رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
الحلقة (161)
صــ291 إلى صــ 295
يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب
قوله تعالى: يسألونك ماذا أحل لهم في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب ، قال الناس: يا رسول الله ماذا أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية ، أخرجه أبو عبد الله الحاكم في "صحيحه" من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان السبب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها أن جبريل عليه السلام استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 291 ] فأذن له ، فلم يدخل وقال: "إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة" فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو .
والثاني: أن عدي بن حاتم ، وزيد الخيل الذي سماه رسول الله: زيد الخير ، قالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه مالا ندرك ذكاته ، وقد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير . قال الزجاج : ومعنى الكلام: يسألونك أي شيء أحل لهم؟ قل: أحل لكم الطيبات ، وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح ، والتأويل أنهم سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علمتم ، لأن في الكلام دليلا عليه .
وفي الطيبات قولان .
أحدهما: أنها المباح من الذبائح .
والثاني: أنها ما استطابه العرب مما لم يحرم . فأما "الجوارح" فهي ما صيد به من سباع البهائم والطير ، كالكلب ، والفهد ، والصقر ، والبازي ، ونحو ذلك مما يقبل التعليم . قال ابن عباس : كل شيء صاد فهو جارح .
[ ص: 292 ] وفي تسميتها بالجوارح قولان .
أحدهما: لكسب أهلها بها ، قال ابن قتيبة: أصل الاجتراح: الاكتساب ، يقال: امرأة لا جارح لها ، أي: لا كاسب .
والثاني: لأنها تجرح ما تصيد في الغالب ، ذكره الماوردي . قال أبو سليمان الدمشقي: وعلامة التعليم أنك إذا دعوته أجاب ، وإذا أسدته استأسد ، ومضى في طلبه ، وإذا أمسك أمسك عليك لا على نفسه ، وعلامة إمساكه عليك: أن لا يأكل منه شيئا ، هذا في السباع والكلاب ، فأما تعليم جوارح الطير فبخلاف السباع ، لأن الطائر إنما يعلم الصيد بالأكل ، والفهد ، والكلب ، وما أشبههما يعلمون بترك الأكل ، فهذا فرق ما بينهما .
وفي قوله: ( مكلبين) ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم أصحاب الكلاب ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والضحاك ، والسدي ، والفراء ، والزجاج ، وابن قتيبة . قال الزجاج : يقال: رجل مكلب وكلابي ، أي: صاحب صيد بالكلاب .
والثاني: أن معنى "مكلبين" مصرين على الصيد ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد .
والثالث: أن "مكلبين" بمعنى: معلمين . قال أبو سليمان الدمشقي: وإنما قيل لهم: مكلبين ، لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب . قال ثعلب: وقرأ الحسن ، وأبو رزين: مكلبين ، بسكون الكاف ، يقال: أكلب الرجل: إذا كثرت كلابه ، وأمشى: إذا كثرت ماشيته ، والعرب تدعو الصائد مكلبا .
قوله تعالى: تعلمونهن مما علمكم الله قال سعيد بن جبير: تؤدبونهن لطلب [ ص: 293 ] الصيد . وقال الفراء: تؤدبونهن أن لا يأكلن صيدهن . واختلفوا هل إمساك الصائد عن الأكل شرط في صحة التعليم أم لا؟ على ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه شرط في كل الجوارح ، فإن أكلت ، لم يؤكل ، روي عن ابن عباس ، وعطاء .
والثاني: أنه ليس بشرط في الكل ، ويؤكل وإن أكلت ، روي عن سعد ابن أبي وقاص ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وسلمان الفارسي .
والثالث: أنه شرط في جوارح البهائم ، وليس بشرط في جوارح الطير ، وبه قال الشعبي ، والنخعي ، والسدي . وهو أصح لما بينا أن جارح الطير يعلم على الأكل ، فأبيح ما أكل منه ، وسباع البهائم تعلم على ترك الأكل ، فأبيح ما أكلت منه .
فعلى هذا إذا أكل الكلب والفهد من الصيد ، لم يبح أكله . فأما ما أكل منه الصقر والبازي ، فمباح ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه . وقال مالك: يباح أكل ما أكل منه الكلب ، والفهد ، والصقر ، فإن قتل الكلب ، ولم يأكل ، أبيح .
وقال أبو حنيفة: لا يباح ، فإن أدرك الصيد ، وفيه حياة ، فمات قبل أن يذكيه ، فإن كان ذلك قبل القدرة على ذكاته أبيح ، وإن أمكنه فلم يذكه ، لم يبح ، وبه قال مالك ، والشافعي . وقال أبو حنيفة: لا يباح في الموضعين .
فأما الصيد بكلب المجوسي ، فروي عن أحمد أنه لا يكره ، وهو قول الأكثرين ، وروي عنه الكراهة ، وهو قول الثوري لقوله تعالى: وما علمتم من الجوارح وهذا خطاب للمؤمنين . قال القاضي أبو يعلى: ومنع أصحابنا الصيد بالكلب الأسود ، وإن كان معلما ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله ، والأمر بالقتل: يمنع ثبوت اليد ، ويبطل حكم الفعل ، فيصير وجوده كالعدم ، فلا يباح صيده .
[ ص: 294 ] قوله تعالى: فكلوا مما أمسكن عليكم قال الأخفش: "من" زائدة ، كقوله: فيها من برد [النور: 43] .
قوله تعالى: واذكروا اسم الله عليه في "هاء الكناية" قولان .
أحدهما: أنها ترجع إلى الإرسال ، قاله ابن عباس ، والسدي ، وعندنا أن التسمية شرط في إباحة الصيد .
والثاني: ترجع إلى الأكل فتكون التسمية مستحبة .
قوله تعالى: واتقوا الله قال سعيد بن جبير: لا تستحلوا ما لم يذكر اسم الله عليه .
اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين
[ ص: 295 ] قوله تعالى: اليوم أحل لكم الطيبات قال القاضي أبو يعلى: يجوز أن يريد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه الآية ، ويجوز أن يريد اليوم الذي تقدم ذكره في قوله: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ، وفي قوله: اليوم أكملت لكم دينكم ، وقيل: ليس بيوم معين . وقد سبق الكلام في "الطيبات" وإنما كرر إحلالها تأكيدا . فأما أهل الكتاب ، فهم اليهود والنصارى . وطعامهم: ذبائحهم ، هذا قول ابن عباس ، والجماعة . وإنما أريد بها الذبائح خاصة ، لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن تولاه من مجوسي وكتابي ، وإنما الذكاة تختلف ، فلما خص أهل الكتاب بذلك ، دل على أن المراد الذبائح ، فأما ذبائح المجوس ، فأجمعوا على تحريمها . واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان ، فروي عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب ، فقال: لا بأس بها ، وتلا قوله: ومن يتولهم منكم فإنه منهم [المائدة: 51] وهذا قول الحسن ، وعطاء بن أبي رباح ، والشعبي ، وعكرمة ، وقتادة ، والزهري ، والحكم ، وحماد . وقد روي عن علي ، وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل . ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين .
إحداهما: تباح ذبائحهم ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك .
والثانية: لا تباح . وقال الشافعي: من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن ، لم يبح أكل ذبيحته . [ ص: 296 ] قوله تعالى: وطعامكم حل لهم أي: وذبائحكم لهم حلال ، فإذا اشتروا منا شيئا كان الثمن لنا حلالا ، واللحم لهم حلالا . قال الزجاج : والمعنى: أحل لكم أن تطعموهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
الحلقة (162)
صــ296 إلى صــ 300
فصل
وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا وإن ذكروا غير اسم الله عليها ، فكان هذا ناسخا لقوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه [الأنعام: 121] والصحيح أنها أطلقت إباحة ذبائحهم ، لأن الأصل أنهم يذكرون الله ، فيحمل أمرهم على هذا . فإن تيقنا أنهم ذكروا غيره ، فلا نأكل ، ولا وجه للنسخ ، وإلى هذا الذي قلته ذهب علي ، وابن عمر ، وعبادة ، وأبو الدرداء ، والحسن في جماعة .
قوله تعالى: والمحصنات من المؤمنات فيهن قولان .
أحدهما: العفائف ، قاله ابن عباس . والثاني: الحرائر ، قاله مجاهد .
وفي قوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب قولان .
أحدهما: الحرائر أيضا ، قاله ابن عباس .
والثاني: العفائف ، قاله الحسن ، والشعبي ، والنخعي ، والضحاك ، والسدي . فعلى هذا القول; يجوز تزويج الحرة منهن والأمة .
فصل
وهذه الآية أباحت نكاح الكتابية . وقد روي عن عثمان أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية . وعن طلحة بن عبيد الله: أنه تزوج [ ص: 297 ] يهودية . وقد روي عن عمر ، وابن عمر كراهة ذلك . واختلفوا في نكاح الكتابية الحربية ، فقال ابن عباس : لا تحل ، والجمهور على خلافه ، وإنما كرهوا ذلك ، لقوله تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [المجادلة: 22] والنكاح يوجب الود . واختلفوا في نكاح نساء تغلب ، فروي عن علي رضي الله عنه الحظر ، وبه قال جابر بن زيد ، والنخعي ، وروي عن ابن عباس الإباحة . وعن أحمد روايتان . واختلفوا في إماء أهل الكتاب ، فروي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد: أنه لا يجوز نكاحهن ، وبه قال الأوزاعي ، ومالك ، والليث بن سعد ، والشافعي ، وأصحابنا . وروي عن الشعبي ، وأبي ميسرة: جواز ذلك ، وبه قال أبو حنيفة . فأما المجوس ، فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب ، وقد شذ من قال: إنهم أهل كتاب ، ويبطل قولهم قوله عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" . فأما "الأجور" و "الإحصان" و "السفاح" و "الأخدان" فقد سبق في سورة (النساء) .
قوله تعالى: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله سبب نزول هذا الكلام: أن الله تعالى لما رخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن: لولا أن الله تعالى قد رضي علينا ، لم يبح للمؤمنين تزويجنا ، وقال المسلمون: كيف يتزوج الرجل منا الكتابية ، وليست على ديننا ، فنزلت: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال مقاتل بن حيان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب ، يقول: ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر . وروى ليث عن مجاهد: ومن يكفر بالإيمان ، قال: الإيمان بالله تعالى . قال الزجاج : [ ص: 298 ] معنى الآية: من أحل ما حرم الله ، أو حرم ما أحله الله ، فهو كافر . وقال أبو سليمان: من جحد ما أنزله الله من شرائع الإيمان ، وعرفه من الحلال والحرام ، فقد حبط عمله المتقدم . وسمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري الفقيه يقول: إنما أباح الله عز وجل الكتابيات ، لأن بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن ، فحذر ناكحهن من الميل إلى دينهن بقوله: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله .
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون
قوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة قال الزجاج : المعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، كقوله: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله [النحل: 98] قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: إذا آخيت فآخ أهل الحسب ، وإذا اتجرت فاتجر في البز . قال: ويجوز أن يكون الكلام مقدما ومؤخرا ، تقديره: إذا غسلتم وجوهكم ، واستوفيتم الطهور ، فقوموا إلى الصلاة . وللعلماء في المراد بالآية قولان .
أحدهما: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ، فاغسلوا ، فصار الحدث مضمرا في وجوب الوضوء ، وهذا قول سعد بن أبي وقاص ، وأبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، والفقهاء .
[ ص: 299 ] والثاني: أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار ، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة ، محدثا كان ، أو غير محدث ، وهذا مروي عن علي رضي الله عنه ، وعكرمة ، وابن سيرين . ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ ، ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجبا ، ثم نسخ بالسنة ، وهو ما روى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ، فقال له عمر: لقد صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال: "عمدا فعلته يا عمر" وقال قوم: في الآية [ ص: 300 ] تقديم وتأخير ، ومعناها: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ، فاغسلوا وجوهكم .
