآية [ 3 \ 86 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب هو ما تقدم من أن الهدى يستعمل في القرءان خاصا وعاما ، فالمثبت العام والمنفي الخاص ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم .
وأما على قول من قال : إن معنى الآية أن الطريق الذي يدل علينا وعلى طاعتنا هو الهدى لا الضلال ، وقول من قال : إن معنى الآية أن من سلك طريق الهدى وصل إلى الله ، فلا إشكال في الآية أصلا .
[ ص: 454 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الضحى
قوله تعالى : ووجدك ضالا فهدى .
هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضالا قبل الوحي ، مع أن قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها [ 30 ] ، يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فطر على هذا الدين الحنيف ، ومعلوم أنه لم يهوده أبواه ولم ينصراه ولم يمجساه ، بل لم يزل باقيا على الفطرة حتى بعثه الله رسولا ، ويدل لذلك ما ثبت من أن أول نزول الوحي كان وهو يتعبد في غار حراء ، فذلك التعبد قبل نزول الوحي دليل على البقاء على الفطرة .
والجواب أن معنى قوله : ضالا فهدى أي غافلا عما تعلمه الآن من الشرائع وأسرار علوم الدين التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل ، وإنما تعلم بالوحي ، فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك ، فمعنى الضلال على هذا القول الذهاب عن العلم .
ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 282 ] .
وقوله : لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، وقوله : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] ، وقول الشاعر :
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
ويدل لهذا قوله تعالى : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان [ 42 \ 52 ] ، لأن المراد بالإيمان شرائع دين الإسلام .
وقوله : وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] ، وقوله : وعلمك ما لم تكن تعلم [ ص: 455 ] [ 4 \ 113 ] ، وقوله وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك [ 28 \ 86 ] .
وقيل المراد بقوله : " ضالا " ، ذهابه وهو صغير في شعاب مكة ، وقيل : ذهابه في سفره إلى الشام ، والقول الأول هو الصحيح ، والله تعالى أعلم ، ونسبة العلم إلى الله أسلم .
[ ص: 456 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التين
قوله تعالى : وهذا البلد الأمين .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 ] .
قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .
هذه الآية الكريمة توهم أن الإنسان ينكر أن ربه خلقه ، لما تقرر في فن المعاني من أن خالي الذهن من المتردد ، والإنكار لا يؤكد له الكلام ، ويسمى ذلك ابتدائيا ، والمتردد يحسن التوكيد له بمؤكد واحد ، ويسمى طلبيا ، والمنكر يجب التوكيد له بحسب إنكاره ، ويسمى إنكاريا .
والله تعالى في هذه الآية أكد إخباره بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم ، بأربعة أقسام ، وباللام ، وبقد ، فهي ستة تأكيدات ، وهذا التوكيد يوهم أن الإنسان منكر ، لأن ربه خلقه ، وقد جاءت آيات أخرى صريحة في أن الكفار يقرون بأن الله هو خالقهم ، وهي قوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : هو ما حرره علماء البلاغة من أن المقر ، إذا ظهرت عليه أمارة الإنكار ، جعل كالمنكر ، فأكد له الخبر ، كقول حجل بن نضلة :
جاء شقيق عارضا رمحه أن بني عمك فيهم رماح
فشقيق لا ينكر أن في بني عمه رماحا ، ولكن مجيئه عارضا رمحه ، أي جاعلا عرضه جهتهم من غير التفات إمارة ، أنه يعتقد أن لا رمح فيهم ، فأكد له الخبر ، فإذا حققت ذلك ، فاعلم أن الكفار لما أنكروا البعث ، ظهرت عليهم أمارة إنكار الإيجاد [ ص: 457 ] الأول ، لأن من أقر بالأول لزمه الإقرار بالثاني ، لأن الإعادة أيسر من البدء ، فأكد لهم الإيجاد الأول .
ويوضح هذا أن الله بين أنه المقصود بقوله : فما يكذبك بعد بالدين [ 95 \ 7 ] ، أي ما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث والجزاء ، بعد علمك أن الله أوجدك أولا ، فمن أوجدك أولا قادر على أن يوجدك ثانيا ، كما قال تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 79 ] ، وقال : كما بدأنا أول خلق نعيده الآية [ 21 \ 104 ] ، وقال : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده الآية [ 30 \ 27 ] وقال : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] .
والآيات بمثل هذا كثيرة ، ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث ، فقد نسي إيجاده الأول ، بقوله : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] ، وبقوله : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 66 - 67 ] .
وقال البعض : معنى : فما يكذبك ، فمن يقدر على تكذيبك يا نبي الله بالثواب والعقاب بعدما تبين له أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا ، وهو في دلالته على ما ذكرنا كالأول ، فظهرت النكتة في جعل الابتدائي كالإنكاري .
الوجه الثاني : أن القسم شامل لقوله : ثم رددناه أسفل سافلين [ 95 \ 5 ] ، أي إلى النار ، وهم لا يصدقون بالنار بدليل قوله تعالى : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] .
وهذا الوجه في معنى قوله : أسفل سافلين أصح من القول بأن معناه الهرم ، والرد إلى أرذل العمر لكون قوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون [ 95 \ 6 ] أظهر في الأول من الثاني ، وإذا كان القسم شاملا للإنكاري ، فلا إشكالا لأن التوكيد منصب على ذلك الإنكاري ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 458 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العلق
قوله تعالى : ناصية كاذبة خاطئة الآية .
أسند الكذب في هذه الآية الكريمة إلى ناصية هذا الكافر ، وهي مقدم شعر رأسه ، مع أنه أسنده في آيات كثيرة إلى غير الناصية كقوله : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [ 16 \ 105 ] .
والجواب ظاهر ، وهو أنه هنا أطلق الناصية ، وأراد صاحبها على عادة العرب في إطلاق البعض وإرادة الكل ، وهو كثير في كلام العرب ، وفي القرءان ، فمن أمثلته في القرءان هذه الآية الكريمة ، وقوله تعالى : تبت يدا أبي لهب [ 111 ] ، يعني أبا لهب ، وقوله : ذلك بما قدمت أيديكم [ 3 \ 182 ] يعني بما قدمتم . ومن ذلك تسمية العرب الرقيب عينا ، وقوله : " خاطئة " ، ، لا يعارضه قوله تعالى : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به [ 33 \ 5 ] ، لأن الخاطئ هو فاعل الخطيئة أو الخطء بكسر الخاء ، وكلاهما الذنب ، كما بينه قوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] . وقوله : إن قتلهم كان خطئا كبيرا [ 17 \ 31 ] .
فالخاطئ المذنب عمدا ، والمخطئ من صدر منه الفعل من غير قصد ، فهو معذور .
[ ص: 459 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القدر
قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر .
لا تعارض بينه وبين قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة مباركة [ 44 \ 3 ] ، لأن الليلة المباركة هي ليلة القدر ، وهي من رمضان بنص قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [ 2 \ 185 ] ، فما يزعمه كثير من العلماء من أن الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان ، ترده هذه النصوص القرآنية .
والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 460 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزلزلة
قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
هذه الآية الكريمة تقتضي أن كل إنسان كافرا كان أو مسلما يجازى بالقليل من الخير والشر .
وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف هذا العموم ، أما ما فعله الكافر من الخير ، فالآيات تصرح بإحباطه ، كقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 16 ] ، وقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وكقوله : أعمالهم كرماد الآية [ 14 \ 18 ] وقوله : أعمالهم كسراب بقيعة الآية [ 24 \ 39 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وأما ما عمله المسلم من الشر ، فقد صرحت الآيات بعدم لزوم مؤاخذته به ، لاحتمال المغفرة أو لوعد الله بها . كقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، [ 4 \ 48 ] وقوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [ 4 \ 31 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الآية من العام المخصوص ، والمعنى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، إن لم يحبطه الكفر بدليل آيات إحباط الكفر عمل الكفار : ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، إن لم يغفره الله له بدليل آيات احتمال الغفران والوعد به .
الثاني : أن الآية على عمومها ، وأن الكافر يرى جزاء كل عمله الحسن في الدنيا ، كما يدل عليه قوله تعالى : نوف إليهم أعمالهم فيها الآية [ 11 \ 15 ] ، وقوله : [ ص: 461 ] ومن كان يريد حرث الدنيا الآية [ 42 \ 20 ] ، وقوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] والمؤمن يرى جزاء عمله السيئ في الدنيا بالمصائب والأمراض والآلام .
ويدل لهذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الشعب ، وابن أبي حاتم ، وجماعة عن أنس قال : بينا أبو بكر رضي الله عنه يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه : فمن يعمل مثقال ذرة الآية ، فرفع أبو بكر يده وقال : يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر - الحديث .
الوجه الثالث : أن الآية أيضا على عمومها ، وأن معناها أن المؤمن يرى كل ما قدم من خير وشر ، فيغفر الله له الشر ويثيبه بالخير ، والكافر يرى كل ما قدم من خير وشر ، فيحبط ما قدم من خير ويجازيه بما فعل من الشر .
[ ص: 462 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العاديات
قوله تعالى : إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد الآية .
هذه الآية تدل على أن الإنسان شاهد على كنود نفسه ، أي مبالغته في الكفر .
وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله : وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [ 18 \ 104 ] ، وقوله : ويحسبون أنهم مهتدون [ 43 \ 37 ] ، وقوله : وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون [ 39 \ 47 ] .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن شهادة الإنسان بأنه كنود ، هي شهادة حاله بظهور كنوده ، والحال ربما تكفي عن المقال .
الثاني : أن شهادته على نفسه بذلك يوم القيامة ، كما يدل له قوله : وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين [ 6 \ 130 ] ، وقوله : فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 11 ] ، وقوله : قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ 39 \ 71 ] .
الوجه الثالث : أن الضمير في قوله : وإنه على ذلك لشهيد ، راجع إلى رب الإنسان المذكور في قوله : إن الإنسان لربه لكنود وعليه فلا إشكال في الآية ، ولكن رجوعه إلى الإنسان أظهر ، بدليل قوله : وإنه لحب الخير لشديد [ 100 \ 8 ] .
والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 463 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القارعة
قوله تعالى : وأما من خفت موازينه فأمه هاوية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الهاوية وصف لا علم للنار ، إذ تنوينها ينافي كونها اسما من أسماء النار ، لأنها على تقدير كونها من أسماء النار ، يلزم فيها المنع من الصرف للعلمية والتأنيث . وقوله تعالى :وما أدراك ما هيه نار حامية [ 101 \ 10 - 11 ] ، يدل على أن الهاوية من أسماء النار .
اعلم أولا : أن في معنى قوله تعالى : فأمه هاوية ثلاثة أوجه للعلماء : اثنان منها لا إشكال في الآية عليهما ، والثالث : هو الذي فيه الإشكال المذكور .
أما اللذان لا إشكال في الآية عليهما ، فالأول منهما أن المعنى : فأمه هاوية أي أم رأسه هاوية في قعر جهنم ، لأنه يطرح فيها منكوسا رأسه أسفل ورجلاه أعلى ، وروي هذا القول عن قتادة وأبي صالح وعكرمة والكلبي وغيرهم ، وعلى هذا القول فالضمير في قوله : وما أدراك ما هيه ، عائد إلى محذوف ، دل عليه المقام ، أي أم رأسه هاوية في نار ، وما أدراك ما هيه نار حامية .
والثاني : أنه من قول العرب إذا دعوا على الرجل بالهلكة ، قالوا : هوت أمه ، لأنه إذا هوى ، أي سقط وهلك ، فقد هوت أمه ثكلا وحزنا ، ومن هذا المعنى قول كعب بن سعد الغنوي :
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يرد الليل حين يؤوب
وهذا القول رواية أخرى عن قتادة ، وعلى هذا القول فالضمير في قوله : " هيه " للداهية التي دل عليها الكلام ، وذكر الألوسي في تفسيره أن صاحب الكشاف قال : إن هذا القول أحسن ، وأن الطيبي قال : إنه أظهر ، وقال هو : وللبحث فيه مجال .
[ ص: 464 ] الثالث : الذي فيه الإشكال ، أن المعنى فأمه هاوية ، أي مأواه الذي يحيط به ، وبضمه هاوية ، وهي النار لأن الأم تؤوي ولدها وتضمه ، والنار تضم هذا العاصي ، وتكون مأواه .
والجواب على هذا القول ، هو ما أشار له الألوسي في تفسيره من أنه نكر الهاوية في محل التعريف لأجل الإشعار بخروجهم عن المعهود للتفخيم والتهويل ، ثم بعد إبهامها لهذه النكتة ، قررها بوصفها الهائل بقوله : وما أدراك ما هيه نار حامية .
قال مقيده عفا الله عنه : هذا الجواب الذي ذكره الألوسي يدخل في حد نوع من أنواع البديع المعنوي يسميه علماء البلاغة التجريد ، فحد التجريد عندهم هو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه ، وأقسامه معروفة عند البيانيين ، فمنه ما يكون التجريد فيه بحرف ، نحو قولهم : لي من فلان صديق حميم ، أي بلغ من الصداقة حدا صح معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه ، وقولهم : لئن سألته لتسألن به البحر ، بالغ في اتصافه بالسماحة ، حتى انتزع منه بحرا في السماحة ، ومن التجريد بواسطة الحرف قوله تعالى : لهم فيها دار الخلد [ 41 \ 28 ] ، وهو أشبه شيء بالآية التي نحن بصددها ، لأن النار هي دار الخلد بعينها ، لكنه انتزع منها دارا أخرى ، وجعلها معدة في جهنم للكفار تهويلا لأمرها ، ومبالغة في اتصافها بالشدة ، ومن التجريد ما يكون من غير توسط الحرف ، نحو قول قتادة بن سلمة الحنفي :
ولئن بقيت لأرحلن بغزوة تحوي الغنائم أو يموت كريم
يعني نفسه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه ، فإذا عرفت هذا فالنار سميت الهاوية لغاية عمقها ، وبعد مهواها ، فقد روي أن داخلها يهوي فيها سبعين خريفا ، وخصها البعض بالباب الأسفل من النار ، فانتزع منها هاوية أخرى مثلها في شدة العمق ، وبعد المهوى مبالغة في عمقها ، وبعد مهواها ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 465 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العصر
قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر .
هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن هذا المخبر عنه أنه في خسر ، إنسان واحد ، بدليل إفراد لفظة الإنسان ، واستثناؤه من ذلك الإنسان الواحد لفظا .
قوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات [ 103 \ 3 ] ، يقتضي أنه ليس إنسانا واحدا .
والجواب عن هذا : هو أن لفظ الإنسان ، وإن كان واحدا فالألف واللام للاستغراق يصير المفرد بسببهما صيغة عموم ، وعليه فمعنى أن الإنسان أي أن كل إنسان لدلالة " أل " الاستغراقية على ذلك .
والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 466 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الماعون
قوله تعالى : فويل للمصلين الآية .
هذه الآية يتوهم منها الجاهل أن الله توعد المصلين بالويل ، وقد جاء في آية أخرى أن عدم الصلاة من أسباب دخول سقر ، وهي قوله تعالى : ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين [ 74 \ 42 - 43 ] .
والجواب عن هذا في غاية الظهور ، وهو أن التوعد بالويل منصب على قوله : الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون الآية [ 107 \ 5 - 6 ] ، وهم المنافقون على التحقيق ، وإنما ذكرنا هذا الجواب مع ضعف الإشكال ؛ وظهور الجواب عنه لأن الزنادقة الذين لا يصلون يحتجون لترك الصلاة بهذه الآية .
وقد سمعنا من ثقات وغيرهم : أن رجلا قال لظالم تارك للصلاة : ما لك لا تصلي ؟ فقال لأن الله توعد على الصلاة بالويل في قوله فويل للمصلين ، فقال له : اقرأ بعدها ، فقال لا حاجة لي فيما بعدها فيها كفاية في التحذير من الصلاة ، ومن هذا القبيل قول الشاعر :
دع المساجد للعباد تسكنها وسر إلى حانة الخمار يسقينا ما قال ربك ويل للأولى سكروا
وإنما قال ويل للمصلينا
فإذا كان الله تعالى توعد بالويل المصلي الذي هو ساه عن صلاته ويرائي فيها ، فكيف بالذي لا يصلي أصلا ، فالويل كل الويل له وعليه لعائن الله إلى يوم القيامة ما لم يتب .
[ ص: 467 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكافرون
قوله تعالى : ولا أنتم عابدون ما أعبد .
يدل بظاهره على أن الكفار المخاطبين بها لا يعبدون الله أبدا مع أنه دلت آيات أخر على أن منهم من يؤمن بالله تعالى كقوله : ومن هؤلاء من يؤمن به الآية [ 29 \ 47 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : أنه خطاب لجنس الكفار وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا ، فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك ، لأنهم حينئذ مؤمنون لا كافرون وإن كانوا منافقين فهم كافرون في الباطن فيتناولهم الخطاب ، واختار هذا الوجه أبو العباس ابن تيمية .
الثاني : هو أن الآية من العام المخصوص وعليه فهي في خصوص الأشقياء المشار إليهم بقوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك الآية [ 10 \ 96 ] ، كما تقدم نظيره مرارا .
[ ص: 468 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الناس
قوله تعالى : من شر الوسواس الخناس .
لا يخفى ما بين هذين الوصفين اللذين وصف بهما هذا اللعين الخبيث من التنافي ، لأن الوسواس كثير الوسوسة ليضل بها الناس ، والخناس كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس .
والجواب أن لكل مقام مقالا ، فهو وسواس عند غفلة العبد عن ذكر ربه ، خناس عند ذكر العبد ربه تعالى ، كما دل عليه قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين الآية [ 43 36 ] .
وقوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا الآية [ 16 \ 99 ] .
وقد تم بحمد الله تعالى ما أردنا جمعه بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونرجو الله تعالى أن يوفقنا وإخواننا المسلمين في الأقوال والأفعال وأن يجعل سعينا خالصا لوجهه الكريم إنه قريب مجيب ، آمين .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (636)
ترجمة للشيخ رحمه الله
صـ 469 إلى صـ 475
[ ص: 469 ] ترجمة للشيخ رحمه الله
في محاضرة ألقيت موسم ثقافات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ألقاها وأعدها تلميذه عطية محمد سالم
عن صاحب الفضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله
بقلم : الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة
[ ص: 470 ] [ ص: 471 ] الحمد لله المستحق لصفات الجلال وكمال الأسماء ، المتفرد بالدوام وبالبقاء . خلق الخلق من عدم وقضى عليهم بالموت والفناء . وجعل الدنيا مزرعة الآخرة ، وحصادها الثواب والجزاء ، واختار من عباده رسلا يبلغون عنه ، فهم بينه وبين خلقه وسطاء ، واصطفى - خاتمهم محمدا صلى الله عليه وسلم فهو صفوة الأصفياء ، بعثه رحمة للعالمين ، فجاء بالحنيفية السمحاء ، أطل فجرها بمكة من قمة حراء .
وأشرقت شمس نهارها بطيبة الفيحاء . ظلت مهاجر صحبه في ألفة ووفاء ، فتحمل الصحب الكرام تراثه - ما ورثوه منه هداية وضياء - وورثوه من بعدهم توريث الآباء للأبناء . وغدت المدينة مشرقة أنوارها يشع منها للعالم نور وسناء . وتوالت الأجيال تلو أجيال إنتاجها للعالم صفوة العلماء ممن قاموا لله حقا ، وأخلصوا لله صدقا ، ونشروا العلم في عفة وإباء ، نهلوا من المنهل الصافي من منبعه ، قبل أن يخالطه الترب أو تكدره الدلاء ، في مهبط الوحي محط رحالهم ، وفي الروضة غدوهم ورواحهم في غبطة وهناء .
درسوا كتاب الله حكما وحكمة ، حتى غدت آياته لمرضى الصدور شفاء ، وتكشفت حجب المعاني فانجلت من تحتها أشمس وضياء .
وترسموا سنن النبي محمد ، وكذاك سنة الخلفاء ، وكذا الصحابة والتابعون فإنهم لهم بهم أسوة واقتداء ، فهم النجوم في ليل السرى ، وهم الهداة لطالب الهدى وأدلاء ، وهم الأئمة قدوة الأمة وعلى الدين أمناء .