قوله تعالى: وأيديكم إلى المرافق "إلى" حرف موضوع للغاية ، وقد تدخل الغاية فيها تارة ، وقد لا تدخل ، فلما كان الحدث يقينا ، لم يرتفع إلا بيقين مثله ، وهو غسل المرفقين . فأما الرأس فنقل عن أحمد وجوب مسح جميعه ، وهو قول مالك ، وروي عنه: يجب مسح أكثره ، وروي عن أبي حنيفة روايتان .
إحداهما: أنه يتقدر بربع الرأس . والثانية: بمقدار ثلاث أصابع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
الحلقة (163)
صــ301 إلى صــ 306
قوله تعالى: وأرجلكم إلى الكعبين قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم: بكسر اللام عطفا على مسح الرأس ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب: بفتح اللام عطفا على الغسل ، فيكون من المقدم والمؤخر . قال الزجاج : الرجل من أصل الفخذ إلى القدم ، فلما حد الكعبين ، علم أن الغسل ينتهي إليهما ، ويدل على وجوب الغسل التحديد بالكعبين ، كما جاء في تحديد اليد "إلى المرافق" ولم يجئ في شيء من المسح تحديد . ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض ، لأن التحديد بالكعبين يدل على الغسل ، فينسق بالغسل على المسح . قال الشاعر:
يا ليت بعلك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا
والمعنى: وحاملا رمحا . وقال الآخر:
علفتها تبنا وماء باردا
والمعنى: وسقيتها ماء باردا . وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز الجر على الإتباع ، والمعنى: الغسل ، [ ص: 302 ] نحو قولهم: جحر ضب خرب . وقال ابن الأنباري: لما تأخرت الأرجل بعد الرؤوس ، نسقت عليها للقرب والجوار ، وهي في المعنى نسق على الوجوه ، كقولهم: جحر ضب خرب ، ويجوز أن تكون منسوقة عليها ، لأن العرب تسمي الغسل مسحا ، لأن الغسل لا يكون إلا بمسح . وقال أبو علي: من جر فحجته أنه وجد في الكلام عاملين: أحدهما: الغسل ، والآخر: الباء الجارة ، ووجه العاملين إذا اجتمعا: أن يحمل الكلام على الأقرب منهما دون الأبعد ، وهو "الباء" هاهنا ، وقد قامت الدلالة على أن المراد بالمسح: الغسل من وجهين .
أحدهما: أن أبا زيد قال: المسح خفيف الغسل ، قالوا: تمسحت للصلاة ، وقال أبو عبيدة: فطفق مسحا بالسوق ، أي: ضربا ، فكأن المسح بالآية غسل خفيف . فإن قيل: فالمستحب التكرار ثلاثا؟ قيل: إنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون .
والوجه الثاني: أن التحديد والتوقيت إنما جاء في المغسول دون الممسوح ، فلما وقع التحديد مع المسح ، علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد ، وحجة من نصب أنه حمل ذلك على الغسل لاجتماع فقهاء الأمصار على الغسل . [ ص: 303 ] قوله تعالى: إلى الكعبين "إلى" بمعنى: "مع" والكعبان: العظمان الناتئان من جانبي القدم . [ ص: 304 ] قوله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا أي: فتطهروا ، فأدغمت التاء في الطاء ، لأنهما من مكان واحد ، واجتلبت الهمزة توصلا إلى النطق بالساكن ، وقد بين الله عز وجل طهارة الجنب في سورة (النساء) بقوله: حتى تغتسلوا [النساء: 43] وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إلى قوله: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ، و "الحرج": الضيق ، فجعل الله الدين واسعا حين رخص في التيمم .
قوله تعالى: ولكن يريد ليطهركم أي: يريد أن يطهركم . قال مقاتل: من الأحداث والجنابة ، وقال غيره: من الذنوب والخطايا ، لأن الوضوء يكفر الذنوب .
قوله تعالى: وليتم نعمته عليكم في الذي يتم به النعمة أربعة أقوال .
أحدها: بغفران الذنوب . قال محمد بن كعب القرظي: حدثني عبد الله بن دارة ، عن حمران قال: مررت على عثمان بفخارة من ماء فدعا بها فتوضأ فأحسن الوضوء ثم قال لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة أو مرتين أو ثلاثا ما حدثتكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما توضأ عبد فأحسن الوضوء ، ثم قام إلى الصلاة ، إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى" . قال محمد بن كعب: وكنت إذا سمعت الحديث التمسته في القرآن ، فالتمست هذا فوجدته [ ص: 305 ] في قوله تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك [الفتح: 1 ، 2] فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه ، ثم قرأت الآية التي في (المائدة): إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله: وليتم نعمته عليكم فعلمت أنه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم .
والثاني: بالهداية إلى الإيمان ، وإكمال الدين ، وهذا قول ابن زيد . [ ص: 306 ] والثالث: بالرخصة في التيمم ، قاله مقاتل ، وأبو سليمان .
والرابع: ببيان الشرائع ، ذكره بعض المفسرين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
الحلقة (164)
صــ306 إلى صــ 310
واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور
قوله تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم يعني: النعم كلها . وفي هذا حث على الشكر . وفي الميثاق أربعة أقوال .
أحدها: أنه إقرار كل مؤمن بما آمن به . قال ابن عباس : لما أنزل الله الكتاب ، وبعث الرسول ، فقالوا: آمنا ، ذكرهم ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم ، وأمرهم بالوفاء .
والثاني: أنه الميثاق الذي أخذه من بني آدم حين أخرجهم من ظهره ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وابن زيد .
والثالث: أنه ما وثق على المؤمنين على لسان نبيه عليه السلام من الأمر بالوفاء بما أقروا به من الإيمان . روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
والرابع: أنه الميثاق الذي أخذ من الصحابة على السمع والطاعة في بيعة العقبة ، وبيعة الرضوان ، ذكره بعض المفسرين . [ ص: 307 ] قوله تعالى: واتقوا الله قال مقاتل: اتقوه في نقض الميثاق إن الله عليم بذات الصدور أي: بما فيها من إيمان وشك .
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله في سبب نزولها ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها نزلت من أجل كفار قريش أيضا ، وقد تقدم ذكرهم في قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام روى نحو هذا أبو صالح ، عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل .
والثاني: أن قريشا بعثت رجلا ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأطلع الله نبيه على ذلك ، ونزلت هذه الآية ، والتي بعدها ، هذا قول الحسن .
والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم في دية ، فهموا بقتله ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد ، وقتادة . ومعنى الآية: كونوا قوامين لله بالحق ، ولا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل (اعدلوا) في الولي والعدو (هو أقرب للتقوى) أي: إلى التقوى . والمعنى: أقرب إلى أن تكونوا متقين ، وقيل: هو أقرب إلى اتقاء النار .
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم [ ص: 308 ] قوله تعالى: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة في معناها قولان .
أحدهما: أن المعنى وعدهم الله أن يغفر لهم ويأجرهم ، فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى .
والثاني: أن المعنى وعدهم ، فقال: لهم مغفرة . وقد بينا في (البقرة) معنى "الجحيم" .
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم في سبب نزولها أربعة أقوال .
أحدها: أن رجلا من محارب قال لقومه: ألا أقتل لكم محمدا؟ فقالوا: وكيف تقتله؟ فقال: أفتك به ، فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه في حجره ، فأخذه ، وجعل يهزه ، ويهم به ، فيكبته الله ، ثم قال: يا محمد ما تخافني؟ قال: لا ، قال: لا تخافني وفي يدي السيف؟! قال: يمنعني الله منك ، فأغمد السيف ، فنزلت هذه الآية ، رواه الحسن البصري عن جابر بن عبد الله . وفي بعض الألفاظ: فسقط السيف من يده . وفي لفظ آخر: فما قال له النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ، ولا عاقبه . واسم هذا الرجل: غورث بن الحارث من محارب خصفة .
والثاني: أن اليهود عزموا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكفاه الله شرهم .
[ ص: 309 ] قال ابن عباس : صنعوا له طعاما ، فأوحي إليه بشأنهم ، فلم يأت . وقال مجاهد ، وعكرمة: خرج إليهم يستعينهم في دية ، فقالوا: اجلس حتى نعطيك ، فجلس هو وأصحابه ، فخلا بعضهم ببعض ، وقالوا: لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن ، فمن يظهر على هذا البيت ، فيطرح عليه صخرة؟ فقال: عمرو بن جحاش: أنا ، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه ، فأمسك الله يده ، وجاء جبريل ، فأخبره ، وخرج ، ونزلت هذه الآية .
والثالث: أن بني ثعلبة ، وبني محارب أرادوا أن يفتكوا بالنبي وأصحابه ، وهم ببطن نخلة في غزاة رسول الله صلى الله عليه وسلم السابعة ، فقالوا: إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم ، فإذا سجدوا وقعنا بهم ، فأطلع الله نبيه على ذلك ، [ ص: 310 ] وأنزل صلاة الخوف ، ونزلت هذه الآية ، هذا قول قتادة .
والرابع: أنها نزلت في حق اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا قول ابن زيد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
الحلقة (165)
صــ311 إلى صــ 315
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل
قوله تعالى: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل قال أبو العالية: أخذ الله ميثاقهم أن يخلصوا له العبادة ، ولا يعبدوا غيره . وقال مقاتل: أن يعملوا بما في التوراة . وفي معنى النقيب ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه الضمين ، قاله الحسن ، ومعناه: أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده ، ولا يجوز أن يكون ضمينا عنهم بالوفاء ، لأن ذلك لا يصح ضمانه . وقال ابن قتيبة: هو الكفيل على القوم . والنقابة شبيهة بالعرافة .
والثاني: أنه الشاهد ، قاله قتادة . وقال ابن فارس: النقيب: شاهد القوم وضمينهم .
[ ص: 311 ] والثالث: الأمين ، قاله الربيع بن أنس ، واليزيدي ، وهذه الأقوال تتقارب . قال الزجاج : النقيب في اللغة ، كالأمين والكفيل ، يقال: نقب الرجل على القوم ينقب: إذا صار نقيبا عليهم ، وصناعته النقابة ، وكذلك عرف عليهم: إذا صار عريفا ، ويقال لأول ما يبدو من الجرب: النقبة ، ويجمع النقب والنقب . قال الشاعر:
متبذلا تبدو محاسنه يضع الهناء مواضع النقب
ويقال: في فلان مناقب جميلة ، وكل الباب معناه: التأثير الذي له عمق ودخول ، ومن ذلك نقبت الحائط ، أي: بلغت في النقب آخره ، والنقبة من الجرب: داء شديد الدخول . وإنما قيل: نقيب ، لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ، ويعرف مناقبهم ، وهو الطريق إلى معرفة أمورهم . ونقل أن الله تعالى أمر موسى وقومه بالسير إلى الأرض المقدسة ، وكان يسكنها الجبارون ، فقال تعالى يا موسى اخرج إليها [ ص: 312 ] وجاهد من فيها من العدو ، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا ، من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به ، فاختاروا النقباء .
وفيما بعثوا له قولان .
أحدهما: أن موسى بعثهم إلى بيت المقدس ، ليأتوه بخبر الجبارين ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي .
والثاني: أنهم بعثوا ضمناء على قومهم بالوفاء بميثاقهم ، قاله الحسن ، وابن إسحاق . وفي نبوتهم قولان . أصحهما: أنهم ليسوا بأنبياء .
قوله تعالى: وقال الله في الكلام محذوف . تقديره: وقال الله لهم .
وفي المقول لهم قولان .
أحدهما: أنهم بنو إسرائيل ، قاله الجمهور .
والثاني: أنهم النقباء ، قاله الربيع ، ومقاتل . ومعنى: "إني معكم" أي: بالعون والنصرة . وفي معنى: "وعزرتموهم" قولان .
أحدهما: أنه الإعانة والنصر ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي .
والثاني: أنه التعظيم والتوقير ، قاله عطاء ، واليزيدي ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة .
قوله تعالى: وأقرضتم الله قرضا حسنا في هذا الإقراض قولان .
أحدهما: أنه الزكاة الواجبة . والثاني: صدقة التطوع . وقد شرحنا في (البقرة) معنى القرض الحسن .
قوله تعالى: فمن كفر بعد ذلك منكم يشير إلى: الميثاق (فقد ضل سواء السبيل) أي: أخطأ قصد الطريق .
[ ص: 312 ] فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين
قوله تعالى: فبما نقضهم في الكلام محذوف ، تقديره: فنقضوا ، فبنقضهم لعناهم . وفي المراد بهذه اللعنة ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها التعذيب بالجزية ، قاله ابن عباس . والثاني: التعذيب بالمسخ ، قاله الحسن ، ومقاتل والثالث: الإبعاد من الرحمة ، قاله عطاء ، والزجاج .
قوله تعالى: وجعلنا قلوبهم قاسية قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وابن عامر: "قاسية" بالألف ، يقال: قست ، فهي قاسية ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، والمفضل عن عاصم: "قسية" بغير ألف مع تشديد الياء ، لأنه قد يجيء فاعل وفعيل ، مثل شاهد وشهيد ، وعالم وعليم ، و "القسوة": خلاف اللين والرقة . وقد ذكرنا هذا في (البقرة) . وفي تحريفهم الكلم ثلاثة أقوال .
أحدها: تغيير حدود التوراة ، قاله ابن عباس . والثاني: تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل . والثالث: تفسيره على غير ما أنزل ، قاله الزجاج .
قوله تعالى: عن مواضعه مبين في سورة (النساء)
قوله تعالى: ونسوا حظا مما ذكروا به "النسيان" هاهنا: الترك عن عمد . و "الحظ": النصيب . قال مجاهد: نسوا كتاب الله الذي أنزل عليهم . وقال غيره: تركوا نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم . وفي معنى (ذكروا به) قولان .
أحدهما: أمروا . والثاني: أوصوا .
[ ص: 314 ] قوله تعالى: ولا تزال تطلع على خائنة منهم وقرأ الأعمش: "على خيانة منهم "قال ابن قتيبة: الخائنة: الخيانة . ويجوز أن تكون صفة للخائن ، كما يقال: رجل طاغية ، وراوية للحديث . قال ابن عباس : وذلك مثل نقض قريظة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخروج كعب بن الأشرف إلى أهل مكة للتحريض على رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلا قليلا منهم) لم ينقضوا العهد ، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه . وقيل: بل القليل ممن لم يؤمن .
قوله تعالى: فاعف عنهم واصفح واختلفوا في نسخها على قولين
أحدهما: أنها منسوخة ، قاله الجمهور . واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال .
أحدها: أنها آية السيف . والثاني: قوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله [التوبة: 29] والثالث: قوله: وإما تخافن من قوم خيانة [الأنفال: 58]
والثاني: أنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد ، فغدروا ، وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأظهره الله عليهم ، ثم أنزل الله هذه الآية . ولم تنسخ .
قال ابن جرير: يجوز أن يعفى عنهم في غدرة فعلوها ، ما لم ينصبوا حربا ، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصغار ، فلا يتوجه النسخ .
[ ص: 315 ] ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون
قوله تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم قال الحسن: إنما قال: قالوا إنا نصارى ، ولم يقل: من النصارى ، ليدل على أنهم ليسوا على منهاج النصارى حقيقة ، وهم الذين اتبعوا المسيح . وقال قتادة: كانوا بقرية ، يقال لها: ناصرة ، فسموا بهذا الاسم . قال مقاتل: أخذ عليهم الميثاق ، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد ، فتركوا ما أمروا به .
قوله تعالى: فأغرينا بينهم قال النضر: هيجنا ، وقال المؤرج: حرشنا بعضهم على بعض . وقال الزجاج : ألصقنا بهم ذلك ، يقال: غريت بالرجل غرى مقصورا: إذا لصقت به ، هذا قول الأصمعي . وقال غير الأصمعي: غريت به غراء ممدود ، وهذا الغراء الذي يغرى به إنما يلصق به الأشياء ، ومعنى أغرينا بينهم العداوة والبغضاء: أنهم صاروا فرقا يكفر بعضهم بعضا . وفي الهاء والميم من قوله "بينهم" قولان .
أحدهما: أنها ترجع إلى اليهود والنصارى ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والسدي .
والثاني: أنها ترجع إلى النصارى خاصة ، قاله الربيع . وقال الزجاج : هم النصارى ، منهم النسطورية ، واليعقوبية ، والملكية ، وكل فرقة منهم تعادي الأخرى . وفي تمام الآية وعيد شديد لهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
الحلقة (166)
صــ316 إلى صــ 320
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين
قوله تعالى: يا أهل الكتاب فيهم قولان .
أحدهما: أنهم اليهود . والثاني: اليهود والنصارى . والرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى: يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب قال ابن عباس : أخفوا آية الرجم وأمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته (ويعفو عن كثير) يتجاوز ، فلا يخبرهم بكتمانه . فإن قيل: كيف كان له أن يمسك عن حق كتموه فلا يبينه؟ فعنه جوابان .
أحدهما: أنه كان متلقيا ما يؤمر به ، فإذا أمر بإظهار شيء من أمرهم ، أظهره ، وأخذهم به ، وإلا سكت .
والثاني: أن عقد الذمة إنما كان على أن يقروا على دينهم ، فلما كتموا كثيرا مما أمروا به ، واتخذوا غيره دينا ، أظهر عليهم ما كتموه من صفته وعلامة نبوته ، لتتحقق معجزته عندهم ، واحتكموا إليه في الرجم ، فأظهر ما كتموا مما يوافق شريعته ، وسكت عن أشياء ليتحقق إقرارهم على دينهم .
قوله تعالى: قد جاءكم من الله نور قال قتادة: يعني بالنور: النبي محمدا صلى الله عليه وسلم .
وقال غيره: هو الإسلام ، فأما الكتاب المبين ، فهو القرآن .
يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ ص: 317 ] قوله تعالى: يهدي به الله يعني: بالكتاب . ورضوانه: ما رضيه الله تعالى .