ونحن بالمدينة وفي هذا الجوار الكريم أشد إحساسا بمكانة العلم ومنزلة العلماء ، وأسرع فرحا بهم وأشد حزنا على موتهم ، وألما لفراقهم ، إن في موت العلماء لغربة للغرباء .
ولا شك أن هذه الآلام تزداد ، وهذا الحزن يشتد أكثر وأكثر حينما نكون قد عرفنا هذا العالم أو عاصرناه ، ولمسنا فضله واستفدنا علمه .
وهذا القدر كنا فيه سواء نحو علماء المسلمين عامة ، وشيخنا الأمين خاصة .
وإني كأحد أبنائه ومن جملة تلاميذه أقف اليوم معزيا متعزيا ، ومترجما مترحما ، [ ص: 472 ] وقد عظم المصاب وعز فيه العزاء ، وأقول ما قد قلته على البديهة ، عندما سألني سائل من هذا نعزيه في الشيخ ، فقلت هذه الأبيات :
أقول للسائل لما سأل من ذا نعزي فيما نزل كل من لاقيت فعزه
وابدأ بنفسك في الأول عز الجميع بموته
وأعلمه أن الخطب جلل موت العالم رزء العالم
في موته يأتي الخلل لو نزل الرزء بقمة
فوق الجبال لهد الجبل خير التعازي في أننا
نرد إلى الله عز وجل
ولو استحق أحد العزية لشخصه لاستحقها ثلاثة أشخاص : الشيخ عبد العزيز بن باز لزمالته 21 سنة وما له عنده من منزلة ، والشيخ عبد العزيز بن صالح أول من عرفه وتسبب في جلوسه ، وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد الرحمن لمحبته وتقديره .
نعم أقف معزيا متعزيا مترجما مترحما كما قال القاضي عياض عن بعض مشايخه : " ما لكم تأخذون العلم عنا وتستفيدون منا ، ثم تذكروننا فلا تترحمون علينا " ، إنه ربط أصيل بين العلم والعالم ، وتنبيه أكيد على أن الاعتراف بفضل العالم شكر وتقدير لنفس العلم .
رحم الله شيخنا رحمة واسعة ، ورحم الله علماء المسلمين في كل زمان ومكان .
وقد قام الخلف بحق السلف في حفظ تاريخهم بالترجمة لهم خدمة لتراثهم وإحياء لذكراهم وما أثر عن السخاوي أنه قال : " من ورخ مؤمنا فكأنما أحياه " . أي من ترجم له وأرخه . وها هم علماء الأمة يعايشون كل جيل بسيرتهم وتاريخهم في أمهات الكتب .
وإني لأعتقد حقا أن تراجم الرجال مدارس الأجيال ، أي في علومهم ومعالم حياتهم .
وإن مثل شيخنا الأمين رحمه الله لحقيق بترجمته والاستفادة من منهج حياته في تعلمه وتعليمه .
[ ص: 473 ] وإني لأستعين الله فيما أقدم وأستلهمه فيما أقول :
إلى رحمة الله وحسن جواره
فقيد العلم يا علم الرجال ، نعاك العلم في حلق السؤال
. نعم فقيد الدرس يا علم الرجال ، نعاك الدرس في فصل المقال
انتقل إلى رحمة الله وحسن جواره صاحب الفضيلة وعلم الأعلام الشيخ الجليل الإمام الهمام ، زكي النفس ، رفيع المقام ، كريم السجايا ، ذو الخلق الرزين ، عف المقال ، حميد الخصال ، التقي الأمين ، والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي . توفي ضحى يوم الخميس 17 \ 12 \ 93 هـ وكانت وفاته بمكة المكرمة مرجعه من الحج ، ودفن بمقبرة المعلاة ، وصلى عليه سماحة رئيس الجامعة الإسلامية فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في الحرم المكي ، مع من حضر من المسلمين بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم .
وفي ليلة الأحد 20 \ 12 أقيمت عليه صلاة الغائب بالمسجد النبوي وصلى عليه صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح آل صالح إمام وخطيب المسجد النبوي ورئيس الدائرة الشرعية بالمدينة ، ومحاكم منطقة المدينة بعد صلاة العشاء مباشرة ، وصلى عليه من حضر من الحجاج ما لا يحصى عددا .
ومن غريب الصدف وحسن التفاؤل أن يقرأ الإمام في صلاة العشاء قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ، إلى آخر السورة .
وفي الركعة الثانية : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا .
وقد سألت فضيلته عن هذه القراءة أهو قاصد لهذه الآيات ومختار لها ، أم جاءت عفوا ؟ فقال حفظه الله : بل عفوا ، لملاحظة عليها ؟ قلت : إنها من أغرب الصدف ، لأنك صليت على الشيخ الأمين رحمه الله بعدها ، فظننت أنك قصدت إليها . ولكنه من المناسبات الحسنة ، تغمد الله الفقيد برحمته وأسكنه فسيح جنته إنه جواد كريم رءوف رحيم ، كما صلي عليه بالجامعة الإسلامية وفي مساجد الدوادمي .
[ ص: 474 ] مات رحمه الله تعالى بعد أن أحيا علوما درست ، وخلف تراثا باقيا ، وربى أفوجا متلاحقة تعد بالآلاف من خريجي كليات ومعاهد الإدارة العامة بالرياض ، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .
ما مات إلا بعد أن أصبح له في كل دائرة من دوائر الحكومة في أنحاء البلاد ابنا من أبنائه ، وفي قطر إسلامي بعثة من البعثات الإسلامية لمنح الجامعة التعلمية بالمدينة المنورة .
ما مات إلا بعد أن ترك في كل مكتبة وفي كل منزل ( أضواء البيان ) تبدد الظلام وتهدي السبيل .
فلا يبعد ولا يعالي من يقول : ما مات من خلف هذا التراث ، وأدى تلك الرسالة في حياته ، يبقي أثرا خالدا على مر الأجيال والقرون .
لقد أدى رسالة عظمى ، وانتقل إلى الرفيق الأعلى ليحصد ما زرع ويجني ثمار ما غرس ، وينعم بما قدم رحمه الله رحمة واسعة .
لقد عاش رحمه الله في هذه البلاد منذ سنين حين قدم لأداء فريضة الحج ، ثم اعتزم المقام وعمل في كبريات معاهد العلم وجامعاته ، وألف وحاضر ، ولم تكتب عنه كلمة ولم يكن يرضى بالكتابة عنه . لقد كانت أعماله تترجم عنه ومؤلفاته تعرف به حتى عرفه الصغير والكبير والقاصي والداني ، والعالم والعامي ، فلم تكن وفاته رزءا على فرد أو أسرة أو جماعة أو قطر ، ولكن على العالم الإسلامي كله .
وما كتبت عنه سوى كلمة موجزة استقيتها منه رحمه الله عند طبع أول محاضرة له بالجامعة الإسلامية في آيات الصفات وطبعت في مقدمتها .
ومات رحمه الله ولم يكتب عنه أيضا إلا تعريف موجز بالنشأة والمولد وما إلى ذلك .
والآن وقد تحتمت الكتابة عنه لا تعريفا به ، فهو أعرف من أن يعرف ، فهو العلم الخفاق ، والطود الأشم ، والشمس المشرقة فليست الكتابة للتعريف ، ولكن لرسم خطاه وبيان منهجه ، مما سمعت منه رحمه الله ولمسته من حياتي معه المدة الطويلة . وإني [ ص: 475 ] لأسجل هذا عنه رحمه الله للقريب والبعيد ، لكل من عرفه عالما ولم يعرفه طالبا أو عرفه هنا ولم يعرفه هناك في بلاده ، فأقول أولا : إني لا أستطيع إيفاء المقام حقه لعظم مقامه رحمه الله وكبير منزلته ، وإن كل كتابة عن أي شخص تعتبر ذات جانبين :
جانب ترجمة له وبيان لحقيقته وتعريف بشخصه ومنزلته ، وجانب سيرته ومنهجه . بما يمكن أن يكون نهجا يسار عليه ومنهجا يقتدى به ومؤثرا يؤثر على غيره ممن أراد السير في سبيله والنسج على منواله ، والاستفادة من أقواله وأفعاله .
والكتابة عن أي شخص من هذين الجانبين تعتبر بمثابة شخصيته في إبراز صورته وبيان مكانته وفيها تقييمه في عظمته أو توسطه أو غير ذلك ، وأي عالم أو طالب علم فإن له شخصية مزدوجة ، في حياته العامة وسلوكه العام . وحياته الخاصة في طلب العلم ، ومنهجه في تحصيله ونشره ، والكتابة بهذا الاعتبار تكون عن الترجمة الشخصية ، والسيرة العلمية .
وقد مثلت المكتبات الإسلامية بتراجم وسير الأعلام من الرجال من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى عصور التدوين وامتدت إلى اليوم ، حفظا للتراث الإسلامي ، وتسجيلا للرعيل الأول ، ولم تكن الكتابة عن أي شخص وافية إلا بتعدد الكتاب عنه وتستخلص الحقيقة من مجموع ما كتب عنه ، لأن كل كاتب عن أي شخص لن يخلو من أحد أمور ثلاثة :
1 - إما موال متأثر : فقد يقع تحت تأثير العاطفة ، فينظر من زاوية واحدة . فيقال فيه
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
" .
2 - وإما زاوية معاد منفعل : فيقع تحت طائلة الانفعال فيصدق عليه تتمة البيت السابق : "
كما أن عين السخط تبدي المساويا
" .
3 - وإما بعيد معتدل : يرغب التقييم بميزان الاعتدال ومثل هذا قد يفوته ما لم يكن حريصا عليه ، بدون تقصير .
ومن هنا لم تكن كتابة كاتب عن إنسان ما مطابقة كل التطابق ومكتملة غاية الاكتمال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (637)
ترجمة للشيخ رحمه الله
صـ 476 إلى صـ 482
وقد يتحرج الأصدقاء مخافة التهمة والتأثر بالألفة أو يتوقف الأعداء مكتفين [ ص: 476 ] بالإغضاء ، أو يتردد الآخرون خشية التقصير . ولهذا فقد تذهب الشخصية الفذة دون كتابة عنها فيفتقده الحاضرون ويفقد سيرته القادمون . علما بأن سيرة الرجال مدرسة الأجيال .