و "السبل": جمع سبيل ، قال ابن عباس : سبل السلام: دين الإسلام . وقال السدي: "السلام": هو الله ، و "سبله": دينه الذي شرعه . قال الزجاج : وجائز أن يكون "سبل السلام" طريق السلامة التي من سلكها سلم في دينه ، وجائز أن يكون "السلام" اسم الله عز وجل ، فيكون المعنى: طرق الله عز وجل .
قوله تعالى: ويخرجهم من الظلمات قال ابن عباس : يعني: الكفر (إلى النور) يعني: الإيمان (بإذنه) أي: بأمره (ويهديهم إلى صراط مستقيم) وهو الإسلام . وقال الحسن: طريق الحق .
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير
قوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قال ابن عباس : هؤلاء نصارى أهل نجران ، وذلك أنهم اتخذوه إلها قل فمن يملك من الله شيئا أي: فمن يقدر أن يدفع من عذابه شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم أي: فلو كان إلها كما تزعمون لقدر أن يرد أمر الله إذا جاءه بإهلاكه أو إهلاك أمه ، ولما نزل أمر الله بأمه ، لم يقدر أن يدفع عنها . وفي قوله: يخلق ما يشاء رد عليهم حيث قالوا للنبي: فهات مثله من غير أب .
فإن قيل: فلم قال: ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ولم يقل: وما بينهن؟ فالجواب: أن المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء ، قاله ابن جرير .
[ ص: 318 ] وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير
قوله تعالى: وقالت اليهود والنصارى قال مقاتل: هم يهود المدينة ، ونصارى نجران . وقال السدي: قالوا: إن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل: إن ولدك بكري من الولد ، فأدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم ، وتأكل خطاياهم ، ثم ينادي مناد: أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل . وقيل: إنهم لما قالوا: المسيح ابن الله ، كان معنى قولهم: (نحن أبناء الله) أي: منا ابن الله . وفي قوله: (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) إبطال لدعواهم ، لأن الأب لا يعذب ولده ، والحبيب لا يعذب حبيبه وهم يقولون: إن الله يعذبنا أربعين يوما بالنار .
[ ص: 319 ] وقيل: معنى الكلام: فلم عذب منكم من مسخه قردة وخنازير؟ وهم أصحاب السبت والمائدة .
قوله تعالى: بل أنتم بشر ممن خلق أي: أنتم كسائر بني آدم تجازون بالإحسان والإساءة . قال عطاء: يغفر لمن يشاء ، وهم الموحدون ، ويعذب من يشاء ، وهم المشركون .
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير
قوله تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا سبب نزولها: أن معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب قالوا: يا معشر اليهود اتقوا الله ، والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه بصفته .
فقال: وهب بن يهوذا ، ورافع: ما قلنا هذا لكم ، وما أنزل الله بعد موسى من كتاب ، ولا أرسل رسولا بشيرا ولا نذيرا [بعده] ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس .
فأما "الفترة" فأصلها السكون ، يقال: فتر الشيء يفتر فتورا: إذا سكنت حدته ، وانقطع عما كان عليه ، والطرف الفاتر: الذي ليس بحديد . والفتور: الضعف . وفي مدة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة أقوال .
[ ص: 320 ] أحدها: أنه كان بين عيسى ومحمد عليهم السلام ستمائة سنة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال سلمان الفارسي ، ومقاتل .
والثاني: خمسمائة سنة وستون سنة ، قاله قتادة .
والثالث: أربع مائة وبضع وثلاثون سنة ، قاله الضحاك .
والرابع: خمسمائة سنة وأربعون سنة ، قاله ابن السائب . وقال أبو صالح عن ابن عباس: (على فترة من الرسل) أي: انقطاع منهم ، قال: وكان بين ميلاد عيسى ، وميلاد محمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسعة وتسعون سنة ، وهي فترة . وكان بعد عيسى أربعة من الرسل ، فذلك قوله: إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث [يس: 14] . قال: والرابع لا أدري من هو . وكان بين تلك السنين مائة سنة ، وأربع وثلاثون نبوة وسائرها فترة . قال أبو سليمان الدمشقي: والرابع -والله أعلم- خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "نبي ضيعه قومه" .
[ ص: 321 ] قوله تعالى: أن تقولوا قال الفراء: كي لا تقولوا: [ما جاءنا من بشير] مثل قوله: يبين الله لكم أن تضلوا [النساء: 176] وقال غيره: لئلا تقولوا ، وقيل: كراهة أن تقولوا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
الحلقة (167)
صــ321 إلى صــ 325
وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين
قوله تعالى: إذ جعل فيكم أنبياء فيهم قولان .
أحدهما: أنهم السبعون الذين اختارهم موسى ، وانطلقوا معه إلى الجبل ، جعلهم الله أنبياء بعد موسى ، وهارون ، وهذا قول ابن السائب ، ومقاتل .
والثاني: أنهم الأنبياء الذين أرسلوا من بني إسرائيل بعد موسى ، ذكره الماوردي . وبماذا جعلهم ملوكا؟ فيه ثمانية أقوال .
أحدها: بالمن والسلوى والحجر . والثاني: بأن جعل للرجل منهم زوجة وخادما . والثالث: بالزوجة والخادم والبيت ، رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس ، وهذا الثالث اختيار الحسن ، ومجاهد . والرابع: بالخادم والبيت ، قاله عكرمة . والخامس: بتمليكهم الخدم ، وكانوا أول من تملك الخدم ، ومن اتخذ [ ص: 322 ] خادما فهو ملك ، قاله قتادة . والسادس: بكونهم أحرارا يملك الإنسان منهم نفسه وأهله وماله ، قاله السدي . والسابع: بالمنازل الواسعة ، فيها المياه الجارية ، قاله الضحاك . والثامن: بأن جعل لهم الملك والسلطان ، ذكره الماوردي .
قوله تعالى: وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين .
أحدهما: أنهم قوم موسى ، وهذا مذهب ابن عباس ، ومجاهد . قال ابن عباس : ويعني بالعالمين: الذين هم بين ظهرانيهم . وفي الذي آتاهم ثلاثة أقوال .
أحدها: المن والسلوى والحجر والغمام ، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به .
والثاني: أنه الدار والخادم والزوجة ، رواه عطاء عن ابن عباس . قال ابن جرير: ما أوتي أحد من النعم في زمان قوم موسى ما أوتوا .
والثالث: كثرة الأنبياء فيهم ، ذكره الماوردي .
والثاني: أن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا مذهب سعيد بن جبير ، وأبي مالك .
يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين [ ص: 323 ] قوله تعالى: يا قوم ادخلوا وقرأ ابن محيصن: يا قوم ، بضم الميم ، وكذلك يا قوم اذكروا نعمة يا قوم اعبدوا [الأعراف: 59] وفي معنى "المقدسة" قولان .
أحدهما: المطهرة ، قاله ابن عباس ، والزجاج . قال: وقيل: للسطل: القدس ، لأنه يتطهر منه ، وسمي بيت المقدس ، لأنه يتطهر فيه من الذنوب . وقيل: سماها مقدسة ، لأنها طهرت من الشرك ، وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين .
والثاني: أن المقدسة: المباركة ، قاله مجاهد .
وفي المراد بتلك الأرض أربعة أقوال .
أحدها: أنها أريحا ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال السدي ، وابن زيد . قال السدي: أريحا: هي أرض بيت المقدس . وروي عن الضحاك أنه قال: المراد بهذه الأرض إيلياء وبيت المقدس ، قال ابن قتيبة: وقرأت في مناجاة موسى أنه قال: اللهم إنك اخترت من الأنعام الضائنة ، ومن الطير الحمامة ، ومن البيوت بكة وإيلياء ، ومن إيلياء بيت المقدس . فهذا يدل على أن إيلياء الأرض التي فيها بيت المقدس . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن إيلياء بيت المقدس ، وهو معرب . قال الفرزدق:
وبيتان بيت الله نحن ولاته وبيت بأعلى إيلياء مشرف
والقول الثاني: أنها الطور وما حوله ، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به .
والثالث: أنها دمشق وفلسطين وبعض الأردن ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والرابع: أنها الشام كلها ، قاله قتادة [ ص: 324 ] وفي قوله تعالى: التي كتب الله لكم ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه بمعنى: أمركم وفرض عليكم دخولها ، قاله ابن عباس ، والسدي .
والثاني: أنه بمعنى: وهبها الله لكم ، قاله محمد بن إسحاق . وقال ابن قتيبة: جعلها لكم .
والثالث: كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكنكم .
فإن قيل: كيف قال: فإنها محرمة عليهم ، وقد كتبها لهم؟ فعنه جوابان .
أحدهما: أنه إنما جعلها لهم بشرط الطاعة ، فلما عصوا حرمها عليهم .
والثاني: أنه كتبها لبني إسرائيل ، وإليهم صارت ، ولم يعن موسى أن الله كتبها للذين أمروا بدخولها بأعيانهم . قال ابن جرير: ويجوز أن يكون الكلام خرج مخرج العموم ، وأريد به الخصوص ، فتكون مكتوبة لبعضهم ، وقد دخلها يوشع ، وكالب .
قوله تعالى: ولا ترتدوا على أدباركم فيه قولان .
أحدهما: لا ترجعوا عن أمر الله إلى معصيته . والثاني: لا ترجعوا إلى الشرك به .
قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون
قوله تعالى: إن فيها قوما جبارين قال الزجاج : الجبار من الآدميين: الذي يجبر الناس على ما يريد ، يقال: جبار: بين الجبرية ، والجبرية بكسر الجيم والباء ، والجبروة والجبورة والتجبار والجبروت .
وفي معنى وصفه هؤلاء بالجبارين ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم كانوا ذوي قوة ، قاله ابن عباس . والثاني: أنهم كانوا عظام الخلق والأجسام ، قاله قتادة . والثالث: أنهم كانوا قتالين ، قاله مقاتل .
[ ص: 325 ] الإشارة إلى القصة
قال ابن عباس : لما نزل موسى وقومه بمدينة الجبارين ، بعث اثني عشر رجلا ، ليأتوه بخبرهم ، فلقيهم رجل من الجبارين ، فجعلهم في كسائه ، فأتى بهم المدينة ، ونادى في قومه ، فاجتمعوا ، فقالوا لهم: من أين أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى بعثنا لنأتيه بخبركم ، فأعطوهم حبة من عنب توقر الرجل ، وقالوا لهم: قولوا لموسى وقومه: اقدروا قدر فاكههم ، فلما رجعوا ، قالوا: يا موسى إن فيها قوما جبارين ، وقال السدي: كان الذي لقيهم ، يقال له: عاج ، يعني: عوج بن عناق ، فأخذ الاثني عشر ، فجعلهم في حجرته وعلى رأسه حزمة حطب ، وانطلق بهم إلى امرأته ، فقال: انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا ، فطرحهم بين يديها ، وقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا ، بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا . فلما خرجوا قالوا: يا قوم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم ، ارتدوا عن نبي الله ، فأخذوا الميثاق بينهم على كتمان ذلك ، فنكث عشرة ، وكتم رجلان . وقال مجاهد: لما رأى النقباء الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم ، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أو أربعة ، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أو أربعة ، فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم ، إلا يوشع ، وابن يوقنا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/46.jpg
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
الحلقة (168)
صــ326 إلى صــ 330
قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين
قوله تعالى: قال رجلان من الذين يخافون في الرجلين ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهما يوشع بن نون . وكالب بن يوقنة ، قاله ابن عباس . وقال مجاهد: ابن يوقنا ، وهما من النقباء .
والثاني: أنهما كانا من الجبارين فأسلما ، روي عن ابن عباس .
والثالث: أنهما كانا في مدينة الجبارين ، وهما على دين موسى ، قاله الضحاك . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو رجاء ، وأيوب: "يخافون" بضم الياء ، على معنى أنهما كانا من العدو ، فخرجا مؤمنين .
وفي معنى "خوفهم" ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم خافوا الله وحده . والثاني: خافوا الجبارين ، ولم يمنعهم خوفهم قول الحق . والثالث: يخاف منهم ، على قراءة ابن جبير .
وفيما أنعم به عليهما أربعة أقوال .