وفضيلة الوالد الشيخ محمد الأمين رحمه الله له شخصية متميزة وسيرة واضحة يعرفها كل من لقيه أو حضر مجلسه أو استمع درسه أو قرأ كتبه أو حتى سمع عنه . وقد طبقت شهرته الآفاق .
وإن الكتابة عن مثله رحمه الله لمن أشق ما يكون لتعدد جوانبه الشخصية وانفساح مجالاته العلمية والحال أنه لا مرجع لمن يكتب عنه إلا الخلطة وطول العشرة وتصيد الأخبار من ذويه الأخيار .
وحيث إن أحق الناس بالكتابة عنه هم تلامذته وأبناؤه ، وإني وإن كنت قد أكرمني الله بصحبته وطول ملازمته ليل نهار ، وكثرة مرافقته في الظعن والأسفار . داخل وخارج المملكة . وسمعت منه رحمه الله الشيء الكثير والكثير جدا ، فإني لأجدني تتجاذبني عوامل الإقدام والإحجام . فإذا استحضرت كل ما سمعته منه ، وتصورت كل ما لمسته فيه أجدني أحق الناس بالكتابة عنه .
وإذا تذكرت مكانته وتراءت لي منزلته وأحسست تأثيره على نفسي تلاشت من ذهني كل معاني الكتابة أمام تلك الشخصية المثالية وتراجعت بعيدا عن ميادين الكتابة عنه .
ولكن إذا كان كل كاتب لا يستطيع تقييم كل شخصية تقييما حقيقيا يدل على الشخص دلالة مطابقة ، وفي أسلوب المساواة . لا موجزا ولا مطنبا . إذا كان هذا حال كل كاتب مع كل شخص .
وإذا كان تلميذ الشيخ أحق بالكتابة عنه فما لي لا أدلي بدلوي بالدلاء ، وأعمل قلمي مع الأقلام ، وأبدي ما عندي سواء ما سمعته منه مباشرة أو عنه بواسطة ، أو لمسته من جوانب حياته وسيرته .
دون انطلاق مع العاطفة إلى حد الإطناب ، ودون إحجام مع الوجل والتهيب والوجل إلى حد الإيجاز . إنه لشيخي ، وأعز علي من والدي .
إنه حقا والدي حسا ومعنى ، لقد عشت في كنفه سنوات معه في بيته ، وقد يظلنا سقف واحد في غرفة واحدة أمدا طويلا .
[ ص: 477 ] وقد وجدت منه رحمه الله العناية والرعاية كأحد أبنائه كأشد ما يرعى الوالد ولده ، وقد أجد منه الإيثار على نفسه في كثير من أحيانه ، مما يطول ذكره ، ولا ينسى فضله .
وأعز من الإيثار ما منحني من العلوم والآثار ، والتوجيه الأدبي ، والفضل الخلقي ، والسمو النفسي ، في مجالسه وأحاديثه ، ودروسه من غير ما حد وبدون تقيد بوقت ، إذ كان رحمه الله كل مجالسه مجالس علم ، وكل أحاديثه أحاديث أدب وتوجيه ، ولم يكن يحتاج إلى تحضير لدرس ، ولا مراجعة لجواب على سؤال .
ولم يكن لي معه رحمه الله من وقت معين مع كثرة الإخوان الدارسين عليه المقيمين معه في بيته إلا وقت واحد هو ما بين المغرب والعشاء لمدة سنتين دراسيتين ونحن بالرياض . قرأت في خلالهما تفسير سورة البقرة .
كانت تلك الدراسة عليه رحمه الله هي رأس مالي في جل تحصيلي ، وعليها أساس دراستي الحقيقية سواء في المقررات أو غيرها . لأن فيها جميع أبواب الفقه . وعلى مباحثها تنطبق جل قواعد الأصول . ولا يبعد من يقول إن ما بعدها من السور يعتبر تفسيرا لها ، أو أن من أتقن تفسيرها سهل عليه تفسير ما بعدها . وقد كانت دراستها سببا في تأليف كتابي دفع إيهام الاضطراب ، وأضواء البيان . وكل منهما إثر سؤال وجواب .
مع ما درست من الأصول ومبادئ في المنطق ودقائق في البلاغة وغير ذلك .
لقد وجدت منه رحمه الله ما لم أجده من غيره على الإطلاق ، كما وأظن أن أحدا لم يجد منه ما وجدته أنا منه . فلئن شرفت بخدمته فلقد حظيت بصحبته . فجزاه الله عني أحسن الجزاء .
وإن صاحب مثل هذه العلاقة مع مثل هذه الشخصية ليحس بثقل ديونه على كاهله ، ويلمس عظم المنة تطوق عنقه . فهل أستطيع توفية هذا الجانب فحسب ، فضلا عن الجوانب العامة التي هي موضوع الترجمة والسيرة ، وهل يتأتى مني الإحجام عن الكتابة وأنا مدين بمثل تلك الديون ، مكبل بتلك المنن مما يجعلني أحق بقول القائل :
كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وصدر أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
[ ص: 478 ] علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
ولئن قيل :
وتجلدي للشامتين أريهمو أني لريب الدهر لا أتضعضع
فإني لأقول :
وتجلدي للسامعين أريهمو شمس الحقيقة من سناء تطلع
وإني ملزم بالكتابة لو تأثرت بالعاطفة فإني معذور .
وإن قصرت عن حقه فلا عذر لي في التقصير .
وإني لأعتبر ما أقدمه بداية لا نهاية وتذكرة للآخرين من حاضرين وغائبين ، لعلهم يتمون ما بقي ، ويكملون ما نقص .
وإذا كانت التراجم والسير تنقسم إلى ذاتية وغير ذاتية . والذاتية هي ما يكتبها الشخص عن نفسه من طفولته إلى رجولته . ويسجل ما جرى له وعليه . وهي أصدق ما تكون إن كان صاحبها معتدلا أمينا .
وقد ترجم بعض العلماء والفلاسفة لأنفسهم منهم :
1 - ابن سينا المتوفى سنة 428 كانت ترجمته لنفسه مرجعا لكل من كتب عنه من تلاميذه .
2 - والعماد الأصفهاني المتوفى سنة 597 في مقدمة كتابه " البرق الشامي " .
3 - وابن الخطيب المتوفى سنة 776 .
4 - وابن خلدون المتوفى سنة 805 ، والسيوطي وغيرهم .
والترجمة غير الذاتية ما يكتب غيره عنه .
وإن ما أقدمه في هذا المجال ليجمع بين القسمين الذاتي ، وغير الذاتي ، لأنه يشتمل على ما قاله هو عن نفسه وسمعته منه مباشرة . كما تشتمل على ما عرفته ولمسته من حياته مدة صحبتي له .
[ ص: 479 ] والله أسأل أن يجعل من سيرته خير قدوة لتلامذته ، وأن يجعل في ولديه خير خلف لخير سلف . وأن يأجرنا في مصيبتنا ويخلفنا خيرا منها ، ونسأله تعالى أن يتغمده بوافر رحمته ويسكنه فسيحه جنته ، وأن يجزل له العطاء ويجزيه أحسن الجزاء عما بذله من جهد ، وخلفه من علم . إنه جواد كريم ( إن أول ما يبدأ به في مثل هذا المقام لهو الاسم واللقب والنسب والنشأة والموطن ) . . إلخ .
وهذه ترجمته رحمه الله كما سمعتها منه مباشرة :
الاسم : هو محمد الأمين وهو علم مركب من اسمين ، وذكر محمد تبرك .
واللقب : آبا بمد الهمزة وتشديد الباء من الإباء .
واسم أبيه : محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح بن محمد بن سيدي أحمد بن المختار من أولاد الطالب أو بك وهذا من أولاد أولاد كرير بن الموافي بن يعقوب بن جاكن الأبر ، جد القبيلة الكبيرة المشهورة المعروفة بالجكنيين . ويعرفون بتجكانت .
نسب القبيلة : ويرجع نسب هذه القبيلة إلى حمير . كما قال الشاعر الموريتاني محمد فال ولد العينين مستدلا بفصاحتهم على عروبتهم :
إنا بنو حسن دلت فصاحتنا أنا إلى العرب الأقحاح ننتسب إن لم تقم بينات أننا عرب
ففي " اللسان " بيان أننا عرب انظر إلى ما لنا من كل قافية
لها تنم شذور الزبرج القشب
وبين شاعر آخر مرجع تلك القبيلة إلى حمير بقوله :
يا قائلا طاعنا في أننا عرب قد كذبتك لنا لسن وألوان
وسم العروبة باد في شمائلنا وفي أوائلنا عز وإيمان
آساد حمير والأبطال من مضر حمر السيوف فما ذلوا ولا هانوا
لقد كانت خصائص العروبة ومميزاتها موفورة لدى الشيخ رحمه الله ، ولدى أهله وذويه في النظم والنثر ، كما توفرت العلوم والفنون في بيته وقبيلته . وقد بين أحد [ ص: 480 ] شعرائهم أصالة العروبة فيهم وارتضاعهم إياها من أمهاتهم في قوله يخاطب من ينكرها عليهم :
لنا العروبة الفصحى وإنا أحق العالمين بها اضطلاعا
عن الكتب اقتبستموها انتفاعا بما فيها ونرضعها ارتضاعا
المولد : ولد رحمه الله في عام 1305 هـ .
الموطن : كان مسقط رأسه رحمه الله عند ماء يسمى ( تنبه ) من أعمال مديرية ( كيفا ) من القطر المسمى بشنقيط وهو دولة موريتانيا الإسلامية الآن .
علما بأن كلمة شنقيط كانت ولا تزال اسما لقرية من أعمال مديرية أصار في أقصى موريتانيا في الشمال الغربي .
نشأته رحمه الله : وقبل الحديث عن نشأته يحسن إيجاز نبذة عن البيئة في تلك البلاد .
تعتبر الحياة الاجتماعية في تلك البلاد بحسب المواطنين قسمين : عرب وعجم والعربية لغة الجميع .
أما العمل : فالعجم أكثر أعمالهم الزراعة والصناعة وسلالتهم من الزنوج .
وأما العرب فقسمان : طلبة وغير الطلبة . والطلبة من يغلب عليهم طلب العلم والتجارة ، وغيرهم من يغلب عليهم التجارة والإغارة . وهم قبائل عدة ، ومن القبائل من يغلب عليها الطلب ، ومنها من يغلب عليها الإغارة والقتال .
وقبيلة الجكنيين خاصة قد جمعت بين طلب العلم ، وفروسية القتال . مع عفة عن أموال الناس ، وفي هذا الجو كان طلب العلم على قدم وساق سواء في حلهم أو ترحالهم ، كما قال بعض مشايخهم العلامة المختار بن بونا :
ونحن ركب من الأشراف منتظم أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة بها نبين دين الله تبيانا
أما كرم الطبع فهذا سجية في جميعهم وأمر يشب فيه الصغير ، ويشيب عليه الكبير وقد ألفوا الضيف لنجعة منازلهم ، ومن عاداتهم إذا نزل وفد على بيت ، فإن أهل هذا [ ص: 481 ] المنزل يرسلون لأهل بيت المضيف مما عندهم قل أو كثر مشاركة في قرى الضيف وتعاونا مع المضيف حتى لو كان معدما غدا واجدا ، ويرحل الوفد وهو في غاية الرضا . وهكذا ليك .
وفي هذا الجو وتلك البيئة نشأ رحمه الله كما سمعته يقول : توفي والدي وأنا صغير أقرأ في جزء عم ، وترك لي ثروة من الحيوان والمال ، وكانت سكناي في بيت أخوالي وأمي ابنة عم أبي ، وحفظت القرءان على خالي عبد الله بن محمد المختار بن إبراهيم بن أحمد نوح جد الأب المتقدم .
طلبه للعلم : حفظ القرءان في بيت أخواله على خاله عبد الله كما تقدم ، وعمره عشر سنوات .
قال رحمه الله : ثم تعلمت رسم المصحف العثماني ( المصحف الأم ) عن ابن خالي سيدي محمد بن أحمد بن محمد المختار ، وقرأت عليه التجويد في مقرأ نافع برواية ورش من طريق أبي يعقوب الأزرق وقالون من رواية أبي نشيط ، وأخذت عنه سندا بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك وعمري ستة عشر سنة .
أنواع الدراسة في القرءان : تعتبر الدراسة في علوم القرءان منهجا متكاملا لا تقتصر على الحفظ والأداء ، بل تتناول معرفة رسم المصحف أي نوع كتابته ما كان موصولا أو مفصولا ، وما رسم فيه المد أو كان يمد بدون وجود حرف المد ، وقد يكون حرفا صغيرا أو نحو ذلك .
ثم ضبط ما فيه من منشأيه في الرسم أو التلاوة . ومن المشهور عندهم في هذا رجز ( محمد بن بوجه ) المشهور المعروف بالبحر ، تعرض فيه لكل كلمة جاءت في القرءان مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث مرات إلى سبع وعشرين مرة أي من الكلمات المشتبهة ، وأفرد كل عدد بفصل فمثلا : كلمة ( أعينهم ) بالرفع جاءت ثلاث مرات قال فيها :
أعينهم بالرفع من غير حضور من بعد كانت وتولت وتدور
ومن الثنائي : كلمة ( الأشياع ) بالعين قال فيه :
أشياع بالعين فهل من مدكر في سبإ من قبل بأنهم ذكر
[ ص: 482 ] وقد درس هذا كله في طفولته ، وكانت له زيادة نظم على ذلك تذييلا لزيادة الفائدة ، كما قال : على البيت الأخير مبينا حركاته وإعرابه :
في سورة القمر خاطب وانصبا وجله وغيبته في سبأ
أي في سورة القمر تكون تلاوتها الخطاب والنصب ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر .
وفي سورة سبأ تكون تلاوتها بالغيبة والجر كما فعل بأشياعهم وهذه دراسة لا تكاد توجد إلا ما شاء الله ، وهي من المهام العلمية لحفظها رسم القرءان من التغيير والتبديل وهي من آثار تعهد الله بحفظ هذا القرءان المنزل من عنده سبحانه .
ثم قال رحمه الله : وفي أثناء هذه القراءة درست بعض المختصرات في فقه مالك كرجز الشيخ ابن عاشر ، وفي أثنائها أيضا درست دراسة واسعة في الأدب على زوجة خالي أم ولد الخال أي أن ولد خاله يعلمه العلوم الخاصة بالقرآن ، وأمه تعلمه الأدب ، قال : أخذت عنها مبادئ النحو كالأجرومية وتمرينات ودروس واسعة في أنساب العرب وأيامهم ، والسيرة النبوية ، ونظم الغزوات لأحمد البدوي الشنقيطي وهو يزيد على 500 بيت وشروحه لابن أخت المؤلف المعروف بحماد ، ونظر عمود النسب للمؤلف وهو يعد بالآلاف ، وشرحه لابن أخته المذكور على خصوص العدنانيين ، لأنه مات قبل شرح ما يتعلق بالقحطانيين .
هذه دراسة في علوم القرءان والأدب والسير والتاريخ كانت في بيت أخواله على أخواله وأبناء أخواله وزوجات أخواله ، أي كان بيت أخواله المدرسة الأولى إليه . أما بقية الفنون فقال :
أولا : الفقه المالكي ، وهو المذهب السائد في البلاد درست مختصر خليل - بدأ دراسته فيه على الشيخ محمد بن صالح إلى قسم العبادات - ثم درس عليه النصف من ألفية ابن مالك . ثم أخذ بقية الفنون على مشايخ متعددة ، في فنون مختلفة ، وكلهم من الجكنيين ومنهم مشاهير العلماء في البلاد منهم :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (638)
ترجمة للشيخ رحمه الله
صـ 483 إلى صـ 489
[ ص: 483 ] 1 - الشيخ محمد بن صالح المشهور بابن أحمد الأفرم .
2 - والشيخ أحمد الأفرم بن محمد المختار .
3 - والشيخ العلامة أحمد بن عمر .
4 - والفقيه محمد النعمة بن زيدان .
5 - والفقيه الكبير أحمد بن مود .
6 - والعلامة المتبحر في الفنون أحمد فال بن آده .
وغيره من المشايخ الجكنيين .
قال رحمه الله : وقد أخذنا عن هؤلاء المشايخ كل الفنون : النحو ، والصرف ، والأصول ، والبلاغة . وبعض التفسير والحديث .
أما المنطق وآداب البحث والمناظرة فقد حصلناه بالمطالعة .
هذا ما أملاه علي رحمه الله وسجلته عنه .
علما بأن الفن الذي درسه على المشايخ أو مطالعة من الكتب ، لم يقتصر في تحصيله على دراسته ، بل كان دائما يديم النظر ويواصل التحصيل حتى غدا في كل منه كأنه متخصص فيه ، بل وله في كل منه اجتهادات ومباحث مبتكرة ، سنلم بها إن شاء الله عند إيراد المنهج العلمي لدراسته وآثاره العلمية .
منهجه العلمي في الدراسة :
وقبل إيراد المنهج العلمي له رحمه الله في دراسته ، نلم بالمنهج العام السائد في بلاده لكافة طلبة العلم وطريقة تحصيله .
تعتبر طريقة الدراسة في تلك البلاد جزءا من حياة البوادي حلا وارتحالا . وإذا أقام أحد المشايخ في مكان توافد عليه الطلاب للدراسة عليه ومكث حتى يأخذوا عنه ، وقد يقيم بصفة دائمة لدوام الدراسة عليه ، ويقال له " المرابط " نظرا لإقامته الدائمة لنشر العلم .
[ ص: 484 ] ولا يأخذ المرابط من طلابه شيئا وإن كان ذا يسار ساعد المحتاجين من طلابه ، وقد يساعد أهل ذاك المكان الغرباء من الطلاب .
فينزلون حول بيته ويبنون لهم خياما أو مساكن مؤقتة . ويكون لهم مجلس علم للدرس والمناقشة والاستذكار .
وقد يكون المرابط مختصا بفن واحد ، وقد يدرس عدة فنون . فإذا كان مختصا بفن واحد فإن دروسه تكون في هذا الفن موزعة في عدة أماكن منه بحسب مجموعات الطلاب ، فقد تكون مجموعة في البداية منه ، ومجموعة في النهاية وأخرى في أثنائه وهكذا . فتتقدم كل مجموعة على حدة فتدرس على الشيخ ، ثم تأتي المجموعة الأخرى وهكذا .
وإذا كان يدرس عدة فنون ، فإنه يقسم طلاب كل فن على النحو المتقدم .
إفراد الفنون : ولا يحق لطالب أن يجمع بين فنين في وقت واحد ، بل يدرس فنا حتى يكمله كالنحو مثلا ، ثم يبدأ في البلاغة حتى يكلمها . وهكذا يبدأ مثلا في الفقه حتى يفرغ منه ثم يبدأ في الأصول حتى يكمله . سواء درسها على عدة مشايخ أو على شيخ واحد .
طريقة الدراسة اليومية : يبدأ الطالب بكتابة المتن في اللوح الخشبي فيكتب قدر ما يستطيع حفظه ، ثم يمحوه ، ثم يكتب قدرا آخر حتى يحفظ مقرأ من الفن حسب التقسيم المعهود . فمثلا النحو ، تعتبر الألفية أربعة مقارئ ، ويعتبر متن خليل في الفقه نحوا من ذلك .
فإذا حفظ الطالب مقرأ من الفن تقدم للدراسة فيشرحه له الشيخ شرحا وافيا بقدر ما عنده من تحصيل ، دون أن يفتح كتابا ، أو يحضر في مرجع ثم يقوم هؤلاء للاستذكار فيما بينهم ومناقشة ما قاله الشيخ ، وقد يأخذون بعض الشراح لمقابلته على ما سمعوه أو يرجعون إلى بعض الحواشي ، ولا يجتازون ذاك المكان من الدرس حتى يروا أنهم قد حصلوا كل ما فيه . وليس عليهم من سرعة أو إنهاء كتاب بقدر ما عليهم من فهم وتحصيل ما في الباب ، وقد ذكروا عن بعض الطلاب ممن عرفوا بالذكاء والقدرة على التحصيل ، أنه كان لا يزيد في متن خليل على سطرين فقط . فقيل له لم لا تزيد وأنت قادر على [ ص: 485 ] التحصيل فقال : لأنني عجلان لأعود إلى أهلي ، فقالوا له : إن العجلان يزيد في حصته ، فقال أريد أن أتقن ما أقرأ حتى لا أحتاج إلى إعادة دراسته فأتأخر .
الحياة الدراسية :
دراسة الشيخ رحمه الله : على هذا المنهج كانت دراسة الشيخ رحمه الله ، إلا أنه تميز ببعض الأمور ، قل أن كانت لغيره ، نوجز منها كالآتي :
1 - في مبدأ دراسته : تقدم أنه أتيح له في بادئ دراسته ما لم يتح لغيره حيث كان بيت أخواله مدرسته الأولى ، فلم يرحل في بادئ أمره للطلب ، وكان وحيد والديه ، فكان في مكان التدلل والعناية .
2 - قال رحمه الله : كنت أميل إلى اللعب أكثر من الدراسة حتى حفظت الحروف الهجائية وبدأوا يقرئونني إياها بالحركات ، با فتحة با ، بي كسرة بي ، بو ضمة بو ، وهكذا ت د ث . فقلت لهم أو كل الحروف هكذا ؟ قالوا : نعم . فقلت : كفى إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريق كي يتركونني فقالوا : اقرأها ، فقرأت بثلاثة حروف أو أربعة وتنقلت إلى آخرها بهذه الطريقة ، فعرفوا أني فهمت قاعدتها واكتفوا مني بذلك وتركوني . ومن ثم حببت إلي القراءة .
3 - وقال رحمه الله : ولما حفظت القرءان ، وأخذت الرسم العثماني ، وتفوقت فيه على الأقران عنيت بي والدتي وأخوالي أشد عناية ، وعزموا على توجيهي للدراسة في بقية الفنون . فجهزتني والدتي بجملين أحدهما عليه مركبي وكتبي ، والآخر عليه نفقتي وزادي ، وصحبني خادم ومعه عدة بقرات ، وقد هيأت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب وملابس كأحسن ما تكون فرحا بي وترغيبا لي في طلب العلم وهكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل .
تقوم الحياة الدراسية على أساس منع الكلفة وتمام الألفة سواء بين الطلاب أنفسهم أو بينهم وبين شيخهم مع كمال الأدب ووقار الحشمة . وقد تتخللها الطرف الأدبية والمحاورات الشعرية ، ومن ذلك ما حدثنيه رحمه الله قال : قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه ولم يكن يعرفني من قبل ، فسأل عني من أكون ، وكان في ملأ من تلامذته فقلت مرتجلا :
[ ص: 486 ]
هذا فتى من بني جاكان قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قد عدلا رمت به همة علياء نحوكم
إذ شام برق علوم نوره اشتعلا فجاء يرجو ركاما من سحائبه
تكسو لسان الفتى أزهاره حللا إذ ضاق ذرعا بجهل النحو ثم أبا
ألا يميز شكل العين من فعلا قد أتى اليوم صبا مولعا كلفا
بالحمد لله لا أبغي له بدلا
يريد دراسة لامية الأفعال .
وقد مضى رحمه الله في طلب العلم قدما وقد ألزمه بعض مشايخه بالقران . أي أن يقرن بين كل فنين حرصا على سرعة تحصيله وتفرسا له في القدرة على ذلك ، فانصرف بهمة عالية في درس وتحصيل .
وقد خاطبه بعض أقرانه في أمر الزواج فقال في ذلك ، وفي الحث على طلب العلم :
دعاني الناصحون إلى النكاح غداة تزوجت بيض الملاح
فقالوا لي تزوج ذات دل خلوب اللحظ جائلة الوشاح
تبسم عن نوشرة رقاق يمج الراح بالماء القراح
كأن لحاظها رشقات نبل تذيق القلب آلام الجراح
ولا عجب إذا كانت لحاظ لبيضاء المحاجر كالرماح
فكم قتلا كميا ذا ولاحي ضعيفات الجفون بلا سلاح
فقلت لهم دعوني إن قلبي من العي الصراح اليوم صاحي
ولي شغل بأبكار عذارى كأن وجوهها ضوء الصباح
أراها في المهارق لابسات براقع من معانيها الصحاح
أبيت مفكرا فيها فتضحى لفهم الفدم خافضة الجناح
أبحت حريمها جبرا عليها وما كان الحريم بمستباح
نعم ، إنه كان يبيت في طلب العلم مفكرا وباحثا حتى يذلل الصعاب ، وقد طابق القول العمل .
حدثني رحمه الله قال : جئت للشيخ في قراءتي عليه فشرح لي كما كان يشرح ، [ ص: 487 ] ولكنه لم يشف ما في نفسي على ما تعودت ، ولم يرو لي ظمئي . وقمت من عنده وأنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس وإيضاح بعض المشكل وكان الوقت ظهرا فأخذت الكتب والمراجع فطالعت حتى العصر ، فلم أفرغ من حاجتي فعاودت حتى المغرب فلم أنته أيضا ، فأوقد لي خادمي أعوادا من الحطب أقرأ على ضوئها كعادة الطلاب ، وواصلت المطالعة وأتناول الشاهي الأخضر كلما مللت أو كسلت والخادم بجواري يوقد الضوء حتى انبثق الفجر وأنا في مجلسي لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام وإلى أن ارتفع النهار وقد فرغت من درسي وزال عني لبسي ، ووجدت هذا المحل من الدرس كغيره في الوضوح والفهم فتركت المطالعة ونمت ، وأوصيت خادمي أن لا يوقظني لدرسي في ذلك اليوم اكتفاء بما حصلت عليه واستراحة من عناء سهر البارحة .
فقد بات مفكرا فيها فأضحت لفهم الفدم خافضة الجناح
وإن هذا لدرس لأبنائه ومنهج لطلاب العلم في الصبر والدأب والمثابرة . وقد نفعني الله بهذه الحادثة في دراستي وتدريسي وخاصة في صورة مشابهة في الفرائض لم أكن درستها على أحد وكان الاختبار في المقروء لا في المقرر .
وتلك هي آفة الدراسة النظامية اليوم وكنت كلما ضجرت في تحقيقها ، تذكرت قصته رحمه الله فصبرت حتى حصلتها ولله الحمد والمنة . وكان من بعد الظهر إلى هزيع من الليل . ولكن كم كانت لذتي وارتياحي .
ومع هذه الشاعرية الرقراقة والمعاني العذاب الفياضة والأسلوب السهل الجزل ، فقد كان يتباعد رحمه الله عن قول الشعر مع وفرة حفظه إياه ، وله في ذلك أبيات يقول فيها :
أنقذت من داء الهوى بعلاج شيب يزين مفارقي كالتاج
قد صدني حلم الأكابر عن لمي شفة الفتاة الطفلة المغناج
ماء الشبيبة زارع في صدرها رمانتي روض كحق العاج
وكأنها قد أدرجت في برقع يا ويلتاه بها شعاع سراج
وكأنما شمس الأصيل مذابة تنساب فوق جبينها الوهاج
يعلى لموقع في خدرها فوق الحشية ناعم الديباج
لم يبك عيني بين حي جيرة شدوا المطي بأنسع الأحداج
[ ص: 488 ] نادت بأنغام اللحون حداتهم فتزيلوا والليل أليل داجي
لا تصطبيني عاتق في دلها رقت فراقت في رقاق زجاج
مخضوبة منها بنان مديرها إذ لم تكن مقتولة بمزاج
طابت نفوس الشرب حيث أدارها رشأ رمى بلحاظ طرف ساجي
أو ذات عود أنطقت أوتارها بلحون قول للقلوب شواجي
فتخال رنات المثاني أحرفا قد رددت في الحلق من مهتاج
وقد سألته رحمه الله عن تركه الشعر مع قدرته عليه وإجادته فيه فقال : لم أره من صفات الأفاضل وخشيت أن أشتهر به ، وتذكرت قول الشافعي فيما ينسب إليه :
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
لأن الشاعر يقول في كل مجال . والشعر أكذبه أعذبه فلم أكثر منه لذلك .
ومع هذا فقد كانت له رحمه الله عدة مؤلفات نظما في عدة فنون سيأتي بيانها إن شاء الله .
أعماله في البلاد : كانت أعماله رحمه الله كعمل أمثاله من العلماء : الدرس والفتيا ، ولكنه كان قد اشتهر بالقضاء وبالفراسة فيه ، ورغم وجود الحاكم الفرنسي إلا أن المواطنين كانوا عظيمي الثقة فيه فيأتونه للقضاء بينهم ويفدون إليه من أماكن بعيدة أو حيث يكون نازلا .
طريقته في القضاء : كان إذا أتى إليه الطرفان استكتبهما رغبتهما في التقاضي إليه وقبولهما ما يقضي به ، ثم يستكتب المدعي دعواه ويكتب جواب المدعى عليه أسفل كتابة الدعوى ويكتب الحكم مع الدعوى والإجابة ويقول لهما اذهبا بها إلى من شئتما من المشايخ أو الحكام .
أما المشايخ فلا يأتي أحدهم قضية قضاها إلا صدقوا عليها . وأما الحكام فلا تصلهم قضية حكم فيها إلا نفذوا حكمه حالا . وكان يقضي في كل شيء إلا في الدماء والحدود وكان للدماء قضاء خاص .
[ ص: 489 ] قضاء الدماء : كان الحاكم الفرنسي في البلاد يقضي بالقصاص في القتل بعد محاكمة ومرافعة واسعة النطاق وبعد تمحيص القضية وإنهاء المرافعة وصدور الحكم يعرض على عالمين جليلين من علماء البلاد ليصادقوا عليه ، ويسمى العالمان لجنة الدماء ولا ينفذ حكم الإعدام في القصاص إلا بعد مصادقتهما عليه .
وقد كان رحمه الله أحد أعضاء هذه اللجنة ولم يخرج من بلاده حتى علا قدره وعظم تقديره ، وكان علما من أعلامها وموضع ثقة أهلها وحكامها ومحكومها .
خروجه من بلاده رحمه الله : كان خروجه من بلاده لأداء فريضة الحج وعلى نية العودة وكان سفره برا ، كتب فيه رحلة ضمنها مباحث جليلة كان آخرها مبحث القضايا الموجهة في المنطق مع علماء أم درمان بالمعهد العلمي بالسودان .
وبعد وصوله إلى هذه البلاد تجددت نية بقائه . ولعل من الخير وبيان الوقاع ذكر سبب بقائه : لقد كان في بلاده كغيره يسمع الدعاية ضد هذه البلاد باسم الوهابية ، إلا أن بعض الصدق قد تغير من وجهات النظر " وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب " ومن عجيب الصدف أن ينزل رحمه الله في بعض منازل الحج بجوار خيمة الأمير خالد السديري دون أن يعرف أحدهما الآخر ، وكان الأمير خالد يبحث مع جلسائه بيتا في الأدب وهو ذواقة أديب وامتد الحديث إلى أن سألوا الشيخ لعله يشاركهم فوجدوا بحرا لا ساحل له ، ومن تلك الجلسة وذاك المنزل تعدلت الفكرة بل كانت تلك الخيمة بداية منطلق لفكرة جديدة ، وأوصاه الأمير إن هو قدم المدينة أن يلتقي بالشيخين الشيخ عبد الله الزاحم رحمه الله والشيخ عبد العزيز بن صالح حفظه الله .
وفي المدينة التقى بهما رحمه الله . وكان صريحا معهما فيما يسمع عن البلاد وكانا حكيمين فيما يعرضان عليه ما عليه أهل هذه البلاد من مذهب في الفقه ومنهج في العقيدة .
وكان أكثرهما مباحثة معه فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح . وأخيرا قدم للشيخ كتاب المغني كأصل للمذهب وبعض كتب الشيخ ابن تيمية كمنهج للعقيدة ، فقرأها الشيخ وتعددت اللقاءات وطالت الجلسات فوجد الشيخ مذهبا معلوما لإمام جليل من أئمة أهل السنة وسلف الأمة أحمد بن حنبل رحمه الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (639)
ترجمة للشيخ رحمه الله
صـ 490 إلى صـ 496
[ ص: 490 ] كما وجد منهجا سليما لعقيدة السلف تعتمد الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة ، فذهب زيف الدعايات الباطلة وظهر معدن الحقيقة الصحيحة ، وتوطدت العلاقة بين الطرفين ، وتجددت رغبة متبادلة في بقائه لإفادة المسلمين .
ورغب رحمه الله في هذا الجوار الكريم وكان يقول : ليس من عمل أعظم من تفسير كتاب الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتم ذلك بأمر من جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وكان الشيخان أقرب الناس إليه ودرس الشيخ عبد العزيز بن صالح الصرف والبيان عليه . رحم الله الموتى وحفظ الله الأحياء .
وهنا كلمة يجب أن تقال للحقيقة ولطلبة العلم خاصة نضعها في ميزان العدالة وقانون الإنصاف : لقد كان لجلوس الشيخ رحمه الله فائدة مزدوجة استفاد وأفاد .
أما استفادته فأمر حتمي ومنطقه علمي للآتي :
وهو أن منهج الدراسة في بلاده كان منصبا أكثر ما يكون على الفقه ، وفي مذهب مالك فقط . وعلى العربية متنا وأسلوبا ، والأصول والسيرة والتفسير . وتقدم أنه رحمه الله درس المنطق بالمطالعة ولم تكن دراسة الحديث تحظى بما يحظى به غيرها للاقتصار على مذهب مالك . وكان الشيخ رحمه الله إماما في كل ما تقدم مما هو شائع في البلاد .
ولما عزم على البقاء وبدأ التدريس في المسجد النبوي وخالط العامة والخاصة وجد من يمثل المذاهب الأربعة ، ومن يناقش فيها ، ووجد في المسجد النبوي دراسة لا تقتصر على مذهب مالك . بل ولا على غيره ، فكان لا بد من دراسة بقية المذاهب بجانب مذهب مالك ، وبما أن الخلاف المذهبي لا ينهيه إلا الحديث أو القرءان ، فكان لزاما من التوسع في دراسة الحديث ، وقد ساعد الشيخ على هذا التوسع والاستيعاب وقوة الاستدلال ودقة الترجيح ما هو متمكن فيه من فن الأصول والعربية ، مع توسعه في دراسة الحديث ، وبالأخص المجاميع كنيل الأوطار وفتح الباري وغيرها .
وقد ظهر ذلك في منهجه في أضواء البيان حينما يعرض لمبحث فقهي مختلف فيه فيستوفي في أقوال العلماء ، ويرجح ما يظهر له بمقتضى الدليل عقلا كان أو نقلا .
وهذا المنهج هو سبيل أهل التحصيل ، الدأب على الدراسة ، ومواصلة المطالعة والتنقيح .
[ ص: 491 ] أما في العقيدة فقد بلورها منطقا ودليلا ، ثم لخصها في محاضرة آيات الأسماء والصفات في أول محاضرات الجامعة ثم بسطها ووضحها إيضاحا شافيا في أخريات حياته ، في كتابي آداب البحث والمناظرة دليلا واستدلالا وعرضا وإقناعا . ومن آثار بيانه لها وأسلوبه فيها ما قاله فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله لما سمع بيان الشيخ لعقيدة السلف في مسجد الشيخ محمد رحمه الله قال : جزى الله عنا الشيخ محمدا الأمين خيرا على بيانه هذا ، فالجاهل عرف العقيدة ، والعالم عرف الطريق والأسلوب .
وهذه الحقيقة تضع بين يدي طالب العلم منهج الاستزادة في التحصيل وطموحه فيه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : منهومان لا يشبعان أبدا : طالب علم وطالب مال هذا جانب استفادته ، أما جانب إفادته فهو ما سنتحدث عنه إن شاء الله .
أولا : في المسجد النبوي : يعتبر التدريس في المسجد النبوي من أهم التدريس في كبريات جامعات العالم ، في نشر العلم ، وهو الجامعة الأولى للتشريع الإسلامي منذ عهد النبوة . وحين كان جبريل عليه السلام يأتي لتعليم الإسلام في مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم . ومنذ كانت مجالس الخلفاء الراشدين وعلماء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين . إذ كانت المدينة العاصمة العلمية وظلت محافظة على مركزها العلمي ، ولم تخل في زمن من الأزمان من عالم يقوم بحق الله فيها .
وقبل مجيء الشيخ رحمه الله كان قبله الشيخ الطيب رحمه الله نفع الله به كثيرا . وتوفي سنة 1363 هـ . فكان جلوس الشيخ رحمه الله للتدريس في المسجد النبوي امتدادا لما كان قبله ، مع من كان من العلماء بالمسجد النبوي آنذاك من تلاميذ الشيخ الطيب وغيرهم . وكان درس الشيخ في التفسير ، ختم القرءان مرتين .
منهجه في درسه : من المعلوم أن التفسير لا ينحصر في موضوع فهو شامل عام بشمول القرءان وعمومه ، فكان المنهج أولا بيان المفردات ثم الإعراب والتصريف ثم البلاغة مع إيراد الشواهد على ما يورد .
ثم يأتي إلى الأحكام إن كان موضوع الآية فقها ، فيستقصي باستنتاج الحكم وبيان الأقوال والترجيح لما يظهر له . ويدعم ذلك بالأصول وبيان القرءان وعلوم القرءان من عام [ ص: 492 ] وخاص ومطلق ومقيد وناسخ ومنسوخ وأسباب نزول وغير ذلك .
وإذا كانت الآية في قصص أظهر العبر من القصة وبين تاريخها وقد يربط الحاضر بالماضي كربط تكشف النساء اليوم بفتنة إبليس لحواء في الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ، وفتنته للجاهلية حتى طافوا بالبيت عرايا رجالا ونساء وها هو يستدرجهن في التكشف شيئا فشيئا . بدأ بكشف الوجه ثم الرأس ثم الذراعين . . . إلخ . فكان أسلوبا علميا وتربويا في آن واحد ، كما كان أحكاما وحكما .
وكان درسه أشبه بحديقة غناء احتوت أشهر الثمار وأجمل الأزهار ، في تنسيق الغرس وجمال الجداول تشرح الصدر وتشفي القلب وتروق للعين . فيستفيد منه جميع الناس ويأخذ كل واحد ما طاب له وما وسعه .
وقد يستطرد للقاعدة بمبحث كامل كما استطرد في الرد على ابن حزم في رده القياس بإتيانه بأنواعه عند قوله : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ، وقد طبع في نهاية مذكرة الأصول تعميما للفائدة . وبهذا الشمول والاستقصاء لم يكن يترك مجالا لسؤال ولم يبق لذي حاجة تساؤل .
وأذكر كلمة لقاضي قرية " قرو " في موريتانيا بعد أن سئل رحمه الله عن مهام من المسائل العلمية ، وأجاب إجابة مستفيضة مفصلة كافية . قال قاضي قرو : لم يبق لأحد هنا كلام فقد ظهر الحق . ولا سؤال فقد زال اللبس ، وإن الحضور بين أحد رجلين ، عالم فقد عرف الحق فلم يبق له سؤال ، وجاهل فلا يحق له أن يسأل .
فكان نفعه رحمه الله في المسجد النبوي للمقيم والقادم للقاصي والداني نفعا عظيما .
ثانيا : في سنة 1371 هـ افتتحت الإدارة العامة بالرياض على معهد علمي ، تلاه عدة معاهد وكليتا الشريعة واللغة .
واختير للتدريس في المعهد والكليتين نخبة من العلماء من داخل وخارج المملكة . وكان رحمه الله ممن اختير لذلك فتولى تدريس التفسير والأصول إلى سنة 1381 هـ حين افتتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة .
آثاره في الرياض : كانت مدة اختياره للتدريس بالرياض عشر سنوات دراسية ، يعود [ ص: 493 ] لقضاء العطلة بالمدينة ، وما كان عمله في التدريس بالمعهد والكلية كغيره من المدرسين . ولكن لبيان أثره حقيقة نورد نبذة عن الحالة العلمية آنذاك بالرياض .
كانت الرياض عاصمة نجد علميا وسياسيا وكان يفد إليها طلاب العلم من أنحاء نجد لأخذ العلم عن آل الشيخ . وكان مركز الدراسة والتدريس في المساجد إلا خواص الطلاب لدى سماحة المفتي فيدرسون عليه بعض الدروس في بيته ضحى ، وكانت الدراسة عمادها التوحيد والفقه والتفسير وكذلك الحديث والسيرة والنحو ، وكانت دراسة مباركة تخرج عليها جميع علماء نجد ، حتى جاءت تلك الحركة العلمية الجديدة ، أو تنظيم الدراسة الجديد في عام 1371 هـ .
نشأة هذه الحركة : كانت نشأتها كما سمعت منه رحمه الله استجابة لرغبة المرحوم جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله . قال لجماعة العلماء وهم في مجلسه الخاص : لقد كانت الرياض مليئة بالعلماء عامرة بالدروس . وانتقل الكثير منهم إلى رحمة الله ولم يخلفهم من يماثلهم ، وأردت تعاونكم مع سماحة المفتي في تربية جيل من طلبة العلم عن العلوم الصحيحة والعقيدة السليمة ، فنحن وأنتم مشتركون في المسؤولية . فكانت هذه النهضة ترعاها عناية ملكية وتقوم عليها كفاءة علمية ، تولى إدارة المعهد الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم ورئاسته لسماحة المفتي ، وافتتحت الدراسة على طلاب حلق المساجد الأكفاء وفيهم خواص طلاب فضيلة الشيخ محمد رحمه الله وأبناؤه . صنفت الدراسة على ثلاث سنوات ثانوية ومنها إلى الكلية ، يغذي هذا القسم قسم تمهيدي يأخذ من رابعة ابتدائي ويدرس خامسة وسادسة ومن ثم للمعهد الثانوي فالكليتين .
المنهج العلمي : وضع المنهج العلمي لتلك الدراسة على أساس في العلوم الدينية والعربية وتكميل من المواد الاجتماعية وعلوم الآلة من مصطلح وأصول حتى الحساب والتقويم والخط والإملاء والتجويد . فكان قويا في موضوعه شاملا في منهجه . وكان الطلاب من الصفوة الذين درسوا في المساجد المتعطشين للعلوم متطلعين للتوسع وكان القائمون على التدريس نخبة ممتازة من الأجلة الفضلاء من وطنيين وأزهريين . فكان الجو حقا جدا علميا التقت فيه همة عالية من طلاب جيدين مع عزيمة ماضية من مشايخ مجتهدين . كان يسودهم الشعور بأن هذه طليعة نهضة علمية واسعة ، وكان رحمه الله كوالد للجميع وكان درسه التفسير والأصول . فكان في التفسير المجال الواسع لجميع [ ص: 494 ] المواد والعلوم . وكان مع التزامه بالمنهج والحصص إذا تناول بحثا في أي مادة يخاله السامع مختصا فيها ، فعرف له الجميع قدره وتطلع الجميع إلى ما عنده حتى المدرسون : وقد رغب المدرسون آنذاك في قراءة بعض كتب الشيخ ابن تيمية واستيعاب دقائقه فلم يكن أولى بذلك من فضيلته رحمه الله . خصص لذلك مجلس خاص في صحن المعهد بدخنه بين المغرب والعشاء .
في مسجد الشيخ : وفي مسجد الشيخ محمد رحمه الله بدأ درس الأصول لكبار الطلبة في قواعد الأصول ، حضره العامة والخاصة وكان يتوافد إليه من أطراف الرياض ، وكان الشيخ عبد الرحمن الإفريقي رحمه الله يدرس الحديث وكان درس الأصول بمثابة فتح جديد في هذا الفن
في بيته رحمه الله : ولما كان الدرس في الأصول في المسجد عاما - وفي الطلبة من خواصهم رغبوا في درس خاص في بيته رحمه الله ، فكان لهم درس خاص بعد العصر . وكان بيته رحمه الله كمدرسة سواء لأبنائه الذين رافقوه للدراسة عليه وقد أملى شرحا على مراقي السعود في بيته على أخينا أحمد الأحمد الشنقيطي .
لقد كان لتدريسه هذا سواء رسميا في المعهد والكليتين أو في المسجد ، أو في المنزل - كان له أثر طيب ونتائج حسنة لا يسع متحدث التحدث عنها بقدر ما تحدثت هي عن نفسها في أعمال كافة المتخرجين من تلك المعاهد والكليتين المنتشرتين في أنحاء المملكة المبرزين في أعمالهم وفي أعلى مناصب في كافة الوزارات .
ولا يغالي من يقول إن كل من تخرج أو يتخرج فهو إما تلميذ له أو لتلاميذه فهم بمثابة أبنائه وأحفاده وكفى .
تقدير المسؤولين له : لقد كان بعلمه ونصحه وجهده وعفته موضع تقدير من جميع المسؤولين وبالأخص أصحاب الفضيلة آل الشيخ وصاحب الجلالة الملك عبد العزيز وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد الرحمن وكان أشد الناس تقديرا له . وقد منحه جلالة الملك رحمه الله أمرا بالجنسية لجميع من ينتمي إليه وفي كفالته ثقة به وإكراما له .
ولما زار الملك محمد الخامس ملك المغرب الرياض استأذن في صحبة الشيخ إلى [ ص: 495 ] المدينة فرافقه تقديرا وإكراما وألقى محاضرته بالمسجد النبوي بحضور الملك محمد الخامس بعنوان اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا وقد طبعت مرتين .
وهكذا قدم الرياض رحمه الله في ترحيب وإكرام وانتقل منها في إعزاز وإكبار بعد أن ترك فيها أطيب الآثار ، وساهم في أكبر نهضة علمية في البلاد .
دوره رحمه الله في الجامعة الإسلامية : إن من يعرف نشأة الجامعة الإسلامية ، وقد عرف الحركة العلمية الحديثة بالرياض ليقول إن افتتاح الجامعة الإسلامية امتداد للحركة العلمية الحديثة بالرياض .
والمتتبع للحركات العلمية في العالم الإسلامي ليقول إن افتتاح الجامعة الإسلامية في ذلك التاريخ عناية من الله وتدارك للتعليم الإسلامي حينما أصيبت بعض دور العلم الكبرى بهزات في برامجها .
فكان إيجادها امتدادا للحركة العلمية الحديثة بالرياض ومجيئها آنذاك تداركا لبعض ما فات ، ولعلها جزء من تحقيق الحديث : إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها . ومعلوم أن الإيمان عقيدة وعمل والعلم قبله .
ومن هنا نجدد أو نتذكر أهمية الجامعة الإسلامية ومدى وجودها بالمدينة المنورة ، وبالتالي مجيء أبناء العالم الإسلامي إليها للدراسة وللتربية في هذا الجو الروحي لتبرز لنا قيمة العمل في الجامعة وأن رسالتها تربوية بجانب أنها علمية ، وأنها منعت الانتساب دون الحضور لهذا الغرض نفسه .
وقد كان لوالدنا رحمه الله في هذه المجالات اليد الطولى والمجهود الأكبر فلم يدخر وسعا في تعليم ولم يتوان في توجيه ، سواء في دروسه أو أحاديثه أو محاضراته مع الطلاب أو المدرسين فكان كالأب الرحيم والداعية الناصح الأمين . تحمل عنه تلاميذه إلى أنحاء العالم الإسلامي حينما وصلت منح الدراسة بالجامعة الإسلامية لبلدان العالم الإسلامي ، فهل يمكن أن نقول ولو ادعاء أو تجوزا إنه كان بحق في منزلة [ الشيخ ابن تيمية ] ، في هذا الوقت . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
وقد كان بجانب التعليم عضو مجلس الجامعة ساهم في سيرها ومناهجها ، [ ص: 496 ] كما ساهم في إنتاجها وتعليمها .
وفي سنة 86 هـ افتتح معهد القضاء العالي بالرياض برآسة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي وكانت الدراسة فيه ابتداء على نظام استقدام الأساتذة الزائرين فكان رحمه الله ممن يذهب لإلقاء المحاضرات المطلوبة في التفسير والأصول .
قد امتد نشاطه خارج المملكة : إذا كانت الجامعة الإسلامية فتحت للبلاد نوافذ تطل منها على العالم الإسلامي كله ، وجعلت من حق أولئك الأبناء ما يجب من رعايتهم ، وحق تلك الأقطار ما يلزم من تقوية أواصر الروابط . فكانت فكرة إرسال بعثات إلى الأقطار الإسلامية وخاصة إفريقيا ، فكان رحمه الله على رأس بعثة الجامعة إلى عشر دول أفريقية بدأت بالسودان ، وانتهت بموريتانيا موطن الشيخ رحمه الله ، كان لهذه البعثة في تلك البلاد أعظم الأثر ، وأذكر في مجلس من أفاضل البلاد بموريتانيا وفي حفل تكريم للبعثة وكل إلي فضيلته رحمه الله كلمة الجواب فكان منها أن الذكريات لتتحدث وإنها لساعة عجيبة أدارت عجلة الزمان حيث نشأ الشيخ في بلادكم ثم هاجر إلى الحجاز ثم ها هو يعود إليكم على رأس وفد ورئاسة بعثة فقد نبتت غرسة علمه هنا عندكم فذهب إلى الحجاز فنمت وترعرعت فامتدت أغصانها حتى شملت بوارف ظلها بلاد الإسلام شرقا وغربا وها نحن في موطنه نجني ثمار غرسها ونستظل بوارف ظلها . فكانت تلك الرحلة حقا حلقة اتصال وتجديد عهد وإحياء معالم للإسلام .
وكان له رحمه الله العديد من المحاضرات والمحادثات سجلت كلها في أشرطة لا تزال محفوظة ، آمل أن أوفق لنقلها وطبعها إتماما للفائدة إن شاء الله . ونضم إليها منهجه وسلوكه مع الحكام وصغار الطلاب والعوام مما يرسم الطريق الصحيح للدعوة إلى الله على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة .
في هيئة كبار العلماء : وكما شكلت هيئة كبار العلماء بعد سماحة المفتي رحمه الله ، وهي أكبر هيئة علمية في البلاد . كان رحمه الله أحد أعضائها . وقد ترأس إحدى دوراتها فكانت له السياسة الرشيدة والنتائج الحميدة . سمعت فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح حفظه الله وهو عضو فيها يقول : ما رأيت قبله أحسن إدارة منه مع بعد نظر في الأمور ، وحسن تدبر للعواقب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