أحدها: الإسلام ، قاله ابن عباس . والثاني: الصلاح والفضل واليقين ، قاله عطاء . والثالث: الهدى ، قاله الضحاك . والرابع: الخوف ، ذكره ابن جرير ، عن بعض السلف .
قوله تعالى: ادخلوا عليهم الباب قال ابن عباس : قال الرجلان: ادخلوا عليهم باب القرية ، فإنهم قد ملئوا منا رعبا وفرقا .
[ ص: 327 ] قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون
قوله تعالى: فاذهب أنت وربك فقاتلا قال ابن زيد: قالوا له: انظر كما صنع ربك بفرعون وقومه ، فليصنع بهؤلاء . وقال مقاتل: فاذهب أنت وسل ربك النصر . وقال غيرهما: اذهب أنت وليعنك ربك . قال ابن مسعود: لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين ، فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ، ومن بين يديك ومن خلفك . فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق لذلك وجهه وسر به . وقال أنس: استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم خرج إلى بدر ، فأشار عليه أبو بكر ، ثم استشارهم ، فأشار عليه عمر فسكت ، فقال رجل من الأنصار: إنما يريدكم ، فقالوا: يا رسول الله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن والله لو ضربت أكبادها حتى تبلغ برك الغماد لكنا معك .
[ ص: 328 ] قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين
قوله تعالى: لا أملك إلا نفسي وأخي فيه قولان .
أحدهما: لا أملك إلا نفسي ، وأخي لا يملك إلا نفسه .
والثاني: لا أملك إلا نفسي وإلا أخي ، أي: وأملك طاعة أخي ، لأن أخاه إذا أطاعه فهو كالملك له ، وهذا على وجه المجاز ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما نفعني [مال] قط ما نفعني مال أبي بكر" فبكى أبو بكر ، و قال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله . يعني: أني متصرف حيث صرفتني ، وأمرك جائز في مالي .
قوله تعالى: فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال ابن عباس : اقض بيننا وبينهم . وقال أبو عبيدة: باعد ، وافصل ، وميز . وفي المراد بالفاسقين ثلاثة أقوال .
[ ص: 329 ] أحدها: العاصون ، قاله ابن عباس . والثاني: الكاذبون ، قاله ابن زيد .
والثالث: الكافرون ، قاله أبو عبيدة ، قال السدي: غضب موسى حين قالوا له: اذهب أنت وربك ، فدعا عليهم ، وكانت عجلة من موسى عجلها .
قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
قوله تعالى: فإنها محرمة عليهم الإشارة إلى الأرض المقدسة . ومعنى تحريمها عليهم: منعهم منها . فأما نصب "الأربعين" فقال الفراء: هو منصوب بالتحريم ، وجائز أن يكون منصوبا بـ "يتيهون" . وقال الزجاج : لا يجوز أن ينتصب بالتحريم ، لأن التفسير جاء أنها محرمة عليهم أبدا . قلت: وقد اختلف المفسرون في ذلك ، فذهب الأكثرون ، منهم عكرمة ، وقتادة ، إلى ما قال الزجاج ، وأنها حرمت عليهم أبدا . قال عكرمة: فإنها محرمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة ، وذهب قوم ، منهم الربيع بن أنس ، إلى أنها حرمت عليهم أربعين سنة ، ثم أمروا بالسير إليها ، وهذا اختيار ابن جرير . قال: إنما نصبت بالتحريم ، والتحريم كان عاما في حق الكل ، ولم يدخلها في هذه المدة منهم أحد ، فلما انقضت ، أذن لمن بقي منهم بالدخول مع ذراريهم . قال أبو عبيدة: ومعنى: يتيهون: يحورون ويضلون .
[ ص: 330 ] الإشارة إلى قصتهم
قال ابن عباس : حرم الله على الذين عصوا دخول بيت المقدس ، فلبثوا في تيههم أربعين سنة ، وماتوا في التيه ، ومات موسى وهارون ، ولم يدخل بيت المقدس إلا يوشع وكالب بأبناء القوم ، وناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين فافتتحها . وقال مجاهد: تاهوا أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا ، ويمسون حيث أصبحوا ، وقال السدي: لما ضرب الله عليهم التيه ، ندم موسى على دعائه عليهم ، وقالوا له: ما صنعت بنا ، أين الطعام؟ فأنزل الله المن . قالوا: فأين الشراب؟ فأمر موسى أن يضرب بعصاه الحجر . قالوا: فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام . قالوا: فأين اللباس؟ وكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ، ولا يتخرق لهم ثوب ، وقبض موسى ولم يبق أحد ممن أبى دخول قرية الجبارين إلا مات ، ولم يشهد الفتح . وفيه قول آخر أنه لما مضت الأربعون خرج موسى ببني إسرائيل من التيه ، وقال لهم: ( ادخلوا هذه القرية ، فكلوا منها حيث شئتم رغدا ، وادخلوا الباب سجدا ، وقولوا حطة . . . )إلى آخر القصة . وهذا قول الربيع بن أنس ، وعبدالرحمن بن زيد . قال ابن جرير الطبري ، وأبو سليمان الدمشقي: وهذا الصحيح ، وأن موسى هو الذي فتح مدينة الجبارين مع الصالحين من بني إسرائيل ، لأن أهل السيرة أجمعوا على أن موسى هو قاتل عوج ، وكان عوج ملكهم ، وكان بلعم ابن باعوراء فيمن سباه موسى وقتله ، ولم يدخل مع موسى من قدمائهم غير يوشع وكالب ، وإنما حرمت على الذين لم يطيعوا . وفي مسافة أرض التيه قولان .
أحدهما: تسعة فراسخ ، قاله ابن عباس . قال مقاتل: هذا عرضها ، وطولها ثلاثون فرسخا . والثاني: ستة فراسخ في طول اثني عشر فرسخا ، حكاه مقاتل أيضا .
[ ص: 331 ] قوله تعالى: فلا تأس على القوم الفاسقين قال الزجاج : لا تحزن على قوم شأنهم المعاصي ، ومخالفة الرسل . وقال ابن قتيبة: يقال أسيت على كذا ، أي: حزنت ، فأنا آسي أسى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/11/10.jpg
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد