-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (450)
سُورَةُ الصَّافَّاتِ
صـ 301 إلى صـ 308
[ ص: 301 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الصَّافَّاتِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ . أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِـ : الصَّافَّاتِ هُنَا ، وَ الزَّاجِرَاتِ ، وَ التَّالِيَاتِ : جَمَاعَاتُ الْمَلَائِكَةِ ، وَقَدْ جَاءَ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ صَافُّونَ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ : وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [ 37 \ 165 - 166 ] ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ صَافِّينَ : أَنْ يَكُونُوا صُفُوفًا مُتَرَاصِّينَ بَعْضُهُمْ جَنْبَ بَعْضٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا . وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ يَصُفُّونَ أَجْنِحَتَهُمْ فِي السَّمَاءِ ، يَنْتَظِرُونَ أَمْرَ اللَّهِ ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا ، وَجُعِلَتْ لَنَا تُرْبَتُهَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ " وَهُوَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَصُفُّونَ كَصُفُوفِ الْمُصَلِّينَ فِي صَلَاتِهِمْ ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُلْقُونَ الذِّكْرَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَالْمُلْقِيَات ِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [ 67 \ 5 - 6 ] فَقَوْلُهُ : فَالْمُلْقِيَات ِ ذِكْرًا كَقَوْلِهِ هُنَا : فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي تَتْلُوهُ تُلْقِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ ، كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَى نَبِيِّنَا وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى الْجَمِيعِ ، وَقَوْلُهُ : عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ، أَيْ : لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ ، أَيْ : بِذَلِكَ الذِّكْرِ الَّذِي نَتْلُوهُ وَتُلْقِيهِ ، وَالْإِعْذَارُ : قَطْعُ الْعُذْرِ بِالتَّبْلِيغِ .
وَالْإِنْذَارُ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَبَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْأَعْرَافِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [ 7 \ 1 - 2 ] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا الْمَلَائِكَةُ تَزْجُرُ السَّحَابَ ، وَقِيلَ : تَزْجُرُ الْخَلَائِقَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ بِالذِّكْرِ الَّذِي تَتْلُوهُ ، وَتُلْقِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ .
[ ص: 302 ] وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الصَّافَّاتِ وَ الزَّجِرَاتِ وَ التَّالِيَاتِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ جَمَاعَاتُ الْمَلَائِكَةِ : ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ; كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمَا . وَزَادُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ بِهِ : مَسْرُوقًا وَالسُّدِّيَّ وَالرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : الصَّافَّاتِ فِي الْآيَةِ الطَّيْرُ تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ ، وَاسْتَأْنَسَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ الْآيَةَ [ 67 \ 19 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ الْآيَةَ [ 24 \ 41 ] .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُرَادُ بِـ : الصَّافَّاتِ جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ يَصُفُّونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ لِلصَّلَاةِ ، وَيَصُفُّونَ فِي غَزْوِهِمْ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [ 61 \ 4 ] .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا : الْمُرَادُ بِـ : فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ، وَ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا : جَمَاعَاتُ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ يُلْقُونَ آيَاتِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ ، وَيَزْجُرُونَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ بِآيَاتِهِ ، وَمَوَاعِظِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمِ : الْمُرَادُ بِـ : فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا : جَمَاعَاتُ الْغُزَاةِ يَزْجُرُونَ الْخَيْلَ لِتُسْرِعَ إِلَى الْأَعْدَاءِ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ قَائِلًا . وَوَجْهُ تَوْكِيدِهِ تَعَالَى قَوْلَهُ : إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ، بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ ، وَبِأَنَّ وَاللَّامِ هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلَهِ وَاحِدًا إِنْكَارًا شَدِيدًا وَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ تَعَجُّبًا شَدِيدًا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ 38 \ 5 ] ، وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى : إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ، فَكَوْنُهُ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي جَعَلَ فِيهَا الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ .
وَهَذَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ الَّذِي أَقَامَهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ ، أَقَامَهُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [ 2 \ 163 ] فَقَدْ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ مُتِّصِلًا بِهِ : [ ص: 303 ] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : فَإِنْ قُلْتَ : مَا حُكْمُ الْفَاءِ إِذَا جَاءَتْ عَاطِفَةً فِي الصِّفَاتِ ؟ قُلْتُ : إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَرَتُّبِ مَعَانِيهَا فِي الْوُجُودِ ; كَقَوْلِهِ :
يَا لَهْفَ زِيَابَةَ لِلْحَارِثِ الْـ صَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآئِبِ
كَأَنَّهُ قِيلَ : الَّذِي صَبَّحَ فَغَنِمَ فَآبَ ، وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبِهَا فِي التَّفَاوُتِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ; كَقَوْلِكَ : خُذِ الْأَفْضَلَ فَالْأَكْمَلَ ، وَاعْمَلِ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ . وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبِ مَوْصُوفَاتِهَا فِي ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ : رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِي نَ ، فَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ الثَّلَاثَةِ يَنْسَاقُ أَمْرُ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ فِي الصِّفَاتِ .
فَإِنْ قُلْتَ : فَعَلَى أَيِّ هَذِهِ الْقَوَانِينِ هِيَ فِيمَا أَنْتَ بِصَدَدِهِ ؟
قُلْتُ : إِنْ وَحَّدْتَ الْمَوْصُوفَ كَانَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الصِّفَاتِ فِي التَّفَاضُلِ ، وَإِنْ ثَلَّثْتَهُ فَهِيَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الْمَوْصُوفَاتِ فِيهِ .
بَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّكَ إِذَا أَجْرَيْتَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، وَجَعَلْتَهُمْ جَامِعِينَ لَهَا فَعَطْفُهَا بِالْفَاءِ يُفِيدُ تَرَتُّبًا لَهَا فِي الْفَضْلِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لِلصَّفِّ ، ثُمَّ لِلزَّجْرِ ثُمَّ لِلتِّلَاوَةِ . وَإِمَّا عَلَى الْعَكْسِ ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَرَدْتَ الْعُلَمَاءَ وَقُوَّادَ الْغُزَاةِ . وَإِنْ أَجْرَيْتَ الصِّفَةَ الْأُولَى عَلَى طَوَائِفَ وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ عَلَى أُخَرَ ، فَقَدْ أَفَادَتْ تَرَتُّبَ الْمَوْصُوفَاتِ فِي الْفَضْلِ أَعْنِي أَنَّ الطَّوَائِفَ الصَّافَّاتِ ذَوَاتِ فَضْلٍ ، وَالزَّاجِرَاتُ أَفْضَلُ ، وَالتَّالِيَاتُ أَبْهَرُ فَضْلًا أَوْ عَلَى الْعَكْسِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَدْتَ بِالصَّافَّاتِ الطَّيْرَ ، وَبِالزَّاجِرَا تِ كُلَّ مَا يَزْجُرُ عَنْ مَعْصِيَةٍ ، وَبِالتَّالِيَا تِ كُلَّ نَفْسٍ تَتْلُو الذِّكْرَ ، فَإِنَّ الْمَوْصُوفَاتِ مُخْتَلِفَةٌ ، انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيّ ُ فِي " الْكَشَّافِ " .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ : كَلَامُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ هَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ ، وَالْقُرْطُبِيّ ُ وَغَيْرُهُمَا ، وَلَمْ يَتَعَقَّبُوهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَلَامٌ لَا تَحْقِيقَ فِيهِ ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ اعْتِرَافُ الزَّمَخْشَرِيّ ِ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا ذَكَرَهُ : هَلْ هُوَ كَذَا أَوْ عَلَى الْعَكْسِ ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ [ ص: 304 ] فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عِلْمٍ مِمَّا يَقُولُهُ ; لِأَنَّ مَنْ جَزَمَ بِشَيْءٍ ثُمَّ جَوَّزَ فِيهِ النَّقِيضَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عِلْمٍ مِمَّا جَزَمَ بِهِ .
وَالْأَظْهَرُ الَّذِي لَا يَلْزَمُهُ إِشْكَالٌ أَنَّ التَّرْتِيبَ بِالْفَاءِ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ وَالْإِتْيَانِ بِأَدَاةِ التَّرْتِيبِ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ فَقَطْ ، دُونَ إِرَادَةِ تَرْتِيبِ الصِّفَاتِ أَوِ الْمَوْصُوفَاتِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ .
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [ 90 \ 11 - 17 ] ، فَلَا يَخْفَى أَنْ ثُمَّ حَرْفُ تَرْتِيبٍ وَأَنَّ الْمُرَتَّبَ بِهِ الَّذِي هُوَ كَوْنُهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرَتُّبَ لَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ إِلَّا مُطْلَقُ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [ 6 \ 153 - 154 ] كَمَا لَا يَخْفَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهِ ذِكْرِيٌّ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [ 2 \ 199 ] ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ :
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ، لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الْمَشَارِقَ وَحْدَهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْمَغَارِبَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا " دَفْعَ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ " : وَجْهُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ ، فَقُلْنَا فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [ 2 \ 115 ] ، مَا لَفْظُهُ أُفْرِدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، وَثَنَّاهُمَا فِي سُورَةِ " الرَّحْمَنِ " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [ 55 \ 17 ] ، وَجَمَعَهُمَا فِي سُورَةِ " سَأَلَ سَائِلٌ " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [ 70 \ 40 ] ، وَجَمَعَ الْمَشَارِقَ فِي سُورَةِ " الصَّافَّاتِ " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ .
[ ص: 305 ] وَالْجَوَابُ : أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [ 2 \ 115 ] الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، فَهُوَ صَادِقٌ بِكُلِّ مَشْرِقٍ مِنْ مَشَارِقِ الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ ، وَكُلُّ مَغْرِبٍ مِنْ مَغَارِبِهَا الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، مَا نَصُّهُ : وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ الَّذِي تُشْرِقُ مِنْهُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ وَالْمَغْرِبُ الَّذِي تَغْرُبُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ .
فَتَأْوِيلُهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ : وَلِلَّهِ مَا بَيْنَ قُطْرَيِ الْمَشْرِقِ وَقُطْرَيِ الْمَغْرِبِ إِذَا كَانَ شُرُوقُ الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْهُ لَا تَعُودُ لِشُرُوقِهَا مِنْهُ إِلَى الْحَوْلِ الَّذِي بَعْدَهُ ، وَكَذَلِكَ غُرُوبُهَا ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَقَوْلُهُ : رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [ 55 \ 17 ] ، يَعْنِي مَشْرِقَ الشِّتَاءِ ، وَمَشْرِقَ الصَّيْفِ وَمَغْرِبَهُمَا ، كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ . وَقِيلَ : مَشْرِقَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبَهُمَا .
وَقَوْلُهُ : بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ أَيْ : مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَمَغَارِبِهَا كَمَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَمَغَارِبِهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب الآية [ 37 \ 6 ] .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها الآية [ 6 \ 97 ] . وقرأ هذا الحرف السبعة غير عاصم وحمزة ، بإضافة زينة إلى الكواكب ، أي : بلا تنوين في زينة مع خفض الباء في الكواكب . وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بتنوين زينة ، وخفض الكواكب على أنه بدل من زينة . وقرأه أبو بكر عن عاصم : بزينة الكواكب بتنوين زينة ، ونصب الكواكب ، وأعرب أبو حيان الكواكب على قراءة النصب إعرابين :
أحدهما : أن الكواكب بدل من السماء في قوله تعالى : إنا زينا السماء [ 37 \ 6 ] .
والثاني : أنه مفعول به لـ : زينة بناء على أنه مصدر منكر ; كقوله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما الآية [ 90 \ 14 - 15 ] .
[ ص: 306 ] والأظهر عندي : أنه مفعول فعل محذوف ، تقديره : أعني الكواكب ، على حد قوله في " الخلاصة " :
ويحذف الناصبها إن علما وقد يكون حذفه ملتزما
قوله تعالى : وحفظا من كل شيطان مارد إلى قوله : شهاب ثاقب . قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكلام على قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع الآية [ 15 \ 17 - 18 ] في سورة " الحجر " .
قوله تعالى : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب
ذكر في هذه الآية الكريمة برهانين من براهين البعث ، التي قدمنا أنها يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث .
الأول : هو المراد بقوله : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا ; لأن معنى : فاستفتهم ، استخبرهم والأصل في معناه : اطلب منهم الفتوى ، وهي الإخبار بالواقع فيما تسألهم عنه أهم أشد خلقا أي : أصعب إيجادا واختراعا ، أم من خلقنا من المخلوقات التي هي أعظم وأكبر منهم ، وهي ما تقدم ذكره من الملائكة المعبر عن جماعاتهم بالصافات ، والزاجرات ، والتاليات ، والسماوات والأرض ، والشمس والقمر ، ومردة الشياطين ; كما ذكر ذلك كله في قوله تعالى : رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد [ 37 \ 5 - 7 ] .
وجواب الاستفتاء المذكور الذي لا جواب له غيره ، هو أن يقال : من خلقت يا ربنا من الملائكة ، ومردة الجن ، والسماوات والأرض ، والمشارق ، والمغارب ، والكواكب ، أشد خلقا منا ; لأنها مخلوقات عظام أكبر وأعظم منا ، فيتضح بذلك البرهان القاطع على قدرته جل وعلا على البعث بعد الموت ; لأن من المعلوم بالضرورة أن من خلق الأعظم الأكبر كالسماوات والأرض ، وما ذكر معهما قادر على أن يخلق الأصغر الأقل ; كما قال تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، أي : ومن قدر [ ص: 307 ] على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على خلق الأصغر ، كخلق الإنسان خلقا جديدا بعد الموت . وقال تعالى : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [ 36 \ 81 ] ، وقال تعالى : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [ 46 \ 33 ] ، وقال تعالى : أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم [ 17 \ 99 ] ، وقال تعالى في " النازعات " ، موضحا الاستفتاء المذكور في آية " الصافات " هذه : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] .
وقد علمت أن وجه العبارة بمن التي هي للعالم ، في قوله تعالى : أم من خلقنا ، عن السماوات والأرض والكواكب هو تغليب ما ذكر معها من العالم كالملائكة على غير العالم ، وذلك أسلوب عربي معروف .
وأما البرهان الثاني : فهو في قوله : إنا خلقناهم من طين لازب ; لأن من خلقهم أولا من طين ، وأصله التراب المبلول بالماء لا يشك عاقل في قدرته على خلقهم مرة أخرى بعد أن صاروا ترابا ، لأن الإعادة لا يعقل أن تكون أصعب من البدء والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدا ; كقوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 79 ] ، وقوله تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذين البرهانين وغيرهما من براهين البعث في سورة " البقرة " ، و " النحل " ، و " الحج " وغير ذلك .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : من طين لازب ، اللازب : هو ما يلزق باليد مثلا إذا لاقته ، وعبارات المفسرين فيه تدور حول ما ذكرنا ، والعرب تطلق اللازب واللاتب واللازم ، بمعنى واحد ، ومنه في اللازب قول علي رضي الله عنه :
تعلم فإن الله زادك بسطة وأخلاق خير كلها لك لازب
وقول نابغة ذبيان :
[ ص: 308 ]
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ولا يحسبون الشر ضربة لازب
فقوله : ضربة لازب ، أي : شيئا ملازما لا يفارق ، ومنه في اللاتب قوله :
فإن يك هذا من نبيذ شربته فإني من شرب النبيذ لتائب
صداع وتوصيم العظام وفترة وغم مع الإشراق في الجوف لاتب
والبرهانان المذكوران على البعث يلقمان الكفار حجرا في إنكارهم البعث المذكور بعدهما قريبا منهما ، في قوله تعالى : وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون [ 37 \ 15 19 ] .
قوله تعالى : بل عجبت ويسخرون . قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة والكسائي : عجبت بالتاء المفتوحة وهي تاء الخطاب ، المخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ حمزة والكسائي : بل عجبت ، بضم التاء وهي تاء المتكلم ، وهو الله جل وعلا .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن القراءتين المختلفتين يحكم لهما بحكم الآيتين .
وبذلك تعلم أن هذه الآية الكريمة على قراءة حمزة والكسائي فيها إثبات العجب لله تعالى ، فهي إذا من آيات الصفات على هذه القراءة .
وقد أوضحنا طريق الحق التي هي مذهب السلف في آيات الصفات ، وأحاديثها في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الروم " ، في الكلام على قوله تعالى : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث . الآية [ 30 \ 56 ]
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (451)
سُورَةُ الصَّافَّاتِ
صـ 309 إلى صـ 316
[ ص: 309 ] قوله تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم . المراد بـ : الذين ظلموا الكفار ، كما يدل عليه قوله بعده : وما كانوا يعبدون من دون الله .
وقد قدمنا إطلاق الظلم على الشرك في آيات متعددة ; كقوله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] ، وقوله تعالى : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] ، وقوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] .
وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الظلم بالشرك ، في قوله تعالى : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ 6 \ 82 ] ، وقوله تعالى : وأزواجهم ، جمهور أهل العلم منهم : عمر وابن عباس ، على أن المراد به أشباههم ونظراؤهم ، فعابد الوثن مع عابد الوثن ، والسارق مع السارق ، والزاني مع الزاني ، واليهودي مع اليهودي ، والنصراني مع النصراني ، وهكذا وإطلاق الأزواج على الأصناف مشهور في القرآن ، وفي كلام العرب ; كقوله تعالى : والذي خلق الأزواج كلها الآية [ 43 \ 12 ] ، وقوله تعالى : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 \ 36 ] ، وقوله تعالى : فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى الآية [ 20 \ 53 ] ، وقوله تعالى : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم [ 15 \ 88 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فقوله تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ، أي : اجمعوا الظالمين وأشباههم ونظراءهم ، فاهدوهم إلى النار ليدخلها جميعهم ، وبذلك تعلم أن قول من قال : المراد بـ أزواجهم نساؤهم اللاتي على دينهم ، خلاف الصواب . وقوله تعالى : وما كانوا يعبدون من دون الله ، أي : احشروا مع الكفار الشركاء التي كانوا يعبدونها من دون الله ليدخل العابدون والمعبودات جميعا النار ; كما أوضح ذلك بقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون [ 21 \ 98 - 99 ] . وقد بين تعالى أن الذين عبدوا من دون الله من الأنبياء ، والملائكة ، والصالحين ; كعيسى وعزير خارجون عن هذا ، وذلك في [ ص: 310 ] قوله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون [ 21 \ 101 ] ، إلى قوله : هذا يومكم الذي كنتم توعدون [ 21 \ 103 ] ، وأشار إلى ذلك في قوله تعالى : ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه الآية [ 43 \ 57 - 59 ] .
وقوله تعالى : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه الآية [ 17 \ 57 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فاهدوهم ، من الهدى العام ، أي : دلوهم وأرشدوهم إلى صراط الجحيم ، أي : طريق النار ليسلكوها إليها ، والضمير في قوله تعالى : فاهدوهم ، راجع إلى الثلاثة ، أعني : الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله .
وقد دلت هذه الآية أن الهدى يستعمل في الإرشاد والدلالة على الشر ، ونظير ذلك في القرآن قوله : كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 4 ] ، ولذلك كان للشر أئمة يؤتم بهم فيه ; كقوله تعالى : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار الآية [ 28 \ 41 ] .
قوله تعالى : وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، وبينا هناك وجه الجمع بين الآيات في نحو قوله تعالى : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] ، وقوله تعالى : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [ 55 \ 39 ] ، مع قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] ، وقوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم الآية [ 7 \ 6 ] . وقوله هنا : وقفوهم إنهم مسئولون .
قوله تعالى : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له مع التعرض لإزالة إشكالين في بعض الآيات المتعلقة بذلك ، في سورة " قد أفلح المؤمنون " ، في الكلام على قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ 23 \ 101 ] .
[ ص: 311 ] قوله تعالى : فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين . قد قدمنا الآيات المبينة للمراد بالقول الذي حق عليهم في سورة " يس " ، في الكلام على قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم الآية [ 36 \ 7 ] ، وما ذكره جل وعلا عنهم من أنهم قالوا : إنه لما حق عليهم القول ، الذي هو : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، فكانوا غاوين أغووا أتباعهم ; لأن متبع الغاوي في غيه لا بد أن يكون غاويا مثله ، ذكره تعالى في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " القصص " : قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا الآية [ 28 \ 63 ] ، والإغواء : الإضلال .
قوله تعالى : فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الضالين والمضلين مشتركون في العذاب يوم القيامة ، وبين في سورة " الزخرف " ، أن ذلك الاشتراك ليس بنافعهم شيئا ; وذلك في قوله تعالى : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون [ 43 \ 39 ] ، وبين في مواضع أخر أن الأتباع يسألون الله ، أن يعذب المتبوعين عذابا مضاعفا لإضلالهم إياهم ; كقوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف الآية [ 7 \ 38 ] ، وقوله تعالى : وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا [ 33 \ 67 - 68 ] .
وقد قدمنا الكلام على تخاصم أهل النار ، وسيأتي إن شاء الله له زيادة إيضاح في سورة " ص " ، في الكلام على قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] .
قوله تعالى : إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون الآية [ 37 \ 34 - 35 ] .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ذلك العذاب الذي فعله بهؤلاء المعذبين ، [ ص: 312 ] المذكورين في قوله تعالى : إنا لذائقون [ 37 \ 31 ] ، أي : العذاب الأليم . وقوله تعالى : فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون [ 37 \ 33 ] ، أنه يفعل مثله من التعذيب والتنكيل بالمجرمين ، والمجرمون جمع مجرم ، وهو مرتكب الجريمة وهي الذنب الذي يستحق صاحبه عليه التنكيل الشديد ، ثم بين العلة لذلك التعذيب ; لأنها هي امتناعهم من كلمة التوحيد التي هي لا إله إلا الله ، إذا طلب منهم الأنبياء وأتباعهم أن يقولوا ذلك في دار الدنيا . فلفظة إن في قوله تعالى : إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ، من حروف التعليل ; كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه .
وعليه فالمعنى : كذلك نفعل بالمجرمين لأجل أنهم كانوا في دار الدنيا ، إذا قيل لهم : لا إله إلا الله يستكبرون ، أي : يتكبرون عن قبولها ولا يرضون أن يكونوا أتباعا للرسل .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من كون ذلك هو سبب تعذيبهم بالنار ، دلت عليه آيات ; كقوله تعالى مبينا دخولهم النار : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] ، وقوله تعالى في ذكر صفات الكفار وهم أهل النار : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون [ 39 \ 45 ] .
قوله تعالى : ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الشعراء " ، في الكلام على قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون [ 26 \ 224 ] .
قوله تعالى : لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون .
قد قدمنا تفسيره مع ذكر الآيات الدالة على معناه في سورة " المائدة " ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [ 5 \ 90 ] ، وبينا هنا كلام أهل العلم في نجاسة عين خمر الدنيا دون خمر الآخرة ، وأن ذلك يشير إلى قوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ 76 \ 21 ] .
[ ص: 313 ] قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث صفات من صفات نساء أهل الجنة :
الأولى : أنهن قاصرات الطرف ، وهو العين ، أي : عيونهن قاصرات على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهم لشدة اقتناعهن واكتفائهن بهم .
الثانية : أنهن عين ، والعين جمع عيناء ، وهي واسعة دار العين ، وهي النجلاء .
الثالثة : أن ألوانهن بيض بياضا مشربا بصفرة ; لأن ذلك هو لون بيض النعام الذي شبههن به ، ومنه قول امرئ القيس في نحو ذلك :
كبكر المقانات البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل
لأن معنى قوله : كبكر المقانات البياض بصفرة : أن لون المرأة المذكورة كلون البيضة البكر المخالط بياضها بصفرة ، وهذه الصفات الثلاث المذكورة هنا ، جاءت موضحة في غير هذا الموضع مع غيرها من صفاتهن الجميلة ، فبين كونهن قاصرات الطرف على أزواجهن ، بقوله تعالى في " ص " : وعندهم قاصرات الطرف أتراب [ 38 \ 52 ] ، وكون المرأة قاصرة الطرف من صفاتها الجميلة ، وذلك معروف في كلام العرب ، ومنه قول امرئ القيس :
من القاصرات الطرف لو دب محول
من الذر فوق الإتب منها لأثرا
وذكر كونهن عينا في قوله تعالى فيهن : وحور عين [ 56 \ 22 ] ، وذكر صفا ألوانهن وبياضها في قوله تعالى : كأمثال اللؤلؤ المكنون [ 56 \ 23 ] ، وقوله تعالى : كأنهن الياقوت والمرجان [ 55 \ 58 ] ، وصفاتهن كثيرة معروفة في الآيات القرآنية .
واعلم أن الله أثنى عليهن بنوعين من أنواع القصر :
أحدهما : أنهن قاصرات الطرف ، والطرف العين ، وهو لا يجمع ولا يثنى ; لأن أصله مصدر ، ولم يأت في القرآن إلا مفردا ; كقوله تعالى : لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء [ 14 \ 43 ] ، وقوله تعالى : ينظرون من طرف خفي ، ومعنى كونهن قاصرات الطرف هو ما قدمنا من أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن بخلاف نساء الدنيا .
[ ص: 314 ] والثاني من نوعي القصر : كونهن مقصورات في خيامهن ، لا يخرجن منها ; كما قال تعالى لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم : وقرن في بيوتكن [ 33 \ 33 ] ، وذلك في قوله تعالى : حور مقصورات في الخيام [ 55 \ 72 ] ، وكون المرأة مقصورة في بيتها لا تخرج منه من صفاتها الجميلة ، وذلك معروف في كلام العرب ; ومنه قوله :
من كان حربا للنساء فإنني سلم لهنه
فإذا عثرن دعونني وإذا عثرت دعوتهنه
وإذا برزن لمحفل فقصارهن ملاحهنه
فقوله : قصارهن ، يعني : المقصورات منهن في بيوتهن اللاتي لا يخرجن إلا نادرا ، كما أوضح ذلك كثير عزة في قوله :
وأنت التي حببت كل قصيرة إلي وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر
والحجال : جمع حجلة ، وهي البيت الذي يزين للعروس ، فمعنى قصيرات الحجال : المقصورات في حجالهن . وذكر بعضهم أن رجلا سمع آخر ، قال : لقد أجاد الأعشى في قوله :
غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة لا ريث ولا عجل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها ولا تراها لسر الجار تختتل
فقال له : قاتلك الله ، تستحسن غير الحسن هذه الموصوفة خراجة ولاجة ، والخراجة الولاجة لا خير فيها ولا ملاحة لها ، فهلا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت :
وتكسل عن جاراتها فيزرنها وتعتل من إتيانهن فتعذر
قوله تعالى : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم . قد قدمنا إيضاحه بالقرآن في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون [ 25 \ 15 ] .
[ ص: 315 ] قوله تعالى : إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم الآية . قد قدمنا إيضاحه في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن [ 17 \ 60 ] .
قوله تعالى : فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار في النار يأكلون من شجرة الزقوم ، فيملئون منها بطونهم ، ويجمعون معها : لشوبا من حميم ، أي : خلطا من الماء البالغ غاية الحرارة ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في " الواقعة " : ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم [ 56 \ 51 - 52 ] . وقوله : شرب الهيم ، الهيم : جمع أهيم وهيماء وهي الناقة مثلا التي أصابها الهيام ، وهو شدة العطش بحيث لا يرويها كثرة شراب الماء فهي تشرب كثيرا من الماء ، ولا تزال مع ذلك في شدة العطش . ومنه قول غيلان ذي الرمة :
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد صداها ولا يقضي عليها هيامها
وقوله تعالى في " الواقعة " : فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم [ 56 \ 54 - 55 ] ، يدل على أن الشوب ، أي : الخلط من الحميم المخلوط لهم بشجرة الزقوم المذكور هنا في " الصافات " ، أنه شوب كثير من الحميم لا قليل .
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية : لشوبا من حميم ، الشوب : الخلط ، والشوب والشوب لغتان ، كالفقر والفقر ، والفتح أشهر . قال الفراء : شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبا وشيابة ، انتهى منه .
قوله تعالى : إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون . ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الكفار الذين أرسل إليهم نبينا صلى الله عليه وسلم : إنهم ألفوا آباءهم ، أي : وجدوهم على الكفر ، وعبادة الأوثان ، فهم على آثارهم يهرعون [ ص: 316 ] أي : يتبعونهم في ذلك الضلال والكفر مسرعين فيه ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى عنهم : قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا [ 2 \ 170 ] ، وقوله عنهم : قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا [ 5 \ 104 ] ، وقوله عنهم : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] ، وقوله عنهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا الآية [ 14 \ 10 ] . ورد الله عليهم في الآيات القرآنية معروف ; كقوله تعالى : أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [ 2 \ 170 ] ، وقوله : أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] ، وقوله تعالى : قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ 43 \ 24 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهم على آثارهم ، أي : فهم على اتباعهم والاقتداء بهم في الكفر والضلال ; كما قال تعالى عنهم : وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يهرعون ، قد قدمنا في سورة " هود " ، أن معنى : يهرعون : يسرعون ويهرولون ، وأن منه قول مهلهل :
فجاءوا يهرعون وهم أسارى تقودهم على رغم الأنوف
قوله تعالى : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] . قد قدمنا الآيات التي بمعناه في سورة " يس " ، في الكلام على قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] ، وفي سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله الآية [ 6 \ 116 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (452)
سُورَةُ ص
صـ 317 إلى صـ 324
قوله تعالى : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين .
تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية ، وتفسيره في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم الآية [ 21 \ 76 ] .
قوله تعالى : إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون . [ ص: 317 ] قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية بكثرة في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا الآية [ 19 \ 41 - 42 ] .
قوله تعالى : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم ، إلى قوله تعالى : وفديناه بذبح عظيم .
اعلم أولا : أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه ، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي ، ثم لما باشر عمل ذبحه امتثالا للأمر ، فداه الله بذبح عظيم ، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ وقد وعدنا في سورة " الحجر " ، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة " الصافات " ، وهذا وقت إنجاز الوعد .
اعلم ، وفقني الله وإياك ، أن القرآن العظيم قد دل في موضعين ، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق . أحدهما في " الصافات " ، والثاني في " هود " .
أما دلالة آيات " الصافات " على ذلك ، فهي واضحة جدا من سياق الآيات ، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيه إبراهيم وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين [ 37 \ 99 - 110 ] ، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [ 37 \ 112 ] ، فدل ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشر به في الثانية ; لأنه لا يجوز حمل كتاب الله على أن معناه : فبشرناه بإسحاق ، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضا : وبشرناه بإسحاق ، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزه عنه كلام الله ، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أولا الذي فدي بالذبح العظيم ، هو إسماعيل ، وأن البشارة بإسحاق نص الله عليها مستقلة بعد ذلك .
وقد أوضحنا في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 16 \ 97 ] ، أن المقرر في الأصول : أن [ ص: 318 ] النص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معا وجب حمله على التأسيس ، ولا يجوز حمله على التأكيد ، إلا لدليل يجب الرجوع إليه .
ومعلوم في اللغة العربية ، أن العطف يقتضي المغايرة ، فآية " الصافات " هذه ، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق ، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينا عبر عنه في كلها بالعلم لا الحلم ، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم .
وأما الموضع الثاني الدال على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة " هود " ، فهو قوله تعالى : وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [ 11 \ 71 ] ; لأن رسل الله من الملائكة بشرتها بإسحاق ، وأن إسحاق يلد يعقوب ، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه ، وهو صغير ، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب .
فهذه الآية أيضا دليل واضح على ما ذكرنا ، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلة القرآنية على ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه
اعلم أن قصة الذبيح هذه تؤيد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف ، هل هي للامتثال فقط ، أو هي مترددة بين الامتثال والابتلاء ؟ لأنه بين في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل ، لأنه لم يرد ذبحه كونا وقدرا ، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرد الابتلاء والاختبار ، هل يصمم على امتثال ذلك أو لا ؟ كما صرح بذلك في قوله تعالى : إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم [ 37 \ 106 - 107 ] ، فتبين بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء . وإلى الخلاف المذكور أشار في " مراقي السعود " ، بقوله :
للامتثال كلف الرقيب فموجب تمكنا مصيب أو بينه والابتلا ترددا
شرط تمكن عليه انفقدا
وقد أشار بقوله : فموجب تمكنا مصيب ، وقوله : شرط تمكن عليه انفقدا ، إلى أن شرط التمكن من الفعل في التكليف ، مبني على الخلاف المذكور ، فمن قال : إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكن من الفعل ; لأنه لا امتثال إلا مع [ ص: 319 ] التمكن من الفعل ، ومن قال إن الحكمة مترددة بين الامتثال والابتلاء ، لم يشترط من الفعل ; لأن حكمة الابتلاء تتحقق مع عدم التمكن من الفعل ، كما لا يخفى . ومن الفروع المبنية على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدا من نهار رمضان ، ثم حصل لها الحيض بالفعل ، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض ، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط ، فلا كفارة عليها ، ولها أن تفطر ; لأنها عالمة بأنها لا تتمكن من الامتثال ، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال ، وتارة تكون الابتلاء ، فإنها يجب عليها تبييت الصوم ، ولا يجوز لها الإفطار إلا بعد مجيء الحيض بالفعل ، وإن أفطرت قبله كفرت . وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدا ، وقد علم ذلك بالعادة ، فهو أيضا ينبني على الخلاف المذكور .قوله تعالى : ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] .قوله تعالى : ولقد مننا على موسى وهارون .
ذكر جل وعلا منته عليهما في غير هذا الموضع ; كقوله في " طه " : قال قد أوتيت سؤلك ياموسى ولقد مننا عليك مرة أخرى [ 20 \ 36 - 37 ] ; لأن من سؤله الذي أوتيه إجابة دعوته في رسالة أخيه هارون معه ، ومعلوم أن الرسالة من أعظم المنن .قوله تعالى : ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم . قوله : وقومهما ، يعني بني إسرائيل .
والمعنى : أنه نجى موسى وهارون وقومهما من الكرب العظيم ، وهو ما كان يسومهم فرعون وقومه من العذاب ، كذبح الذكور من أبنائهم وإهانة الإناث ، وكيفية إنجائه لهم مبينة في انفلاق البحر لهم ، حتى خاضوه سالمين ، وإغراق فرعون وقومه وهم ينظرون .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون [ 2 \ 50 ] ، وقدمنا تفسير الكرب العظيم في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى في قصة نوح : فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم [ 21 \ 76 ] . [ ص: 320 ] قوله تعالى : ونصرناهم فكانوا هم الغالبين . بين جل وعلا أنه نصر موسى وهارون وقومهما على فرعون وجنوده ، فكانوا هم الغالبين ، أي : وفرعون وجنوده هم المغلوبون ، وذلك بأن الله أهلكهم جميعا بالغرق ، وأنجى موسى وهارون وقومهما من ذلك الهلاك ، وفي ذلك نصر عظيم لهم عليهم ، وقد بين جل وعلا ذلك في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ 28 \ 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .قوله تعالى : وآتيناهما الكتاب المستبين . الكتاب هو التوراة ، كما ذكره في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل ، وقوله تعالى : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء [ 6 \ 154 ] ، وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون [ 23 \ 49 ] ، وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين [ 21 \ 48 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد قدمنا بعض الكلام على ذلك في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان الآية [ 2 \ 53 ] .قوله تعالى : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] . وفي سورة " المائدة " ، في الكلام على قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا [ 5 \ 32 ] ، وغير ذلك من المواضع .قوله تعالى : فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون . تسبيح يونس هذا ، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام المذكور في " الصافات " ، جاء موضحا في " الأنبياء " ، في قوله تعالى : وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [ 21 \ 87 - 88 ] .
[ ص: 321 ] وقد قدمنا تفسير هذه الآية وإيضاحها في سورة " الأنبياء " .
قوله تعالى : فآمنوا فمتعناهم إلى حين . ما ذكره في هذه الآية الكريمة من إيمان قوم يونس وأن الله متعهم إلى حين ، ذكره أيضا في سورة " يونس " ، في قوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ 10 \ 98 ] .
قوله تعالى : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ، إلى قوله : ما لكم كيف تحكمون . قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ، إلى قوله تعالى : ساء ما يحكمون [ 16 \ 57 - 59 ] .
قوله تعالى : وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به فسوف يعلمون . قد قدمنا الكلام على ما في معناه من الآيات في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم الآية [ 6 \ 157 ] .
قوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون . هذه الآية الكريمة تدل على أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأتباعهم منصورون دائما على الأعداء بالحجة والبيان ، ومن أمر منهم بالجهاد منصور أيضا بالسيف والسنان ، والآيات الدالة على هذا كثيرة ; كقوله تعالى : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] ، وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [ 40 \ 51 ] ، وقوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، [ ص: 322 ] وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [ 14 \ 13 - 14 ] .
وقد قدمنا إيضاح هذا بالآيات القرآنية في سورة " آل عمران " ، في الكلام على قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير الآية [ 3 \ 146 ] ، وسيأتي له إن شاء الله زيادة إيضاح في آخر سورة " المجادلة " .
قوله تعالى : أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [ 13 \ 6 ] . وذكرنا بعض الكلام على ذلك في سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به الآية [ 10 \ 15 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى :
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين . ختم هذه السورة الكريمة بالسلام على عباده المرسلين ، ولا شك أنهم من عباده الذين اصطفى مع ثنائه على نفسه ، بقوله تعالى : والحمد لله رب العالمين [ 37 \ 182 ] ، معلما خلقه أن يثنوا عليه بذلك ، وما ذكره هنا من حمده هذا الحمد العظيم ، والسلام على رسله الكرام ، ذكره في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " النمل " : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الآية [ 27 \ 59 ] ، ويشبه ذلك قوله تعالى : دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين [ 10 \ 10 ] .
[ ص: 323 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ ص
قَوْلُهُ تَعَالَى ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ . قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ : ص بِالسُّكُونِ مِنْهُمُ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ ص مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ كَـ ( ص ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : المص ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : كهيعص [ 19 \ 1 ] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا .
وَبِذَلِكَ التَّحْقِيقِ الْمَذْكُورِ ، تَعْلَمُ أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ ص بِكَسْرِ الدَّالِّ غَيْرِ مُنَوَّنَةٍ ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِكَسْرِ الدَّالِّ مُنَوَّنَةً ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الدَّالِّ ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِضَمِّهَا غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ ، كُلُّهَا قِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا .
وَكَذَلِكَ تَفَاسِيرُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَاتِ ، فَإِنَّهَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا أَيْضًا .
كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ صَادِ بِكَسْرِ الدَّالِّ فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ صَادَى يُصَادِي مُصَادَاةً إِذَا عَارَضَ ، وَمِنْهُ الصَّدَى . وَهُوَ مَا يُعَارِضُ الصَّوْتَ فِي الْأَمَاكِنِ الصُّلْبَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَجْسَامِ ، أَيْ عَارِضْ بِعَمَلِكَ الْقُرْآنَ وَقَابِلْهُ بِهِ ، يَعْنِي امْتَثِلْ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنِبْ نَوَاهِيَهُ وَاعْتَقِدْ عَقَائِدَهُ وَاعْتَبِرْ بِأَمْثَالِهِ وَاتَّعَظْ بِمَوَاعِظِهِ .
وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا : أَنَّ ص بِمَعْنَى حَادِثٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ .
وَقِرَاءَةُ ص بِكَسْرِ الدَّالِّ غَيْرُ مُنَوَّنَةٍ : مَرْوِيَّةٌ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَالْحَسَنِ وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي السِّمَالِ وَابْنِ أَبِي عَيْلَةَ وَنَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ .
وَالْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ ، أَنَّ كَسْرَ الدَّالِّ سَبَبُهُ التَّخْفِيفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهُوَ حَرْفُ هِجَاءٍ لَا فِعْلُ أَمْرٍ مَنْ صَادَى .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ ، أَنَّهُ قَرَأَ ص بِكَسْرِ الدَّالِّ مَعَ التَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ [ ص: 324 ] مَجْرُورٌ بِحَرْفِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ ، وَهُوَ كَمَا تَرَى ، فَسُقُوطُهُ ظَاهِرٌ .
وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ص بِفَتْحِ الدَّالِّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ ، فَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ وَالتَّفَاسِيرُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهَا سَاقِطَةٌ .
كَقَوْلِ مَنْ قَالَ : صَادَ مُحَمَّدٌ قُلُوبَ النَّاسِ وَاسْتَمَالَهُم ْ حَتَّى آمَنُوا بِهِ .
وَقَوْلِ مَنْ قَالَ : هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ .
أَيِ الْزَمُوا صَادَ ، أَيْ هَذِهِ السُّورَةِ ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ اتْلُ ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ ، الَّذِي هُوَ حَرْفُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفُ .
وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ ، أَنَّ الدَّالَّ فُتِحَتْ تَخْفِيفًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ، وَاخْتِيرَ فِيهَا الْفَتْحُ إِتْبَاعًا لِلصَّادِّ ، وَلِأَنَّ الْفَتْحَ أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ قِرَاءَةُ عِيسَى بْنِ عُمَرَ ، وَتُرْوَى عَنْ مَحْبُوبٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو .
وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ صَادُ بِضَمِّ الدَّالِّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ ، عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ لِلسُّورَةِ ، وَأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ، وَالتَّقْدِيرُ هَذِهِ صَادُ وَأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ ; لِأَنَّ السُّورَةَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا .
وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَابْنِ السَّمَيْقَعِ وَهَارُونَ الْأَعْوَرِ .
وَمَنْ قَرَأَ صَادَ بِفَتْحِ الدَّالِّ قَرَأَ : ق ، وَن كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَهَا ص بِضَمِّ الدَّالِّ فَإِنَّهُ قَرَأَ ق : وَ ن بِضَمِّ الْفَاءِ وَالنُّونِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ ، وَجَمِيعَ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا ، كُلُّهَا سَاقِطَةٌ ، لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا .
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِأَجْلِ التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ ص مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا هِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ ص مِفْتَاحُ بَعْضِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّبُورِ وَالصَّمَدِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (453)
سُورَةُ ص
صـ 325 إلى صـ 332
وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ : صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ [ ص: 325 ] الْأَقْوَالِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَصْلَ الْقُرْآنِ مَصْدَرٌ ، زِيدَ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ . كَمَا زِيدَتَا فِي الطُّغْيَانِ ، وَالرُّجْحَانِ ، وَالْكُفْرَانِ ، وَالْخُسْرَانِ ، وَأَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ أُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، يَقُولُونَ : إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ هُوَ اسْمُ الْمَفْعُولِ .
وَعَلَيْهِ فَالْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْمَقْرُوءِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ : قَرَأْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتُهُ وَأَبْرَزْتُهُ ، وَمِنْهُ قَرَأَتِ النَّاقَةُ السَّلَا وَالْجَنِينَ إِذَا أَظْهَرَتْهُ وَأَبْرَزَتْهُ مِنْ بَطْنِهَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ :
تُرِيكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى خَلَاءٍ وَقَدْ أَمِنَتْ عُيُونُ الْكَاشِحِينَا ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ
هَجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا
عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ فِي الْبَيْتِ .
وَمَعْنَى الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْمَقْرُوءُ الَّذِي يُظْهِرُهُ الْقَارِئُ ، وَيُبْرِزُهُ مِنْ فِيهِ ، بِعِبَارَاتِهِ الْوَاضِحَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ الْوَصْفَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ ، هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ .
وَعَلَيْهِ فَالْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقَارِئِ ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ قَرَأْتُ ، بِمَعْنَى جَمَعْتُ .
وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ : قَرَأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ فِيهِ .
وَعَلَى هَذَا فَالْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقَارِئِ أَيِ الْجَامِعِ لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهِ جَمِيعَ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : ذِي الذِّكْرِ فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الذِّكْرَ بِمَعْنَى الشَّرَفِ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فُلَانٌ مَذْكُورٌ يَعْنُونَ لَهُ ذِكْرٌ أَيْ شَرَفٌ .
[ ص: 326 ] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [ 43 \ 44 ] أَيْ شَرَفٌ لَكُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الذِّكْرَ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالْمَوَاعِظُ ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
تنبيه
اعلم أن العلماء اختلفوا في تعيين الشيء الذي أقسم الله عليه في قوله تعالى : والقرآن ذي الذكر ، فقال بعضهم : إن المقسم عليه مذكور ، والذين قالوا إنه مذكور اختلفوا في تعيينه ، وأقوالهم في ذلك كلها ظاهرة السقوط .
فمنهم من قال : إن المقسم عليه هو قوله تعالى إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] .
ومنهم من قال هو قوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] .
ومنهم من قال هو قوله تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] كقوله : تالله إن كنا لفي ضلال مبين . وقوله : والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ [ 86 \ 1 - 4 ] .
ومنهم من قال هو قوله : كم أهلكنا من قبلهم ، ومن قال هذا قال : إن الأصل لكم أهلكنا ولما طال الكلام ، حذفت لام القسم ، فقال : كم أهلكنا بدون لام .
قالوا : ونظير ذلك قوله تعالى : والشمس وضحاها [ 91 \ 1 ] لما طال الكلام بين القسم والمقسم عليه ، الذي هو قد أفلح من زكاها ، حذفت منه لام القسم .
ومنهم من قال : إن المقسم عليه هو قوله : ص قالوا معنى ص صدق رسول الله والقرآن ذي الذكر . وعلى هذا فالمقسم عليه هو صدقه صلى الله عليه وسلم .
ومنهم من قال المعنى : هذه ص أي السورة التي أعجزت العرب ، والقرآن ذي الذكر ، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا يخفى سقوطها .
وقال بعض العلماء إن المقسم عليه محذوف ، واختلفوا في تقديره ، فقال الزمخشري [ ص: 327 ] في الكشاف ، التقدير والقرآن ذي الذكر . إنه لمعجز ، وقدره ابن عطية وغيره فقال : والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقوله الكفار ، إلى غير ذلك من الأقوال .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر صوابه بدليل استقراء القرآن : أن جواب القسم محذوف وأن تقديره والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقوله الكفار ، وأن قولهم : المقسم على نفيه شامل لثلاثة أشياء متلازمة .
الأول : منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقا وأن الأمر ليس كما يقول الكفار في قوله تعالى عنهم : ويقول الذين كفروا لست مرسلا [ 13 \ 43 ] .
والثاني : أن الإله المعبود جل وعلا واحد ، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 5 ] .
والثالث : أن الله جل وعلا يبعث من يموت ، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] وقوله : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا [ 64 \ 7 ] وقوله تعالى : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة [ 34 \ 3 ] .
أما الدليل من القرآن على أن المقسم عليه محذوف فهو قوله تعالى : بل الذين كفروا في عزة وشقاق [ 38 \ 2 ] ; لأن الإضراب بقوله بل ، دليل واضح على المقسم عليه المحذوف . أي ما الأمر كما يقوله الذين كفروا ، بل الذين كفروا في عزة ، أي في حمية وأنفة واستكبار عن الحق ، وشقاق ، أي مخالفة ومعاندة .
وأما دلالة استقراء القرآن على أن المنفي المحذوف شامل للأمور الثلاثة المذكورة ، فلدلالة آيات كثيرة : أما صحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكون الإله المعبود واحدا لا شريك له فقد أشار لهما هنا .
أما كون الرسول مرسلا حقا ففي قوله تعالى هنا : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب [ 38 \ 4 ] يعني أي : لا وجه للعجب المذكور . لأن يجيء المنذر الكائن منهم .
لا شك في أنه بإرسال من الله حقا .
[ ص: 328 ] وقولهم : هذا ساحر كذاب إنما ذكره تعالى إنكارا عليهم وتكذيبا لهم . فعرف بذلك أن في ضمن المعنى والقرآن ذي الذكر أنك مرسل حقا ولو عجبوا من مجيئك منذرا لهم ، وزعموا أنك ساحر كذاب ، أي فهم الذين عجبوا من الحق الذي لا شك فيه ، وزعموا أن خاتم الرسل ، وأكرمهم على الله ، ساحر كذاب .
وأما كون الإله المعبود واحدا لا شريك له ، ففي قوله هنا : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 5 ] ; لأن الهمزة في قوله : أجعل للإنكار المشتمل على معنى النفي ، فهي تدل على نفي سبب تعجبهم من قوله صلى الله عليه وسلم : إن الإله المعبود واحد .
وهذان الأمران قد دلت آيات أخر من القرآن العظيم ، على أن الله أقسم على تكذيبهم فيها وإثباتها بالقسم صريحا كقوله تعالى مقسما على أن الرسول مرسل حقا يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين [ 36 \ 1 - 3 ] فهي توضح معنى ص والقرآن ذي الذكر إنك لمن المرسلين .
وقد جاء تأكيد صحة تلك الرسالة في آيات كثيرة كقوله تعالى : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين [ 2 \ 252 ] ، وأما كونه تعالى هو المعبود الحق لا شريك له ، فقد أقسم تعالى عليه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد [ 37 \ 1 - 4 ] ونحو ذلك من الآيات فدل ذلك على أن المعنى تضمن ما ذكر أي والقرآن ذي الذكر ، إن إلهكم لواحد كما أشار إليه بقوله : أجعل الآلهة الآية [ 38 \ 5 ] .
وأما كون البعث حقا ، فقد أقسم عليه إقساما صحيحا صريحا ، في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : قل بلى وربي لتبعثن [ 64 \ 7 ] . وقوله تعالى : قل بلى وربي لتأتينكم [ 64 \ 3 ] أي الساعة . وقوله : قل إي وربي إنه لحق . [ 10 \ 53 ]
وأقسم على اثنين من الثلاثة المذكورة وحذف المقسم عليه الذي هو الاثنان المذكوران ، وهي كون الرسول مرسلا ، والبعث حقا ، وأشار إلى ذلك إشارة واضحة ، وذلك في قوله تعالى : ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد [ 50 \ 1 - 3 ] فاتضح [ ص: 329 ] بذلك أن المعنى : ق والقرآن المجيد ، إن المنذر الكائن منكم الذي عجبتم من مجيئه لكم منذرا رسول منذر لكم من الله حقا ، وإن البعث الذي أنكرتموه واستبعدتموه غاية الإنكار ، والاستبعاد ، في قوله تعالى عنكم : أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد أي : ذلك الرجع الذي هو البعث رجع بعيد في زعمكم واقع لا محالة ، وإنه حق لا شك فيه ، كما أشار له في قوله تعالى : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ إذ المعنى : أن ما أكلته الأرض من لحومهم ، ومزقته من أجسامهم وعظامهم ، يعلمه جل وعلا ، لا يخفى عليه منه شيء فهو قادر على رده كما كان .
وإحياء تلك الأجساد البالية ، والشعور المتمزقة ، والعظام النخرة كما قدمنا موضحا بالآيات القرآنية ، في سورة يس في الكلام على قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] وكونه صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقا ، يستلزم استلزاما لا شك فيه ، أن القرآن العظيم منزل من الله حقا ، وأنه ليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين .
ولذلك أقسم تعالى ، في مواضع كثيرة ، على أن القرآن أيضا منزل من الله ; كقوله تعالى في أول سورة الدخان : حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة [ 44 \ 1 - 3 ] ، وقوله تعالى في أول سورة الزخرف : حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم [ 43 \ 1 - 4 ] .
قوله تعالى : بل الذين كفروا في عزة وشقاق . قد قدمنا الكلام قريبا على الإضراب بـ " بل " في هذه الآية .
وقوله تعالى هنا : في عزة أي : حمية واستكبار عند قبول الحق ، وقد بين جل وعلا في سورة البقرة أن من أسباب أخذ العزة المذكورة بالإثم للكفار أمرهم بتقوى الله ، وبين أن تلك العزة التي هي الحمية والاستكبار عن قبول الحق من أسباب دخولهم جهنم ، وذلك في قوله عن بعض الكفار الذين يظهرون غير ما يبطنون : وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد [ 2 \ 206 ] .
والظاهر أن وجه إطلاق العزة على الحمية والاستكبار : أن من اتصف بذلك كأنه [ ص: 330 ] ينزل نفسه منزلة الغالب القاهر ، وإن كان الأمر ليس كذلك ، لأن أصل العزة في لغة العرب الغلبة والقهر ، ومنه قوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين الآية [ 63 \ 8 ] ، والعرب يقولون : من عزيز ، يعنون من غلب استلب ، ومنه قول الخنساء :
كأن لم يكونوا حمى يحتشى إذ الناس إذ ذاك من عزيزا
وقوله تعالى عن الخصم الذين تسوروا على داود : وعزني في الخطاب [ 38 \ 23 ] أي غلبني ، وقهرني في الخصومة .
والدليل من القرآن على أن العزة التي أثبتها الله للكفار في قوله : بل الذين كفروا في عزة الآية . وقوله : أخذته العزة بالإثم الآية [ 2 \ 206 ] ، ليست هي العزة التي يراد بها القهر والغلبة بالفعل ، أن الله خص بهذه العزة المؤمنين دون الكافرين والمنافقين ، وذلك في قوله تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ 63 \ 8 ] .
ولذلك فسرها علماء التفسير ، بأنها هي الحمية والاستكبار ، عن قبول الحق .
والشقاق : هي المخالفة ، والمعاندة كما قال تعالى : وإن تولوا فإنما هم في شقاق الآية [ 2 \ 137 ] . قال بعض العلماء : وأصله من الشق الذي هو الجانب ، لأن المخالف المعاند ، يكون في الشق أي في الجانب الذي ليس فيه من هو مخالف له ومعاند .
وقال بعض أهل العلم : أصل الشقاق من المشقة ; لأن المخالف المعاند يجتهد في إيصال المشقة إلى من هو مخالف معاند .
وقال بعضهم : أصل الشقاق من شق العصا وهو الخلاف والتفرق .
قوله تعالى : كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص . كم هنا هي الخبرية ، ومعناها الإخبار عن عدد كثير ، وهي في محل نصب ، على أنها مفعول به لأهلكنا وصيغة الجمع في أهلكنا للتعظيم ، ومن في قوله : من قرن ، مميزة لكم ، والقرن يطلق على الأمة وعلى بعض من الزمن ، أشهر الأقوال فيه أنه مائة سنة ، والمعنى أهلكنا كثيرا من الأمم السالفة من أجل الكفر ، وتكذيب الرسل [ ص: 331 ] فعليكم أن تحذروا يا كفار مكة من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والكفر بما جاء به لئلا نهلككم بسبب ذلك كما أهلكنا به القرون الكثيرة الماضية .
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :
الأولى : أنه أهلك كثيرا من القرون الماضية ، يهدد كفار مكة بذلك .
الثانية : أنهم نادوا أي عند معاينة أوائل الهلاك .
الثالثة : أن ذلك الوقت الذي هو وقت معاينة العذاب ليس وقت نداء ، أي فهو وقت لا ملجأ فيه ، ولا مفر من الهلاك بعد معاينته .
وقد ذكر جل وعلا هذه المسائل الثلاث المذكورة هنا موضحة في آيات كثيرة من كتابه .
أما المسألة الأولى وهي كونه أهلك كثيرا من الأمم ، فقد ذكرها في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح [ 17 \ 17 ] وقوله تعالى : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة الآية [ 22 \ 45 ] . وقوله تعالى : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله الآية [ 14 \ 9 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقد ذكر جل وعلا في آيات كثيرة أن سبب إهلاك تلك الأمم الكفر بالله وتكذيب رسله كقوله في هذه الآية الأخيرة مبينا سبب إهلاك تلك الأمم التي صرح بأنها : لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب [ 14 \ 9 ] .
وقد قدمنا في الكلام على هذه الآية من سورة إبراهيم ، أقوال أهل العلم في قوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم وبينا دلالة القرآن على بعضها ، وكقوله تعالى وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا [ 65 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية إلى قوله : وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا [ 25 \ 37 - 39 ] وقوله [ ص: 332 ] تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] . وقوله تعالى كل كذب الرسل فحق وعيد [ 50 \ 14 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقد بين تعالى أن المراد بذكر إهلاك الأمم الماضية بسبب الكفر وتكذيب الرسل تهديد كفار مكة ، وتخويفهم من أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك إن تمادوا على الكفر وتكذيبه صلى الله عليه وسلم .
ذكر تعالى ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] لأن قوله تعالى : وللكافرين أمثالها تهديد عظيم بذلك .
وقوله تعالى : جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 82 - 83 ] فقوله : وما هي من الظالمين ببعيد فيه تهديد عظيم لمن يعمل عمل قوم لوط من الكفر وتكذيب نبيهم ، وفواحشهم المعروفة ، وقد وبخ تعالى من لم يعتبر بهم ، ولم يحذر أن ينزل به مثل ما نزل بهم ، كقوله في قوم لوط : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] وقوله تعالى : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا [ 25 \ 40 ] .
وقوله فيهم : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] . وقوله فيهم : وإنها لبسبيل مقيم . وقوله فيهم وفي قوم شعيب وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وأما المسألة الثانية : وهي نداؤهم إذا أحسوا بأوائل العذاب ; فقد ذكر تعالى في آيات من كتابه نوعين من أنواع ذلك النداء :
أحدهما : نداؤهم باعترافهم أنهم كانوا ظالمين ، وذلك في قوله تعالى : وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون إلى قوله قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 11 - 15 ] وقوله تعالى : وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين [ 7 \ 4 - 5 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (454)
سُورَةُ ص
صـ 333 إلى صـ 340
الثاني : من نوعي النداء المذكور نداؤهم بالإيمان بالله مستغيثين من ذلك العذاب [ ص: 333 ] الذي أحسوا أوائله ، كقوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ 40 \ 84 ، 3 ] وهذا النوع الأخير هو الأنسب والأليق بالمقام ، لدلالة قوله : ولات حين مناص عليه .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولات حين مناص الذي هو المسألة الثالثة ، معناه : ليس الحين الذي نادوا فيه ، وهو وقت معاينة العذاب ، حين مناص ، أي ليس حين فرار ولا ملجأ من ذلك العذاب الذي عاينوه .
فقوله : ولات هي لا النافية زيدت بعدها تاء التأنيث اللفظية كما زيدت في ثم ، فقيل فيها ثمت ، وفي رب ، فقيل فيها ربت .
وأشهر أقوال النحويين فيها ، أنها تعمل عمل ليس وأنها لا تعمل إلا في الحين خاصة ، أو في لفظ الحين ونحوه من الأزمنة ، كالساعة والأوان ، وأنها لا بد أن يحذف اسمها أو خبرها والأكثر حذف المرفوع منهما وإثبات المنصوب ، وربما عكس ، وهذا قول سيبويه وأشار إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله :
في النكرات أعملت كليس " لا " وقد تلي " لات " و " إن " ذا العملا وما للات في سوى حين عمل
وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل
والمناص مفعل من النوص ، والعرب تقول : ناصه ينوصه إذا فاته وعجز عن إدراكه ، ويطلق المناص على التأخر لأن من تأخر ومال إلى ملجأ ينقذه مما كان يخافه فقد وجد المناص .
والمناص والملجأ والمفر والموئل معناها واحد ، والعرب تقول : استناص إذا طلب المناص ، أي السلامة والمفر مما يخافه ، ومنه قول حارثة بن بدر :
غمر الجراء إذا قصرت عنانه بيدي استناص ورام جري المسحل
والأظهر أن إطلاق النوص على الفوت والتقدم ، وإطلاقه على التأخر والروغان كلاهما راجع إلى شيء واحد ; لأن المناص مصدر ميمي معناه المنطبق على جزئياته ، أن يكون صاحبه في كرب وضيق ، فيعمل عملا ، يكون به خلاصه ونجاته من ذلك .
[ ص: 334 ] فتارة يكون ذلك العمل بالجري والإسراع أمام من يريده بالسوء ، وتارة يكون بالتأخر والروغان حتى ينجو من ذلك .
والعرب تطلق النوص على التأخر . والبوص بالباء الموحدة التحتية على التقدم ، ومنه قول امرئ القيس :
أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص فتقصر عنها خطوة وتبوص
وأصوب الأقوال في لات أن التاء منفصلة عن حين وأنها تعمل عمل ليس خلافا لمن قال : إنها تعمل عمل إن ، ولمن قال : إن التاء متصلة بحين وأنه رآها في الإمام ، وهو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه متصلة بها .
وعلى قول الجمهور منهم القراء السبعة ، أن التاء ليست موصولة بحين ، فالوقف على لات بالتاء عند جميعهم ، إلا الكسائي فإنه يقف عليها بالهاء .
أما قراءة كسر التاء وضمها فكلتاهما شاذة لا تجوز القراءة بها ، وكذلك قراءة كسر النون من حين ، فهي شاذة لا تجوز ، مع أن تخريج المعنى عليها مشكل .
وتعسف له الزمخشري وجها لا يخفى سقوطه ، ورده عليه أبو حيان في البحر المحيط ، واختار أبو حيان أن تخريج قراءة الكسر أن حين مجرورة بمن محذوفة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فنادوا أصل النداء : رفع الصوت ، والعرب تقول : فلان أندى صوتا من فلان ، أي أرفع ، ومنه قوله :
فقلت ادعي وأدعو إن أندا لصوت أن ينادي داعيان
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الأمم الماضية المهلكة ينادون عند معاينة العذاب ، وأن ذلك الوقت ليس وقت نداء إذ لا ملجأ فيه ولا مفر ولا مناص . ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية [ 40 \ 84 - 85 ] . وقوله تعالى : فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 12 - 15 ] إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 335 ] وقد بين تعالى وقوع مثل ذلك في يوم القيامة في آيات من كتابه كقوله تعالى : استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير [ 42 \ 47 ] . وقوله تعالى : فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر [ 75 \ 7 - 11 ] والوزر : الملجأ ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
والناس إلب علينا فيك ليس لنا إلا الرماح وأطراف القنا وزر
وكقوله تعالى : بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا [ 18 \ 58 ] والموئل اسم مكان من وأل يئل إذا وجد ملجأ يعتصم به ، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس :
وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي : ثم ما ينجو .
قوله تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار قريش عجبوا من أجل أن جاءهم رسول منذر منهم ، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، من عجبهم المذكور ، ذكره في غير هذا الموضع وأنكره عليهم وأوضح تعالى سببه ورده عليهم في آيات أخر ، فقال في عجبهم المذكور ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 50 \ 1 - 2 ] .
وقال تعالى في إنكاره عليهم في أول سورة يونس الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ 10 \ 1 - 2 ] وذكر مثل عجبهم المذكور في سورة الأعراف عن قوم نوح وقوم هود ، فقال عن نوح مخاطبا لقومه : أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون [ 7 \ 63 ] .
وقال عن هود مخاطبا لعاد : أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح الآية [ 7 \ 69 ] ، وبين أن سبب عجبهم من كون المنذر منهم أنه بشر مثلهم زاعمين أن الله لا يرسل إليهم أحدا من جنسهم . وأنه لو أراد أن يرسل إليهم أحدا لأرسل إليهم ملكا لأنه ليس بشرا مثلهم وأنه لا يأكل [ ص: 336 ] ولا يشرب ولا يمشي في الأسواق .
والآيات في ذلك كثيرة كقوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 94 - 95 ] وقوله تعالى : أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون [ 23 \ 47 ] وقوله تعالى : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ 33 - 34 ] . وقوله تعالى : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ 25 \ 7 ] وقوله تعالى : ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا الآية [ 64 \ 6 ] . وقوله تعالى : كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر [ 54 \ 23 - 24 ] . وقوله تعالى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا الآية [ 14 \ 10 ] . وقوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [ 6 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون [ 41 \ 13 - 14 ] وقوله تعالى : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين [ 23 \ 24 ] وقوله تعالى : وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين [ 15 \ 6 - 8 ] . وقوله تعالى : أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا [ 25 \ 7 ] وقوله تعالى : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين الآية [ 25 \ 21 - 22 ] . وقوله تعالى عن فرعون مع موسى : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين [ 43 \ 53 ] .
وقد رد الله تعالى على الكفار عجبهم من إرسال الرسل من البشر في آيات من كتابه ، [ ص: 337 ] كقوله تعالى : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] وقوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ 13 \ 38 ] وقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [ 12 \ 109 ] وقوله تعالى : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين [ 21 \ 7 - 8 ] وقوله تعالى : قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 \ 11 ] أي بالرسالة والوحي ولو كان بشرا مثلكم إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم . قد قدمنا الكلام عليه في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها [ 25 \ 42 ] .
قوله تعالى : أؤنزل عليه الذكر من بيننا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار مكة ، أنكروا أن الله خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن عليه وحده ، ولم ينزله على أحد آخر منهم ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء في آيات أخر ، مع الرد على الكفار في إنكارهم خصوصه صلى الله عليه وسلم بالوحي ، كقوله تعالى عنهم : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ 43 \ 31 ] يعنون بالقريتين مكة والطائف ، وبالرجلين من القريتين الوليد بن المغيرة في مكة ، وعروة بن مسعود في الطائف زاعمين أنهما أحق بالنبوة منه .
وقد رد جل وعلا ذلك عليهم في قوله تعالى : أهم يقسمون رحمة ربك [ 43 \ 32 ] لأن الهمزة في قوله : أهم يقسمون ، للإنكار المشتمل على معنى النفي ، وكقوله تعالى : قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله [ 6 \ 124 ] .
وقد رد الله تعالى ذلك عليهم في قوله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون [ 6 \ 124 ] وأشار إلى رد ذلك عليهم في آية ص هذه في قوله : بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما الآية [ 38 \ 8 - 10 ] . [ ص: 338 ] لأنه لا يجعل الرسالة حيث يشاء ، ويخص بها من يشاء ، إلا من عنده خزائن الرحمة . وله ملك السماوات والأرض .
وقوله تعالى : أؤنزل عليه الذكر من بيننا قد بين في موضع آخر أن ثمود قالوا مثله لنبي الله صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وذلك في قوله تعالى عنهم : أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر [ 54 \ 25 ] وقد رد الله تعالى عليهم ذلك في قوله : سيعلمون غدا من الكذاب الأشر [ 54 \ 26 ] .
قوله تعالى : أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما . قد قدمنا بعض الكلام عليه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] .
قوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح الآية [ 22 \ 42 ] وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب . وقد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : ما عندي ما تستعجلون به . [ 6 \ 57 ] وفي سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به الآية [ 10 \ 15 ] وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة الآية [ 13 \ 6 ] . وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب الآية [ 22 \ 47 ] .
وقد قدمنا أن القط ، النصيب من الشيء ، أي عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به .
وأن أصل القط كتاب الجائزة ; لأن الملك يكتب فيه النصيب الذي يعطيه لذلك الإنسان ، وجمعه قطوط ، ومنه قول الأعشى :
[ ص: 339 ]
ولا الملك النعمان حين لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق
وقوله : ويأفق أي يفضل بعضهم على بعض في العطاء المكتوب في القطوط .
قوله تعالى : إنا سخرنا الجبال معه إلى قوله : أواب . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنبياء ، في الكلام على قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير الآية [ 21 \ 79 ] .
قوله تعالى : وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك . قد قدمنا الكلام على مثل هذه الآية من الآيات القرآنية التي يفهم منها صدور بعض الشيء ، من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وبينا كلام أهل الأصول في ذلك في سورة طه ، في الكلام على قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] .
واعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة ، مما لا يليق بمنصب داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، كله راجع إلى الإسرائيليات ، فلا ثقة به ، ولا معول عليه ، وما جاء منه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء .
قوله تعالى : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله . قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنا جعلناك خليفة في الأرض ، قد بينا الحكم الذي دل عليه ، في سورة البقرة ، في الكلام على قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة الآية [ 2 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله قد أمر نبيه داود فيه ، بالحكم بين الناس بالحق ونهاه فيه عن اتباع الهوى ، وأن اتباع الهوى ، علة للضلال عن سبيل الله ، لأن الفاء في قوله فيضلك عن سبيل الله تدل على العلية .
وقد تقرر في الأصول ، في مسلك الإيماء والتنبيه ، أن الفاء من حروف التعليل كقوله : سهى فسجد ، وسرق فقطعت يده ، أو لعلة السهو في الأول ، ولعلة السرقة في الثاني ، وأتبع ذلك بالتهديد لمن اتبع الهوى ، فأضله ربنا عن سبيل الله ، في قوله تعالى بعده يليه : إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب [ 38 \ 26 ] .
[ ص: 340 ] ومعلوم أن نبي الله داود لا يحكم بغير الحق ، ولا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله ، ولكن الله تعالى ، يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام ، وينهاهم ليشرع لأممهم .
ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم ، بمثل ما أمر به داود ، ونهاه أيضا عن مثل ذلك ، في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط [ 15 \ 42 ] . وقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك [ 15 \ 49 ] وكقوله تعالى : ولا تطع الكافرين والمنافقين [ 33 \ 48 ] وقوله تعالى : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] وقوله تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه الآية [ 18 \ 28 ] .
وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] .
وبينا أن من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب ، والمراد بذلك الخطاب غيره يقينا قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما الآية [ 17 \ 23 ] ، ومن المعلوم أن أباه صلى الله عليه وسلم توفي قبل ولادته ، وأن أمه ماتت وهو صغير ، ومع ذلك فإن الله يخاطبه بقوله تعالى : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ومعلوم أنه لا يبلغ عنده الكبر أحدهما ، ولا كلاهما لأنهما قد ماتا قبل ذلك بزمان .
فتبين أن أمره تعالى لنبيه ونهيه له في قوله فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة الآية ، إنما يراد به التشريع على لسانه لأمته ، ولا يراد به هو نفسه صلى الله عليه وسلم ، وقد قدمنا هناك أن من أمثال العرب . إياك أعني واسمعي يا جارة ، وذكرنا في ذلك رجز سهل بن مالك الفزاري الذي خاطب به امرأة ، وهو يقصد أخرى وهي أخت حارثة بن لأم الطائي وهو قوله :
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (455)
سُورَةُ ص
صـ 341 إلى صـ 348
وذكرنا هناك الرجز الذي أجابته به المرأة ، وقول بعض أهل العلم : إن الخطاب في [ ص: 341 ] قوله : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما الآية ، هو الخطاب بصيغة المفرد ، الذي يراد به عموم كل من يصح خطابه . كقول طرفة بن العبد في معلقته :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
أي ستبدي لك ويأتيك أيها الإنسان الذي يصح خطابك ، وعلى هذا فلا دليل في الآية ، غير صحيح ، وفي سياق الآيات قرينة قرآنية واضحة دالة على أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم . وعليه فالاستدلال بالآية ، استدلال قرآني صحيح ، والقرينة القرآنية المذكورة ، هي أنه تعالى قال في تلك الأوامر والنواهي التي خاطب بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، التي أولها : وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر الآية . ما هو صريح ، في أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم ، لا عموم كل من يصح منه الخطاب ، وذلك في قوله تعالى : ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا [ 17 \ 39 ] .
قوله تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [ 15 \ 85 ] وفي آخر سورة قد أفلح المؤمنون . في الكلام على قوله : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا الآية [ 23 \ 115 ] .
قوله تعالى : ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار . الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي ، ذلك أي خلقنا السماوات والأرض باطلا هو ظن الذين كفروا بنا ، والنفي في قوله ما خلقنا ، منصب على الحال لا على عاملها الذي هو خلقنا ، لأن المنفي بأداة النفي التي هي ما : ليس خلقه للسماوات والأرض ، بل هو ثابت ، وإنما المنفي بها ، هو كونه باطلا ، فهي حال شبه العمدة وليست فضلة صريحة ; لأن النفي منصب عليها هي خاصة ، والكلام لا يصح دونها . والكلام في هذا معلوم في محله ، ونفي كون خلقه تعالى للسماوات والأرض باطلا نزه عنه نفسه ونزهه عنه عباده الصالحون ، لأنه لا يليق بكماله وجلاله تعالى .
أما تنزيهه نفسه عنه ففي قوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ 23 \ 115 ] .
[ ص: 342 ] ثم نزه نفسه ، عن كونه خلقهم عبثا ، بقوله تعالى : فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 116 ] أي : تعالى وتقدس وتنزه عن كونه خلقهم عبثا .
وأما تنزيه عباده الصالحين له عن ذلك ، ففي قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ، فقوله تعالى عنهم سبحانك أي تنزيها لك ، عن أن تكون خلقت السماوات والأرض باطلا . فقولهم سبحانك تنزيه له ، كما نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى : فتعالى الله الملك الحق الآية [ 23 \ 116 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية : فويل للذين كفروا من النار يدل على أن من ظن بالله ما لا يليق به جل وعلا ، فله النار .
وقد بين تعالى في موضع آخر أن من ظن بالله ما لا يليق به أرداه وجعله من الخاسرين ، وجعل النار مثواه . وذلك في قوله تعالى : ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم الآية [ 41 \ 22 - 24 ] .
وقولنا في أول هذا المبحث الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي قد قدمنا إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] ، وبينا هناك أن الفعل نوعان ، أحدهما الفعل الحقيقي ، والثاني الفعل الصناعي ، أما الفعل الحقيقي ، فهو الحدث المتجدد المعروف عند النحويين بالمصدر .
وأما الفعل الصناعي ، فهو المعروف في صناعة علم النحو بالفعل الماضي ، والفعل المضارع ، وفعل الأمر على القول بأنه مستقل عن المضارع .
ومعلوم أن الفعل الصناعي ينحل عند النحويين ، عن مصدر وزمن ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
[ ص: 343 ] المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن
وعند جماعات من البلاغيين ، أنه ينحل عن مصدر ، وزمن ونسبة ، وهو الأقرب ، كما حرره بعض علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية ، وبذلك تعلم أنه لا خلاف بينهم في أن المصدر والزمن كامنان في الفعل الصناعي ، فيصح رجوع الإشارة والضمير إلى كل من المصدر والزمن الكامنين في الفعل الصناعي .
فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن في الفعل ، قوله هنا : ذلك ظن الذين كفروا الآية ، فإن المصدر الذي هو الخلق كامن في الفعل الصناعي ، الذي هو الفعل الماضي في قوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك أي خلق السماوات المذكور الكامن في مفهوم خلقنا ظن الذين كفروا .
ومثال رجوع الإشارة إلى الزمن الكامن في مفهوم الفعل الصناعي ، قوله تعالى : ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد [ 50 \ 20 ] أي ذلك الزمن الكامن في الفعل هو يوم الوعيد .
ومثال رجوع الضمير للمصدر الكامن في مفهوم الفعل قوله تعالى : اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 \ 8 ] فقوله : هو ، أي العدل الكامن في مفهوم اعدلوا ، كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار . أم في قوله : أم نجعل الذين ، وقوله : أم نجعل المتقين ، كلتاهما ، منقطعة وأم المنقطعة ، فيها لعلماء العربية ثلاثة مذاهب :
الأول : أنها بمعنى همزة استفهام الإنكار .
الثاني : أنها بمعنى بل الإضرابية .
والثالث : أنها تشمل معنى الإنكار والإضراب معا ، وهو الذي اختاره بعض المحققين .
وعليه فالإضراب بها هنا انتقالي لا إبطالي ووجه الإنكار بها عليهم واضح ; لأن [ ص: 344 ] من ظن بالله الحكيم الخبير ، أنه يساوي بين الصالح المصلح ، والمفسد الفاجر ، فقد ظن ظنا قبيحا جديرا بالإنكار .
وقد بين جل وعلا هذا المعنى ، في غير هذا الموضع ، وذم حكم من يحكم به ، وذلك في قوله تعالى في سورة الجاثية : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ 45 \ 21 ] .
قوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب . قوله تعالى : كتاب خبر مبتدأ محذوف أي : هذا كتاب ، وقد ذكر جل وعلا ، في هذه الآية الكريمة ، أنه أنزل هذا الكتاب ، معظما نفسه جل وعلا ، بصيغة الجمع ، وأنه كتاب مبارك وأن من حكم إنزاله أن يتدبر الناس آياته ، أي يتفهموها ويتعقلوها ويمعنوا النظر فيها ، حتى يفهموا ما فيها من أنواع الهدى ، وأن يتذكر أولوا الألباب ، أي يتعظ أصحاب العقول السليمة ، من شوائب الاختلال .
وكل ما ذكره في هذه الآية الكريمة جاء واضحا في آيات أخر .
أما كونه جل وعلا ، هو الذي أنزل هذا القرآن ، فقد ذكره في آيات كثيرة كقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] وقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة مباركة [ 44 \ 3 ] وقوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ 3 \ 7 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وأما كون هذا الكتاب مباركا ، فقد ذكره في آيات من كتابه كقوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه الآية [ 6 \ 92 ] . وقوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [ 6 \ 155 ] . والمبارك كثير البركات ، من خير الدنيا والآخرة .
ونرجو الله القريب المجيب ، إذ وفقنا لخدمة هذا الكتاب المبارك ، أن يجعلنا مباركين أينما كنا ، وأن يبارك لنا وعلينا ، وأن يشملنا ببركاته العظيمة في الدنيا والآخرة ، وأن يعم جميع إخواننا المسلمين ، الذين يأتمرون بأوامره بالبركات والخيرات ، في الدنيا والآخرة ، إنه قريب مجيب .
[ ص: 345 ] وأما كون تدبر آياته ، من حكم إنزاله : فقد أشار إليه في بعض الآيات ، بالتحضيض على تدبره ، وتوبيخ من لم يتدبره ، كقوله تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] . وقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] وقوله تعالى : أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [ 23 \ 68 ] .
وأما كون تذكر أولي الألباب من حكم إنزاله ، فقد ذكره في غير هذا الموضع ، مقترنا ببعض الحكم الأخرى ، التي لم تذكر في آية ( ص ) هذه كقوله تعالى في سورة إبراهيم هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب [ 14 \ 52 ] فقد بين في هذه الآية الكريمة ، أن تذكر أولي الألباب ، من حكم إنزاله مبينا منها حكمتين أخريين ، من حكم إنزاله ، وهما إنذار الناس به ، وتحقيق معنى لا إله إلا الله ، وكون إنذار الناس وتذكر أولي الألباب ، من حكم إنزاله ، ذكره في قوله تعالى : المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 1 - 2 ] لأن اللام في قوله لتنذر ، متعلقة بقوله : أنزل ، والذكرى اسم مصدر بمعنى التذكير ، والمؤمنون في الآية لا يخفى أنهم هم أولو الألباب .
وذكر حكمة الإنذار في آيات كثيرة كقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] .
وقوله تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] . وقوله تعالى : تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم الآية [ 36 \ 5 - 6 ] . وقوله تعالى : لينذر من كان حيا الآية [ 36 \ 70 ] .
وذكر في آيات أخر ، أن من حكم إنزاله ، الإنذار والتبشير معا ، كقوله تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] . وقوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات الآية [ 18 \ 1 - 2 ] .
وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله أن يبين صلى الله عليه وسلم للناس ما أنزل إليهم ولأجل أن يتفكروا ، وذلك قوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ 16 \ 44 ] .
[ ص: 346 ] وقد قدمنا مرارا كون لعل من حروف التعليل ، وذكر حكمة التبيين المذكورة مع حكمة الهدى والرحمة ، في قوله تعالى : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 16 \ 64 ] .
وبين أن من حكم إنزاله ، تثبيت المؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين في قوله تعالى : قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين [ 16 \ 102 ] .
وبين أن من حكم إنزاله ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يحكم بين الناس بما أراه الله ، وذلك في قوله تعالى : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله [ 4 \ 105 ] .
والظاهر أن معنى قوله : بما أراك الله أي بما علمك من العلوم في هذا القرآن العظيم ، بدليل قوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا الآية [ 42 \ 52 ] . وقوله تعالى : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] .
وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله إخراج الناس من الظلمات إلى النور وذلك في قوله تعالى : الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم الآية [ 14 \ 1 ] .
وبين أن من حكم إنزاله التذكرة لمن يخشى في قوله تعالى : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى [ 20 \ 1 - 3 ] أي : ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى .
وهذا القصر على التذكرة إضافي ، وكذلك القصر في قوله تعالى الذي ذكرناه قبل هذا : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه الآية [ 16 \ 64 ] ، بدليل الحكم الأخرى التي ذكرناها .
وبين أن من حكم إنزاله قرآنا عربيا وتصريف الله فيه من أنواع الوعيد أن يتقي [ ص: 347 ] الناس الله ، أو يحدث لهم هذا الكتاب ذكرا ، أي موعظة وتذكرا ، يهديهم إلى الحق ، وذلك في قوله تعالى : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 20 \ 113 ] والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا . قد قدمنا الكلام على هذه الآية ، وعلى ما يذكره المفسرون فيها ، من الروايات التي لا يخفى سقوطها ، وأنها لا تليق بمنصب النبوة ، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] . وما روي عنه من السلف من جملة تلك الروايات ، أن الشيطان أخذ خاتم سليمان ، وجلس على كرسيه وطرد سليمان إلى آخره يوضح بطلانه ، قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] واعتراف الشيطان بذلك في قوله : إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 40 ] .
قوله تعالى : ووهبنا لداود سليمان . ذكر في هذه الآية الكريمة ، أنه وهب سليمان لداود ، وقد بين في سورة النمل أن الموهوب ورث الموهوب له ، وذلك في قوله تعالى : وورث سليمان داود [ 27 \ 16 ] .
وقد بينا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى عن زكريا : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب الآية [ 19 \ 5 - 6 ] أنها وراثة علم ودين لا وراثة مال .
قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا . قد قدمنا الكلام على هذه الآية ، وعلى ما يذكره المفسرون فيها ، من الروايات التي لا يخفى سقوطها ، وأنها لا تليق بمنصب النبوة ، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] . وما روي عنه من السلف من جملة تلك الروايات ، أن الشيطان أخذ خاتم سليمان ، وجلس على كرسيه وطرد سليمان إلى آخره يوضح بطلانه ، قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] واعتراف الشيطان بذلك في قوله : إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 40 ] .
قوله تعالى : فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب . قد قدمنا الكلام عليه موضحا بالآيات القرآنية في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره الآية [ 21 \ 81 ] .
وفسرنا هناك قوله هنا حيث أصاب وذكرنا هناك أوجه الجمع بين قوله هنا : رخاء ، وقوله هناك : ولسليمان الريح عاصفة [ 21 \ 81 ] ووجه الجمع أيضا بين عموم الجهات المفهوم من قوله هنا : حيث أصاب أي : حيث أراد وبين خصوص الأرض المباركة المذكورة هناك في قوله : تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها الآية [ 21 \ 81 ] .
[ ص: 348 ] قوله تعالى : والشياطين كل بناء وغواص . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين [ 21 \ 82 ] .
قوله تعالى : واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب إلى قوله لأولي الألباب . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية مع التعرض لإزالة ما فيه من الإشكال في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : وأيوب إذ نادى ربه إلى قوله : وذكرى للعابدين .
قوله تعالى : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق . أمر الله جل وعلا ، نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ، أن يذكر عبده إبراهيم ولم يقيد ذلك الذكر بكونه في الكتاب ، مع أنه قيده بذلك في سورة مريم ، في قوله تعالى : واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا الآية [ 19 \ 41 ] .
قوله تعالى : واذكر إسماعيل واليسع . أطلق هنا أيضا الأمر بذكر إسماعيل وقيده في سورة مريم بكونه في الكتاب في قوله تعالى : واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد الآية [ 19 \ 54 ] ، وفي ذلك إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم مأمور أيضا بذكر جميع المذكورين في الكتاب . ولذلك جاء ذكرهم كلهم في القرآن العظيم كما لا يخفى .
قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف أتراب . قد قدمنا الكلام عليه ، في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف عين [ 37 \ 48 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (456)
سُورَةُ الزُّمَرِ
صـ 349 إلى صـ 356
قوله تعالى : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن نعيم الجنة ، لا نفاد له ، أي : لا انقطاع له ولا زوال ، ذكره جل وعلا في آيات أخر كقوله تعالى فيه : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] [ ص: 349 ] وقوله تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] .
قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار . قد قدمنا ما يوضحه ، من الآيات القرآنية في مواضع متعددة ، من هذا الكتاب المبارك ، ذكرنا بعضها في سورة البقرة ، في الكلام على قوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا الآية [ 2 \ 166 ] ، وذكرنا بعضه في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا الآية [ 7 \ 38 ] وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين .
قد تقدم إيضاحه ، مع بعض المباحث في سورة البقرة ، في الكلام على قوله تعالى : إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 \ 34 ] .
قوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة هود ، وذكرنا الأحكام المتعلقة بالآيات ، في الكلام على قوله تعالى عن نبيه نوح : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية [ 11 \ 29 ] .
قوله تعالى : ولتعلمن نبأه بعد حين . الحين المذكور هنا ، قال بعض العلماء : المراد به بعد الموت ، ويدل له ما قدمنا في سورة الحجر ، في الكلام على قوله تعالى : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [ 15 \ 99 ] .
وقال بعض العلماء : الحين المذكور هنا ، هو يوم القيامة ولا منافاة بين القولين ; لأن الإنسان بعد الموت تتبين له حقائق الهدى والضلال .
واللام في لتعلمن موطئة للقسم ، وقد أكد في هذه الآية الكريمة أنهم سيعلمون نبأ القرآن أي صدقه ، وصحة جميع ما فيه بعد حين بالقسم ، ونون التوكيد .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار بأنهم سيعلمون نبأه بعد حين ، قد أشار إليه تعالى ، في سورة الأنعام ، في قوله تعالى : وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون [ 6 \ 66 - 67 ] .
[ ص: 350 ] قال غير واحد من العلماء : لكل نبإ مستقر ، أي : لكل خبر حقيقة ووقوع ، فإن كان حقا تبين صدقه ولو بعد حين ، وإن كان كذبا تبين كذبه ، وستعلمون صدق هذا القرآن ولو بعد حين .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الزُّمَرِ
[ ص: 351 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . قَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا ، إِذَا ذَكَّرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَعْضِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ، الْمُتَضَمِّنَة ِ صِفَاتَهُ الْعُلْيَا .
فَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ ، لَمَّا ذَكَرَ تَنْزِيلَهُ كِتَابَهُ ، بَيَّنَ أَنَّ مَبْدَأَ تَنْزِيلِهِ كَائِنٌ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا ، وَذَكَرَ اسْمَهُ اللَّهَ ، وَاسْمَهُ الْعَزِيزَ ، وَالْحَكِيمَ ، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [ 45 \ 1 - 3 ] ، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَةَ [ 46 \ 1 - 3 ] .
وَقَدْ تَكَرَّرَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ ، ذِكْرُهُ بَعْضَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ، بَعْدَ ذِكْرِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [ 40 \ 1 - 3 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ فُصَّلَتْ : حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ 41 \ 1 - 2 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هُودٍ : الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [ 11 \ 1 ] وَقَوْلِهِ فِي فُصِّلَتْ : وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [ 41 \ 41 - 42 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ يس تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ [ 36 \ 5 - 6 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الْآيَةَ [ 26 \ 192 - 193 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ الْآيَةَ [ 69 \ 43 - 44 ] .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَهُ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى الْعَظِيمَةَ ، بَعْدَ ذِكْرِهِ تَنْزِيلَ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، يَدُلُّ بِإِيضَاحٍ ، عَلَى عَظَمَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ وَأَهَمِّيَّةِ نُزُولِهِ ، [ ص: 352 ] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قوله تعالى : فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص . أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم . في هذه الآية الكريمة ، أن يعبده في حال كونه ، مخلصا له الدين ، أي مخلصا له في عبادته ، من جميع أنواع الشرك صغيرها وكبيرها ، كما هو واضح من لفظ الآية .
والإخلاص ، إفراد المعبود بالقصد ، في كل ما أمر بالتقرب به إليه ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من كون الإخلاص في العبادة لله وحده ، لا بد منه ، جاء في آيات متعددة ، وقد بين جل وعلا ، أنه ما أمر بعبادة ، إلا عبادة يخلص له العابد فيها .
أما غير المخلص فكل ما أتى به من ذلك ، جاء به من تلقاء نفسه ، لا بأمر ربه ، قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين الآية [ 98 \ 5 ] ، وقال جل وعلا : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين إلى قوله تعالى : قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ 39 \ 14 ، 15 ] .
وقد قدمنا الكلام على العمل الصالح ، وأنه لا بد فيه من الإخلاص ، في أول سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات الآية . وفي غير ذلك من المواضع .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ألا لله الدين الخالص أي : التوحيد الصافي من شوائب الشرك ، أي : هو المستحق لذلك وحده ، وهو الذي أمر به .
وقول من قال من العلماء : إن المراد بالدين الخالص كلمة لا إله إلا الله موافق لما ذكرناه . والعلم عند الله تعالى .
ثم لما ذكر جل وعلا إخلاص العبادة له وحده ، بين شبهة الكفار التي احتجوا بها للإشراك به تعالى ، في
قوله تعالى هنا : والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . فبين أنهم يزعمون أنهم ما عبدوا الأصنام ، إلا لأجل أن تقربهم من الله زلفى ، والزلفى : القرابة .
[ ص: 353 ] فقوله : زلفى ، ما ناب عن المطلق من قوله ليقربونا ، أي ليقربونا إليه قرابة تنفعنا بشفاعتهم في زعمهم .
ولذا كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .
وقد قدمنا في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : وابتغوا إليه الوسيلة [ 6 \ 35 ] أن هذا النوع من ادعاء الشفعاء ، واتخاذ المعبودات من دون الله وسائط من أصول كفر الكفار .
وقد صرح تعالى بذلك في سورة يونس في قوله جل وعلا : ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ 10 \ 18 ] .
فصرح تعالى بأن هذا النوع ، من ادعاء الشفعاء شرك بالله ، ونزه نفسه الكريمة عنه ، بقوله جل وعلا سبحانه وتعالى عما يشركون وأشار إلى ذلك في آية الزمر هذه ; لأنه جل وعلا لما قال عنهم : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون [ 39 \ 3 ] أتبع ذلك بقوله تعالى : إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار [ 39 \ 3 ] .
وقوله : كفار ، صيغة مبالغة ، فدل ذلك على أن الذين قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى جامعون بذلك ، بين الكذب والمبالغة في الكفر بقولهم ذلك ، وسيأتي إن شاء الله لهذا زيادة إيضاح في سورة الناس .
قوله تعالى : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار . قد قدمنا الآيات الموضحة ، بكثرة في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] .
قوله تعالى : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه خلق بني آدم من نفس واحدة هي أبوهم [ ص: 354 ] آدم ، ثم جعل من تلك النفس ، زوجها يعني حواء . أي : وبث جميع بني آدم منهما ، وأوضح هذا في مواضع أخر من كتابه ، كقوله تعالى في أول سورة النساء : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] وقوله في الأعراف : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] ، وتأنيث الوصف ، بقوله واحدة ، مع أن الموصوف به مذكر ، وهو آدم نظرا إلى تأنيث لفظ النفس ، وإن كان المراد بها مذكرا ، ونظير ذلك من كلام العرب قوله :
أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال
قوله تعالى : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج . قد قدمنا إيضاح هذه الأزواج الثمانية بنص القرآن العظيم ، في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : والخيل المسومة والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] .
قوله تعالى : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] وبينا هناك المراد بالظلمات الثلاث المذكورة هنا .
قوله تعالى : إن تكفروا فإن الله غني عنكم . قد بين جل وعلا ، في هذه الآية الكريمة ، أنه غني عن خلقه الغنى المطلق ، وأنه لا يضره كفرهم به ، والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة ، كقوله تعالى وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] وقوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد [ 64 \ 6 ] ، وقوله تعالى : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني الآية [ 10 \ 68 ] . وقوله تعالى : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] وقوله تعالى : والله الغني وأنتم الفقراء [ 47 \ 38 ] ، وقد أوضحنا هذا بالآيات في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
[ ص: 355 ] قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم . قد قدمنا إيضاحه مع إزالة الإشكال ، والجواب عن الأسئلة الواردة ، على تلك الآيات في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وأوضحنا ذلك ، مع إزالة الإشكال في بعض الآيات ، في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الآية [ 16 \ 25 ] .
قوله تعالى : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس ، في الكلام على قوله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما الآية [ 10 \ 12 ] .
قوله تعالى : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار . قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الإشارة إلى بحث أصوله في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ 15 \ 3 ] .
قوله تعالى : وأرض الله واسعة . الظاهر أن معنى الآية أن الإنسان إذا كان في محل لا يتمكن فيه من إقامة دينه على الوجه المطلوب ، فعليه أن يهاجر منه ، في مناكب أرض الله الواسعة ، حتى يجد محلا تمكنه فيه إقامة دينه .
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها [ 4 \ 97 ] . وقوله تعالى : ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون [ 29 \ 56 ] ، ولا يخفى أن الترتيب بالفاء في قوله : فإياي فاعبدون على قوله : إن أرضي واسعة دليل واضح على ذلك .
قوله تعالى : قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين .
[ ص: 356 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له ، من أوجه في سورة يونس ، في الكلام على قوله تعالى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين [ 10 \ 45 ] .
قوله تعالى : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده . قد قدمنا الآيات الموضحة له ، في سورة الأنبياء ، في الكلام على قوله تعالى : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم الآية [ 21 \ 39 ] ، وذكرنا طرفا من ذلك ، في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا [ 17 \ 8 ] .
قوله تعالى : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله . ما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من تحقيق معنى لا إله إلا الله ، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة الفاتحة ، في الكلام على قوله تعالى : إياك نعبد [ 1 \ 5 ] .
قوله تعالى : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه . أظهر الأقوال في الآية الكريمة ، أن المراد بالقول ، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، من وحي الكتاب والسنة ، ومن إطلاق القول على القرآن قوله تعالى : أفلم يدبروا القول الآية [ 23 \ 68 ] . وقوله تعالى : إنه لقول فصل وما هو بالهزل [ 86 \ 13 - 14 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فيتبعون أحسنه [ 39 \ 18 ] أي : يقدمون الأحسن ، الذي هو أشد حسنا ، على الأحسن الذي هو دونه في الحسن ، ويقدمون الأحسن مطلقا على الحسن . ويدل لهذا آيات من كتاب الله .
أما الدليل على أن القول الأحسن المتبع . ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي ، فهو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم [ 39 \ 55 ] وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة : فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها [ 7 \ 145 ] .
وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن ، فقد دلت عليه آيات من كتابه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (457)
سُورَةُ الزُّمَرِ
صـ 357 إلى صـ 364
واعلم أولا أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب ، وأن المندوب أحسن من [ ص: 357 ] مطلق الحسن ، فإذا سمعوا مثلا قوله تعالى : وافعلوا الخير لعلكم تفلحون [ 22 \ 77 ] قدموا فعل الخير الواجب ، على فعل الخير المندوب ، وقدموا هذا الأخير ، على مطلق الحسن الذي هو الجائز ، ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب ، لا على مطلق الحسن ، كما قال تعالى : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] وقال تعالى ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون [ 39 \ 35 ] كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] ، وبينا هناك دلالة الآيات على أن المباح حسن ، كما قال صاحب المراقي :
ما ربنا لم ينه عنه حسن وغيره القبيح والمستهجن
ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] فالأمر في قوله : فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به للجواز ، والله لا يأمر إلا بحسن . فدل ذلك على أن الانتقام حسن ، ولكن الله بين أن العفو والصبر ، خير منه وأحسن في قوله : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، كقوله تعالى في إباحة الانتقام : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [ 42 \ 43 ] ، مع أنه بين أن الصبر والغفران خير منه ، في قوله بعده : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] ، وكقوله في جواز الانتقام : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ 4 \ 148 ] مع أنه أشار إلى أن العفو خير منه ، وأنه من صفاته جل وعلا مع كمال قدرته وذلك في قوله بعده : إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] . وكقوله جل وعلا مثنيا على من تصدق ، فأبدى صدقته : إن تبدوا الصدقات فنعما هي [ 2 \ 271 ] ثم بين أن إخفاءها وإيتاءها الفقراء ، خير من إبدائها الذي مدحه بالفعل الجامد ، الذي هو لإنشاء المدح الذي هو نعم ، في قوله : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم [ 2 \ 271 ] .
[ ص: 358 ] وكقوله في نصف الصداق اللازم ، للزوجة بالطلاق ، قبل الدخول ، فنصف ما فرضتم [ 2 \ 237 ] ولا شك أن أخذ كل واحد من الزوجين النصف حسن ، لأن الله شرعه في كتابه في قوله : فنصف ما فرضتم مع أنه رغب كل واحد منهما ، أن يعفو للآخر عن نصفه ، وبين أن ذلك أقرب للتقوى وذلك في قوله بعدهوأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم [ 2 \ 237 ] .
وقد قال تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 \ 40 ] ثم أرشد إلى الأحسن بقوله : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ 42 \ 40 ] وقال تعالى : والجروح قصاص [ 5 \ 45 ] ثم أرشد إلى الأحسن ، في قوله : فمن تصدق به فهو كفارة له [ 5 \ 45 ] .
واعلم أن في هذه الآية الكريمة أقوالا غير الذي اخترنا .
منها ما روي عن ابن عباس ، في معنى فيتبعون أحسنه قال : " هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن ، وينكف عن القبيح ، فلا يتحدث به " .
وقيل يستمعون القرآن وغيره ، فيتبعون القرآن .
وقيل : إن المراد بأحسن القول لا إله إلا الله ، وبعض من يقول بهذا يقول : إن الآية نزلت فيمن كان يؤمن بالله قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ، كزيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، إلى غير ذلك من الأقوال .
قوله تعالى : أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار . أظهر القولين في الآية الكريمة ، أنهما جملتان مستقلتان ، فقوله : أفمن حق عليه كلمة العذاب جملة مستقلة ، لكن فيها حذفا ، وحذف ما دل المقام عليه واضح ، لا إشكال فيه .
والتقدير : أفمن حق عليه كلمة العذاب ، تخلصه أنت منه ، والاستفهام مضمن معنى النفي ، أي لا تخلص أنت يا نبي الله أحدا سبق في علم الله أنه يعذبه من ذلك العذاب ، وهذا المحذوف دل عليه قوله بعده أفأنت تنقذ من في النار .
وقد قدمنا مرارا قولي المفسرين في أداة الاستفهام المقترنة بأداة عطف كالفاء والواو [ ص: 359 ] وثم كقوله هنا : أفمن حق وقوله : أفأنت تنقذ .
أما القول بأن الكلام جملة واحدة شرطية ، كما قال الزمخشري : أصل الكلام : أمن حق عليه كلمة العذاب ، فأنت تنقذه جملة شرطية ، دخل عليها همزة الإنكار ، والفاء فاء الجزاء ، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب ، تقديره : أأنت مالك أمرهم ، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه ، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع من في النار موضع الضمير ، فالآية على هذا جملة واحدة ، فإنه لا يظهر كل الظهور .
واعلم أن ما دلت عليه هذه الآية الكريمة قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة يس في الكلام على قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم الآية [ 36 \ 7 ] ، وبينا دلالة الآيات على المراد بكلمة العذاب .
قوله تعالى : لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية . ما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من وعد أهل الجنة بالغرف المبنية ، ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى في سورة سبأ إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] . وقوله تعالى في سورة التوبة : وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن الآية [ 9 \ 72 ] . وقوله تعالى في سورة الصف : يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم [ 61 \ 12 ] ، لأن المساكن الطيبة المذكورة في التوبة والصف صادقة بالغرف المذكورة في الزمر وسبأ ، وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة الفرقان ، في الكلام على قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا الآية [ 25 \ 75 ] .
قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض . الينابيع : جمع ينبوع ، وهو الماء الكثير .
وقوله : فسلكه أي أدخله ، كما قدمنا إيضاحه بشواهده العربية ، والآيات القرآنية في سورة هود ، في الكلام على قوله تعالى : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين الآية [ 11 \ 40 ] .
[ ص: 360 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من سورة الزمر ، قد أوضحناه في أول سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها الآية [ 34 \ 2 ] .
قوله تعالى : ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه . قد قدمنا الكلام على ما يماثله من الآيات في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى : ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم [ 30 \ 22 ] وأحلنا عليه في سورة فاطر ، في قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها الآية [ 35 \ 27 ] .
قوله تعالى : ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب . قوله : ثم يهيج أي : ثم بعد نضارة ذلك الزرع وخضرته ييبس ، ويتم جفافه ويثور من منابته فتراه أيها الناظر مصفرا يابسا ، قد زالت خضرته ونضارته . ثم يجعله حطاما أي فتاتا ، متكسرا ، هشيما ، تذروه الرياح ، إن في ذلك المذكور من حالات ذلك الزرع ، المختلف الألوان ، لذكرى أي عبرة وموعظة وتذكيرا لأولي الألباب ، أي لأصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال ، فقد ذكر جل وعلا مصير هذا الزرع على سبيل الموعظة والتذكير ، وبين في موضع آخر ، أن ما وعظ به خلقه هنا من حالات هذا الزرع شبيه أيضا بالدنيا . فوعظ به في موضع وشبه به حالة الدنيا في موضع آخر ، وذلك في قوله تعالى في سورة الحديد : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما [ 257 \ 20 ] . ويبين في سورة الروم أن من أسباب اصفراره المذكور إرسال الريح عليه ، وذلك في قوله : ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون [ 30 \ 51 ] .
قوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه . قد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ 6 \ 125 ] .
[ ص: 361 ] قوله تعالى : ومن يضلل الله فما له من هاد . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ 16 \ 37 ] ، وفي غير ذلك من الموضع .
قوله تعالى : قرآنا عربيا غير ذي عوج . قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ولم يجعل له عوجا قيما الآية [ 18 \ 1 - 2 ] . وقوله في هذه الآية الكريمة : قرآنا انتصب على الحال وهي حال مؤكدة ، والحال في الحقيقة هو عربيا ، وقرآنا توطئة له وقيل انتصب على المدح .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : عربيا ، أي : لأنه بلسان عربي كما قال تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] . وقال تعالى في أول سورة يوسف : إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 43 \ 3 ] . وقال في أول الزخرف : إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 43 \ 3 ] . وقال في طه وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 20 \ 113 ] وقال تعالى في فصلت : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي [ 41 \ 44 ] وقال تعالى في الشعراء : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] وقال تعالى في سورة الشورى : وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها الآية [ 42 \ 7 ] .
وقال تعالى في الرعد : وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق [ 13 \ 37 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وهذه الآيات القرآنية تدل على شرف اللغة العربية وعظمها ، دلالة لا ينكرها إلا مكابر .
[ ص: 362 ] قوله تعالى : والذي جاء بالصدق . أوضح جل وعلا أن الذي في هذه الآية بمعنى الذين ، بدليل قوله بعده : أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين [ 29 \ 33 - 34 ] .
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن " الذي " تأتي بمعنى الذين في القرآن وفي كلام العرب ، فمن أمثلة ذلك في القرآن ، قوله تعالى في آية الزمر هذه : والذي جاء بالصدق الآية . وقوله تعالى في سورة البقرة : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا [ 2 \ 17 ] أي : الذين استوقدوا بدليل قوله بعده : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون [ 2 \ 17 ] وقوله فيها أيضا : كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ 2 \ 264 ] أي : كالذين ينفقون بدليل قوله بعده : لا يقدرون على شيء مما كسبوا الآية . وقوله تعالى في التوبة : وخضتم كالذي خاضوا [ 9 \ 69 ] على القول بأن الذي موصولة لا مصدرية ، ونظيره من كلام العرب قول أشهب بن رميلة :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وقول عديل بن الفرخ العجلي :
فبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غي ورشدهم رشد
وقول الراجز :
يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منها ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
قوله تعالى : لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون الآية [ 16 \ 31 ] .
قوله تعالى : ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون . قد قدمنا الآيات الموضحة له ، في هذه السورة الكريمة ، في الكلام على قوله تعالى : فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [ 39 \ 17 - 18 ] وفي سورة [ ص: 363 ] النحل في الكلام على قوله تعالى : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] .
قوله تعالى : أليس الله بكاف عبده . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنفال ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [ 8 \ 64 ] وعلى قراءة الجمهور بكاف عبده ، بفتح العين وسكون الباء ، بإفراد العبد ، والمراد به ، النبي صلى الله عليه وسلم . كقوله : فسيكفيكهم الله [ 2 \ 137 ] وقوله تعالى : ياأيها النبي حسبك الله الآية [ 8 \ 64 ] .
وأما على قراءة حمزة والكسائي عباده بكسر العين وفتح الباء بعدها ألف على أنه جمع عبد ، فالظاهر أنه يشمل عباده الصالحين من الأنبياء وأتباعهم .
قوله تعالى : ويخوفونك بالذين من دونه . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أن الكفار عبدة الأوثان ، يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم ، بالأوثان التي يعبدونها من دون الله ، لأنهم يقولون له : إنها ستضره وتخبله ، وهذه عادة عبدة الأوثان لعنهم الله ، يخوفون الرسل بالأوثان ويزعمون أنها ستضرهم وتصل إليهم بالسوء .
ومعلوم أن أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه ، لا يخافون غير الله ولا سيما الأوثان ، التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تضر ولا تنفع ، ولذا قال تعالى عن نبيه إبراهيم لما خوفوه بها : وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن الآية [ 6 \ 81 ] .
وقال عن نبيه هود وما ذكره له قومه من ذلك : إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم [ 11 \ 54 - 56 ] .
وقال تعالى في هذه السورة الكريمة ، مخاطبا نبينا صلى الله عليه وسلم ، بعد أن ذكر تخويفهم له بأصنامهم : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون [ 39 \ 38 ] .
[ ص: 364 ] ومعلوم أن الخوف من تلك الأصنام من أشنع أنواع الكفر والإشراك بالله .
وقد بين جل وعلا في موضع آخر ، أن الشيطان يخوف المؤمنين أيضا ، الذين هم أتباع الرسل من أتباعه وأوليائه من الكفار ، كما قال تعالى : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 175 ] .
والأظهر أن قوله : يخوف أولياءه حذف فيه المفعول الأول ، أي : يخوفكم أولياءه ، بدليل قوله بعده : فلا تخافوهم وخافون الآية .
قوله تعالى : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن المعبودات من دونه ، لا تقدر أن تكشف ضرا أراد الله به أحدا ، أو تمسك رحمة أراد بها أحدا ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [ 19 \ 42 ] وقوله تعالى : قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون [ 26 \ 72 - 74 ] . وقوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم [ 35 \ 2 ] وقوله تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده الآية [ 10 \ 107 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله تعالى : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الصافات ، في الكلام على قوله تعالى : إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون [ 34 \ 35 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (458)
سُورَةُ غَافِرٍ
صـ 365 إلى صـ 372
قوله تعالى : ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة . [ ص: 365 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين ظلموا وهم الكفار ، ولو كان لهم في الآخرة ما في الأرض جميعا ومثله معه ، لفدوا أنفسهم به من سوء العذاب الذي عاينوه يوم القيامة ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر وصرح فيها بأنه لا فداء البتة يوم القيامة كقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين [ 3 \ 91 ] . وقوله تعالى : إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 36 - 37 ] وقوله تعالى : فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير [ 57 \ 15 ] . وقوله تعالى : وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 6 \ 70 ] . وقوله وإن تعدل كل عدل أي : وإن تفتد كل فداء ، وقوله تعالى : ولا يؤخذ منها عدل الآية [ 2 \ 48 ] . وقوله : ولا يقبل منها عدل الآية [ 2 \ 123 ] ، والعدل الفداء . وقوله تعالى : والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد [ 13 \ 18 ] .
وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة آل عمران ، في الكلام على قوله تعالى : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به الآية [ 3 \ 91 ] .
قوله تعالى : وبدا لهم سيئات ما كسبوا . قوله : وبدا لهم أي : ظهر لهم سيئات ما كسبوا ، أي : جزاء سيئاتهم التي اكتسبوها في الدنيا ، فالظاهر أنه أطلق السيئات هنا مرادا بها جزاؤها .
ونظيره من القرآن قوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 \ 40 ] .
ونظير ذلك أيضا إطلاق العقاب ، على جزاء العقاب ، في قوله تعالى : ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله الآية [ 22 \ 60 ] .
[ ص: 366 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أنهم يبدو لهم يوم القيامة ، حقيقة ما كانوا يعملونه في الدنيا جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت [ 10 ] وقوله تعالى ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] وقوله تعالى علمت نفس ما قدمت وأخرت [ 82 \ 5 ] . وقوله تعالى : ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا الآية [ 18 \ 49 ] . وقوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس ، في الكلام على قوله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه الآية [ 10 \ 12 ] .
قوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في قوله تعالى : فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [ 39 \ 17 - 18 ] وقدمنا طرفا منه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] .
قوله تعالى : أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له من جهات في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] .
قوله تعالى : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة . قد قدمنا الكلام عليه وعلى ما يماثله من الآيات في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه الآية [ 3 \ 106 ] .
[ ص: 367 ] قوله تعالى : أليس في جهنم مثوى للمتكبرين .
تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية ، مع بيان جملة من آثار الكبر السيئة ، في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين [ 7 \ 13 ] .
قوله تعالى : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك . قد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [ 6 \ 88 ] .
وقد ذكرنا في سورة المائدة الآية المتضمنة للقيد الذي لم يذكر في هذه الآيات على قوله تعالى : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله الآية [ 5 \ 5 ] .
قوله تعالى : ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس ، في الكلام على قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] .
قوله تعالى : ووضع الكتاب . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه [ 18 \ 49 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا [ 17 \ 13 ] .
قوله تعالى : وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت . اختلف العلماء في المراد بالشهداء في هذه الآية الكريمة ، فقال بعضهم : هم الحفظة من الملائكة الذين كانوا يحصون أعمالهم في الدنيا ، واستدل من قال هذا بقوله تعالى وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد [ 50 \ 21 ] .
وقال بعض العلماء : الشهداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يشهدون على الأمم ، كما قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا . [ ص: 368 ] وقيل : الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ، وأظهر الأقوال في الآية عندي ، أن الشهداء هم الرسل من البشر ، الذين أرسلوا إلى الأمم ، لأنه لا يقضي بين الأمة حتى يأتي رسولها ، كما صرح تعالى بذلك في سورة يونس في قوله تعالى : ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون [ 10 \ 47 ] فصرح جل وعلا بأنه يسأل الرسل عما أجابتهم به أممهم ، كما قال تعالى : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم [ 5 \ 109 ] وقال تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] وقد يشير إلى ذلك قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] لأن كونه صلى الله عليه وسلم هو الشهيد على هؤلاء الذين هم أمته ، يدل على أن الشهيد على كل أمة هو رسولها .
وقد بين تعالى أن الشهيد على كل أمة من أنفس الأمة ، فدل على أنه ليس من الملائكة ، وذلك في قوله تعالى : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم [ 16 \ 89 ] والرسل من أنفس الأمم كما قال تعالى في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم :
لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ 9 \ 128 ] . وقال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية [ 3 \ 164 ] .
والمسوغ للإيجاز بحذف الفاعل في قوله تعالى : وجيء بالنبيين [ 39 \ 69 ] هو أنه من المعلوم الذي لا نزاع فيه ، أنه لا يقدر على المجيء بهم إلا الله وحده جل وعلا .
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير الكسائي وهشام عن ابن عامر ، وجيء بكسر الجيم كسرة خالصة .
وقرأه الكسائي وهشام عن ابن عامر بإشمام الكسرة الضم .
وإنما كان الإشمام هنا جائزا ، والكسر جائزا ، لأنه لا يحصل في الآية البتة ، لبس بين المبني للفاعل ، والمبني للمفعول ، إذ من المعلوم أن قوله هنا : وجيء مبني للمفعول ولا يحتمل البناء للفاعل بوجه ، وما كان كذلك جاز فيه الكسر الخالص وإشمام الكسرة الضم كما أشار له في الخلاصة بقوله :
واكسر أو أشمم فا ثلاثي أعل عينا وضم حاء كبوع فاحتمل
[ ص: 369 ] أما إذا أسند ذلك الفعل إلى ضمير الرفع المتصل ، فإن ذلك قد يؤدي إلى اللبس ، فيشتبه المبني للمفعول ، بالمبني للفاعل ، فيجب حينئذ اجتناب الشكل الذي يوجب اللبس ، والإتيان بما يزيل اللبس من شكل أو إشمام كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وإن بشكل خيف لبس يجتنب
ومن أمثلة ذلك قول الشاعر ، وقد أنشده صاحب اللسان :
وإني على المولى وإن قل نفعه دفوع إذا ما ضمت غير صبور
فقوله : ضمت أصله ضيمت بالبناء للمفعول فيجب الإشمام أو الضم ; لأن الكسر الخالص يجعله محتملا للبناء للفاعل كبعت وسرت . وقول جرير يرثي المرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة :
وأقول من جزع وقد فتنا به ودموع عيني في الرداء غزار
للدافنين أخا المكارم والندا لله ما ضمنت بك الأحجار
أصله فوتنا بالبناء للمفعول فيجب الكسر أو الإشمام ; لأن الضم الخالص يجعله محتملا للبناء للفاعل ، كقلنا وقمنا .
قوله تعالى : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا . الزمر : الأفواج المتفرقة ، واحده زمرة ، وقد عبر تعالى عنها هنا بالزمر ، وعبر عنها في الملك بالأفواج في قوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج الآية [ 67 \ 8 ] ، وعبر عنها في الأعراف بالأمم في قوله تعالى : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم الآية [ 7 \ 38 ] .
وقال في فصلت : وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين [ 41 \ 25 ] وقال تعالى : هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار [ 38 \ 59 ] .
ومن إطلاق الزمر على ما ذكرنا قوله :
[ ص: 370 ]
وترى الناس إلى منزله زمرا تنتابه بعد زمر
وقول الراجز :
إن العفاة بالسيوب قد غمر حتى احزألت زمرا بعد زمر
قوله تعالى : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها . لم يبين جل وعلا هنا عدد أبوابها المذكورة ، ولكنه بين ذلك ، في سورة الحجر في قوله : وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 16 \ 43 - 44 ] .
وقوله تعالى : وفتحت أبوابها قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : ( فتحت ) بالتاء .
قوله تعالى : وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ 16 \ 32 ] .
قوله تعالى : وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة إذا دخلوها وعاينوا ما فيها من النعيم ، حمدوا ربهم وأثنوا عليه ، ونوهوا بصدق وعده لهم ، وذكر هذا المعنى في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] . وقوله تعالى : ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا الآية [ 7 \ 44 ] .
[ ص: 371 ] وقوله تعالى : جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب [ 35 \ 33 - 34 ] .
[ ص: 372 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ غَافِرٍ
قَوْلُهُ تَعَالَى : غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ . جَمَعَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ; لِأَنَّ مَطَامِعَ الْعُقَلَاءِ مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ ، هُمَا جَلْبُ النَّفْعِ وَدَفْعُ الضُّرِّ ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [ 15 \ 49 - 50 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الْآيَةَ [ 7 \ 156 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ : إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . [ 6 \ 165 ] وَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ : إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ 7 \ 167 ] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ .
قوله تعالى : ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه لا يجادل في آيات الله ، أي لا يخاصم فيها محاولا ردها ، وإبطال ما جاء فيها إلا الكفار .
وقد بين تعالى في غير هذا الموضع الغرض الحامل لهم على الجدال فيها مع بعض صفاتهم ، وذلك في قوله : ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا [ 18 \ 56 ] وأوضح ذلك الغرض ، في هذه السورة الكريمة ، في قوله : وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق [ 40 \ 5 ] .
وقد قدمنا في سورة الحج أن الذين يجادلون في الله منهم ، أتباع يتبعون رؤساءهم المضلين ، من شياطين الإنس والجن ، وهم المذكورون في قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 3 - 4 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (459)
سُورَةُ غَافِرٍ
صـ 373 إلى صـ 380
[ ص: 373 ] وأن منهم قادة هم رؤساؤهم المتبوعون وهم المذكورون في قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله الآية [ 22 \ 8 - 9 ] .
وبين تعالى في موضع آخر أن من أنواع جدال الكفار ، جدالهم للمؤمنين الذين استجابوا لله وآمنوا به وبرسوله ، ليردوهم إلى الكفر بعد الإيمان ، وبين بطلان حجة هؤلاء ، وتوعدهم بغضبه عليهم ، وعذابه الشديد وذلك في قوله تعالى : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد [ 42 \ 16 ] .
قوله تعالى : فلا يغررك تقلبهم في البلاد .
نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ، ليشرع لأمته عن أن يغره تقلب الذين كفروا في بلاد الله ، بالتجارات والأرباح ، والعافية وسعة الرزق ، كما كانت قريش تفيض عليها الأموال من أرباح التجارات ، وغيرها من رحلة الشتاء والصيف المذكورة في قوله تعالى : إيلافهم رحلة الشتاء والصيف [ 106 \ 2 ] أي : إلى اليمن والشام وهم مع ذلك كفرة فجرة ، يكذبون نبي الله ويعادونه .
والمعنى : لا تغتر بإنعام الله عليهم تقلبهم في بلاده في إنعام وعافية ; فإن الله جل وعلا يستدرجهم بذلك الإنعام ، فيمتعهم به قليلا ، ثم يهلكهم فيجعل مصيرهم إلى النار .
وقد أوضح هذا المعنى في آيات من كتابه كقوله تعالى : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [ 3 \ 196 - 197 ] . وقوله تعالى : ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 23 - 24 ] وقوله تعالى : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير [ 2 \ 26 ] وقوله تعالى : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والفاء في قوله : فلا يغررك ، سببية أي : لا يمكن تقلبهم في بلاد الله . متنعمين [ ص: 374 ] بالأموال والأرزاق ، سببا لاغترارك بهم ، فتظن بهم ظنا حسنا ; لأن ذلك التنعم ، تنعم استدراج ، وهو زائل عن قريب ، وهم صائرون إلى الهلاك والعذاب الدائم .
قوله تعالى : وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار . قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر ( كلمات ) بصيغة الجمع المؤنث السالم وقرأه الباقون ( كلمة ربك ) بالإفراد .
وقد أوضحنا معنى الكلمة والكلمات فيما يماثل هذه الآية في سورة يس في الكلام على قوله تعالى . لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] .
قوله تعالى : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . لم يبين هنا الآية المتضمنة لوعدهم بالجنات ، هم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم .
ولكنه جل وعلا أوضح وعده إياهم بذلك في سورة الرعد في قوله تعالى : والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب الآية [ 22 \ 23 - 13 ] .
قوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين . التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه ، أن المراد بالإماتتين في هذه الآية الكريمة ، الإماتة الأولى ، التي هي كونهم في بطون أمهاتهم نطفا وعلقا ومضغا ، قبل نفخ الروح فيهم ، فهل قبل نفخ الروح فيهم لا حياة لهم ، فأطلق عليهم بذلك الاعتبار اسم الموت .
والإماتة الثانية هي إماتتهم وصيرورتهم إلى قبورهم عند انقضاء آجالهم في دار الدنيا .
وأن المراد بالإحياءتين : الإحياءة الأولى في دار الدنيا ، والإحياءة الثانية ، التي هي البعث من القبور إلى الحساب ، والجزاء والخلود الأبدي ، الذي لا موت فيه ، إما في الجنة وإما في النار .
[ ص: 375 ] والدليل من القرآن على أن هذا القول في الآية هو التحقيق ، أن الله صرح به واضحا في قوله جل وعلا : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون [ 2 \ 28 ] وبذلك تعلم أن ما سواه من الأقوال في الآية لا معول عليه .
والأظهر عندي أن المسوغ الذي سوغ إطلاق اسم الموت على العلقة ، والمضغة مثلا ، في بطون الأمهات ، أن عين ذلك الشيء ، الذي هو نفس العلقة والمضغة ، له أطوار كما قال تعالى : وقد خلقكم أطوارا يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق [ 39 \ 6 ] ، ولما كان ذلك الشيء ، تكون فيه الحياة في بعض تلك الأطوار ، وفي بعضها لا حياة له ، صح إطلاق الموت والحياة عليه من حيث إنه شيء واحد ، ترتفع عنه الحياة تارة وتكون فيه أخرى ، وقد ذكر له الزمخشري مسوغا غير هذا ، فانظره إن شئت .
قوله تعالى : فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل . قد بين جل وعلا في غير هذا الموضع ، أن الاعتراف بالذنب في ذلك الوقت لا ينفع ، كما قال تعالى : فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 11 ] وقال تعالى ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهل إلى خروج من سبيل قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] .
قوله تعالى : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا . قد تقدم الكلام عليه في سورة الصافات ، في الكلام على قوله تعالى : إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون الآية [ 37 \ 34 - 35 ] .
قوله تعالى : فالحكم لله العلي الكبير . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] .
[ ص: 376 ] قوله تعالى : هو الذي يريكم آياته . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه جل وعلا هو الذي يري خلقه آياته ، أي : الكونية القدرية ; ليجعلها علامات لهم على ربوبيته ، واستحقاقه العبادة وحده ، ومن تلك الآيات الليل والنهار والشمس والقمر ; كما قال تعالى : ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر الآية [ 41 \ 37 ] .
ومنها السماوات والأرضون ، وما فيهما والنجوم ، والرياح والسحاب ، والبحار والأنهار ، والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا ، كما قال تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] . وقال تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . وقال تعالى : إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون [ 45 \ 3 - 5 ] ، وقال تعالى إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون [ 10 \ 6 ] .
وما ذكره جل وعلا في آية المؤمن هذه ، من أنه هو الذي يري خلقه آياته ، بينه وزاده إيضاحا في غير هذا الموضع ، فبين أنه يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ، وأن مراده بذلك البيان أن يتبين لهم أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق ، كما قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] .
والآفاق جمع أفق وهو الناحية ، والله جل وعلا قد بين من غرائب صنعه وعجائبه في نواحي سماواته وأرضه ، ما يتبين به لكل عاقل أنه هو الرب المعبود وحده . كما أشرنا إليه ، من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والجبال ، والدواب والبحار ، إلى غير ذلك .
وبين أيضا أن من آياته التي يريهم ولا يمكنهم أن ينكروا شيئا منها تسخيره لهم الأنعام ليركبوها ويأكلوا من لحومها ، وينتفعوا بألبانها ، وزبدها وسمنها ، وأقطها ويلبسوا من جلودها ، وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، كما قال تعالى : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون [ 40 \ 79 - 81 ] .
[ ص: 377 ] وبين في بعض المواضع أن من آياته التي يريها بعض خلقه معجزات رسله ; لأن المعجزات آيات أي : دلالات وعلامات على صدق الرسل ، كما قال تعالى في فرعون : ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى [ 20 \ 56 ] وبين في موضع آخر أن من آياته التي يريها خلقه عقوبته المكذبين رسله ، كما قال تعالى في قصة إهلاكه قوم لوط : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] .
وقال في عقوبته فرعون وقومه بالطوفان والجراد والقمل . . . إلخ : فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات الآية [ 7 \ 133 ] .
قوله تعالى : وينزل لكم من السماء رزقا . أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة الرزق وأراد المطر ; لأن المطر سبب الرزق ، وإطلاق المسبب وإرادة سببه لشدة الملابسة بينهما ، أسلوب عربي معروف ، وكذلك عكسه الذي هو إطلاق السبب وإرادة المسبب كقوله :
أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
فأطلق الدم وأراد الدية ; لأنه سببها .
وقد أوضحنا في رسالتنا المسماة : منع جواز المجاز ، في المنزل للتعبد والإعجاز ، أن أمثال هذا أساليب عربية ، نطقت بها العرب في لغتها ، ونزل بها القرآن ، وأن ما يقوله علماء البلاغة من أن في الآية ما يسمونه المجاز المرسل الذي يعدون من علاقاته السببية والمسببية لا داعي إليه ، ولا دليل عليه ، يجب الرجوع إليه .
وإطلاق الرزق في آية المؤمن هذه على المطر جاء مثله ، في غير هذا الموضع كقوله تعالى في أول سورة الجاثية : وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها [ الآية 5 ] فأوضح بقوله : فأحيا به الأرض بعد موتها أن مراده بالرزق المطر ; لأن المطر هو الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها .
وقد أوضح جل وعلا أنه إنما سمي المطر رزقا ; لأن المطر سبب الرزق في آيات كثيرة من كتابه ، كقوله تعالى في سورة البقرة : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الآية [ 2 \ 22 ] ، والباء في قوله فأخرج به سببية كما ترى .
[ ص: 378 ] وكقوله تعالى في سورة إبراهيم : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك الآية [ 14 \ 32 ] . وقوله تعالى في سورة ق : ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد [ 50 \ 9 - 11 ] .
وبين في آيات أخر أن الرزق المذكور شامل لما يأكله الناس ، وما تأكله الأنعام ; لأن ما تأكله الأنعام ، يحصل بسببه للناس الانتفاع بلحومها ، وجلودها وألبانها ، وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، كما تقدم ، كقوله تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ، وقوله تعالى هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات الآية [ 16 \ 10 - 11 ] .
فقوله : فيه تسيمون ، أي : تتركون أنعامكم سائمة فيه ، تأكل منه من غير أن تتكلفوا لها مئونة العلف ، كما تقدم إيضاحه بشواهده العربية ، في سورة النحل وكقوله تعالى : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم الآية [ 20 \ 53 - 54 ] . وقوله تعالى : أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 31 - 33 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما يتذكر إلا من ينيب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أن الناس ما يتذكر منهم ، أي : ما يتعظ بهذه الآيات المشار إليها في قوله : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب أي : من رزقه الله الإنابة إليه .
والإنابة : الرجوع عن الكفر والمعاصي ، إلى الإيمان والطاعة .
وهؤلاء المنيبون ، المتذكرون ، المتعظون ، هم أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال ، المذكورون في قوله تعالى في أول سورة آل عمران : وما يذكر إلا أولو الألباب [ 3 \ 7 ] وفي قوله تعالى في سورة إبراهيم : وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب [ 14 \ 52 ] [ ص: 379 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد دلت آية المؤمن هذه ، وما في معناها من الآيات ، على أن غير أولي الألباب المتذكرين المذكورين آنفا ، لا يتذكر ولا يتعظ بالآيات ، بل يعرض عنها أشد الإعراض .
وقد جاء هذا المعنى موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله ، كقوله تعالى : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] . وقوله تعالى : وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [ 54 \ 2 ] وقوله : وإذا رأوا آية يستسخرون [ 37 \ 14 ] .
وقوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] وقوله : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [ 36 \ 46 ] في الأنعام ويس إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فادعوا الله مخلصين له الدين . قد قدمنا الكلام على نحوه من الآيات في أول سورة الزمر ، في الكلام على قوله : فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص [ 39 \ 2 - 3 ] .
قوله تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في أول سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون [ 16 \ 2 ] . وقوله تعالى في آية المؤمن هذه : يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء جاء مثله في آيات كثيرة ، كقوله في بروزهم ذلك اليوم : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار [ 14 \ 48 ] وقوله تعالى : وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا الآية [ 14 \ 21 ] .
وكقوله في كونهم لا يخفى على الله منهم شيء ذلك اليوم : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية [ 69 \ 18 ] . وقوله تعالى : إن ربهم بهم يومئذ لخبير [ 100 \ 11 ] . وقوله تعالى : إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء [ 3 \ 5 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة ، وقد بيناها في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه الآية [ 11 \ 5 ] ، [ ص: 380 ] وذكرنا طرفا من ذلك ، في أول سورة سبأ ، في الكلام على قوله تعالى : عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض الآية [ 34 \ 3 ] .
قوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين . الإنذار ، والإعلام المقترن بتهديد خاصة ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا .
وقد أوضحنا معنى الإنذار وأنواعه في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به الآية [ 7 \ 2 ] .
والظاهر أن قوله هنا : يوم الآزفة هو المفعول الثاني للإنذار لا ظرف له ; لأن الإنذار والتخويف من يوم القيامة واقع في دار الدنيا . والآزفة القيامة . أي : أنذرهم يوم القيامة ، بمعنى خوفهم إياه وهددهم بما فيه من الأهوال العظام ليستعدوا لذلك في الدنيا بالإيمان والطاعة .
وإنما عبر عن القيامة بـ الآزفة لأجل أزوفها أي : قربها ، والعرب تقول : أزف الترحل بكسر الزاي ، يأزف بفتحها ، أزفا بفتحتين ، على القياس ، وأزوفا فهو آزف ، على غير قياس ، في المصدر الأخير ، والوصف بمعنى قرب وقته وحان وقوعه ، ومنه قول نابغة ذبيان :
أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد
ويروى أفد الترحل ، ومعناهما واحد .
والمعنى : وأنذرهم يوم الآزفة أي : يوم القيامة القريب مجيؤها ووقوعها .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من اقتراب قيام الساعة ، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة [ 53 \ 57 - 58 ] ، وقوله تعالى : اقتربت الساعة الآية [ 54 \ 1 ] . وقوله تعالى : اقترب للناس حسابهم الآية [ 21 \ 1 ] . وقوله تعالى في الأحزاب : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا [ 33 \ 63 ] وقوله تعالى في الشورى : وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (460)
سُورَةُ غَافِرٍ
صـ 381 إلى صـ 388
[ ص: 381 ] وقد قدمنا هذا في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين الظاهر فيه أن إذ بدل من يوم ، وعليه فهو من قبيل المفعول به لا المفعول فيه ، كما بينا آنفا .
والقلوب : جمع قلب وهو معروف .
ولدى : ظرف بمعنى عند .
والحناجر : جمع حنجرة وهي معروفة .
ومعنى كون القلوب لدى الحناجر ، في ذلك الوقت فيه لعلماء التفسير وجهان معروفان :
أحدهما : ما قاله قتادة وغيره ; من أن قلوبهم يومئذ ترتفع من أماكنها في الصدور ، حتى تلتصق بالحلوق ، فتكون لدى الحناجر ، فلا هي تخرج من أفواههم فيموتوا ، ولا هي ترجع إلى أماكنها في الصدور فيتنفسوا . وهذا القول هو ظاهر القرآن .
والوجه الثاني : هو أن المراد بكون القلوب لدى الحناجر ، بيان شدة الهول ، وفظاعة الأمر ، وعليه فالآية كقوله تعالى : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [ 33 \ 10 - 11 ] وهو زلزال خوف وفزع لا زلزال حركة الأرض .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كاظمين معناه مكروبين ممتلئين خوفا وغما وحزنا .
والكظم : تردد الخوف والغيظ والحزن في القلب حتى يمتلئ منه ، ويضيق به .
والعرب تقول : كظمت السقاء إذا ملأته ماء ، وشددته عليه .
وقول بعضهم كاظمين ، أي ساكتين ، لا ينافي ما ذكرنا ; لأن الخوف والغم الذي ملأ قلوبهم يمنعهم من الكلام ، فلا يقدرون عليه ، ومن إطلاق الكظم على السكوت [ ص: 382 ] قول العجاج :
ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
ويرجع إلى هذا القول معنى قول من قال : كاظمين أي : لا يتكلمون إلا من أذن له الله ، وقال الصواب ، كما قال تعالى : لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ 78 \ 38 ] .
وقوله : كاظمين حال من أصحاب القلوب على المعنى . والتقدير : إذ القلوب لدى الحناجر ، أي : إذ قلوبهم لدى حناجرهم في حال كونهم كاظمين ، أي : ممتلئين خوفا وغما وحزنا ، ولا يبعد أن يكون حالا من نفس القلوب ; لأنها وصفت بالكظم الذي هو صفة أصحابها .
ونظير ذلك في القرآن : إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين [ 12 \ 4 ] فإنه أطلق في هذه الآية الكريمة ، على الكواكب والشمس والقمر صفة العقلاء في قوله تعالى : رأيتهم لي ساجدين ، والمسوغ لذلك وصفه الكواكب والشمس والقمر بصفة العقلاء التي هي السجود .
ونظير ذلك أيضا قوله تعالى : إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين [ 26 \ 4 ] وقوله تعالى : قالتا أتينا طائعين [ 41 \ 11 ] .
قوله تعالى : ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع . قد قدمنا الكلام عليه في سورة البقرة وسورة الأعراف ، وأحلنا عليه مرارا .
قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . قد قدمنا الكلام على ما يماثله من الآيات في أول سورة هود وفي غيرها وأحلنا عليه أيضا مرارا .
قوله تعالى : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه أرسل نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، بآياته وحججه الواضحة كالعصا واليد البيضاء إلى فرعون وهامان وقارون [ ص: 383 ] فكذبوه ، وزعموا أنه ساحر .
وأوضح هذا المعنى ، في آيات كثيرة كقوله تعالى عن فرعون وقومه : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها [ 7 \ 132 ] ، وقوله تعالى عن فرعون : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر [ 20 \ 71 ] . وقوله تعالى : قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم [ 26 \ 34 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة . وقد بيناها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
قوله تعالى : وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، عاذ بربه ، أي : اعتصم به ، وتمنع من كل متكبر ، أي : متصف بالكبر ، لا يؤمن بيوم الحساب ، أي لا يصدق بالبعث والجزاء .
وسبب عياذ موسى بربه المذكور ، أن فرعون قال لقومه : ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد [ 40 \ 26 ] .
فعياذ موسى المذكور بالله إنما هو في الحقيقة من فرعون ، وإن كانت العبارة أعم من خصوص فرعون ، لأن فرعون لا شك أنه متكبر ، لا يؤمن بيوم الحساب فهو داخل في الكلام دخولا أوليا ، وهو المقصود بالكلام .
وما ذكره جل وعلا في آية المؤمن هذه ، من عياذ موسى بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب كفرعون وعتاة قومه ، ذكر نحوه في سورة الدخان في قوله تعالى عن موسى مخاطبا فرعون وقومه : وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون الآية [ 44 \ 20 ] .
قوله تعالى : وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن رجلا مؤمنا من آل فرعون يكتم إيمانه أي : يخفي عنهم أنه مؤمن ، أنكر على فرعون وقومه إرادتهم قتل نبي الله موسى عليه [ ص: 384 ] وعلى نبينا الصلاة والسلام ، حين قال فرعون : ذروني أقتل موسى وليدع ربه الآية [ 40 \ 26 ] . مع أنه لا ذنب له ، يستحق به القتل ، إلا أنه يقول : ربي الله .
وقد بين في آيات أخر أن من عادة المشركين قتل المسلمين ، والتنكيل بهم ، وإخراجهم من ديارهم من غير ذنب ، إلا أنهم يؤمنون بالله ويقولون : ربنا الله ، كقوله تعالى في أصحاب الأخدود ، الذين حرقوا المؤمنين : قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد [ 85 \ 4 - 8 ] وقوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ 22 \ 39 - 40 ] . وقوله تعالى : عن الذين كانوا سحرة لفرعون ، وصاروا من خيار المؤمنين ، لما هددهم فرعون قائلا : لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين [ 7 \ 124 ] أنهم أجابوه ، بما ذكره الله عنهم ، في قوله : قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا [ 7 \ 125 - 126 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والتحقيق أن الرجل المؤمن المذكور في هذه الآية من جماعة فرعون كما هو ظاهر قوله تعالى : " من آل فرعون " .
فدعوى أنه إسرائيلي وأن في الكلام تقديما وتأخيرا . وأن من آل فرعون متعلق بـ ( يكتم ) ، أي وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون أي يخفي إيمانه عن فرعون وقومه خلاف التحقيق كما لا يخفى .
وقيل : إن هذا الرجل المؤمن هو الذي قال لموسى : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج [ 28 \ 20 ] وقيل غيره .
واختلف العلماء في اسمه اختلافا كثيرا فقيل : اسمه حبيب ، وقيل : اسمه شمعان ، وقيل : اسمه حزقيل ، وقيل غير ذلك ، ولا دليل على شيء من ذلك .
والظاهر في إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن يقول ربي الله أنه مفعول من أجله .
[ ص: 385 ] وقال البخاري رحمه الله في صحيحه في تفسير هذه الآية الكريمة : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثني يحيى بن أبي كثير ، قال : حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، حدثني عروة بن الزبير ، قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ، ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ قد جاءكم بالبينات من ربكم " .
قوله تعالى : قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . الظاهر أن أرى في هذه الآية الكريمة علمية عرفانية ، تتعدى لمفعول واحد ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
لعلم عرفان وظن تهمه تعدية لواحد ملتزمه
وعليه فالمعنى : قال فرعون ما أعلمكم وأعرفكم من حقيقة موسى وأنه ينبغي أن يقتل ، خوف أن يبدل دينكم ، ويظهر الفساد في أرضكم ، إلا ما أرى ، أي : أعلم وأعرف أنه الحق والصواب فما أخفي عنكم خلاف ما أظهره لكم ، وما أهديكم بهذا إلا سبيل الرشاد ، أي : طريق السداد والصواب .
وهذان الأمران اللذان ذكر تعالى عن فرعون أنه قالهما في هذه الآية الكريمة ، قد بين في آيات أخر أن فرعون كاذب في كل واحد منهما .
أما الأول منهما وهو قوله : ما أريكم إلا ما أرى فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه ، وأوضح فيها أنه يعلم ويتيقن أن الآيات التي جاءه بها موسى حق ، وأنها ما أنزلها إلا الله ، وأنه جحدها هو ومن استيقنها معه من قومه ليستخفوا بها عقول الجهلة منهم ، كقوله تعالى في سورة النمل : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ 27 \ 12 - 14 ] .
[ ص: 386 ] فقوله تعالى : في هذه الآية : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا دليل واضح على أن فرعون كاذب في قوله : ما أريكم إلا ما أرى .
وكقوله تعالى في سورة بني إسرائيل : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ 17 \ 102 ] فقول نبي الله موسى لفرعون : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض مؤكدا إخباره بأن فرعون عالم بذلك بالقسم ، وقد دل أيضا على أنه كاذب في قوله : ما أريكم إلا ما أرى .
وكان غرض فرعون بهذا الكذب التدليس والتمويه ; ليظن جهلة قومه أن معه الحق ، كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله : فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين [ 43 \ 54 ] .
وأما الأمر الثاني وهو قوله : وما أهديكم إلا سبيل الرشاد فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه كقوله تعالى : فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد [ 11 \ 97 ] . وقوله تعالى : وأضل فرعون قومه وما هدى [ 20 \ 79 ] . وقال بعض العلماء في قوله : ما أريكم إلا ما أرى أي : ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي ، من قتل موسى . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها . هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات الدالة عن أن السيئات لا تضاعف ولا تجزى إلا بمثلها ، بينها وبين الآيات الأخرى الدالة على أن السيئات ربما ضوعفت في بعض الأحوال ، كقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات [ 17 \ 75 ] وقوله تعالى في نسائه رضي الله عنهن : يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين [ 33 ] إشكال معروف .
وقد قدمنا الجواب عنه موضحا في سورة النمل ، في الكلام على قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون [ 27 \ 90 ] .
قوله تعالى : ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [ ص: 387 ] قد أوضحنا معنى هذه الآية الكريمة ، وبينا العمل الصالح بالآيات القرآنية ، وأوضحنا الآيات المبينة لمفهوم المخالفة ، في قوله : وهو مؤمن في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 16 \ 97 ] . وفي أول سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] .
قوله تعالى : وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم . الظاهر أن جملة قوله تدعونني تدعونني لأكفر بدل من قوله : وتدعونني إلى النار ; لأن الدعوة إلى الكفر بالله والإشراك به دعوة إلى النار .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفر والإشراك بالله مستوجب لدخول النار ، بينه تعالى في آيات كثيرة من كتابه كقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار [ 5 \ 72 ] ، وقد قدمنا ما فيه كفاية من ذلك ، في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء الآية [ 22 \ 31 ] .
قوله تعالى : فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب . التحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الكلام من كلام مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله عنه ، وليس لموسى فيه دخل .
وقوله : فستذكرون ما أقول لكم ، يعني أنهم يوم القيامة يعلمون صحة ما كان يقول لهم ، ويذكرون نصيحته ، فيندمون حيث لا ينفع الندم ، والآيات الدالة على مثل هذا من أن الكفار تنكشف لهم يوم القيامة حقائق ما كانوا يكذبون به في الدنيا - كثيرة ، كقوله تعالى : وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون [ 6 \ 66 - 67 ] وقوله تعالى : ولتعلمن نبأه بعد حين [ 38 \ 88 ] . وقوله تعالى : كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون [ 78 \ 4 - 5 ] وقوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون [ 102 \ 3 - 4 ] . [ ص: 388 ] وقوله تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا [ 40 \ 44 - 45 ] دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله ، وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء ، وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل ، كقولهم : سها فسجد ، أي : سجد لعلة سهوه ، وسرق فقطعت يده ، أي : لعلة سرقته ، كما قدمناه مرارا .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من كون التوكل على الله سببا للحفظ ، والوقاية من السوء ، جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ 65 \ 3 ] . وقوله تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء [ 3 \ 173 - 174 ] .
وقد ذكرنا الآيات الدالة على ذلك بكثرة ، في أول سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : ألا تتخذوا من دوني وكيلا [ 17 \ 2 ] .
والظاهر أن ما في قوله : سيئات ما مكروا [ 40 \ 45 ] مصدرية ، أي : فوقاه الله سيئات مكرهم ، أي : أضرار مكرهم وشدائده ، والمكر : الكيد .
فقد دلت هذه الآية الكريمة ، على أن فرعون وقومه أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن الكريم وأن الله وقاه ، أي حفظه ونجاه ، من أضرار مكرهم وشدائده بسبب توكله على الله ، وتفويضه أمره إليه .
وبعض العلماء يقول : نجاه الله منهم مع موسى وقومه وبعضهم يقول : صعد جبلا فأعجزهم الله عنه ونجاه منهم ، وكل هذا لا دليل عليه ، وغاية ما دل عليه القرآن أن الله وقاه سيئات مكرهم ، أي حفظه ونجاه منها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (461)
سُورَةُ غَافِرٍ
صـ 389 إلى صـ 397
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وحاق بآل فرعون سوء العذاب معناه : أنهم لما أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن وقاه الله مكرهم ، ورد العاقبة السيئة عليهم ، فرد سوء مكرهم إليهم ، فكان المؤمن المذكور ناجيا في الدنيا والآخرة ، وكان فرعون وقومه هالكين [ ص: 389 ] في الدنيا والآخرة والبرزخ .
فقال في هلاكهم في الدنيا : وأغرقنا آل فرعون ، وأمثالها من الآيات .
وقال في مصيرهم في البرزخ : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا [ 40 \ 46 ] .
وقال في عذابهم في الآخرة : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ 40 \ 46 ] .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من حيق المكر السيئ بالماكر أوضحه تعالى في قوله : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] .
والعرب تقول حاق به المكروه يحيق به حيقا وحيوقا ، إذا نزل به وأحاط به ، ولا يطلق إلا على إحاطة المكروه خاصة .
يقال : حاق به السوء والمكروه ، ولا يقال : حاق به الخير ، فمادة الحيق من الأجوف الذي هو يائي العين ، والوصف منه حائق على القياس ، ومنه قول الشاعر :
فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم وحاق بهم من بأس ضبة حائق
وقد قدمنا أن وزن السيئة بالميزان الصرفي فيعلة من السوء ، فأدغمت ياء الفيعلة الزائدة في الواو ، التي هي عين الكلمة ، بعد إبدال الواو ياء على القاعدة التصريفية المشار إليها ، في الخلاصة بقوله :
إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا
فياء الواو فلين مدغما وشذ معطي غير ما قد رسما
قوله تعالى : وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد . قوله تعالى : يتحاجون في النار أصله يتفاعلون من الحجة أي : يختصمون ، ويحتج بعضهم على بعض ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] وقوله تعالى : [ ص: 390 ] ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا [ 34 \ 31 - 33 ] . وقوله تعالى : كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون [ 7 \ 38 - 39 ] وقوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا [ 2 \ 166 - 167 ] وقوله تعالى : وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل [ 14 \ 21 - 22 ] والآيات بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا الكلام عليها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
قوله تعالى : وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أن أهل النار طلبوا من خزنة جهنم أن يدعو لهم الله أن يخفف عنهم من شدة عذاب النار .
وقد بين في سورة الزخرف أنهم نادوا مالكا خاصة من خزنة أهل النار ليقضي الله عليهم ، أي : ليميتهم فيستريحوا بالموت من عذاب النار .
وقد أوضح جل وعلا في آيات من كتابه ، أنهم لا يحابون في واحد من الأمرين ; فلا يخفف عنهم العذاب ، الذي سألوا تخفيفه ، في سورة المؤمن هذه ، ولا يحصل لهم الموت الذي سألوه في سورة الزخرف ، فقال تعالى في عدم تخفيف العذاب عنهم في [ ص: 391 ] هذه الآية : أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال [ 40 \ 50 ] وقال تعالى : ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 35 \ 36 ] وقال تعالى : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 ] وقال تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ 43 \ 75 ] وقال تعالى : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] وقال تعالى : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] وقال تعالى : لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون [ 3 \ 88 ] . وقال تعالى : ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] .
وقال تعالى في عدم موتهم في النار : لا يقضى عليهم فيموتوا [ 35 \ 36 ] . وقال تعالى : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت [ 14 \ 17 ] . وقال تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [ 4 \ 56 ] . وقال تعالى : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 \ 74 ] . وقال تعالى : ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا [ 87 \ 11 - 13 ]
ولما قالوا : ليقض علينا ربك [ 43 \ 77 ] أجابهم بقوله : قال إنكم ماكثون [ 43 \ 77 ] .
قوله تعالى : قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات . قد قدمنا الكلام عليه مع الآيات التي بمعناه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير الآية [ 3 \ 14 ] ، وذكرنا طرفا من ذلك في الصافات في الكلام على قوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون [ 37 \ 171 - 172 ] وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله في سورة المجادلة .
قوله تعالى : ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب . [ ص: 392 ] اللام في قوله : ولقد آتينا موسى الهدى موطئة للقسم ، وصيغة الجمع في آتينا و أورثنا للتعظيم .
والمراد بالهدى ما تضمنه التوراة من الهدى في العقائد والأعمال : وأورثنا بني إسرائيل الكتاب وهو التوراة ، وقوله : هدى وذكرى لأولي الألباب مفعول من أجله ، أي : لأجل الهدى والتذكير .
وقال بعضهم : هدى حال ، وورود المصدر المنكر حالا معروف ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كـ بغتة زيد طلع
وقال القرطبي : هدى بدل من الكتاب ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله أنزل التوراة على موسى وأنزل فيها الهدى لبني إسرائيل جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا [ 17 \ 2 ] . وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل الآية [ 32 \ 23 ] . وقوله تعالى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار [ 5 \ 44 ] وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون [ 28 \ 43 ] وقوله تعالى : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون [ 6 \ 154 ] . وقوله تعالى : وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء الآية [ 7 \ 145 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه . قد قدمنا إيضاحه في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها [ 7 \ 13 ] ، وذكرنا هناك بعض النتائج السيئة الناشئة عن الكبر .
قوله تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس .
[ ص: 393 ] قد قدمنا أن هذه الآية من البراهين الدالة على البعث ، وأوضحنا كل البراهين الدالة على البعث بالآيات القرآنية بكثرة في سورة البقرة ، وسورة النحل ، وأحلنا على مواضع ذلك مرارا .
قوله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وما يستوي الأعمى والبصير قدمنا الكلام عليه في سورة هود ، في الكلام على قوله تعالى : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع الآية [ 11 \ 24 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قد قدمنا إيضاح معناه بالآيات القرآنية في سورة ص في الكلام على قوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] .
قوله تعالى : إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .
قوله تعالى : وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين . قال بعض العلماء : ادعوني أستجب لكم : اعبدوني أثبكم من عبادتكم ، ويدل لهذا قوله بعده : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين .
وقال بعض العلماء : ادعوني أستجب لكم أي : اسألوني أعطكم .
ولا منافاة بين القولين ; لأن دعاء الله من أنواع عبادته .
وقد أوضحنا هذا المعنى ، وبينا وجه الجمع بين قوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [ 2 \ 186 ] مع قوله تعالى : فيكشف ما تدعون إليه إن شاء [ ص: 394 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا [ 25 \ 47 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم [ 17 \ 12 ] .
قوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية [ 22 \ 5 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ 16 \ 40 ] . وبينا أوجه القراءة في قوله : فيكون هناك .
قوله تعالى : ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين . لم يبين هنا جل وعلا عدد أبواب جهنم ، ولكنه بين ذلك في سورة الحجر ، في قوله تعالى : وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 15 \ 43 - 44 ] .
قوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله تبارك وتعالى قص على نبيه صلى الله عليه وسلم أنباء بعض [ ص: 395 ] الرسل ; أي : كنوح وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، وأنه لم يقصص عليه أنباء رسل آخرين ، بينه في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة النساء : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [ 4 \ 164 ] ، وأشار إلى ذلك في سورة إبراهيم في قوله : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات الآية [ 14 \ 9 ] . وفي سورة الفرقان في قوله تعالى : وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا [ 25 \ 38 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون . قوله هنا : فإذا جاء أمر الله أي قامت القيامة ، كما قدمنا إيضاحه في قوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] أي : فإذا قامت القيامة قضى بين الناس بالحق الذي لا يخالطه حيف ولا جور ، كما قال تعالى : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق الآية [ 39 \ 69 ] .
وقال تعالى : وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق [ 39 \ 75 ] .
والحق المذكور في هذه الآيات : هو المراد بالقسط المذكور في سورة يونس في قوله تعالى : ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط [ 10 \ 47 ] .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه إذا قامت القيامة يخسر المبطلون ، أوضحه جل وعلا في سورة الجاثية في قوله تعالى : ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون [ 45 \ 27 ] .
والمبطل هو : من مات مصرا على الباطل .
وخسران المبطلين المذكور هنا قد قدمنا بيانه في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين [ 10 \ 45 ] .
قوله تعالى : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون [ ص: 396 ] قد قدمنا أن لفظة جعل تأتي في اللغة العربية لأربعة معان ; ثلاثة منها في القرآن :
الأول : إتيان جعل بمعنى اعتقد ، ومنه قوله تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [ 43 \ 19 ] أي : اعتقدوهم إناثا ، ومعلوم أن هذه تنصب المبتدأ والخبر .
الثاني : جعل بمعنى صير ، كقوله : حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 15 ] وهذه تنصب المبتدأ والخبر أيضا .
الثالث : جعل بمعنى خلق ، كقوله تعالى : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [ 6 \ 1 ] أي : خلق السماوات والأرض وخلق الظلمات والنور .
والظاهر أن منه قوله هنا : الله الذي جعل لكم الأنعام أي : خلق لكم الأنعام ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم [ 16 \ 5 ] ، وقوله : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما الآية [ 36 \ 71 ] .
الرابع : وهو الذي ليس في القرآن جعل بمعنى شرع ، ومنه قوله :
وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر
وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، من الامتنان بهذه النعم الكثيرة ، التي أنعم عليهم بها بسبب خلقه لهم الأنعام وهي الذكور والإناث ، من الإبل والبقر والضأن والمعز ، كما قدمنا إيضاحه في سورة آل عمران في الكلام على قوله : والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] بينه أيضا في مواضع أخر ، كقوله تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [ 16 \ 5 - 7 ] . والدفء ما يتدفئون به في الثياب المصنوعة من جلود الأنعام وأوبارها وأشعارها وأصوافها .
وقوله تعالى : جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين [ 16 \ 80 ] . وقوله تعالى : [ ص: 397 ] أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 36 \ 71 - 73 ] وقوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين [ 61 \ 66 ] . وقوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون [ 23 \ 21 - 22 ] . وقوله تعالى ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين إلى قوله : أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا [ 6 \ 142 - 144 ] وقوله تعالى : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 \ 6 ] . وقوله تعالى : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا الآية [ 42 \ 11 ] . وقوله تعالى : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون الآية [ 43 \ 12 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم . قد ذكرنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، وبينا مواضعها في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم .
قوله تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 51 ] ، وفي سورة ص في الكلام على قوله تعالى فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (462)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
صـ 3 إلى صـ 10
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ فُصِّلَتْ
قَوْلُهُ تَعَالَى : حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَظَائِرِهِ مِنَ الْآيَاتِ ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ .
قوله تعالى : كتاب فصلت آياته .
( كتاب ) خبر مبتدإ محذوف ، أي : هذا كتاب ، والكتاب فعال بمعنى مفعول ، أي مكتوب .
وإنما قيل له ( كتاب ) لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، كما قال - تعالى - : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ [ 85 \ 21 - 22 ] .
ومكتوب أيضا في صحف عند الملائكة ; كما قال - تعالى - : كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة [ 80 \ 11 - 16 ] .
وقال - تعالى - في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تضمنته الصحف المكتوب فيها القرآن : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة ) [ 98 \ 2 - 3 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فصلت آياته التفصيل ضد الإجمال ، أي فصل الله آيات هذا القرآن ، أي بينها وأوضح فيها ما يحتاج إليه الخلق من أمور دينهم ودنياهم .
والمسوغ لحذف الفاعل في قوله - تعالى - : فصلت آياته هو العلم بأن تفصيل آيات هذا القرآن لا يكون إلا من الله وحده .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تفصيل آيات هذا الكتاب ، جاء موضحا في آيات أخر ، مبينا فيها أن الله فصله على علم منه ، وأن الذي فصله حكيم خبير ، وأنه فصله ليهدي [ ص: 4 ] به الناس ويرحمهم ، وأن تفصيله شامل لكل شيء ، وأنه لا شك أنه منزل من الله ، كقوله - تعالى - : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 52 ] وقوله - تعالى - : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] . وقوله - تعالى - : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [ 10 \ 37 ] ، وقوله - تعالى - : ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 11 \ 111 ] ، وقوله - تعالى - : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا [ 6 \ 114 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
قوله - تعالى - : قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون
قوله : ( قرآنا عربيا ) قد تكلمنا عليه وعلى الآيات التي بمعناه في القرآن في سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : قرءانا عربيا غير ذي عوج [ 39 \ 28 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لقوم يعلمون [ 41 \ 3 ] أي فصلت آياته في حال كونه ( قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) .
وإنما خصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون بتفصيله ، كما خصهم بتفصيل الآيات في سورة " يونس " في قوله - تعالى - : ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون [ 10 \ 5 ] وفي سورة " الأنعام " في قوله - تعالى - : قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون [ 6 \ 97 - 98 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد أوضحنا وجه تخصيص المنتفعين بالأمر المشترك دون غيرهم في سورة " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة [ 35 \ 18 ] وبينا هناك أن تخصيصهم بالإنذار دون غيرهم في آية " فاطر " هذه ، وفي قوله - تعالى - في " يس " : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب [ 36 \ 11 ] ، وقوله في النازعات : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] ، وقوله في " الأنعام " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع [ ص: 5 ] الآية [ 6 \ 51 ] . مع أن أصل الإنذار عام شامل للمذكورين وغيرهم ، كما يدل عليه قوله - تعالى - : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] .
وإنما خص المذكورين بالإنذار ، لأنهم هم المنتفعون به ; لأن من لم ينتفع بالإنذار ، ومن لم ينذر أصلا - سواء في عدم الانتفاع ، كما قال الله - تعالى - : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 36 \ 10 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : بشيرا ونذيرا [ 41 \ 4 ] حال بعد حال . وقد قدمنا الكلام عليه وبعض شواهده العربية في أول سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين [ 18 \ 2 ] ، وبسطنا الكلام عليه في أول سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 2 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فأعرض أكثرهم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] وفي سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله [ 6 \ 116 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فهم لا يسمعون أي لا يسمعون سماع قبول وانتفاع .
وقد أوضحنا ذلك بالآيات القرآنية في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء الآية [ 27 \ 80 ] .
قوله تعالى : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب .
ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار صرحوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لا يستجيبون له ولا يؤمنون به ، ولا يقبلون منه ما جاءهم به ; فقالوا له : قلوبنا التي نعقل بها ونفهم ( في أكنة ) أي أغطية .
[ ص: 6 ] والأكنة جمع كنان ، وهو الغطاء والغلاف الذي يغطي الشيء ويمنعه من الوصول إليه .
ويعنون أن تلك الأغطية مانعة لهم من فهم ما يدعوهم إليه - صلى الله عليه وسلم - . وقالوا : إن في آذانهم التي يسمعون بها وقرا ، أي ثقلا ، وهو الصمم ، وإن ذلك الصمم مانع لهم من أن يسمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ومما يقول ، كما قال - تعالى - عنهم : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه [ 41 \ 26 ] .
وأن من بينهم وبينه حجابا مانعا لهم من الاتصال والاتفاق ; لأن ذلك الحجاب يحجب كلا منهما عن الآخر ، ويحول بينهم وبين رؤية ما يبديه - صلى الله عليه وسلم - من الحق .
والله - جل وعلا - ذكر عنهم هذا الكلام في معرض الذم ، مع أنه - تعالى - صرح بأنه جعل على قلوبهم الأكنة ، وفي آذانهم الوقر ، وجعل بينهم وبين رسوله حجابا عند قراءته القرآن ، قال - تعالى - في سورة " بني إسرائيل " : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 17 \ 45 - 46 ] . وقال - تعالى - في " الأنعام " : ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها [ 6 \ 25 ] . وقال - تعالى - " في الكهف " : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ 18 \ 57 ] .
وهذا الإشكال الذي أشرنا إليه في هذه الآيات قوي ، ووجه كونه مشكلا ظاهر; لأنه - تعالى - ذمهم على دعواهم الأكنة والوقر والحجاب في هذه الآية الكريمة من " فصلت " ، وبين في الآيات الأخرى أن ما ذمهم على ادعائه واقع بهم فعلا ، وأنه - تعالى - هو الذي جعله فيهم .
فيقال : فكيف يذمون على قول شيء هو حق في نفس الأمر ؟
والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال هو ما ذكرناه مرارا من أن الله إنما جعل على قلوبهم الأكنة ، وطبع عليها وختم عليها ، وجعل الوقر في آذانهم ، ونحو ذلك من الموانع من الهدى - بسبب أنهم بادروا إلى الكفر ، وتكذيب الرسل طائعين مختارين ، فجزاهم الله على ذلك الذنب الأعظم طمس البصيرة ، والعمى عن الهدى ، جزاء وفاقا .
[ ص: 7 ] فالأكنة والوقر والحجاب المذكورة إنما جعلها الله عليهم مجازاة لكفرهم الأول .
ومن جزاء السيئة تمادي صاحبها في الضلال ، ولله الحكمة البالغة في ذلك .
والآيات المصرحة بمعنى هذا كثيرة في القرآن ، كقوله - تعالى - : وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] .
فقول اليهود في هذه الآية : قلوبنا غلف كقول كفار مكة : قلوبنا في أكنة ; لأن الغلف جمع أغلف ، وهو الذي عليه غلاف ، والأكنة جمع كنان ، والغلاف والكنان كلاهما بمعنى الغطاء الساتر .
وقد رد الله على اليهود دعواهم ب ( بل ) التي هي للإضراب الإبطالي ، في قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] .
فالباء في قوله : ( بكفرهم ) سببية ، وهي دالة على أن سبب الطبع على قلوبهم هو كفرهم ، والأكنة والوقر والطبع كلها من باب واحد .
وكقوله - تعالى - : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ 63 \ 3 ] ، والفاء في قوله : ( فطبع ) سببية ، أي ثم كفروا ، فطبع على قلوبهم بسبب ذلك الكفر .
وقد قدمنا مرارا أنه تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل ، ومن المعلوم أن العلة الشرعية سبب شرعي .
وكذلك الفاء في قوله : فهم لا يفقهون فهي سببية أيضا ، أي فطبع على قلوبهم ، فهم بسبب ذلك الطبع ( لا يفقهون ) أي لا يفهمون من براهين الله وحججه شيئا .
وذلك مما يبين أن الطبع والأكنة يئول معناهما إلى شيء واحد ، وهو ما ينشأ عن كل منهما من عدم الفهم .
لأنه قال في الطبع فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون .
وقال في الأكنة : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه [ 6 \ 25 ] أي كراهة أن يفقهوه ، أو لأجل ألا يفقهوه ، كما قدمنا إيضاحه .
[ ص: 8 ] وكقوله - تعالى - : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] فبين أن زيغهم الأول كان سببا لإزاغة الله قلوبهم ، وتلك الإزاغة قد تكون بالأكنة والطبع والختم على القلوب .
وكقوله - تعالى - : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] وقوله - تعالى - : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] وقوله - تعالى - : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم [ 9 \ 125 ] .
وإيضاح هذا الجواب أن الكفار قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب يقصدون بذلك إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لا يؤمنون به بوجه ، ولا يتبعونه بحال ، ولا يقرون بالحق الذي هو كون كفرهم هذا هو الجريمة والذنب الذي كان سببا في الأكنة والوقر والحجاب .
فدعواهم كاذبة ; لأن الله جعل لهم قلوبا يفهمون بها ، وآذانا يسمعون بها ، خلافا لما زعموا ، ولكنه سبب لهم الأكنة والوقر والحجاب بسبب مبادرتهم إلى الكفر ، وتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا المعنى أوضحه رده - تعالى - على اليهود في قوله عنهم : وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم .
وقد حاول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة الجواب على الإشكال المذكور ، فقال : فإن قيل إنه - تعالى - حكى هذا المعنى عن الكفار في معرض الذم ، وذكر أيضا ما يقرب منه في معرض الذم ، فقال : وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم [ 2 \ 88 ] ثم إنه - تعالى - ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معنى التقرير والإثبات في سورة الأنعام ، فقال : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 6 \ 25 ] فكيف الجمع بينهما ؟
قلنا : إنه لم يقل ها هنا إنهم كذبوا في ذلك ، إنما الذي ذمهم عليه أنهم قالوا : إنا إذا كنا كذلك لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا ، وهذا الثاني باطل .
أما الأول فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه . اهـ منه . والأظهر هو ما ذكرنا .
[ ص: 9 ] قال صاحب الكشاف في تفسير قوله - تعالى - : ومن بيننا وبينك حجاب .
فإن قلت : هل لزيادة ( من ) في قوله : ( ومن بيننا وبينك حجاب ) - فائدة ؟ قلت : نعم ; لأنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب ، لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين .
وأما بزيادة ( من ) فالمعنى أن حجابا ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب ، لا فراغ فيها . انتهى منه .
واستحسن كلامه هذا الفخر الرازي ، وتعقبه ابن المنير على الزمخشري ، فأوضح سقوطه ، والحق معه في تعقبه عليه .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ومن بيننا وبينك حجاب ، وقد قدمنا تفسيره وإيضاحه بالآيات القرآنية في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله - تعالى - : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا [ 17 \ 45 ] .
قوله - تعالى - : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد .
أمر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للناس : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد .
والقصر في قوله : إنما أنا بشر إضافي ، أي لا أقول لكم : إني ملك ، وإنما أنا رجل من البشر .
وقوله : مثلكم في الصفات البشرية ، ولكن الله فضلني بما أوحى إلي من توحيده .
كما قال - تعالى - عن الرسل في سورة إبراهيم : قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 \ 11 ] أي كما من علينا بالوحي والرسالة .
وما ذكره الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ذكره في آخر سورة الكهف في قوله - تعالى - : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا الآية [ 18 \ 110 ] .
[ ص: 10 ] وقد أوضحنا وجه حصر ما أوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - في مضمون لا إله إلا الله ، في قوله - تعالى - قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله - تعالى - إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
وبينا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك إنكار المشركين كون الرسل من البشر ، وأنهم ينبغي أن يكونوا من الملائكة ، وما رد الله عليهم به ذلك من الآيات القرآنية ، أوضحنا ذلك في سورة ص ، في الكلام على قوله - تعالى - : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله - تعالى - : وما منع الناس أن يؤمنوا إلى قوله : لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 94 - 95 ] .
قوله - تعالى - : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون .
قد استدل بعض علماء الأصول بهذه الآية الكريمة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ; لأنه - تعالى - صرح في هذه الآية الكريمة بأنهم مشركون ، وأنهم كافرون بالآخرة ، وقد توعدهم بالويل على شركهم وكفرهم بالآخرة ، وعدم إيتائهم الزكاة ، سواء قلنا : إن الزكاة في الآية هي زكاة المال المعروفة ، أو زكاة الأبدان بفعل الطاعات واجتناب المعاصي .
ورجح بعضهم القول الأخير ; لأن سورة فصلت هذه من القرآن النازل بمكة قبل الهجرة ، وزكاة المال المعروفة إنما فرضت بعد الهجرة سنة اثنتين ، كما قدمناه في سورة الأنعام ، في الكلام على قوله - تعالى - : وآتوا حقه يوم حصاده [ 6 \ 141 ] .
وعلى كل حال ، فالآية تدل على خطاب الكفار بفروع الإسلام .
أعني امتثال أوامره واجتناب نواهيه . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونهم مخاطبين بذلك ، وأنهم يعذبون على الكفر ، ويعذبون على المعاصي - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - عنهم مقررا له : ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين [ 74 \ 42 - 47 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (463)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
صـ 11 إلى صـ 18
[ ص: 11 ] فصرح - تعالى - عنهم مقررا له أن من الأسباب التي سلكتهم في سقر - أي أدخلتهم النار - عدم الصلاة ، وعدم إطعام المسكين ، وعد ذلك مع الكفر بسبب التكذيب بيوم الدين .
ونظير ذلك قوله - تعالى - : خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه [ 69 \ - 32 ] ثم بين سبب ذلك فقال : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا حميم ولا ولا طعام إلا من غسلين [ 69 \ 33 - 36 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون .
الأجر جزاء العمل ، وجزاء عمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات هو نعيم الجنة ، وذلك الجزاء ( غير ممنون ) أي غير مقطوع ، فالممنون اسم مفعول منه بمعنى قطعه ، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته :
لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب ما يمن طعامها
فقوله : ما يمن طعامها ، أي ما يقطع . وقول ذي الأصبع :
إني لعمرك ما بابي بذي غلق على الصديق ولا خيري بممنون
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن أجرهم غير ممنون - نص الله - تعالى - عليه في آيات أخر من كتابه ، كقوله - تعالى - في آخر سورة الانشقاق : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون [ 84 \ 25 ] . وقوله - تعالى - في سورة التين : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون [ 95 \ 6 ] . وقوله - تعالى - في سورة هود : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] .
فقوله : ( غير مجذوذ ) أي غير مقطوع ، وبه تعلم أن ( غير مجذوذ ) و ( غير ممنون ) - معناهما واحد .
وقوله - تعالى - في " ص " : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] أي ما له من انتهاء ولا انقطاع . وقوله في " النحل " : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] .
[ ص: 12 ] وهذا الذي ذكرنا هو الذي عليه الجمهور خلافا لمن قال : إن معنى ( غير ممنون ) غير ممنون عليهم به .
وعليه ; فالمن في الآية من جنس المن المذكور في قوله - تعالى - : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ 2 \ 264 ] .
ومن قال : إن معنى ( غير ممنون ) غير منقوص ، محتجا بأن العرب تطلق الممنون على المنقوص ، قالوا : ومنه قول زهير :
فضل الجياد على الخيل البطاء فلا يعطى بذلك ممنونا ولا نزقا
فقوله : ممنونا ، أي منقوصا .
وهذا وإن صح لغة ، فالأظهر أنه ليس معنى الآية .
بل معناها هو ما قدمنا . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام .
الظاهر أن معنى قوله هنا ( في أربعة أيام ) أي في تتمة أربعة أيام .
وتتمة الأربعة حاصلة بيومين فقط ; لأنه - تعالى - قال : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ثم قال : ( في أربعة أيام ) أي في تتمة أربعة أيام .
ثم قال : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 12 ] فتضم اليومين إلى الأربعة السابقة ، فيكون مجموع الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض وما بينهما - ستة أيام .
وهذا التفسير الذي ذكرنا في الآية لا يصح غيره بحال ; لأن الله - تعالى - صرح في آيات متعددة من كتابه بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، كقوله في " الفرقان " : الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [ 25 \ 59 ] . وقوله - تعالى - في السجدة : الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع [ 32 \ 4 ] . وقوله - تعالى - في " ق " : ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب [ 50 \ 38 ] . وقوله - تعالى - في " الأعراف " : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش [ ص: 13 ] [ 7 \ 54 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
فلو لم يفسر قوله - تعالى - : في أربعة أيام بأن معناه في تتمة أربعة أيام - لكان المعنى أنه - تعالى - خلق السماوات والأرض وما بينهما في ثمانية أيام; لأن قوله - تعالى - : في أربعة أيام إذا فسر بأنها أربعة كاملة ثم جمعت مع اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض المذكورين في قوله : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [ 41 \ 9 ] ، واليومين اللذين خلقت فيهما السماوات المذكورين في قوله - تعالى - : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 12 ] - لكان المجموع ثمانية أيام .
وذلك لم يقل به أحد من المسلمين .
والنصوص القرآنية مصرحة بأنها ستة أيام ، فعلم بذلك صحة التفسير الذي ذكرنا ، وصحة دلالة الآيات القرآنية عليه .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة وجعل فيها رواسي من فوقها قد قدمنا الكلام على أمثاله من الآيات في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [ 16 \ 15 ] ، وقوله - تعالى - : وبارك فيها أي أكثر فيها البركات ، والبركة الخير ، وقوله - تعالى - وقدر فيها أقواتها .
التقدير والخلق في لغة العرب معناهما واحد .
والأقوات جمع قوت ، والمراد بالأقوات أرزاق أهل الأرض ومعايشهم وما يصلحهم .
وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " أن آية " فصلت " هذه ، أعني قوله - تعالى - : وقدر فيها أقواتها يفهم منها الجمع بين الآيات الدالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كقوله هنا : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ثم رتب على ذلك بـ ( ثم ) قوله : ثم استوى إلى السماء وهي دخان إلى قوله فقضاهن سبع سماوات في يومين مع بعض الآيات الدالة على أن السماء خلقت قبل الأرض ، كقوله - تعالى - في " النازعات " : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها إلى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 \ 27 - 30 ] .
فقلنا في كتابنا المذكور ما نصه : قوله - تعالى - : [ ص: 14 ] هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء [ 2 \ 29 ] ، الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء ، بدليل لفظة ( ثم ) التي هي للترتيب والانفصال .
وكذلك آية " حم السجدة " تدل أيضا على خلق الأرض قبل السماء ; لأنه قال فيها : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى أن قال ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية .
مع أن آية " النازعات " تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ; لأنه قال فيها أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ، ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها .
اعلم أولا أن ابن عباس - رضي الله عنهما - سئل عن الجمع بين آية " السجدة " وآية " النازعات " فأجاب بأن الله - تعالى - خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك .
فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء .
ويدل لهذا أنه قال : والأرض بعد ذلك دحاها ولم يقل : خلقها ، ثم فسر دحوه إياها بقوله : أخرج منها ماءها ومرعاها [ 79 \ 31 ] ، وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه ، مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يرد عليه إشكال من آية " البقرة " هذه .
وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء .
وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء ; لأنه قال فيها هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية .
وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم ، ففهمته من القرآن العظيم .
وإيضاحه : أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين ، كل منهما تدل عليه آية من القرآن .
[ ص: 15 ] الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء - الخلق اللغوي الذي هو التقدير ، لا الخلق بالفعل ، الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود ، والعرب تسمي التقدير خلقا . ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير أنه - تعالى - نص على ذلك في سورة " فصلت " ; حيث قال : وقدر فيها أقواتها ثم قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية .
الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مدحوة وهي أصل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا .
والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، وإن لم يكن موجودا بالفعل - قوله - تعالى - : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة الآية [ 7 \ 11 ] ، فقوله : خلقناكم ثم صورناكم أي بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم .
وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله والأرض بعد ذلك دحاها أي مع ذلك ، فلفظة ( بعد ) بمعنى مع .
ونظيره قوله - تعالى - : عتل بعد ذلك زنيم وعليه ; فلا إشكال في الآية .
ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة - وبها قرأ مجاهد - : ( والأرض مع ذلك دحاها ) .
وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة ; لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض ، وهو خلاف التحقيق .
منها : أن ( ثم ) بمعنى الواو .
ومنها : أنها للترتيب الذكري ، كقوله - تعالى - : ثم كان من الذين آمنوا الآية [ 90 \ 17 ] .
[ ص: 16 ] قوله - تعالى - : وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا .
المصابيح : النجوم .
وما تضمنته هذه الآية من تزيين السماء الدنيا بالنجوم ، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها [ 6 \ 97 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وحفظا قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " الحجر " في الكلام على قوله - تعالى - : وحفظناها من كل شيطان رجيم الآية [ 15 \ 17 ] .
قوله - تعالى - : قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون .
قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " ص " في الكلام على قوله - تعالى - : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] .
قوله - تعالى - : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات . الصرصر : وزنه بالميزان الصرفي " فعفل " ، وفي معنى الصرصر لعلماء التفسير وجهان معروفان .
أحدهما : أن الريح الصرصر هي الريح العاصفة الشديدة الهبوب التي يسمع لهبوبها صوت شديد ، وعلى هذا ; فالصرصر من الصرة التي هي الصيحة المزعجة .
ومنه قوله - تعالى - فأقبلت امرأته في صرة أي في صيحة ، ومن هذا المعنى صرير الباب والقلم ، أي صوتهما .
الوجه الثاني : أن الصرصر من الصر الذي هو البرد الشديد المحرق ، ومنه على أصح التفسيرين قوله - تعالى - : كمثل ريح فيها صر الآية [ 3 \ 117 ] ، أي فيها برد شديد محرق ، ومنه قول حاتم الطائي :
أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا واقد ريح صر عل يرى نارك من يمر
إن جلبت ضيفا فأنت حر
[ ص: 17 ] فقوله : ريح صر ، أي باردة شديدة البرد .
والأظهر أن كلا القولين صحيح ، وأن الريح المذكورة جامعة بين الأمرين ، فهي عاصفة شديدة الهبوب ، باردة شديدة البرد .
وما ذكره - جل وعلا - من إهلاكه عادا بهذه الريح الصرصر ، في تلك الأيام النحسات - أي المشئومات النكدات; لأن النحس ضد السعد ، وهو الشؤم - جاء موضحا في آيات من كتاب الله .
وقد بين - تعالى - في بعضها عدد الأيام والليالي التي أرسل عليهم الريح فيها ، كقوله - تعالى - : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية [ 69 \ 6 - 8 ] ، وقوله - تعالى - : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ 51 \ 41 - 42 ] ، وقوله - تعالى - : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر [ 54 \ 19 - 20 ] ، وقوله - تعالى - : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها الآية [ 46 \ 24 - 25 ] .
وهذه الريح الصرصر هي المراد بصاعقة عاد في قوله - تعالى - : فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد الآية [ 41 \ 13 ] .
وقرأ هذا الحرف نافع ، وابن كثير ، وأبو عمر ( نحسات ) بسكون الحاء; وعليه فالنحس وصف أو مصدر ، نزل منزلة الوصف .
وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ( نحسات ) بكسر الحاء ، ووجهه ظاهر .
قد قدمنا أن معنى النحسات المشئومات النكدات .
وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج الطستي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله - عز وجل - : في يوم نحس [ 54 \ 19 ] . قال : [ ص: 18 ] النحس البلاء والشدة . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت زهير بن أبي سلمى يقول :
سواء عليه أي يوم أتيته أساعة نحس تتقي أم بأسعد
وتفسير النحس بالبلاء والشدة تفسير بالمعنى ; لأن الشؤم بلاء وشدة ، ومقابلة زهير النحس بالأسعد في بيته يوضح ذلك ، وهو معلوم .
ويزعم بعض أهل العلم أنها من آخر شوال ، وأن أولها يوم الأربعاء ، وآخرها يوم الأربعاء ، ولا دليل على شيء من ذلك .
وما يذكره بعض أهل العلم من أن يوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء الأخير من الشهر ، أو يوم الأربعاء مطلقا ، حتى إن بعض المنتسبين لطلب العلم وكثيرا من العوام صاروا يتشاءمون بيوم الأربعاء الأخير من كل شهر ، حتى إنهم لا يقدمون على السفر والتزوج ونحو ذلك فيه ، ظانين أنه يوم نحس وشؤم ، وأن نحسه مستمر على جميع الخلق في جميع الزمن - لا أصل له ولا معول عليه ، ولا يلتفت إليه من عنده علم; لأن نحس ذلك اليوم مستمر على عاد فقط الذين أهلكهم الله فيه ، فاتصل لهم عذاب البرزخ والآخرة بعذاب الدنيا ، فصار ذلك الشؤم مستمرا عليهم استمرارا لا انقطاع له .
أما غير عاد فليس مؤاخذا بذنب عاد ; لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى .
وقد أردنا هنا أن نذكر بعض الروايات التي اغتر بها من ظن استمرار نحس ذلك اليوم ; لنبين أنها لا معول عليها .
قال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش في يوم نحس مستمر قال : يوم الأربعاء .
وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قال لي جبريل : اقض باليمين مع الشاهد . وقال : يوم الأربعاء يوم نحس مستمر " .
وأخرج ابن مردويه عن علي قال : " نزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - باليمين مع الشاهد ، والحجامة ، ويوم الأربعاء يوم نحس مستمر " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (464)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
صـ 19 إلى صـ 26
[ ص: 19 ] وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يوم نحس يوم الأربعاء " .
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأيام ، وسئل عن يوم الأربعاء قال : يوم نحس . قالوا كيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : أغرق فيه الله فرعون وقومه ، وأهلك عادا وثمود " .
وأخرج وكيع في الغرر ، وابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر " .
فهذه الروايات وأمثالها لا تدل على شؤم يوم الأربعاء على من لم يكفر بالله ولم يعصه; لأن أغلبها ضعيف ، وما صح معناه منها فالمراد بنحسه شؤمه على أولئك الكفرة العصاة الذين أهلكهم الله فيه بسبب كفرهم ومعاصيهم .
فالحاصل أن النحس والشؤم إنما منشؤه وسببه الكفر والمعاصي .
أما من كان متقيا لله مطيعا له في يوم الأربعاء المذكور - فلا نحس ولا شؤم فيه عليه . فمن أراد أن يعرف النحس والشؤم والنكد والبلاء والشقاء على الحقيقة ، فليتحقق أن ذلك كله في معصية الله وعدم امتثال أمره ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى .
قوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فهديناهم المراد بالهدى فيه هدى الدلالة والبيان والإرشاد ، لا هدى التوفيق والاصطفاء .
والدليل على ذلك قوله - تعالى - بعده : فاستحبوا العمى على الهدى ; لأنها لو كانت هداية توفيق لما انتقل صاحبها عن الهدى إلى العمى .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فاستحبوا العمى على الهدى أي اختاروا الكفر على الإيمان وآثروه عليه ، وتعوضوه منه .
وهذا المعنى الذي ذكرنا يوضحه قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان [ 9 \ 23 ] فقوله في آية " التوبة " هذه : [ ص: 20 ] إن استحبوا الكفر على الإيمان موافق في المعنى لقوله هنا : فاستحبوا العمى على الهدى .
ونظير ذلك في المعنى قوله - تعالى - : الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله [ 14 \ 3 ] .
فلفظة استحب في القرآن كثيرا ما تتعدى بعلى; لأنها في معنى اختار وآثر .
وقد قدمنا في سورة " هود " في الكلام على قوله - تعالى - : مثل الفريقين كالأعمى - أن العمى الكفر ، وأن المراد بالأعمى في آيات عديدة الكافر .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الهدى يأتي في القرآن بمعناه العام ، الذي هو البيان والدلالة والإرشاد - لا ينافي أن الهدى قد يطلق في القرآن في بعض المواضع على الهدى الخاص الذي هو التوفيق والاصطفاء ، كقوله - تعالى - : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] .
فمن إطلاق القرآن الهدى على معناه العام قوله هنا : وأما ثمود فهديناهم أي بينا لهم طريق الحق وأمرناهم بسلوكها ، وطرق الشر ونهيناهم عن سلوكها على لسان نبينا صالح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : فاستحبوا العمى على الهدى أي اختاروا الكفر على الإيمان بعد إيضاح الحق لهم .
ومن إطلاقه على معناه العام قوله - تعالى - : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] بدليل قوله بعده : إما شاكرا وإما كفورا ; لأنه لو كان هدى توفيق لما قال : وإما كفورا .
ومن إطلاقه على معناه الخاص قوله - تعالى - : فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] . وقوله - تعالى - : والذين اهتدوا زادهم هدى [ 47 \ 17 ] . وقوله : من يهد الله فهو المهتدي [ 18 \ 17 ] .
وبمعرفة هذين الإطلاقين تتيسر إزالة إشكال قرآني وهو أنه - تعالى - : أثبت الهدى لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في آية ، وهي قوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] ونفاه عنه في آية أخرى ، وهي قوله - تعالى - : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] .
[ ص: 21 ] فيعلم مما ذكرنا أن الهدى المثبت له - صلى الله عليه وسلم - هو الهدى العام ، الذي هو البيان والدلالة والإرشاد ، وقد فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - فبين المحجة البيضاء ، حتى تركها ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها هالك .
والهدى المنفي عنه في آية : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] - هو الهدى الخاص ، الذي هو التفضل بالتوفيق ; لأن ذلك بيد الله وحده ، وليس بيده - صلى الله عليه وسلم - كما قال - تعالى - : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم الآية [ 5 \ 41 ] . وقوله - تعالى - : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل [ 16 \ 37 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وكذلك قوله - تعالى - : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس الآية [ 2 \ 185 ] - لا منافاة فيه بين عموم الناس في هذه الآية ، وخصوص المتقين في قوله - تعالى - : ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين لأن الهدى العام للناس هو الهدى العام ، والهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص ، كما لا يخفى .
وقد بينا هذا في غير هذا الموضع ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون .
الفاء في قوله : ( فأخذتهم ) سببية ، أي فاستحبوا العمى على الهدى ، وبسبب ذلك أخذتهم صاعقة العذاب الهون .
واعلم أن الله - جل وعلا - عبر عن الهلاك الذي أهلك به ثمود بعبارات مختلفة ، فذكره هنا باسم الصاعقة في قوله : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون ، وقوله : فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [ 41 \ 31 ] .
وعبر عنه أيضا بالصاعقة في سورة " الذاريات " في قوله - تعالى - : وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون [ 51 \ 43 - 44 ] .
وعبر عنه بالصيحة في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - في سورة " هود " في إهلاكه ثمود : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود [ ص: 22 ] [ 11 \ 67 - 68 ] وقوله - تعالى - في " الحجر " : وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين [ 15 \ 82 - 83 ] وقوله - تعالى - في القمر : إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر [ 54 \ 31 ] وقوله - تعالى - في " العنكبوت " ومنهم من أخذته الصيحة يعني به ثمود المذكورين في قوله قبله : وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم الآية [ 29 \ 38 ] .
وعبر عنه بالرجفة في سورة الأعراف في قوله - تعالى - : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة الآية [ 7 \ 77 - 51 ] .
وعبر عنه بالتدمير في سورة " النمل " في قوله - تعالى - : فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين [ 27 \ 51 ] .
وعبر عنه بالطاغية في " الحاقة " في قوله - تعالى - : فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية [ 69 \ 5 ] .
وعبر عنه بالدمدمة في " الشمس " في قوله - تعالى - : فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها [ 91 \ 14 ] .
وعبر عنه بالعذاب في سورة " الشعراء " في قوله - تعالى - : فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية [ 26 \ 157 - 158 ] .
ومعنى هذه العبارات كلها راجع إلى شيء واحد ، وهو أن الله أرسل عليهم صيحة أهلكتهم ، والصيحة الصوت المزعج المهلك .
والصاعقة تطلق أيضا على الصوت المزعج المهلك ، وعلى النار المحرقة ، وعليهما معا ، ولشدة عظم الصيحة وهولها من فوقهم رجفت بهم الأرض من تحتهم ، أي تحركت حركة قوية ، فاجتمع فيها أنها صيحة وصاعقة ورجفة ، وكون ذلك تدميرا واضح . وقيل لها طاغية ; لأنها واقعة مجاوزة للحد في القوة وشدة الإهلاك .
والطغيان في لغة العرب مجاوزة الحد ، ومنه قوله - تعالى - : إنا لما طغى الماء الآية [ 69 \ 11 ] أي جاوز الحدود التي يبلغها الماء عادة .
[ ص: 23 ] واعلم أن التحقيق أن المراد بالطاغية في قوله - تعالى - : فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية [ 69 \ 5 ] أنها الصيحة التي أهلكهم الله بها ، كما يوضحه قوله بعده : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية [ 69 \ 6 ] .
خلافا لمن زعم أن الطاغية مصدر كالعاقبة والعافية ، وأن المعنى أنهم أهلكوا بطغيانهم ، أي بكفرهم وتكذيبهم نبيهم ، كقوله : كذبت ثمود بطغواها [ 91 \ 11 ] .
وخلافا لمن زعم أن الطاغية هي أشقاهم الذي انبعث فعقر الناقة ، وأنهم أهلكوا بسبب فعله ، وهو عقره الناقة ، وكل هذا خلاف التحقيق .
والصواب - إن شاء الله - هو ما ذكرنا ، والسياق يدل عليه ، واختاره غير واحد .
وأما قوله - تعالى - : فدمدم عليهم ربهم بذنبهم [ 91 \ 14 ] فإنه لا يخالف ما ذكرنا ; لأن معنى دمدم عليهم ربهم بذنبهم ، أي أطلق عليهم العذاب وألبسهم إياه ، بسبب ذنبهم .
قال الزمخشري في معنى دمدم : وهو من تكرير قولهم : ناقة مدمومة ، إذا ألبسها الشحم .
وأما إطلاق العذاب عليه في سورة " الشعراء " فواضح ، فاتضح رجوع معنى الآيات المذكورة إلى شيء واحد .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة صاعقة العذاب الهون - من النعت بالمصدر ; لأن الهون مصدر بمعنى الهوان ، والنعت بالمصدر أسلوب عربي معروف ، أشار إليه في الخلاصة بقوله :
ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا
وهو موجه بأحد أمرين : أحدهما : أن يكون على حذف مضاف ، أي العذاب ذي الهون .
والثاني : أنه على سبيل المبالغة ، فكأن العذاب لشدة اتصافه بالهوان اللاحق بمن وقع عليه - صار كأنه نفس الهوان ، كما هو معروف في محله .
[ ص: 24 ] وقوله - تعالى - : بما كانوا يكسبون كالتوكيد في المعنى ; لقوله : فاستحبوا العمى على الهدى ; لأن كلا منهما سبب لأخذ الصاعقة إياهم ، فالفاء في قوله : ( فأخذتهم ) سببية ، والباء في قوله : ( بما كانوا ) سببية ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أهلك ثمود بالصاعقة ، ونجى من ذلك الإهلاك الذين آمنوا وكانوا يتقون الله ، والمراد بهم صالح ومن آمن معه من قومه .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في سورة " هود " فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة الآية [ 11 \ 66 ] ، وقوله - تعالى - في " النمل " : ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون [ 27 \ 45 ] إلى قوله - تعالى - في " ثمود " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 27 \ 52 - 53 ] أي وهم صالح ومن آمن معه .
قوله - تعالى - : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون .
قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع ( يحشر ) بضم الياء وفتح الشين مبنيا للمفعول ، ( أعداء الله ) بالرفع على أنه نائب الفاعل .
وقرأه نافع وحمزة ، من السبعة ( نحشر أعداء الله ) بالنون المفتوحة الدالة على العظمة ، وضم الشين مبنيا للفاعل ، ( أعداء الله ) بالنصب على أنه مفعول به ، أي واذكر ويوم يحشر أعداء الله أي يجمعون إلى النار .
وما دلت عليه هذه الآية من أن لله أعداء ، وأنهم يحشرون يوم القيامة إلى النار - جاء مذكورا في آيات أخر; فبين في بعضها أن له أعداء ، وأن أعداءه هم أعداء المؤمنين ، وأن جزاءهم النار ، كقوله - تعالى - : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين [ 2 \ 98 ] . وقوله - تعالى - : ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم [ 8 \ 60 ] . وقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم الآية [ ص: 25 ] [ 60 \ 1 ] . وقوله - تعالى - : فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له [ 20 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد الآية [ 41 \ 28 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة فهم يوزعون أي يرد أولهم إلى آخرهم ، ويلحق آخرهم بأولهم ، حتى يجتمعوا جميعا ، ثم يدفعون في النار ، وهو من قول العرب : وزعت الجيش ، إذا حبست أوله على آخره حتى يجتمع .
وأصل الوزع الكف ، تقول العرب وزعه يزعه وزعا فهو وازع له ، إذا كفه عن الأمر ، ومنه قول نابغة ذبيان :
على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألما أصح والشيب وازع
وقول الآخر :
ولن يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله
وبما ذكرنا تعلم أن أصل معنى ( يوزعون ) أي يكف أولهم عن التقدم وآخرهم عن التأخر ، حتى يجتمعوا جميعا .
وذلك يدل على أنهم يساقون سوقا عنيفا ، يجمع به أولهم مع آخرهم .
وقد بين - تعالى - أنهم يساقون إلى النار في حال كونهم عطاشا في قوله - تعالى - : ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا [ 19 \ 86 ] . ولعل الوزع المذكور في الآية يكون في الزمرة الواحدة من زمر أهل النار ; لأنهم يساقون إلى النار زمرا زمرا ، كما قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا الآية [ 39 \ 71 ] .
قوله - تعالى - : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم الآية [ 36 \ 65 ] . وفي سورة النساء في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] .
[ ص: 26 ] وبينا هناك وجه الجمع بين قوله - تعالى - : ولا يكتمون الله حديثا مع قوله ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] .
قوله - تعالى - : ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة " ص " في الكلام على قوله - تعالى - : ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين .
قد بينا معناه مع شواهده العربية في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون [ 16 \ 84 ] .
قوله - تعالى - : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم .
لعلماء التفسير في تفسير قوله : قيضنا عبارات يرجع بعضها في المعنى إلى بعض .
كقول بعضهم : وقيضنا لهم قرناء أي جئناهم بهم ، وأتحناهم لهم .
وكقول بعضهم : قيضنا أي هيأنا .
وقول بعضهم : قيضنا أي سلطنا .
وقول بعضهم : أي بعثنا ووكلنا .
وقول بعضهم : قيضنا أي سببنا .
وقول بعضهم : قدرنا . ونحو ذلك من العبارات; فإن جميع تلك العبارات راجع إلى شيء واحد ، وهو أن الله - تبارك وتعالى - هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى ، ويزينون لهم الكفر والمعاصي ، وقدرهم عليهم .
والقرناء : جمع قرين ، وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (465)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
صـ 27 إلى صـ 34
وقوله فزينوا لهم ما بين أيديهم - أي من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة - [ ص: 27 ] وما خلفهم أي من أمر الآخرة ، فدعوهم إلى التكذيب به ، وإنكار البعث .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة أنه - تعالى - قيض للكفار قرناء من الشياطين ، يضلونهم عن الهدى - بينه في مواضع أخر من كتابه .
وزاد في بعضها سبب تقييضهم لهم ، وأنهم مع إضلالهم لهم يظنون أنهم مهتدون ، وأن الكافر يوم القيامة يتمنى أن يكون بينه وبين قرينه من الشياطين بعد عظيم ، وأنه يذمه ذلك اليوم ، كما قال - تعالى - : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين [ 43 \ 36 - 38 ] .
فترتيبه قوله : ( نقيض له شيطانا ) على قوله : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن ) - ترتيب الجزاء على الشرط يدل على أن سبب تقييضه له هو غفلته عن ذكر الرحمن .
ونظير ذلك قوله - تعالى - : من شر الوسواس الخناس [ 114 \ 4 ] لأن الوسواس هو كثير الوسوسة ليضل بها الناس ، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس ، من قولهم : خنس - بالفتح - يخنس - بالضم - إذا تأخر .
فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن ، خناس عند ذكر الرحمن ، كما دلت عليه آية " الزخرف " المذكورة ، ودل عليه قوله - تعالى - : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] لأن الذين يتولونه والذين هم به مشركون - غافلون عن ذكر الرحمن ، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم .
ومن الآيات الدالة على تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم ، قوله - تعالى - : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [ 19 \ 83 ] وقد أوضحنا الآيات الدالة على ذلك في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين الآية . وبينا هناك أقوال أهل العلم في معنى تؤزهم أزا .
وبينا أيضا هناك أن من الآيات الدالة على ذلك . قوله - تعالى - : ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس [ 6 \ 128 ] أي استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا ، وقوله : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] .
[ ص: 28 ] ومنها أيضا قوله - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إلى قوله : ولقد أضل منكم جبلا كثيرا [ 36 \ 60 - 62 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد دل قوله في آية " الزخرف " : فبئس القرين [ 43 \ 38 ] على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية " فصلت " وآية " الزخرف " وغيرهما - جديرين بالذم الشديد ، وقد صرح - تعالى - بذلك في سورة " النساء " في قوله : ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا [ 4 \ 38 ] لأن قوله : فساء قرينا بمعنى فبئس القرين ; لأن كلا من " ساء " و " بئس " فعل جامد لإنشاء الذم ، كما ذكره في الخلاصة بقوله :
واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مسجلا
واعلم أن الله - تعالى - بين أن الكفار الذي أضلهم قرناؤهم من الشياطين - يظنون أنهم على هدى ، فهم يحسبون أشد الضلال أحسن الهدى ، كما قال - تعالى - عنهم : وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون [ 43 \ 37 ] وقال - تعالى - : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 ] .
وبين - تعالى - أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد هم أخسر الناس أعمالا ، في قوله - تعالى - : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [ 18 \ 103 - 104 ] .
وقوله - تعالى - في آية " الزخرف " : ومن يعش عن ذكر الرحمن [ 43 \ 36 ] من قولهم : عشا - بالفتح - عن الشيء يعشو - بالضم - إذا ضعف بصره عن إدراكه ; لأن الكافر أعمى القلب ، فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن ، وبسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين .
قوله - تعالى - : وحق عليهم القول .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم الآية [ 36 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن .
[ ص: 29 ] وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا [ 2 \ 93 ] .
قوله - تعالى - : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة مما أعده الله في الآخرة للذين قالوا : ( ربنا الله ثم استقاموا ) - ذكره الله - تعالى - في الجملة في قوله في " الأحقاف " : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون [ 46 \ 13 - 14 ] لأن انتفاء الخوف والحزن والوعد الصادق بالخلود في الجنة المذكور في آية " الأحقاف " هذه - يستلزم جميع ما ذكر في هذه الآية الكريمة من سورة " فصلت " .
قوله - تعالى - : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم .
قد أوضحناه مع الآيات التي بمعناه في آخر سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : خذ العفو وأمر بالعرف إلى قوله إنه سميع عليم [ 7 \ 199 - 200 ] .
قوله - تعالى - : ومن آياته الليل والنهار .
وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : وجعلنا الليل والنهار آيتين الآية [ 17 \ 12 ] وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر الآية [ 41 \ 37 ] .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض الآية [ 27 \ 25 ] .
قوله - تعالى - : فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون .
[ ص: 30 ] قوله - تعالى - : فإن استكبروا ، أي فإن تكبر الكفار عن توحيد الله والسجود له وحده ، وإخلاص العبادة له ( فالذين عند ربك ) وهم الملائكة ( يسبحون له بالليل ) أي يعبدونه وينزهونه دائما ليلا ونهارا ( وهم لا يسأمون ) أي لا يملون من عبادة ربهم ; لاستلذاذهم لها وحلاوتها عندهم ، مع خوفهم منه - جل وعلا - كما قال - تعالى - : ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته [ 13 \ 13 ] .
وقد دلت هذه الآية الكريمة من سورة " فصلت " على أمرين :
أحدهما : أن الله - جل وعلا - إن كفر به بعض خلقه ، فإن بعضا آخر من خلقه يؤمنون به ويطيعونه كما ينبغي ، ويلازمون طاعته دائما بالليل والنهار .
والثاني منهما : أن الملائكة يسبحون الله ويطيعونه دائما لا يفترون عن ذلك .
وهذان الأمران اللذان دلت عليهما هذه الآية الكريمة - قد جاء كل منهما موضحا في غير هذا الموضع .
أما الأول منهما : فقد ذكره - جل وعلا - في قوله : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] .
وأما الثاني منهما : فقد أوضحه - تعالى - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - في " الأنبياء " : وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون [ 21 \ 19 - 20 ] وقوله - تعالى - في آخر " الأعراف " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون [ 7 \ 206 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وهم لا يسأمون أي لا يملون ، والسآمة : الملل ، ومنه قول زهير :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
قوله - تعالى - : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت .
هذه الآية الكريمة قد أوضحنا الكلام عليها مع ما في معناها من الآيات ، وبينا أن [ ص: 31 ] تلك الآيات فيها البرهان القاطع على البعث بعد الموت ، وذكرنا معها الآيات التي يكثر الاستدلال بها في القرآن على البعث بعد الموت ، وهي أربعة براهين قرآنية .
ذكرنا ذلك في سورة " البقرة " وفي سورة " النحل " وغيرهما ، وأحلنا عليه مرارا .
قوله - تعالى - : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة .
قد قدمنا الكلام عليه مع ما يماثله من الآيات في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : قل أذلك خير أم جنة الخلد الآية [ 15 \ 15 ] .
قوله - تعالى - : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] وفي سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين الآية [ 17 \ 82 ] .
قوله - تعالى - : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها [ 41 \ 7 ] وفي سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : ومن شكر فإنما يشكر لنفسه [ 27 \ 40 ] .
قوله - تعالى - : وما ربك بظلام للعبيد .
ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من كونه ليس بظلام للعبيد - ذكره في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - في سورة " آل عمران " : ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد الذين قالوا إن الله عهد إلينا [ 3 \ 182 ] . وقوله في " الأنفال " ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون [ 8 \ 51 - 52 ] . وقوله في " الحج " : ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ومن الناس من يعبد الله الآية [ 22 \ 10 - 11 ] . وقوله في سورة " ق " : ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد [ 50 \ 29 ] .
وفي هذه الآيات سؤال معروف ، وهو أن لفظة ( ظلام ) فيها صيغة مبالغة ، ومعلوم [ ص: 32 ] أن نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصله .
فقولك مثلا : زيد ليس بقتال للرجال - لا ينفي إلا مبالغته في قتلهم ، فلا ينافي أنه ربما قتل بعض الرجال .
ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة في الآيات المذكورة - هو نفي الظلم من أصله .
والجواب عن هذا الإشكال من أربعة أوجه : الأول : أن نفي صيغة المبالغة في الآيات المذكورة قد بينت آيات كثيرة أن المراد به نفي الظلم من أصله .
ونفي صيغة المبالغة إذا دلت أدلة منفصلة على أن يراد به نفي أصل الفعل ، فلا إشكال لقيام الدليل على المراد .
والآيات الدالة على ذلك كثيرة معروفة ، كقوله - تعالى - : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها الآية [ 4 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] . وقوله - تعالى - : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا الآية [ 21 \ 47 ] . إلى غير ذلك من الآيات ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " و " الأنبياء " .
الوجه الثاني : أن الله - جل وعلا - نفى ظلمه للعبيد ، والعبيد في غاية الكثرة ، والظلم المنفي عنهم تستلزم كثرتهم كثرته ، فناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة المنفي التابعة لكثرة العبيد المنفي عنهم الظلم ، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ، ولو قليلا ، كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة ، كما ترى .
وبذلك تعلم اتجاه التعبير بصيغة المبالغة ، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم عن كل عبد من أولئك العبيد ، الذين هم في غاية الكثرة ، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحدا شيئا ، كما بينته الآيات القرآنية المذكورة ، وفي الحديث : " يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي " الحديث .
الوجه الثالث : أن المسوغ لصيغة المبالغة أن عذابه - تعالى - بالغ من العظم والشدة أنه لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم ومعاصيهم - لكان معذبهم به ظلاما بليغ [ ص: 33 ] الظلم متفاقمه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .
وهذا الوجه والذي قبله أشار لهما الزمخشري في سورة " الأنفال " .
الوجه الرابع : ما ذكره بعض علماء العربية وبعض المفسرين من أن المراد بالنفي في قوله : وما ربك بظلام للعبيد نفي نسبة الظلم إليه ; لأن صيغة فعال تستعمل مرادا بها النسبة ، فتغني عن ياء النسب ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
ومع فاعل وفعال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل
ومعنى البيت المذكور أن الصيغ الثلاثة المذكورة فيه التي هي فاعل كظالم وفعال كظلام وفعل كفرح - كل منها قد تستعمل مرادا بها النسبة ، فيستغنى بها عن ياء النسب ، ومثاله في فاعل قول الحطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاس
فالمراد بقوله : الطاعم الكاسي - النسبة ، أي ذو طعام وكسوة . وقول الآخر - وهو من شواهد سيبويه - :
وغررتني وزعمت أنك لابن في الصيف تامر
أي ذو لبن وذو تمر . وقول نابغة ذبيان :
كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب
فقوله : " ناصب " ، أي ذو نصب . ومثاله في فعال قول امرئ القيس :
وليس بذي رمح فيطعنني به وليس بذي سيف وليس بنبال
فقوله : وليس بنبال ، أي ليس بذي نبل ، ويدل عليه قوله قبله : وليس بذي رمح ، وليس بذي سيف .
وقال الأشموني بعد الاستشهاد بالبيت المذكور : قال المصنف - يعني ابن مالك - : وعلى هذا حمل المحققون قوله - تعالى - : وما ربك بظلام للعبيد أي بذي ظلم . اهـ .
[ ص: 34 ] وما عزاه لابن مالك جزم به غير واحد من النحويين والمفسرين ، ومثاله في فعل قول الراجز - وهو من شواهد سيبويه - :
ليس بليلي ولكني نهر لا أدلج الليل ولكن أبتكر
فقوله : نهر بمعنى نهاري ، وقد قدمنا إيضاحه معنى الظلم بشواهده العربية ، في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : إليه يرد علم الساعة .
تقدم الكلام على نحوه في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو [ 7 \ 187 ] . وفي " الأنعام " عند قوله - تعالى - : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] .قوله - تعالى - : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الرعد " في الكلام على قوله - تعالى - : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد الآية [ 13 \ 8 ] .قوله - تعالى - : وظنوا ما لهم من محيص .
الظن هنا بمعنى اليقين ; لأن الكفار يوم القيامة إذا عاينوا العذاب ، وشاهدوا الحقائق - علموا في ذلك الوقت أنهم ليس لهم من محيص ، أي ليس لهم مفر ولا ملجأ .
والظاهر أن المحيص مصدر ميمي ، من حاص يحيص بمعنى حاد وعدل وهرب .
وما ذكرنا من أن الظن في هذه الآية الكريمة بمعنى اليقين والعلم - هو التحقيق - إن شاء الله - ; لأن يوم القيامة تنكشف فيه الحقائق ، فيحصل للكفار العلم بها لا يخالجهم في ذلك شك ، كما قال - تعالى - عنهم أنهم يقولون يوم القيامة : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] . وقال - تعالى - : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [ 19 \ 38 ] . وقال - تعالى - : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] . وقال - تعالى - : ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا [ 6 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (466)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 35 إلى صـ 42
وقد [ ص: 35 ] قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : بل ادارك علمهم في الآخرة [ 27 \ 66 ] .
ومعلوم أن الظن يطلق في لغة العرب التي نزل بها القرآن على معنيين : أحدهما : الشك ، كقوله وإن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 53 \ 28 ] . وقوله - تعالى - عن الكفار : إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين [ 45 \ 32 ] .
والثاني : هو إطلاق الظن مرادا به العلم واليقين ، ومنه قوله - تعالى - هنا : وظنوا ما لهم من محيص [ 41 \ 48 ] أي أيقنوا أنهم ليس لهم يوم القيامة محيص ، أي لا مفر ولا مهرب لهم من عذاب ربهم ، ومنه بهذا المعنى قوله - تعالى - : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] أي أيقنوا ذلك وعلموه ، وقوله - تعالى - : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون [ 2 \ 46 ] . وقوله - تعالى - : قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله [ 2 \ 249 ] . وقوله - تعالى - : فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه [ 69 \ 19 - 20 ] . فالظن في الآيات المذكورة كلها بمعنى اليقين .
ونظير ذلك من كلام العرب قول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
وقول عميرة بن طارق :
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما
والظن في البيتين المذكورين بمعنى اليقين ، والفعل القلبي في الآية المذكورة التي هي قوله : وظنوا ما لهم من محيص معلق عن العمل في المفعولين بسبب النفي بلفظة ( ما ) في قوله : ما لهم من محيص كما أشار له في الخلاصة بقوله :
والتزم التعليق قبل نفي " ما
"قوله - تعالى - : ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى .
[ ص: 36 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .قوله - تعالى - : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض .
قد قدمنا الآيات الموضحة له وبعض الأحاديث الصحيحة الموافقة لها في سورة " يونس " في الكلام على قوله - تعالى - : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه [ 10 \ 12 ] .قوله - تعالى - : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم الآية .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا الآية [ 40 \ 13 ] .قوله - تعالى - : ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم .
المرية : الشك . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من شك الكفار في البعث والجزاء - قد قدمنا الآيات الموضحة له ، ولما يترتب عليه من الخلود في النار في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .[ ص: 37 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الشُّورَى قَوْلُهُ - تَعَالَى - : حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " .
وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيّ ِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَحْيِ ، أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ الْكِتَابِ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبِلَكَ اللَّهُ .
يَعْنِي أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْمَعَانِي قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْكَ مِثْلَهُ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ ، وَأَوْحَاهُ مِنْ قَبْلِكَ إِلَى رُسُلِهِ ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَرَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي الْقُرْآنِ ، وَفِي جَمِيعِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنْبِيهِ الْبَلِيغِ ، وَاللُّطْفِ الْعَظِيمِ ، لِعِبَادِهِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ . اهـ مِنْهُ .
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِهِ : ( كَذَلِكَ يُوحِي ) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُوحَى بِاسْمِ الْمَفْعُولِ .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ الَّذِي هُوَ الْإِيحَاءُ .
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَاءِ الَّذِينَ فِي قَبْلِهِ الَّذِينَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ ، كَمَا أَوْحَى إِلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَقْصُصْ خَبَرَهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ وَأَرْسَلَهُمْ لِقَطْعِ حُجَجِ الْخَلْقِ فِي دَارِ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [ ص: 38 ] [ 4 \ 163 - 165 ] .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْمِهِ الْعَزِيزِ وَاسْمِهِ الْحَكِيمِ بَعْدَ ذِكْرِهِ إِنْزَالَهُ وَحْيَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " الْمَذْكُورَةِ : وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا بَعْدَ ذِكْرِهِ إِيحَاءَهُ إِلَى رُسُلِهِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الزُّمَرِ " أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - إِذَا ذَكَرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بَعْضَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا ، وَذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ .
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ : ( يُوحِي ) بِكَسْرِ الْحَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ فَقَوْلُهُ : ( اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) - فَاعِلُ يُوحِي .
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ( يُوحَى إِلَيْكَ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ، فَقَوْلُهُ : ( اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ يُوحَى ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ " النُّورِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ [ 24 \ 36 - 37 ] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الْوَحْيِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [ 16 \ 68 ] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .قوله - تعالى - : وهو العلي العظيم .
وصف نفسه - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة بالعلو والعظمة ، وهما من الصفات الجامعة كما قدمناه في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وصفه - تعالى - نفسه بهاتين الصفتين الجامعتين المتضمنتين لكل كمال وجلال - جاء مثله في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم [ 2 \ 255 ] . وقوله - تعالى - : إن الله كان عليا كبيرا [ 4 \ 34 ] . وقوله - تعالى - : عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال [ 13 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : وله الكبرياء في السماوات والأرض الآية [ 45 \ 37 ] . إلى غير ذلك من الآيات .[ ص: 39 ] قوله - تعالى - : تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض .
قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع والكسائي ( تكاد ) بالتاء الفوقية ; لأن السماوات مؤنثة ، وقرأه نافع والكسائي ( يكاد ) بالياء التحتية لأن تأنيث السماوات غير حقيقي .
وقرأه عامة السبعة غير أبي عمرو ، وشعبة عن عاصم ( يتفطرن ) بتاء مثناة فوقية مفتوحة بعد الياء وفتح الطاء المشددة ، مضارع تفطر ، أي تشقق .
وقرأه أبو عمرو وشعبة عن عاصم ( ينفطرن ) بنون ساكنة بعد الياء وكسر الطاء المخففة ، مضارع انفطرت ، كقوله : إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] أي انشقت .
وقوله : تكاد ، مضارع كاد ، التي هي فعل مقاربة ، ومعلوم أنها تعمل في المبتدإ والخبر ، ومعنى كونها فعل مقاربة ، أنها تدل على قرب اتصاف المبتدإ بالخبر .
وإذا ، فمعنى الآية أن السماوات قاربت أن تتصف بالتفطر على القراءة الأولى ، والانفطار على القراءة الثانية .
واعلم أن سبب مقاربة السماوات للتفطر في هذه الآية الكريمة - فيه للعلماء وجهان كلاهما يدل له قرآن : الوجه الأول : أن المعنى : تكاد السماوات يتفطرن خوفا من الله ، وهيبة وإجلالا ، ويدل لهذا الوجه قوله - تعالى - قبله : وهو العلي العظيم [ 42 \ 4 ] ; لأن علوه وعظمته سبب للسماوات ذلك الخوف والهيبة والإجلال ، حتى كادت تتفطر .
وعلى هذا الوجه ، فقوله بعده : والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض مناسبته لما قبله واضحة; لأن المعنى : أن السماوات في غاية الخوف منه - تعالى - والهيبة والإجلال له ، وكذلك سكانها من الملائكة ، فهم ( يسبحون بحمد ربهم ) أي ينزهونه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله مع إثباتهم له كل كمال وجلال ، خوفا منه وهيبة وإجلالا ، كما قال - تعالى - : ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته [ 13 \ 13 ] . وقال - تعالى - : ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون [ 16 \ 49 - 50 ] .
[ ص: 40 ] فهم لشدة خوفهم من الله وإجلالهم له يسبحون بحمد ربهم ، ويخافون على أهل الأرض ، ولذا يستغفرون لهم خوفا عليهم من سخط الله وعقابه ، ويستأنس لهذا الوجه بقوله - تعالى - : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض إلى قوله : وأشفقن منها [ 33 \ 72 ] ; لأن الإشفاق الخوف .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ويستغفرون لمن في الأرض يعني لخصوص الذين آمنوا منهم وتابوا إلى الله واتبعوا سبيله ، كما أوضحه - تعالى - بقوله : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا [ 40 \ 7 ] .
فقوله : للذين آمنوا - يوضح المراد من قوله : لمن في الأرض . \ 5 ويزيد ذلك إيضاحا قوله - تعالى - عنهم أنهم يقولون في استغفارهم للمؤمنين - : فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك [ 40 \ 7 ] لأن ذلك يدل دلالة واضحة على عدم استغفارهم للكفار .
الوجه الثاني : أن المعنى تكاد السماوات يتفطرن من شدة عظم الفرية التي افتراها الكفار على خالق السماوات والأرض - جل وعلا - من كونه اتخذ ولدا - سبحانه وتعالى - عن ذلك علوا كبيرا ، وهذا الوجه جاء موضحا في سورة " مريم " في قوله - تعالى - : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 88 - 93 ] . كما قدمنا إيضاحه .
وغاية ما في هذا الوجه أن آية " الشورى " هذه فيها إجمال في سبب تفطر السماوات ، وقد جاء ذلك موضحا في آية " مريم " المذكورة . وكلا الوجهين حق .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يتفطرن من فوقهن فيه للعلماء أوجه .
قيل : ( يتفطرن ) ، أي السماوات . ( من فوقهن ) أي الأرضين ، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى .
[ ص: 41 ] وقال بعضهم : ( من فوقهن ) ، أي كل سماء تتفطر فوق التي تليها .
وقال الزمخشري في الكشاف : فإن قلت : لم قال : من فوقهن ؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السماوات ، وهي : العرش ، والكرسي ، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله - تعالى - من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال : يتفطرن من فوقهن أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية .
أو لأن كلمة الكفر جاءت من الذي تحت السماوات ، فكان القياس أن يقال : يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ في ذلك ، فجعلت مؤثرة في وجهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن ، دع الجهة التي تحتهن .
ونظيره في المبالغة قوله - عز وجل - : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم فجعل الحميم مؤثرا في أجزائهم الباطنة . ا هـ محل الغرض منه .
وهذا إنما يتمشى على القول بأن سبب التفطر المذكور هو افتراؤهم على الله في قولهم : اتخذ الرحمن ولدا [ 19 \ 88 ] .
وقد قدمنا آنفا أنه دلت عليه سورة " مريم " المذكورة ، وعليه فمناسبة قوله : والملائكة يسبحون بحمد ربهم لما قبله - أن الكفار وإن قالوا أعظم الكفر وأشنعه ، فإن الملائكة بخلافهم ، فإنهم يداومون ذكر الله وطاعته .
ويوضح ذلك قوله - تعالى - : فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون [ 41 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] . كما قدمنا إيضاحه في آخر سورة " فصلت " .
قوله - تعالى - : ألا إن الله هو الغفور الرحيم .
أكد - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أنه هو الغفور الرحيم ، وبين فيها أنه هو وحده المختص بذلك .
[ ص: 42 ] وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة - قد جاءا موضحين في غير هذا الموضع .
أما اختصاصه هو - جل وعلا - بغفران الذنوب ، فقد ذكره في قوله - تعالى - : ومن يغفر الذنوب إلا الله [ 3 \ 135 ] . والمعنى لا يغفر الذنوب إلا الله ، وفي الحديث " رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت " الحديث . وفي حديث سيد الاستغفار : " اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني " الحديث . وفيه " وأبوء بذنبي فاغفر لي ; فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " .
ووجه دلالة هذه الآية على أن الله وحده هو الذي يغفر الذنوب - هو أن ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه في قوله : ألا إن الله هو الغفور الرحيم يدل على ذلك كما هو معلوم في محله .
وأما الأمر الثاني : هو توكيده - تعالى - أنه هو الغفور الرحيم ; فإنه أكد ذلك هنا بحرف الاستفتاح الذي هو ( ألا ) ، وحرف التوكيد الذي هو ( إن ) . وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [ 39 \ 53 ] . وقوله - تعالى - : وإني لغفار لمن تاب وآمن الآية [ 20 \ 82 ] . وقوله - تعالى - : إن ربك واسع المغفرة [ 53 \ 32 ] . وقوله في الكفار : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] . وقوله في الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة : أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 \ 74 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
فنرجو الله - جل وعلا - الكريم الرءوف الغفور الرحيم - أن يغفر لنا جميع ذنوبنا ، ويتجاوز عن جميع سيئاتنا ، ويدخلنا جنته على ما كان منا ، ويغفر لإخواننا المسلمين ، إنه غفور رحيم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (467)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 43 إلى صـ 50
قوله - تعالى - : والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل .
قوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : اتخذوا من دونه أولياء . أي أشركوا معه شركاء يعبدونهم من دونه ، كما أوضح - تعالى - ذلك في قوله : والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب [ 39 \ 3 ] . [ ص: 43 ] وقوله - تعالى - : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 2 \ 257 ] . وقوله - تعالى - : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 ] . وقوله - تعالى - : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه [ 3 \ 175 ] . أي يخوفكم أولياءه . وقوله - تعالى - : فقاتلوا أولياء الشيطان الآية [ 4 \ 76 ] .
وقد وبخهم - تعالى - على اتخاذهم الشيطان وذريته أولياء من دونه - تعالى - في قوله : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا .
وقد أمر - جل وعلا - باتباع هذا القرآن العظيم ، ناهيا عن اتباع الأولياء المتخذين من دونه - تعالى - في أول سورة الأعراف في قوله - تعالى - اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [ 7 \ 3 ] .
وقد علمت من الآيات المذكورة أن أولياء الكفار الذين اتخذوهم وعبدوهم من دون الله نوعان : الأول منهما : الشياطين ، ومعنى عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما يزين لهم من الكفر والمعاصي ، فشركهم به شرك طاعة ، والآيات الدالة على عبادتهم للشياطين بالمعنى المذكور كثيرة ، كقوله - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] . وقوله - تعالى - عن إبراهيم ياأبت لا تعبد الشيطان الآية [ 19 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، أي وما يعبدون إلا شيطانا مريدا . وقوله - تعالى - : قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ 34 \ 41 ] . وقوله - تعالى - إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] . وقوله - تعالى - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
والنوع الثاني : هو الأوثان ، كما بين ذلك - تعالى - بقوله : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى الآية [ 39 \ 3 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : الله حفيظ عليهم ، أي رقيب عليهم حافظ [ ص: 44 ] عليهم كل ما يعملونه من الكفر والمعاصي ، وفي أوله اتخاذهم الأولياء يعبدونهم من دون الله .
وفي الآية تهديد عظيم لكل مشرك .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وما أنت عليهم بوكيل .
أي لست يا محمد بموكل عليهم تهدي من شئت هدايته منهم ، بل إنما أنت نذير فحسب ، وقد بلغت ونصحت .
والوكيل عليهم هو الله الذي يهدي من يشاء منهم ، ويضل من يشاء ، كما قال - تعالى - : إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل [ 11 \ 12 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ 10 \ 99 - 100 ] . وقال - تعالى - : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ 6 \ 35 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق في قوله - تعالى - : وما أنت عليهم بوكيل ، وما جرى مجراه من الآيات ليس منسوخا بآية السيف . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا .
وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 194 - 195 ] . وفي " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : قرءانا عربيا غير ذي عوج [ 39 \ 28 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : لتنذر أم القرى ومن حولها .
خص الله - تبارك وتعالى - في هذه الآية الكريمة إنذاره - صلى الله عليه وسلم - بأم القرى ومن حولها ، والمراد بأم القرى مكة - حرسها الله - .
ولكنه أوضح في آيات أخر أن إنذاره عام لجميع الثقلين ، كقوله - تعالى - قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] . وقوله - تعالى - : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] . [ ص: 45 ] وقوله - تعالى - : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 \ 28 ] . كما أوضحنا ذلك مرارا في هذا الكتاب المبارك .
وقد ذكرنا الجواب عن تخصيص أم القرى ومن حولها هنا ، وفي سورة " الأنعام " في قوله - تعالى - : ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به الآية [ 6 \ 92 ] . في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " فقلنا فيه : والجواب من وجهين :
الأول : أن المراد بقوله : ومن حولها شامل لجميع الأرض ، كما رواه ابن جرير وغيره ، عن ابن عباس .
الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن قوله ومن حولها لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة - حرسها الله - كجزيرة العرب مثلا ، فإن الآيات الأخر ، نصت على العموم ، كقوله ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] . وذكر بعض أفراد العام بحكم العام - لا يخصصه عند عامة العلماء ، ولم يخالف فيه إلا أبو ثور .
وقد قدمنا ذلك واضحا بأدلته في سورة " المائدة " ، فالآية على هذا القول كقوله وأنذر عشيرتك الأقربين [ 26 \ 214 ] ; فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم ، كما هو واضح . والعلم عند الله - تعالى - ا هـ منه .
قوله - تعالى - : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه [ 42 \ 7 ] .
تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين : أحدهما : أن من حكم إيحائه - تعالى - إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - هذا القرآن العربي - إنذار يوم الجمع ، فقوله - تعالى - : وتنذر يوم الجمع معطوف على قوله : لتنذر أم القرى أي لأجل أن تنذر أم القرى وأن تنذر يوم الجمع ، فحذف في الأول أحد المفعولين ، وحذف في الثاني أحدهما ، فكان ما أثبت في كل منهما دليلا على ما حذف في الثاني ، ففي الأول حذف المفعول الثاني ، والتقدير " لتنذر أم القرى " ، أي أهل مكة " ومن حولها " ، عذابا شديدا إن لم يؤمنوا . وفي الثاني حذف المفعول الأول ، أي وتنذر الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة ، أي تخوفهم مما فيه من الأهوال والأوجال; ليستعدوا لذلك في دار الدنيا .
[ ص: 46 ] والثاني : أن يوم الجمع المذكور ( لا ريب فيه ) ، أي لا شك في وقوعه .
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة - جاءا موضحين في آيات أخر .
أما تخويفه الناس يوم القيامة ، فقد ذكر في مواضع من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الآية [ 2 \ 281 ] . وقوله - تعالى - : وأنذرهم يوم الآزفة الآية [ 40 \ 18 ] . وقوله - تعالى - : فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به [ 73 \ 17 - 18 ] . وقوله - تعالى - : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [ 83 \ 4 - 6 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وأما الثاني منهما : وهو كون يوم القيامة ( لا ريب فيه ) فقد جاء في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 4 \ 87 ] . وقوله : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه [ 3 \ 25 ] . وقوله - تعالى - : وأن الساعة آتية لا ريب فيها الآية [ 22 \ 7 ] . وقوله - تعالى - وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة الآية [ 45 \ 32 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وإنما سمي يوم القيامة يوم الجمع ; لأن الله يجمع فيه جميع الخلائق . والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة ، كقوله - تعالى - : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] . وقوله - تعالى - : هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين [ 77 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة الآية [ 4 \ 87 ] . وقوله - تعالى - : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن [ 64 \ 9 ] . وقوله - تعالى - ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] . وقوله - تعالى - : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [ 3 \ 25 ] . وقوله - تعالى - : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] .
وقد بين - تعالى - شمول ذلك الجمع لجميع الدواب والطير في قوله - تعالى - : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ 6 \ 38 ] . والآيات الدالة على الجمع المذكورة كثيرة .
قوله - تعالى - : فريق في الجنة وفريق في السعير .
[ ص: 47 ] ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله خلق الخلق ، وجعل منهم فريقا سعداء ، وهم أهل الجنة ، وفريقا أشقياء وهم أصحاب السعير ، جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] . وقوله - تعالى - : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ 11 \ 118 - 119 ] ، أي ولذلك الاختلاف إلى مؤمن وكافر وشقي وسعيد - خلقهم - على الصحيح - . ونصوص الوحي الدالة على ذلك كثيرة جدا .
وقد ذكرنا في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " - وجه الجمع بين قوله : ولذلك خلقهم [ 11 \ 119 ] على التفسير المذكور ، وبين قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] . وسنذكر ذلك - إن شاء الله - في سورة " الذاريات " .
وقد قدمنا معنى السعير بشواهده العربية في أول سورة " الحج " في الكلام على قوله - تعالى - : ويهديه إلى عذاب السعير الآية [ 22 \ 4 ] . والجنة في لغة العرب البستان .
ومنه قول زهير بن أبي سلمى :
كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا
فقوله : جنة سحقا ، يعني بستانا طويل النخل ، وفي اصطلاح الشرع هي دار الكرامة التي أعد الله لأوليائه يوم القيامة .
والفريق : الطائفة من الناس ، ويجوز تعدده إلى أكثر من اثنين ، ومنه قول نصيب : فقال فريق القوم ، لا وفريقهم نعم ، وفريق قال ويحك ما ندري
والمسوغ للابتداء بالنكرة في قوله : ( فريق في الجنة ) ، أنه في معرض التفصيل .
ونظيره من كلام العرب قول امرئ القيس :
فلما دنوت تسديتها فثوبا نسيت وثوبا أجر
قوله - تعالى - : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله .
ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده ، لا إلى غيره - جاء موضحا في آيات كثيرة .
[ ص: 48 ] فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته ، قال في حكمه : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] . وفي قراءة ابن عامر من السبعة ولا تشرك في حكمه أحدا بصيغة النهي .
وقال في الإشراك به في عبادته : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] ، فالأمران سواء كما ترى إيضاحه - إن شاء الله - .
وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله ، والحرام هو ما حرمه الله ، والدين هو ما شرعه الله ، فكل تشريع من غيره باطل ، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه - كفر بواح لا نزاع فيه .
وقد دل القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله ، وأن اتباع تشريع غيره كفر به ، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه [ 12 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله عليه توكلت الآية [ 12 \ 67 ] . وقوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين [ 6 \ 57 ] . وقوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ 5 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] . وقوله - تعالى - : كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] . وقوله - تعالى - : له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 70 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقد قدمنا إيضاحها في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] .
وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر ، فهي كثيرة جدا ، كقوله - تعالى - : إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] . وقوله - تعالى - : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 16 \ 121 ] . وقوله - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، كما تقدم إيضاحه في " الكهف " .
[ ص: 49 ] مسألة
اعلم أن الله - جل وعلا - بين في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له ، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها الآن - إن شاء الله - ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية ، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع ، سبحان الله وتعالى عن ذلك .
فإن كانت تنطبق عليهم - ولن تكون - فليتبع تشريعهم .
وإن ظهر يقينا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك ، فليقف بهم عند حدهم ، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية .
سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه .
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها - تعالى - صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ، ثم قال مبينا صفات من له الحكم : ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم [ 42 \ 10 - 12 ] .
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور ، ويتوكل عليه ، وأنه فاطر السماوات والأرض - أي خالقهما ومخترعهما - على غير مثال سابق ، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجا ، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله - تعالى - : ثمانية أزواج من الضأن اثنين الآية [ 6 \ 143 ] ، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وأنه له مقاليد السماوات والأرض ، وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر - أي يضيقه على من يشاء - وهو بكل شيء عليم .
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم ، ولا تقبلوا تشريعا من كافر خسيس حقير جاهل .
ونظير هذه الآية الكريمة قوله - تعالى - فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [ 4 \ 59 ] ، فقوله فيها : فردوه إلى الله كقوله في هذه : فحكمه إلى الله .
[ ص: 50 ] وقد عجب نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعد قوله : فردوه إلى الله من الذين يدعون الإيمان مع أنهم يريدون المحاكمة إلى من لم يتصف بصفات من له الحكم ، المعبر عنه في الآية بالطاغوت ، وكل تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلى الطاغوت ، وذلك في قوله - تعالى - : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ 4 \ 60 ] .
فالكفر بالطاغوت الذي صرح الله بأنه أمرهم به في هذه الآية - شرط في الإيمان كما بينه - تعالى - في قوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 256 ] .
فيفهم منه أن من لم يكفر بالطاغوت لم يتمسك بالعروة الوثقى ، ومن لم يستمسك بها فهو مترد مع الهالكين .
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] .
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض ؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات ؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي ؟
سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] .
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد ؟ وأن كل شيء هالك إلا وجهه ؟ وأن الخلائق يرجعون إليه ؟
تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته .
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (468)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 51 إلى صـ 58
[ ص: 51 ] فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي بأنه العلي الكبير ؟
سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك .
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 28 \ 73 ] .
فهل في مشرعي القوانين الوضعية من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة ، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار ، مبينا بذلك كمال قدرته ، وعظمة إنعامه على خلقه .
سبحان خالق السماوات والأرض - جل وعلا - أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته أو ملكه .
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 12 \ 40 ] .
فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده ، وأن عبادته وحده هي الدين القيم ؟
سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
ومنها قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون [ 12 \ 67 ] .
فهل فيهم من يستحق أن يتوكل عليه ، وتفوض الأمور إليه ؟
ومنها قوله - تعالى - : [ ص: 52 ] وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون [ 5 \ 49 - 50 ] .
فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لاتباع الهوى ؟ وأن من تولى عنه أصابه الله ببعض ذنوبه ؟ لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة ؟ وأنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يوقنون ؟
سبحان ربنا وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .
ومنها قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين [ 6 \ 57 ] .
فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق ، وأنه خير الفاصلين ؟
ومنها قوله - تعالى - : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا الآية [ 6 \ 114 - 115 ] .
فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلا ، الذي يشهد أهل الكتاب أنه منزل من ربك بالحق ، وبأنه تمت كلماته صدقا وعدلا - أي صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأحكام - وأنه لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ؟
سبحان ربنا ، ما أعظمه ، وما أجل شأنه .
ومنها قوله - تعالى - : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] .
فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق ، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه ؟ لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم ؟
سبحانه - جل وعلا - أن يكون له شريك في التحليل والتحريم .
ومنها قوله - تعالى - : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ 5 \ 44 ] .
[ ص: 53 ] فهل فيهم من يستحق الوصف بذلك ؟
سبحان ربنا وتعالى عن ذلك .
ومنها قوله - تعالى - : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم [ 16 \ 116 - 117 ] .
فقد أوضحت الآية أن المشرعين غير ما شرعه الله إنما تصف ألسنتهم الكذب ، لأجل أن يفتروه على الله ، وأنهم لا يفلحون ، وأنهم يمتعون قليلا ثم يعذبون العذاب الأليم ، وذلك واضح في بعد صفاتهم من صفات من له أن يحلل ويحرم .
ومنها قوله - تعالى - : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم [ 6 \ 150 ] .
فقوله : هلم شهداءكم صيغة تعجيز ، فهم عاجزون عن بيان مستند التحريم . وذلك واضح في أن غير الله لا يتصف بصفات التحليل ولا التحريم . ولما كان التشريع وجميع الأحكام - شرعية كانت أو كونية قدرية - من خصائص الربوبية - كما دلت عليه الآيات المذكورة - كان كل من اتبع تشريعا غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع ربا ، وأشركه مع الله .
والآيات الدالة على هذا كثيرة ، وقد قدمناها مرارا وسنعيد منها ما فيه كفاية ، فمن ذلك - وهو من أوضحه وأصرحه - أنه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقعت مناظرة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان في حكم من أحكام التحريم والتحليل ، وحزب الرحمن يتبعون تشريع الرحمن في وحيه في تحريمه ، وحزب الشيطان يتبعون وحي الشيطان في تحليله .
وقد حكم الله بينهما وأفتى فيما تنازعوا فيه فتوى سماوية قرآنية تتلى في سورة " الأنعام " .
وذلك أن الشيطان لما أوحى إلى أوليائه فقال لهم في وحيه : سلوا محمدا عن الشاة تصبح ميتة ، من هو الذي قتلها ؟ فأجابوهم أن الله هو الذي قتلها .
فقالوا : الميتة إذا ذبيحة الله ، وما ذبحه الله كيف تقولون إنه حرام ؟ مع أنكم تقولون [ ص: 54 ] إنما ذبحتموه بأيديكم حلال ، فأنتم إذا أحسن من الله وأحل ذبيحة .
فأنزل الله بإجماع من يعتد به من أهل العلم قوله - تعالى - : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه [ 6 \ 121 ] ، يعني الميتة ، أي وإن زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب . وإنه لفسق [ 6 \ 121 ] ، والضمير عائد إلى الأكل المفهوم من قوله : ولا تأكلوا ، وقوله : لفسق ، أي خروج عن طاعة الله ، واتباع لتشريع الشيطان . وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم [ 6 \ 121 ] . أي بقولهم : ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام ، فأنتم إذا أحسن من الله ، وأحل تذكية ، ثم بين الفتوى السماوية من رب العالمين ، في الحكم بين الفريقين في قوله - تعالى - : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] فهي فتوى سماوية من الخالق - جل وعلا - صرح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن - مشرك بالله .
وهذه الآية الكريمة مثل بها بعض علماء العربية لحذف اللام الموطئة للقسم ، والدليل على اللام الموطئة المحذوفة عدم اقتران جملة ( إنكم لمشركون ) بالفاء ; لأنه لو كان شرطا لم يسبقه قسم لقيل : فإنكم لمشركون على حد قوله في الخلاصة :
واقرن بفا حتما جوابا لو جعل شرطا لأن أو غيرها لم ينجعل
وهو مذهب سيبويه ، وهو الصحيح ، وحذف الفاء في مثل ذلك من ضرورة الشعر .
وما زعمه بعضهم من أنه يجوز مطلقا ، وأن ذلك دلت عليه آيتان من كتاب الله : إحداهما : قوله - تعالى - : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون .
والثانية : قوله - تعالى - : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [ 42 ] بحذف الفاء في قراءة نافع وابن عامر من السبعة خلاف التحقيق .
بل المسوغ لحذف الفاء في آية : إنكم لمشركون تقدير القسم المحذوف قبل الشرط المدلول عليه بحذف الفاء ، على حد قوله في الخلاصة :
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أحرت فهو ملتزم
وعليه ، فجملة إنكم لمشركون جواب القسم المقدر ، وجواب الشرط محذوف ، فلا دليل في الآية لحذف الفاء المذكور .
[ ص: 55 ] والمسوغ له في آية بما كسبت أيديكم أن ( ما ) في قراءة نافع وابن عامر موصولة ، كما جزم به غير واحد من المحققين ، أي والذي أصابكم من مصيبة كائن وواقع بسبب ما كسبت أيديكم .
وأما على قراءة الجمهور : فما موصولة أيضا ، ودخول الفاء في خبر الموصول جائز كما أن عدمه جائز ، فكلتا القراءتين جارية على أمر جائز .
ومثال دخول الفاء في خبر الموصول قوله - تعالى - : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 274 ] وهو كثير في القرآن . وقال بعضهم : إن ( ما ) في قراءة الجمهور شرطية ، وعليه فاقتران الجزاء بالفاء واجب .
أما على قراءة نافع وابن عامر فهي موصولة ليس إلا ، كما هو التحقيق - إن شاء الله - .
وكون ( ما ) شرطية على قراءة ، وموصولة على قراءة - لا إشكال فيه ; لما قدمنا من أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين .
ومن الآيات الدالة على نحو ما دلت عليه آية " الأنعام " المذكورة قوله - تعالى - : إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] . فصرح بتوليهم للشيطان ، أي باتباع ما يزين لهم من الكفر والمعاصي مخالفا لما جاءت به الرسل ، ثم صرح بأن ذلك إشراك به في قوله - تعالى - : والذين هم به مشركون ، وصرح أن الطاعة في ذلك الذي يشرعه الشيطان لهم ويزينه عبادة للشيطان .
ومعلوم أن من عبد الشيطان فقد أشرك بالرحمن ، قال - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا ، ويدخل فيهم متبعو نظام الشيطان دخولا أولياء أفلم تكونوا تعقلون [ 36 \ 60 - 62 ] .
ثم بين المصير الأخير لمن كان يعبد الشيطان في دار الدنيا ، في قوله - تعالى - : هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 63 - 65 ] . وقال - تعالى - عن نبيه إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا [ 19 \ 44 ] فقوله : [ ص: 56 ] ( لا تعبد الشيطان ) أي باتباع ما يشرعه من الكفر والمعاصي ، مخالفا لما شرعه الله .
وقال - تعالى - : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، فقوله : وإن يدعون إلا شيطانا يعني ما يعبدون إلا شيطانا مريدا .
وقوله - تعالى - : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ 34 \ 40 - 41 ] .
فقوله - تعالى - : بل كانوا يعبدون الجن أي يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم من الكفر والمعاصي ، على أصح التفسيرين .
والشيطان عالم بأن طاعتهم له المذكورة إشراك به كما صرح بذلك وتبرأ منهم في الآخرة ، كما نص الله عليه في سورة " إبراهيم " في قوله - تعالى - : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم إلى قوله : إني كفرت بما أشركتمون من قبل [ 14 \ 22 ] . فقد اعترف بأنهم كانوا مشركين به من قبل ، أي في دار الدنيا ، ولم يكفر بشركهم ذلك إلا يوم القيامة .
وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى الذي بينا في الحديث لما سأله عدي بن حاتم - رضي الله عنه - عن قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا [ 9 \ 31 ] كيف اتخذوهم أربابا ؟ وأجابه - صلى الله عليه وسلم - أنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله - فاتبعوهم ، وبذلك الاتباع اتخذوهم أربابا .
ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئا يعلمون أن الله حرمه ، وحرموا شيئا يعلمون أن الله أحله - فإنهم يزدادون كفرا جديدا بذلك مع كفرهم الأول ، وذلك في قوله - تعالى - : إنما النسيء زيادة في الكفر إلى قوله : والله لا يهدي القوم الكافرين [ 9 \ 37 ] .
وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله - فقد أشرك به مع الله ، كما يدل لذلك قوله : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم [ 6 \ 137 ] . فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد .
[ ص: 57 ] وقوله - تعالى - : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 42 \ 21 ] فقد سمى - تعالى - الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله - شركاء ، ومما يزيد ذلك إيضاحا أن ما ذكره الله عن الشيطان يوم القيامة من أنه يقول للذين كانوا يشركون به في دار الدنيا : ( إني كفرت بما أشركتموني من قبل ) - أن ذلك الإشراك المذكور ليس فيه شيء زائد على أنه دعاهم إلى طاعته فاستجابوا له ، كما صرح بذلك في قوله - تعالى - عنه : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي الآية ، وهو واضح كما ترى .
قوله - تعالى - : فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه .
قوله - تعالى - : فاطر السماوات والأرض تقدم تفسيره في أول سورة " فاطر " .
وقوله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، أي خلق لكم أزواجا من أنفسكم ، كما قدمنا الكلام عليه في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [ 16 \ 72 ] . وبينا أن المراد بالأزواج الإناث ، كما يوضحه قوله - تعالى - : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة الآية [ 30 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى [ 53 \ 45 - 46 ] . وقوله : فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى [ 92 \ 1 - 3 ] . وقوله في آدم : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها الآية [ 4 \ 1 ] . وقوله - تعالى - فيه أيضا : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] . وقوله - تعالى - فيه أيضا : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها الآية [ 39 \ 6 ] .
وقوله - تعالى - : ومن الأنعام أزواجا هي الثمانية المذكورة في قوله - تعالى - : ثمانية أزواج من الضأن اثنين الآية [ 6 \ 143 ] . وفي قوله : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 \ 6 ] . وهي ذكور الضأن والمعز والإبل والبقر وإناثها ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " آل عمران " في الكلام على قوله - تعالى - : والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] .
[ ص: 58 ] وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يذرؤكم فيه الظاهر أن ضمير الخطاب في قوله : يذرؤكم شامل للآدميين والأنعام ، وتغليب الآدميين على الأنعام في ضمير المخاطبين في قوله : ( يذرؤكم ) واضح لا إشكال فيه .
والتحقيق - إن شاء الله - أن الضمير في قوله : " فيه " راجع إلى ما ذكر من الذكور والإناث من بني آدم والأنعام ، في قوله - تعالى - : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا سواء قلنا إن المعنى : أنه جعل للآدميين إناثا من أنفسهم ، أي من جنسهم ، وجعل للأنعام أيضا إناثا كذلك ، أو قلنا : إن المراد بالأزواج الذكور والإناث منهما معا .
وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الآية الكريمة ( يذرؤكم ) ، أي يخلقكم ويبثكم وينشركم ( فيه ) ، أي فيما ذكر من الذكور والإناث ، أي في ضمنه عن طريق التناسل ، كما هو معروف .
ويوضح ذلك في قوله - تعالى - : اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] . فقوله - تعالى - : وبث منهما رجالا كثيرا ونساء يوضح معنى قوله : يذرؤكم فيه .
فإن قيل : ما وجه إفراد الضمير المجرور في قوله : ( يذرؤكم فيه ) مع أنه على ما ذكرتم عائد إلى الذكور والإناث من الآدميين والأنعام ؟
فالجواب : أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن رجوع الضمير أو الإشارة بصيغة الإفراد إلى مثنى أو مجموع باعتبار ما ذكر مثلا .
ومثاله في الضمير : قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به الآية [ 6 \ 46 ] . فالضمير في قوله : ( به ) مفرد ، مع أنه راجع إلى السمع والأبصار والقلوب .
فقوله : يأتيكم به أي بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ، ومن هذا المعنى قول رؤبة بن العجاج :
فيها خطوط من سواد وبلق كأن في الجلد توليع البهق
فقوله : كأنه ، أي ما ذكر من خطوط من سواد وبلق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (469)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 59 إلى صـ 66
[ ص: 59 ] ومثاله في الإشارة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك [ 2 \ 68 ] أي بين ذلك المذكور من فارض وبكر ، وقول عبد الله بن الزبعرى السهمي :
إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل
أي كلا ذلك المذكور من الخير والشر .
وقول من قال ، إن الضمير في قوله : ( فيه ) راجع إلى الرحم ، وقول من قال : راجع إلى البطن ، ومن قال : راجع إلى الجعل المفهوم من ( جعل ) وقول من قال : راجع إلى التدبير ، ونحو ذلك من الأقوال خلاف الصواب .
والتحقيق - إن شاء الله - هو ما ذكرنا ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
وقد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] .
قوله - تعالى - : له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر .
مقاليد السموات والأرض هي مفاتيحهما ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، فمفردها إقليد ، وجمعها مقاليد على غير قياس ، والإقليد المفتاح . وقيل : واحدها مقليد ، وهو قول غير معروف في اللغة .
وكونه - جل وعلا - له مقاليد السماوات والأرض أي مفاتيحهما ، كناية عن كونه - جل وعلا - هو وحده المالك لخزائن السماوات والأرض ; لأن ملك مفاتيحها يستلزم ملكها .
وقد ذكر - جل وعلا - مثل هذا في سورة " الزمر " في قوله - تعالى - : الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض الآية [ 39 \ 62 - 63 ] .
وما دلت عليه آية " الشورى " هذه وآية " الزمر " المذكورتان من أنه - جل وعلا - هو مالك خزائن السماوات والأرض ، جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون [ 63 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] .
[ ص: 60 ] وبين في مواضع أخر أن خزائن رحمته لا يمكن أن تكون لغيره ، كقوله - تعالى - : أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب [ 38 \ 9 ] . وقوله - تعالى - أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون [ 52 \ 37 ] . وقوله - تعالى - قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا [ 17 \ 100 ] .
وقوله في هذه الآية الكريمة : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر جاء معناه موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له الآية [ 34 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 34 \ 36 ] . وقوله - تعالى - : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا الآية [ 13 \ 26 ] . وقوله - تعالى - : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] . وقوله - تعالى - : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا الآية [ 43 \ 32 ] . وقوله - تعالى - : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما الآية [ 4 \ 135 ] . وقوله - تعالى - : لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله الآية [ 65 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : ومن قدر عليه رزقه [ 65 \ 7 ] أي ضيق عليه رزقه لقلته . وكذلك قوله : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر في الآيات المذكورة .
أي يبسط الرزق لمن يشاء بسطه له ويقدر ، أي يضيق الرزق على من يشاء تضييقه عليه ، كما أوضحناه في سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله - تعالى - : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] .
وقد بين - جل وعلا - في بعض الآيات حكمة تضييقه للرزق على من ضيقه عليه .
وذكر أن من حكم ذلك أن بسط الرزق للإنسان ، قد يحمله على البغي والطغيان ، كقوله - تعالى - : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [ 42 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 \ 6 ] .
قوله - تعالى - : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأحزاب " في الكلام على قوله - تعالى - : [ ص: 61 ] وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الآية [ 33 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : ولا تتفرقوا فيه .
الضمير في قوله : ( فيه ) ، راجع إلى الدين في قوله : ( أن أقيموا الدين ) .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الافتراق في الدين - جاء مبينا في غير هذا الموضع ، وقد بين - تعالى - أنه وصى خلقه بذلك ، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا الآية [ 3 \ 103 ] . وقوله - تعالى - : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ 6 \ 153 ] . وقد بين - تعالى - في بعض المواضع أن بعض الناس لا يجتنبون هذا النهي ، وهددهم على ذلك ، كقوله - تعالى - : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون [ 6 \ 159 ] . لأن قوله : لست منهم في شيء إلى قوله : يفعلون - فيه تهديد عظيم لهم .
وقوله - تعالى - في سورة " قد أفلح المؤمنون " : وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين [ 23 \ 52 - 54 ] .
فقوله : وإن هذه أمتكم أمة واحدة أي : إن هذه شريعتكم شريعة واحدة ، ودينكم دين واحد ، وربكم واحد فلا تتفرقوا في الدين .
وقوله - جل وعلا - : فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا دليل على أنهم لم يجتنبوا ما نهوا عنه من ذلك .
وقوله - تعالى - : فذرهم في غمرتهم حتى حين فيه تهديد لهم ووعيد عظيم على ذلك . ونظير ذلك قوله - تعالى - في سورة " الأنبياء " : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون [ 21 \ 92 - 93 ] . فقوله - تعالى - : كل إلينا راجعون فيه أيضا تهديد لهم ووعيد على ذلك ، وقد أوضحنا تفسير هذه الآيات في آخر سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذه أمتكم أمة واحدة الآية [ 21 \ 93 ] .
[ ص: 62 ] وقد جاء في الحديث المشهور افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافتراق النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، وافتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ، وأن الناجية منها واحدة ، وهي التي كانت على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
قوله - تعالى - : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه .
بين - جل وعلا - أنه ( كبر على المشركين ) أي شق عليهم وعظم ما يدعوهم إليه - صلى الله عليه وسلم - من عبادة الله - تعالى - وحده ، وطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه ، ولعظم ذلك ومشقته عليهم كانوا يكرهون ما أنزل الله ، ويجتهدون في عدم سماعه لشدة كراهتهم له ، بل يكادون يبطشون بمن يتلو عليهم آيات ربهم لشدة بغضهم وكراهتهم لها .
والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة في كتاب الله ، وفيها بيان أن ذلك هو عادة الكافرين مع جميع الرسل من عهد نوح إلى عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فقد بين - تعالى - مشقة ذلك على قوم نوح وكبره عليهم في مواضع من كتابه ، كقوله - تعالى - : واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت الآية [ 10 \ 71 ] . وقوله - تعالى - عن نوح : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 7 ] .
فقوله - تعالى - : جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهتهم لما يدعوهم إليه نوح ، فهو واضح في أنهم كبر عليهم ما يدعوهم إليه من توحيد الله والإيمان به .
وقد بين الله - تعالى - مثل ذلك في الكفار الذين كذبوا نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا [ 22 \ 72 ] . فقوله - تعالى - : تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر الآية - يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهيتهم لسماع تلك الآيات .
وكقوله - تعالى - : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه الآية [ 41 \ 26 ] . وقوله - تعالى - في " الزخرف " : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون [ 43 \ 78 ] . [ ص: 63 ] وقوله - تعالى - في " قد أفلح المؤمنون " : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] . وقوله - تعالى - في " القتال " : ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [ 47 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم [ 45 \ 6 - 8 ] . وقوله - تعالى - : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم [ 31 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب الآية [ 41 \ 5 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
واعلم أن هؤلاء الذين يكرهون ما أنزل الله يجب على كل مسلم أن يحذر كل الحذر من أن يطيعهم في بعض أمرهم; لأن ذلك يستلزم نتائج سيئة متناهية في السوء ، كما أوضح - تعالى - ذلك في قوله : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 24 - 28 ] . فعلى كل مسلم أن يحذر ثم يحذر ثم يحذر كل الحذر من أن يقول للذين كفروا ، الذين يكرهون ما أنزل الله - : سنطيعكم في بعض الأمر ; لأن ذلك يسبب له ما ذكره الله في الآيات المذكورة ، ويكفيه زجرا وردعا عن ذلك قول ربه - تعالى - : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم إلى قوله فأحبط أعمالهم [ 47 \ 27 - 28 ] .
قوله - تعالى - : الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب .
الاجتباء في اللغة العربية معناه الاختيار والاصطفاء .
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أنه - تعالى - يجتبي من خلقه من يشاء اجتباءه .
وقد بين في مواضع أخر بعض من شاء اجتباءه من خلقه ، فبين أن منهم المؤمنين من هذه الأمة في قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير إلى قوله : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 77 - 78 ] .
[ ص: 64 ] وقوله - تعالى - : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا الآية [ 35 \ 32 ] .
وبين في موضع آخر أن منهم آدم ، وهو قوله - تعالى - : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 122 ] . وذكر أن منهم إبراهيم في قوله : إن إبراهيم كان أمة إلى قوله شاكرا لأنعمه اجتباه الآية [ 16 \ 120 - 121 ] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اجتباء بعض الخلق بالتعيين .
وقوله - تعالى - : ويهدي إليه من ينيب أي من سبق في علمه أنه ينيب إلى الله ، أي يرجع إلى ما يرضيه من الإيمان والطاعة ، ونظير هذه الآية قوله - تعالى - في سورة " الرعد " : قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب [ 13 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم .
تقدمت الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم [ 2 \ 136 ] .
قوله - تعالى - : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان .
بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي أنزل الكتاب في حال كونه متلبسا بالحق الذي هو ضد الباطل ، وقوله : الكتاب اسم جنس مراد به جميع الكتب السماوية .
وقد أوضحنا في سورة " الحج " أن المفرد الذي هو اسم الجنس يطلق مرادا به الجمع ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك مع الشواهد العربية .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : والميزان يعني أن الله - جل وعلا - هو الذي أنزل الميزان ، والمراد به العدل والإنصاف .
وقال بعض أهل العلم : الميزان في الآية هو آلة الوزن المعروفة .
ومما يؤيد ذلك أن الميزان مفعال ، والمفعال قياسي في اسم الآلة .
وعلى التفسير الأول - وهو أن الميزان العدل والإنصاف - فالميزان الذي هو آلة الوزن المعروفة داخل فيه ; لأن إقامة الوزن بالقسط من العدل والإنصاف .
[ ص: 65 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله - تعالى - هو الذي أنزل الكتاب والميزان - أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في سورة " الحديد " : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [ 57 \ 25 ] .
فصرح - تعالى - بأنه أنزل مع رسله الكتاب والميزان لأجل أن يقوم الناس بالقسط ، وهو العدل والإنصاف . وكقوله - تعالى - في سورة " الرحمن " : والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [ 55 \ 7 - 9 ] .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله - تعالى - أعلم : أن الميزان في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " هو العدل والإنصاف ، كما قاله غير واحد من المفسرين .
وأن الميزان في سورة " الرحمن " هو الميزان المعروف ، أعني آلة الوزن التي يوزن بها بعض المبيعات .
ومما يدل على ذلك أنه في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " عبر بإنزال الميزان لا بوضعه ، وقال في سورة " الشورى " : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان . وقال في " الحديد " : وأنزلنا معهم الكتاب والميزان [ 57 \ 25 ] .
وأما في سورة " الرحمن " فقد عبر بالوضع لا الإنزال ، قال : والسماء رفعها ووضع الميزان [ 55 \ 7 ] . ثم أتبع ذلك بما يدل على أن المراد به آلة الوزن المعروفة ، وذلك في قوله : وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [ 55 \ 9 ] لأن الميزان الذي نهوا عن إخساره هو أخو المكيال ، كما قال - تعالى - : أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم [ 26 \ 181 - 183 ] . وقال - تعالى - : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون [ 83 \ 1 - 3 ] . وقال - تعالى - عن نبيه شعيب : ولا تنقصوا المكيال والميزان الآية [ 11 \ 84 ] . وقال - تعالى - عنه أيضا : قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان الآية [ 7 \ 85 ] . وقال - تعالى - في سورة " الأنعام " : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها [ 6 \ 152 ] . وقال - تعالى - في سورة " بني [ ص: 66 ] إسرائيل " : وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا .
فإن قيل : قد اخترتم أن المراد بالميزان في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " - هو العدل والإنصاف ، وأن المراد بالميزان في سورة " الرحمن " هو آلة الوزن المعروفة ، وذكرتم نظائر ذلك من الآيات القرآنية ، وعلى هذا الذي اخترتم يشكل الفرق بين الكتاب والميزان ; لأن الكتب السماوية كلها عدل وإنصاف .
فالجواب من وجهين : الأول منهما : هو ما قدمنا مرارا من أن الشيء الواحد إذا عبر عنه بصفتين مختلفتين جاز عطفه على نفسه تنزيلا للتغاير بين الصفات منزلة التغاير في الذوات ، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله - تعالى - : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى [ 87 \ 1 - 4 ] . فالموصوف واحد والصفات مختلفة ، وقد ساغ العطف لتغاير الصفات . ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
وأما الوجه الثاني : فهو ما أشار إليه العلامة ابن القيم - رحمه الله - في أعلام الموقعين ، من المغايرة في الجملة بين الكتاب والميزان .
وإيضاح ذلك : أن المراد بالكتاب هو العدل والإنصاف المصرح به في الكتب السماوية .
وأما الميزان : فيصدق بالعدل والإنصاف الذي لم يصرح به في الكتب السماوية ، ولكنه معلوم مما صرح به فيها .
فالتأفيف في قوله - تعالى - : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] . من الكتاب ; لأنه مصرح به في الكتاب ، ومنع ضرب الوالدين مثلا المدلول عليه بالنهي على التأفيف من الميزان ، أي من العدل والإنصاف الذي أنزله الله مع رسله .
وقبول شهادة العدلين في الرجعة والطلاق المنصوص في قوله - تعالى - : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] من الكتاب الذي أنزله الله ; لأنه مصرح به فيه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (470)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 67 إلى صـ 74
[ ص: 67 ] وقبول شهادة أربعة عدول في ذلك من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .
وتحريم أكل مال اليتيم المذكور في قوله : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا الآية [ 4 \ 10 ] - من الكتاب .
وتحريم إغراق مال اليتيم وإحراقه المعروف من ذلك - من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .
وجلد القاذف الذكر للمحصنة الأنثى ثمانين جلدة ورد شهادته ، والحكم بفسقه المنصوص في قوله : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة إلى قوله إلا الذين تابوا الآية [ 24 \ 4 - 5 ] - من الكتاب الذي أنزله الله .
وعقوبة القاذف الذكر لذكر مثله ، والأنثى القاذفة للذكر أو لأنثى بمثل تلك العقوبة المنصوصة في القرآن - من الميزان المذكور .
وحلية المرأة التي كانت مبتوتة ، بسبب نكاح زوج ثان وطلاقه لها بعد الدخول ، المنصوص في قوله - تعالى - : فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا [ 2 \ 230 ] أي فإن طلقها الزوج الثاني بعد الدخول وذوق العسيلة - فلا جناح عليهما ، أي لا جناح على المرأة التي كانت مبتوتة ، والزوج الذي كانت حراما عليه - أن يتراجعا بعد نكاح الثاني وطلاقه لها - من الكتاب الذي أنزل الله .
وأما إن مات الزوج الثاني بعد أن دخل بها وكان موته قبل أن يطلقها ، فحليتها للأول الذي كانت حراما عليه - من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .
وقد أشرنا إلى كلام ابن القيم المذكور ، وأكثرنا من الأمثلة لذلك في سورة " الأنبياء " في كلامنا الطويل على قوله - تعالى - : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] .
قوله - تعالى - : وما يدريك لعل الساعة قريب .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : أتى أمر الله فلا تستعجلوه الآية [ 16 \ 1 ] . وفي سورة " الأحزاب " في الكلام على قوله [ ص: 68 ] - تعالى - : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا [ 33 \ 63 ] . وفي سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : وأنذرهم يوم الآزفة الآية [ 40 \ 18 ] .
قوله - تعالى - : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق .
ذكر - تعالى - في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل : الأولى : أن الكفار الذين لا يؤمنون بالساعة يستعجلون بها ، أي يطلبون تعجيلها عليهم ، لشدة إنكارهم لها .
والثانية : أن المؤمنين مشفقون منها ، أي خائفون منها .
والثالثة : أنهم يعلمون أنها الحق ، أي أن قيامها ووقوعها حق لا شك فيه .
وكل هذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في غير هذا الموضع .
أما استعجالهم لها فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " في الكلام على قوله - تعالى - : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [ 13 \ 6 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
وأما المسألة الثانية التي هي إشفاق المؤمنين وخوفهم من الساعة ، فقد ذكره في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون [ 21 \ 49 ] . وقوله - تعالى - : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [ 24 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ 76 \ 7 ] .
وأما المسألة الثالثة وهي علمهم أن الساعة حق ، فقد دلت عليه الآيات المصرحة بأنها لا ريب فيها ; لأنها تتضمن نفي الريب فيها عن المؤمنين .
والريب : الشك ، كقوله - تعالى - عن الراسخين في العلم : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه الآية [ 3 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الآية [ 4 \ 87 ] . وقوله - تعالى - : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه الآية [ 3 \ 25 ] . وقوله - تعالى - : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه الآية [ 42 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 69 ] ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 6 - 7 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يمارون ، مضارع مارى يماري مراء ومماراة ، إذا خاصم وجادل .
ومنه قوله - تعالى - : فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا [ 18 \ 22 ] .
وقوله : لفي ضلال بعيد ، أي بعيد عن الحق والصواب .
وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن واللغة العربية ، مع الشواهد في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين [ 26 \ 20 ] . وفي مواضع أخر من هذا الكتاب المبارك .
قوله - تعالى - : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى . قد بينا في سورة " هود " في الكلام على قوله - تعالى - : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا الآية [ 11 \ 29 ] - أن جميع الرسل - عليهم الصلوات والسلام - لا يأخذون أجرا على التبليغ ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك .
وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " وجه الجمع بين تلك الآيات وآية " الشورى " هذه ، فقلنا فيه :
اعلم أولا أن في قوله - تعالى - : إلا المودة في القربى أربعة أقوال : الأول : ما رواه الشعبي وغيره عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن جرير وغيره - أن معنى الآية قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم ، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - له في كل بطن من قريش رحم ، فهذا الذي سألهم ليس [ ص: 70 ] بأجر على التبليغ ; لأنه مبذول لكل أحد ; لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس .
وقد فعل له ذلك أبو طالب ولم يكن يسأل أجرا على التبليغ ; لأنه لم يؤمن .
وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر - تحقق أنه لا يسأل أجرا ، كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم .
وهذا القول هو الصحيح في الآية ، واختاره ابن جرير ، وعليه فلا إشكال .
الثاني : أن معنى الآية إلا المودة في القربى ، أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي ، واحفظوني فيهم ، ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين ، وعليه فلا إشكال أيضا .
لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم ، وأحرى قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال - تعالى - : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] . وفي الحديث " مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " وقال - صلى الله عليه وسلم - " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " . والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا .
وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين ، تبين أنه غير عوض عن التبليغ .
وقال بعض العلماء : الاستثناء منقطع على كلا القولين ، وعليه فلا إشكال .
فمعناه على القول الأول لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي فيكم .
وعلى الثاني : لكن أذكركم الله في قرابتي ، فاحفظوني فيهم .
القول الثالث - وبه قال الحسن - : ( إلا المودة في القربى ) أي إلا أن تتوددوا إلى الله ، وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وعليه فلا إشكال ; لأن التقرب إلى الله ليس أجرا على التبليغ .
[ ص: 71 ] القول الرابع : ( إلا المودة في القربى ) أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم ، ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن قاسم ، وعليه أيضا فلا إشكال .
لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية ، وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال .
وأما القول بأن قوله - تعالى - : إلا المودة في القربى - منسوخ بقوله - تعالى - : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] - فهو ضعيف ، والعلم عند الله - تعالى - . انتهى منه .
وقد علمت مما ذكرنا فيه أن القول الأول هو الصحيح في معنى الآية .
مع أن كثيرا من الناس يظنون أن القول الثاني هو معنى الآية ، فيحسبون أن معنى إلا المودة في القربى إلا أن تودوني في أهل قرابتي .
وممن ظن ذلك محمد السجاد ; حيث قال لقاتله يوم الجمل : أذكرك " حم " يعني سورة " الشورى " هذه ، ومراده أنه من أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيلزم حفظه فيهم ; لأن الله - تعالى - قال في " حم " هذه : إلا المودة في القربى فهو يريد المعنى المذكور ، يظنه هو المراد بالآية ، ولذا قال قاتله في ذلك :
يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وقد ذكرنا هذا البيت والأبيات التي قبله في أول سورة " هود " ، وذكرنا أن البخاري ذكر البيت المذكور في سورة " المؤمن " ، وذكرنا الخلاف في قائل الأبيات الذي قتل محمدا السجاد بن طلحة بن عبيد الله يوم الجمل ، هل هو شريح بن أبي أوفى العبسي ، كما قال البخاري ، أو الأشتر النخعي ، أو عصام بن مقشعر ، أو مدلج بن كعب السعدي ، أو كعب بن مدلج .
وممن ظن أن معنى الآية هو ما ظنه محمد السجاد المذكور - الكميت في قوله في أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي ومعرب
والتحقيق - إن شاء الله - أن معنى الآية هو القول الأول إلا المودة في القربى [ ص: 72 ] أي إلا أن تودوني في قرابتي فيكم وتحفظوني فيها ، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما هو شأن أهل القرابات .
قوله - تعالى - : ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا . الاقتراف معناه الاكتساب ، أي من يعمل حسنة من الحسنات ويكتسبها - نزد له فيها حسنا ، أي نضاعفها له .
فمضاعفة الحسنات هي الزيادة في حسنها ، وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب الله - تعالى - كقوله - تعالى - : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] . وقوله - تعالى - : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [ 2 \ 245 ] . وقوله - تعالى - : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا [ 73 \ 20 ] . فكونه خيرا وأعظم أجرا زيادة في حسنه ، كما لا يخفى . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .
بين - تعالى - في هذه الآية الكريمة أنه هو وحده الذي يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، وقد جاء ذلك موضحا في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم [ 9 \ 104 ] . وقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم الآية [ 66 \ 8 ] . وقوله - تعالى - : ومن يغفر الذنوب إلا الله [ 3 \ 135 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وقد قدمنا معنى التوبة وأركانها وإزالة ما في أركانها من الإشكال في سورة " النور " في الكلام على قوله - تعالى - : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون [ 24 \ 31 ] .
قوله - تعالى - : ولكن ينزل بقدر ما يشاء .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ينزل ما يشاء تنزيله من الأرزاق وغيرها [ ص: 73 ] بقدر ، أي بمقدار معلوم عنده - جل وعلا - وهو - جل وعلا - أعلم بالحكمة والمصلحة في مقدار كل ما ينزله . وقد أوضح هذا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وما أنتم بمعجزين في الأرض الآية .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النور " في الكلام على قوله - تعالى - : لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار الآية [ 24 \ 57 ] .
قوله - تعالى - : ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام .
قوله : ( ومن آياته ) أي من علاماته الدالة على قدرته واستحقاقه للعبادة وحده - الجواري وهي السفن ، واحدتها جارية ، ومنه قوله - تعالى - : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية [ 69 \ 11 ] يعني سفينة نوح ، وسميت جارية لأنها تجري في البحر .
وقوله : ( كالأعلام ) ، أي كالجبال ، شبه السفن بالجبال لعظمها .
وعن مجاهد أن الأعلام القصور ، وعن الخليل أن كل مرتفع تسميه العرب علما ، وجمع العلم أعلام .
وهذا الذي ذكره الخليل معروف في اللغة ، ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخرا :
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن جريان السفن في البحر من آياته - تعالى - الدالة على كمال قدرته - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين [ 36 \ 41 - 44 ] . وقوله - تعالى - : فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين [ 29 \ 15 ] . وقوله - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] . وقوله - تعالى - في سورة " النحل " : وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله الآية [ 19 \ 14 ] . وقوله في " فاطر " : [ ص: 74 ] وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله الآية [ 35 \ 12 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو ( الجواري ) بياء ساكنة بعد الراء في الوصل فقط دون الوقف ، وقرأه ابن كثير بالياء المذكور في الوصل والوقف معا ، وقرأه الباقون ( الجوار ) بحذف الياء في الوصل والوقف معا .
قوله - تعالى - : والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش .
قرأ هذا الحرف حمزة والكسائي ( كبير الإثم ) ، بكسر الباء بعدها ياء ساكنة وراء على صيغة الإفراد .
وقرأه الباقون بفتح الباء بعدها ألف فهمزة مكسورة قبل الراء على صيغة الجمع .
وقوله : والذين في محل جر عطفا على قوله : وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون أي وخير وأبقى أيضا للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش .
والفواحش جمع فاحشة . والتحقيق - إن شاء الله - أن الفواحش من جملة الكبائر .
والأظهر أنها من أشنعها; لأن الفاحشة في اللغة هي الخصلة المتناهية في القبح ، وكل متشدد في شيء مبالغ فيه فهو فاحش فيه .
ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
فقوله : الفاحش ، أي المبالغ في البخل المتناهي فيه .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وعده - تعالى - الصادق للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش بما عنده لهم من الثواب الذي هو خير وأبقى - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، فبين - تعالى - في سورة " النساء " أن من ذلك تكفيره - تعالى - عنهم سيئاتهم ، وإدخالهم المدخل الكريم وهو الجنة ، في قوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [ 4 \ 31 ] . وبين في سورة " النجم " أنهم باجتنابهم كبائر الإثم والفواحش - يصدق عليهم اسم المحسنين ، ووعدهم على ذلك بالحسنى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (471)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 75 إلى صـ 82
[ ص: 75 ] والأظهر أنها الجنة ، ويدل له حديث " الحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم " في تفسير قوله - تعالى - : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] كما قدمناه .
وآية " النجم " المذكورة هي قوله - تعالى - : ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] . ثم بين المراد بالذين أحسنوا في قوله : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة [ 53 \ 23 ] .
وأظهر الأقوال في قوله : ( إلا اللمم ) - أن المراد باللمم صغائر الذنوب ، ومن أوضح الآيات القرآنية في ذلك قوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ 4 \ 31 ] . فدلت على أن اجتناب الكبائر سبب لغفران الصغائر ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
ويدل لهذا حديث ابن عباس الثابت في الصحيح قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والنفس تمني وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .
وعلى هذا القول فالاستثناء في قوله : ( إلا اللمم ) منقطع; لأن اللمم الذي هو الصغائر على هذا القول لا يدخل في الكبائر والفواحش ، وقد قدمنا تحقيق المقام في الاستثناء المنقطع في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما [ 19 \ 62 ] .
وقالت جماعة من أهل العلم : الاستثناء متصل ، قالوا : وعليه فمعنى ( إلا اللمم ) إلا أن يلم بفاحشة مرة ، ثم يجتنبها ولا يعود لها بعد ذلك .
واستدلوا لذلك بقول الراجز :
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما
وروى هذا البيت ابن جرير والترمذي وغيرهما مرفوعا . وفي صحته مرفوعا نظر .
[ ص: 76 ] وقال بعض العلماء : المراد باللمم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي قبل الدخول في الإسلام . ولا يخفى بعده .
وأظهر الأقوال هو ما قدمنا لدلالة آية " النساء " المذكورة عليه ، وحديث ابن عباس المتفق عليه .
واعلم أن كبائر الإثم ليست محدودة في عدد معين ، وقد جاء تعيين بعضها ، كالسبع الموبقات ، أي المهلكات لعظمها ، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أنها : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات .
وقد جاءت روايات كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعيين بعض الكبائر كعقوق الوالدين ، واستحلال حرمة بيت الله الحرام ، والرجوع إلى البادية بعد الهجرة ، وشرب الخمر ، واليمين الغموس ، والسرقة ، ومنع فضل الماء ، ومنع فضل الكلإ ، وشهادة الزور .
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن ابن مسعود أن أكبر الكبائر الإشراك بالله الذي خلق الخلق ، ثم قتل الرجل ولده خشية أن يطعم معه ، ثم زناه بحليلة جاره . وفي بعضها أيضا " أن من الكبائر تسبب الرجل في سب والديه " . وفي بعضها أيضا " أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " . وذلك يدل على أنهما من الكبائر .
وفي بعض الروايات " أن من الكبائر الوقوع في عرض المسلم ، والسبتين بالسبة " .
وفي بعض الروايات " أن منها جمع الصلاتين من غير عذر " .
وفي بعضها " أن منها اليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله " . ويدل عليهما قوله - تعالى - : إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون [ 12 \ 87 ] . وقوله : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [ 7 \ 99 ] .
وفي بعضها " أن منها سوء الظن بالله " . ويدل له قوله - تعالى - : ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا [ 48 \ 6 ] .
وفي بعضها " أن منها الإضرار في الوصية " .
[ ص: 77 ] وفي بعضها " أن منها الغلول " . ويدل له قوله - تعالى - : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة [ 3 \ 161 ] . وقدمنا معنى الغلول في سورة " الأنفال " ، وذكرنا حكم الغال .
وفي بعضها " أن من أهل الكبائر الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " . ويدل له قوله - تعالى - : أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [ 3 \ 77 ] . ولم نذكر أسانيد هذه الروايات ونصوص متونها خوف الإطالة ، وأسانيد بعضها لا تخلو من نظر ، لكنها لا يكاد يخلو شيء منها عن بعض الشواهد الصحيحة من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
واعلم أن أهل العلم اختلفوا في حد الكبيرة ; فقال بعضهم : هي كل ذنب استوجب حدا من حدود الله .
وقال بعضهم : هي كل ذنب جاء الوعيد عليه بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب .
واختار بعض المتأخرين حد الكبيرة بأنها هي كل ذنب دل على عدم اكتراث صاحبه بالدين .
وعن ابن عباس أن الكبائر أقرب إلى السبعين منها إلى السبع . وعنه أيضا أنها أقرب إلى سبعمائة منها إلى سبع .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق أنها لا تنحصر في سبع ، وأن ما دل عليه من الأحاديث على أنها سبع لا يقتضي انحصارها في ذلك العدد; لأنه إنما دل على نفي غير السبع بالمفهوم ، وهو مفهوم لقب ، والحق عدم اعتباره .
ولو قلنا : إنه مفهوم عدد - لكان غير معتبر أيضا; لأن زيادة الكبائر على السبع مدلول عليها بالمنطوق .
وقد جاء منها في الصحيح عدد أكثر من سبع ، والمنطوق مقدم على المفهوم ، مع أن مفهوم العدد ليس من أقوى المفاهيم .
والأظهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كل ذنب اقترن بما يدل على أنه أعظم من مطلق المعصية ، سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ، أو كان وجوب الحد فيه ، أو غير ذلك مما يدل على تغليظ التحريم وتوكيده .
[ ص: 78 ] مع أن بعض أهل العلم قال : إن كل ذنب كبيرة . وقوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ 4 \ 31 ] . وقوله : إلا اللمم [ 53 \ 32 ] يدل على عدم المساواة ، وأن بعض المعاصي كبائر ، وبعضها صغائر ، والمعروف عند أهل العلم أنه لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وجزاء سيئة سيئة مثلها .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الآية [ 16 \ 126 ] . وفي سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الآية [ 39 \ 17 - 18 ] .
قوله - تعالى - : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكلام على آية " النحل " وآية " الزمر " المذكورتين آنفا .
قوله - تعالى - : وترى الظالمين لما رأوا العذاب الآية .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل الآية [ 7 \ 53 ] .
قوله - تعالى - : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده الآية [ 16 \ 2 ] .
قوله - تعالى - : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا .
قوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان - يبين الله - جل وعلا - فيه منته على هذا النبي الكريم ، بأنه علمه هذا القرآن العظيم ولم يكن يعلمه قبل ذلك ، وعلمه تفاصيل دين الإسلام ولم يكن يعلمها قبل ذلك .
[ ص: 79 ] فقوله : ( ما كنت تدري ما الكتاب ) أي ما كنت تعلم ما هو هذا الكتاب الذي هو القرآن العظيم ، حتى علمتكه ، وما كنت تدري ما الإيمان الذي هو تفاصيل هذا الدين الإسلامي ، حتى علمتكه .
ومعلوم أن الحق الذي لا شك فيه الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة - أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد .
وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة ، منها حديث وفد عبد القيس المشهور ، ومنها حديث : " من قام رمضان إيمانا واحتسابا . . . " الحديث ، فسمى فيه قيام رمضان إيمانا ، وحديث " الإيمان بضع وسبعون شعبة " ، وفي بعض رواياته " بضع وستون شعبة ، أعلاها شهادة ألا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " .
والأحاديث بمثل ذلك كثيرة ، ويكفي في ذلك ما أورده البيهقي في شعب الإيمان ، فهو - صلوات الله وسلامه عليه - ما كان يعرف تفاصيل الصلوات المكتوبة وأوقاتها ، ولا صوم رمضان ، وما يجوز فيه وما لا يجوز ، ولم يكن يعرف تفاصيل الزكاة ولا ما تجب فيه ولا قدر النصاب وقدر الواجب فيه ، ولا تفاصيل الحج ونحو ذلك ، وهذا هو المراد بقوله - تعالى - : ولا الإيمان .
وما ذكره هنا من أنه لم يكن يعلم هذه الأمور حتى علمه إياها بأن أوحى إليه هذا النور العظيم الذي هو كتاب الله - جاء في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم الآية [ 4 \ 113 ] . وقوله - جل وعلا - : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] .
فقوله في آية " يوسف " هذه : وإن كنت من قبله لمن الغافلين ، كقوله هنا : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، وقوله - تعالى - : ووجدك ضالا فهدى [ 93 \ 7 ] على أصح التفسيرات كما قدمناه في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين [ 26 \ 20 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء ، الضمير في قوله : ( جعلناه ) راجع إلى القرآن العظيم المذكور في قوله : روحا من أمرنا . [ ص: 80 ] وقوله : ما كنت تدري ما الكتاب ، أي ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نورا نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا .
وسمي القرآن نورا ; لأنه يضيء الحق ويزيل ظلمات الجهل والشك والشرك .
وما ذكره هنا من أن هذا القرآن نور - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا [ 4 \ 174 ] .
وقوله - تعالى - : واتبعوا النور الذي أنزل معه [ 7 \ 157 ] . وقوله - تعالى - : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ 5 \ 15 - 16 ] . وقوله - تعالى - : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] .
وما دلت عليه هذه الآيات الكريمة من كون هذا القرآن نورا - يدل على أنه هو الذي يكشف ظلمات الجهل ، ويظهر في ضوئه الحق ، ويتميز عن الباطل ، ويميز به بين الهدى والضلال والحسن والقبيح .
فيجب على كل مسلم أن يستضيء بنوره ، فيعتقد عقائده ، ويحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويمتثل أوامره ، ويجتنب ما نهى عنه ، ويعتبر بقصصه وأمثاله .
والسنة كلها داخلة في العمل به ، لقوله - تعالى - : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم .
الصراط المستقيم قد بينه - تعالى - في قوله : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 6 - 7 ] .
وقوله في هذه الآية الكريمة : وإنك لتهدي الآية ، قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : وأما ثمود فهديناهم الآية [ 41 \ 17 ] ، وبينا هناك وجه الجمع بين قوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم مع قوله : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] .
[ ص: 81 ] والصراط في لغة العرب : الطريق الواضح ، والمستقيم : الذي لا اعوجاج فيه ، ومنه قول جرير :
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
قوله - تعالى - : ألا إلى الله تصير الأمور .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الأمور كلها تصير إلى الله ، أي ترجع إليه وحده لا إلى غيره - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله [ 11 \ 123 ] . وقوله - تعالى - : ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور كنتم خير أمة أخرجت للناس [ 3 \ 109 - 110 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 82 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الزُّخْرُفِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا .
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [ 26 \ 194 - 195 ] . وَفِي سُورَةِ " الزُّمَرِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ الْآيَةَ [ 39 \ 28 ] .
قوله - تعالى - : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين .
الضمير في قوله : ( منهم ) عائد إلى القوم المسرفين ، المخاطبين بقوله : : أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين [ 43 \ 5 ] . وفيه ما يسميه علماء البلاغة بالالتفات من الخطاب إلى الغيبة .
وقوله : أشد منهم مفعول به لـ ( أهلكنا ) ، وأصله نعت لمحذوف ، والتقدير فأهلكنا قوما أشد منهم بطشا ، على حد قوله في الخلاصة :
وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل
وقوله : ( بطشا ) تمييز محول من الفاعل على حد قوله في الخلاصة : والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلا منزلا
والبطش : أصله الأخذ بعنف وشدة .
والمعنى : فأهلكنا قوما أشد بطشا من كفار مكة الذين كذبوا نبينا بسبب تكذيبهم رسلهم ، فليحذر الكفار الذين كذبوك أن نهلكهم بسبب ذلك كما أهلكنا الذين كانوا أشد منهم بطشا ، أي أكثر منهم عددا وعددا وجلدا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (472)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 83 إلى صـ 90
[ ص: 83 ] فعلى الأضعف الأقل أن يتعظ بإهلاك الأقوى الأكثر .
وقوله في هذه الآية الكريمة : ومضى مثل الأولين أي صفتهم التي هي إهلاكهم المستأصل بسبب تكذيبهم الرسل .
وقول من قال : مثل الأولين أي عقوبتهم وسنتهم - راجع في المعنى إلى ذلك .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار الذين كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن الله أهلك من هم أقوى منهم ، ليحذروا أن يفعل بهم مثل ما فعل بأولئك - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها الآية [ 30 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض الآية [ 40 \ 82 ] . وقوله - تعالى - : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا إلى قوله : فأهلكناهم بذنوبهم الآية [ 6 \ 6 ] . وقوله - تعالى - : وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير [ 34 \ 45 ] . وقوله - تعالى - : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا [ 35 \ 44 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ومضى مثل الأولين ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد كفار مكة الذين كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بصفته ، إهلاكهم وسنته فيهم التي هي العقوبة وعذاب الاستئصال جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 \ 42 - 43 ] . وقوله - تعالى - : فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ 40 \ 83 - 85 ] . وقوله - تعالى - : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين الآية [ 18 \ 55 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 84 ] فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين [ 43 \ 55 - 56 ] .
وقد قدمنا بعض الآيات الدالة على هذا في سورة " المائدة " في الكلام على قوله - تعالى - : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية [ 5 \ 32 ] .
قوله - تعالى - : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم .
قوله - تعالى - : الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون .
قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة والكسائي مهدا بفتح الميم وسكون الهاء ، وقرأه باقي السبعة مهادا بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف ومعناهما واحد ، وهو الفراش .
وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه جعل الأرض لبني آدم مهدا أي فراشا ، وأنه جعل لهم فيها سبلا أي طرقا ليمشوا فيها ويسلكوها ، فيصلوا بها من قطر إلى قطر . وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة ، من كونه - تعالى - جعل الأرض فراشا لبني آدم ، وجعل لهم فيها الطرق لينفذوا من قطر إلى قطر - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا [ 71 \ 19 - 20 ] . وكقوله - تعالى - : وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 \ 31 ] .
وذكر كون الأرض فراشا لبني آدم في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : والأرض فرشناها فنعم الماهدون [ 51 \ 48 ] . وقوله - تعالى - : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء الآية [ 40 \ 64 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : [ ص: 85 ] وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون [ 16 \ 15 ] .
قوله - تعالى - : والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من دلالة إحياء الأرض بعد موتها على خروج الناس من قبورهم أحياء بعد الموت ، في قوله - تعالى - : كذلك تخرجون - جاء موضحا في آيات كثيرة قد قدمناها في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] مع بقية براهين البعث في القرآن . وأوضحنا ذلك أيضا في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ 16 \ 10 ] . وفي غير ذلك من المواضع ، وأحلنا على ذلك مرارا كثيرة في هذا الكتاب المبارك .
وقد قدمنا في سورة " الفرقان " معنى الإنشاء والنشور وما في ذلك من اللغات مع الشواهد العربية .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : بقدر .
قال بعض العلماء : أي بقدر سابق وقضاء .
وقال بعض العلماء : أي بمقدار يكون به إصلاح البشر ، فلم يكثر الماء جدا فيكون طوفانا فيهلكهم ، ولم يجعله قليلا دون قدر الكفاية ، بل نزله بقدر الكفاية من غير مضرة ، كما قال - تعالى - : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون [ 23 \ 18 ] .
وقال - تعالى - : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم إلى قوله : وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 21 - 22 ] .
قوله - تعالى - : والذي خلق الأزواج كلها .
الأزواج الأصناف ، والزوج تطلقه العرب على الصنف .
وقد بين - تعالى - أن الأزواج المذكورة هنا تشمل أصناف النبات وبني آدم وما لا يعلمه إلا الله .
قال - تعالى - : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 \ 36 ] .
[ ص: 86 ] وقال - تعالى - : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى [ 20 \ 53 ] .
وقال - تعالى - : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج [ 22 \ 5 ] . أي من كل صنف حسن من أصناف النبات .
وقال - تعالى - : وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم [ 31 \ 10 ] .
ومن إطلاق الأزواج على الأصناف في القرآن قوله - تعالى - : وآخر من شكله أزواج [ 38 \ 58 ] . وقوله - تعالى - : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم [ 20 \ 131 ] .
وقد قدمنا طرفا من ذلك في سورة " الصافات " في الكلام على قوله - تعالى - : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الآية [ 37 \ 22 ] .
قوله - تعالى - : وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه .
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها الآية [ 40 \ 79 ] . وضمير المفرد المذكر الغائب في قوله : لتستووا على ظهوره ، وقوله : إذا استويتم عليه - راجع إلى لفظ ( ما ) في قوله : وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون .
قوله - تعالى - : وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين .
يعني - جل وعلا - أنه جعل لبني آدم ما يركبونه من الفلك التي هي السفن ، ومن الأنعام ليستووا ، أي يرتفعوا معتدلين على ظهوره ، ثم يذكروا في قلوبهم نعمة ربهم عليهم بتلك المركوبات ، ثم يقولوا - بألسنتهم مع تفهم معنى ما يقولون - : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين .
وقوله : " سبحان " قد قدمنا في أول سورة " بني إسرائيل " معناه بإيضاح ، وأنه يدل على تنزيه الله - جل وعلا - أكمل التنزيه وأتمه ، عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، والإشارة في قوله : هذا راجعة إلى لفظ ما من قوله : ما تركبون وجمع الظهور نظرا إلى معنى ما ; لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها ، ولفظها مفرد ، فالجمع في الآية باعتبار معناها ، والإفراد باعتبار لفظها .
[ ص: 87 ] وقوله : الذي سخر لنا هذا أي الذي ذلل لنا هذا الذي هو ما نركبه من الأنعام والسفن ; لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها ، ولا يخفى أن الجمل أقوى من الرجل ، وكذلك البحر لو لم يذلله لهم ويسخر لهم إجراء السفن فيه لما قدروا على شيء من ذلك .
وقوله - تعالى - : وما كنا له مقرنين أي مطيقين . والعرب تقول : أقرن الرجل للأمر وأقرنه إذا كان مطيقا له كفؤا للقيام به ، من قولهم : أقرنت الدابة للدابة ، بمعنى أنك إذا قرنتهما في حبل قدرت على مقاومتها ، ولم تكن أضعف منها فتجرها; لأن الضعيف إذا لز في القرن ، أي الحبل ، مع القوي - جره ولم يقدر على مقاومته ، كما قال جرير :
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
وهذا المعنى معروف في كلام العرب ، ومنه قول عمرو بن معديكرب وقد أنشده قطرب لهذا المعنى :
لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا
وقول ابن هرمة :
وأقرنت ما حملتني ولقلما يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر
وقول الآخر :
ركبتم صعبتي أشرا وحيفا ولستم للصعاب بمقرنينا
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن ما ذكر من السفن والأنعام لو لم يذلله الله لهم لما أقرنوا له ولما أطاقوه - جاء مبينا في آيات أخر; قال - تعالى - في ركوب الفلك : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] . وقال - تعالى - : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا الآية [ 16 \ 14 ] . وقال - تعالى - : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله الآية [ 45 \ 12 ] . وقال - تعالى - : وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار [ ص: 88 ] الآية [ 14 \ 32 ] . وقال - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الآية [ 2 \ 164 ] . وقال - تعالى - : ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقال - تعالى - في تسخير الأنعام : وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون [ 36 \ 72 ] . وقال - تعالى - : فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين [ 22 \ 36 - 37 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وجعلوا له من عباده جزءا .
قال بعض العلماء : جزءا أي عدلا ونظيرا ، يعني الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله .
وقال بعض العلماء : جزءا أي ولدا .
وقال بعض العلماء : جزءا يعني البنات .
وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية أن الجزء النصيب ، واستشهد على ذلك بآية " الأنعام " ، أعني قوله - تعالى - : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا الآية [ 6 \ 136 ] .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر أن قول ابن كثير هذا - رحمه الله - غير صواب في الآية ; لأن المجعول لله في آية " الأنعام " هو النصيب مما ذرأ من الحرث والأنعام ، والمجعول له في آية " الزخرف " هذه جزء من عباده لا مما ذرأ من الحرث والأنعام .
وبين الأمرين فرق واضح كما ترى .
وأن قول قتادة ومن وافقه : إن المراد بالجزء العدل والنظير الذي هو الشريك - غير صواب أيضا; لأن إطلاق الجزء على النظير ليس بمعروف في كلام العرب .
أما كون المراد بالجزاء في الآية الولد ، وكون المراد بالولد خصوص الإناث - فهذا هو التحقيق في الآية .
[ ص: 89 ] وإطلاق الجزء على الولد يوجه بأمرين : أحدهما : ما ذكره بعض علماء العربية من أن العرب تطلق الجزء مرادا به البنات ، ويقولون : أجزأت المرأة إذا ولدت البنات ، وامرأة مجزئة ، أي تلد البنات ، قالوا ومنه قول الشاعر :
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب قد تجزيء الحرة المذكار أحيانا
وقول الآخر :
زوجتها من بنات الأوس مجزئة للعوسج اللدن في أبياتها زجل
وأنكر الزمخشري هذه اللغة قائلا : إنها كذب وافتراء على العرب .
قال في الكشاف في الكلام على هذه الآية الكريمة : ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث ، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث ، وما هو إلا كذب على العرب ، ووضع مستحدث منحول ، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه ( أجزأت المرأة ) ثم صنعوا بيتا وبيتا :
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب زوجتها من بنات الأوس مجزئـة
ا هـ . منه بلفظه .
وقال ابن منظور في اللسان : وفي التنزيل العزيز : وجعلوا له من عباده جزءا . قال أبو إسحاق : يعني به الذين جعلوا الملائكة بنات الله ، تعالى وتقدس عما افتروا ، قال : وقد أنشدت بيتا يدل على أن معنى جزءا معنى الإناث ; قال - ولا أدري البيت هو قديم أو مصنوع - :
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب
البيت .
والمعنى في قوله : وجعلوا له من عباده جزءا ، أي جعلوا نصيب الله من الولد [ ص: 90 ] الإناث ، قال ولم أجده في شعر قديم ولا رواه عن العرب الثقات ، وأجزأت المرأة ولدت الإناث ، وأنشد أبو حنيفة :
زوجتها من بنات الأوس مجزئة
البيت .
انتهى الغرض من كلام صاحب اللسان .
وظاهر كلامه هذا الذي نقله عن الزجاج أن قولهم : أجزأت المرأة إذا ولدت الإناث - معروف ; ولذا ذكره وذكر البيت الذي أنشده له أبو حنيفة كالمسلم له .
والوجه الثاني : وهو التحقيق - إن شاء الله - أن المراد بالجزء في الآية الولد ، وأنه أطلق عليه اسم الجزء ; لأن الفرع كأنه جزء من أصله ، والولد كأنه بضعة من الوالد ، كما لا يخفى .
وأما كون المراد بالولد المعبر عنه بالجزء في الآية - خصوص الإناث ، فقرينة السياق دالة عليه دلالة واضحة ; لأن جعل الجزء المذكور لله من عباده هو بعينه الذي أنكره الله إنكارا شديدا ، وقرع مرتكبه تقريعا شديدا في قوله - تعالى - بعده : أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا إلى قوله : وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 16 - 18 ] .
وقرأ هذا الحرف شعبة عن عاصم جزءا بضم الزاي ، وباقي السبعة بإسكانها ، وحمزة عند الوقف يسقط الهمزة بنقل حركتها إلى الزاي مع حذف التنوين للوقف .
قوله - تعالى - : أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين .
( أم ) هنا بمعنى استفهام الإنكار ; فالكفار لما قالوا : الملائكة بنات الله - أنكر الله عليهم أشد الإنكار ، موبخا لهم أشد التوبيخ ; حيث افتروا عليه الولد ، ثم جعلوا له أنقص الولدين وأحقرهما ، وهو الأنثى ، كما قال هنا : أم اتخذ مما يخلق بنات ، وهي النصيب الأدنى من الأولاد ، ( وأصفاكم ) أنتم ، أي خصكم وآثركم ( بالبنين ) الذين هم النصيب الأعلى من الأولاد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (473)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 91 إلى صـ 98
وإنكار هذا عليهم وتوبيخهم عليه - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله هنا : [ ص: 91 ] وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا [ 43 \ 17 ] . يعني الأنثى ، كما أوضحه بقوله : وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم [ 16 \ 58 ] يعني فكيف تجعلون لله الإناث وأنتم لو بشر الواحد منكم بأن امرأته ولدت أنثى لظل وجهه مسودا ، يعني من الكآبة ، وهو كظيم ، أي ممتلئ حزنا وغما ، وكقوله - تعالى - هنا : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 18 ] ففيه إنكار شديد وتقريع عظيم لهم بأنهم مع افترائهم عليه - جل وعلا - الولد جعلوا له أنقص الولدين ، الذي لنقصه الخلقي ينشأ في الحلية - من الحلي ، والحلل وأنواع الزينة - من صغره إلى كبره; ليجبر بتلك الزينة نقصه الخلقي الطبيعي ، وهو في الخصام غير مبين ; لأن الأنثى غالبا لا تقدر على القيام بحجتها ولا الدفاع عن نفسها .
وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية غاية الإيضاح في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . وكقوله - تعالى - : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] . وقوله - تعالى - : ويجعلون لله ما يكرهون [ 16 \ 62 ] . وقوله - تعالى - : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 - 22 ] . وقوله - تعالى - : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين [ 37 \ 149 - 157 ] .
وقد قدمنا كثيرا من الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] . ووجه التعبير عن الأنثى بما ضرب مثلا لله في قوله : وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا الآية [ 43 \ 17 ] - ظاهر ; لأن البنات المزعومة يلزم ادعاؤها أن تكون من جنس من نسبت إليه ; لأن الوالد والولد من جنس واحد ، وكلاهما يشبه الآخر في صفاته .
قوله - تعالى - : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون .
[ ص: 92 ] قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر عند الرحمن بسكون النون وفتح الدال ، ظرف ، كقوله - تعالى - : إن الذين عند ربك لا يستكبرون [ 7 \ 206 ] . وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي الذين هم عباد الرحمن بكسر العين وباء موحدة بعدها ألف وضم الدال ، جمع عبد ، كقوله : وعباد الرحمن الآية [ 25 \ 63 ] .
وقوله : أشهدوا خلقهم . قرأه عامة السبعة غير نافع ( أشهدوا ) بهمزة واحدة مع فتح الشين ، وقرأه نافع ( أأشهدوا ) . بهمزتين الأولى مفتوحة محققة ، والثانية مضمومة مسهلة بين بين ، وقالوا : يجعل بين الهمزتين ألف الإدخال على إحدى الروايتين .
وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أربع مسائل : الأولى : أن الكفار افتروا على الملائكة أنهم إناث ، زاعمين أنهم بنات الله .
الثانية : أنه وبخهم على ذلك توبيخا شديدا وأنكر عليهم ذلك في قوله : أشهدوا خلقهم يعني هل حضروا خلق الله لهم فعاينوهم إناثا .
الثالثة : أن شهادتهم الكاذبة بذلك ستكتب عليهم .
الرابعة : أنهم يسألون عنها يوم القيامة .
وهذه المسائل الأربع التي تضمنتها هذه الآية الكريمة ، جاءت موضحة في غير هذا الموضع .
أما الأولى منها . وهي كونهم اعتقدوا الملائكة إناثا ، فقد ذكرها - تعالى - في مواضع من كتابه كقوله - تعالى - : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] . وكقوله - تعالى - : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى الآية [ 53 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا الآية [ 37 \ 149 - 150 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وأما المسألة الثانية ، وهي سؤاله - تعالى - لهم على وجه الإنكار والتوبيخ والتقريع : [ ص: 93 ] هل شهدوا خلق الملائكة وحضروه حتى علموا أنهم خلقوا إناثا ؟ فقد ذكرها في قوله - تعالى - : أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون [ 37 \ 150 ] . وبين - تعالى - أنه لم يشهد الكفار خلق شيء في قوله : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم الآية [ 18 \ 51 ] .
وأما المسألة الثالثة التي هي كون شهادتهم بذلك الكفر ستكتب عليهم - فقد ذكرها - تعالى - في مواضع من كتابه ، كقوله - تعالى - : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 - 12 ] . وقوله - تعالى - : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 29 ] . وقوله - تعالى - : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] . وقوله - تعالى - : إن رسلنا يكتبون ما تمكرون [ 10 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك الآية [ 17 \ 13 ، 14 ] . وقوله - تعالى - : سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا [ 19 \ 79 ] .
وأما المسألة الرابعة : وهي كونهم يسألون عن ذلك الافتراء والكفر ، فقد ذكرها - تعالى - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 29 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] . وقوله - تعالى - : وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون [ 43 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون [ 16 \ 56 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون .
في هذه الآية الكريمة إشكال معروف ، ووجهه أن قول الكفار الذي ذكره الله عنهم هنا ، أعني قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم [ 43 \ 20 ] - هو بالنظر إلى ظاهره كلام صحيح ; لأن الله لو شاء أن لا يعبدوهم ما عبدوهم ، كما قال - تعالى - : ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ 6 \ 35 ] . وقال - تعالى - : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها الآية [ ص: 94 ] [ 32 \ 13 ] . وقال - تعالى - : فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 \ 99 ] .
وهذا الإشكال المذكور في آية " الزخرف " هو بعينه واقع في آية " الأنعام " ، وآية " النحل " .
أما آية " الأنعام " فهي قوله : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء الآية [ 6 \ 148 ] .
وأما آية " النحل " فهي قوله : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا الآية [ 16 \ 35 ] .
فإذا عرفت أن ظاهر آية " الزخرف " وآية " الأنعام " وآية " النحل " - أن ما قاله الكفار حق ، وأن الله لو شاء ما عبدوا من دونه من شيء ولا أشركوا به شيئا ، كما ذكرنا في الآيات الموضحة قريبا - فاعلم أن وجه الإشكال ، أن الله صرح بكذبهم في هذه الدعوى التي ظاهرها حق ، قال في آية " الزخرف " : ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ 43 \ 20 ] . أي يكذبون ، وقال في آية " الأنعام " : كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] . وقال في آية " النحل " : كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين [ 16 \ 35 ] .
ومعلوم أن الذي فعله الذين من قبلهم هو الكفر بالله ، والكذب على الله في جعل الشركاء له ، وأنه حرم ما لم يحرمه .
والجواب عن هذا أن مراد الكفار بقولهم : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، وقولهم : لو شاء الله ما أشركنا [ 6 \ 148 ] - مرادهم به أن الله لما كان قادرا على منعهم من الشرك ، وهدايتهم إلى الإيمان ، ولم يمنعهم من الشرك - دل ذلك على أنه راض منهم بالشرك في زعمهم .
[ ص: 95 ] قالوا : لأنه لو لم يكن راضيا به لصرفنا عنه ، فتكذيب الله لهم في الآيات المذكورة منصب على دعواهم أنه راض به ، والله - جل وعلا - يكذب هذه الدعوى في الآيات المذكورة ، وفي قوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ 39 \ 7 ] .
فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية القدرية تستلزم الرضى ، وهو زعم باطل ، وهو الذي كذبهم الله فيه في الآيات المذكورة .
وقد أشار - تعالى - إلى هذه الآيات المذكورة ، حيث قال في آية " الزخرف " : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون [ 43 \ 21 ] . أي آتيناهم كتابا يدل على أنا راضون منهم بذلك الكفر ، ثم أضرب عن هذا إضراب إبطال مبينا أن مستندهم في تلك الدعوى الكاذبة هو تقليد آبائهم التقليد الأعمى ، وذلك في قوله : بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة [ 43 \ 22 ] . أي شريعة وملة ، وهي الكفر وعبادة الأوثان وإنا على آثارهم مهتدون [ 43 \ 22 ] .
فقوله عنهم : ( مهتدون ) وهو مصب التكذيب ; لأن الله إنما يرضى بالاهتداء لا بالضلال .
فالاهتداء المزعوم أساسه تقليد الآباء الأعمى ، وسيأتي إيضاح رده عليهم قريبا - إن شاء الله - .
وقال - تعالى - في آية " النحل " بعد ذكره دعواهم المذكورة : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة [ 16 \ 36 ] .
فأوضح في هذه الآية الكريمة أنه لم يكن راضيا بكفرهم ، وأنه بعث في كل أمة رسولا ، وأمرهم على لسانه أن يعبدوا الله وحده ، ويجتنبوا الطاغوت ، أي يتباعدوا عن عبادة كل معبود سواه .
وأن الله هدى بعضهم إلى عبادته وحده ، وأن بعضهم حقت عليه الضلالة ، أي ثبت عليه الكفر والشقاء .
وقال - تعالى - في آية " الأنعام " : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .
[ ص: 96 ] فملكه - تعالى - وحده للتوفيق والهداية ، هو الحجة البالغة على خلقه ، يعني فمن هديناه وتفضلنا عليه بالتوفيق ، فهو فضل منا ورحمة .
ومن لم نفعل له ذلك فهو عدل منا وحكمة ; لأنه لم يكن له ذلك دينا علينا ، ولا واجبا مستحقا يستحقه علينا ، بل إن أعطينا ذلك ففضل ، وإن لم نعطه فعدل .
وحاصل هذا أن الله - تبارك وتعالى - قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق الخلق ، وعلم أن قوما صائرون إلى الشقاء وقوما صائرون إلى السعادة ، فريق في الجنة وفريق في السعير .
وأقام الحجة على الجميع ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبسا ، فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك .
ثم إنه - تعالى - وفق من شاء توفيقه ، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي ، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر ، وصرف قدرتهم وإراداتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه من أعمال الخير المستوجبة للسعادة ، وأعمال الشر المستوجبة للشقاء .
فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا ، طائعين مختارين ، غير مجبورين ولا مقهورين وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] . قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .
وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء .
ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية ، كحركة المرتعش - فرقا ضروريا ، لا ينكره عاقل .
وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون ، وفقأت عينه مثلا ، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر ، فقلت له : أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك ، بل هو فعل الله ، وأنا لا دخل فيه ، فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك .
بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا : إن هذا بإرادتك ومشيئتك .
[ ص: 97 ] ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية ، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته - أنه لا يمكن أحدا أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه ، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر .
وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى .
وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري : إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا ، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه ، فهل يمكنك أن تستقل بذلك ؟ وتصير علم الله جهلا ، بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له ؟
والجواب بلا شك : هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال - تعالى - : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] . وقال الله - تعالى - : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .
ولا إشكال ألبتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك ، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه ، فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولا مجبور ، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته ، كما قال - تعالى - : وما تشاءون إلا أن يشاء الله .
والمناظرة التي ذكرها بعضهم بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا .
وهي أن عبد الجبار قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، يعني أن السرقة والزنا ليسا بمشيئة الله ; لأنه في زعمه أنزه من أن تكون هذه الرذائل بمشيئته .
فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل .
ثم قال : سبحان من لم يقع في ملكه إلا ما يشاء .
فقال عبد الجبار : أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه .
فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبرا عليه ، آنت الرب وهو العبد ؟
[ ص: 98 ] فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى ، وقضى علي بالرديء ، دعاني وسد الباب دوني ؟ أتراه أحسن أم أساء ؟
فقال أبو إسحاق : أرى أن هذا الذي منعك إن كان حقا واجبا لك عليه - فقد ظلمك ، وقد أساء ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل ، وإن منعك فعدل . فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب .
ومضمون جواب أبي إسحاق هذا الذي أفحم به عبد الجبار ، هو معنى قوله - تعالى - : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .
وذكر بعضهم أن عمرو بن عبيد جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت ، وطلب منه أن يدعو الله ليردها إليه .
فقال عمرو ما معناه : اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها; لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا .
فقال الأعرابي : ناشدتك الله يا هذا ، إلا ما كففت عني من دعائك هذا الخبيث ، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد ، ولا ثقة لي برب يقع في ملكه ما لا يشاؤه . فألقمه حجرا .
وقد ذكرنا هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام عن آية " الأنعام " المذكورة في هذا البحث ، وفي سورة " الشمس " في الكلام عن قوله - تعالى - : فألهمها فجورها وتقواها .
قوله - تعالى - : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون .
( أم ) هنا تتضمن معنى استفهام الإنكار ، يعني - جل وعلا - أن هذا الذي يزعم الكفار من أنهم على حق في عبادتهم الأوثان ، وجعلهم الملائكة بنات الله - لا دليل لهم عليه ; ولذا أنكر أن يكون آتاهم كتابا يحل فيه ذلك وأن يكونوا مستمسكين في ذلك بكتاب من الله ، فأنكر عليهم هذا هنا إنكارا دالا على النفي للتمسك بالكتاب المذكور ، مع التوبيخ والتقريع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (474)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 99 إلى صـ 106
وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أن كفرهم المذكور لم يكن عن هدى من الله ، ولا كتاب أنزله الله بذلك - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله - تعالى - في سورة " فاطر " : [ ص: 99 ] قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه الآية [ 35 \ 40 ] .
وقوله - تعالى - في " الأحقاف " : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ 46 \ 4 ] .
وقوله - تعالى - في " الروم " : أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون [ 30 \ 35 ] .
وقوله - تعالى - في " الصافات " : أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين [ 37 \ 156 - 157 ] .
وقوله - تعالى - في " النمل " : أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 64 ] .
وقوله - تعالى - في " الحج " و " لقمان " : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير [ 22 \ 8 ] و [ 31 \ 20 ] .
وقوله - تعالى - في " الأنعام " : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] .
قوله - تعالى - : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم .
وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " قد أفلح المؤمنون " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه الآية [ 23 \ 44 ] .
وفي سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها [ 6 \ 123 ] . وقوله - تعالى - : قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ 43 \ 24 ] .
[ ص: 100 ] قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم : ( قل أولو جئتكم ) بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر .
وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم ( قال أولو جئتكم ) بفتح القاف واللام بينهما ألف بصيغة الفعل الماضي .
فعلى قراءة الجمهور فالمعنى : قل لهم يا نبي الله : أتقتدون بآبائكم في الكفر والضلال ، ولو جئتكم بأهدى ، أي بدين أهدى مما وجدتم عليه آباءكم ، وصيغة التفضيل هنا لمطلق الوصف ; لأن آباءهم لا شيء عندهم من الهداية أصلا .
وعلى قراءة ابن عامر وحفص فالمعنى : قال هو : أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية مرارا في هذا الكتاب المبارك .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تسفيه رأي الكفار وبيان شدة ضلالهم في تقليدهم آباءهم هذا التقليد الأعمى - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [ 2 \ 170 ] . وكقوله - تعالى - في " المائدة " : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] .
وأوضح - تعالى - في آية " لقمان " أن ما وجدوا عليه آباءهم من الكفر والضلال طريق من طرق الشيطان يدعوهم بسلوكها إلى عذاب السعير ، وذلك في قوله - تعالى - : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 21 ] . كقوله - تعالى - : إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون [ 37 \ 69 - 70 ] . وقوله - تعالى - : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين [ 21 \ 51 - 54 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
قوله - تعالى - : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين .
[ ص: 101 ] ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - قال لأبيه وقومه : إنه براء ، أي بريء ، من جميع معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله ، أي يعني أنه بريء من عبادة كل معبود ، إلا المعبود الذي خلقه وأوجده ، فهو وحده معبوده .
وقد أوضح - تعالى - هذا المعنى الذي ذكره عن إبراهيم في مواضع أخر من كتابه ، كقوله - تعالى - : قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين الآية [ 26 \ 57 - 78 ] . وكقوله - تعالى - : فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين [ 6 \ 78 - 79 ] .
وزاد - جل وعلا - في سورة " الممتحنة " براءته أيضا من العابدين ، وعداوته لهم ، وبغضه لهم في الله ، وذلك في قوله - تعالى - : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده [ 60 \ 4 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فإنه سيهدين ذكر نحوه في قوله : الذي خلقني فهو يهدين [ 26 \ 78 ] . وقوله - تعالى - : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ 37 \ 99 ] . وقوله - تعالى - : فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين [ 6 \ 77 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني أي خلقني - يدل على أنه لا يستحق العبادة إلا الخالق وحده - جل وعلا - .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة - دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية [ 2 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين [ 26 \ 184 ] . وقوله - تعالى - : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] . وقوله - تعالى - : أفمن يخلق كمن لا يخلق الآية [ 16 \ 17 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 102 ] أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] . وقوله - تعالى - : الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون الآية [ 25 \ 2 - 3 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون .
الضمير المنصوب في ( جعلها ) على التحقيق راجع إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى لا إله إلا الله ، المذكورة في قوله : إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني [ 43 \ 26 - 27 ] . لأن لا إله إلا الله نفي وإثبات ، فمعنى النفي منها هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات .
وهذا المعنى جاء موضحا في قوله : إنني براء مما تعبدون .
ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله .
وهذا المعنى جاء موضحا في قوله : إلا الذي فطرني فإنه سيهدين .
وضمير الفاعل المستتر في قوله : وجعلها .
قال بعضهم : هو راجع إلى إبراهيم وهو ظاهر السياق .
وقال بعضهم : هو راجع إلى الله - تعالى - .
فعلى القول الأول فالمعنى صير إبراهيم تلك الكلمة ( باقية في عقبه ) أي ولده وولد ولده .
وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم ، لأنه تسبب لذلك بأمرين : أحدهما : وصيته لأولاده بذلك ، وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه ، فيوصي به السلف منهم الخلف ، كما أشار - تعالى - إلى ذلك بقوله : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين الآية [ 2 \ 130 - 132 ] [ ص: 103 ]
والأمر الثاني هو سؤاله ربه - تعالى - لذريته الإيمان والصلاح ، كقوله - تعالى - وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي [ 2 \ 124 ] . أي واجعل من ذريتي أيضا أئمة ، وقوله - تعالى - عنه : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [ 14 \ 40 ] . وقوله عنه : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] . وقوله عنه هو وإسماعيل : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك إلى قوله : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم [ 2 \ 129 ] .
وقد أجاب الله دعاءه في بعث الرسول المذكور ببعثه محمدا - صلى الله عليه وسلم - .
ولذا جاء في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أنا دعوة إبراهيم " .
وقد جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته ، كما قال - تعالى - في سورة " العنكبوت " : ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب [ 29 \ 27 ] . وقال عنه وعن نوح في سورة " الحديد " : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب الآية [ 57 \ 26 ] .
وعلى القول الثاني أن الضمير عائد إلى الله - تعالى - فلا إشكال .
وقد بين - تعالى - في آية " الزخرف " هذه أن الله لم يجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته ، ولم يجعل الكلمة باقية في جميع عقبه ; لأن كفار مكة الذين كذبوا بنبينا - صلى الله عليه وسلم - من عقبه بإجماع العلماء ، وقد كذبوه - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : إنه ساحر . وكثير منهم مات على ذلك . وذلك في قوله - تعالى - : بل متعت هؤلاء يعني كفار مكة وآباءهم ، حتى جاءهم الحق ورسول مبين ، هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون .
وما دلت عليه آية " الزخرف " هذه من أن بعض عقب إبراهيم لم يجعل الله الكلمة المذكورة باقية فيهم - دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : [ ص: 104 ] قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] . أي الظالمين من ذرية إبراهيم .
وقوله - تعالى - في " الصافات " : وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ 37 \ 113 ] .
فالمحسن منهم هو الذي الكلمة باقية فيه ، والظالم لنفسه المبين منهم ليس كذلك .
وقوله - تعالى - في " النساء " : فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا .
وقد بين - تعالى - في " الحديد " أن غير المهتدين منهم كثيرون ، وذلك في قوله : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون [ 57 \ 26 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لعلهم يرجعون أي جعل الكلمة باقية فيهم; لعل الزائغين الضالين منهم يرجعون إلى الحق بإرشاد المؤمنين المهتدين منهم ; لأن الحق ما دام قائما في جملتهم فرجوع الزائغين عنه إليه مرجو مأمول ، كما دل عليه قوله : لعلهم يرجعون .
والرجاء المذكور بالنسبة إلى بني آدم ; لأنهم لا يعرفون من يصير إلى الهدى ، ومن يصير إلى الضلال .
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ، وفي الكلام تقديم وتأخير .
والمعنى ( فإنه سيهدين ) ، ( لعلهم يرجعون ) ، ( وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) ، أي قال لهم ، يتوبون عن عبادة غير الله . ا هـ منه .
وإيضاح كلامه أن المعنى أن إبراهيم قال لأبيه وقومه : ( إنني براء مما تعبدون ) لأجل أن يرجعوا عن الكفر إلى الحق .
والضمير في قوله : ( لعلهم يرجعون ) على هذا راجع إلى أبيه وقومه .
[ ص: 105 ] وعلى ما ذكرناه أولا فالضمير راجع إلى من ضل من عقبه ; لأن الضالين منهم داخلون في لفظ العقب .
فرجوع ضميرهم إلى العقب لا إشكال فيه ، وهذا القول هو ظاهر السياق ، والعلم عند الله - تعالى - .
مسألة
ظاهر هذه الآيات الكريمة التي ذكرنا يدل على اتحاد معنى العقب والذرية والبنين ; لأنه قال في بعضها عن إبراهيم : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] .
وقال عنه في بعضها : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [ 14 \ 40 ] . وفي بعضها : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة الآية [ 14 \ 37 ] . وفي بعضها قال : ومن ذريتي ، وفي بعضها : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب [ 29 \ 27 ] . وفي بعضها : وجعلها كلمة باقية في عقبه .
فالظاهر المتبادر من الآيات أن المراد بالبنين والذرية والعقب شيء واحد ; لأن جميعها في شيء واحد . وبذلك تعلم أن ظاهر القرآن يدل على أن من وقف وقفا أو تصدق صدقة على بنيه أو ذريته أو عقبه - أن حكم ذلك واحد .
وقد دل بعض الآيات القرآنية على أن أولاد البنات يدخلون في اسم الذرية واسم البنين .
وإذا دل القرآن على دخول ولد البنت في اسم الذرية والبنين ، والفرض أن العقب بمعناهما - دل ذلك على دخول أولاد البنات في العقب أيضا ، فمن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم الذرية قوله - تعالى - : ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله : وعيسى وإلياس [ 6 \ 84 - 85 ] . وهذا نص قرآني صريح في دخول ولد البنت في اسم الذرية ; لأن عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ولد بنت ، إذ لا أب له .
ومن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم البنين قوله - تعالى - : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] . وقوله - تعالى - : وبنات الأخ وبنات الأخت [ 4 \ 23 ] . لأن لفظ البنات في الألفاظ الثلاثة - شامل لبنات البنات وبنات بناتهن ، وهذا لا نزاع فيه بين [ ص: 106 ] المسلمين ، وهو نص قرآني صحيح في استواء بنات بنيهن وبنات بناتهن .
فتحصل أن دخول أولاد البنات في الوقف على الذرية والبنين والعقب ، هو ظاهر القرآن ، ولا ينبغي العدول عنه .
وكلام فقهاء الأمصار من الأئمة الأربعة وغيرهم في الألفاظ المذكورة معروف ، ومن أراد الاطلاع عليه فلينظر كتب فروع المذاهب ، ولم نبسط على ذلك الكلام هنا ; لأننا نريد أن نذكر هنا ما يدل ظاهر القرآن على ترجيحه من ذلك فقط .
أما لفظ الولد فإن القرآن يدل على أن أولاد البنات لا يدخلون فيه .
وذلك في قوله - تعالى - : يوصيكم الله في أولادكم الآية [ 4 \ 11 ] . فإن قوله : ( في أولادكم ) لا يدخل فيه أولاد البنات ، وذلك لا نزاع فيه بين المسلمين ، وهو نص صريح قرآني على عدم دخول أولاد البنات في اسم الولد .
وإن كان جماهير العلماء على أن العقب والولد سواء .
ولا شك أن اتباع القرآن هو المتعين على كل مسلم .
أما لفظ النسل فظاهر القرآن شموله لأولاد البنات ; لأن قوله - تعالى - : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين [ 32 \ 6 - 8 ] - ظاهر في أن لفظة النسل في الآية شاملة لأولاد البنات ، كما لا يخفى .
والألفاظ التي يتكلم عليها العلماء في هذا المبحث هي أحد عشر لفظا ذكرنا خمسة منها وهي : الذرية والبنون والعقب والولد والنسل . وذكرنا أن أربعة منها يدل ظاهر القرآن على أنها يدخل فيها أولاد البنات ، وواحد بخلاف ذلك وهو الولد .
وأما الستة الباقية منها فهي : الآل والأهل ، ومعناهما واحد .
والقرابة والعشيرة والقوم والموالي ، وكلام العلماء فيها مضطرب .
ولم يحضرني الآن تحديد يتميز به ما يدخل في كل واحد منها وما يخرج عنه ، إلا على سبيل التقريب ، إلا لفظين منها وهما القرابة والعشيرة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (475)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 107 إلى صـ 114
أما القرابة فقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - " أنه أعطى من خمس خيبر بني هاشم وبني [ ص: 107 ] المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل " ، مبينا أن ذلك هو معنى قوله - تعالى - : فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى [ 8 \ 41 ] . كما تقدم إيضاحه في سورة " الأنفال " في الكلام على آية الخمس هذه .
وأما العشيرة فقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس أنه لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين [ 26 \ 214 ] - صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا ، فجعل ينادي : " يا بني فهر ، يا بني عدي " لبطون قريش حتى اجتمعوا ، الحديث . وفيه تحديد العشيرة الأقربين بجميع بني فهر بن مالك ، وهو الجد العاشر له - صلى الله عليه وسلم - .
وفي رواية أبي هريرة في الصحيح أنه لما نزلت الآية المذكورة قال : " يا معشر قريش " أو كلمة نحوها ، الحديث ، وقريش هم أولاد فهر بن مالك . وقيل : أولاد النضر بن كنانة . والأول هو الأظهر لحديث ابن عباس المذكور ، وعليه الأكثر .
تنبيه
[ فإن قيل ] : ذكرتم أن ظاهر القرآن يدل على دخول أولاد البنات في لفظ البنين ، والشاعر يقول في خلاف ذلك :
بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وكثير من أهل الفقه يذكرون البيت المذكور على سبيل التسليم له ، قالوا : ومما يوضح صدقه أنهم ينسبون إلى رجال آخرين ، ربما كانوا أعداء لأهل أمهاتهم ، وكثيرا ما يتبع الولد أباه وعصبته في عداوة أخواله وبغضهم ، كما هو معلوم .
[ فالجواب ] أن الواحد بالشخص له جهتان ، فمعنى لفظ الابن له جهة خاصة هي معنى كونه خلق من ماء هذا الرجل على وجه يلحق فيه نسبه به ، وهذا المعنى منفي عن والد أمه ، فلا يقال له : ابن - بهذا الاعتبار وثابت لأبيه الذي خلق من مائه ، وله جهة أخرى هي كونه خارجا في الجملة من هذا الشخص ، سواء كان بالمباشرة ، أو بواسطة ابنه أو بنته وإن سفل ، فالبنوة بهذا المعنى ثابتة لولد البنت ، وهذا المعنى هو الذي عناه - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الحسن بن علي - رضي الله عنهما - : " وإن ابني هذا سيد " الحديث ، وهو المراد في الآيات القرآنية ، كقوله - تعالى - : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ] ( فالجواب ) أن الواحد بالشخص له جهتان ، فمعنى لفظ الابن له جهة خاصة هي معنى كونه خلق من ماء هذا الرجل على وجه يلحق فيه نسبه به ، وهذا المعنى منفي عن والد أمه ، فلا يقال له : ابن - بهذا الاعتبار وثابت لأبيه الذي خلق من مائه ، وله جهة أخرى هي كونه خارجا في الجملة من هذا الشخص ، سواء كان بالمباشرة ، أو بواسطة ابنه أو بنته وإن سفل ، فالبنوة بهذا المعنى ثابتة لولد البنت ، وهذا المعنى هو الذي عناه - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الحسن بن علي - رضي الله عنهما - : " وإن ابني هذا سيد " الحديث ، وهو المراد في الآيات القرآنية ، كقوله - تعالى - : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] . وقوله - تعالى - : وبنات الأخ وبنات الأخت [ 4 \ 23 ] . وكقوله - تعالى - : [ ص: 108 ] لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن الآية [ 33 \ 55 ] .
فلفظ البنات والأبناء في جميع الآيات المذكورة شامل لجميع أولاد البنين والبنات وإن سفلوا ، وإنما شملهم من الجهة المذكورة بالاعتبار المذكور ، وهو إطلاق لفظ الابن على كل من خرج من الشخص في الجملة ، ولو بواسطة بناته .
وأما البيت المذكور فالمراد به الجهة الأولى والاعتبار الأول .
فإن بني البنات ليسوا أبناء لآباء أمهاتهم من تلك الجهة ، ولا بذلك الاعتبار ; لأنهم لم يخلقوا من مائهم ، وإنما خلقوا من ماء رجال آخرين ، ربما كانوا أباعد ، وربما كانوا أعداء .
فصح بهذا الاعتبار نفي البنوة عن ابن البنت .
وصح بالاعتبار الأول إثبات البنوة له ، ولا تناقض مع انفكاك الجهة .
وإذا عرفت معنى الجهتين المذكورتين وأنه بالنظر إلى إحداهما تثبت البنوة لابن البنت ، وبالنظر إلى الأخرى تنتفي عنه .
فاعلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن ابني هذا سيد " ، وقوله - تعالى - : وبنات الأخ وبنات الأخت [ 4 \ 23 ] . ونحوها من الآيات ينزل على إحدى الجهتين .
وقوله - تعالى - : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم [ 33 \ 40 ] - يتنزل على الجهة الأخرى . وتلك الجهة هي التي يعني الشاعر بقوله : وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
ويزيد ذلك إيضاحا أن قبائل العرب قد تكون بينهم حروب ومقاتلات ، فيكون ذلك القتال بين أعمام الرجل وأخواله ، فيكون مع عصبته دائما على أخواله ، كما في البيت المذكور .
وقد يكون الرجل منهم في أخواله فيعاملونه معاملة دون معاملتهم لأبنائهم .
كما أوضح ذلك غسان بن وعلة في شعره حيث يقول :
إذا كنت في سعد وأمك منهم شطيرا فلا يغررك خالك من سعد
[ ص: 109 ] فإن ابن أخت القوم مصغي إناؤه إذا لم يزاحم خاله بأب جلد
فقوله : مصغي إناؤه من الإصغاء وهو الإمالة ; لأن الإناء إذا أميل ولم يترك معتدلا لم يتسع إلا للقليل ، فهو كناية عن نقص نصيبه فيهم وقلته .
وعلى الجهتين المذكورتين يتنزل اختلاف الصحابة في ميراث الجد والإخوة .
فمن رأى منهم أنه أب يحجب الإخوة ، فقد راعى في الجد إحدى الجهتين .
ومن رأى منهم أنه ليس بأب وأنه لا يحجب الإخوة ، فقد لاحظ الجهة الأخرى .
ولم نطل الكلام هنا في جميع الألفاظ المذكورة التي هي أحد عشر لفظا خوف الإطالة ، ولأننا لم نجد نصوصا من الوحي تحدد شيئا منها تحديدا دقيقا .
ومعلوم أن لفظ القوم منها قد دل القرآن على أنه يختص بالذكور دون الإناث .
وأن الإناث قد يدخلن فيه بحكم التبع إذا اقترن بما يدل على ذلك .
لأن الله - تعالى - قال : لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء الآية [ 49 \ 11 ] . فعطفه النساء على القوم يدل على عدم دخولهن في لفظ القوم .
ونظيره من كلام العرب قول زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وأما دخول النساء في القوم بحكم التبع عند الاقتران بما يدل على ذلك - فقد بينه قوله - تعالى - في ملكةسبإ : وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين [ 27 \ 43 ] .
وأما الموالي فقد دل القرآن واللغة على أن المولى يطلق على كل من له سبب يوالي ويوالى به .
ولذا أطلق على الله أنه مولى المؤمنين ; لأنهم يوالونه بالطاعة ويواليهم بالجزاء .
ونفى ولاية الطاعة عن الكافرين في قوله - تعالى - : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ 47 \ 11 ] .
[ ص: 110 ] وأثبت له عليهم ولاية الملك والقهر في قوله - تعالى - : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 ] . كما أثبت لهم ولاية النار في قوله : مأواكم النار هي مولاكم الآية [ 57 \ 15 ] .
وأطلق - تعالى - اسم الموالي على العصبة في قوله - تعالى - : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون [ 4 \ 33 ] .
وأطلق اسم المولى على الأقارب ونحوهم في قوله - تعالى - : يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا [ 44 \ 41 ] .
ويكثر في كلام العرب إطلاق الموالي على العصبة وابن العم ، ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب : مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تظهرن لنا ما كان مدفونا
وقول طرفة بن العبد :
وأعلم علما ليس بالظن أنه إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
والحاصل أن من قال : هذا وقف ، أو صدقة على قومي ، أو موالي - أنه إن كان هناك عرف خاص ، وجب اتباعه في ذلك ، وإن لم يكن هناك عرف فلا نعلم نصا من كتاب ولا سنة يحدد ذلك تحديدا دقيقا .
وكلام أهل العلم فيه معروف في محاله .
والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون .
( وقالوا ) أي قال كفار مكة : ( لولا ) أي هلا ( نزل هذا القرآن على رجل من القريتين ) أي من إحدى القريتين ، وهما مكة والطائف ( عظيم ) يعنون بعظمه كثرة ماله وعظم جاهه ، وعلو منزلته في قومه ، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن [ ص: 111 ] المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب ، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل : هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف .
وعظيم الطائف هو عروة بن مسعود ، وقيل : حبيب بن عمرو بن عمير ، وقيل : هو كنانة بن عبد ياليل ، وقيل غير ذلك .
وإيضاح الآية أن الكفار أنكروا أولا أن يبعث الله رسولا من البشر ، كما أوضحناه مرارا .
ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله لم يبعث إلى البشر رسولا إلا من البشر تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر ، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين .
وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم ، وسخافة عقولهم ; حيث يجعلون كثرة المال والجاه في الدنيا موجبا لاستحقاق النبوة وتنزيل الوحي .
ولذا زعموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس أهلا لإنزال هذا القرآن عليه ، لقلة ماله ، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه - صلى الله عليه وسلم - .
وقد بين - تعالى - في هذه الآية الكريمة شدة جهلهم ، وسخافة عقولهم ، بقوله : أهم يقسمون رحمة ربك . والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي .
وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن ، كقوله - تعالى - في " الدخان " : إنا كنا مرسلين رحمة من ربك الآية [ 44 \ 5 - 6 ] . وقوله في آخر " القصص " : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] . وقوله في آخر " الأنبياء " : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] .
وقد قدمنا الآيات الدالة على إطلاق الرحمة والعلم على النبوة في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا الآية [ 18 \ 65 ] .
[ ص: 112 ] وقدمنا معاني إطلاق الرحمة في القرآن في سورة " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها الآية [ 35 \ 2 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات يعني أنه - تعالى - لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم في الدنيا ، بل تولى هو - جل وعلا - قسمة ذلك بينهم ، فجعل هذا غنيا وهذا فقيرا ، وهذا رفيعا وهذا وضيعا ، وهذا خادما وهذا مخدوما ، ونحو ذلك ، فإذا لم يفوض إليهم حظوظهم في الدنيا ، ولم يحكمهم فيها ، بل كان - تعالى - هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء ، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا فيمن ينزل إليه الوحي ؟
فهذا مما لا يعقل ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ليتخذ بعضهم بعضا سخريا [ 43 \ 32 ] التحقيق - إن شاء الله - أنه من التسخير .
ومعنى تسخير بعضهم لبعض - خدمة بعضهم البعض ، وعمل بعضهم لبعض ; لأن نظام العالم في الدنيا يتوقف قيامه على ذلك ، فمن حكمته - جل وعلا - أن يجعل هذا فقيرا مع كونه قويا قادرا على العمل ، ويجعل هذا ضعيفا لا يقدر على العمل بنفسه ، ولكنه - تعالى - يهيئ له دراهم يؤجر بها ذلك الفقير القوي ، فينتفع القوي بدراهم الضعيف ، والضعيف بعمل القوي ; فتنتظم المعيشة لكل منهما ، وهكذا .
وهذه المسائل التي ذكرها الله - جل وعلا - في هذه السورة الكريمة - جاءت كلها موضحة في آيات أخر من كتاب الله .
أما زعمهم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنقص شرفا وقدرا من أن ينزل عليه الوحي ، فقد ذكره الله عنهم في " ص " في قوله - تعالى - : أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري الآية [ 38 \ 8 ] .
فقول كفار مكة : أؤنزل عليه الذكر من بيننا معناه إنكارهم أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم ، لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه ، لكثرة ماله وجاهه وشرفه فيهم .
[ ص: 113 ] وقد قال قوم صالح مثل ذلك لصالح ، كما قال - تعالى - عنهم : أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر [ 54 \ 25 ] .
فقلوب الكفار متشابهة ، فكانت أعمالهم متشابهة .
كما قال - تعالى - : كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [ 2 \ 118 ] . وقال - تعالى - : أتواصوا به بل هم قوم طاغون [ 51 \ 53 ] .
وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم ، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم - فقد ذكره - تعالى - في سورة " الأنعام " في قوله - تعالى - : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله [ 6 \ 124 ] . وقوله - تعالى - في " المدثر " : بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة [ 74 \ 52 ] . أي تنزل عليه صحف بالوحي من السماء ، كما قاله مجاهد وغير واحد ، وهو ظاهر القرآن .
وفي الآية قول آخر معروف .
وأما إنكاره - تعالى - اقتراح إنزال الوحي على غير محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار لتجهيلهم وتسفيه عقولهم في قوله : أهم يقسمون رحمة ربك - فقد أشار - تعالى - إليه مع الوعيد الشديد في " الأنعام " ; لأنه - تعالى - لما قال : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله [ 6 \ 124 ] أتبع ذلك بقوله ردا عليهم وإنكارا لمقالتهم : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 \ 124 ] .
ثم أوعدهم على ذلك بقوله : سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون [ 6 \ 124 ] .
وأما كونه - تعالى - هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم - فقد جاء في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء [ 16 \ 71 ] . وقوله - تعالى - : انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 17 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 39 \ 52 ] . وقوله - تعالى - : ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [ ص: 114 ] [ 42 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما [ 4 \ 135 ] .
وقد أوضح - تعالى - حكمة هذا التفاضل والتفاوت في الأرزاق والحظوظ ، والقوة والضعف ، ونحو ذلك - بقوله هنا : ليتخذ بعضهم بعضا سخريا كما تقدم .
وقوله - تعالى - هنا : ورحمة ربك خير مما يجمعون ، يعني أن النبوة والاهتداء بهدى الأنبياء ، وما يناله المهتدون يوم القيامة خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها .
وقد أشار الله - تعالى - إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " يونس " : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ 10 \ 85 ] . وقوله - تعالى - في " آل عمران " : ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون [ 3 \ 157 ] .
مسألة
دلت هذه الآيات الكريمة المذكورة هنا ، كقوله - تعالى - : نحن قسمنا بينهم معيشتهم الآية ، وقوله : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] ونحو ذلك من الآيات - على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية ، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها ، بوجه من الوجوه فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 \ 43 ] .
وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات والرسائل السماوية - إلى ابتزاز ثروات الناس ، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم ، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم - أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال .
مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون ، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس ، ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها كيف شاءوا ، تحت ستار كثير من أنواع الكذب والغرور والخداع ، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (476)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 115 إلى صـ 122
[ ص: 115 ] فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها - هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد ، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير ، مظلومون في كل شيء ، حتى ما كسبوه بأيديهم ، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير .
وقد علم الله - جل وعلا - في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني ، وقد نهى - جل وعلا - عن اتباع الهوى بتلك الدعوى ، وأوعد من لم ينته عن ذلك ، بقوله - تعالى - : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [ 4 \ 135 ] .
وقوله : فإن الله كان بما تعملون خبيرا فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك .
قوله - تعالى - : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين .
قوله : ( لبيوتهم ) في الموضعين ، قرأه ورش وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم - بضم الباء على الأصل .
وقرأه قالون عن نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وشعبة عن عاصم : لبيوتهم بكسر الباء لمجانسة الكسرة للياء .
وقوله : ( سقفا ) قرأه نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم - سقفا بضمتين على الجمع .
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : سقفا بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد المراد به الجمع .
وقوله : وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة قرأه نافع وابن كثير وابن عامر في رواية ابن ذكوان ، وإحدى الروايتين عن هشام وأبي عمرو والكسائي : لما متاع الحياة الدنيا بتخفيف الميم من ( لما ) .
وقرأه عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر ، وفي إحدى الروايتين : لما متاع الحياة الدنيا بتشديد الميم من ( لما ) .
[ ص: 116 ] ومعنى الآية الكريمة أن الله لما بين حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة في قوله : ورحمة ربك خير مما يجمعون [ 43 \ 32 ] - أتبع ذلك ببيان شدة حقارتها ، وأنه جعلها مشتركة بين المؤمنين والكافرين ، وجعل ما في الآخرة من النعيم خاصا بالمؤمنين دون الكافرين ، وبين حكمته في اشتراك المؤمن مع الكافر في نعيم الدنيا بقوله : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة أي لولا كراهتنا لكون جميع الناس أمة واحدة متفقة على الكفر ، لأعطينا زخارف الدنيا كلها للكفار .
ولكننا لعلمنا بشدة ميل القلوب إلى زهرة الحياة الدنيا وحبها لها ، لو أعطينا ذلك كله للكفار لحملت الرغبة في الدنيا جميع الناس على أن يكونوا كفارا ، فجعلنا في كل من الكافرين والمؤمنين غنيا وفقيرا ، وأشركنا بينهم في الحياة الدنيا .
ثم بين - جل وعلا - اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين في قوله : وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ، أي خالصة لهم دون غيرهم .
وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ 7 \ 32 ] .
فقوله : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا أي مشتركة بينهم في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة ، أي خاصة بهم دون الكفار يوم القيامة ; إذ لا نصيب للكفار البتة في طيبات الآخرة .
فقوله في آية " الأعراف " هذه : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا - صريح في اشتراك المؤمنين مع الكفار في متاع الحياة الدنيا .
وذلك الاشتراك المذكور دل عليه حرف الامتناع للوجود الذي هو ( لولا ) في قوله هنا : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة .
وخصوص طيبات الآخرة بالمؤمنين المنصوص عليه في آية " الأعراف " بقوله : خالصة يوم القيامة [ 7 \ 32 ] - هو الذي أوضحه - تعالى - في آية " الزخرف " هذه بقوله : والآخرة عند ربك للمتقين [ 43 \ 35 ] .
[ ص: 117 ] وجميع المؤمنين يدخلون في الجملة في لفظ المتقين ; لأن كل مؤمن اتقى الشرك بالله .
وما دلت عليه هذه الآيات من أنه - تعالى - يعطي الكفار من متاع الحياة الدنيا - دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار [ 2 \ 126 ] . وقوله : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون [ 10 \ 23 ] . وقوله : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] . والآيات بمثل هذا كثيرة .
وقد بين - تعالى - في آيات من كتابه أن إنعامه على الكافرين ليس لكرامتهم عليه ، ولكنه للاستدراج ، كقوله - تعالى - : فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 - 45 ] . وقوله - تعالى - : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ 6 \ 44 - 45 ] . وقوله - تعالى - : ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 95 ] . وقوله - تعالى - : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا [ 19 \ 75 ] على أظهر التفسيرين . وقوله - تعالى - : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] . وقوله - تعالى - : فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير [ 22 \ 44 ] .
ودعوى الكفار أن الله ما أعطاهم المال ونعيم الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك ، وأنه إن كان البعث حقا أعطاهم خيرا منه في الآخرة - قد ردها الله عليهم في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] . وقوله - تعالى - : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا [ 34 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون [ 7 \ 48 ] . وقوله - تعالى - : ما أغنى عنه ماله وما كسب [ 111 \ 2 ] . [ ص: 118 ] وقوله - تعالى - : وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم [ 6 \ 94 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .
ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية الكريمة ، فقوله : جعلنا أي صيرنا ، وقوله : لبيوتهم بدل اشتمال مع إعادة العامل من قوله : لمن يكفر وعلى قراءة سقفا بضمتين ، فهو جمع سقف ، وسقف البيت معروف .
وعلى قراءة سقفا بفتح السين وسكون القاف : فهو مفرد أريد به الجمع .
وقد قدمنا في أول سورة " الحج " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم نخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] - أن المفرد إذا كان اسم جنس . يجوز إطلاقه مرادا به الجمع ، وأكثرنا من أمثلة ذلك في القرآن ومن الشواهد العربية على ذلك .
وقوله : ومعارج الظاهر أنه جمع معرج ، بلا ألف بعد الراء .
والمعرج والمعراج بمعنى واحد ، وهو الآلة التي يعرج بها أي يصعد بها إلى العلو .
وقوله : ( يظهرون ) ، أي يصعدون ويرتفعون حتى يصيروا على ظهور البيوت . ومن ذلك المعنى قوله - تعالى - : فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [ 18 \ 97 ] .
والسرر جمع سرير ، والاتكاء معروف .
والأبواب جمع باب وهو معروف ، والزخرف الذهب .
قال الزمخشري : إن المعارج التي هي المصاعد والأبواب والسرر - كل ذلك من فضة ، كأنه يرى اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في ذلك ، وعلى هذا المعنى فقوله : زخرفا - مفعول عامله محذوف ، والتقدير : وجعلنا لهم مع ذلك زخرفا .
[ ص: 119 ] وقال بعض العلماء : إن جميع ذلك بعضه من فضة ، وبعضه من زخرف ، أي ذهب .
وقد ذكر القرطبي أن إعراب قوله : وزخرفا - على هذا القول أنه منصوب بنزع الخافض ، وأن المعنى من فضة ، ومن زخرف ، فحذف حرف الجر فانتصب زخرفا .
وأكثر علماء النحو على أن النصب بنزع الخافض ليس مطردا ولا قياسيا ، وما سمع منه يحفظ ولا يقاس عليه .
وعليه درج ابن مالك في الخلاصة في قوله :
وإن حذف فالنصب للمنجر نقلا . . . إلخ .
وعلي بن سليمان وهو الأخفش الصغير يرى اطراده في كل شيء أمن فيه اللبس ، كما أشار في الكافية بقوله :
وابن سليمان اطراده رأى إن لم يخف لبس كمن زيد نأى
وقوله - تعالى - : وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا [ 43 \ 35 ] على قراءة الجمهور بتخفيف الميم من ( لما ) ، فـ ( إن ) هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بين ( إن ) المخففة من الثقيلة ، و ( إن ) النافية المشار إليها بقوله في الخلاصة :
وخففت إن فقل العمل وتلزم اللام إذا ما تهمل
و ( ما ) مزيدة للتوكيد ، وأما على قراءة عاصم وحمزة وابن عامر في إحدى الروايتين عن هشام ( لما ) بتشديد الميم فـ ( إن ) نافية ، و ( لما ) حرف إثبات بمعنى إلا .
والمعنى : وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا .
وذكره بعضهم أن تشديد ميم ( لما ) على بعض القراءات في هذه الآية وآية " الطارق " إن كل نفس لما عليها حافظ [ 86 \ 4 ] - لغة بني هذيل بن مدركة . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين .
[ ص: 120 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : وقيضنا لهم قرناء الآية [ 41 \ 25 ] .
قوله - تعالى - : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون .
قد قدمنا الكلام عليه في " الصافات " في الكلام على قوله - تعالى - : فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون [ 37 \ 33 ] .
قوله - تعالى - : أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين .
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين [ 27 \ 80 ] .
قوله - تعالى - : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم .
أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة أن يتمسك بهدي هذا القرآن العظيم ، وبين له أنه على صراط مستقيم ، أي طريق واضح لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام الذي تضمنه هذا القرآن العظيم الذي أوحي إليه .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة - قد جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله .
أما أمره بالتمسك بالقرآن العظيم - فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته [ 18 \ 27 ] .
وأما إخباره له - صلى الله عليه وسلم - على صراط مستقيم فمن الآيات التي أوضح ذلك فيها قوله - تعالى - : ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون [ 45 \ 18 ] . وقوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض [ 42 \ 52 - 53 ] . وقوله - تعالى - : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون [ 23 \ 73 - 74 ] . وقوله - تعالى - : فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم [ 22 \ 67 ] . وقوله - تعالى - : فتوكل على الله إنك على الحق المبين [ 27 \ 79 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 121 ] وآية " الزخرف " هذه تدل على أن التمسك بهذا القرآن على هدى من الله ، وهذا معلوم بالضرورة .
قوله - تعالى - : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن جميع الرسل جاءوا بإخلاص التوحيد لله ، الذي تضمنته كلمة لا إله إلا الله - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] .
وقوله - تعالى - : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] . وذلك التوحيد هو أول ما يأمر به كل نبي أمته .
قال - تعالى - : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 50 ] . وقال - تعالى - : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 61 ] . وقال - تعالى - : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 61 ] . وقال - تعالى - : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله الآية [ 7 \ 85 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه الآية .
قد قدمنا الكلام على قصة موسى وفرعون في سورة " الأعراف " وسورة " طه " .
قوله - تعالى - : وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون .
لم يبين هنا نوع العذاب الذي أخذهم به ، ولكنه أوضحه في " الأعراف " في قوله - تعالى - : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات [ 7 \ 132 - 133 ] . وقوله - تعالى - : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات الآية [ 7 \ 130 ] .
قوله - تعالى - : وقالوا ياأيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون .
[ ص: 122 ] ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة - أوضحه في " الأعراف " بقوله : ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون .
والرجز المذكور في " الأعراف " هو بعينه العذاب المذكور في آية " الزخرف " هذه .
قوله - تعالى - : ولا يكاد يبين .
قد تقدم الكلام عليه في " طه " في الكلام على قوله - تعالى - عن موسى : واحلل عقدة من لساني الآية [ 20 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا الآية [ 25 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : فلما آسفونا انتقمنا منهم .
( آسفونا ) معناه أغضبونا وأسخطونا ، وكون المراد بالأسف الغضب - يدل عليه إطلاق الأسف على أشد الغضب في قوله - تعالى - : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا [ 7 \ 150 ] على أصح التفسيرين .
قوله - تعالى - : فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين .
قد قدمنا الكلام عليه في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله - تعالى - : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين .
قوله - تعالى - : ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون .
قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر والكسائي ( يصدون ) بضم الصاد .
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ( يصدون ) بكسر الصاد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (477)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 123 إلى صـ 130
[ ص: 123 ] فعلى قراءة الكسر فمعنى ( يصدون ) يضجون ويصيحون ، وقيل : يضحكون ، وقيل : معنى القراءتين واحد ، كيعرشون ويعرشون ، ويعكفون ويعكفون .
وعلى قراءة الضم فهو من الصدود ، والفاعل المحذوف في قوله : ( ضرب ) قال جمهور المفسرين هو عبد الله بن الزبعرى السهمي قبل إسلامه .
أي ولما ضرب ابن الزبعرى المذكور عيسى ابن مريم فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك ، فرحا منهم وزعما منهم أن ابن الزبعرى خصمك ، أو فاجأك صدودهم عن الإيمان بسبب ذلك المثل .
والظاهر أن لفظة ( من ) هنا سببية ، ومعلوم أن أهل العربية يذكرون أن من معاني ( من ) السببية ، ومنه قوله - تعالى - : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] . أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا .
ومن ذلك قول الحالفين في أيمان القسامة : أقسم بالله لمن ضربه مات .
وإيضاح معنى ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا - أن الله لما أنزل قوله - تعالى - : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [ 21 \ 98 ] قال ابن الزبعرى : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن كل معبود من دون الله في النار ، وإننا وأصنامنا جميعا في النار ، وهذا عيسى ابن مريم قد عبده النصارى من دون الله ، فإن كان ابن مريم مع النصارى الذين عبدوه في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه .
وقالوا مثل ذلك في عزير والملائكة ; لأن عزيرا عبده اليهود ، والملائكة عبدهم بعض العرب .
فاتضح أن ضربه عيسى مثلا ، يعني أنه على ما يزعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قاله ، من أن كل معبود وعابده في النار ، يقتضي أن يكون عيسى مثلا لأصنامهم ، في كون الجميع في النار ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يثني على عيسى الثناء الجميل ، ويبين للناس أنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .
فزعم ابن الزبعرى أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اقتضى مساواة الأصنام مع عيسى في دخول [ ص: 124 ] النار مع أنه - صلى الله عليه وسلم - يعترف بأن عيسى رسول الله ، وأنه ليس في النار ، دل ذلك على بطلان كلامه عنده .
وعند ذلك أنزل الله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر الآية [ 21 \ 101 - 103 ] . وأنزل الله أيضا قوله - تعالى - : ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية .
وعلى هذا القول فمعنى قوله - تعالى - : ما ضربوه لك إلا جدلا ، أي ما ضربوا عيسى مثلا إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل .
وقيل : إن ( جدلا ) حال ، وإتيان المصدر المنكر حالا كثير ، وقد أوضحنا توجيهه مرارا .
والمراد بالجدل هنا الخصومة بالباطل لقصد الغلبة بغير حق .
قال جماعة من العلماء : والدليل على أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل ، أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل لا تدل البتة على ما زعموه ، وهم أهل اللسان ، ولا تخفى عليهم معاني الكلمات .
والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة " ما " التي هي في الموضع العربي لغير العقلاء ; لأنه قال : إنكم وما تعبدون [ 21 \ 98 ] ولم يقل : ومن تعبدون ، وذلك صريح في أن المراد الأصنام ، وأنه لا يتناول عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة ، كما أوضح - تعالى - أنه لم يرد ذلك بقوله - تعالى - بعده : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية [ 21 \ 101 ] .
وإذا كانوا يعلمون من لغتهم أن الآية الكريمة لم تتناول عيسى بمقتضى لسانهم العربي ، الذي نزل به القرآن - تحققنا أنهم ما ضربوا عيسى مثلا إلا لأجل الجدل والخصومة بالباطل .
ووجه التعبير في صيغة الجمع في قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا مع أن ضارب المثل واحد وهو ابن الزبعرى - يرجع إلى أمرين : أحدهما : أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع [ ص: 125 ] القبيلة ، ومن أصرح الشواهد العربية في ذلك قوله :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
فإنه نسب الضرب إلى جميع بني عبس مع تصريحه بأن السيف في يد رجل واحد منهم ، وهو ورقاء بن زهير ، والشاعر يشير بذلك إلى قتل خالد بن جعفر الكلابي لزهير بن جذيمة العبسي ، وأن ورقاء بن زهير ضرب بسيف بني عبس رأس خالد بن جعفر الكلابي ، الذي قتل أباه ونبا عنه ، أي لم يؤثر في رأسه ، فإن معنى : نبا السيف - ارتفع عن الضريبة ولم يقطع .
والشاعر يهجو بني عبس بذلك .
والحروب التي نشأت عن هذه القصة وقتل الحارث بن ظالم المري لخالد المذكور ، كل ذلك معروف في محله .
والأمر الثاني : أن جميع كفار قريش صوبوا ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا ، وفرحوا بذلك ، ووافقوه عليه ، فصاروا كالمتمالئين عليه .
وبهذين الأمرين المذكورين جمع المفسرون بين صيغة الجمع في قوله : فعقروا الناقة [ 7 \ 77 ] وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] وبين صيغة الإفراد في قوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] .
وقال بعض العلماء : الفاعل المحذوف في قوله : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا ) هو عامة قريش .
والذين قالوا : إن كفار قريش لما سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر عيسى ، وسمعوا قول الله - تعالى - : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك كما عبد النصارى عيسى .
وعلى هذا فالمعنى أنهم ضربوا عيسى مثلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في عبادة الناس لكل منهما ، زاعمين أنه يريد أن يعبد كما عبد عيسى .
وعلى هذا القول فمعنى قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا ، أي ما ضربوا لك هذا [ ص: 126 ] المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل ، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه .
وقوله - تعالى - : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله الآية [ 3 \ 64 ] .
وإن كان من القرآن المدني النازل بعد الهجرة فمعناه يكرره عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا قبل الهجرة ، كما هو معلوم .
وكذلك قوله : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 80 ] .
ولا شك أن كفار قريش متيقنون في جميع المدة التي أقامها - صلى الله عليه وسلم - في مكة قبل الهجرة بعد الرسالة ، وهي ثلاث عشرة سنة - أنه لا يدعو إلا إلى عبادة الله وحده لا شريك له .
فادعاؤهم أنه يريد أن يعبدوه افتراء منهم ، وهم يعلمون أنهم مفترون في ذلك .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : أآلهتنا خير أم هو ؟
التحقيق أن الضمير في قوله : هو راجع إلى عيسى ، لا إلى محمد - عليهما الصلاة والسلام - .
قال بعض العلماء : ومرادهم بالاستفهام تفضيل معبوداتهم على عيسى .
قيل : لأنهم يتخذون الملائكة آلهة ، والملائكة أفضل عندهم من عيسى .
وعلى هذا فمرادهم أن عيسى عبد من دون الله ، ولم يكن ذلك سببا لكونه في النار ، ومعبوداتنا خير من عيسى ، فكيف تزعم أنهم في النار ؟
وقال بعض العلماء : أرادوا تفضيل عيسى على آلهتهم .
والمعنى على هذا أنهم يقولون : عيسى خير من آلهتنا ، أي في زعمك ، وأنت تزعم أنه في النار بمقتضى عموم ما تتلوه من قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [ 21 \ 98 ] .
وعيسى عبده النصارى من دون الله ، فدلالة قولك على أن عيسى في النار ، مع [ ص: 127 ] اعترافك بخلاف ذلك يدل على أن ما تقوله من أنا وآلهتنا في النار - ليس بحق أيضا .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : بل هم قوم خصمون أي لد ، مبالغون في الخصومة بالباطل ، كما قال - تعالى - : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] أي شديدي الخصومة .
وقوله - تعالى - : وهو ألد الخصام [ 2 \ 204 ] لأن الفعل بفتح فكسر كخصم - من صيغ المبالغة ، كما هو معلوم في محله .
وقد علمت مما ذكرنا أن قوله - تعالى - هنا : ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية - إنما بينته الآيات التي ذكرنا ببيان سببه .
ومعلوم أن الآية قد يتضح معناها ببيان سببها .
فعلى القول الأول ، أنهم ضربوا عيسى مثلا لأصنامهم في دخول النار ، فإن ذلك المثل يفهم من أن سبب نزول الآية نزول قوله - تعالى - قبلها : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ; لأنها لما نزلت قالوا : إن عيسى عبد من دون الله كآلهتهم ، فهم بالنسبة لما دلت عليه - سواء .
وقد علمت بطلان هذا مما ذكرناه آنفا .
وعلى القول الثاني أنهم ضربوا عيسى مثلا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في أن عيسى قد عبد ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يعبد كما عبد عيسى ، فكون سبب ذلك سماعهم لقوله - تعالى - : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] . وسماعهم للآيات المكية النازلة في شأن عيسى - يوضح المراد بالمثل .
وأما الآيات التي بينت قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا فبيانها له واضح على كلا القولين . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : إن هو إلا عبد أنعمنا عليه .
والتحقيق أن الضمير في قوله : ( هو ) عائد إلى عيسى أيضا ، لا إلى محمد - عليهما الصلاة والسلام - .
وقوله هنا : عبد أنعمنا عليه لم يبين هنا شيئا من الأنعام الذي أنعم به على عبده [ ص: 128 ] عيسى ، ولكنه بين ذلك في " المائدة " في قوله - تعالى - : إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات [ 5 \ 110 ] . وفي " آل عمران " في قوله - تعالى - : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين إلى قوله : ومن الصالحين [ 3 \ 45 - 46 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها .
التحقيق أن الضمير في قوله : ( وإنه ) راجع إلى عيسى لا إلى القرآن ، ولا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ومعنى قوله : لعلم للساعة على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم والسنة المتواترة - هو أن نزول عيسى في آخر الزمان حيا علم للساعة ، أي علامة لقرب مجيئها ; لأنه من أشراطها الدالة على قربها .
وإطلاق علم الساعة على نفس عيسى - جار على أمرين ، كلاهما أسلوب عربي معروف .
أحدهما : أن نزول عيسى المذكور لما كان علامة لقربها ، كانت تلك العلامة سببا لعلم قربها ، فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب .
وإطلاق المسبب وإرادة السبب - أسلوب عربي معروف في القرآن وفي كلام العرب .
ومن أمثلته في القرآن قوله - تعالى - : وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] . فالرزق مسبب عن المطر ، والمطر سببه ، فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر ، للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب .
ومعلوم أن البلاغيين ومن وافقهم يزعمون أن مثل ذلك من نوع ما يسمونه المجاز المرسل ، وأن الملابسة بين السبب والمسبب من علاقات المجاز المرسل عندهم .
[ ص: 129 ] والثاني من الأمرين : أن غاية ما في ذلك أن الكلام على حذف مضاف ، والتقدير : وإنه لذو علم للساعة ، أي وإنه لصاحب إعلام الناس بقرب مجيئها ، لكونه علامة لذلك ، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه - كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وإليه أشار في الخلاصة بقوله : وما يلي المضاف يأت خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا
وهذا الأخير أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر ، كقولك : زيد كرم وعمرو عدل ، أي ذو كرم وذو عدل ، كما قال - تعالى - : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] . وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله : ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا
أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح ففي قوله - تعالى - في سورة " النساء " : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته [ 4 \ 159 ] أي ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية " النساء " هذه ، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب .
ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض .
فإن قيل قد ذهبت جماعة من المفسرين ، من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله : ( قبل موته ) راجع إلى الكتابي ، أي إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي .
فالجواب أن يكون الضمير راجعا إلى عيسى ، يجب المصير إليه ، دون القول الآخر ; لأنه أرجح منه من أربعة أوجه : الأول : أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه ، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض .
والقول الآخر بخلاف ذلك .
وإيضاح هذا أن الله - تعالى - قال : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، ثم قال - تعالى - : وما قتلوه ، أي عيسى ، وما صلبوه أي عيسى ، ولكن شبه لهم أي عيسى ، وإن الذين اختلفوا فيه أي عيسى ، لفي شك منه أي عيسى ، ما لهم به من علم أي عيسى ، وما قتلوه يقينا أي عيسى ، بل رفعه الله [ ص: 130 ] أي عيسى ، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به [ 4 \ 159 ] أي عيسى ، قبل موته أي عيسى ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا [ 4 \ 157 - 159 ] أي يكون هو - أي عيسى - عليهم شهيدا .
فهذا السياق القرآني الذي ترى - ظاهر ظهورا لا ينبغي العدول عنه ، في أن الضمير في قوله : ( قبل موته ) راجع إلى عيسى .
الوجه الثاني : من مرجحات هذا القول أنه على هذا القول الصحيح ، فمفسر الضمير ملفوظ مصرح به في قوله - تعالى - : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله [ 4 \ 157 ] .
وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكورا في الآية أصلا ، بل هو مقدر ، تقديره : ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته ، أي موت أحد أهل الكتاب المقدر .
ومما لا شك فيه أن ما لا يحتاج إلى تقدير أرجح وأولى مما يحتاج إلى تقدير .
الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تواترت عنه الأحاديث بأن عيسى حي الآن ، وأنه سينزل في آخر الزمان حكما مقسطا . ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر .
قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر هذا القول الصحيح ونسبه إلى جماعة من المفسرين - ما نصه : وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع - إن شاء الله تعالى - ا هـ .
وقوله : بالدليل القاطع - يعني السنة المتواترة ; لأنها قطعية ، وهو صادق في ذلك .
وقال ابن كثير في تفسير آية " الزخرف " هذه ما نصه :
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بنزول عيسى - عليه السلام - قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا " . ا هـ منه .
وهو صادق في تواتر الأحاديث بذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (478)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 131 إلى صـ 138
[ ص: 131 ] وأما القول بأن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى الكتاب - فهو خلاف ظاهر القرآن ، ولم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة .
الوجه الرابع : هو أن القول الأول الصحيح واضح لا إشكال فيه ، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص ، بخلاف القول الآخر ، فهو مشكل لا يكاد يصدق إلا مع تخصيص ، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس وغيره ظاهرة البعد والسقوط ; لأنه على القول بأن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى عيسى ، فلا إشكال ولا خفاء ، ولا حاجة إلى تأويل ، ولا إلى تخصيص .
وأما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جدا بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب ، كالذي يسقط من عال إلى أسفل ، والذي يقطع رأسه بالسيف وهو غافل ، والذي يموت في نومه ونحو ذلك ، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع من أهل الكتاب ، إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص .
ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة .
وما يذكر عن ابن عباس من أنه سئل عن الذي يقطع رأسه من أهل الكتاب ، فقال : إن رأسه يتكلم بالإيمان بعيسى ، وإن الذي يهوي من عال إلى أسفل يؤمن به وهو يهوي - لا يخفى بعده وسقوطه ، وأنه لا دليل البتة عليه كما ترى .
وبهذا كله تعلم أن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى عيسى ، وأن تلك الآية من سورة " النساء " تبين قوله - تعالى - هنا : وإنه لعلم للساعة كما ذكرنا .
فإن قيل : إن كثيرا ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي ، ويعتقدون مثل ما يعتقده ضلال اليهود والنصارى ، ويستدلون على ذلك بقوله - تعالى - : إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي [ 3 \ 55 ] . وقوله : فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم [ 5 \ 117 ] .
فالجواب أنه لا دلالة في إحدى الآيتين البتة على أن عيسى قد توفي فعلا .
[ ص: 132 ] أما قوله - تعالى - : إني متوفيك فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه : الأول : أن قوله : متوفيك حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملا غير ناقص ، والعرب تقول : توفى فلان دينه يتوفاه فهو متوف له إذا قبضه وحازه إليه كاملا من غير نقص .
فمعنى : إني متوفيك في الوضع اللغوي ، أي حائزك إلي كاملا بروحك وجسمك .
ولكن الحقيقة العرفية خصصت التوفي المذكور بقبض الروح دون الجسم ، ونحو هذا مما دار بين الحقيقة اللغوية العرفية فيه لعلماء الأصول ثلاثة مذاهب : الأول : هو تقديم الحقيقة العرفية ، وتخصيص عموم الحقيقة اللغوية بها .
وهذا هو المقرر في أصول الشافعي وأحمد ، وهو المقرر في أصول مالك ، إلا أنهم في الفروع ربما لم يعتمدوه في بعض المسائل .
وإلى تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية أشار في مراقي السعود بقوله :
واللفظ محمول على الشرعي إن لم يكن فمطلق العرفي
فاللغوي على الجلي ولم يجب بحث عن المجاز في الذي انتخب
المذهب الثاني : هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية بناء على أن العرفية - وإن ترجحت بعرف الاستعمال - فإن اللغوية مترجحة بأصل الوضع .
وهذا القول مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - .
المذهب الثالث : أنه لا تقدم العرفية على اللغوية ، ولا اللغوية على العرفية ، بل يحكم باستوائهما ومعادلة الاحتمالين فيهما ، فيحكم على اللفظ بأنه مجمل ، لاحتمال هذه واحتمال تلك .
وهذا اختيار ابن السبكي ومن وافقه ، وإلى هذين المذهبين الأخيرين أشار في مراقي السعود بقوله :
ومذهب النعمان عكس ما مضى والقول بالإجمال فيه مرتضى
[ ص: 133 ] وإذا علمت هذا ، فاعلم أنه على المذهب الأول الذي هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية ، فإن قوله - تعالى - : إني متوفيك لا يدل إلا على أنه قبضه إليه بروحه وجسمه ، ولا يدل على الموت أصلا ، كما أن توفي الغريم لدينه لا يدل على موت دينه .
وأما على المذهب الثاني : وهو تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية ، فإن لفظ التوفي حينئذ يدل في الجملة على الموت .
ولكن سترى إن - شاء الله - أنه وإن دل على ذلك في الجملة ، لا يدل على أن عيسى قد توفي فعلا .
وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة " آل عمران " - وجه عدم دلالة الآية على موت عيسى فعلا ، أعني قوله - تعالى - : إني متوفيك فقلنا ما نصه : والجواب عن هذا ، من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله - تعالى - : متوفيك لا يدل على تعيين الوقت ، ولا يدل على كونه قد مضى ، وهو متوفيه قطعا يوما ما ، ولكن لا على أن ذلك اليوم قد مضى .
وأما عطفه ( ورافعك إلي ) على قوله : ( متوفيك ) فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع ، وإنما تقتضي مطلق التشريك .
وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك ، وعزاه الأكثر للمحققين ، وهو الحق خلافا ، لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه .
وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال : لم أجده في كتابه .
وقال ولي الدين : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي .
حكاه عنه صاحب الضياء اللامع .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أبدأ بما بدأ الله به " يعني الصفا - لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب .
[ ص: 134 ] وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكره عنه صاحب الضياء اللامع .
وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية ، فكذلك لا تقتضي المنع منهما .
فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول ، كقوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 \ 158 ] بدليل الحديث المتقدم .
وقد يكون المعطوف بها مرتبا ، كقول حسان : هجوت محمدا وأجبت عنه
على رواية الواو .
وقد يراد بها المعية ، كقوله : فأنجيناه وأصحاب السفينة [ 29 \ 15 ] . وقوله : وجمع الشمس والقمر [ 75 \ 9 ] . ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل .
الوجه الثاني : أن معنى متوفيك أي منيمك ، ( ورافعك إلي ) أي في تلك النومة .
وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله - تعالى - : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار [ 6 \ 60 ] ، وقوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ 39 \ 42 ] ، وعزى ابن كثير هذا القول للأكثرين ، واستدل بالآيتين المذكورتين .
الوجه الثالث : أن متوفيك ، اسم فاعل ؛ توفاه إذا قبضه وحازه إليه ، ومنه قولهم : توفى فلان دينه إذا قبضه إليه ، فيكون معنى متوفيك على هذا : قابضك منهم إلي حيا ، وهذا القول هو اختيار ابن جرير .
وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياما ثم أحياه - فلا معول عليه; إذ لا دليل عليه . ا هـ . من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب .
وقد قدمنا في هذا البحث أن دلالة قوله - تعالى - : متوفيك على موت عيسى فعلا - منفية من أربعة أوجه ، وقد ذكرنا منها ثلاثة من غير تنظيم : [ ص: 135 ] أولها : أن متوفيك حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه .
الثاني : أن متوفيك وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي ، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى ، بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك ، كما أوضحنا في هذا المبحث .
الثالث : أنه توفي نوم ، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن النوم يطلق عليه الوفاة ، فكل من النوم والموت يصدق عليه اسم التوفي ، وهما مشتركان في الاستعمال العرفي .
فهذه الأوجه الثلاثة ذكرناها كلها في الكلام الذي نقلنا من كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .
وذكرنا الأول منها بانفراده ; لنبين مذاهب الأصوليين فيه .
أما قوله - تعالى - : فلما توفيتني الآية [ 5 \ 117 ] ، فدلالته على أن عيسى مات منفية من وجهين : الأول منهما : أن عيسى يقول ذلك يوم القيامة ، ولا شك أنه يموت قبل يوم القيامة ، فإخباره يوم القيامة بموته لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى .
والثاني منهما : أن ظاهر الآية أنه توفي رفع وقبض للروح والجسد ، لا توفي موت .
وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني الآية [ 5 \ 117 ] - تدل على ذلك ; لأنه لو كان توفي موت ، لقال ما دمت حيا ، فلما توفيتني ; لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة كما في قوله : وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [ 19 \ 31 ] .
أما التوفي المقابل بالديمومة فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم إلى موضع آخر .
وغاية ما في ذلك هو حمل اللفظ على حقيقته اللغوية مع قرينة صارفة عن قصد العرفية ، وهذا لا إشكال فيه .
وأما الوجه الرابع من الأوجه المذكورة سابقا : أن الذين زعموا أن عيسى قد مات ، قالوا : إنه لا سبب لذلك الموت إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه ، فإذا تحقق نفي هذا السبب [ ص: 136 ] وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره - تحققنا أنه لم يمت أصلا ، وذلك السبب الذي زعموه ، منفي يقينا بلا شك ; لأن الله - جل وعلا - قال : وما قتلوه وما صلبوه [ 4 \ 157 ] . وقال - تعالى - : وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [ 4 \ 157 - 158 ] .
وضمير رفعه ظاهر في رفع الجسم والروح معا كما لا يخفى .
وقد بين الله - جل وعلا - مستند اليهود في اعتقادهم أنهم قتلوه ، بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر فصار من يراه يعتقد اعتقادا جازما أنه عيسى .
فرآه اليهود لما أجمعوا على قتل عيسى فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي عليه اعتقادا جازما أنه عيسى ; فقتلوه .
فهم يعتقدون صدقهم في أنهم قتلوه وصلبوه ، ولكن العليم اللطيف الخبير أوحى إلى نبيه في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه .
فمحمد - صلى الله عليه وسلم - والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر عيسى لم يكن عند اليهود ولا النصارى ، كما أوضحه - تعالى - بقوله : وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [ 4 \ 157 - 158 ] .
والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاهما دال على أن عيسى حي ، وأنه سينزل في آخر الزمان ، وأن نزوله من علامات الساعة ، وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره ، واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه بعيسى هو عيسى .
وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك ، وأن قوله : متوفيك لا يدل على موته فعلا .
وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه ، وأنه على المقرر في الأصول في المذاهب الثلاثة التي ذكرنا عنهم ، ولا إشكال في أنه لم يمت فعلا .
أما على القول بتقديم الحقيقة اللغوية فالأمر واضح ; لأن الآية على ذلك لا تدل على الموت .
[ ص: 137 ] وأما على القول بالإجمال ، فالمقرر في الأصول أن المحمل لا يحمل على واحد من معنييه ، ولا معانيه ، بل يطلب بيان المراد منه بدليل منفصل .
وقد دل الكتاب هنا والسنة المتواترة على أنه لم يمت وأنه حي .
وأما على القول بتقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية ، فإنه يجاب عنه من أوجه : الأول : أن التوفي محمول على النوم ، وحمله عليه يدخل في اسم الحقيقة العرفية .
والثاني : أنا وإن سلمنا أنه توفي موت ، فالصيغة لا تدل على أنه قد وقع فعلا .
الثالث : أن القول المذكور بتقديم العرفية محله فيما إذا لم يوجد دليل صارف عن إرادة العرفية اللغوية ، فإن دل على ذلك دليل وجب تقديم اللغوية قولا واحدا .
وقد قدمنا مرارا دلالة الكتاب والسنة المتواترة على إرادة اللغوية هنا ، دون العرفية .
واعلم بأن القول بتقديم اللغوية على العرفية محله فيما إذا لم تتناس اللغوية بالكلية ، فإن أميتت الحقيقة اللغوية بالكلية ، وجب المصير إلى العرفية إجماعا ، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :
أجمع إن حقيقة تمات على التقدم له الإثبات
فمن حلف ليأكلن من هذه النخلة ، فمقتضى الحقيقة اللغوية أنه لا يبر يمينه حتى يأكل من نفس النخلة ، لا من ثمرتها .
ومقتضى الحقيقة العرفية أنه يأكل من ثمرتها لا من نفس جذعها .
والمصير إلى العرفية هنا واجب إجماعا ; لأن اللغوية في مثل هذا أميتت بالكلية ، فلا يقصد عاقل البتة الأكل من جذع النخلة .
أما الحقيقة اللغوية في قوله - تعالى - : إني متوفيك فإنها ليست من الحقيقة المماتة كما لا يخفى .
ومن المعلوم في الأصول أن العرفية تسمى حقيقة عرفية ومجازا لغويا ، وأن اللغوية تسمى عندهم حقيقة لغوية ، ومجازا عرفيا .
[ ص: 138 ] وقد قدمنا مرارا أنا أوضحنا أن القرآن الكريم لا مجاز فيه على التحقيق في رسالتنا المسماة " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " .
فاتضح مما ذكرنا كله أن آية " الزخرف " هذه تبينها آية " النساء " المذكورة ، وأن عيسى لم يمت ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، وإنما قلنا : إن قوله - تعالى - هنا : وإنه لعلم للساعة أي علامة ودليل على قرب مجيئها ; لأن وقت مجيئها بالفعل لا يعلمه إلا الله .
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك مرارا .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فلا تمترن بها أي لا تشكن في قيام الساعة ; فإنه لا شك فيه .
وقد قدمنا الآيات الموضحة له مرارا كقوله - تعالى - : وأن الساعة آتية لا ريب فيها [ 22 \ 7 ] . وقوله : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] . وقوله : ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 6 \ 12 ] . وقوله : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه [ 3 \ 25 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين .
وقد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة مرارا كقوله : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا الآية [ 35 \ 6 ] . وقوله : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو الآية [ 18 \ 50 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم .
قوله هنا : ظلموا أي كفروا ، بدليل قوله في مريم في القصة بعينها : فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم [ 19 \ 37 ] .
وقوله : من مشهد يوم عظيم يوضحه قوله هنا : من عذاب يوم أليم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (479)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 139 إلى صـ 146
وقد قدمنا مرارا الآيات الدالة على إطلاق الظلم على الكفر ، كقوله : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] . وقوله : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] . وقوله : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 139 ] ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي بشرك ، كما فسره به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الثابت في صحيح البخاري .
قوله - تعالى - : هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون .
الاستفهام بهل هنا بمعنى النفي ، و ( ينظرون ) بمعنى ينتظرون ، أي ما ينتظر الكفار إلا الساعة ، أي القيامة ، ( أن تأتيهم بغتة ) أي في حال كونها مباغتة لهم ، أي مفاجئة لهم ، ( وهم لا يشعرون ) أي بمفاجأتها في حال غفلتهم وعدم شعورهم بمجيئها .
والظاهر أن المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله : أن تأتيهم في محل نصب على أنه بدل اشتمال من الساعة ، وكون ينظرون بمعنى ينتظرون معروف في كلام العرب ، ومنه قول امرئ القيس :
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الساعة تأتيهم بغتة - جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة [ 7 \ 187 ] . وقوله - تعالى - في " القتال " : فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها [ 47 \ 18 ] . وقوله - تعالى - : ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية الآية [ 36 \ 49 - 50 ] .
فالمراد بالصيحة : القيامة .
وقوله : وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية الآية - يدل على أنها تأتيهم وهم في غفلة وعدم شعور بإتيانها ، إلى غير ذلك من الآيات . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة بعض صفات الذين ينتفي عنهم الخوف والحزن يوم القيامة ; فذكر منها هنا الإيمان بآيات الله والإسلام ، وذكر بعضا منها في غير هذا الموضع .
[ ص: 140 ] فمن ذلك الإيمان والتقوى ، وذلك في قوله - تعالى - في سورة " يونس " : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 10 \ 62 - 63 ] .
ومن ذلك الاستقامة ، وقولهم : ربنا الله ، وذلك في قوله في " فصلت " : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا [ 41 ] . وقوله - تعالى - في " الأحقاف " : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 46 \ 13 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
والخوف في لغة العرب : الغم من أمر مستقبل .
والحزن : الغم من أمر ماض .
وربما استعمل كل منهما في موضع الآخر .
وإطلاق الخوف على الغم أسلوب عربي معروف .
قال بعض العلماء : ومنه قوله - تعالى - : إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله [ 2 \ 229 ] .
قال معناه : إلا أن يعلما .
ومنه قول أبي محجن الثقفي :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها ولا تدفنني في الفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
فقوله : أخاف ، أي أعلم لأنه لا يشك في أنه لا يشربها بعد موته .
وقوله في هذه الآية الكريمة : الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ظاهره المغايرة بين الإيمان والإسلام .
وقد دلت بعض الآيات على اتحادهما كقوله - تعالى - : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 35 - 36 ] .
ولا منافاة في ذلك ، فإن الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل ، كما ثبت في الصحيح في حديث وفد عبد القيس ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا .
[ ص: 141 ] ومن أصرحها في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الإيمان بضع وسبعون " .
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح : " وستون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " .
فقد سمى - صلى الله عليه وسلم - " إماطة الأذى عن الطريق " إيمانا .
وقد أطال البيهقي - رحمه الله - في شعب الإيمان ، في ذكر الأعمال التي جاء الكتاب والسنة بتسميتها إيمانا .
فالإيمان الشرعي التام والإسلام الشرعي التام معناهما واحد .
وقد يطلق الإيمان إطلاقا آخر على خصوص ركنه الأكبر الذي هو الإيمان بالقلب ، كما في حديث جبريل الثابت في الصحيح .
والقلب مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله ، فغيره تابع له ، وعلى هذا تحصل المغايرة في الجملة بين الإيمان والإسلام .
فالإيمان ، على هذا الإطلاق اعتقاد ، والإسلام شامل للعمل .
واعلم أن مغايرته - تعالى - بين الإيمان والإسلام في قوله - تعالى - : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [ 49 \ 14 ] .
قال بعض العلماء : المراد بالإيمان هنا معناه الشرعي ، والمراد بالإسلام معناه اللغوي ، لأن إذعان الجوارح وانقيادها دون إيمان القلب - إسلام لغة لا شرعا .
وقال بعض العلماء : المراد بكل منهما معناه الشرعي ، ولكن نفي الإيمان في قوله : ولما يدخل الإيمان ، يراد به عند من قال هذا نفي كمال الإيمان ، لا نفي أصله ، ولكن ظاهر الآية لا يساعد على هذا ; لأن قوله : ولما يدخل فعل في سياق النفي ، وهو صيغة عموم على التحقيق ، وإن لم يؤكد بمصدر ، ووجهه واضح جدا كما قدمناه مرارا .
وهو أن الفعل الصناعي ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين ، وعن مصدر وزمن ونسبة عند البلاغيين ، كما حرروه في مبحث الاستعارة التبعية ، وهو أصوب .
[ ص: 142 ] فالمصدر كامن في مفهوم الفعل الصناعي إجماعا ، وهو نكرة لم تتعرف بشيء ، فيئول إلى معنى النكرة في سياق النفي .
وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم ، بقوله :
ونحو لا شربت أو وإن شربا واتفقوا إن مصدر قد جلبا
ووجه إهمال ( لا ) في هذه الآية في قوله - تعالى - : لا خوف [ 46 \ 13 ] - أن ( لا ) الثانية التي هي ولا هم يحزنون [ 46 \ 13 ] بعدها معرفة ، وهي الضمير ، وهي لا تعمل في المعارف ، بل في النكرات ، فلما وجب إهمال الثانية أهملت الأولى لينسجم الحرفان بعضهما مع بعض في إهمالهما معا .
قوله - تعالى - : ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون .
قوله - تعالى - في هذه الآية : وأزواجكم فيه لعلماء التفسير وجهان : أحدهما ، أن المراد بأزواجهم نظراؤهم وأشباههم في الطاعة وتقوى الله ، واقتصر على هذا القول ابن كثير .
والثاني : أن المراد بأزواجهم نساؤهم في الجنة; لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم والتلذذ من الأول .
ولذا يكثر في القرآن ذكر إكرام أهل الجنة بكونهم مع نسائهم دون الامتنان عليهم ، بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة .
قال - تعالى - : إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون [ 36 \ 55 ] .
وقال كثير من أهل العلم : إن المراد بالشغل المذكور في الآية ، هو افتضاض الأبكار . وقال - تعالى - : وزوجناهم بحور عين [ 52 \ 20 ] . وقال - تعالى - : وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون [ 56 \ 22 - 23 ] . وقال - تعالى - : فيهن خيرات حسان إلى قوله : حور مقصورات في الخيام [ 55 \ 22 - 23 ] . وقال : وعندهم قاصرات الطرف عين [ 37 \ 48 ] . [ ص: 143 ] وقال - تعالى - : وعندهم قاصرات الطرف أتراب [ 38 \ 52 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وقد قدمنا أن مفرد الأزواج زوج بلا هاء ، وأن الزوجة بالتاء لغة لا لحن ، خلافا لمن زعم أن الزوجة لحن من لحن الفقهاء ، وأن ذلك لا أصل له في اللغة .
والحق أن ذلك لغة عربية ، ومنه قول الفرزدق :
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقول الحماسي :
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والظاعنون إلي ثم تصدعوا
وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في صفية : " إنها زوجتي " .
وقوله : تحبرون أقوال العلماء فيه راجعة إلى شيء واحد ، وهو أنهم يكرمون بأعظم أنواع الإكرام وأتمها .
قوله - تعالى - : يطاف عليهم بصحاف من ذهب .
قد قدمنا الآيات الموضحة له ، وجميع الآيات التي فيها الأنعام على أهل الجنة بأواني الذهب والفضة ، والتحلي بهما ، ولبس الحرير ، ومنه السندس والإستبرق ، وفي سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] .
قوله - تعالى - : وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن كل ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، أي تلتذ به الأعين ، أي برؤيته لحسنه ، كما قال - تعالى - : صفراء فاقع لونها تسر الناظرين [ 2 \ 69 ] . وأسند اللذة إلى العين ، وهي في الحقيقة مسندة لصاحب العين ، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية ، وهي مقدم شعر الرأس ، في قوله - تعالى - : ناصية كاذبة خاطئة [ 96 \ 16 ] وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه ، في قوله - تعالى - : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة الآية [ 88 \ 2 - 3 ] .
[ ص: 144 ] ومعلوم أن الكذب والخطيئة مسندان في الحقيقة لصاحب الناصية ، كما أن الخشوع والعمل والنصب مسندات إلى أصحاب الوجوه .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الجنة فيها كل مشتهى ، وكل مستلذ - جاء مبسوطا موضحة أنواعه في آيات كثيرة من كتاب الله ، وجاء محمد أيضا إجمالا شاملا لكل شيء من النعيم .
أما إجمال ذلك ففي قوله - تعالى - : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [ 32 \ 17 ] .
وأما بسط ذلك وتفصيله فقد بين القرآن أن من ذلك النعيم المذكور في الآية - المشارب ، والمآكل والمناكح ، والفرش والسرر ، والأواني ، وأنواع الحلي والملابس ، والخدم إلى غير ذلك ، وسنذكر بعض الآيات الدالة على كل شيء من ذلك .
أما المآكل فقد قال - تعالى - : لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون [ 43 \ 73 ] . وقال : ولحم طير مما يشتهون [ 56 \ 32 - 33 ] . وقال - تعالى - : وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة [ 56 \ 32 - 33 ] . وقال - تعالى - : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها الآية [ 2 \ 25 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
أما المشارب ، فقد قال - تعالى - : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا [ 76 \ 5 - 6 ] . وقال - تعالى - : ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا الآية [ 76 \ 17 - 18 ] . وقوله - تعالى - : يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 17 - 19 ] . وقال - تعالى - : يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [ 37 \ 45 - 47 ] . وقال - تعالى - : فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات [ 47 \ 15 ] . وقال - تعالى - : كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية [ 69 \ 24 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 145 ] وأما الملابس والأواني والحلي ، فقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " النحل " .
وأما المناكح فقد قدمنا بعض الآيات الدالة عليها قريبا ، وهي كثيرة كقوله - تعالى - : ولهم فيها أزواج مطهرة الآية [ 2 \ 25 ] . ويكفي ما قدمنا من ذلك قريبا .
وأما ما يتكئون عليه من الفرش والسرر ونحو ذلك ، ففي آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : متكئين على فرش بطائنها من إستبرق [ 55 \ 45 ] . وقوله - تعالى - : هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون [ 36 \ 56 ] . وقوله - تعالى - : على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين [ 56 \ 15 - 16 ] .
والسرر الموضونة هي المنسوجة بقضبان الذهب .
وقوله - تعالى - : إخوانا على سرر متقابلين [ 15 \ 47 ] . وقوله - تعالى - : فيها سرر مرفوعة [ 88 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان [ 55 \ 76 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وأما خدمهم فقد قال - تعالى - في ذلك : يطوف عليهم ولدان مخلدون الآية [ 56 \ 17 ] . وقال - تعالى - في سورة " الإنسان " في صفة هؤلاء الغلمان : إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا [ 76 \ 19 ] وذكر نعيم أهل الجنة بأبلغ صيغة في قوله - تعالى - : وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا [ 76 \ 20 ] .
والآيات الدالة على أنواع نعيم الجنة وحسنها وكمالها كالظلال والعيون والأنهار وغير ذلك - كثيرة جدا ، ولنكتف منها بما ذكرنا .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وأنتم فيها خالدون [ 43 \ 71 ] - قد قدمنا الآيات الموضحة ; لأن خلودهم المذكور لا انقطاع له البتة ، كقوله - تعالى - : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] أي غير مقطوع ، وقوله - تعالى - : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] . وقوله - تعالى - : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] .
قوله - تعالى - : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون .
[ ص: 146 ] قد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة ونحوها من الآيات الدالة على أن العمل سبب لدخول الجنة ، كقوله - تعالى - : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] . وقوله - تعالى - : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] . وقوله - تعالى - : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [ 32 \ 17 ] .
وبينا أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وما بمعناها مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لن يدخل أحدكم عمله الجنة " . قالوا : ولا أنت يا رسول الله . قال : " ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " .
وذكرنا في ذلك أن العمل الذي بينت الآيات كونه سبب دخول الجنة - هو العمل الذي تقبله الله برحمة منه وفضل ، وأن العمل الذي لا يدخل الجنة هو الذي لم يتقبله الله .
والله يقول : إنما يتقبل الله من المتقين [ 5 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون .
اللام في قوله : ليقض لام الدعاء .
والظاهر أن المعنى أن مرادهم بذلك سؤال مالك خازن النار أن يدعو الله لهم بالموت .
والدليل على ذلك أمران : الأول : أنهم لو أرادوا دعاء الله بأنفسهم أن يميتهم لما نادوا : يا مالك ، ولما خاطبوه في قولهم : ربك .
والثاني : أن الله بين في سورة " المؤمن " أن أهل النار يطلبون من خزنة النار أن يدعوا الله لهم ليخفف عنهم العذاب ، وذلك في قوله - تعالى - : وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب [ 40 \ 49 ] . وقوله : ليقض علينا ربك أي ليمتنا ، فنستريح بالموت من العذاب .
ونظيره قوله - تعالى - : فوكزه موسى فقضى عليه [ 28 \ 15 ] أي أماته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (480)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 147 إلى صـ 154
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : قال إنكم ماكثون - دليل على أنهم لا يجابون [ ص: 147 ] إلى الموت ، بل يمكثون في النار معذبين إلى غير نهاية .
وقد دل القرآن العظيم على أنهم لا يموتون فيها فيستريحوا بالموت ، ولا تغني هي عنهم ، ولا يخفف عنهم عذابها ، ولا يخرجون منها .
أما كونهم لا يموتون فيها الذي دل عليه قوله هنا : قال إنكم ماكثون - فقد دلت عليه آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 \ 74 ] . وقوله - تعالى - : ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا [ 87 \ 11 - 13 ] . وقوله - تعالى - : والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا الآية [ 35 \ 36 ] . وقوله - تعالى - : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت الآية [ 14 \ 17 ] .
وأما كون النار لا تغني عنهم ، فقد بينه - تعالى - بقوله : كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] . فمن يدعي أن للنار خبوة نهائية وفناء - رد عليه بهذه الآية الكريمة .
وأما كون العذاب لا يخفف عنه فقد دلت عليه آيات كثيرة جدا ، كقوله : ولا يخفف عنهم من عذابها [ 35 \ 36 ] . وقوله - تعالى - : فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون [ 16 \ 85 ] . وقوله - تعالى - : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 \ 30 ] . وقوله - تعالى - : لا يفتر عنهم الآية [ 43 \ 75 ] . وقوله : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] . وقوله - تعالى - : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] على الأصح في الأخيرين .
وأما كونهم لا يخرجون منها فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] . وقوله - تعالى - في " المائدة " : يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] . وقوله - تعالى - في " الحج " : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها الآية [ 22 \ 22 ] . وقوله - تعالى - في " السجدة " : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها [ 32 \ 20 ] . وقوله - تعالى - في " الجاثية " : فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون [ 45 \ 35 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وقد أوضحنا هذا المبحث إيضاحا شافيا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات [ ص: 148 ] الكتاب " في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله [ 6 \ 128 ] . وفي سورة " النبإ " في الكلام على قوله - تعالى - : لابثين فيها أحقابا [ 78 \ 23 ] وسنوضحه أيضا - إن شاء الله - في هذا الكتاب المبارك في الكلام على آية " النبإ " المذكورة ، ونوضح هناك - إن شاء الله - إزالة إشكال يورده الملحدون على الآيات التي فيها إيضاح هذا المبحث .
قوله - تعالى - : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الشورى " في الكلام على قوله - تعالى - : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [ 42 \ 13 ] .
قوله - تعالى - : بلى ورسلنا لديهم يكتبون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله - تعالى - : ستكتب شهادتهم ويسألون [ 43 \ 9 ] وأكثرنا من الآيات الموضحة لذلك في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : كلا سنكتب ما يقول الآية [ 19 \ 79 ] .
قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين .
اختلف العلماء في معنى إن في هذه الآية .
فقالت جماعة من أهل العلم : إنها شرطية ، واختاره غير واحد ، وممن اختاره ابن جرير الطبري ، والذين قالوا : إنها شرطية ، اختلفوا في المراد بقوله : فأنا أول العابدين .
فقال بعضهم : فأنا أول العابدين لذلك الولد .
وقال بعضهم : فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولدا .
وقال بعضهم : فأنا أول العابدين لله جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد .
وقالت جماعة آخرون : إن لفظة إن في الآية نافية .
والمعنى : ما كان لله ولد ، وعلى القول بأنها نافية ففي معنى قوله : فأنا أول العابدين ثلاثة أوجه : الأول - وهو أقربها - : أن المعنى : ما كان لله ولد فأنا أول العابدين لله المنزهين له [ ص: 149 ] عن الولد ، وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .
والثاني : أن معنى قوله : فأنا أول العابدين أي الآنفين المستنكفين من ذلك ، يعني القول الباطل المفترى على ربنا الذي هو ادعاء الولد له .
والعرب تقول : عبد - بكسر الباء - يعبد - بفتحها - فهو عبد - بفتح فكسر - على القياس ، وعابد أيضا سماعا إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه ، ومنه قول الفرزدق :
أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعبد أن أهجو كليبا بدارم
فقوله : وأعبد ، يعني آنف وأستنكف .
ومنه أيضا قول الآخر : متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالما
وفي قصة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المشهورة ، أنه جيء بامرأة من جهينة تزوجت ، فولدت لستة أشهر ، فبعث بها عثمان لترجم ، اعتقادا منه أنها كانت حاملا قبل العقد لولادتها قبل تسعة أشهر ، فقال له علي - رضي الله عنهما - : إن الله يقول : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] ويقول - جل وعلا - : وفصاله في عامين [ 31 \ 14 ] فلم يبق عن الفصال من المدة إلا ستة أشهر .
فما عبد عثمان - رضي الله عنه - أن بعث إليها لترد ولا ترجم .
ومحل الشاهد من القصة ، فوالله : ( ما عبد عثمان ) أي ما أنف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق .
الوجه الثالث : أن المعنى فأنا أول العابدين أي الجاحدين النافين أن يكون لله ولد - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي في معنى هذه الآية الكريمة أنه يتعين المصير إلى القول بأن ( إن ) نافية ، وأن القول بكونها شرطية لا يمكن أن يصح له معنى بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء .
[ ص: 150 ] وإنما اخترنا أن إن هي النافية لا الشرطية ، وقلنا : إن المصير إلى ذلك متعين في نظرنا - لأربعة أمور : الأول : أن هذا القول جار على الأسلوب العربي جريانا واضحا ، لا إشكال فيه ، فكون ( إن كان ) بمعنى ما كان - كثير في القرآن وفي كلام العرب ، كقوله - تعالى - : إن كانت إلا صيحة واحدة [ 36 \ 29 ] أي ما كانت إلا صيحة واحدة .
فقولك مثلا معنى الآية الكريمة : ما كان لله ولد فأنا أول العابدين الخاضعين للعظيم الأعظم ، المنزه عن الولد ، أو الآنفين المستنكفين من أن يوصف ربنا بما لا يليق بكماله وجلاله من نسبة الولد إليه ، أو الجاحدين النافين أن يكون لربنا ولد - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - لا إشكال فيه ; لأنه جار على اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، دال على تنزيه الله تنزيها تاما عن الولد ، من غير إيهام البتة لخلاف ذلك .
الأمر الثاني : أن تنزيه الله عن الولد بالعبارات التي لا إيهام فيها - هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة في القرآن ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا الآية [ 18 \ 4 ] . وفي سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا [ 19 \ 88 - 89 ] . والآيات الكثيرة التي ذكرناها في ذلك تبين أن ( إن ) نافية .
فالنفي الصريح الذي لا نزاع فيه يبين أن المراد في محل النزاع - النفي الصريح .
وخير ما يفسر به القرآن القرآن ; فكون المعبر به في الآية ( ما كان للرحمن ولد ) [ 43 \ 81 ] بصيغة النفي الصريح - مطابق لقوله - تعالى - في سورة " بني إسرائيل " : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية [ 17 \ 111 ] . وقوله - تعالى - في أول " الفرقان " : ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك الآية [ 25 \ 2 ] . وقوله - تعالى - : ما اتخذ الله من ولد الآية [ 23 \ 91 ] . وقوله - تعالى - : لم يلد ولم يولد [ 112 \ 3 ] . وقوله - تعالى - : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون [ 37 \ 151 - 152 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وأما على القول بأن ( إن ) شرطية ، وأن قوله - تعالى - : فأنا أول العابدين - جزاء [ ص: 151 ] لذلك الشرط ، فإن ذلك لا نظير له البتة في كتاب الله ، ولا توجد فيه آية تدل على هذا المعنى .
الأمر الثالث : هو أن القول بأن ( إن ) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية ، إلا معنى محذور لا يجوز القول به بحال ، وكتاب الله - جل وعلا - يجب تنزيهه عن حمله على معان محذورة لا يجوز القول بها .
وإيضاح هذا أنه على القول بأن ( إن ) شرطية ، وقوله : فأنا أول العابدين جزاء الشرط - لا معنى لصدقه البتة إلا بصحة الربط بين الشرط والجزاء .
والتحقيق الذي لا شك فيه أن مدار الصدق والكذب في الشرطية المتصلة - منصب على صحة الربط بين مقدمها الذي هو الشرط ، وتاليها الذي هو الجزاء ، والبرهان القاطع على صحة هذا هو كون الشرطية المتصلة تكون في غاية الصدق مع كذب طرفيها معا ، أو أحدهما لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها ، فمثال كذبهما معا مع صدقها قوله - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] فهذه قضية في غاية الصدق كما ترى ، مع أنها لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها كان كل واحد من طرفيها قضية كاذبة بلا شك ، ونعني بأداة الربط لفظة ( لو ) من الطرف الأول ، واللام من الطرف الثاني ، فإنهما لو أزيلا وحذفا صار الطرف الأول : كان فيهما آلهة إلا الله ، وهذه قضية في منتهى الكذب ، وصار الطرف الثاني فسدتا ، أي السماوات والأرض ، وهذه قضية في غاية الكذب كما ترى .
فاتضح بهذا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين الطرفين وعدم صحته .
فإن كان الربط صحيحا فهي صادقة ، ولو كذب طرفاها أو أحدهما عند إزالة الربط .
وإن كان الربط بينهما كاذبا كانت كاذبة كما لو قلت : لو كان هذا إنسانا لكان حجرا ، فكذب الربط بينهما وكذب القضية بسببه كلاهما واضح .
وأمثلة صدق الشرطية مع كذب طرفيها كثيرة جدا ، كالآية التي ذكرنا ، وكقولك : لو كان الإنسان حجرا لكان جمادا ، ولو كان الفرس ياقوتا لكان حجرا ، فكل هذه القضايا ونحوها صادقة مع كذب طرفيها لو أزيلت أداة الربط .
ومثال صدقها مع كذب أحدهما قولك : لو كان زيد في السماء ما نجا من الموت ; [ ص: 152 ] فإنها شرطية صادقة لصدق الربط بين طرفيها ، مع أنها كاذبة في أحد الطرفين دون الآخر ; لأن عدم النجاة من الموت صدق ، وكون زيد في السماء كذب ، هكذا مثل بهذا المثال البناني ، وفيه عندي أن هذه الشرطية التي مثل بها اتفاقية لا لزومية ، ولا دخل للاتفاقيات في هذا المبحث .
والمثال الصحيح : لو كان الإنسان حجرا لكان جسما .
واعلم أن قوما زعموا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات منصب على خصوص التالي الذي هو الجزاء ، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك .
وزعموا أن هذا المعنى هو المراد عند أهل اللسان العربي .
والتحقيق الأول .
ولم يقل أحد البتة بقول ثالث في مدار الصدق والكذب في الشرطيات .
فإذا حققت هذا فاعلم أن الآية الكريمة - على القول بأنها جملة شرط وجزاء - لا يصح الربط بين طرفيها البتة بحال على واحد من القولين اللذين لا ثالث لهما إلا على وجه محذور لا يصح القول به بحال .
وإيضاح ذلك أنه على القول الأخير : أن مصب الصدق والكذب في الشرطيات إنما هو التالي الذي هو الجزاء ، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك - فمعنى الآية عليه باطل ، بل هو كفر; لأن معناه أن كونه أول العابدين يشترط فيه أن يكون للرحمن ولد - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - .
لأن مفهوم الشرط أنه إن لم يكن له ولد لم يكن أول العابدين ، وفساد هذا المعنى كما ترى .
وأما على القول الأول الذي هو الصحيح أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين طرفي الشرطية .
فإنه على القول بأن الآية الكريمة جملة شرط وجزاء - لا يصح الربط بين طرفيها البتة أيضا ، إلا على وجه محذور لا يجوز المصير إليه بحال; لأن كون المعبود ذا ولد ، واستحقاقه هو أو ولده العبادة ، لا يصح الربط بينهما البتة إلا على معنى ، هو كفر بالله ; لأن المستحق للعبادة لا يعقل بحال أن يكون ولدا أو والدا .
[ ص: 153 ] وبه تعلم أن الشرط المزعوم في قوله : إن كان للرحمن ولد - إنما يعلق به محال لاستحالة كون الرحمن ذا ولد .
ومعلوم أن المحال لا يعلق عليه إلا المحال .
فتعليق عبادة الله التي هي أصل الدين على كونه ذا ولد - ظهور فساده كما ترى ، وإنما تصدق الشرطية في مثل هذا لو كان المعلق عليه مستحيلا ، فادعاء أن ( إن ) في الآية شرطية مثل ما لو قيل : لو كان معه آلهة لكنت أول العابدين له ، وهذا لا يصدق بحال; لأن واحدا من آلهة متعددة لا يمكن أن يعبد ، فالربط بين طرفيها مثل هذه القضية لا يصح بحال .
ويتضح لك ذلك بمعنى قوله : وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض الآية [ 23 \ 91 ] .
فإن قوله : ( إذا ) أي لو كان معه غيره من الآلهة لذهب كل واحد منهم بما خلق واستقل به ، وغالب بعضهم بعضا ولم ينتظم للسماوات والأرض نظام ، ولفسد كل شيء ، كما قال - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ 17 \ 42 ] على الصحيح الذي هو الحق من التفسيرين .
ومعنى ابتغائهم إليه - تعالى - سبيلا - هو طلبهم طريقا إلى مغالبته كما يفعله بعض الملوك مع بعضهم .
والحاصل أن الشرط إن علق به مستحيل فلا يمكن أن يصح الربط بينه وبين الجزاء ، إلا إذا كان الجزاء مستحيلا أيضا ; لأن الشرط المستحيل لا يمكن أن يوجد به إلا الجزاء المستحيل .
أما كون الشرط مستحيلا والجزاء هو أساس الدين وعماد الأمر - فهذا مما لا يصح بحال .
ومن ذهب إليه من أهل العلم والدين لا شك في غلطه .
ولا شك في أن كل شرطية صدقت مع بطلان مقدمها الذي هو الشرط ، وصحة تاليها [ ص: 154 ] الذي هو الجزاء - لا يصح التمثيل بها لهذه الآية بوجه من الوجوه ، وأن ما ظنه الفخر الرازي من صحة التمثيل لها بذلك غلط فاحش منه بلا شك ، وإيضاح ذلك أن كل شرطية كاذبة الشرط صادقة الجزاء عند إزالة الربط - لا بد أن يكون موجب ذلك فيها أحد أمرين لا ثالث لهما البتة .
وكلاهما يكون الصدق به من أجل أمر خاص لا يمكن وجود مثله في الآية الكريمة التي نحن بصددها ، بل هو مناقض لمعنى الآية .
والاستدلال بوجود أحد المتناقضين على وجود الآخر ضروري البطلان ، ونعني بأول الأمرين المذكورين كون الشرطية اتفاقية لا لزومية أصلا .
وبالثاني منهما كون الصدق المذكور من أجل خصوص المادة .
ومعلوم أن الصدق من أجل خصوص المادة لا عبرة به في العقليات ، وأنه في حكم الكذب لعدم اضطراده; لأنه يصدق في مادة ، ويكذب في أخرى .
والمعتبر إنما هو الصدق اللازم المضطرد ، الذي لا يختلف باختلاف المادة بحال .
ولا شك أن كل قضية شرطها محال لا يضطرد صدقها إلا إذا كان جزاؤها محالا خاصة .
فإن وجدت قضية باطلة الشرط صحيحة الجزاء ، فلا بد أن يكون ذلك ، لكونها اتفاقية ، أو لأجل خصوص المادة فقط .
فمثال وقوع ذلك لكونها اتفاقية قولك : إن كان زيد في السماء لم ينج من الموت .
فالشرط الذي هو كونه في السماء باطل ، والجزاء الذي هو كونه لم ينج من الموت صحيح .
وإنما صح هذا لكون هذه الشرطية اتفاقية .
ومعلوم أن الاتفاقية لا علاقة بين طرفيها أصلا ، فلا يقتضي ثبوت أحدهما ولا نفيه ثبوت الآخر ولا نفيه ، فلا ارتباط بين طرفيها في المعنى أصلا ، وإنما هو في اللفظ فقط .
فكون زيد في السماء لا علاقة له بعدم نجاته من الموت أصلا ، ولا ارتباط بينهما إلا في اللفظ ، فهو كقولك : إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (481)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 155 إلى صـ 162
وقد قدمنا إيضاح الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في سورة [ ص: 155 ] " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ 18 \ 57 ] فراجعه .
ومعلوم أن قوله : قل إن كان للرحمن ولد لم يقل أحد إنها شرطية اتفاقية ، ولم يدع أحد أنها لا علاقة بين طرفيها أصلا .
ومثال وقوع ذلك لأجل خصوص المادة فقط - ما مثل به الفخر الرازي لهذه الآية الكريمة ، مع عدم انتباهه لشدة المنافاة بين الآية الكريمة وبين ما مثل لها به ، فإنه لما قال : إن الشرط الذي هو إن كان للرحمن ولد باطل ، والجزاء الذي هو : فأنا أول العابدين صحيح .
مثل لذلك بقوله : إن كان الإنسان حجرا فهو جسم ، يعني أن قوله : إن كان الإنسان حجرا شرط باطل ، فهو كقوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فكون الإنسان حجرا ، وكون الرحمن ذا ولد - كلاهما شرط باطل .
فلما صح الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله : إن كان الإنسان حجرا فهو جسم - دل ذلك على أن الجزاء الصحيح في قوله : فأنا أول العابدين يصح ترتيبه على الشرط الباطل الذي هو إن كان للرحمن ولد .
وهذا غلط فاحش جدا ، وتسوية بين المتنافيين غاية المنافاة ; لأن الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله : إن كان الإنسان حجرا فهو جسم - إنما صدق لأجل خصوص المادة ، لا لمعنى اقتضاه الربط البتة .
وإيضاح ذلك أن النسبة بين الجسم والحجر ، والنسبة بين الإنسان والجسم - هي العموم والخصوص المطلق في كليهما .
فالجسم أعم مطلقا من الحجر ، والحجر أخص مطلقا من الجسم ، كما أن الجسم أعم من الإنسان أيضا عموما مطلقا ، والإنسان أخص من الجسم أيضا خصوصا مطلقا ; فالجسم جنس قريب للحجر ، وجنس بعيد للإنسان ، وإن شئت قلت : جنس متوسط له .
وإيضاح ذلك أن تقول في التقسيم الأول : الجسم إما نام ؛ أي يكبر تدريجا أو غير نام ، فغير النامي كالحجر مثلا ، ثم تقسم النامي تقسيما ثانيا ، فتقول : [ ص: 156 ] النامي إما حساس أو غير حساس ، فغير الحساس منه كالنبات .
ثم تقسم الحساس تقسيما ثالثا ، فتقول : الحساس إما ناطق أو غير ناطق ، والناطق منه هو الإنسان .
فاتضح أن كلا من الإنسان والحجر يدخل في عموم الجسم ، والحكم بالأعم على الأخص صادق في الإيجاب بلا نزاع ولا تفصيل .
فقولك : الإنسان جسم صادق في كل تركيب ، ولا يمكن أن يكذب بوجه ، وذلك للملابسة الخاصة بينهما من كون الجسم جنسا للإنسان ، وكون الإنسان فردا من أفراد أنواع الجسم ، فلأجل خصوص هذه الملابسة بينهما - كان الحكم على الإنسان بأنه جسم صادقا على كل حال ، سواء كان الحكم بذلك غير معلق على شيء ، أو كان معلقا على باطل أو حق .
فالاستدلال : يصدق هذا المثال على صدق الربط بين الشرط والجزاء في قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين بطلانه كالشمس في رابعة النهار .
والعجب كل العجب من عاقل يقوله; لأن المثال المذكور إنما صدق ؛ لأن الإنسان يشمله مسمى الجسم .
أما من كان له ولد فالنسبة بينه وبين المعبود الحق هي تباين المقابلة ; لأن المقابلة بين المعبود بحق وبين والد أو ولد هي المقابلة بين الشيء ومساوي نقيضه ; لأن من يولد أو يولد له لا يمكن أن يكون معبودا بحق بحال .
وإيضاح المنافاة بين الأمرين أنك لو قلت : الإنسان جسم - لقلت الحق ، ولو قلت : المولود له معبود ، أو المولود معبود - قلت الباطل الذي هو الكفر البواح .
ومما يوضح ما ذكرنا إجماع جميع النظار على أنه إن كانت إحدى مقدمتي الدليل باطلة ، وكانت النتيجة صحيحة - أن ذلك لا يكون إلا لأجل خصوص المادة فقط ، وأن ذلك الصدق لا عبرة به ، فحكمه حكم الكذب ، ولا يعتبر إلا الصدق اللازم المضطرد في جميع الأحوال .
فلو قلت مثلا : كل إنسان حجر ، وكل حجر جسم ; لأنتج من الشكل الأول كل [ ص: 157 ] إنسان جسم ، وهذه النتيجة في غاية الصدق كما ترى .
مع أن المقدمة الصغرى من الدليل التي هي قولك : كل إنسان حجر في غاية الكذب كما ترى .
وإنما صدقت النتيجة لخصوص المادة كما أوضحنا ، ولولا ذلك لكانت كاذبة ; لأن النتيجة لازم الدليل ، والحق لا يكون لازما للباطل ، فإن وقع شيء من ذلك فلخصوص المادة كما أوضحنا .
وبهذا التحقيق تعلم أن الشرط الباطل لا يلزم ، وتطرد صحة ربطه ، إلا بجزاء باطل مثله .
وما يظنه بعض أهل العلم من أن قوله - تعالى - : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك [ 10 \ 94 ] كقوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين - فهو غلط فاحش ، والفرق بين معنى الآيتين شاسع ، فظن استوائها في المعنى باطل .
وإيضاح ذلك أن قوله - تعالى - : فإن كنت في شك الآية ، معناه المقصود منه جار على الأسلوب العربي ، لا إبهام فيه ; لأنا أوضحنا سابقا أن مدار صدق الشرطية على صحة الربط بين شرطها وجزائها ، فهي صادقة ولو كذب طرفاها عند إزالة الربط كما تقدم إيضاحه قريبا .
فربط قوله : فإن كنت في شك بقوله : فاسأل الذين يقرءون الكتاب - ربط صحيح لا إشكال فيه ; لأن الشاك في الأمر شأنه أن يسأل العالم به عنه كما لا يخفى ، فهي قضية صادقة ، مع أن شرطها وجزاءها كلاهما باطل بانفراده ، فهي كقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] فهي شرطية صادقة لصحة الربط بين طرفيها ، وإن كان الطرفان باطلين عند إزالة الربط .
أما قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين على القول بأن ( إن ) شرطية - لا تمكن صحة الربط بين شرطها وجزائها البتة ; لأن الربط بين المعبود وبين كونه والدا أو ولدا لا يصح بحال .
ولذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا أشك ، ولا أسأل أهل الكتاب " فنفى الطرفين [ ص: 158 ] مع أن الربط صحيح ، ولا يمكن أن ينفي - صلى الله عليه وسلم - هو ولا غيره الطرفين في الآية الأخرى ، فلا يقول هو ولا غيره : ليس له ولد ، ولا أعبده .
وعلى كل حال ، فالربط بين الشك وسؤال الشاك للعالم أمر صحيح ، بخلاف الربط بين العبادة وكون المعبود والدا أو ولدا ، فلا يصح .
فاتضح الفرق بين الآيتين ، وحديث : " لا أشك ولا أسأل أهل الكتاب " . رواه قتادة بن دعامة مرسلا .
وبنحوه قال بعض الصحابة فمن بعدهم ، ومعناه صحيح بلا شك .
وما قاله الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة يستغربه كل من رآه ; لقبحه وشناعته ، ولم أعلم أحدا من الكفار في ما قص الله في كتابه عنهم يتجرأ على مثله أو قريب منه ، وهذا مع عدم فهمه لما يقول وتناقض كلامه .
وسنذكر هنا كلامه القبيح للتنبيه على شناعة غلطه الديني واللغوي .
قال في الكشاف ما نصه : قل إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها ، ( فأنا أول ) من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه .
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه ، وألا يترك للناطق به شبهة إلا مضمحلة ، مع الترجمة عن نفسه بإثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها ، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها .
ونظيره أن يقول العدلي للمجبر : إن كان الله - تعالى - خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا ، فأنا أول من يقول : هو شيطان ، وليس بإله .
فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفي أن يكون الله - تعالى - خالقا للكفر ، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ، ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا ، مع الدلالة على سماحة المذهب وضلالة الذاهب إليه ، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن [ ص: 159 ] نفسه بالبراءة منه ، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه .
ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير - رحمه الله - للحجاج حين قال له : أما والله لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى - : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك .
وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد ، المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : ( إن كان للرحمن ولد ) في زعمكم ( فأنا أول العابدين ) الموحدين لله المكذبين قولكم لإضافة الولد إليه . ا هـ
الغرض من كلام الزمخشري .
وفي كلامه هذا من الجهل بالله وشدة الجراءة عليه ، والتخبط والتناقض في المعاني اللغوية - ما الله عالم به .
ولا أظن أن ذلك يخفى على عاقل تأمله .
وسنبين لك ما يتضح به ذلك ; فإنه أولا قال : ( إن كان للرحمن ولد ) وضح ذلك ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها ( فأنا أول ) من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه .
فكلامه هذا لا يخفى بطلانه على عاقل ; لأنه على فرض صحة نسبة الولد إليه ، وقيام البرهان الصحيح والحجة الواضحة على أنه له ولد - فلا شك أن ذلك يقتضي أن ذلك الولد لا يستحق العبادة بحال ، ولو كان في ذلك تعظيم لأبيه ; لأن أباه مثله في عدم استحقاق العبادة ، والكفر بعبادة كل والد وكل مولود شرط في إيمان كل موحد ، فمن أي وجه يكون هذا الكلام صحيحا .
أما في اللغة العربية فلا يكون صحيحا البتة .
وما أظنه يصح في لغة من لغات العجم ; فالربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء لا يصح بوجه .
فمعنى الآية عليه لا يصح بوجه ; لأن المعلق على المحال لا بد أن يكون محالا مثله .
[ ص: 160 ] والزمخشري في كلامه كلما أراد أن يأتي بمثال في الآية خارجا عنها اضطر إلى أن لا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا .
فضربه للآية المثل بقصة ابن جبير مع الحجاج - دليل واضح على ما ذكرنا وعلى تناقضه وتخبطه .
فإنه قال فيها : إن الحجاج قال لسعيد بن جبير : لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى .
قال سعيد للحجاج : لو علمت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك .
فهو يدل على أنه علق المحال على المحال ، ولو كان غير متناقض للمعنى الذي مثل له به الزمخشري لقال : لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله .
فقوله : لو علمت أن ذلك إليك في معنى قل إن كان للرحمن ولد ، فنسبة الولد والشريك إليه معناهما في الاستحالة وادعاء النقص واحد .
فلو كان سعيد يفهم الآية كفهمك الباطل لقال : لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله .
ولكنه لم يقل هذا ; لأنه ليس له معنى صحيح يجوز المصير إليه .
وكذلك تمثيل الزمخشري للآية الكريمة في كلامه القبيح البشع الشنيع الذي يتقاصر عن التلفظ به كل كافر .
فقد اضطر فيه أيضا إلى ألا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا شنيعا ; فإنه قال فيه : ونظيره أن يقول العدلي للمجبر : إن كان الله - تعالى - خالقا للكفر في القلوب ، ومعذبا عليه عذابا سرمدا ، فأنا أول من يقول هو شيطان ، وليس بإله .
فانظر قول هذا الضال في ضربه المثل في معنى هذه الآية الكريمة بقول الضال الذي يسميه العدلي : إن كان الله خالقا للكفر في القلوب . . . إلخ .
فخلق الله للكفر في القلوب وتعذيبه الكفار على كفرهم - مستحيل عنده كاستحالة نسبة الولد لله ، وهذا المستحيل في زعمه الباطل ، إنما علق عليه أفظع أنواع المستحيل [ ص: 161 ] وهو زعمه الخبيث أن الله إن كان خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه - فهو شيطان لا إله - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا - .
فانظر رحمك الله فظاعة جهل هذا الإنسان بالله ، وشدة تناقضه في المعنى العربي للآية .
لأنه جعل قوله : إن كان الله خالقا للكفر ومعذبا عليه بمعنى " إن كان للرحمن ولد " في أن الشرط فيهما مستحيل ، وجعل قوله في الله إنه شيطان لا إله - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا - .
كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنا أول العابدين .
فاللازم لكلامه أن يقول : لو كان خالقا للكفر فأنا أول العابدين له ، ولا يخفى أن الادعاء على الله أنه شيطان مناقض لقوله : فأنا أول العابدين .
وقد أعرضت عن الإطالة في بيان بطلان كلامه وشدة ضلاله وتناقضه ; لشناعته ووضوح بطلانه ، فهي عبارات مزخرفة ، وشقشقة لا طائل تحتها ، وهي تحمل في طياتها الكفر والجهل بالمعنى العربي للآية ، والتناقض الواضح ، وكم من كلام مليء بزخرف القول ، وهو عقيم لا فائدة فيه ، ولا طائل تحته كما قيل : وإني وإني ثم إني وإنني إذا انقطعت نعلي جعلت لها شسعا فظل يعمل أياما رويته وشبه الماء بعد الجهد بالماء
واعلم أن الكلام على القدر وخلق أفعال العباد ، قدمنا منه جملا كافية في هذه السورة الكريمة ، في الكلام على قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم [ 43 \ 20 ] . ولا يخفى تصريح القرآن بأن الله - تعالى - خالق كل شيء ، كما قال - تعالى - : الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] . وقال - تعالى - : وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ 25 \ 2 ] . وقال : هل من خالق غير الله [ 35 \ 2 ] . وقال - تعالى - : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] .
فالإيمان بالقدر خيره وشره الذي هو من عقائد المسلمين جعله الزمخشري يقتضي أن لله شيطان - سبحان الله وتعالى عما يقوله الزمخشري علوا كبيرا - .
[ ص: 162 ] وجزى الزمخشري بما هو أهله .
الأمر الرابع : هو دلالة استقراء القرآن العظيم أن الله - تعالى - إذا أراد أن يفرض المستحيل ليبين الحق بفرضه - علقه أولا بالأداة التي تدل على عدم وجوده ، وهي لفظة ( لو ) ، ولم يعلق عليه البتة إلا محالا مثله ، كقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء [ 39 \ 4 ] . وقوله - تعالى - : لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا الآية [ 21 \ 17 ] .
وأما تعليق ذلك بأداة لا تقتضي عدم وجوده كلفظة ( إن ) مع كون الجزاء غير مستحيل - فليس معهودا في القرآن .
ومما يوضح هذا المعنى الذي ذكرنا - المحاورة التي ذكرها جماعة من المفسرين ، التي وقعت بين النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة ، وهي وإن كانت أسانيدها غير قائمة ، فإن معناها اللغوي صحيح .
وهي أن النضر بن الحارث كان يقول : الملائكة بنات الله ، فأنزل الله قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد الآية .
فقال النضر للوليد بن المغيرة : ألا ترى أنه قد صدقني ؟
فقال الوليد : لا ، ما صدقك ، ولكنه يقول : ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ، أي الموحدين من أهل مكة المنزهين له عن الولد . فمحاورة هذين الكافرين ، العالمين بالعربية مطابقة لما قررنا .
لأن النضر قال : إن معنى الآية على أن ( إن ) شرطية مطابق لما يعتقده الكفار من نسبة الولد إلى الله ، وهو معنى محذور وأن الوليد قال : إن ( إن ) نافية ، وأن معنى الآية على ذلك هو مخالفة الكفار وتنزيه الله عن الولد .
وبجميع ما ذكرنا يتضح أن ( إن ) في الآية الكريمة نافية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (482)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 163 إلى صـ 170
وذلك مروي عن ابن عباس والحسن والسدي وقتادة وابن زيد وزهير بن محمد وغيرهم .
[ ص: 163 ] تنبيه
اعلم أن ما قاله ابن جرير وغير واحد من أن القول بأن ( إن ) نافية - يلزمه إيهام المحذور الذي لا يجوز في حق الله .
قالوا : لأنه إن كان المعنى : ما كان لله ولد ; فإنه لا يدل على نفي الولد إلا في الماضي ، فللكفار أن يقولوا : إذا صدقت ، لم يكن له في الماضي ولد . ولكن الولد طرأ عليه بعد ذلك لما صاهر الجن ، وولدت له بناته التي هي الملائكة .
وإن هذا المحذور يمنع من الحمل على النفي لا شك في عدم صحته ; لدلالة الآيات القرآنية بكثرة على أن هذا الإيهام لا أثر له ولو كان له أثر لما كان الله يمدح نفسه بالثناء عليه بلفظة ( كان ) الدالة على خصوص الزمن الماضي في نحو قوله - تعالى - : وكان الله عزيزا حكيما [ 4 \ 158 ] . وكان الله عليما حكيما [ 4 \ 17 ] . وكان الله غفورا رحيما [ 4 \ 96 ] . وكان الله على كل شيء قديرا [ 33 \ 27 ] . إن الله كان عليا كبيرا [ 4 \ 34 ] . إلى غير ذلك من الآيات التي يصعب حصرها .
فإن معنى كل تلك الآيات أنه كان ولم يزل .
فلو كان الكفار يقولون ذلك الذي زعموه الذي هو قولهم : صدقت ، ما كان له ولد في الماضي ، ولكنه طرأ له - لقالوا مثله في الآيات التي ذكرنا .
كأن يقولوا : كان عليما حكيما [ 4 \ 11 ] في الماضي ، ولكنه طرأ عليه عدم ذلك . وهكذا في جميع الآيات المذكورة ونحوها .
وأيضا فإن المحذور الذي زعموه لم يمنع من إطلاق نفي الكون الماضي في قوله - تعالى - : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] . وقوله : وما كنت متخذ المضلين عضدا [ 18 \ 51 ] . وقوله : وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [ 28 \ 59 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
ومن أوضحها في محل النزاع قوله - تعالى - : وما كان معه من إله الآية [ 23 \ 91 ] .
ولم يمنع من نفي القرآن للولد في الزمن الماضي في قوله - تعالى - : ما اتخذ الله من ولد [ 23 \ 91 ] [ ص: 164 ] فإن الكفار لم يقولوا يوما ما : صدقت ، ما اتخذه في الماضي ، ولكنه طرأ عليه اتخاذه .
وكذلك في قوله : ولم يتخذ ولدا [ 17 \ 111 ] . وقوله : لم يلد [ 112 \ 3 ] ; لأن ( لم ) تنقل المضارع إلى معنى الماضي .
والكفار لم يقولوا يوما : صدقت ، لم يتخذ ولدا في الماضي ، ولكنه طرأ عليه اتخاذه ، ولم يقولوا : لم يلد في الماضي ، ولكنه ولد أخيرا .
والحاصل أن الكفار لم يقروا أن الله منزه عن الولد لا في الماضي ولا في الحال ، ولا في الاستقبال .
ومعلوم أن الولادة المزعومة حدث متحدد .
وبذلك تعلم أن ما زعموه من إيهام المحذور في كون ( إن ) في الآية نافية - لا أساس له ولا معول عليه ، وأن ما ادعوه من كونها شرطية ليس لها معنى في اللغة العربية ، إلا المعنى المحذور الذي لا يجوز في حق الله بحال .
واعلم أن كلام الفخر الرازي في هذه الآية الكريمة الذي يقتضي إمكان صحة الربط بين طرفيها على أنها شرطية لا شك في غلطه فيه .
وأما إبطاله لقول من قال : إن المعنى : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين له والمكذبين لكم في ذلك ، فهو إبطال صحيح ، وكلامه فيه في غاية الحسن والدقة ، وهو يقتضي إبطاله بنفسه ، لجميع ما كان يقرره في الآية الكريمة .
والحاصل أن كون معنى ( إن ) في الآية الكريمة هو النفي لا إشكال فيه ، ولا محذور ولا إيهام ، وأن الآيات القرآنية تشهد له لكثرة الآيات المطابقة لهذا المعنى في القرآن .
وأما كون معنى الآية الشرط والجزاء فلا يصح له معنى غير محذور في اللغة ، وليس له في كتاب الله نظير ، لإجماع أهل اللسان العربي على اختلاف المعنى في التعليق بإن والتعليق بلو .
لأن التعليق بـ ( لو ) يدل على عدم الشرط ، وعدم الشرط استلزم عدم المشروط بخلاف ( إن ) .
[ ص: 165 ] فالتعليق بها يدل على الشك في وجود الشرط بلا نزاع .
وما خرج عن ذلك من التعليق بها مع العلم بوجود الشرط أو العلم بنفيه ، فلأسباب أخر ، وأدلة خارجة ، ولا يجوز حملها على أحد الأمرين المذكورين ، إلا بدليل منفصل كما أوضحناه في غير هذا الموضع .
تنبيه
اعلم أن ما ذكرنا من أن ( لو ) تقتضي عدم وجود الشرط ، وأن ( إن ) تقتضي الشك فيه - لا يرد عليه قوله - تعالى - : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك الآية [ 10 \ 94 ] . كما أشرنا له قريبا .
لأن التحقيق أن الخطاب في قوله : ( فإن كنت في شك ) خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به من يمكن أن يشك في ذلك من أمته .
وقد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : لا تجعل مع الله إلها آخر الآية [ 17 \ 22 ] - دلالة القرآن الصريحة على أنه - صلى الله عليه وسلم - يتوجه إليه الخطاب من الله ، والمراد به التشريع لأمته ، ولا يراد هو - صلى الله عليه وسلم - البتة بذلك الخطاب .
وقدمنا هناك أن من أصرح الآيات القرآنية في ذلك قوله - تعالى - : وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف الآية [ 17 \ 23 ] . فالتحقيق أن الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - والمراد أمته لا هو نفسه ; لأنه هو المشرع لهم بأمر الله .
وإيضاح ذلك أو معنى : إما يبلغن عندك الكبر أي إن يبلغ عندك الكبر يا نبي الله والداك أو أحدهما ، فلا تقل لهما : أف .
ومعلوم أن أباه مات وهو حمل ، وأمه ماتت وهو في صباه ، فلا يمكن أن يكون المراد : إن يبلغ الكبر عندك هما أو أحدهما ، والواقع أنهما قد ماتا قبل ذلك بأزمان .
وبذلك يتحقق أن المراد بالخطاب غيره من أمته الذي يمكن إدراك والديه أو أحدهما الكبر عنده .
وقد قدمنا أن مثل هذا أسلوب عربي معروف ، وأوردنا شاهدا لذلك ؛ رجز سهل بن مالك الفزاري في قوله : [ ص: 166 ]
يا أخت خير البدو والحضاره كيف ترين في فتى فزاره أصبح يهوى حرة معطاره
إياك أعني واسمعي يا جاره
وقد بسطنا القصة هناك ، وبينا أن قول من قال : إن الخطاب في قوله - تعالى - : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما الآية [ 17 \ 23 ] لكل من يصح خطابه من أمته - صلى الله عليه وسلم - لا له هو نفسه - باطل ; بدليل قوله - تعالى - بعده في سياق الآيات : ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة الآية [ 17 \ 39 ] .
والحاصل أن آية : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك الآية [ 10 \ 94 ] لا ينقض بها الضابط الذي ذكرنا ; لأنها كقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر [ 17 \ 22 ] . لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] . فلا تكونن من الممترين [ 10 \ 94 ] . ولا تطع الكافرين والمنافقين [ 33 \ 48 ] . ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
ومعلوم أنه هو - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل شيئا من ذلك البتة ، ولكنه يؤمر وينهى ليشرع لأمته على لسانه .
وبذلك تعلم اطراد الضابط الذي ذكرنا في لفظة لو ، ولفظة إن ، وأنه لا ينتقض بهذه الآية .
هذا ما ظهر لنا في هذه الآية الكريمة ، ولا شك أنه لا محذور فيه ولا غرر ولا إيهام ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون .
قد قدمنا معنى لفظة سبحان ، وما تدل عليه من تنزيه الله عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، وإعراب لفظة سبحان مع بعض الشواهد العربية في أول سورة " بني إسرائيل " .
ولما قال - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد الآية - نزه نفسه تنزيها تاما عما يصفونه به من نسبة الولد إليه ، مبينا أن رب السماوات والأرض ورب العرش - جدير بالتنزيه عن الولد ، وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .
[ ص: 167 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أنه لما ذكر وصف الكفار له بما لا يليق به ، نزه نفسه عن ذلك معلما خلقه في كتابه أن ينزهوه عن كل ما لا يليق به - جاء مثله موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ما اتخذ الله من ولد إلى قوله - تعالى - : سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون [ 23 \ 91 - 92 ] . وقوله - تعالى - : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا [ 17 \ 42 - 43 ] . وقوله - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون [ 21 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [ 4 \ 171 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " في الكلام على قوله - تعالى - : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل الآية [ 15 \ 3 ] .
قوله - تعالى - : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] .
قوله - تعالى - : وعنده علم الساعة .
قد بينا الآيات الموضحة في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية [ 6 \ 59 ] .
وفي " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو الآية [ 7 \ 178 ] وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يقبل منها شفاعة الآية [ 2 \ 48 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
[ ص: 168 ] قوله - تعالى - : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " بني " إسرائيل في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
قوله - تعالى - : وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون .
قرأ هذا الحرف نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، والكسائي - : ( وقيله ) بفتح اللام وضم الهاء ، وقرأه عاصم وحمزة : ( وقيله ) بكسر اللام والهاء .
قال بعض العلماء : إعرابه بأنه عطف محل على ( الساعة ) لأن قوله - تعالى - : وعنده علم الساعة [ 43 \ 85 ] - مصدر مضاف إلى مفعوله .
فلفظ الساعة مجرور لفظا بالإضافة ، منصوب محلا بالمفعولية ، وما كان كذلك جاز في تابعه النصب نظرا إلى المحل ، والخفض نظرا إلى اللفظ ، كما قال في الخلاصة : وجر ما يتبع ما جر ومن راعى في الاتباع المحل فحسن
وقال في نظيره في الوصف : واخفض أو انصب تابع الذي انخفض كمبتغي جاه ومالا من نهض
وقال بعضهم : هو معطوف على سرهم [ 43 \ 80 ] .
وعليه فالمعنى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم [ 43 \ 80 ] . وقيله يارب الآية .
وقال بعضهم : هو منصوب على أنه مفعول مطلق .
أي ، وقال : قيله ، وهو بمعنى قوله ، إلا أن القاف لما كسرت أبدلت الواو ياء لمجانسة الكسرة .
قالوا : ونظير هذا الإعراب قول كعب بن زهير
: تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم إنك يا بن أبي سلمى لمقتول
أي ويقولون قيلهم .
[ ص: 169 ] وقال بعضهم : هو منصوب بيعلم محذوفة ; لأن العطف الذي ذكرنا على قوله : سرهم ، والعطف على ( الساعة ) يقال فيه : إنه يقتضي الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يصلح لكونه اعتراضا ، وتقدير الناصب إذا دل المقام عليه لا إشكال فيه . كما قال في الخلاصة : ويحذف الناصبها إن علما وقد يكون حذفه ملتزما
وأما على قراءة الخفض فهو معطوف على الساعة ، أي وعنده علم الساعة ، وعلم ( قيله يا رب ) .
واختار الزمخشري أنه مخفوض بالقسم ، ولا يخفى بعده كما نبه عليه أبو حيان .
والتحقيق أن الضمير في ( قيله ) للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
والدليل على ذلك أن قوله بعد : فاصفح عنهم وقل سلام [ 43 \ 89 ] - خطاب له - صلى الله عليه وسلم - بلا نزاع ، فادعاء أن الضمير في ( قيله ) لعيسى لا دليل عليه ولا وجه له .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من شكواه - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه عدم إيمان قومه - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 ] . وذكر مثله عن موسى في قوله - تعالى - في " الدخان " : فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون [ 44 \ 22 ] . وعن نوح قوله - تعالى - : قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا [ 71 \ 5 - 6 ] . إلى آخر الآيات .
قوله - تعالى - : فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون .
قرأ هذا الحرف ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي - : ( فسوف يعلمون ) بياء الغيبة ، وقرأ نافع وابن عامر : ( فسوف تعلمون ) بتاء الخطاب .
وهذه الآية الكريمة تضمنت ثلاثة أمور : الأول : أمره - صلى الله عليه وسلم - بالصفح عن الكفار .
والثاني : أن يقول لهم سلام .
[ ص: 170 ] والثالث : تهديد الكفار بأنهم سيعلمون حقيقة الأمر وصحة ما يوعد به الكافر من عذاب النار .
وهذه الأمور الثلاثة جاءت موضحة في غير هذا الموضع ؛ كقوله - تعالى - في الأول : وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل [ 15 \ 85 ] . وقوله - تعالى - : ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم [ 22 \ 48 ] .
والصفح : الإعراض عن المؤاخذة بالذنب .
قال بعضهم : وهو أبلغ من العفو .
قالوا : لأن الصفح أصله مشتق من صفحة العنق ، فكأنه يولي المذنب بصفحة عنقه معرضا عن عتابه فما فوقه .
وأما الأمر الثاني : فقد بين - تعالى - أنه هو شأن عباده الطيبين .
ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - سيدهم ، كما قال - تعالى - : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] . وقال - تعالى - : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] . وقال عن إبراهيم : إنه قال له أبوه : لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا [ 19 \ 46 ] . قال له : سلام عليك [ 19 \ 47 ] .
ومعنى السلام في الآيات المذكورة إخبارهم بسلامة الكفار من أذاهم ، ومن مجازاتهم لهم بالسوء ، أي سلمتم منا لا نسافهكم ، ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا .
وأما الأمر الثالث الذي هو تهديد الكفار بأنهم سيعلمون الحقيقة - قد جاء موضحا في آيات كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ولتعلمن نبأه بعد حين [ 38 \ 88 ] . وقوله - تعالى - : لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون [ 6 \ 67 ] . وقوله : كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون [ 78 \ 4 - 5 ] . وقوله - تعالى - : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون [ 102 \ 3 - 4 ] . وقوله - تعالى - : لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين [ 102 \ 6 - 7 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (483)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 171 إلى صـ 178
[ ص: 171 ] وكثير من أهل العلم يقول : إن قوله - تعالى - : فاصفح عنهم وما في معناه - منسوخ بآيات السيف ، وجماعات من المحققين يقولون : هو ليس بمنسوخ .
والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال والصفح عن الجهلة والإعراض عنهم - وصف كريم ، وأدب سماوي ، لا يتعارض مع ذلك ، والعلم عند الله - تعالى - .
[ ص: 172 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الدُّخَانِ
قَوْلُهُ - تَعَالَى - : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ .
أَبْهَمَ - تَعَالَى - هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هُنَا ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهَا هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [ 97 \ 1 ] وَبَيَّنَ كَوْنَهَا ( مُبَارَكَةٍ ) الْمَذْكُورَةَ هُنَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [ 97 \ 3 ] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ .
فَقَوْلُهُ : فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ أَيْ كَثِيرَةِ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ لَيْلَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، إِلَى آخِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا فِي سُورَةِ " الْقَدْرِ " - كَثِيرَةُ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ جِدًّا .
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا الْقُرْآنُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [ 2 \ 185 ] .
فَدَعْوَى أَنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِ ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِمُخَالَفَتِهَ ا لِنَصِّ الْقُرْآنِ الصَّرِيحِ .
وَلَا شَكَّ كُلُّ مَا خَالَفَ الْحَقَّ فَهُوَ بَاطِلٌ .
وَالْأَحَادِيثُ - الَّتِي يُورِدُهَا بَعْضُهُمْ فِي أَنَّهَا مِنْ شَعْبَانَ - الْمُخَالِفَةُ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ - لَا أَسَاسَ لَهَا ، وَلَا يَصِحُّ سَنَدُ شَيْءٍ مِنْهَا ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ .
فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ مُسْلِمٍ يُخَالِفُ نَصَّ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَ بِلَا مُسْتَنَدِ كِتَابٍ ، وَلَا سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ .
قوله - تعالى - : فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا .
معنى قوله : يفرق ، أي يفصل ويبين ، ويكتب في الليلة المباركة التي هي ليلة القدر - كل أمر حكيم ، أي ذي حكمة بالغة ; لأن كل ما يفعله الله مشتمل على أنواع الحكم الباهرة .
وقال بعضهم : حكيم ، أي محكم ، لا تغيير فيه ولا تبديل .
[ ص: 173 ] وكلا الأمرين حق ; لأن ما سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل ، ولأن جميع أفعاله في غاية الحكمة .
وهي في الاصطلاح وضع الأمور في مواضعها وإيقاعها في مواقعها .
وإيضاح معنى الآية أن الله - تبارك وتعالى - في كل ليلة قدر من السنة يبين للملائكة ويكتب لهم بالتفصيل والإيضاح جميع ما يقع في تلك السنة إلى ليلة القدر من السنة الجديدة .
فتبين في ذلك الآجال والأرزاق ، والفقر والغنى ، والخصب والجدب والصحة والمرض ، والحروب والزلازل ، وجميع ما يقع في تلك السنة كائنا ما كان .
قال الزمخشري في الكشاف : ومعنى ( يفرق ) يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم ، وجميع أمورهم فيها إلى الأخرى القابلة . إلى أن قال : فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى جبرائيل ، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت ا هـ محل الغرض منه بلفظه .
ومرادنا بيان معنى الآية ، لا التزام صحة دفع النسخ المذكورة للملائكة المذكورين ; لأنا لم نعلم له مستندا .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، يدل أيضا على أن الليلة المباركة هي ليلة القدر ; فهو بيان قرآني آخر .
وإيضاح ذلك أن معنى قوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر أي في ليلة التقدير لجميع أمور السنة ، من رزق وموت ، وحياة وولادة ، ومرض وصحة ، وخصب وجدب ، وغير ذلك من جميع أمور السنة .
قال بعضهم : حتى إن الرجل لينكح ويتصرف في أموره ويولد له ، وقد خرج اسمه في الموتى في تلك السنة .
وعلى هذا التفسير الصحيح لليلة القدر ، فالتقدير المذكور هو بعينه المراد بقوله : فيها يفرق كل أمر حكيم .
[ ص: 174 ] وقد قدمنا في سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله - تعالى - : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] - أن قدر بفتح الدال مخففا يقدر ، ويقدر بالكسر والضم كيضرب وينصر قدرا بمعنى قدر تقديرا ، وأن ثعلبا أنشد لذلك قول الشاعر :
فليست عشيات الحمى برواجع لنا أبدا ما أروق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى
تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
وبينا هناك ، أن ذلك هو معنى ليلة القدر ; لأن الله يقدر فيها وقائع السنة .
وبينا أن ذلك هو معنى قوله - تعالى - : فيها يفرق كل أمر حكيم وأوضحنا هناك أن القدر بفتح الدال ، والقدر بسكونها - هما ما يقدره الله من قضائه ، ومنه قول هدبة بن الخشرم :
ألا يا لقومي للنوائب والقدر وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري
واعلم أن قول من قال : إنما سميت ليلة القدر لعظمها وشرفها على غيرها من الليالي من قولهم : فلان ذو قدر ، أي ذو شرف ومكانة رفيعة - لا ينافي القول الأول ; لاتصافها بالأمرين معا ، وصحة وصفها بكل منهما ، كما أوضحنا مثله مرارا .
واختلف العلماء في إعراب قوله : أمرا من عندنا . قال بعضهم : هو مصدر منكر في موضع الحال ، أي أنزلناه في حال كوننا آمرين به .
وممن قال بهذا الأخفش .
وقال بعضهم : هو ما ناب عن المطلق من قوله : ( أنزلناه ) ، وجعل ( أمرا ) بمعنى : إنزالا .
وممن قال به المبرد .
وقال بعضهم هو ما ناب عن المطلق من ( يفرق ) ، فجعل ( أمرا ) بمعنى فرقا ، أو فرق بمعنى ( أمرا ) .
وممن قال بهذا الفراء والزجاج .
وقال بعضهم هو حال من ( أمرا ) ، أي ( يفرق فيها بين كل أمر حكيم ) في حال [ ص: 175 ] كونه ( أمرا من عندنا ) وهذا الوجه جيد ظاهر ، وإنما ساغ إتيان الحال من النكرة وهي متأخرة عنها ; لأن النكرة التي هي ( أمر ) وصفت بقوله ( حكيم ) كما لا يخفى .
وقال بعضهم ( أمرا ) مفعول به لقوله : ( منذرين ) [ 44 \ 3 ] . وقيل غير ذلك .
واختار الزمخشري أنه منصوب بالاختصاص ، فقال : جعل كل أمر جزلا فخما ، بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وأكسبه فخامة ، بأن قال : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، كائنا من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا ، وهذا الوجه أيضا ممكن ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : إنا كنا مرسلين رحمة من ربك .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا الآية [ 18 \ 65 ] . وفي سورة " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها الآية [ 35 \ 2 ] .
قوله - تعالى - : ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون .
هذا الذي ادعوه على النبي - صلى الله عليه وسلم - افتراء ، من أنه معلم ، يعنون أن هذا القرآن علمه إياه بشر ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - مجنون - قد بينا الآيات الموضحة لإبطاله .
أما دعواهم أنه معلم فقد قدمنا الآيات الدالة على تلك الدعوى في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر [ 16 \ 103 ] . وفي سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون إلى قوله فهي تملى عليه بكرة وأصيلا [ 25 \ 4 - 5 ] .
وبينا الآيات الموضحة لافترائهم وتعنتهم في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] .
وفي الفرقان في الكلام على قوله - تعالى - : فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها الآية [ 25 \ 4 - 5 ] .
وأما دعواهم أنه مجنون ، فقد قدمنا الآيات الموضحة لها ولإبطالها في سورة " قد [ ص: 176 ] أفلح المؤمنون " في الكلام على قوله - تعالى - : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق الآية [ 23 \ 70 ] .
قوله - تعالى - : وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلي عباد الله .
الرسول الكريم هو موسى ، والآيات الدالة على أن موسى هو الذي أرسل لفرعون وقومه - كثيرة ومعروفة .
وقوله : أدوا إلي أي سلموا إلي عباد الله ، يعني بني إسرائيل ، وأرسلوهم معي .
فقوله : عباد الله مفعول به لقوله : أدوا .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن موسى طلب من فرعون أن يسلم له بني إسرائيل ويرسلهم معه - جاء موضحا في آيات أخر ، مصرحا فيها بأن عباد الله هم بنو إسرائيل ، كقوله - تعالى - في " طه " : فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم [ 20 \ 47 ] . وقوله - تعالى - في " الشعراء " : فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل الآية [ 26 \ 16 - 17 ] .
والتحقيق أن ( أن ) في قوله : أن أدوا هي المفسرة ; لأن مجيء الرسول يتضمن معنى القول ، لا المخففة من الثقيلة ، وأن قوله : عباد الله مفعول به كما ذكرنا ، وكما أوضحته آية " طه " وآية " الشعراء " لا منادى مضاف .
قوله - تعالى - : وإني عذت بربي وربكم .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب [ 40 \ 27 ] .
وله - تعالى - : كذلك وأورثناها قوما آخرين .
لم يبين هنا من هؤلاء القوم الذين أورثهم ما ذكره هنا ، ولكنه بين في سورة " الشعراء " أنهم بنو إسرائيل ، وذلك في قوله - تعالى - : كذلك وأورثناها بني إسرائيل الآية [ ص: 177 ] [ 26 \ 59 ] كما تقدم في الترجمة ، وفي " الأعراف " .
قوله - تعالى - : ولقد نجينا بني إسراءيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين .
ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أنه نجى بني إسرائيل من العذاب المهين الذي كان يعذبهم به فرعون وقومه - جاء موضحا في آيات أخر ، مصرحا فيها بأنواع العذاب المذكور ، كقوله - تعالى - في سورة " البقرة " : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم إلى قوله : وأنتم تنظرون [ 2 \ 49 - 50 ] . وقوله في " الأعراف " : وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم الآية [ 7 \ 141 ] . وقوله - تعالى - في " المؤمن " : فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه الآية [ 40 \ 25 ] . وقوله - تعالى - عن " إبراهيم " : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم الآية [ 14 \ 16 ] .
وقوله في " الشعراء " : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [ 26 \ 22 ] فتعبيده إياهم من أنواع عذابه لهم ، إلى غير ذلك من الآيات .
وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، من أن فرعون كان عاليا من المسرفين - أوضحه أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " يونس " : وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين [ 10 \ 83 ] . وقوله - تعالى - في أول " القصص " : إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين [ 28 \ 4 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم .
قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " الحج " في الكلام على قوله - تعالى - : يصب من فوق رءوسهم الحميم [ 22 \ 19 ] .
[ ص: 178 ] وقد تركنا إحالات متعددة بينا فيها بعض آيات سورة " الدخان " هذه ، خشية الإطالة بكثرة الإحالة .
قوله - تعالى - : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون .
قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين الآية [ 19 \ 97 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (484)
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
صـ 179 إلى صـ 186
[ ص: 179 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
قَوْلُهُ - تَعَالَى - : إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ ، مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ " الْجَاثِيَةِ " - سِتَّةَ بَرَاهِينَ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - تَعَالَى - .
الْأَوَّلُ مِنْهَا : خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ .
الثَّانِي : خَلْقُهُ النَّاسَ .
الثَّالِثُ : خَلْقُهُ الدَّوَابَّ .
الرَّابِعُ : اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ .
الْخَامِسُ : إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ .
السَّادِسُ : تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ .
وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُوقِنُونَ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ حُجَجَهُ وَآيَاتِهِ ، فَكَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ .
وَلِذَا قَالَ : لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ قَالَ : آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، ثُمَّ قَالَ : آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .
وَهَذِهِ الْبَرَاهِينُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ - جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ .
[ ص: 180 ] أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا ، وَهُوَ خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ - فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ 50 \ 6 - 8 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [ 34 \ 9 ] . وَقَوْلِهِ : قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [ 10 \ 101 ] . وَقَوْلِهِ : أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [ 7 \ 158 ] . وَقَوْلِهِ : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [ 30 \ 22 ] فِي " الرُّومِ " وَ " الشُّورَى " [ 42 \ 29 ] . وَقَوْلِهِ : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [ 40 \ 64 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [ 40 \ 64 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [ 51 \ 47 - 48 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْلِهِ : وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [ 78 \ 6 - 12 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْرُوفَةٌ .
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا ، وَهُوَ خَلْقُهُ النَّاسَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَفِي خَلْقِكُمْ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ . [ 30 \ 20 ] . وَقَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ [ 2 \ 21 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ : مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [ 71 \ 13 - 14 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [ 39 \ 6 ] . وَقَوْلِهِ : وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [ 51 \ 21 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا ، وَهُوَ خَلْقُهُ الدَّوَابَّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ " الشُّورَى " : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [ 42 \ 29 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " الْبَقَرَةِ " : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ الْآيَةَ [ 2 \ 164 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ [ ص: 181 ] مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ 39 \ 6 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [ 39 \ 6 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ .
وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا ، وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " الْبَقَرَةِ " : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ : لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " آلِ عِمْرَانَ " : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ 3 \ 190 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " فُصِّلَتْ " : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ الْآيَةَ [ 41 \ 37 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا الْآيَةَ [ 36 \ 37 - 38 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [ 24 \ 44 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ 28 \ 71 - 73 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [ 23 \ 80 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .
وَأَمَّا الْخَامِسُ مِنْهَا ، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ ، وَإِنْبَاتُ الرِّزْقِ فِيهَا ، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " الْبَقَرَةِ " : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى قَوْلِهِ : لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا إِلَى قَوْلِهِ : مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُ مْ [ 80 \ 24 - 32 ] .
[ ص: 182 ] وَإِيضَاحُ هَذَا الْبُرْهَانِ بِاخْتِصَارٍ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ - أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يَنْظُرَ وَيَتَأَمَّلَ فِي طَعَامِهِ ، كَالْخَبْزِ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَعِيشُ بِهِ ، مِنْ خَلْقِ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِنَبَاتِهِ .
هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَخْلُقَهُ ؟
الْجَوَابُ : لَا .
ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ بِالْفِعْلِ ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِإِنْزَالِهِ عَلَى الْأَرْضِ رَشًّا صَغِيرًا ، حَتَّى تُرْوَى بِهِ الْأَرْضُ تَدْرِيجًا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ هَدْمٌ وَلَا غَرَقٌ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ [ 24 \ 43 ] ؟ .
الْجَوَابُ : لَا .
ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ فِعْلًا ، وَأُنْزِلَ فِي الْأَرْضِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الْأَكْمَلِ ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَشُقَّ الْأَرْضَ وَيُخْرِجَ مِنْهَا مِسْمَارَ النَّبَاتِ ؟
الْجَوَابُ : لَا .
ثُمَّ هَبْ أَنَّ النَّبَاتَ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ ، وَانْشَقَّتْ عَنْهُ ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُخْرِجَ السُّنْبُلَ مِنْ ذَلِكَ النَّبَاتِ ؟
الْجَوَابُ : لَا .
ثُمَّ هَبْ أَنَّ السُّنْبُلَ خَرَجَ مِنَ النَّبَاتِ ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنَمِّيَ حَبَّهُ وَيَنْقُلَهُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ حَتَّى يُدْرَكَ وَيَكُونَ صَالِحًا لِلْغِذَاءِ وَالْقُوتِ ؟
الْجَوَابُ : لَا .
وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ 6 \ 99 ] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [ 78 \ 14 - 16 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [ 36 \ 33 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .
[ ص: 183 ] وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَهُ - تَعَالَى - الرِّزْقَ عَلَى الْمَاءِ فِي آيَةِ " الْجَاثِيَةِ " هَذِهِ - قَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ " الْمُؤْمِنِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا الْآيَةَ [ 40 \ 13 ] .
وَأَمَّا السَّادِسُ مِنْهَا ، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ فِي " الْبَقَرَةِ " : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [ 30 \ 46 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [ 15 \ 22 ] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
تنبيه
اعلم أن هذه البراهين العظيمة المذكورة في أول سورة " الجاثية " هذه - ثلاثة منها من براهين البعث التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث ، كثرة مستفيضة .
وقد أوضحناها في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة " البقرة " وسورة " النحل " وغيرهما ، وأحلنا عليها مرارا كثيرة في هذا الكتاب المبارك ، وسنعيد طرفا منها هنا لأهميتها إن شاء الله - تعالى - .
والأول من البراهين المذكورة : هو خلق السماوات والأرض المذكور هنا في سورة " الجاثية " هذه إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ، لأن خلقه - جل وعلا - للسماوات والأرض - من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت ; لأن من خلق الأعظم الأكبر لا شك في قدرته على خلق الأضعف الأصغر .
والآيات الدالة على هذا كثيرة ، كقوله - تعالى - : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] أي ومن قدر على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على خلق الأصغر ، وقوله - تعالى - : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [ 36 \ 81 ] . وقوله - تعالى - : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [ 46 \ 33 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 184 ] أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم الآية [ 17 \ 99 ] . وقوله - تعالى - : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] .
ونظير آية " النازعات " هذه قوله - تعالى - في أول " الصافات " : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا الآية [ 37 \ 11 ] ; لأن قوله : أم من خلقنا يشير به إلى خلق السماوات والأرض وما ذكر معهما المذكور في قوله - تعالى - : رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق إلى قوله فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 5 - 10 ] .
وأما الثاني من البراهين المذكورة : فهو خلقه - تعالى - للناس المرة الأولى ; لأن من ابتدع - خلقهم على غير مثال سابق - لا شك في قدرته على إعادة خلقهم مرة أخرى ، كما لا يخفى .
والاستدلال بهذا البرهان على البعث كثير جدا في كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] إلى آخر الآيات .
وقوله - تعالى - : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 - 79 ] . وقوله - تعالى - : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين الآية [ 19 \ 66 - 68 ] . وقوله - تعالى - : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه الآية [ 30 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] . وقوله - تعالى - : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] . وقوله - تعالى - : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [ 50 \ 15 ] . وقوله - تعالى - : ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون [ 56 \ 62 ] . وقوله - تعالى - : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى [ 53 \ 45 - 47 ] . وقوله - تعالى - : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] . وقوله - تعالى - : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ ص: 185 ] إلى قوله : فما يكذبك بعد بالدين [ 95 \ 1 - 7 ] يعني أي شيء يحملك على التكذيب بالدين - أي بالبعث والجزاء - وقد علمت أني خلقتك الخلق الأول في أحسن تقويم ، وأنت تعلم أنه لا يخفى على عاقل أن من ابتدع الإيجاد الأول لا شك في قدرته على إعادته مرة أخرى . إلى غير ذلك من الآيات .
وأما البرهان الثالث منها ، وهو إحياء الأرض بعد موتها المذكور في قوله - تعالى - في سورة " الجاثية " هذه : وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، فإنه يكثر الاستدلال به أيضا على البعث في القرآن العظيم ; لأن من أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الناس بعد موتهم ; لأن الجميع أحياء بعد موت .
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير [ 41 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 5 - 7 ] . وقوله - تعالى - : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير [ 30 \ 50 ] . وقوله - تعالى - : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] .
فقوله - تعالى - : كذلك نخرج الموتى أي نبعثهم من قبورهم أحياء كما أخرجنا تلك الثمرات بعد عدمها ، وأحيينا بإخراجها ذلك البلد الميت ، وقوله - تعالى - : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] يعني تخرجون من قبوركم أحياء بعد الموت . وقوله - تعالى - : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق .
أشار - جل وعلا - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى آيات هذا القرآن العظيم ، وبين لنبيه أنه يتلوها عليه متلبسة بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه .
[ ص: 186 ] وما ذكره - جل وعلا - في آية " الجاثية " هذه - ذكره في آيات أخر بلفظه ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين [ 2 \ 251 - 252 ] . وقوله - تعالى - في " آل عمران " : وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين [ 3 \ 107 - 108 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : تلك - بمعنى هذه .
ومن أساليب اللغة العربية إطلاق الإشارة إلى البعيد على الإشارة إلى القريب ، كقوله : ذلك الكتاب [ 2 \ 2 ] بمعنى : هذا الكتاب . كما حكاه البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي :
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا أنني أنا ذلكا
يعني أنا هذا .
وقد أوضحنا هذا المبحث ، وذكرنا أوجهه في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) - في أول سورة " البقرة " ، وقوله - تعالى - : نتلوها أي نقرؤها عليك .
وأسند - جل وعلا - تلاوتها إلى نفسه ; لأنها كلامه الذي أنزله على رسوله بواسطة الملك ، وأمر الملك أن يتلوه عليه مبلغا عنه - جل وعلا - .
ونظير ذلك قوله - تعالى - : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 16 - 19 ] .
فقوله : فإذا قرأناه ، أي قرأه عليك الملك المرسل به من قبلنا مبلغا عنا ، وسمعته منه ، فاتبع قرآنه ، أي فاتبع قراءته واقرأه كما سمعته يقرؤه .
وقد أشار - تعالى - إلى ذلك في قوله : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (485)
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
صـ 187 إلى صـ 194
وسماعه - صلى الله عليه وسلم - القرآن من الملك المبلغ عن الله كلام الله وفهمه له - هو معنى تنزيله إياه [ ص: 187 ] على قلبه في قوله - تعالى - : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله [ 2 \ 97 ] . وقوله - تعالى - : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية : تلك آيات الله [ 45 \ 6 ] يعني آياته الشرعية الدينية .
واعلم أن لفظ الآية يطلق في اللغة العربية إطلاقين ، وفي القرآن العظيم إطلاقين أيضا .
أما إطلاقاه في اللغة العربية :
فالأول منهما - وهو المشهور في كلام العرب - فهو إطلاق الآية بمعنى العلامة ، وهذا مستفيض في كلام العرب ، ومنه قول نابغة ذبيان :
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار في قوله بعده :
رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
وأما الثاني منهما فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة ، يقولون : جاء القوم بآيتهم ، أي بجماعتهم .
ومنه قول برج بن مسهر :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا
وقوله : بآياتنا ، يعني بجماعتنا .
وأما إطلاقاه في القرآن العظيم : فالأول منهما : إطلاق الآية على الشرعية الدينية ، كآيات هذا القرآن العظيم ، ومنه قوله هنا : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق الآية .
وأما الثاني منهما : فهو إطلاق الآية على الآية الكونية القدرية ، كقوله - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [ 3 \ 190 ] .
أما الآية الكونية القدرية فهي بمعنى الآية اللغوية التي هي العلامة ; لأن الآيات الكونية علامات قاطعة ، على أن خالقها هو الرب المعبود وحده .
[ ص: 188 ] وأما الآية الشرعية الدينية ، فقال بعض العلماء : إنها أيضا من الآية التي هي العلامة ; لأن آيات هذا القرآن العظيم - علامات على صدق من جاء بها ، لما تضمنته من برهان الإعجاز ، أو لأن فيها علامات يعرف بها مبدأ الآيات ومنتهاها .
وقال بعض العلماء : إنها من الآية بمعنى الجماعة ، لتضمنها جملة وجماعة من كلمات القرآن وحروفه .
واختار غير واحد أن أصل الآية أيية - بفتح الهمزة وفتح الياءين بعدها - فاجتمع في الياءين موجبا إعلال ; لأن كلا منهما متحركة حركة أصلية بعد فتح متصل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
من واو وياء بتحريك أصل ألفا أبدل بعد فتح متصل
إن حرك التالي . . . . . . . . . . . إلخ
.
والمعروف في علم التصريف أنه إن اجتمع موجبا إعلال في كلمة واحدة فالأكثر في اللغة العربية تصحيح الأول منهما ، وإعلال الثاني بإبداله ألفا ، كالهوى والنوى والطوى والشوى ، وربما صحح الثاني وأعل الأول ، كغاية وراية ، وآية - على الأصح من أقوال عديدة - ومعلوم أن إعلالهما لا يصح ، ولهذا أشار في الخلاصة بقوله :
وإن لحرفين ذا الإعلال استحق صحح أول وعكس قد يحق
قوله - تعالى - : فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم .
ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن من كفر بالله وبآيات الله ، ولم يؤمن بذلك مع ظهور الأدلة والبراهين على لزوم الإيمان بالله وآياته ; أنه يستبعد أن يؤمن بشيء آخر ; لأنه لو كان يؤمن بحديث لآمن بالله وبآياته ; لظهور الأدلة على ذلك ، وأن من لم يؤمن بآيات الله متوعد بالويل ، وأنه أفاك أثيم ، والأفاك : كثير الإفك ، وهو أسوأ الكذب ، والأثيم : هو مرتكب الإثم بقلبه وجوارحه ، فهو مجرم بقلبه ولسانه وجوارحه - قد ذكره - تعالى - في غير هذا الموضع ، فتوعد المكذبين لهذا القرآن بالويل يوم القيامة ، وبين استبعاد إيمانهم بأي حديث بعد أن لم يؤمنوا بهذا القرآن ، وذلك بقوله في آخر المرسلات : [ ص: 189 ] وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون [ 47 \ 48 - 50 ] . فقوله - تعالى - : ويل يومئذ للمكذبين كقوله هنا : ويل لكل أفاك أثيم .
وقد كرر - تعالى - وعيد المكذبين بالويل في سورة " المرسلات " كما هو معلوم ، وقوله في آخر " المرسلات " : فبأي حديث بعده يؤمنون كقوله هنا في " الجاثية " : فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون .
ومعلوم أن الإيمان بالله على الوجه الصحيح يستلزم الإيمان بآياته ، وأن الإيمان بآياته كذلك يستلزم الإيمان به - تعالى - وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم يدل على أن من يسمع القرآن يتلى ، ثم يصر على الكفر والمعاصي في حالة كونه متكبرا عن الانقياد إلى الحق الذي تضمنته آيات القرآن كأنه لم يسمع آيات الله ، له البشارة يوم القيامة بالعذاب الأليم ، وهو الخلود في النار ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " لقمان " : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب [ 31 \ 7 ] . وقوله - تعالى - في " الحج " : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير [ 22 \ 72 ] . وقوله - تعالى - : ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم [ 47 \ 16 ] . فقوله - تعالى - عنهم : ماذا قال آنفا - يدل على أنهم ما كانوا يبالون بما يتلو عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآيات والهدى .
وقد ذكرنا كثيرا من الآيات المتعلقة بهذا المبحث في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل [ 41 \ 4 - 5 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية : كأن لم يسمعها خففت فيه لفظة ( كأن ) ، ومعلوم أن كأن إذا خففت كان اسمها مقدرا ، وهو ضمير الشأن ، والجملة خبرها ، كما قال في الخلاصة : [ ص: 190 ]
وخففت كأن أيضا فنوي منصوبها وثابتا أيضا روي
وقد قدمنا في أول سورة " الكهف " أن البشارة تطلق غالبا على الإخبار بما يسر ، وأنها ربما أطلقت في القرآن وفي كلام العرب على الإخبار بما يسوء أيضا . وأوضحنا ذلك بشواهده العربية . وقوله في هذه الآية الكريمة : ويل لكل أفاك أثيم قال بعض العلماء : ويل واد في جهنم .
والأظهر أن لفظة ويل كلمة عذاب وهلاك ، وأنها مصدر لا لفظ له من فعله ، وأن المسوغ للابتداء بها مع أنها نكرة كونها في معرض الدعاء عليهم بالهلاك .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون .
قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم - : يؤمنون ، بياء الغيبة .
وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وشعبة عن عاصم - : تؤمنون ، بتاء الخطاب .
وقرأه ورش عن نافع ، والسوسي عن أبي عمرو - : يومنون ، بإبدال الهمزة واوا وصلا ووقفا .
وقرأه حمزة بإبدال الهمزة واوا في الوقف دون الوصل .
والباقون بتحقيق الهمزة مطلقا .
قوله - تعالى - : وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة توعد الأفاك الأثيم بالويل ، والبشارة بالعذاب الأليم .
وقد قدمنا قريبا أن من صفاته أنه إذا سمع آيات الله تتلى عليه أصر مستكبرا كأن لم يسمعها ، وذكر في هذه الآية الكريمة أنه إذا علم من آيات الله شيئا اتخذها هزوا ، أي مهزوءا بها ، مستخفا بها ، ثم توعده على ذلك بالعذاب المهين .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفار يتخذون آيات الله هزوا ، وأنهم سيعذبون على ذلك يوم القيامة - قد بينه - تعالى - في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في آخر [ ص: 191 ] " الكهف " : ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا [ 18 \ 106 ] . وقوله - تعالى - في " الكهف " أيضا : ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه الآية [ 18 \ 56 - 35 ] . وقوله - تعالى - في سورة " الجاثية " هذه : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا [ 45 \ 34 - 35 ] .
وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة وحفص عن عاصم - : هزؤا بضم الزاي بعدها همزة محققة .
وقرأه حفص عن عاصم بضم الزاي وإبدال الهمزة واوا .
وقرأه حمزة هزءا ، بسكون الزاي بعدها همزة محققة في حالة الوصل .
وأما في حالة الوقف ، فعن حمزة نقل حركة الهمزة إلى الزاي ، فتكون الزاي مفتوحة بعدها ألف ، وعنه إبدالها واوا محركة بحركة الهمزة .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لهم عذاب مهين أي لأن عذاب الكفار الذين كانوا يستهزءون بآيات الله لا يراد به إلا إهانتهم وخزيهم وشدة إيلامهم بأنواع العذاب .
وليس فيه تطهير ولا تمحيص لهم ، بخلاف عصاة المسلمين ، فإنهم وإن عذبوا فسيصيرون إلى الجنة بعد ذلك العذاب .
فليس المقصود بعذابهم مجرد الإهانة ، بل ليئولوا بعده إلى الرحمة ودار الكرامة .
قوله - تعالى - : من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم .
قوله - تعالى - : من ورائهم جهنم قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الشواهد العربية في سورة " إبراهيم " في الكلام على قوله - تعالى - : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم . الآية [ 14 \ 15 - 16 ] . وبينا هناك أن أصح الوجهين أن ( وراء ) بمعنى أمام .
فمعنى من ورائه جهنم أي أمامه جهنم يصلاها يوم القيامة ، كما قال - تعالى - : [ ص: 192 ] وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] أي أمامهم ملك .
وذكرنا هناك الشواهد العربية على إطلاق وراء بمعنى أمام ، وبينا أن هذا هو التحقيق في معنى الآية ، وكذلك آية " الجاثية " هذه ، فقوله - تعالى - : من ورائهم جهنم أي أمامهم جهنم يصلونها يوم القيامة .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء .
أوضح فيه أن ما كسبه الكفار في دار الدنيا من الأموال والأولاد لا يغني عنهم شيئا يوم القيامة ، أي لا ينفعهم بشيء ، فلا يجلب لهم بسببه نفع ولا يدفع عنهم بسببه ضر ، وإنما اتخذوه من الأولياء في دار الدنيا من دون الله ، كالمعبودات التي كانوا يعبدونها ، ويزعمون أنها شركاء لله - لا ينفعهم يوم القيامة أيضا بشيء .
وهاتان المسألتان اللتان تضمنتهما هذه الآية الكريمة ، قد أوضحهما الله في آيات كثيرة من كتابه .
أما الأولى منهما ، وهي كونهم لا يغني عنهم ما كسبوا شيئا - فقد أوضحها في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب [ 111 \ 1 - 2 ] . وقوله - تعالى - : وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة الآية [ 104 \ 2 - 4 ] . وقوله - تعالى - : قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 39 \ 50 ] . وقوله - تعالى - : ياليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه الآية [ 69 \ 27 - 28 ] . وقوله - تعالى - : قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون [ 7 \ 48 ] . وقوله - تعالى - عن إبراهيم : ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون الآية [ 26 \ 87 - 88 ] . وقوله - تعالى - : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الآية [ 34 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار [ 3 \ 10 ] . وقوله - تعالى - : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 3 \ 116 ] . وقوله - تعالى - في " المجادلة " : [ ص: 193 ] اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا الآية [ 58 \ 16 - 17 ] .
والآيات بمثل هذا كثيرة جدا ، وقد قدمنا كثيرا منها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
وأما الثانية منهما ، وهي كونهم لا تنفعهم المعبودات التي اتخذوها أولياء من دون الله - فقد أوضحها - تعالى - في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " هود " : وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب [ 11 \ 101 ] . وقوله - تعالى - : فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون [ 46 \ 28 ] . وقوله - تعالى - : وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون [ 28 \ 64 ] . وقوله - تعالى - : ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا [ 18 \ 52 ] . وقوله - تعالى - : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء الآية [ 46 \ 5 - 6 ] . وقوله - تعالى - : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 13 - 14 ] . وقوله - تعالى - : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 81 - 82 ] . وقوله - تعالى - : وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 29 \ 25 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ، الأولياء جمع ولي .
والمراد بالأولياء هنا : المعبودات التي يوالونها بالعبادة من دون الله ، وما في قوله : وما كسبوا و ما اتخذوا - موصولة - وهي في محل رفع في الموضعين ; لأن ما الأولى فاعل يغني ، وما الثانية معطوفة عليها ، وزيادة لا قبل المعطوف على منفي - معروفة . وقوله : ولا يغني أي لا ينفع . والظاهر أن أصله من الغناء - بالفتح والمد - وهو النفع .
[ ص: 194 ] ومنه قول الشاعر :
وقل غناء عنك مال جمعته إذا صار ميراثا وواراك لاحد
فقوله : قل غناء ، أي قل نفعا . وقول الآخر
: قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا
فقوله : الغناء أي النفع .
والبيت من شواهد إعمال المصدر المعرف بالألف واللام ; لأن قوله : قول الأحبة ، فاعل قوله : الغناء . وأما الغناء - بالكسر والمد - فهو الألحان المطربة .
وأما الغنى - بالكسر والقصر - فهو ضد الفقر .
وأما الغنى - بالفتح والقصر - فهو الإقامة ، من قولهم : غني بالمكان - بكسر النون - يغنى - بفتحها - غنى - بفتحتين - إذا أقام به .
ومنه قوله - تعالى - : كأن لم تغن بالأمس [ 10 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : كأن لم يغنوا فيها [ 7 \ 92 ] كأنهم لم يقيموا فيها .
وأما الغنى - بالضم والقصر - فهو جمع غنية ، وهي ما يستغني به الإنسان .
وأما الغناء - بالمد والضم - فلا أعلمه في العربية .
وهذه اللغات التي ذكرنا في مادة غني كنت تلقيتها في أول شبابي في درس من دروس الفقه لقننيها شيخي الكبير أحمد الأفرم بن محمد المختار الجكني ، وذكر لي بيتي رجز في ذلك لبعض أفاضل علماء القطر ، وهما قوله :
وضد فقر كإلى ، وكسحاب النفع ، والمطرب أيضا ككتاب
وكفتى إقامة وكهنا جمع لغنية لما به الغنى
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (486)
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
صـ 195 إلى صـ 202
قوله - تعالى - : هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم .
الإشارة في قوله : هذا هدى راجعة للقرآن العظيم المعبر عنه بآيات الله في قوله : تلك آيات الله [ 45 \ 6 ] . وقوله : فبأي حديث بعد الله وآياته الآية [ 45 \ 6 ] . [ ص: 195 ] وقوله : يسمع آيات الله تتلى عليه [ 45 \ 8 ] . وقوله : وإذا علم من آياتنا شيئا [ 45 \ 9 ] .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن هذا القرآن هدى ، وأن من كفر بآياته له العذاب الأليم - جاء موضحا في غير هذا الموضع .
أما كون القرآن هدى ، فقد ذكره - تعالى - في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 52 ] . وقوله - تعالى - : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين [ 16 \ 89 ] . وقوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان [ 2 \ 185 ] . وقوله : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 1 - 2 ] . وقوله - تعالى - : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء [ 41 \ 44 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وأما كون من كفر بالقرآن يحصل له بسبب ذلك العذاب الأليم - فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه الآية [ 11 \ 17 ] . وقوله - تعالى - : وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا [ 20 \ 99 - 101 ] . وقوله - تعالى - : ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا [ 18 \ 106 ] . والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
وقد قدمنا في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : وأما ثمود فهديناهم الآية [ 41 \ 17 ] . وغير ذلك من المواضع - أن الهدى يطلق في القرآن إطلاقا عاما ، بمعنى أن الهدى هو البيان والإرشاد وإيضاح الحق ، كقوله : وأما ثمود فهديناهم أي بينا لهم الحق وأوضحناه ، وأرشدناهم إليه وإن لم يتبعوه ، وكقوله : هدى للناس [ 2 \ 185 ] . وقوله هنا : هذا هدى - وأنه يطلق أيضا في القرآن بمعناه الخاص ، وهو التفضل بالتوفيق إلى طريق الحق والاصطفاء ، كقوله : هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] . وقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء [ 41 \ 44 ] . وقوله : والذين اهتدوا زادهم هدى [ ص: 196 ] [ 47 \ 17 ] . وقوله : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وقد أوضحنا في سورة " فصلت " أن معرفة إطلاق الهدى المذكورين ، يزول بها الإشكال الواقع في آيات من كتاب الله .
والهدى مصدر هداه على غير قياس ، وهو هنا من جنس النعت بالمصدر ، وبينا فيما مضى مرارا أن تنزيل المصدر منزلة الوصف إما على حذف مضاف ، وإما على المبالغة .
وعلى الأول فالمعنى : هذا القرآن ذو هدى ، أي يحصل بسببه الهدى لمن اتبعه ، كقوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
وعلى الثاني فالمعنى أن المراد المبالغة في اتصاف القرآن بالهدى حتى أطلق عليه أنه هو نفس الهدى .
وقوله في هذه الآية الكريمة : " لهم عذاب من رجز أليم " أصح القولين فيه أن المراد بالرجز العذاب ، ولا تكرار في الآية ; لأن العذاب أنواع متفاوتة ، والمعنى : لهم عذاب من جنس العذاب الأليم ، والأليم معناه المؤلم . أي : الموصوف بشدة الألم وفظاعته .
والتحقيق إن شاء الله : أن العرب تطلق الفعيل وصفا بمعنى المفعل ، فما يذكر عن الأصمعي من أنه أنكر ذلك إن صح عنه فهو غلط منه ; لأن إطلاق الفعيل بمعنى المفعل معروف في القرآن العظيم وفي كلام العرب ، ومن إطلاقه في القرآن العظيم قوله تعالى عذاب أليم [ 2 \ 104 ] أي مؤلم ، وقوله - تعالى - : بديع السماوات والأرض [ 2 \ 117 ] أي مبدعهما ، وقوله - تعالى - : إن هو إلا نذير لكم الآية [ 34 \ 46 ] أي منذر لكم ، ونظير ذلك من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب :
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
فقوله : الداعي السميع ، يعني الداعي المسمع . وقوله أيضا :
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
أي موجع . وقول غيلان بن عقبة : [ ص: 197 ]
ويرفع من صدور شمردلات يصك وجوهها وهج أليم
أي مؤلم . وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير ، وحفص عن عاصم : من رجز أليم ، بخفض أليم على أنه نعت لرجز .
وقرأه ابن كثير ، وحفص عن عاصم : من رجز أليم ، برفع أليم على أنه نعت لعذاب .
قوله - تعالى - : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا الآية [ 16 \ 14 ] . وفي سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : والذي خلق الأزواج كلها إلى قوله : وما كنا له مقرنين [ 43 \ 12 - 13 ] . قوله - تعالى - : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم الآية [ 17 \ 7 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : وفضلناهم على العالمين [ 45 \ 16 ] .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه فضل بني إسرائيل على العالمين ، وذكر هذا المعنى في موضع آخر من كتابه ، كقوله - تعالى - في سورة " البقرة " : يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين [ 2 \ 47 - 122 ] في الموضعين . وقوله في " الدخان " : ولقد اخترناهم على علم على العالمين [ 44 \ 32 ] . وقوله في " الأعراف " : قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين [ 7 \ 140 ] .
ولكن الله - جل وعلا - بين أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير من بني إسرائيل وأكرم على الله ، كما صرح بذلك في قوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف الآية [ ص: 198 ] [ 3 \ 110 ] . فـ ( خير ) صيغة تفضيل ، والآية نص صريح في أنهم خير من جميع الأمم ، بني إسرائيل وغيرهم .
ومما يزيد ذلك إيضاحا حديث معاوية بن حيدة القشيري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أمته : " أنتم توفون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله " : وقد رواه عنه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم ، وهو حديث مشهور .
وقال ابن كثير : حسنه الترمذي ، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد نحوه .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ولا شك في صحة معنى حديث معاوية بن حيدة المذكور - رضي الله عنه - ; لأنه يشهد له النص المعصوم المتواتر في قوله - تعالى - : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ 3 \ 110 ] وقد قال - تعالى - : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس [ 2 \ 143 ] . وقوله : وسطا أي خيارا عدولا .
واعلم أن ما ذكرنا من كون أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من بني إسرائيل ، كما دلت عليه الآية والحديث المذكوران وغيرهما من الأدلة - لا يعارض الآيات المذكورات آنفا في تفضيل بني إسرائيل .
لأن ذلك التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
والمعدوم في حال عدمه ليس بشيء حتى يفضل أو يفضل عليه .
ولكنه - تعالى - بعد وجود أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - صرح بأنها خير الأمم .
وهذا واضح ; لأن كل ما جاء في القرآن من تفضيل بني إسرائيل - إنما يراد به ذكر أحوال سابقة .
لأنهم في وقت نزول القرآن كفروا به وكذبوا ، كما قال - تعالى - : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين [ 2 \ 89 ] .
ومعلوم أن الله لم يذكر لهم في القرآن فضلا إلا ما يراد به أنه كان في زمنهم السابق ، لا في وقت نزول القرآن .
ومعلوم أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تكن موجودة في ذلك الزمن السابق الذي هو ظرف [ ص: 199 ] تفضيل بني إسرائيل ، وأنها بعد وجودها ، صرح الله بأنها هي خير الأمم ، كما أوضحنا . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها .
وقد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم [ 43 \ 43 ] .
قوله - تعالى - : ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون .
نهى الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون .
وقد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] - أنه - جل وعلا - يأمر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وينهاه ، ليشرع بذلك الأمر والنهي لأمته ، كقوله هنا : ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون [ 45 \ 18 ] .
ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتبع أهواء الذين لا يعلمون ، ولكن النهي المذكور فيه التشريع لأمته ، كقوله - تعالى - : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : فلا تطع المكذبين [ 68 \ 8 ] . وقوله : ولا تطع كل حلاف مهين [ 68 \ 10 ] . وقوله : ولا تجعل مع الله إلها آخر [ 17 \ 39 ] . وقوله : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقد بينا الأدلة القرآنية على أنه - صلى الله عليه وسلم - يخاطب ، والمراد به التشريع لأمته ، في آية " بني إسرائيل " المذكورة .
وما تضمنته آية " الجاثية " هذه من النهي عن اتباع أهوائهم - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " الشورى " : ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب [ 42 \ 15 ] . وقوله - تعالى - في " الأنعام " : فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون [ 6 \ 150 ] . وقوله - تعالى - في " القصص " : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 28 \ 50 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
[ ص: 200 ] وقد بين - تعالى - في " قد أفلح المؤمنون " أن الحق لو اتبع أهواءهم لفسد العالم ، وذلك في قوله - تعالى - : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ 23 \ 71 ] .
والأهواء : جمع هوى بفتحتين وأصله مصدر ، والهمزة فيه مبدلة من ياء ، كما هو معلوم .
قوله - تعالى - : وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض .
قد قدمنا في هذا الكتاب المبارك مرارا أن الظلم في لغة العرب أصله وضع الشيء في غير موضعه .
وأن أعظم أنواعه الشرك بالله ; لأن وضع العبادة في غير من خلق ورزق هو أشنع أنواع وضع الشيء في غير موضعه .
ولذا كثر في القرآن العظيم إطلاق الظلم بمعنى الشرك ، كقوله - تعالى - : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] . وقوله - تعالى - : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] . وقوله - تعالى - : ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا [ 25 \ 27 ] . وقوله - تعالى - عن لقمان : يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] . وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر قوله - تعالى - : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ 6 \ 82 ] بأن معناه : ولم يلبسوا إيمانهم بشرك .
وما تضمنته آية " الجاثية " هذه من أن الظالمين بعضهم أولياء بعض - جاء مذكورا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في آخر " الأنفال " : والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير [ 8 \ 73 ] . وقوله - تعالى - : وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون [ 6 \ 129 ] . وقوله - تعالى - : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات [ 2 \ 257 ] . وقوله - تعالى - : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله الآية [ 7 ] . وقوله - تعالى - : فقاتلوا أولياء الشيطان الآية [ 4 \ 76 ] . وقوله - تعالى - : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه [ 3 \ 175 ] . وقوله : [ ص: 201 ] إنما سلطانه على الذين يتولونه الآية [ 16 \ 100 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : والله ولي المتقين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ولي المتقين ، وهم الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه .
وذكر في موضع آخر أن المتقين أولياؤه ، فهو وليهم وهم أولياؤه ; لأنهم يوالونه بالطاعة والإيمان ، وهو يواليهم بالرحمة والجزاء ، وذلك في قوله - تعالى - : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
ثم بين المراد بأوليائه في قوله : الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 10 \ 63 ] . فقوله - تعالى - : وكانوا يتقون كقوله في آية " الجاثية " هذه : والله ولي المتقين .
وقد بين - تعالى - في آيات من كتابه أنه ولي المؤمنين ، وأنهم أولياؤه ، كقوله - تعالى - : إنما وليكم الله ورسوله الآية [ 5 \ 55 ] . وقوله - تعالى - : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور [ 2 \ 257 ] . وقوله - تعالى - : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا الآية [ 47 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين [ 7 \ 196 ] . وقوله - تعالى - في الملائكة : قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم الآية [ 34 \ 41 ] . إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه بأبسط من هذا .
قوله - تعالى - : هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون .
الإشارة في قوله : هذا للقرآن العظيم .
والبصائر جمع بصيرة ، والمراد بها البرهان القاطع الذي لا يترك في الحق لبسا ، كقوله - تعالى - : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة [ 12 \ 108 ] أي على علم ودليل واضح .
والمعنى أن هذا القرآن براهين قاطعة ، وأدلة ساطعة ، على أن الله هو المعبود وحده ، وأن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - حق .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن القرآن بصائر للناس - جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في أخريات " الأعراف " : [ ص: 202 ] قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 203 ] . وقوله - تعالى - في " الأنعام " : قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ [ 6 \ 104 ] .
وما تضمنته آية " الجاثية " من أن القرآن بصائر وهدى ورحمة ، ذكر - تعالى - مثله في سورة " القصص " عن كتاب موسى الذي هو التوراة في قوله - تعالى - : ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون [ 28 \ 43 ] .
وما تضمنته آية " الجاثية " هذه من كون القرآن هدى ورحمة - جاء موضحا في غير هذا الموضع .
أما كونه هدى فقد ذكرنا الآيات الموضحة له قريبا .
وأما كونه رحمة فقد ذكرنا الآيات الموضحة له في " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا [ 18 \ 1 ] . وفي أولها في الكلام على قوله - تعالى - : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [ 18 \ 1 ] . وفي " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها [ 35 \ 2 ] . وفي " الزخرف " في الكلام على قوله : أهم يقسمون رحمة ربك الآية [ 43 \ 32 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لقوم يوقنون أي لأنهم هم المنتفعون به .
وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي معروف ، وهو أن المبتدأ الذي هو قوله : هذا اسم إشارة إلى مذكر مفرد ، والخبر الذي هو بصائر جمع مكسر مؤنث .
فيقال : كيف يسند الجمع المؤنث المكسر إلى المفرد المذكر ؟ والجواب : أن مجموع القرآن كتاب واحد ، تصح الإشارة إليه بهذا ، وهذا الكتاب الواحد يشتمل على براهين كثيرة ، فصح إسناد البصائر إليه لاشتماله عليها كما لا يخفى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (487)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 203 إلى صـ 210
قوله - تعالى - : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة ( ص ) في الكلام على قوله - تعالى - : [ ص: 203 ] أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] .
قوله - تعالى - : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه .
قد أوضحنا معناه في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا [ 25 \ 43 ] .
قوله - تعالى - : وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة .
قد أوضحنا معناه في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من إنكار الكفار للبعث بعد الموت - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - عنهم : وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] . وقوله : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين [ 23 \ 35 - 37 ] . وقوله - تعالى - عنهم : أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد [ 50 \ 3 ] . وقوله - تعالى - عنهم : أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة [ 79 \ 10 - 12 ] . وقوله - تعالى - : قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقد قدمنا البراهين القاطعة القرآنية على تكذيبهم في إنكارهم البعث ، وبينا دلالتها على أن البعث واقع لا محالة - في سورة " البقرة " ، وسورة " النحل " ، وسورة " الحج " ، وأول سورة " الجاثية " هذه ، وأحلنا على ذلك مرارا .
وبينا في سورة " الفرقان " الآيات الموضحة أن إنكار البعث كفر بالله ، والآيات التي [ ص: 204 ] فيها وعيد منكري البعث بالنار في الكلام على قوله - تعالى - : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .
قوله - تعالى - : ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون [ 40 \ 78 ] .
قوله - تعالى - : كل أمة تدعى إلى كتابها الآية .
قد قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه [ 18 \ 49 ] .
قوله - تعالى - : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا [ 19 \ 79 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " طه " في الكلام على قوله - تعالى - : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما [ 20 \ 115 ] .
قوله - تعالى - : فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون .
قد أوضحنا معنى قوله : يستعتبون ، في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون [ 16 \ 84 ] .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فاليوم لا يخرجون منها - قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون [ 43 \ 77 ] .
قوله - تعالى - : فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين .
أتبع الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة حمده - جل وعلا - بوصفه بأنه رب السماوات [ ص: 205 ] والأرض ورب العالمين ، وفي ذلك دلالة على أن رب السماوات والأرض ، ورب العالمين - مستحق لكل حمد ولكل ثناء جميل .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - في سورة " الفاتحة " : الحمد لله رب العالمين [ 1 \ 2 ] . وقوله - تعالى - في آخر " الزمر " : وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين [ 39 \ 75 ] . وقوله - تعالى - : فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ 6 \ 45 ] . وقوله - تعالى - في أول " الأنعام " : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [ 6 \ 1 ] . وقوله - تعالى - في أول " سبإ " : الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير [ 34 \ 1 ] . وقوله في أول " فاطر " : الحمد لله فاطر السماوات والأرض الآية [ 35 \ 1 ] .
قوله - تعالى - : وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن له الكبرياء في السماوات والأرض ، يعني أنه المختص بالعظمة والكمال والجلال والسلطان في السماوات والأرض ; لأنه هو معبود أهل السماوات والأرض ، الذي يلزمهم تكبيره وتعظيمه وتمجيده ، والخضوع والذل له .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما [ 43 \ 84 - 85 ] .
فقوله : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله معناه أنه هو وحده الذي يعظم ويعبد في السماوات والأرض ، ويكبر ويخضع له ويذل .
وقوله - تعالى - : وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [ 30 \ 27 ] .
فقوله : وله المثل الأعلى في السماوات والأرض معناه أن له الوصف الأكمل الذي هو أعظم الأوصاف وأكملها وأجلها في السماوات والأرض .
وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله يقول : العظمة إزاري [ ص: 206 ] والكبرياء ردائي ، فمن نازعني في واحد منهما أسكنته ناري " .
[ ص: 207 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
قَوْلُهُ - تَعَالَى - : حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ .
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " ، وَقَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِ : تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الزُّمَرِ " .
قوله - تعالى - : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى .
صيغة الجمع في قوله : خلقنا - للتعظيم .
وقوله : إلا بالحق ، أي خلقا متلبسا بالحق .
والحق ضد الباطل ، ومعنى كون خلقه للسماوات والأرض متلبسا بالحق أنه خلقهما لحكم باهرة ، ولم يخلقهما باطلا ، ولا عبثا ، ولا لعبا ، فمن الحق الذي كان خلقهما متلبسا به - إقامة البرهان على أنه هو الواحد المعبود وحده - جل وعلا - كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [ 2 \ 163 ] ثم أقام البرهان على أنه هو الإله الواحد بقوله بعده : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] .
فتلبس خلقه للسماوات والأرض بالحق واضح جدا ، من قوله - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون بعد قوله : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو ; لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله - هو أعظم الحق .
وكقوله - تعالى - : [ ص: 208 ] ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 21 - 22 ] ; لأن قوله : اعبدوا ربكم فيه معنى الإثبات من لا إله إلا الله .
وقوله : فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون يتضمن معنى النفي منها على أكمل وجه وأتمه .
وقد أقام الله - جل وعلا - البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما - في قوله : الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء الآية .
وبذلك تعلم أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بأعظم الحق ، الذي هو إقامة البرهان القاطع ، على توحيده - جل وعلا - ومن كثرة الآيات القرآنية الدالة على إقامة هذا البرهان القاطع المذكور على توحيده - جل وعلا - علم من استقراء القرآن أن العلامة الفارقة من يستحق العبادة ، وبين من لا يستحقها ، هي كونه خالقا لغيره ، فمن كان خالقا لغيره ، فهو المعبود بحق ، ومن كان لا يقدر على خلق شيء ، فهو مخلوق محتاج ، لا يصح أن يعبد بحال .
فالآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا ، كقوله - تعالى - في آية " البقرة " المذكورة آنفا : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية .
فقوله : الذي خلقكم يدل على أن المعبود هو الخالق وحده ، وقوله - تعالى - : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] . يعني وخالق كل شيء هو المعبود وحده .
وقد أوضح - تعالى - هذا في سورة " النحل " ; لأنه - تعالى - لما ذكر فيها البراهين القاطعة على توحيده - جل وعلا - ، في قوله : خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون إلى قوله : وعلامات وبالنجم هم يهتدون [ 16 \ 3 - 16 ] - أتبع ذلك بقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] .
وذلك واضح جدا في أن من يخلق غيره هو المعبود ، وأن من لا يخلق شيئا لا يصح أن يعبد .
[ ص: 209 ] ولهذا قال - تعالى - قريبا منه : والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 16 \ 20 ] . وقال - تعالى - في " الأعراف " : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] . وقال - تعالى - في " الحج " : ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له [ 22 \ 73 ] أي ومن لا يقدر أن يخلق شيئا لا يصح أن يكون معبودا بحال ، وقال - تعالى - : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى الآية [ 87 \ 1 - 2 ] .
ولما بين - تعالى - في أول سورة " الفرقان " صفات من يستحق أن يعبد ، ومن لا يستحق ذلك - قال في صفات من يستحق العبادة : الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ 25 \ 2 ] .
وقال في صفات من لا يصح أن يعبد : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون الآية [ 25 \ 3 ] .
والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وكل تلك الآيات تدل دلالة واضحة على أنه - تعالى - ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بالحق .
وقد بين - جل وعلا - أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ، خلقا متلبسا به - تعليمه خلقه أنه - تعالى - على كل شيء قدير ، وأنه قد أحاط بكل شيء علما ، وذلك في قوله - تعالى - : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ 65 \ 12 ] .
فلام التعليل في قوله : لتعلموا ، متعلقة بقوله : خلق سبع سماوات الآية ، وبه تعلم أنه ما خلق السماوات السبع والأرضين السبع ، وجعل الأمر يتنزل بينهن - إلا خلقا متلبسا بالحق .
ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقا متلبسا به ، هو تكليف الخلق وابتلاؤهم أيهم أحسن عملا ، ثم جزاؤهم على أعمالهم ، كما قال - تعالى - في أول [ ص: 210 ] سورة " هود " : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 11 \ 7 ] .
فلام التعليل في قوله : ليبلوكم ، متعلقة بقوله : خلق السماوات والأرض وبه تعلم أنه ما خلقهما إلا خلقا متلبسا بالحق .
ونظير ذلك قوله - تعالى - في أول " الكهف " : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] . وقوله - تعالى - في أول " الملك " : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] .
ومما يوضح أنه ما خلق السماوات والأرض إلا خلقا متلبسا بالحق - قوله - تعالى - في آخر " الذاريات " : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ 51 \ 56 - 57 ] .
سواء قلنا : إن معنى إلا ليعبدون ، أي لآمرهم بعبادتي فيعبدني السعداء منهم ; لأن عبادتهم يحصل بها تعظيم الله وطاعته والخضوع له ، كما قال - تعالى - : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] . وقال - تعالى - : فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون [ 41 \ 38 ] .
أو قلنا : إن معنى إلا ليعبدون ، أي إلا ليقروا لي بالعبودية ، ويخضعوا ويذعنوا لعظمتي ; لأن المؤمنين يفعلون ذلك طوعا ، والكفار يذعنون لقهره وسلطانه - تعالى - كرها .
ومعلوم أن حكمة الابتلاء والتكليف لا تتم إلا بالجزاء على الأعمال .
وقد بين - تعالى - أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض خلقا متلبسا به - جزاء الناس بأعمالهم ، كقوله - تعالى - في " النجم " : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] .
فقوله - تعالى - : ولله ما في السماوات وما في الأرض أي هو خالقها ومن فيهما ليجزي الذين أساءوا بما عملوا الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (488)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 211 إلى صـ 218
ويوضح ذلك قوله - تعالى - في " يونس " : [ ص: 211 ] إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 10 \ 4 ] .
ولما ظن الكفار أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، لا لحكمة تكليف وحساب وجزاء - هددهم بالويل من النار بسبب ذلك الظن السيئ ، في قوله - تعالى - : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] .
وقد نزه - تعالى - نفسه عن كونه خلق الخلق عبثا ، لا لتكليف وحساب وجزاء ، وأنكر ذلك على من ظنه ، في قوله - تعالى - : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] .
فقوله : ( فتعالى الله ) أي تنزه وتعاظم وتقدس عن أن يكون خلقهم لا لحكمة تكليف وبعث ، وحساب وجزاء .
وهذا الذي نزه - تعالى - عنه نفسه - نزهه عنه أولو الألباب ، كما قال - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم إلى قوله : ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار [ 3 \ 190 - 191 ] . فقوله عنهم : سبحانك أي تنزيها لك عن أن تكون خلقت هذا الخلق باطلا ، لا لحكمة تكليف وبعث ، وحساب وجزاء .
وقوله - جل وعلا - في آية " الأحقاف " هذه : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق - يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلا ، ولا لعبا ولا عبثا .
وهذا المفهوم جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا الآية [ 38 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : ربنا ما خلقت هذا باطلا [ 3 \ 191 ] . وقوله - تعالى - : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق [ 44 \ 38 - 39 ] .
وقوله - تعالى - في آية " الأحقاف " هذه : وأجل مسمى معطوف على قوله : بالحق أي ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بالحق ، وبتقدير [ ص: 212 ] أجل مسمى ، أي وقت معين محدد ينتهي إليه أمد السماوات والأرض ، وهو يوم القيامة كما صرح الله بذلك في أخريات " الحجر " في قوله - تعالى - : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية الآية [ 15 \ 85 ] .
فقوله في " الحجر " : وإن الساعة لآتية بعد قوله : إلا بالحق يوضح معنى قوله في " الأحقاف " : إلا بالحق وأجل مسمى .
وقد بين - تعالى - في آيات من كتابه أن للسماوات والأرض أمدا ينتهي إليه أمرهما ، كما قال - تعالى - : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [ 39 \ 67 ] . وقال - تعالى - : يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب [ 21 \ 104 ] . وقوله - تعالى - : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات [ 14 \ 48 ] . وقوله : وإذا السماء كشطت [ 81 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : يوم ترجف الأرض والجبال الآية [ 73 \ 14 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : والذين كفروا عما أنذروا معرضون .
ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن الكفار معرضون عما أنذرتهم به الرسل - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 2 \ 6 ] . وقوله في " يس " : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 36 \ 10 ] . وقوله - تعالى - : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [ 6 \ 4 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
والإعراض عن الشيء : الصدود عنه ، وعدم الإقبال إليه .
قال بعض العلماء : وأصله من العرض - بالضم - وهو الجانب; لأن المعرض عن الشي يوليه بجانب عنقه صادا عنه .
والإنذار : الإعلام المقترن بتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا .
وقد أوضحنا معاني الإنذار في أول سورة " الأعراف " .
وما في قوله : عما أنذروا قال بعض العلماء : هي موصولة ، والعائد محذوف ، أي الذين كفروا معرضون عن الذي أنذروه ، أي خوفوه من عذاب يوم [ ص: 213 ] القيامة . وحذف العائد المنصوب بفعل أو وصف مضطرد كما هو معلوم .
وقال بعض العلماء : هي مصدرية ، أي والذين كفروا معرضون عن الإنذار ، ولكليهما وجه .
قوله - تعالى - : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين .
قد ذكرنا قريبا أن قوله : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [ 15 \ 85 ] - يتضمن البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله . وأن العلامة الفارقة بين المعبود بحق ، وبين غيره هي كونه خالقا . وأول سورة " الأحقاف " هذه يزيد ذلك إيضاحا ; لأنه ذكر من صفات المعبود بحق أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق ، وذكر من المعبودات الأخرى التي عبادتها كفر مخلد في النار أنها لا تخلق شيئا .
فقوله - تعالى - : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله [ 46 \ 4 ] أي هذه المعبودات التي تعبدونها من دون الله ، أروني ماذا خلقوا من الأرض .
فقوله : أروني - يراد به التعجيز والمبالغة في عدم خلقهم شيئا .
وعلى أن ما استفهامية ، و ذا موصولة - فالمعنى أروني ما الذي خلقوه من الأرض . وعلى أن ما و ذا بمنزلة كلمة واحدة يراد بها الاستفهام - فالمعنى : أروني أي شيء خلقوه من الأرض ؟
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن من لم يخلق شيئا في الأرض ولم يكن له شرك في السماوات ، لا يصح أن يكون معبودا بحال - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " فاطر " : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا الآية [ 35 \ 40 ] . وقوله في " لقمان " : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه [ 31 \ 11 ] . وقوله في " سبأ " : قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير [ 34 \ 22 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة ، وقد قدمنا طرفا منها قريبا .
[ ص: 214 ] وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ائتوني بكتاب من قبل هذا - قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون [ 43 \ 21 ] .
قوله - تعالى - : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الجاثية " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء [ 45 \ 10 ] . وفي سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا [ 19 \ 81 ] .
قوله - تعالى - : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا قرئت عليهم آيات هذا القرآن العظيم ، الذي هو الحق ، ادعوا أنها سحر مبين واضح .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من افترائهم على القرآن أنه سحر ، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ساحر - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " سبأ " : وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين [ 34 \ 43 ] . وقوله - تعالى - في " الزخرف " : ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون [ 43 ] . وقوله - تعالى - : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم إلى قوله : أفتأتون السحر وأنتم تبصرون [ 21 \ 2 - 3 ] . وقوله - تعالى - : ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 11 \ 7 ] .
والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله - تعالى - أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا .
أم هذه هي المنقطعة ، وقد قدمنا أنها تأتي بمعنى الإضراب ، وتأتي بمعنى همزة الإنكار ، وتأتي بمعناهما معا ، وهو الظاهر في هذه الآية الكريمة .
فأم فيها على ذلك تفيد معنى الإضراب والإنكار معا ، فهو بمعنى دع هذا ، واسمع قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه أن محمدا افترى هذا القرآن ، وقد كذبهم الله في [ ص: 215 ] هذه الدعوى في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله الآية [ 10 \ 38 ] . وقوله : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات [ 11 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه [ 10 \ 37 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا أي إن كنت افتريت هذا القرآن ، على سبيل الفرض .
والتقدير : عاجلني الله بعقوبته الشديدة ، وأنتم لا تملكون لي منه شيئا ، أي لا تقدرون أن تدفعوا عني عذابه إن أراد أن يعذبني على الافتراء ، فكيف أفتريه لكم ، وأنتم لا تقدرون على دفع عذاب الله عني ؟
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين [ 69 \ 44 - 47 ] .
فقوله - تعالى - في آية " الحاقة " هذه : ولو تقول علينا بعض الأقاويل كقوله في آية " الأحقاف " : قل إن افتريته .
وقوله في " الحاقة " : فما منكم من أحد عنه حاجزين يوضح معنى قوله فلا تملكون لي من الله شيئا ; لأن معنى قوله : فما منكم من أحد عنه حاجزين ، أنهم لا يقدرون على أن يحجزوا عنه ، أي يدفعوا عنه عقاب الله له بالقتل ، لو تقول عليه بعض الأقاويل .
وذلك هو معنى قوله : فلا تملكون لي من الله شيئا أي لا تقدرون على دفع عذابه عني .
ونظير ذلك في المعنى قوله - تعالى - : قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [ 5 \ 17 ] . وقوله - تعالى - : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا [ 5 \ 41 ] .
وما تضمنته آية " الأحقاف " هذه وآية " الحاقة " المبينة لها ، من أنه لو افترى على الله [ ص: 216 ] أو تقول عليه عاجله بالعذاب ، وأنه لا يقدر أحد على دفعه عنه - جاء معناه في بعض الآيات ، كقوله - تعالى - في " يونس " : قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] أي إني أخاف - إن عصيت ربي بالافتراء عليه بتبديل قرآنه أو الإتيان بقرآن غيره - عذاب يوم عظيم .
وذكر الله - تعالى - مثل هذا عن بعض الرسل في آيات أخر ، كقوله عن صالح : قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته الآية [ 11 \ 63 ] . وقوله - تعالى - عن نوح : قوم من ينصرني من الله إن طردتهم الآية ] .
قوله - تعالى - : قل ما كنت بدعا من الرسل .
الأظهر في قوله : بدعا أنه فعل بمعنى المفعول ، فهو بمعنى مبتدع ، والمبتدع هو الذي أبدع على غير مثال سابق .
ومعنى الآية : قل لهم يا نبي الله : ما كنت أول رسول أرسل إلى البشر ، بل قد أرسل الله قبلي جميع الرسل إلى البشر ، فلا وجه لاستبعادكم رسالتي ، واستنكاركم إياها ; لأن الله أرسل قبلي رسلا كثيرة .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ 13 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات الآية [ 30 \ 47 ] . وقوله - تعالى - : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده الآية [ 4 \ 163 ] . وقوله - تعالى - : حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم [ 42 \ 1 - 3 ] . وقوله - تعالى - : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك الآية [ 41 \ 43 ] . وقوله - تعالى - : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية [ 3 \ 144 ] . وقوله - تعالى - : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا الآية [ 6 \ 34 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله - تعالى - : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم .
[ ص: 217 ] التحقيق - إن شاء الله - أن معنى الآية الكريمة : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في دار الدنيا ، فما أدري أأخرج من مسقط رأسي ، أو أقتل كما فعل ببعض الأنبياء .
وما أدري ما ينالني من الحوادث والأمور في تحمل أعباء الرسالة .
وما أدري ما يفعل بكم : أيخسف بكم ، أو تنزل عليكم حجارة من السماء ، ونحو ذلك .
وهذا هو اختيار ابن جرير وغير واحد من المحققين .
وهذا المعنى في هذه الآية دلت عليه آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء الآية [ 7 \ 188 ] . وقوله - تعالى - آمرا له - صلى الله عليه وسلم - : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب الآية [ 6 \ 50 ] .
وبهذا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وأنس وغيرهما من أن المراد : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أي في الآخرة - فهو خلاف التحقيق ، كما سترى إيضاحه - إن شاء الله - .
فقد روي عن ابن عباس وأنس وقتادة والضحاك وعكرمة والحسن - في أحد قوليه - أنه لما نزل قوله - تعالى - : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم - فرح المشركون واليهود والمنافقون ، وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا ، وأنه لا فضل له علينا ، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من عند نفسه ، لأخبره الذي بعثه بما يفعل به .
فنزلت ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ 48 \ 2 ] فنسخت هذه الآية .
وقالت الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، لقد بين لك الله ما يفعل بك ، فليت شعرنا ما هو ما فاعل بنا .
فنزلت ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار الآية [ 48 \ 5 ] . ونزلت : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا [ 33 \ 47 ] .
فالظاهر أن هذا كله خلاف التحقيق ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجهل مصيره يوم القيامة لعصمته - صلوات الله وسلامه عليه - وقد قال له الله - تعالى - : وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 4 - 5 ] وأن قوله : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم [ ص: 218 ] في أمور الدنيا ، كما قدمنا . فإن قيل : قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أم العلاء الأنصارية ما يدل على أن قوله : ما يفعل بي أي في الآخرة ، فإن حديثها في قصة وفاة عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - عندهم ، ودخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ، أنها قالت : رحمة الله عليك أبا السائب ، شهادتي عليك ; لقد أكرمك الله - عز وجل - تعني عثمان بن مظعون ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما يدريك أن الله أكرمه ؟ " فقلت : لا أدري ، بأبي أنت وأمي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي " الحديث .
فالجواب هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فقد قال في تفسير هذه الآية الكريمة ، بعد أن ساق حديث أم العلاء المذكور بالسند الذي رواه به أحمد - رحمه الله - انفرد به البخاري دون مسلم ، وفي لفظ له " ما أدري وأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يفعل به " ، وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ ; بدليل قولها : فأحزنني ذلك . ا هـ محل الغرض منه . وهو الصواب - إن شاء الله - والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به .
جواب الشرط في هذه الآية محذوف .
وأظهر الأقوال في تقديره : إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به ، وجحدتموه - فأنتم ضلال ظالمون . وكون جزاء الشرط في هذه الآية كونهم ضالين ظالمين - بينه قوله - تعالى - في آخر " فصلت " : قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد [ 41 \ 52 ] . وقوله في آية " الأحقاف " هذه : فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .
وقال أبو حيان في البحر : مفعولا أرأيتم محذوفان ; لدلالة المعنى عليهما .
والتقدير : أرأيتم حالكم ، إن كان كذا ، ألستم ظالمين .
فالأول : حالكم ، والثاني : ألستم ظالمين ، وجواب الشرط محذوف ، أي فقد ظلمتم .
ولذلك جاء فعل الشرط ماضيا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (489)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 219 إلى صـ 226
[ ص: 219 ] وبعض العلماء يقول : إن أرأيتم بمعنى أخبروني . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وشهد شاهد من بني إسراءيل على مثله .
التحقيق - إن شاء الله - أن هذه الآية الكريمة جارية على أسلوب عربي معروف ، وهو إطلاق المثل على الذات نفسها ، كقولهم : مثلك لا يفعل هذا ، يعنون لا ينبغي لك أنت أن تفعله .
وعلى هذا فالمعنى : وشهد شاهد من بني إسرائيل على أن هذا القرآن وحي منزل حقا من عند الله ، لا أنه شهد على شيء آخر مماثل له; ولذا قال - تعالى - : فآمن واستكبرتم .
ومما يوضح هذا تكرر إطلاق المثل في القرآن مرادا به الذات ، كقوله - تعالى - : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات الآية [ 6 \ 122 ] .
فقوله : كمن مثله في الظلمات ، أي كمن هو نفسه في الظلمات ، وقوله - تعالى - : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا [ 2 \ 137 ] أي فإن آمنوا بما آمنتم به ، لا بشيء آخر مماثل له - على التحقيق - .
ويستأنس له بالقراءة المروية عن ابن عباس وابن مسعود فإن آمنوا بما آمنتم به الآية .
القول بأن لفظة ( ما ) في الآية مصدرية ، وأن المراد تشبيه الإيمان بالإيمان ، أي فإن آمنوا بإيمان مثل إيمانكم فقد اهتدوا ، لا يخفى بعده .
والشاهد في الآية هو عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - كما قال الجمهور ، وعليه فهذه الآية مدنية في سورة مكية .
وقيل : إن الشاهد موسى بن عمران - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - وقيل غير ذلك .
قوله - تعالى - : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه .
[ ص: 220 ] أظهر أقوال العلماء في هذه الآية الكريمة أن الكافرين الذين قالوا للمؤمنين لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، أنهم كفار مكة ، وأن مرادهم أن فقراء المسلمين وضعفاءهم : كبلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم - أحقر عند الله من أن يختار لهم الطريق التي فيها الخير .
وأنهم هم الذين لهم عند الله عظمة وجاه واستحقاق السبق لكل خير ; لزعمهم أن الله أكرمهم في الدنيا بالمال والجاه ، وأن أولئك الفقراء لا مال لهم ولا جاه ، وأن ذلك التفضيل في الدنيا يستلزم التفضيل في الآخرة .
وهذا المعنى الذي استظهرناه في هذه الآية الكريمة - تدل له آيات كثيرة من كتاب الله ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
أما ادعاؤهم أن ما أعطوا من المال والأولاد والجاه في الدنيا ، دليل على أنهم سيعطون مثله في الآخرة ، وتكذيب الله لهم في ذلك - فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] . وقوله - تعالى - : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا الآية [ 19 \ 77 - 79 ] . وقوله - تعالى - : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] مع قوله : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الآية [ 34 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ [ 41 \ 50 ] .
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .
وأما احتقار الكفار لضعفاء المؤمنين وفقرائهم ، وزعمهم أنهم أحقر عند الله من أن يصيبهم بخير ، وأنما هم عليه لو كان خيرا لسبقهم إليه أصحاب الغنى والجاه والولد من الكفار - فقد دلت عليه آيات أخر ، كقوله - تعالى - في " الأنعام " : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا [ 6 \ 53 ] .
فهمزة الإنكار في قوله : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ، تدل على إنكارهم أن الله يمن على أولئك الضعفاء بخير .
[ ص: 221 ] وقد رد الله عليهم بقوله : أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم الآية [ 6 \ 53 - 54 ] . وقوله - تعالى - في " الأعراف " : ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون [ 7 \ 48 - 49 ] . وقوله - تعالى - في " ص " : وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أأتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار [ 38 \ 62 - 63 ] .
فقد قال غير واحد : إن الرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار هم ضعفاء المسلمين الذين كانوا يسخرون منهم في دار الدنيا ، ويزعمون أنهم أحقر من أن ينالهم الله بخير ، ويدل له قوله : أأتخذناهم سخريا وسيسخر ضعفاء المسلمين في الجنة من الكفار الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا وهم في النار ، كما قال - تعالى - : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون إلى قوله - تعالى - : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 29 - 36 ] . وقوله - تعالى - : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة الآية [ 2 \ 212 ] .
قوله - تعالى - : وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا .
قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 194 - 195 ] وفي سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : قرءانا عربيا غير ذي عوج الآية [ 39 \ 28 ] .
قوله - تعالى - : لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين .
قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بيان أنواع الإنذار في القرآن في أول سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به الآية [ 7 \ 2 ] . وفي أول سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الآية [ 18 \ 2 ] .
قوله - تعالى - : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
[ ص: 222 ] قد قدمنا الكلام عليه في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الآية [ 41 ] .
قوله - تعالى - : ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا .
قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : حسنا بضم الحاء وسكون السين ، وكذلك هو في مصاحفهم .
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي : إحسانا بهمزة مكسورة وإسكان الحاء ، وألف بعد السين .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] . وقال أبو حيان في البحر : قيل : ضمن ووصينا معنى ألزمنا ، فيتعدى لاثنين ، فانتصب حسنا وإحسانا على المفعول الثاني لوصينا .
وقيل : التقدير إيصاء ذا حسن أو ذا إحسان ، ويجوز أن يكون حسنا بمعنى إحسان ، فيكون مفعولا به ، أي ووصيناه بها لإحساننا إليهما ، فيكون الإحسان من الله - تعالى - .
وقيل : النصب على المصدر على تضمين معنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانا . ا هـ منه ، وكلها له وجه .
قوله - تعالى - : حملته أمه كرها ووضعته كرها .
قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر : كرها بفتح الكاف في الموضعين .
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر : كرها بضم الكاف في الموضعين .
وهما لغتان كالضعف والضعف .
ومعنى حملته كرها أنها في حال حملها به تلاقي مشقة شديدة .
[ ص: 223 ] ومن المعلوم ما تلاقيه الحامل من المشقة والضعف ، إذا أثقلت وكبر الجنين في بطنها .
ومعنى وضعته كرها : أنها في حالة وضع الولد تلاقي من ألم الطلق وكربه مشقة شديدة ، كما هو معلوم .
وهذه المشاق العظيمة التي تلاقيها الأم في حمل الولد ووضعه ، لا شك أنها يعظم حقها بها ، ويتحتم برها والإحسان إليها ، كما لا يخفى .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من المشقة التي تعانيها الحامل ، ودلت عليه آية أخرى ، وهي قوله - تعالى - في " لقمان " : ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن [ 31 \ 14 ] أي تهن به وهنا على وهن ، أي ضعفا على ضعف; لأن الحمل كلما تزايد وعظم في بطنها ، ازدادت ضعفا على ضعف .
وقوله في آية " الأحقاف " هذه كرها في الموضعين - مصدر منكر ، وهو حال ، أي حملته ذات كره ووضعته ذات كره ، وإتيان المصدر المنكر حالا كثير ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
وقال بعضهم : كرها في الموضعين نعت لمصدر ، أي حملته حملا ذا كره ، ووضعته وضعا ذا كره . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا .
هذه الآية الكريمة ليس فيها بانفرادها تعرض لبيان أقل مدة الحمل ، ولكنها بضميمة بعض الآيات الأخرى إليها يعلم أقل أمد الحمل ; لأن هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " صرحت بأن أمد الحمل والفصال معا - ثلاثون شهرا .
وقوله - تعالى - في " لقمان " : وفصاله في عامين . وقوله في " البقرة " : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ 2 \ 233 ] - يبين أن أمد الفصال عامان ، وهما أربعة وعشرون شهرا ، فإذا طرحتها من الثلاثين بقيت ستة أشهر ، فتعين كونها أمدا للحمل ، وهي أقله ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء .
[ ص: 224 ] ودلالة هذه الآيات على أن ستة أشهر أمد الحمل - هي المعروفة عند علماء الأصول بدلالة الإشارة .
وقد أوضحنا الكلام عليها في مباحث الحج ، في سورة " الحج " في مبحث أقوال أهل العلم في حكم المبيت بمزدلفة ، وأشرنا لهذا النوع من البيان في ترجمة هذا الكتاب المبارك .
قوله - تعالى - : حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : حتى يبلغ أشده [ 6 \ 152 ] وفي ترجمة هذا الكتاب المبارك .
قوله - تعالى - : والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أولئك الذين حق عليهم القول .
التحقيق - إن شاء الله - أن الذي في قوله : والذي قال لوالديه بمعنى الذين ، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبعث .
والدليل من القرآن على أن ( الذي ) بمعنى الذين ، وأن المراد به العموم - أن الذي في قوله : والذي قال لوالديه مبتدأ خبره قوله - تعالى - : أولئك الذين حق عليهم القول الآية .
والإخبار عن لفظة الذي في قوله : أولئك الذين حق عليهم القول بصيغة الجمع - صريح في أن المراد بالذي العموم لا الإفراد . وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
وبهذا الدليل القرآني تعلم أن قول من قال في هذه الآية الكريمة أنها نازلة في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - ليس بصحيح ، كما جزمت عائشة - رضي الله عنها - ببطلانه .
وفي نفس آية " الأحقاف " هذه دليل آخر واضح على بطلانه ، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا تلك المقالة حق عليهم القول ، وهو قوله : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] .
[ ص: 225 ] ومعلوم أن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - أسلم وحسن إسلامه ، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة - رضي الله عنهم - .
وغاية ما في هذه الآية الكريمة هو إطلاق ( الذي ) وإرادة ( الذين ) ، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب ; لأن لفظ الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها ، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع
فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن - هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " . وقوله - تعالى - في سورة " البقرة " : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية [ 2 \ 17 ] . أي كمثل الذين استوقدوا ، بدليل قوله : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون [ 2 \ 17 ] بصيغة الجمع في الضمائر الثلاثة التي هي بنورهم و تركهم ، والواو في لا يبصرون .
وقوله - تعالى - في " البقرة " أيضا : كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ 2 \ 264 ] أي كالذين ينفقون ; بدليل قوله : لا يقدرون على شيء مما كسبوا [ 2 \ 264 ] . وقوله في " الزمر " : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون [ 39 \ 33 ] . وقوله في " التوبة " : وخضتم كالذي خاضوا [ 9 \ 69 ] أي كالذين خاضوا بناء على أنها موصولة لا مصدرية ، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة :
فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وقول عديل بن الفرخ العجلي :
وبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي
وقول الراجز :
يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد
إلا الذي قاموا بإطراف المسد
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : أف لكما كلمة تضجر . وقائل ذلك عاق [ ص: 226 ] لوالديه غير مجتنب نهي الله في قوله : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف الآية [ 17 \ 23 ] . وقوله : أتعدانني فعل ، مضارع وعد ، وحذف واوه في المضارع مطرد ، كما ذكره في الخلاصة بقوله :
فا أمر أو مضارع من كوعد احذف وفي كعدة ذاك اطرد
والنون الأولى نون الرفع ، والثانية نون الوقاية ، كما لا يخفى .
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم وحمزة والكسائي : أتعدانني ، بنونين مكسورتين مخففتين وياء ساكنة .
وقرأه هشام عن ابن عامر بنون مشددة مكسورة وبياء ساكنة .
وقرأه نافع وابن كثير بنونين مكسورتين مخففتين وياء مفتوحة ، والهمزة للإنكار .
وقوله : أن أخرج أي أبعث من قبري حيا بعد الموت .
والمصدر المنسبك من أن وصلتها هو المفعول الثاني لتعدانني ، يعني أتعدانني الخروج من قبري حيا بعد الموت ، والحال قد مضت القرون ، أي هلكت الأمم الأولى ، ولم يحي منهم أحد ، ولم يرجع بعد أن مات .
وهما ، أي والداه ، يستغيثان الله ، أي يطلبانه أن يغيثهما بأن يهدي ولدهما إلى الحق والإقرار بالبعث ، ويقولان لولدهما : ويلك آمن ، أي بالله وبالبعث بعد الموت .
والمراد بقولهما : ويلك - حثه على الإيمان . إن وعد الله حق ، أي وعده بالبعث بعد الموت حق لا شك فيه ، فيقول ذلك الولد العاق المنكر للبعث : ما هذا إن الذي تعدانني إياه من البعث بعد الموت إلا أساطير الأولين .
والأساطير جمع أسطورة . وقيل : جمع إسطارة ، ومراده بها ما سطره الأولون ، أي كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها .
وقوله : أولئك ترجع الإشارة فيه إلى العاقين المكذبين بالبعث المذكورين في قوله : والذي قال لوالديه أف لكما الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (490)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 227 إلى صـ 234
[ ص: 227 ] وقوله : حق عليهم القول أي وجبت عليهم كلمة العذاب .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن منكري البعث يحق عليهم القول لكفرهم - قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .
قوله - تعالى - : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون .
معنى الآية الكريمة أنه يقال للكفار يوم يعرضون على النار : أذهبتم طيباتكم .
فقول : يعرضون على النار - قال بعض العلماء : معناه يباشرون حرها ، كقول العرب : عرضهم على السيف إذا قتلهم به ، وهو معنى معروف في كلام العرب .
وقد ذكر - تعالى - مثل ما ذكر هنا في قوله : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق [ 46 \ 34 ] وهذا يدل على أن المراد بالعرض مباشرة العذاب ; لقوله : قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون [ 6 ] . وقوله - تعالى - : وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا [ 40 \ 45 - 46 ] ; لأنه عرض عذاب .
وقال بعض العلماء : معنى عرضهم على النار هو تقريبهم منها ، والكشف لهم عنها حتى يروها ، كما قال - تعالى - : ورأى المجرمون النار الآية [ 18 \ 53 ] . وقال - تعالى - : وجيء يومئذ بجهنم [ 89 \ 23 ] .
وقال بعض العلماء في الكلام قلب ، وهو مروي عن ابن عباس وغيره . قالوا : والمعنى : ويوم تعرض النار على الذين كفروا . قالوا : وهو كقول العرب : عرضت الناقة على الحوض . يعنون عرضت الحوض على الناقة ، ويدل لهذا قوله - تعالى - : وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا [ 18 \ 100 ] .
[ ص: 228 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا النوع الذي ذكروه من القلب في الآية ، كقلب الفاعل مفعولا ، والمفعول فاعلا ، ونحو ذلك - اختلف فيه علماء العربية ، فمنعه البلاغيون إلا في التشبيه ، فأجازوا قلب المشبه مشبها به والمشبه به مشبها بشرط أن يتضمن ذلك نكتة وسرا لطيفا ، كما هو المعروف عندهم في مبحث التشبيه المقلوب .
وأجازه كثير من علماء العربية .
والذي يظهر لنا أنه أسلوب عربي نطقت به العرب في لغتها ، إلا أنه يحفظ ما سمع منه ، ولا يقاس عليه ، ومن أمثلته في التشبيه قول الراجز :
ومنهل مغبرة أرجاؤه كأن لون أرضه سماؤه
أي كأن سماءه لون أرضه ، وقول الآخر :
وبدا الصباح كأن غرته وجه الخليفة حين يمتدح
لأن أصل المراد تشبيه وجه الخليفة بغرة الصباح ، فقلب التشبيه ليوهم أن الفرع أقوى من الأصل في وجه الشبه .
قالوا : ومن أمثلته في القرآن وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة [ 28 \ 76 ] ; لأن العصبة من الرجال هي التي تنوء بالمفاتيح ، أي تنهض بها بمشقة وجهد لكثرتها وثقلها ، وقوله - تعالى - : فعميت عليهم الأنباء [ 28 \ 66 ] . أي عموا عنها . ومن أمثلته في كلام العرب قول كعب بن زهير :
كأن أوب ذراعيها إذا عرقت وقد تلفع بالقور العساقيل
لأن معنى قوله : تلفع لبس اللفاع وهو اللحاف ، والقور : الحجارة العظام ، والعساقيل : السراب .
والكلام مقلوب ; لأن القور هي التي تلتحف بالعساقيل لا العكس ، كما أوضحه لبيد في معلقته بقوله :
فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى واجتاب أردية السراب إكامها
فصرح بأن الإكام التي هي الحجارة اجتابت ، أي لبست ، أردية السراب .
والأردية جمع رداء ، وهذا النوع من القلب وإن أجازه بعضهم فلا ينبغي حمل الآية [ ص: 229 ] عليه ; لأنه خلاف الظاهر ، ولا دليل عليه يجب الرجوع إليه .
وظاهر الآية جار على الأسلوب العربي الفصيح ، كما أوضحه أبو حيان في البحر المحيط .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها قرأه ابن كثير وابن عامر : أأذهبتم بهمزتين ، وهما على أصولهما في ذلك .
فابن كثير يسهل الثانية بدون ألف إدخال بين الهمزتين .
وهشام يحققها ويسهلها مع ألف الإدخال . وابن ذكوان يحققها من غير إدخال .
وقرأه نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي : أذهبتم طيباتكم بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام .
واعلم أن للعلماء كلاما كثيرا في هذه الآية قائلين : إنها تدل على أنه ينبغي التقشف والإقلال من التمتع بالمآكل والمشارب والملابس ، ونحو ذلك .
وإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يفعل ذلك خوفا منه أن يدخل في عموم من يقال لهم يوم القيامة : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية . والمفسرون يذكرون هنا آثارا كثيرة في ذلك ، وأحوال أهل الصفة وما لاقوه من شدة العيش .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق : إن شاء الله في معنى هذه الآية هو أنها في الكفار ، وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم ; لأنه - تعالى - ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم .
وإنما قلنا : إن هذا هو التحقيق ; لأن الكتاب والسنة الصحيحة دالان عليه ، والله - تعالى - يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] .
أما كون الآية في الكفار فقد صرح الله - تعالى - به في قوله : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم الآية .
والقرآن والسنة الصحيحة قد دلا على أن الكافر إن عمل عملا صالحا مطابقا للشرع ، مخلصا فيه لله ، كالكافر الذي يبر والديه ، ويصل الرحم ويقري الضيف ، وينفس عن المكروب ، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله - يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق [ ص: 230 ] والعافية ، ونحو ذلك ، ولا نصيب له في الآخرة .
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 15 - 16 ] . وقوله - تعالى - : ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] .
وقد قيد - تعالى - هذا الثواب الدنيوي المذكور في الآيات بمشيئته وإرادته ، في قوله - تعالى - : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا [ 17 \ 18 ] .
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة; يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها " . هذا لفظ مسلم في صحيحه .
وفي لفظ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا ، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ، ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته " ا هـ .
فهذا الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه التصريح بأن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا فقط ، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معا ، وبمقتضى ذلك يتعين تعيينا لا محيص عنه أن الذي أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها هو الكافر; لأنه لا يجزى بحسناته إلا في الدنيا خاصة .
وأما المؤمن الذي يجزى بحسناته في الدنيا والآخرة معا - فلم يذهب طيباته في الدنيا ; لأن حسناته مدخرة له في الآخرة ، مع أن الله - تعالى - يثيبه بها في الدنيا ، كما قال - تعالى - : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ 65 \ 2 - 3 ] فجعل المخرج من الضيق له ورزقه من حيث لا يحتسب - ثوابا في الدنيا ، وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة .
والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وعلى كل حال فالله - جل وعلا - أباح لعباده على [ ص: 231 ] لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - الطيبات في الحياة الدنيا ، وأجاز لهم التمتع بها ، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة ، كما قال - تعالى - : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ 7 \ 32 ] .
فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة ، وهو صريح في أنهم لم يذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا .
ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة ، يكون لهم أجر زائد على ذلك ; لأن المؤمنين يؤجرون بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد ، كما هو معلوم .
والنصوص الدالة على أن الكافر هو الذي يذهب طيباته في الحياة الدنيا ; لأنه يجزى في الدنيا فقط كالآيات المذكورة ، وحديث أنس المذكور عند مسلم - قد قدمناها موضحة في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا وذكرنا هناك أسانيد الحديث المذكور وألفاظه .
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فاليوم تجزون عذاب الهون أي عذاب الهوان ، وهو الذل والصغار .
وقوله - تعالى - : بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ، الباء في قوله : بما كنتم - سببية ، وما مصدرية ، أي تجزون عذاب الهون بسبب كونكم مستكبرين في الأرض ، وكونكم فاسقين .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون الاستكبار في الأرض والفسق من أسباب عذاب الهون ، وهو عذاب النار - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : أليس في جهنم مثوى للمتكبرين [ 39 \ 60 ] . وقوله - تعالى - : وأما الذين فسقوا فمأواهم النار الآية [ 32 \ 20 ] .
وقد قدمنا النتائج الوخيمة الناشئة عن التكبر في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : فما يكون لك أن تتكبر فيها الآية [ 7 \ 13 ] .
[ ص: 232 ] وقوله - تعالى - : بغير الحق مع أنه من المعلوم أنهم لا يستكبرون في الأرض إلا استكبارا متلبسا بغير الحق ، كقوله - تعالى - : ولا طائر يطير بجناحيه [ 6 \ 38 ] ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه ، وقوله : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم [ 2 \ 79 ] . ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم ، ونحو ذلك من الآيات ، وهو أسلوب عربي نزل به القرآن .
قوله - تعالى - : واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف .
أبهم - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أخا عاد ولم يعينه ، ولكنه بين في آيات أخرى أنه هود - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - كقوله - تعالى - : وإلى عاد أخاهم هودا في سورة " الأعراف " [ 7 \ 65 ] . وسورة " هود " [ 11 \ 50 ] . وغير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن النبي هودا نهى قومه أن يعبدوا غير الله ، وأمرهم بعبادته - تعالى - وحده ، وأنه خوفهم من عذاب الله ، إن تمادوا في شركهم به .
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية جاءا موضحين في آيات أخر .
أما الأول منهما ففي قوله - تعالى - : وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره في سورة " الأعراف " [ 7 \ 65 ] . وسورة " هود " [ 11 \ 50 ] . ونحو ذلك من الآيات .
وأما خوفه عليهم العذاب العظيم فقد ذكره في " الشعراء " في قوله - تعالى - : واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [ 26 \ 132 - 135 ] . وهو يوم القيامة .
قوله - تعالى - : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين .
ومعنى قوله - تعالى - : لتأفكنا عن آلهتنا ، أي لتصرفنا عن عبادتها إلى عبادة الله وحده .
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين : [ ص: 233 ] أحدهما : إنكار عاد على هود أنه جاءهم ، ليتركوا عبادة الأوثان ، ويعبدوا الله وحده .
والثاني : أنهم قالوا له : ائتنا بما تعدنا من العذاب وعجله لنا إن كنت صادقا فيما تقول ، عنادا منهم وعتوا .
وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين [ 7 \ 70 ] .
قوله - تعالى - : وأبلغكم ما أرسلت به .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن نبي الله هودا قال لقومه إنه يبلغهم ما أرسل به إليهم; لأنه ليس عليه إلا البلاغ ، وهذا المعنى جاء مذكورا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين [ 7 \ 67 - 68 ] . وقوله - تعالى - في سورة " هود " : فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم الآية [ 11 \ 57 ] .
قوله - تعالى - : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات [ 41 \ 16 ] .
قوله - تعالى - : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه .
لفظة إن في هذه الآية الكريمة فيها للمفسرين ثلاثة أوجه ، يدل استقراء القرآن على أن واحدا منها هو الحق ، دون الاثنين الآخرين .
قال بعض العلماء : إن شرطية ، وجزاء الشرط محذوف ، والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم وبغيتم .
وقال بعضهم : إن زائدة بعد ما الموصولة حملا لـ ما الموصولة على ما النافية ; لأن ما النافية تزاد بعدها لفظة إن كما هو معلوم .
[ ص: 234 ] كقول قتيلة بنت الحارث أو النضر العبدرية :
أبلغ بها ميتا بأن تحية ما إن نزل بها النجائب تخفقوا
وقول دريد بن الصمة في الخنساء :
ما إن رأيت ولا سمعت به كاليوم طالي أينق جرب
فـ ( إن ) زائدة بعد ( ما ) النافية في البيتين ، وهو كثير ، وقد حملوا على ذلك ( ما ) الموصولة ، فقالوا : تزاد بعدها ( إن ) كآية " الأحقاف " هذه . وأنشد لذلك الأخفش : يرجي المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب
أي يرجي المرء الشيء الذي لا يراه ، وإن زائدة ، وهذان هما الوجهان اللذان لا تظهر صحة واحد منهما .
لأن الأول منهما فيه حذف وتقدير .
والثاني منهما فيه زيادة كلمة .
وكل ذلك لا يصار إليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه .
أما الوجه الثالث الذي هو الصواب - إن شاء الله - فهو أن لفظة ( إن ) نافية بعد ( ما ) الموصولة ، أي ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من القوة في الأجسام ، وكثرة الأموال والأولاد والعدد .
وإنما قلنا : إن القرآن يشهد لهذا القول لكثرة الآيات الدالة عليه ، فإن الله - جل وعلا - في آيات كثيرة من كتابه يهدد كفار مكة بأن الأمم الماضية كانت أشد منهم بطشا وقوة ، وأكثر منهم عددا وأموالا وأولادا ، فلما كذبوا الرسل أهلكهم الله ليخافوا من تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهلكهم الله بسببه ، كما أهلك الأمم التي هي أقوى منهم ، كقوله - تعالى - في " المؤمن " : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 40 \ 82 ] .
وقوله فيها أيضا : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم الآية [ 40 \ 21 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (491)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 235 إلى صـ 242
[ ص: 235 ] وقوله - تعالى - في " الروم " : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها الآية [ 30 \ 9 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين [ 43 \ 10 ] .
قوله - تعالى - : فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الجاثية " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم [ الآية \ 10 ] .
قوله - تعالى - : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم .
ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " أنه صرف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفرا من الجن والنفر دون العشرة يستمعون القرآن وأنهم لما حضروه ، قال بعضهم لبعض : أنصتوا أي اسكتوا مستمعين ، وأنه لما قضى ، أي انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قراءته ولوا أي رجعوا إلى قومهم من الجن في حال كونهم منذرين ، أي مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا بالله ، ويجيبوا داعيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأخبروا قومهم أن هذا الكتاب الذي سمعوه يتلى ، المنزل من بعد موسى - يهدي إلى الحق ، وهو ضد الباطل ، وإلى طريق مستقيم ، أي لا اعوجاج فيه .
وقد دل القرآن العظيم أن استماع هؤلاء النفر من الجن ، وقولهم ما قالوا عن القرآن كله - وقع ولم يعلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أوحى الله ذلك إليه ، كما قال - تعالى - في القصة بعينها مع بيانها وبسطها ، بتفصيل الأقوال التي قالتها الجن ، بعد استماعهم القرآن العظيم : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا [ 82 \ 1 - 2 ] إلى آخر الآيات .
[ ص: 236 ] قوله - تعالى - : يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم .
منطوق هذه الآية أن من أجاب داعي الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وآمن به ، وبما جاء به من الحق - غفر الله له ذنوبه ، وأجاره من العذاب الأليم . ومفهومها ، أعني مفهوم مخالفتها المعروف بدليل الخطاب ، أن من لم يجب داعي الله من الجن ، ولم يؤمن به لم يغفر له ، ولم يجره من عذاب أليم ، بل يعذبه ويدخله النار ، وهذا المفهوم جاء مصرحا به مبينا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] . وقوله - تعالى - : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار [ 7 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون [ 26 \ 94 - 95 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
أما دخول المؤمنين المجيبين داعي الله من الجن الجنة - فلم تتعرض له الآية الكريمة بإثبات ولا نفي ، وقد دلت آية أخرى على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة ، وهي قوله - تعالى - في سورة " الرحمن " : ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 46 - 47 ] . وبه تعلم أن ما ذهب إليه بعض أهل العلم ، قائلين : إنه يفهم من هذه الآية ، من أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة ، وأن جزاء إيمانهم وإجابتهم داعي الله ، هو الغفران وإجارتهم من العذاب الأليم فقط ، كما هو نص الآية - كله خلاف التحقيق .
وقد أوضحنا ذلك في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام على هذه الآية ، من سورة " الأحقاف " فقلنا فيه ما نصه : هذه الآية يفهم من ظاهرها ، أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه ، وإجارته من عذاب أليم ، لا دخوله الجنة .
وقد تمسك جماعة من العلماء منهم ، الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - بظاهر هذه الآية ، فقالوا : إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة ، مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة ، وهي قوله - تعالى - : ولمن خاف مقام ربه جنتان ; لأنه - تعالى - بين شموله للجن والإنس ، بقوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان .
[ ص: 237 ] ويستأنس لهذا بقوله - تعالى - : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [ 55 \ 56 ] . فإنه يشير إلى أن في الجنة جنا يطمثون النساء كالإنس .
والجواب عن هذا أن آية " الأحقاف " نص فيها على الغفران والإجارة من العذاب ، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات ، وآية " الرحمن " نص فيها على دخولهم الجنة ; لأنه - تعالى - قال فيها : ولمن خاف مقام ربه جنتان .
وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم ، فقوله : ولمن خاف ، يعم كل خائف مقام ربه ، ثم صرح بشمول ذلك الجن والإنس معا بقوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان .
فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه ، أي نعمه على الإنس والجن ، فلا تعارض بين الآيتين ; لأن إحداهما بينت ما لم تعرض له الأخرى .
ولو سلمنا أن قوله : يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ، يفهم منه عدم دخولهم الجنة ، فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم ، وقوله : ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق .
والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول .
ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدعى وجدناه معدوما من أصله ; للإجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية ، إما أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة ، ولا ثالث .
ولا يدخل هذا المفهوم المدعى في شيء من أقسام المفهومين .
أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه فواضح .
وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة ، فلأن عدم دخوله في مفهوم الحصر أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف - واضح .
فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب ، وليس داخلا في واحد منهما ، فظهر عدم دخوله فيه أصلا .
أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط ، فلأن قوله : يغفر لكم من ذنوبكم [ ص: 238 ] فعل مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب .
وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر ، لا بالجملة قبله ، كما قيل به .
وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور ، فتقرير المعنى : أجيبوا داعي الله وآمنوا به إن تفعلوا ذلك يغفر لكم ، فيتوهم في الآية مفهوم هذا الشرط المقدر .
والجواب عن هذا : أن مفهوم الشرط عند القائل به ، إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه ، وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته ، فمفهوم أن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم ، أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به ; لم يغفر لهم ، وهو كذلك .
أما جزاء الشرط فلا مفهوم له ; لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة ، فيذكر بعضها جزاء له ، فلا يدل على نفي غيره .
كما لو قلت لشخص مثلا : إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت .
فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع ; لأن قطع اليد مرتب أيضا على السرقة ، كالغرم .
وكذلك الغفران والإجارة من العذاب ودخول الجنة - كلها مرتبة على إجابة داعي الله والإيمان به .
فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض ، ثم بين في موضع آخر ، وهذا لا إشكال فيه .
وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب ، فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يمكن انتظام الكلام العربي دونه ، أعني المسند إليه ، سواء كان لقبا أو كنية أو اسما أو اسم جنس أو غير ذلك .
وقد أوضحنا اللقب غاية في " المائدة " .
والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب ، أن الغفران والإجارة من العذاب المدعى بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما ، وأن تخصيصهما بالذكر يدل على نفي غيرهما في الآية سندان لا مسند إليهما ، بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ، ولا يستند إلى الفعل [ ص: 239 ] إجماعا ، ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية .
ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندا إليه ; لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره ، وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة ، كما عللوا به مفهوم الصفة .
وأجيب من جهة الجمهور : بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم ، لا لتخصيصه بالحكم; إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه .
ومما يوضح ذلك أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به - إنما هو في المسند إليه لا في المسند ; لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها ، فيقصد بعضها بالذكر دون بعض فيختص الحكم بالمذكور .
أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد والأوصاف أصلا ، وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية .
ولو حكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان - فإن المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال يقصد به جميع أفراده ; لأن كل فرد منها حيوان بخلاف المسند الذي هو الحيوان في هذا المثال ، فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد; لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرش مثلا .
والحكم بالمباين على المباين باطل إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء .
وعامة النظار على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الأفراد باعتبار الوجود الخارجي إن كانت خارجية ، أو الذهني إن كانت حقيقية .
أما المحمول من حيث هو فلا تراعى فيه الأفراد البتة .
وإنما يراعى فيه مطلق الماهية ، ولو سلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب - فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به ، وربما كان اعتباره كفرا ، كما لو اعتبر معتبر مفهوم اللقب في قوله تعالى : ( محمد رسول الله ) [ 48 \ 29 ] فقال : يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن رسول الله ، فهذا كفر بإجماع المسلمين .
فالتحقيق أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ولا عقلا ، سواء كان [ ص: 240 ] اسم جنس ، أو اسم عين ، أو اسم جمع أو غير ذلك .
فقولك : جاء زيد ، لا يفهم منه عدم مجيء عمرو .
وقولك : رأيت أسدا ، لا يفهم منه عدم رؤيتك لغير الأسد .
والقول بالفرق بين اسم الجنس فيعتبر ، واسم العين فلا يعتبر ، لا يظهر .
فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية .
ولا بقول ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية ، ولا بقول بعض الحنابلة باعتبار مفهوم اللقب ; لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به ، إلا أنه يقول : لو لم يكن اللقب مختصا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة ، كما علل به مفهوم الصفة ; لأن الجمهور يقولون : ذكر اللقب ليسند إليه ، وهو واضح لا إشكال فيه .
وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي ، وأنه أضعف المفاهيم - بقوله :
أضعفها اللقب وهو ما أبي من دونه نظم الكلام العرب
وحاصل فقه هذه المسألة أن الجن مكلفون على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم - بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين ، وهو صريح قوله - تعالى - : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] . وقوله - تعالى - : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون [ 26 \ 94 - 95 ] . وقوله - تعالى - : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار [ 7 \ 38 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ، ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين .
والظاهر دخولهم الجنة كما بينا ، والعلم عند الله - تعالى - . ا هـ . منه بلفظه .
قوله - تعالى - : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير .
قد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية ، وأنها من الآيات الدالة على البعث في [ ص: 241 ] " البقرة " و " النحل " و " الجاثية " ، وغير ذلك من المواضع ، وأحلنا على ذلك مرارا ، والباء في قوله : بقادر يسوغه أن النفي متناول ل ( أن ) فما بعدها ، فهو في معنى أليس الله بقادر ؟
ويوضح ذلك قوله بعد : بلى . مقررا لقدرته على البعث وغيره .
قوله - تعالى - : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل . اختلف العلماء في المراد بأولي العزم من الرسل في هذه الآية الكريمة اختلافا كثيرا .
وأشهر الأقوال في ذلك أنهم خمسة ، وهم الذين قدمنا ذكرهم في " الأحزاب " و " الشورى " ، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - .
وعلى هذا القول فالرسل الذين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر كما صبروا - أربعة ، فصار هو - صلى الله عليه وسلم - خامسهم .
واعلم أن القول بأن المراد بأولي العزم جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأن لفظة من في قوله : من الرسل بيانية يظهر أنه خلاف التحقيق ، كما دل على ذلك بعض الآيات القرآنية ، كقوله - تعالى - : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت الآية [ 68 \ 48 ] ، فأمر الله - جل وعلا - نبيه في آية " القلم " هذه بالصبر ، ونهاه عن أن يكون مثل يونس ; لأنه هو صاحب الحوت ، وكقوله : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما [ 20 \ 115 ] . فآية " القلم " ، وآية " طه " المذكورتان كلتاهما تدل على أن أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يصبر كصبرهم ليسوا جميع الرسل . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ولا تستعجل لهم .
نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة ، أن يستعجل العذاب لقومه ، أي يدعو الله عليهم بتعجيله لهم ، فمفعول ( تستعجل ) محذوف ، تقديره العذاب ، كما قاله القرطبي ، وهو الظاهر .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن طلب تعجيل العذاب لهم - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا [ 73 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ 86 \ 17 ] .
[ ص: 242 ] فإن قوله : ومهلهم قليلا ، وقوله : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا موضح لمعنى قوله : ولا تستعجل لهم .
والمراد بالآيات ، نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن طلب تعجيل العذاب لهم ; لأنهم معذبون لا محالة ، عند انتهاء المدة المحددة للإمهال ، كما يوضحه قوله - تعالى - : فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا [ 19 \ 84 ] . وقوله - تعالى - : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار الآية [ 2 \ 126 ] . وقوله - تعالى - : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [ 3 \ 196 - 197 ] . وقوله - تعالى - : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يونس " في الكلام على قوله - تعالى - : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم [ 10 \ 45 ] . وفي سورة " قد أفلح المؤمنون " في الكلام على قوله - تعالى - : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين [ 23 \ 113 ] .
وبينا في الكلام على آية " قد أفلح المؤمنون " وجه إزالة إشكال معروف في الآيات المذكورة .
قوله - تعالى - : بلاغ .
التحقيق - إن شاء الله - أن أصوب القولين في قوله : بلاغ أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره : هذا بلاغ ، أي هذا القرآن بلاغ من الله إلى خلقه .
ويدل لهذا قوله - تعالى - في سورة " إبراهيم " : هذا بلاغ للناس ولينذروا به [ 14 \ 52 ] . وقوله في " الأنبياء " : إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين [ 21 \ 106 ] . وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (492)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 243 إلى صـ 250
والبلاغ اسم مصدر بمعنى التبليغ ، وقد علم باستقراء اللغة العربية أن الفعال يأتي [ ص: 243 ] كثيرا بمعنى التفعيل ، كبلغه بلاغا ، أي تبليغا ، وكلمه كلاما ، أي تكليما ، وطلقها طلاقا ، وسرحها سراحا ، وبينه بيانا .
كل ذلك بمعنى التفعيل ; لأن فعل - مضعفة العين ، غير معتلة اللام ولا مهموزته - قياس مصدرها التفعيل .
وما جاء منه على خلاف ذلك - يحفظ ولا يقاس عليه ، كما هو معلوم في محله .
أما القول بأن المعنى : وذلك اللبث بلاغ ، فهو خلاف الظاهر كما ترى ، والعلم عند الله - تعالى - .
[ ص: 244 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
سُورَةُ الْقِتَالِ وَهِيَ سُورَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
قَوْلُهُ - تَعَالَى - : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ .
قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنَ الصُّدُودِ ; لِأَنَّ صَدَّ فِي الْآيَةِ لَازِمَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنَ الصَّدِّ ; لِأَنَّ صَدَّ فِي الْآيَةِ مُتَعَدِّيَةٌ .
وَعَلَيْهِ فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ ، أَيْ صَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، أَيْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ هُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ صَدَّ لَازِمَةٌ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَكْرَارًا مَعَ قَوْلِهِ : كَفَرُوا ; لِأَنَّ الْكُفْرَ هُوَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الصُّدُودِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ صَدَّ مُتَعَدِّيَةٌ فَلَا تَكْرَارَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ ضَالُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، مُضِلُّونَ لِغَيْرِهِمْ بِصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُمْ الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] ، أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا دَارَ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْسِيسِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أَيْ أَبْطَلَ ثَوَابَهَا ، فَمَا عَمِلَهُ الْكَافِرُ مِنْ حَسَنٍ فِي الدُّنْيَا ، كَقَرْيِ الضَّيْفِ ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ ، وَحَمْيِ الْجَارِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَالتَّنْفِيسِ عَنِ الْمَكْرُوبِ ، يَبْطُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيَضْمَحِلُّ وَيَكُونُ لَا أَثَرَ لَهُ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : [ ص: 245 ] وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ 25 \ 23 ] . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ .
وَقِيلَ : أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ، أَيْ أَبْطَلَ كَيْدَهُمُ الَّذِي أَرَادُوا أَنْ يَكِيدُوا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ أَيْ غَفَرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَتَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ أَيْ أَصْلَحَ لَهُمْ شَأْنَهُمْ وَحَالَهُمْ إِصْلَاحًا لَا فَسَادَ مَعَهُ ، وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنْ يُبْطِلَ أَعْمَالَ الْكَافِرِينَ ، وَيُبْقِيَ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ 1 \ 15 - 16 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [ 42 \ 20 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [ 25 \ 23 - 24 ] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا مَعَ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ ، مَعَ زِيَادَةِ إِيضَاحٍ مُهِمَّةٍ فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [ 17 \ 19 ] . وَفِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] . وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي سُورَةِ " الْأَحْقَافِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا الْآيَةَ [ 46 \ 20 ] .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أَصْلُهُ مِنَ الضَّلَالِ بِمَعْنَى الْغَيْبَةِ وَالِاضْمِحْلَا لِ ، لَا مِنَ الضَّالَّةِ كَمَا زَعَمَهُ الزَّمَخْشَرِيّ ُ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ : وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [ 6 \ 24 ] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الضَّلَالِ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [ 26 \ 20 ] . وَفِي آخِرِ " الْكَهْفِ " فِي الْكَلَامِ [ ص: 246 ] عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [ 18 \ 104 ] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْكَهْفِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ الْآيَةَ [ 18 \ 2 ] . وَفِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [ 47 \ 2 ] .
قَالَ فِيهِ ابْنُ كَثِيرٍ : هُوَ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بَعْدَ بِعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ا هـ مِنْهُ .
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [ 11 \ 17 ] .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَهُوَ الْحَقُّ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ تَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ اللَّهِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [ 6 \ 66 ] . قَالَ - تَعَالَى - : وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ [ 69
- 51 ] . وَقَالَ - تَعَالَى - : قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَةَ [ 10 \ 108 ] . وَقَالَ - تَعَالَى - : يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ [ 4 \ 170 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ [ 47 \ 3 ] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ ، أَيْ إِبْطَالِهَا وَاضْمِحْلَالِه َا وَبَقَاءِ ثَوَابِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِمْ وَإِصْلَاحِ حَالِهِمْ ، كُلُّهُ وَاقِعٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْكُفَّارَ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ ، وَمَنِ اتَّبَعَ الْبَاطِلَ فَعَمَلُهُ بَاطِلٌ .
وَالزَّائِلُ الْمُضْمَحِلُّ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ بَاطِلًا ، وَضِدُّهُ الْحَقُّ .
وَبِسَبَبِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ ، وَمُتَّبِعُ الْحَقِّ أَعْمَالُهُ حَقٌّ ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ بَاقِيَةٌ ، لَا زَائِلَةٌ مُضْمَحِلَّةٌ .
[ ص: 247 ] وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَعْمَالِ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ الثَّوَابِ ، لَا يَتَوَهَّمُ اسْتِوَاءَهُمَا إِلَّا الْكَافِرُ الْجَاهِلُ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [ 68 \ 35 - 36 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِين َ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ 38 \ 28 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [ 45 \ 21 ] .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ .
قَالَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيّ ُ : فَإِنْ قُلْتَ : أَيْنَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ ؟
قُلْتُ : فِي جَعْلِ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ مَثَلًا لِعَمَلِ الْكُفَّارِ ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ مَثَلًا لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ . أَوْ فِي أَنَّ جَعَلَ الْإِضْلَالَ مَثَلًا لِخَيْبَةِ الْكُفَّارِ ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ مَثَلًا لِفَوْزِ الْمُؤْمِنِينَ . ا هـ مِنْهُ .
وَأَصْلُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ يُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ الشَّيْءِ بِذِكْرِ نَظِيرِهِ الَّذِي هُوَ مَثَلٌ لَهُ .
قوله - تعالى - : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها .
قوله - تعالى - : فضرب الرقاب مصدر نائب عن فعله ، وهو بمعنى فعل الأمر ، ومعلوم أن صيغ الأمر في اللغة العربية أربع : وهي فعل الأمر ، كقوله - تعالى - : أقم الصلاة لدلوك الشمس الآية [ 17 \ 78 ] .
واسم فعل الأمر ، كقوله - تعالى - : عليكم أنفسكم الآية [ 5 \ 105 ] .
والفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله - تعالى - : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم الآية [ 22 \ 29 ] .
والمصدر النائب عن فعله ، كقوله - تعالى - : فضرب الرقاب ، أي فاضربوا رقابهم ، وقوله - تعالى - : حتى إذا أثخنتموهم ، أي أوجعتم فيهم قتلا .
[ ص: 248 ] فالإثخان هو الإكثار من قتل العدو حتى يضعف ويثقل عن النهوض .
وقوله : فشدوا الوثاق ، أي فأسروهم ، والوثاق - بالفتح والكسر - اسم لما يؤسر به الأسير من قيد ونحوه .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الأمر بقتل الكفار حتى يثخنهم المسلمون ، ثم بعد ذلك يأسرونهم - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية [ 8 \ 68 ] . وقد أمر بقتلهم في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية [ 9 \ 5 ] . وقوله : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان [ 8 \ 12 ] . وقوله - تعالى - : وقاتلوا المشركين كافة الآية [ 9 \ 36 ] . وقوله : فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم الآية [ 8 \ 57 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فإما منا بعد وإما فداء أي فإما تمنون عليهم منا ، أو تفادونهم فداء .
ومعلوم أن المصدر إذا سيق لتفصيل وجب حذف عامله ، كما قال في الخلاصة :
وما لتفصيل كإما منا عامله يحذف حيث عنا
ومنه قول الشاعر :
لأجهدن فإما درء واقعة تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل
وقال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة بالآيات التي ذكرنا قبلها ، وممن يروى عنه هذا القول ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك وابن جريج .
وذكر ابن جرير عن أبي بكر - رضي الله عنه - ما يؤيده .
ونسخ هذه الآية هو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - فإنه لا يجوز عنده المن ولا الفداء ; لأن الآية منسوخة عنده ، بل يخير عنده الإمام بين القتل والاسترقاق .
ومعلوم أن آيات السيف النازلة في براءة نزلت بعد سورة القتال هذه .
وأكثر أهل العلم يقولون : إن الآية ليست منسوخة ، وإن جميع الآيات المذكورة [ ص: 249 ] محكمة ، فالإمام مخير ، وله أن يفعل ما رآه مصلحة للمسلمين من من وفداء وقتل واسترقاق .
قالوا : قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث أسيرين يوم بدر ، وأخذ فداء غيرهما من الأسارى .
ومن على ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ، وكان يسترق السبي من العرب وغيرهم .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار : والحاصل أنه قد ثبت في جنس أسارى الكفار جواز القتل والمن والفداء والاسترقاق ، فمن ادعى أن بعض هذه الأمور تختص ببعض الكفار دون بعض لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات ، والمجوز قائم في مقام المنع ، وقول علي وفعله عند بعض المانعين من استرقاق ذكور العرب حجة ، وقد استرق بني ناجية ذكورهم وإناثهم وباعهم ، كما هو مشهور في كتب السير والتواريخ اهـ محل الغرض منه .
ومعلوم أن بني ناجية من العرب .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لم يختلف المسلمون في جواز الملك بالرق .
ومعلوم أن سببه أسر المسلمين الكفار في الجهاد ، والله - تبارك وتعالى - في كتابه يعبر عن الملك بالرق بعبارة هي أبلغ العبارات ، في توكيد ثبوت ملك الرقيق ، وهي ملك اليمين ; لأن ما ملكته يمين الإنسان فهو مملوك له تماما ، وتحت تصرفه تماما ، كقوله - تعالى - : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 3 ] . وقوله : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين في سورة " قد أفلح المؤمنون " [ 23 \ 5 - 6 ] . و " سأل سائل " [ 70 \ 29 - 30 ] . وقوله : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم الآية [ 4 \ 24 ] . وقوله : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم الآية [ 24 \ 33 ] . وقوله : والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [ 4 \ 36 ] . وقوله : لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك الآية [ 33 \ 52 ] . وقوله : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك الآية [ 33 \ 50 ] . وقوله : [ ص: 250 ] أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن [ 24 \ 31 ] . وقوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [ 16 \ 71 ] . وقوله : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] . وقوله : هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء الآية [ 30 \ 28 ] . فالمراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات كلها الملك بالرق ، والأحاديث والآيات بمثل ذلك يتعذر حصرها ، وهي معلومة ، فلا ينكر الرق في الإسلام إلا مكابر أو ملحد أو من لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله .
وقد قدمنا حكمة الملك بالرق وإزالة الإشكال في ملك الرقيق المسلم في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
ومن المعلوم أن كثيرا من أجلاء علماء المسلمين ومحدثيهم الكبار كانوا أرقاء مملوكين ، أو أبناء أرقاء مملوكين .
فهذا محمد بن سيرين كان أبوه سيرين عبدا لأنس بن مالك .
وهذا مكحول كان عبدا لامرأة من هذيل ، فأعتقته .
ومثل هذا أكثر من أن يحصى ، كما هو معلوم .
واعلم أن ما يدعيه بعض من المتعصبين لنفي الرق في الإسلام من أن آية " القتال " هذه دلت على نفي الرق من أصله ; لأنها أوجبت واحدا من أمرين لا ثالث لهما ، وهما المن والفداء فقط - فهو استدلال ساقط من وجهين : أحدهما : أن فيه استدلالا بالآية ، على شيء لم يدخل فيها ، ولم تتناوله أصلا ، والاستدلال إن كان كذلك فسقوطه كما ترى .
وإيضاح ذلك أن هذه الآية التي فيها تقسيم حكم الأسارى إلى من وفداء ، لم تتناول قطعا إلا الرجال المقاتلين من الكفار ; لأن قوله : فضرب الرقاب ، وقوله : حتى إذا أثخنتموهم - صريح في ذلك كما ترى .
وعلى إثخان هؤلاء المقاتلين رتب بالفاء قوله : فشدوا الوثاق .
فظهر أن الآية لم تتناول أنثى ولا صغيرا البتة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (493)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 251 إلى صـ 258
ويزيد ذلك إيضاحا أن النهي عن قتل نساء الكفار وصبيانهم ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 251 ] وأكثر أهل الرق في أقطار الدنيا إنما هو من النساء والصبيان .
ولو كان الذي يدعي نفي الرق من أصله يعترف بأن الآية ، لا يمكن أن يستدل بها على شيء غير الرجال المقاتلين ، لقصر نفي الرق الذي زعمه على الرجال الذين أسروا في حال كونهم مقاتلين ، ولو قصره على هؤلاء ، لم يمكنه أن يقول بنفي الرق من أصله كما ترى .
الوجه الثاني : هو ما قدمنا من الأدلة على ثبوت الرق في الإسلام . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : حتى تضع الحرب أوزارها أي : إذا لقيتم الكفار فاضربوا أعناقهم حتى إذا أثخنتموهم قتلا فأسروهم حتى تضع الحرب أوزارها أي حتى تنتهي الحرب .
وأظهر الأقوال في معنى وضع الحرب أوزارها أنه وضع السلاح ، والعرب تسمي السلاح وزرا ، وتطلق العرب الأوزار على آلات الحرب وما يساعد فيها كالخيل ، ومنه قول الأعشى : وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا وفي معنى أوزار الحرب أقوال أخر معروفة تركناها ، لأن هذا أظهرها عندنا . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين ، إن نصروا ربهم ، نصرهم على أعدائهم ، وثبت أقدامهم ، أي عصمهم من الفرار والهزيمة .
وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ، وبين في بعضها صفات الذين وعدهم بهذا النصر كقوله تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [ 22 \ 40 ] ، ثم بين صفات الموعودين بهذا النصر في قوله تعالى بعده : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [ 22 \ 41 ] ، وكقوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا [ 40 \ 51 ] ، وقوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 252 ] وقوله تعالى في بيان صفات من وعدهم بالنصر في الآيات المذكورة : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف [ 22 \ 41 ] .
يدل على أن الذين لا يقيمون الصلاة ، ولا يؤتون الزكاة ، ولا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر ، ليس لهم وعد من الله بالنصر البتة .
فمثلهم كمثل الأجير الذي لم يعمل لمستأجره شيئا ، ثم جاءه يطلب منه الأجرة .
فالذين يرتكبون جميع المعاصي ممن يتسمون باسم المسلمين ، ثم يقولون : إن الله سينصرنا - مغررون ; لأنهم ليسوا من حزب الله الموعودين بنصره كما لا يخفى .
ومعنى نصر المؤمنين لله - نصرهم لدينه ولكتابه ، وسعيهم وجهادهم في أن تكون كلمته هي العليا ، وأن تقام حدوده في أرضه ، وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه ، ويحكم في عباده بما أنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها . قد قدمنا إيضاحه في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 83 ] ، وأحلنا على الآيات الموضحة لذلك في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض [ 30 \ 9 ] ، وأوضحناها في الزخرف في الكلام على قوله : فأهلكنا أشد منهم بطشا [ 43 \ 8 ] ، وفي الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه [ 46 \ 26 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم . الآيات التي توضح معنى هذه الآية ، هي المشار إليها في نفس الآية ، التي ذكرنا قبلها .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من إخراج كفار مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - منها بينه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم [ 60 \ ] ، [ ص: 253 ] وقوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك [ 8 - 30 ] .
وقد أخرجوه فعلا بمكرهم المذكور ، وبين - جل وعلا - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين أخرجوا من ديارهم لا ذنب لهم يستوجبون به الإخراج إلا الإيمان بالله ، كما قال تعالى : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ 22 \ 40 ] ، وقال تعالى : يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم [ 60 \ 1 ] ، أي يخرجون الرسول وإياكم لأجل إيمانكم بربكم .
وقال تعالى في إخراجهم له : ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول [ 9 \ 13 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ، غير ابن كثير بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء مشددة مكسورة ونون ساكنة .
وقرأه ابن كثير : " وكائن " بألف بعد الكاف ، وهمزة مكسورة .
وكلهم عند الوقف يقفون على النون الساكنة ، كحال الصلة ، إلا أبا عمرو فإنه يقف على الياء .
وقد قدمنا أوجه القراءة في " كأين " ومعناها ، وما فيها من اللغات ، مع بعض الشواهد العربية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة [ 22 \ 45 ] .
قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين
أنهار الماء وأنهار الخمر التي ذكرها الله في هذه الآية بين بعض صفاتها في آيات أخرى ، كقوله تعالى : تجري من تحتها الأنهار [ 47 \ 12 ] في آيات كثيرة ، وقوله : وماء مسكوب [ 56 \ 31 ] ، وقوله : إن المتقين في ظلال وعيون [ 77 \ 41 ] ، وقوله : [ ص: 254 ] فيها عين جارية [ 88 \ 12 ] ، وقد بين تعالى من صفات خمر الجنة أنها لا تسكر شاربها ، ولا تسبب له الصداع الذي هو وجع الرأس في آيات من كتابه ، كقوله تعالى : لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 19 ] ، وقوله : لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [ 37 \ 47 ] .
وقد قدمنا معنى هذه الآيات بإيضاح في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [ 5 \ 90 ] . الآية
وقوله تعالى في الآية الكريمة : غير آسن أي غير متغير اللون ولا الطعم . والآسن والآجن معناهما واحد ، ومنه قول ذي الرمة :
ومنهل آجن قفر محاضره تذرو الرياح على جماته البعرا
وقول الراجز :
ومنهل فيه الغراب ميت كأنه من الأجون زيت
سقيت منها القوم واستقيت
وبما ذكرنا تعلم أن قوله : غير آسن كقوله : من لبن لم يتغير طعمه .
قوله تعالى : ولهم فيها من كل الثمرات .
قد بين تعالى في سورة البقرة أن الثمار التي يرزقها أهل الجنة يشبه بعضها بعضا في الجودة والحسن والكمال ، ليس فيها شيء رديء ، وذلك في قوله تعالى : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها [ 2 \ 25 ] .
قوله تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم [ 22 \ 19 ] .
قوله تعالى : فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة [ 47 \ 18 ] .
[ ص: 255 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون [ 43 \ 66 ] .
قوله تعالى : فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم .
التحقيق إن شاء الله تعالى في معنى هذه الآية الكريمة ، أن الكفار يوم القيامة ، إذا جاءتهم الساعة ، يتذكرون ويؤمنون بالله ورسله ، وأن الإيمان في ذلك الوقت لا ينفعهم لفوات وقته ، فقوله : ذكراهم مبتدأ خبره فأنى لهم أي كيف تنفعهم ذكراهم وإيمانهم بالله ، وقد فات الوقت الذي يقبل فيه الإيمان .
والضمير المرفوع في جاءتهم عائد إلى الساعة التي هي القيامة .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من أن الكفار يوم القيامة يؤمنون ، ولا ينفعهم إيمانهم - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد [ 34 \ 52 ] ، وقوله تعالى : وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [ 86 \ 23 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : هل ينظرون إلا تأويله إلى قوله : أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] .
فظهر أن قوله : فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم على حذف مضاف ، أي أنى لهم نفع ذكراهم .
والذكرى اسم مصدر بمعنى الاتعاظ الحامل على الإيمان .
قوله تعالى : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه إذا أنزل سورة محكمة ، أي متقنة الألفاظ والمعاني ، واضحة الدلالة ، لا نسخ فيها وذكر فيها وجوب قتال الكفار ، تسبب عن ذلك ، كون الذين في قلوبهم مرض أي شك ونفاق ، ينظرون كنظر الإنسان الذي يغشى عليه ; لأنه في سياق الموت ، لأن نظر من كان كذلك تدور فيه عينه ويزيغ بصره .
[ ص: 256 ] وهذا إنما وقع لهم من شدة الخوف من بأس الكفار المأمور بقتالهم .
وقد صرح - جل وعلا - بأن ذلك من الخوف المذكور في قوله : فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت [ 33 \ 19 ] .
وقد بين تعالى أن الأغنياء من هؤلاء المنافقين ، إذا أنزل الله سورة فيها الأمر بالجهاد ، استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخلف عن الجهاد ، وذمهم الله على ذلك ، وذلك في قوله تعالى : وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ 9 \ 86 ] .
قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها .
الهمزة في قوله : أفلا يتدبرون للإنكار ، والفاء عاطفة على جملة محذوفة ، على أصح القولين ، والتقدير : أيعرضون عن كتاب الله فلا يتدبرون القرآن ; كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وحذف متبوع بدا هنا استبح
وقوله تعالى : أم على قلوب أقفالها " أم " فيه منقطعة بمعنى بل ، فقد أنكر تعالى عليهم إعراضهم عن تدبر القرآن ، بأداة الإنكار التي هي الهمزة ، وبين أن قلوبهم عليها أقفال لا تنفتح لخير ، ولا لفهم قرآن .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من التوبيخ والإنكار على من أعرض عن تدبر كتاب الله ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] ، وقوله تعالى : أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [ 23 \ 68 ] ، وقوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] .
وقد ذم - جل وعلا - المعرض عن هذا القرآن العظيم في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها [ 18 \ 57 ] ، وقوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها [ 32 \ 22 ] .
[ ص: 257 ] ومعلوم أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم أي تصفحها وتفهمها ، وإدراك معانيها والعمل بها ، فإنه معرض عنها ، غير متدبر لها فيستحق الإنكار والتوبيخ المذكور في الآيات إن كان الله أعطاه فهما يقدر به على التدبر ، وقد شكا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن ، كما قال تعالى : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 - 30 ] .
وهذه الآيات المذكورة تدل على أن تدبر القرآن وتفهمه وتعلمه والعمل به ، أمر لا بد منه للمسلمين .
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المشتغلين بذلك هم خير الناس . كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " وقال تعالى : ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون [ 3 \ 79 ] .
فإعراض كثير من الأقطار عن النظر في كتاب الله وتفهمه والعمل به وبالسنة الثابتة المبينة له ، من أعظم المناكر وأشنعها ، وإن ظن فاعلوه أنهم على هدى .
ولا يخفى على عاقل أن القول بمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - اكتفاء عنهما بالمذاهب المدونة ، وانتفاء الحاجة إلى تعلمهما ; لوجود ما يكفي عنهما من مذاهب الأئمة - من أعظم الباطل .
وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة ومخالف لأقوال الأئمة الأربعة .
[ ص: 258 ] فمرتكبه مخالف لله ولرسوله ولأصحاب رسوله جميعا وللأئمة رحمهم الله ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : اعلم أن قول بعض متأخري الأصوليين : إن تدبر هذا القرآن العظيم ، وتفهمه والعمل به لا يجوز إلا للمجتهدين خاصة ، وإن كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق بشروطه المقررة عندهم التي لم يستند اشتراط كثير منها إلى دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس جلي ، ولا أثر عن الصحابة - قول لا مستند له من دليل شرعي أصلا .
بل الحق الذي لا شك فيه ، أن كل من له قدرة من المسلمين ، على التعلم والتفهم ، وإدراك معاني الكتاب والسنة ، يجب عليه تعلمهما ، والعمل بما علم منهما .
أما العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوع إجماعا .
وأما ما علمه منهما علما صحيحا ناشئا عن تعلم صحيح . فله أن يعمل به . ولو آية واحدة أو حديثا واحدا .
ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من يتدبر كتاب الله - عام لجميع الناس .
ومما يوضح ذلك أن المخاطبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار ، ليس أحد منهم مستكملا لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول ، بل ليس عندهم شيء منها أصلا . فلو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالإصلاح الأصولي لما وبخ الله الكفار وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه ، ولما أقام عليهم الحجة به حتى يحصلوا شروط الاجتهاد المقررة عند متأخري الأصوليين ، كما ترى .
ومعلوم أن من المقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، وإذا فدخول الكفار والمنافقين في الآيات المذكورة قطعي ، ولو كان لا يصح الانتفاع بهدي القرآن إلا لخصوص المجتهدين لما أنكر الله على الكفار عدم تدبرهم كتاب الله ، وعدم عملهم به .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (494)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 259 إلى صـ 266
وقد علمت أن الواقع خلاف ذلك قطعا ، ولا يخفى أن شروط الاجتهاد لا تشترط إلا [ ص: 259 ] فيما فيه مجال للاجتهاد . والأمور المنصوصة في نصوص صحيحة من الكتاب والسنة ، لا يجوز الاجتهاد فيها لأحد ، حتى تشترط فيها شروط الاجتهاد ، بل ليس فيها إلا الاتباع ، وبذلك تعلم أن ما ذكره صاحب مراقي السعود تبعا للقرافي من قوله : من لم يكن مجتهدا فالعمل منه بمعنى النص مما يحظل لا يصح على إطلاقه بحال لمعارضته لآيات وأحاديث كثيرة من غير استناد إلى دليل .
ومن المعلوم أنه لا يصح تخصيص عمومات الكتاب والسنة ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه .
ومن المعلوم أيضا أن عمومات الآيات والأحاديث الدالة على حث جميع الناس على العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله - أكثر من أن تحصى ، كقوله - صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي " وقوله - صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي " الحديث ، ونحو ذلك مما لا يحصى .
فتخصيص جميع تلك النصوص بخصوص المجتهدين ، وتحريم الانتفاع بهدي الكتاب والسنة على غيرهم تحريما باتا يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح تخصيص تلك النصوص بآراء جماعات من المتأخرين المقرين على أنفسهم بأنهم من المقلدين .
ومعلوم أن المقلد الصرف ، لا يجوز عده من العلماء ولا من ورثة الأنبياء ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله .
وقال صاحب مراقي السعود في نشر البنود في شرحه لبيته المذكور [ ص: 260 ] آنفا ما نصه : يعني أن غير المجتهد يحظل له ، أي يمنع أن يعمل بمعنى نص من كتاب أو سنة وإن صح سندها لاحتمال عوارضه من نسخ وتقييد ، وتخصيص وغير ذلك من العوارض التي لا يضبطها إلا المجتهد ، فلا يخلصه من الله إلا تقليد مجتهد ، قاله القرافي . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وبه تعلم أنه لا مستند له ، ولا للقرافي الذي تبعه في منع جميع المسلمين غير المجتهدين من العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله ، إلا مطلق احتمال العوارض ، التي تعرض لنصوص الكتاب والسنة ، من نسخ أو تخصيص أو تقييد ونحو ذلك ، وهو مردود من وجهين :
الأول : أن الأصل السلامة من النسخ حتى يثبت ورود الناسخ ، والعام ظاهر في العموم حتى يثبت ورود المخصص ، والمطلق ظاهر في الإطلاق حتى يثبت ورود المقيد ، والنص يجب العمل به حتى يثبت النسخ بدليل شرعي ، والظاهر يجب العمل به عموما كان أو إطلاقا أو غيرهما حتى يرد دليل صارف عنه إلى المحتمل المرجوح ، كما هو معروف في محله .
وأول من زعم أنه لا يجوز العمل بالعام حتى يبحث عن المخصص فلا يوجد ، ونحو ذلك - أبو العباس بن سريج ، وتبعه جماعات من المتأخرين ، حتى حكموا على ذلك الإجماع حكاية لا أساس لها .
وقد أوضح ابن القاسم العبادي في الآيات البينات غلطهم في ذلك ، في كلامه على شرح المحل لقول ابن السبكي في جمع الجوامع ، ويتمسك بالعام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البحث عن المخصص ، وكذا بعد الوفاة ، خلافا لابن سريج ا هـ .
وعلى كل حال فظواهر النصوص من عموم وإطلاق ونحو ذلك ، لا يجوز تركها إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، من مخصص أو مقيد ، لا لمجرد مطلق الاحتمال ، كما هو معلوم في محله .
[ ص: 261 ] فادعاء كثير من المتأخرين ، أنه يجب ترك العمل به حتى يبحث عن المخصص والمقيد مثلا - خلاف التحقيق .
الوجه الثاني : أن غير المجتهد إذا تعلم آيات القرآن ، أو بعض أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعمل بها ، تعلم ذلك النص العام أو المطلق ، وتعلم معه مخصصه ومقيده إن كان مخصصا أو مقيدا ، وتعلم ناسخه إن كان منسوخا ، وتعلم ذلك سهل جدا ، بسؤال العلماء العارفين به ، ومراجعة كتب التفسير والحديث المعتد بها في ذلك ، والصحابة كانوا في العصر الأول يتعلم أحدهم آية فيعمل بها ، وحديثا فيعمل به ، ولا يمتنع من العمل بذلك حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق ، وربما عمل الإنسان بما علم فعلمه ما لم يكن يعلم ، كما يشير له قوله تعالى : واتقوا الله ويعلمكم الله [ 2 \ 282 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [ 8 \ 29 ] ، على القول بأن الفرقان هو العلم النافع الذي يفرق به بين الحق والباطل .
وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به الآية [ 57 \ 28 ] .
وهذه التقوى التي دلت الآيات على أن الله يعلم صاحبها بسببها ما لم يكن يعلم ، لا تزيد على عمله بما علم ، من أمر الله وعليه فهي عمل ببعض ما علم زاده الله به علم ما لم يكن يعلم .
فالقول بمنع العمل بما علم من الكتاب والسنة ، حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق ، هو عين السعي في حرمان جميع المسلمين من الانتفاع بنور القرآن ، حتى يحصلوا شرطا مفقودا في اعتقاد القائلين بذلك . وادعاء مثل هذا على الله وعلى كتابه وعلى سنة رسوله - هو كما ترى .
[ ص: 262 ] تنبيه مهم :
يجب على كل مسلم يخاف العرض على ربه يوم القيامة ، أن يتأمل فيه ليرى لنفسه المخرج من هذه الورطة العظمى ، والطامة الكبرى ، التي عمت جل بلاد المسلمين من المعمورة .
وهي ادعاء الاستغناء عن كتاب الله وسنة رسوله ، استغناء تاما في جميع الأحكام من عبادات ومعاملات ، وحدود وغير ذلك ، بالمذاهب المدونة .
وبناء هذا على مقدمتين :
إحداهما : أن العمل بالكتاب والسنة لا يجوز إلا للمجتهدين .
والثانية : أن المجتهدين معدومون عدما كليا ، لا وجود لأحد منهم في الدنيا ، وأنه بناء على هاتين المقدمتين ، يمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله منعا باتا على جميع أهل الأرض ، ويستغنى عنهما بالمذاهب المدونة .
وزاد كثير منهم على هذا منع تقليد غير المذاهب الأربعة ، وأن ذلك يلزم استمراره إلى آخر الزمان .
فتأمل يا أخي رحمك الله : كيف يسوغ لمسلم ، أن يقول بمنع الاهتداء بكتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدم وجوب تعلمهما والعمل بهما استغناء عنهما بكلام رجال غير معصومين ولا خلاف في أنهم يخطئون .
فإن كان قصدهم أن الكتاب والسنة ، لا حاجة إلى تعلمهما ، وأنهما يغني غيرهما ، فهذا بهتان عظيم ، ومنكر من القول وزور .
وإن كان قصدهم أن تعلمهما صعب لا يقدر عليه ، فهو أيضا زعم باطل ; لأن تعلم الكتاب والسنة أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة ، مع كونها في غاية التعقيد [ ص: 263 ] والكثرة ، والله - جل وعلا - يقول في سورة القمر مرات متعددة : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 17 - 22 - 32 - 40 ] ، ويقول تعالى في الدخان : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ 44 \ 58 ] ، ويقول في مريم : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] .
فهو كتاب ميسر بتيسير الله لمن وفقه الله للعمل به ، والله - جل وعلا - يقول : بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم [ 29 \ 49 ] ، ويقول : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 52 ] .
فلا شك أن الذي يتباعد عن هداه يحاول التباعد عن هدى الله ورحمته .
ولا شك أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله إلى أرضه ، ليستضاء به ، فيعلم في ضوئه الحق من الباطل ، والحسن من القبيح ، والنافع من الضار ، والرشد من الغي .
قال الله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا [ 4 \ 174 ] .
وقال تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ 5 \ 15 ] ، وقال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [ 42 \ 52 ] ، وقال تعالى : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] ، وقال تعالى : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [ 7 \ 157 ] .
فإذا علمت أيها المسلم أن هذا القرآن العظيم ، هو النور الذي أنزله الله ليستضاء به ، ويهتدى بهداه في أرضه ، فكيف ترضى لبصيرتك أن تعمى عن النور .
فلا تكن خفاشي البصيرة ، واحذر أن تكون ممن قيل فيهم :
خفافيش أعماها النهار بضوئه
ووافقها قطع من الليل مظلم
مثل النهار يزيد أبصار الورى
نورا ويعمي أعين الخفاش
[ ص: 264 ] يكاد البرق يخطف أبصارهم [ 2 \ 20 ] ، أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب [ 13 \ 19 ] .
ولا شك أن من عميت بصيرته عن النور تخبط في الظلام ، ومن لم يجعل الله له نورا ، فما له من نور .
وبهذا تعلم أيها المسلم المنصف ، أنه يجب عليك الجد والاجتهاد في تعلم كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالوسائل النافعة المنتجة ، والعمل بكل ما علمك الله منهما علما صحيحا .
ولتعلم أن تعلم كتاب الله وسنة رسوله في هذا الزمان أيسر منه بكثير في القرون الأولى ، لسهولة معرفة جميع ما يتعلق بذلك ، من ناسخ ومنسوخ وعام وخاص ، ومطلق ومقيد ، ومجمل ومبين وأحوال الرجال ، من رواة الحديث ، والتمييز بين الصحيح والضعيف ; لأن الجميع ضبط وأتقن ودون ، فالجميع سهل التناول اليوم .
فكل آية من كتاب الله قد علم ما جاء فيها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم من الصحابة والتابعين وكبار المفسرين .
وجميع الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - حفظت ودونت ، وعلمت أحوال متونها وأسانيدها ، وما يتطرق إليها من العلل والضعف .
فجميع الشروط التي اشترطوها في الاجتهاد يسهل تحصيلها جدا على كل من رزقه الله فهما وعلما .
والناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، ونحو ذلك تسهل معرفته اليوم على كل ناظر في الكتاب والسنة ممن رزقه الله فهما ووفقه لتعلم كتاب الله وسنة رسوله .
واعلم أيها المسلم المنصف ، أن من أشنع الباطل وأعظم القول بغير الحق ، على الله وكتابه وعلى النبي وسنته المطهرة ، ما قاله الشيخ أحمد الصاوي في حاشيته على الجلالين في سورة الكهف وآل عمران واغتر بقوله في ذلك خلق لا يحصى من المتسمين باسم طلبة العلم ; لكونهم لا يميزون بين حق وباطل .
[ ص: 265 ] فقد قال الصاوي أحمد المذكور في الكلام على قوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا [ 18 \ 23 ] بعد أن ذكر الأقوال في انفصال الاستثناء عن المستثنى منه بزمان - ما نصه : وعامة المذاهب الأربعة على خلاف ذلك كله ، فإن شرط حل الأيمان بالمشيئة أن تتصل ، وأن يقصد بها حل اليمين ، ولا يضر الفصل بتنفس أو سعال أو عطاس ، ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية ، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل ، وربما أداه ذلك للكفر ; لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر . انتهى منه بلفظه .
فانظر يا أخي - رحمك الله - ما أشنع هذا الكلام وما أبطله ، وما أجرأ قائله على الله وكتابه ، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سبحانك هذا بهتان عظيم .
أما قوله بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة ، ولو كانت أقوالهم مخالفة للكتاب والسنة ، وأقوال الصحابة ، فهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، وإجماع الأئمة الأربعة أنفسهم ، كما سنرى إيضاحه إن شاء الله بما لا مزيد عليه في المسائل الآتية بعد هذه المسألة ، فالذي ينصره هو الضال المضل .
وأما قوله : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، فهذا أيضا من أشنع [ ص: 266 ] الباطل وأعظمه ، وقائله من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - سبحانك هذا بهتان عظيم .
والتحقيق الذي لا شك فيه ، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة علماء المسلمين أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال من الأحوال بوجه من الوجوه ، حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح .
والقول بأن العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يصدر البتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله ، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلا ; لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفرا ، والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد مما ظنه أشد من بعد الشمس من اللمس .
ومما يوضح لك ذلك : أن آية الكهف هذه التي ظن الصاوي أن ظاهرها حل الأيمان بالتعليق بالمشيئة المتأخر زمنها عن اليمين ، وأن ذلك مخالف للمذاهب الأربعة : وبنى على ذلك أن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، كله باطل لا أساس له .
وظاهر الآية بعيد مما ظن ، بل الظن الذي ظنه والزعم الذي زعمه لا تشير الآية إليه أصلا ، ولا تدل عليه لا بدلالة المطابقة ، ولا التضمن ولا الالتزام ، فضلا على أن تكون ظاهرة فيه .
وسبب نزولها يزيد ذلك إيضاحا ; لأن سبب نزول الآية أن الكفار سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، فقال لهم : سأخبركم غدا ، ولم يقل إن شاء الله ، فعاتبه ربه بعدم تفويض الأمر إليه ، وعدم تعليقه بمشيئته - جل وعلا - فتأخر عنه الوحي .
ثم علمه الله في الآية الأدب معه ، في قوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] .
ثم قال لنبيه : واذكر ربك إذا نسيت [ 18 \ 24 ] ، يعني إن قلت سأفعل كذا غدا ، ثم نسيت أن تقول : إن شاء الله ، ثم تذكرت بعد ذلك ، فاذكر ربك ، أي قل : إن شاء الله ، أي لتتدارك بذلك الأدب مع الله الذي فاتك عند وقته ، بسبب النسيان ، وتخرج من عهدة النهي في قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (495)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 267 إلى صـ 274
[ ص: 267 ] والتعليق بهذه المشيئة المتأخرة لأجل المعنى المذكور الذي هو ظاهر الآية الصحيح لا يخالف مذهبا من المذاهب الأربعة ولا غيرهم ، وهو التحقيق في مراد ابن عباس بما ينقل عنه من جواز تأخير الاستثناء كما أوضحه كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله .
وقد قدمنا إيضاحه في الكلام على آية الكهف هذه . فيا أتباع الصاوي المقلدين له تقليدا أعمى على جهالة عمياء ، أين دل ظاهر آية الكهف هذه على اليمين بالله ، أو بالطلاق ، أو بالعتق ، أو بغير ذلك من الأيمان ؟
هل النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف لما قال للكفار : سأخبركم غدا ؟
وهل قال الله : ولا تقولن لشيء إني حالف سأفعل ذلك غدا ؟
ومن أين جئتم باليمين ، حتى قلتم : إن ظاهر القرآن هو حل الأيمان بالمشيئة المتأخرة عنها ، وبنيتم على ذلك أن ظاهر الآية مخالف لمذاهب الأئمة الأربعة ، وأن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ؟
ومما يزيد ما ذكرنا إيضاحا ما قاله الصاوي أيضا في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله [ 3 \ 7 ] ، فإنه قال على كلام الجلال ما نصه : زيغ أي ميل عن الحق للباطل ، قوله : بوقوعهم في الشبهات واللبس ، أي كنصارى نجران ، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن ، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة ا هـ .
فانظر - رحمك الله - ما أشنع هذا الكلام ، وما أبطله ، وما أجرأ قائله على انتهاك حرمات الله وكتابه ونبيه وسنته - صلى الله عليه وسلم - وما أدله على أن صاحبه لا يدري ما يتكلم به . فإنه جعل ما قاله نصارى نجران هو ظاهر كتاب الله ، ولذا جعل مثلهم من حذا حذوهم ، فأخذ بظاهر القرآن .
وذكر أن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، مع أنه لا يدري وجه ادعاء نصارى نجران على ظاهر القرآن أنه كفر ، مع أنه مسلم أن ادعاءهم على ظاهر القرآن أنه كفرهم ومن حذا حذوهم ادعاء صحيح ، إلا أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر .
[ ص: 268 ] وقد قال قبل هذا : قيل سبب نزولها أن وفد نجران قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم : ألست تقول : إن عيسى روح الله وكلمته ؟ فقال : نعم ، فقالوا : حسبنا ، أي كفانا ذلك في كونه ابن الله . فنزلت الآية .
فاتضح أن الصاوي يعتقد أن ادعاء نصارى نجران أن ظاهر قوله تعالى : وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [ 4 \ 171 ] ، هو أن عيسى ابن الله ادعاء صحيح ، وبنى على ذلك أن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر .
وهذا كله من أشنع الباطل وأعظمه ، فالآية لا يفهم من ظاهرها البتة ، بوجه من الوجوه ، ولا بدلالة من الدلالات ، أن عيسى ابن الله ، وادعاء نصارى نجران ذلك كذب بحت .
فقول الصاوي كنصارى نجران ، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظواهر القرآن صريح في أنه يعتقد أن ما ادعاه وفد نجران من كون عيسى ابن الله هو ظاهر القرآن اعتقاد باطل باطل باطل ، حاشا القرآن العظيم من أن يكون هذا الكفر البواح ظاهره ، بل هو لا يدل عليه البتة فضلا عن أن يكون ظاهره ، وقوله : وروح منه كقوله تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ 45 \ 13 ] ، أي كل ذلك من عيسى ومن تسخير السماوات والأرض مبدؤه ومنشؤه - جل وعلا .
فلفظة " من " في الآيتين لابتداء الغاية ، وذلك هو ظاهر القرآن وهو الحق خلافا لما زعمه الصاوي وحكاه عن نصارى نجران .
وقد اتضح بما ذكرنا أن الذين يقولون : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يعلمون ما هي الظواهر ، وأنهم يعتقدون شيئا ظاهر النص ، والواقع أن النص لا يدل عليه بحال من الأحوال فضلا عن أن يكون ظاهره .
فبنوا باطلا على باطل ، ولا شك أن الباطل لا يبنى عليه إلا الباطل .
ولو تصوروا معاني ظواهر الكتاب والسنة على حقيقتها لمنعهم ذلك من أن يقولوا ما قالوا .
فتصور الصاوي أن ظاهر آية الكهف المتقدمة هو حل الأيمان ، بالتعليق بالمشيئة [ ص: 269 ] المتأخر زمنها عن اليمين ، وبناؤه على ذلك مخالفة ظاهر الآية لمذاهب الأئمة الأربعة ، وأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، مع أن الآية لا تشير أصلا إلى ما اعتقد أنه ظاهرها .
وكذلك اعتقاده أن ظاهر آية آل عمران المذكورة هو ما زعمه نصارى نجران ، من أن عيسى ابن الله فإنه كله باطل وليس شيء مما زعم - ظاهر القرآن مطلقا ، كما لا يخفى على عاقل .
وقول الصاوي في كلامه المذكور في سورة آل عمران : إن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، قول باطل لا يشك في بطلانه من عنده أدنى معرفة .
ومن هم العلماء الذين قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ؟
سموهم لنا ، وبينوا لنا من هم ؟
والحق الذي لا شك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم ، ولا متعلم ; لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده ، وتنفذ به أوامره ، وينصف به بين عباده في أرضه .
والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جدا لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جدا كقوله تعالى :فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة [ 2 \ 196 ] .
والغالب الذي هو الأكثر هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر .
وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه إلى المحتمل المرجوح ، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول .
فتنفير الناس وإبعادها عن كتاب الله ، وسنة رسوله ، بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من [ ص: 270 ] أصول الكفر هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى .
وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر ، ويتباعد منها كل التباعد ويتجنب أسبابها كل الاجتناب فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من الأخذ بظواهر الوحي .
وهذا كما ترى ، وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معان قبيحة ، ليست بلائقة .
والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك .
وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر كتاب الله ، وسنة رسوله ، هو عدم معرفة مدعيها .
ولأجل هذه البلية العظمى ، والطامة الكبرى ، زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم ، أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله ، لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه ، وعقد ذلك المقرئ في إضاءته في قوله :
والنص إن أوهم غير اللائق بالله كالتشبيه بالخلائق فاصرفه عن ظاهره إجماعا واقطع عن الممتنع الأطماعا وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى ، وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم .
والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها ، لكل مسلم راجع عقله ، هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه . ولا بد أن نتساءل هنا ، فنقول :
أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال ؟
والجواب الذي لا جواب غيره : بلى .
وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال إن اللفظ الدال على صفته [ ص: 271 ] تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة الخلق ؟
والجواب الذي لا جواب غيره : لا .
فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظا أنزله الله في كتابه مثلا دالا على صفة من صفات الله أثنى بها تعالى على نفسه يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .
فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف وصفاتهما متخالفة كل التخالف .
فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق ؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق ؟
فكل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقا بالخالق منزها عن مشابهة صفات المخلوق .
وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق .
فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق ، هو كونها جارحة هي عظم ولحم ودم ، وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى : فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] .
والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، أنها صفة كمال وجلال ، لائقة بالله - جل وعلا - ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله .
وقد بين - جل وعلا - عظم هذه الصفة وما هي عليه من الكمال والجلال ، وبين أنها من صفات التأثير كالقدرة ، قال تعالى في تعظيم شأنها : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [ 39 \ 67 ] .
[ ص: 272 ] وبين أنها صفة تأثير كالقدرة في قوله تعالى : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ، فتصريحه تعالى بأنه خلق نبيه آدم بهذه الصفة العظيمة التي هي صفات كماله وجلاله يدل على أنها من صفات التأثير كما ترى .
ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة ، لإجماع أهل الحق والباطل ، كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة .
ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة العظيمة من صفات خالق السماوات والأرض .
فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية المذكورة وأمثالها لا يليق بالله ; لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان ، وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث ، ولم تكتف بهذا حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها - أن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى ، وعلى كتابه العظيم ، وأنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين ، وقد جرك شؤم هذا التشبيه إلى ورطة التعطيل ، فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به ، وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قول أحد من السلف .
وماذا عليك لو صدقت الله ، وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ؟
وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق ؟
هل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق عن أحد حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق ؟
فاخش الله يا إنسان ، واحذر من التقول على الله بلا علم ، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه .
واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به والوصف غير اللائق به ، حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول : هذا الذي وصفت به [ ص: 273 ] نفسك غير لائق بك ، وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ، ولا من رسولك ، وآتيك بدله بالوصف اللائق بك .
فاليد مثلا التي وصفت بها نفسك لا تليق بك لدلالتها على التشبيه بالجارحة ، وأنا أنفيها عنك نفيا باتا ، وأبدلها لك بوصف لائق بك ، وهو النعمة أو القدرة مثلا أو الجود .
سبحانك هذا بهتان عظيم .
فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور .
ومن الغريب أن بعض الجاحدين لصفات الله المئولين لها بمعان لم ترد عن الله ، ولا عن رسوله يؤمنون فيها ببعض الكتاب دون بعض .
فيقرون بأن الصفات السبع التي تشتق منها أوصاف ثابتة لله مع التنزيه ، ونعني بها القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ; لأنها يشتق منها قادر حي عليم إلخ ، وكذلك في بعض الصفات الجامعة كالعظمة والكبرياء والملك والجلال مثلا ; لأنها يشتق منها العظيم المتكبر والجليل والملك ، وهكذا يجحدون كل صفة ثبتت في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يشتق منها غيرها كصفة اليد والوجه ونحو ذلك ، ولا شك أن هذا التفريق بين صفات الله التي أثبتها لنفسه ، أو أثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا وجه له البتة بوجه من الوجوه .
ولم يرد عن الله ، ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - الإذن في الإيمان ببعض صفاته وجحد بعضها وتأويله ; لأنها لا يشتق منها .
وهل يتصور عاقل أن يكون عدم الاشتقاق مسوغا لجحد ما وصف الله به نفسه ؟
ولا شك عند كل مسلم راجع عقله ، أن عدم الاشتقاق لا يرد به كلام الله فيما أثنى به على نفسه ، ولا كلام رسوله فيما وصف به ربه .
والسبب الموجب للإيمان إيجابا حتما كليا هو كونه من عند الله ، وهذا السبب هو الذي علم الراسخون في العلم أنه الموجب للإيمان بكل ما جاء عن الله ، سواء استأثر الله [ ص: 274 ] بعلمه كالمتشابه ، أو كان مما يعلمه الراسخون في العلم ، كما قال الله عنهم : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ 3 \ 7 ] .
فلا شك أن قوله تعالى : لما خلقت بيدي من عند ربنا ، وقوله تعالى : والله على كل شيء قدير [ 2 \ 284 ] من عند ربنا أيضا فيجب علينا الإيمان بالجميع ; لأنه كله من عند ربنا .
أما الذي يفرق بينه ، وهو عالم بأن كله من عند ربه ، بأن هذا يشتق منه ، وهذا لا يشتق منه فقد آمن ببعض الكتاب دون بعض .
والمقصود أن كل ما جاء من عند الله يجب الإيمان به ، سواء كان من المتشابه ، أو من غير المتشابه ، وسواء كان يشتق منه أو لا .
ومعلوم أن مالكا - رحمه الله - سئل كيف استوى ؟ فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب .
وما يزعمه بعضهم من أن القدرة والإرادة مثلا ونحوهما ليست كاليد ، والوجه ، بدعوى أن القدرة والإرادة مثلا ظهرت آثارهما في العالم العلوي والسفلي ، بخلاف غيرهما كصفة اليد ونحوها فهو من أعظم الباطل .
ومما يوضح ذلك أن الذي يقوله هو وأبوه وجده من آثار صفة اليد التي خلق الله بها نبيه آدم .
ونحن نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد ; لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه ، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه .
فقصدهم حسن ، ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيئة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (496)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 275 إلى صـ 282
وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها نفسه يدل ظاهره على مشابهة صفة الخلق فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصدا منهم لتنزيه الله ، وأولوها بمعنى آخر يقتضي التنزيه في ظنهم فهم كما قال الشافعي رحمه الله : رام نفعا فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم ، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى : [ ص: 275 ] وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما [ 33 \ 5 ] .
وخطؤهم المذكور لا شك فيه ، ولو وفقهم الله لتطهير قلوبهم من التشبيه أولا ، وجزموا بأن ظاهر صفة الخالق هو التنزيه عن مشابهة صفة المخلوق ، لسلموا مما وقعوا فيه .
ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عالم كل العلم ، بأن الظاهر المتبادر ، مما مدح الله به نفسه في آيات الصفات هو التنزيه التام عن صفات الخلق ، ولو كان يخطر في ذهنه أن ظاهره لا يليق ; لأنه تشبيه بصفات الخلق ، لبادر كل المبادرة إلى بيان ذلك ; لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، ولا سيما في العقائد ، ولا سيما فيما ظاهره الكفر والتشبيه .
فسكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيان هذا يدل على أن ما زعمه المئولون لا أساس له كما ترى .
فإن قيل : إن هذا القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين ، والعرب لا تعرف في لغتها كيفية لليد مثلا ، إلا كيفية المعاني المعروفة عندها كالجارحة ، وغيرها من معاني اليد المعروفة في اللغة ، فبينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم .
فالجواب من وجهين :
الوجه الأول : أن العرب لا تدرك كيفيات صفات الله من لغتها ، لشدة منافاة صفة الله لصفة الخلق .
والعرب لا تعرف عقولهم كيفيات إلا لصفات الخلق ، فلا تعرف العرب كيفية للسمع والبصر ، إلا هذه المشاهدة في حاسة الأذن والعين ، أما سمع لا يقوم بأذن ، وبصر لا يقوم بحدقة ، فهذا لا يعرفون له كيفية البتة .
فلا فرق بين السمع والبصر ، وبين اليد والاستواء ، فالذي تعرف كيفيته العرب من لغتها من جميع ذلك هو المشاهد في المخلوقات .
[ ص: 276 ] وأما الذي اتصف الله به من ذلك ، فلا تعرف له العرب كيفية ، ولا حدا لمخالفة صفاته لصفات الخلق ، إلا أنهم يعرفون من لغتهم أصل المعنى ، كما قال الإمام مالك رحمه الله : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
كما يعرفون من لغتهم أن بين الخالق والمخلوق ، والرازق والمرزوق ، والمحيي والمحيا ، والمميت والممات - فوارق عظيمة لا حد لها تستلزم المخالفة التامة ، بين صفات الخالق والمخلوق .
الوجه الثاني : أن نقول لمن قال : بينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم ، من كونها صفة كمال وجلال ، منزهة عن مشابهة جارحة المخلوق .
هل عرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة باليد ، فلا بد أن يقول : لا . فإن قال ذلك .
قلنا : معرفة كيفية الصفات تتوقف على معرفة كيفية الذات .
فالذات والصفات من باب واحد .
فكما أن ذاته - جل وعلا - تخالف جميع الذوات ، فإن صفاته تخالف جميع الصفات .
ومعلوم أن الصفات تختلف وتتباين باختلاف موصوفاتها .
ألا ترى مثلا أن لفظة رأس كلمة واحدة ؟
إن أضفتها إلى الإنسان ، فقلت : رأس الإنسان ، وإلى الوادي ، فقلت : رأس الوادي ، وإلى المال ، فقلت : رأس المال ، وإلى الجبل ، فقلت : رأس الجبل .
فإن كلمة الرأس اختلفت معانيها ، وتباينت تباينا شديدا بحسب اختلاف إضافتها ، مع أنها في مخلوقات حقيرة .
[ ص: 277 ] فما بالك بما أضيف من الصفات إلى الله ، وما أضيف منها إلى خلقه ، فإنه يتباين كتباين الخالق والمخلوق ، كما لا يخفى .
فاتضح بما ذكر أن الشرط في قول المقرئ في إضاءته :
والنص إن أوهم غير اللائق
شرط مفقود قطعا ; لأن نصوص الوحي الواردة في صفات الله لا تدل ظواهرها البتة إلا على تنزيه الله ، ومخالفته لخلقه في الذات والصفات والأفعال .
فكل المسلمين الذين يراجعون عقولهم ، لا يشك أحد منهم في أن الظاهر المتبادر السابق إلى ذهن المسلم هو مخالفة الله لخلقه ، كما نص عليه بقوله : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] ، وقوله : ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 4 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وبذلك تعلم أن الإجماع الذي بناه على ذلك في قوله :
فاصرفه عن ظاهره إجماعا
إجماع مفقود أصلا ، ولا وجود له البتة ; لأنه مبني على شرط مفقود لا وجود له البتة .
فالإجماع المعدوم المزعوم لم يرد في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله ، ولم يقله أحد من أصحاب رسول الله ، ولا من تابعيهم ، ولم يقله أحد من الأئمة الأربعة ، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين .
وإنما لم يقولوا بذلك ; لأنهم يعلمون أن ظواهر نصوص الوحي لا تدل إلا على تنزيه الله عن مشابهة خلقه ، وهذا الظاهر الذي هو تنزيه الله لا داعي لصرفها عنه كما ترى .
ولأجل هذا كله قلنا في مقدمة هذا الكتاب المبارك : إن الله تبارك وتعالى موصوف [ ص: 278 ] بتلك الصفات حقيقة لا مجازا ; لأنا نعتقد اعتقادا جازما لا يتطرق إليه شك أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها ، لا تدل البتة إلا على التنزيه عن مشابهة الخلق واتصافه تعالى بالكمال والجلال .
وإثبات التنزيه والكمال والجلال لله حقيقة لا مجازا - لا ينكره مسلم .
ومما يدعو إلى التصريح بلفظ الحقيقة ، ونفي المجاز ، كثرة الجاهلين الزاعمين أن تلك الصفات لا حقائق لها ، وأنها كلها مجازات .
وجعلوا ذلك طريقا إلى نفيها ; لأن المجاز يجوز نفيه ، والحقيقة لا يجوز نفيها .
فقالوا مثلا : اليد مجاز يراد به القدرة والنعمة أو الجود ، فنفوا صفة اليد ، لأنها مجاز .
وقالوا : على العرش استوى مجاز فنفوا الاستواء ; لأنه مجاز .
وقالوا : معنى " استوى " استولى ، وشبهوا استيلاءه باستيلاء بشر بن مروان على العراق .
ولو تدبروا كتاب الله لمنعهم ذلك من تبديل الاستواء بالاستيلاء ، وتبديل اليد بالقدرة أو النعمة ; لأن الله - جل وعلا - يقول في محكم كتابه في سورة البقرة : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون [ 2 \ 59 ] ، ويقول في الأعراف فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون [ 7 \ 162 ] ، فالقول الذي قاله الله لهم هو قوله " حطة " وهي فعلة من الحط بمعنى الوضع خبر مبتدأ محذوف ، أي دعاؤنا ومسألتنا لك حطة لذنوبنا ، أي حط ووضع لها عنا فهي بمعنى طلب المغفرة ، وفي بعض روايات الحديث في شأنهم أنهم بدلوا هذا القول بأن زادوا نونا فقالوا : حنطة ، وهي القمح .
وأهل التأويل قيل لهم : على العرش استوى ، فزادوا لاما ، فقالوا : استولى .
[ ص: 279 ] وهذه اللام التي زادوها أشبه شيء بالنون التي زادها اليهود في قوله تعالى : وقولوا حطة . ويقول الله - جل وعلا - في منع تبديل القرآن بغيره : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم .
ولا شك أن من بدل استوى باستولى مثلا لم يتبع ما أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم .
فعليه أن يجتنب التبديل ويخاف العذاب العظيم ، الذي خافه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو عصى الله فبدل قرآنا بغيره المذكور في قوله : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم .
واليهود لم ينكروا أن اللفظ الذي قاله الله لهم : هو لفظ حطة ولكنهم حرفوه بالزيادة المذكورة .
وأهل هذه المقالة لم ينكروا أن كلمة القرآن هي استوى ، ولكن حرفوها وقالوا في معناها : استولى وإنما أبدلوها بها ; لأنها أصلح في زعمهم من لفظ كلمة القرآن ، لأن كلمة القرآن توهم غير اللائق ، وكلمة استولى في زعمهم هي المنزهة اللائقة بالله مع أنه لا يعقل تشبيه أشنع من تشبيه استيلاء الله على عرشه المزعوم ، باستيلاء بشر على العراق .
وهل كان أحد يغالب الله على عرشه حتى غلبه على العرش واستولى عليه ؟
وهل يوجد شيء إلا والله مستول عليه ، فالله مستول على كل شيء .
وهل يجوز أن يقال إنه تعالى استوى على كل شيء غير العرش ؟
فافهم .
[ ص: 280 ] وعلى كل حال ، فإن المئول زعم أن الاستواء يوهم غير اللائق بالله لاستلزامه مشابهة استواء الخلق ، وجاء بدله بالاستيلاء ، لأنه هو اللائق به في زعمه ، ولم ينتبه .
لأن تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء بشر بن مروان على العراق هو أفظع أنواع التشبيه ، وليس بلائق قطعا ، إلا أنه يقول : إن الاستيلاء المزعوم منزه عن مشابهة استيلاء الخلق ، مع أنه ضرب له المثل باستيلاء بشر على العراق والله يقول : فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون [ 16 \ 74 ] .
ونحن نقول : أيها المئول هذا التأويل ، نحن نسألك إذا علمت أنه لا بد من تنزيه أحد اللفظين أعني لفظ استوى الذي أنزل الله به الملك على النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنا يتلى ، كل حرف منه عشر حسنات ، ومن أنكر أنه من كتاب الله كفر .
ولفظة استولى التي جاء بها قوم من تلقاء أنفسهم من غير استناد إلى نص من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من السلف .
فأي الكلمتين أحق بالتنزيه في رأيك . الأحق بالتنزيه كلمة القرآن المنزلة من الله على رسوله ، أم كلمتكم التي جئتم بها من تلقاء أنفسكم ، من غير مستند أصلا ؟
ونحن لا يخفى علينا الجواب الصحيح ، عن هذا السؤال إن كنت لا تعرفه .
واعلم أن ما ذكرنا من أن ما وصف الله به نفسه من الصفات ، فهو موصوف به حقيقة لا مجازا ، على الوجه اللائق بكماله وجلاله .
وأنه لا فرق البتة بين صفة يشتق منها وصف ، كالسمع والبصر والحياة .
وبين صفة لا يشتق منها كالوجه واليد .
وأن تأويل الصفات كتأويل الاستواء بالاستيلاء ، لا يجوز ولا يصح .
هو معتقد أبي الحسن الأشعري رحمه الله .
وهو معتقد عامة السلف ، وهو الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
فمن ادعى على أبي الحسن الأشعري أنه يئول صفة من الصفات ، كالوجه واليد والاستواء ، ونحو ذلك فقد افترى عليه افتراء عظيما .
[ ص: 281 ] بل الأشعري رحمه الله مصرح في كتبه العظيمة التي صنفها بعد رجوعه عن الاعتزال ، ( كالموجز ) ، ( ومقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ) ، ( والإبانة عن أصول الديانة ) أن معتقده الذي يدين الله به هو ما كان عليه السلف الصالح من الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإثبات ذلك كله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل .
وأن ذلك لا يصح تأويله ، ولا القول بالمجاز فيه .
وأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو مذهب المعتزلة ومن ضاهاهم .
وهو أعلم الناس بأقوال المعتزلة ، لأنه كان أعظم إمام في مذهبهم ، قبل أن يهديه الله إلى الحق ، وسنذكر لك هنا بعض نصوص أبي الحسن الأشعري رحمه الله لتعلم صحة ما ذكرنا عنه .
قال رحمه الله ( في كتاب الإبانة عن أصول الديانة ) الذي قال غير واحد أنه آخر كتاب صنفه ، ما نصه :
فإن قال لنا قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة ، والمرجئة ، فعرفونا قولكم الذي به تقولون ، وديانتكم التي بها تدينون ، قيل له :
قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها ، التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث .
ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون .
لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين وشك الشاكين . فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم ، وعلى جميع أئمة المسلمين .
وجملة قولنا : أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله ، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرد من ذلك شيئا .
وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو فرد صمد ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن [ ص: 282 ] محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور .
وأن الله استوى على عرشه كما قال : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وأن له وجها كما قال : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 27 ] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال : خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وكما قال : بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] ، وأن له عينان بلا كيف كما قال : تجري بأعيننا [ 54 \ 14 ] . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وبه تعلم أن من يفتري على الأشعري - أنه من المئولين المدعين أن ظاهر آيات الصفات وأحاديثها لا يليق بالله - كاذب عليه كذبا شنيعا .
وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة أيضا في إثبات الاستواء لله تعالى ما نصه :
إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له : نقول : إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال : الرحمن على العرش استوى . وقد قال الله عز وجل : إليه يصعد الكلم الطيب [ 35 \ 10 ] ، وقد قال : بل رفعه الله إليه [ 4 \ 158 ] ، وقال عز وجل : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه [ 32 \ 5 ] ، وقال حكاية عن فرعون : ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا [ 40 \ 36 ] .
فكذب فرعون نبي الله موسى عليه السلام في قوله : ( إن الله عز وجل فوق السماوات ) . وقال عز وجل : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض .
فالسماوات فوقها العرش ، فلما كان العرش فوق السماوات قال : أأمنتم من في السماء لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات ، وكل ما علا فهو سماء ، فالعرش أعلى السماوات . هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة المذكور .
وقد أطال رحمه الله في الكلام بذكر الأدلة القرآنية في إثبات صفة الاستواء ، وصفة العلو لله - جل وعلا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (497)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 283 إلى صـ 290
ومن جملة كلامه المشار إليه ما نصه :
[ ص: 283 ] وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية : إن قول الله عز وجل : الرحمن على العرش استوى أنه استولى وملك وقهر ، وأن الله عز وجل في كل مكان . وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه كما قال أهل الحق ، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة .
ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض ، فالله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش ، وعلى كل ما في العالم .
فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأفراد ، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها .
وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول :
إن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية ، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها .
ووجب أن يكون معناه استواء يختص العرش دون الأشياء كلها .
وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله عز وجل في كل مكان فلزمهم أنه في بطن مريم وفي الحشوش والأخلية .
وهذا خلاف الدين - تعالى الله عن قولهم . ا هـ .
هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في آخر مصنفاته ، وهو كتاب الإبانة عن أصول الديانة .
وتراه صرح رحمه الله بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو قول المعتزلة والجهمية والحرورية لا قول أحد من أهل السنة وأقام البراهين الواضحة على بطلان ذلك .
فليعلم مئولو الاستواء بالاستيلاء أن سلفه في ذلك المعتزلة والجهمية والحرورية ، لا أبو الحسن الأشعري رحمه الله ولا أحد من السلف .
وقد أوضحنا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] أن قول الجهمية ومن تبعهم : إن الله في كل مكان - قول باطل .
[ ص: 284 ] لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأقل وأصغر ، من أن يسع شيء منها خالق السماوات والأرض ، الذي هو أعظم وأكبر من كل شيء ، وهو محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء .
فانظر إيضاح ذلك في الأنعام .
واعلم أن ما يزعمه كثير من الجهلة ، من أن ما في القرآن العظيم من صفة الاستواء والعلو والفوقية يستلزم الجهة ، وأن ذلك محال على الله ، وأنه يجب نفي الاستواء والعلو والفوقية ، وتأويلها بما لا دليل عليه من المعاني كله باطل .
وسببه سوء الظن بالله وبكتابه ، وعلى كل حال فمدعي لزوم الجهة لظواهر نصوص القرآن العظيم . واستلزام ذلك للنقص الموجب للتأويل يقال له :
ما مرادك بالجهة ؟
إن كنت تريد بالجهة مكانا موجودا انحصر فيه الله ، فهذا ليس بظاهر القرآن ، ولم يقله أحد من المسلمين .
وإن كنت تريد بالجهة العدم المحض .
فالعدم عبارة عن لا شيء .
فميز أولا بين الشيء الموجود ، وبين لا شيء .
وقد قال أيضا أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة أيضا ما نصه :
فإن سئلنا : أتقولون : إن لله يدين ؟ قيل : نقول ذلك ، وقد دل عليه قوله عز وجل : يد الله فوق أيديهم [ 48 \ 10 ] ، وقوله عز وجل : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] .
وأطال رحمه الله الكلام في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات صفة اليدين لله .
ومن جملة ما قال ما نصه :
ويقال لهم : لم أنكرتم أن يكون الله عز وجل عنى بقوله : يدي يدين ليستا نعمتين .
فإن قالوا : لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة .
[ ص: 285 ] قيل لهم : ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة ؟
فإن رجوعنا إلى شاهدنا ، وإلى ما نجده فيما بيننا من الخلق ؟
فقالوا : اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة .
قيل لهم : إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على الله عز وجل فكذلك لم نجد حيا من الخلق إلا جسما لحما ودما ، فاقضوا بذلك على الله عز وجل .
وإلا فأنتم لقولكم متأولون ولاعتلالكم ناقضون .
وإن أثبتم حيا لا كالأحياء منا .
فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله عز وجل عنهما ، يدين ليستا نعمتين ، ولا جارحتين ، ولا كالأيدي ؟
وكذلك يقال لهم :
لم تجدوا مدبرا حكيما إلا إنسانا ، ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما ، ليس كالإنسان ، وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتلالكم .
فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ، من أجل أن ذلك خلاف الشاهد انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وبه تعلم أن الأشعري رحمه الله يعتقد أن الصفات التي أنكرها المئولون كصفة اليد ، من جملة صفات المعاني كالحياة ونحوها ، وأنه لا فرق البتة بين صفة اليد وصفة الحياة فما اتصف الله به من جميع ذلك فهو منزه عن مشابهة ما اتصف به الخلق منه .
واللازم لمن شبه في بعض الصفات ونزه في بعضها أن يشبه في جميعها أو ينزه في جميعها ، كما قاله الأشعري .
أما ادعاء ظهور التشبيه في بعضها دون بعض ، فلا وجه له بحال من الأحوال ، لأن الموصوف بها واحد ، وهو منزه عن مشابهة صفات خلقه .
ومن جملة كلام أبي الحسن الأشعري رحمه الله المشار إليها آنفا في إثبات الصفات ما نصه :
[ ص: 286 ] فإن قال قائل : لم أنكرتم أن يكون قوله : مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، وقوله : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] على المجاز ؟ .
قيل له : حكم كلام الله عز وجل أن يكون على ظاهره وحقيقته ، ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا لحجة .
ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم ، فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص ، فليس هو على حقيقة الظاهر ؟
وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة ؟
كذلك قول الله عز وجل : لما خلقت بيدي على ظاهره وحقيقته من إثبات اليدين ، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة .
ولو جاز ذلك لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم ، فهو على الخصوص ، وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة .
وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه أنه مجاز بغير حجة .
بل واجب أن يكون قوله : لما خلقت بيدي إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم : فعلت بيدي وهو يعني النعمتين . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وفيه تصريح أبي الحسن الأشعري رحمه الله ، بأن صفات الله كصفة اليد ثابتة له حقيقة لا مجازا ، وأن المدعين أنها مجاز هم خصومه وهو خصمهم كما ترى .
وإنما قال رحمه الله : إنه تعالى متصف بها حقيقة لا مجازا ، لأنه لا يشك في أن ظاهر صفة الله هو مخالفة صفة الخلق ، وتنزيهها عن مشابهتها كما هو شأن السلف الصالح كلهم .
فإثبات الحقيقة ونفي المجاز في صفات الله هو اعتقاد كل مسلم طاهر القلب من أقذار التشبيه ، لأنه لا يسبق إلى ذهنه من اللفظ الدال على الصفة كصفة اليد والوجه إلا أنها صفة كمال منزهة عن مشابهة صفات الخلق .
[ ص: 287 ] فلا يخطر في ذهنه التشبيه الذي هو سبب نفي الصفة وتأويلها بمعنى لا أصل له .
تنبيه مهم
فإن قيل : دل الكتاب والسنة وإجماع السلف على أن الله وصف نفسه بصفة اليدين كقوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وقوله تعالى : بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] ، وقوله تعالى : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه الآية [ 39 \ 67 ] .
والأحاديث الدالة على مثل ما دلت عليه الآيات المذكورة كثيرة ، كما هو معلوم ، وأجمع المسلمون على أنه - جل وعلا - لا يجوز أن يوصف بصفة الأيدي مع أنه تعالى قال : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون [ 36 \ 71 ] ، فلم أجمع المسلمون على تقديم آية لما خلقت بيدي على آية مما عملت أيدينا ؟
فالجواب : أنه لا خلاف بين أهل اللسان العربي ، ولا بين المسلمين أن صيغ الجموع تأتي لمعنيين أحدهما إرادة التعظيم فقط ، فلا يدخل في صيغة الجمع تعدد أصلا ، لأن صيغة الجمع المراد بها التعظيم - إنما يراد بها واحد .
والثاني أن يراد بصيغة الجمع معنى الجمع المعروف ، وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن القرآن العظيم يكثر فيه جدا إطلاق الله - جل وعلا - على نفسه صيغة الجمع ، يريد بذلك تعظيم نفسه ، ولا يريد بذلك تعددا ولا أن معه غيره ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، كقوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
فصيغة الجمع في قوله : إنا وفي قوله : نحن وفي قوله : نزلنا وقوله : لحافظون لا يراد بها أن معه منزلا للذكر ، وحافظا له غيره تعالى .
بل هو وحده المنزل له والحافظ له ، وكذلك قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] ، وقوله : أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] ، وقوله : أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون [ 56 \ 72 ] ، ونحو هذا كثير في القرآن جدا ، وبه تعلم أن صيغة الجمع في قوله : إنا . وفي قوله : خلقنا وفي قوله : عملت أيدينا إنما يراد بها التعظيم ، ولا يراد بها التعدد أصلا .
[ ص: 288 ] وإذا كان يراد بها التعظيم ، لا التعدد ؛ علم بذلك أنها لا تصح بها معارضة قوله : لما خلقت بيدي ، لأنها دلت على صفة اليدين . والجمع في قوله : أيدينا لمجرد التعظيم .
وما كان كذلك لا يدل على التعدد فيطلب الدليل من غيره ، فإن دل على أن المراد بالتعظيم واحد حكم بذلك ، كالآيات المتقدمة .
وإن دل على معنى آخر حكم به .
فقوله مثلا : وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ، قام فيه البرهان القطعي أنه حافظ واحد ، وكذلك قوله : أم نحن الخالقون [ 56 \ 59 ] ، أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] ، أم نحن المنشئون [ 56 \ 72 ] ، فإنه قد قام في كل ذلك البرهان القطعي على أنه خالق واحد ، ومنزل واحد ، ومنشئ واحد .
وأما قوله : مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، فقد دل البرهان القطعي على أن الله موصوف بصفة اليدين كما صرح به في قوله : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، كما تقدم إيضاحه قريبا .
وقد علمت أن صيغة الجمع في قوله : لحافظون [ 15 \ 9 ] ، وقوله : أم نحن الخالقون [ 56 \ 59 ] ، وقوله : أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] ، وقوله : أم نحن المنشئون [ 56 \ 72 ] ، وقوله : خلقنا لهم مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، لا يراد بشيء منه معنى الجمع ، وإنما يراد به التعظيم فقط .
وقد أجاب أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة بما يقرب من هذا في المعنى .
واعلم أن لفظ اليدين قد يستعمل في اللغة العربية استعمالا خاصا ، بلفظ خاص لا تقصد به في ذلك النعمة ولا الجارحة ولا القدرة ، وإنما يراد به معنى أمام .
واللفظ المختص بهذا المعنى هو لفظة اليدين التي أضيفت إليها لفظة " بين " خاصة ، أعني لفظة " بين يديه " ، فإن المراد بهذه اللفظة أمامه . وهو استعمال عربي معروف مشهور في لغة العرب لا يقصد فيه معنى الجارحة ولا النعمة ولا القدرة ، ولا أي صفة كائنة ما كانت .
[ ص: 289 ] وإنما يراد به أمام فقط كقوله تعالى : وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه [ 34 \ 31 ] ، أي ولا بالذي كان أمامه سابقا عليه من الكتب .
وكقوله : ومصدقا لما بين يديه من التوراة [ 5 \ 46 ] ، أي مصدقا لما كان أمامه متقدما عليه من التوراة .
وكقوله : فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم [ 41 \ 25 ] ، فالمراد بلفظ " ما بين أيديهم " ما أمامهم .
وكقوله تعالى : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 7 \ 57 ] ، أي يرسل الرياح مبشرات أمام رحمته التي هي المطر ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومما يوضح لك ذلك أنه لا يمكن تأويل اليدين في ذلك بنعمتين ولا قدرتين ولا جارحتين . ولا غير ذلك من الصفات ، فهذا أسلوب خاص دال على معنى خاص . بلفظ خاص مشهور في كلام العرب فلا صلة له باللفظ الدال على الجارحة ، بالنسبة إلى الإنسان ولا باللفظ الدال على صفة الكمال والجلال الثابتة لله تعالى . فافهم .
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " الذي ذكر فيه أقوال جميع أهل الأهواء والبدع والمئولين والنافين لصفات الله أو بعضها ما نصه :
جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وما جاء من عند الله ، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردون من ذلك شيئا .
وأن الله سبحانه إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأن الله سبحانه على عرشه ، كما قال : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال : خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وكما قال : بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] . إلى أن قال في كلامه هذا بعد أن سرد مذهب أهل السنة والجماعة - ما نصه :
فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه ، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول ، وإليه [ ص: 290 ] نذهب ، وما توفيقنا إلا بالله ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وبه نستعين ، وعليه نتوكل ، وإليه المصير ، هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب المقالات المذكور .
وبه تعلم أنه يؤمن بكل ما جاء عن الله في كتابه وما ثبت عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يرد من ذلك شيئا ولا ينفيه بل يؤمن به ويثبته لله ، بلا كيف ولا تشبيه ، كما هو مذهب أهل السنة . وقال أبو الحسن الأشعري أيضا في كتاب المقالات المذكور ما نصه :
وقال أهل السنة وأصحاب الحديث : ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وإنه على العرش كما قال عز وجل : الرحمن على العرش استوى ولا نقدم بين يدي الله في القول ، بل نقول : استوى بلا كيف . ثم أطال الكلام رحمه الله في إثبات الصفات كما قدمنا عنه ، ثم قال ما نصه : وقالت المعتزلة : إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
فتراه صرح في كتاب المقالات المذكور ، بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء ، هو قول المعتزلة لا قوله هو ، ولا قول أحد من أهل السنة .
وزاد في كتاب الإبانة مع المعتزلة الجهمية والحرورية كما قدمنا .
وبكل ما ذكرنا تعلم أن الأشعري رجع عن الاعتزال إلى مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها .
وقد قدمنا إيضاح الحق في آيات الصفات بالأدلة القرآنية بكثرة في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] .
واعلم أن أئمة القائلين بالتأويل رجعوا قبل موتهم عنه ، لأنه مذهب غير مأمون العاقبة ; لأن مبناه على ادعاء أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها ، لا تليق بالله لظهورها وتبادرها في مشابهة صفات الخلق .
ثم نفي تلك الصفات الواردة في الآيات والأحاديث ، لأجل تلك الدعوى الكاذبة المشئومة ، ثم تأويلها بأشياء أخر ، دون مستند من كتاب أو سنة ، أو قول صحابي أو أحد من السلف .
وكل مذهب هذه حاله ، فإنه جدير بالعاقل المفكر أن يرجع عنه إلى مذهب السلف .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (498)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 291 إلى صـ 298
[ ص: 291 ] وقد أشار تعالى في سورة الفرقان أن وصف الله بالاستواء صادر عن خبير بالله ، وبصفاته عالم بما يليق به ، وبما لا يليق وذلك في قوله تعالى : الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [ 25 \ 59 ] .
فتأمل قوله : فاسأل به خبيرا ، بعد قوله : ثم استوى على العرش الرحمن ، تعلم أن من وصف الرحمن بالاستواء على العرش خبير بالرحمن وبصفاته لا يخفى عليه اللائق من الصفات وغير اللائق .
فالذي نبأنا بأنه استوى على عرشه هو العليم الخبير الذي هو الرحمن .
وقد قال تعالى : ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 14 ] .
وبذلك تعلم أن من يدعي أن الاستواء يستلزم التشبيه ، وأنه غير لائق - غير خبير ، نعم والله هو غير خبير .
وسنذكر هنا إن شاء الله أن أئمة المتكلمين المشهورين رجعوا كلهم عن تأويل الصفات .
أما كبيرهم الذي هو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري ، وهو القاضي محمد بن الطيب المعروف بأبي بكر الباقلاني ، فإنه كان يؤمن بالصفات على مذهب السلف ويمنع تأويلها منعا باتا ، ويقول فيها بمثل ما قدمنا عن الأشعري ، وسنذكر لك هنا بعض كلامه .
قال الباقلاني المذكور في كتاب التمهيد ما نصه :
باب في أن لله وجها ويدين ، فإن قال قائل : فما الحجة في أن لله عز وجل وجها ويدين ؟ قيل له : قوله : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 27 ] .
وقوله : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، فأثبت لنفسه وجها ويدين .
فإن قالوا : فما أنكرتم أن يكون المعنى في قوله : خلقت بيدي أنه خلقه بقدرته أو بنعمته ، لأن اليد في اللغة قد تكون بمعنى النعمة ، وبمعنى القدرة ، كما يقال : لي عند فلان يد بيضاء . يراد به نعمة .
[ ص: 292 ] وكما يقال : هذا الشيء في يد فلان وتحت يد فلان ، يراد به أنه تحت قدرته وفي ملكه .
ويقال : رجل أيد إذا كان قادرا .
وكما قال تعالى : خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما [ 36 \ 71 ] ، يريد عملنا بقدرتنا . وقال الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
فكذلك قوله : خلقت بيدي يعني بقدرتي أو نعمتي .
يقال لهم هذا باطل ; لأن قوله : بيدي يقتضي إثبات يدين هما صفة له .
فلو كان المراد بهما القدرة لوجب أن يكون له قدرتان .
وأنتم لا تزعمون أن للباري سبحانه قدرة واحدة ، فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين ؟
وقد أجمع المسلمون من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان فبطل ما قلتم .
وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين ; لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى .
ولأن القائل لا يجوز أن يقول : رفعت الشيء بيدي أو وضعته بيدي أو توليته بيدي وهو يعني نعمته .
وكذلك لا يجوز أن يقال : لي عند فلان يدان يعني نعمتين .
وإنما يقال لي عنده يدان بيضاوان ، لأن القول : يد - لا يستعمل إلا في اليد التي هي صفة الذات .
ويدل على فساد تأويلهم أيضا أنه لو كان الأمر على ما قالوه لم يغفل عن ذلك إبليس ، وعن أن يقول : وأي فضل لآدم علي يقتضي أن أسجد له ، وأنا أيضا بيدك خلقتني التي هي قدرتك وبنعمتك خلقتني ؟
وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيديه - دليل على فساد ما قالوه .
[ ص: 293 ] فإن قال قائل : فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة ؟ إذ كنتم لم تعقلوا يد صفة ووجه صفة لا جارحة .
يقال له : لا يجب ذلك كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم على الله تعالى بذلك .
وكما لا يجب متى كان قائما بذاته أن يكون جوهرا أو جسما ، لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وهو صريح في أنه يرى أن صفة الوجه ، وصفة اليد ، وصفة العلم ، والحياة والقدرة كلها من صفات المعاني ، ولا وجه للفرق بينها ، وجميع صفات الله مخالفة لجميع صفات خلقه .
وقال الباقلاني أيضا في كتاب التمهيد ما نصه :
فإن قالوا : فهل تقولون : إنه في كل مكان ؟
قيل : معاذ الله ، بل هو مستو على العرش كما أخبر في كتابه ، فقال : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وقال تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ 35 \ 10 ] ، وقال : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض .
ولو كان في كل مكان ، لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ، تعالى عن ذلك ، ولوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذ خلق منها ما لم يكن خلقه ، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان .
ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا .
وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله ، إلى أن قال رحمه الله : ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه كما قال الشاعر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر ، والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا عزيزا مقتدرا .
وقوله : ثم استوى على العرش [ 25 \ 59 ] ، يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن فيبطل ما قالوه .
[ ص: 294 ] فإن قال قائل : ففصلوا لي صفات ذاته من صفات أفعاله ، لأعرف ذلك .
قيل له : صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها .
وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وقد نقلناه من نسخة هي أجود نسخة موجودة لكتاب التمهيد للباقلاني المذكور .
وترى تصريحه فيها بأن صفة الوجه واليد من صفات المعاني كالحياة والعلم والقدرة والإرادة ، كما هو قول أبي الحسن الأشعري الذي قدمنا إيضاحه .
واعلم أن إمام الحرمين ، أبا المعالي الجويني ، كان في زمانه من أعظم أئمة القائلين بالتأويل ، وقد قرر التأويل وانتصر له في كتابه الإرشاد .
ولكنه رجع عن ذلك في رسالته العقيدة النظامية فإنه قال فيها :
اختلف مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة ، وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما تبرزه أفهام أرباب اللسان منها .
فرأى بعضهم تأويلها ، والتزام هذا المنهج في آي الكتاب ، وفيما صح من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم .
وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها ، وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه .
والذي نرتضيه رأيا وندين لله به عقدا - اتباع سلف الأمة ، فالأولى الاتباع وترك الابتداع ، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة ، وهو مستند معظم الشريعة .
وقد درج صحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام والمشتغلون بأعباء الشريعة .
وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها .
[ ص: 295 ] فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة .
فإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع بحق .
فعلى ذي الدين أن يعتقد تنزه الرب تعالى عن صفات المحدثات ، ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب .
ومما استحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة .
فلتجر آية الاستواء والمجيء وقوله : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، ويبقى وجه ربك [ 55 \ 27 ] ، وقوله : تجري بأعيننا [ 54 \ 14 ] ، وما صح عن الرسول عليه السلام كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا ، فهذا بيان ما يجب لله تعالى . انتهى كلامه بلفظه من الرسالة النظامية المذكورة مع أن رجوع الجويني فيها إلى أن الحق هو مذهب السلف أمر معلوم .
وكذلك أبو حامد الغزالي ، كان في زمانه من أعظم القائلين بالتأويل ، ثم رجع عن ذلك ، وبين أن الحق الذي لا شك فيه هو مذهب السلف .
وقال في كتابه : إلجام العوام عن علم الكلام :
اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر - هو مذهب السلف ، أعني الصحابة والتابعين ، ثم قال : إن البرهان الكلي على أن الحق في مذهب السلف وحده ينكشف بتسليم أربعة أصول مسلمة عند كل عاقل .
ثم بين أن الأول من تلك الأصول المذكورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد في دينهم ودنياهم .
الأصل الثاني : أنه بلغ كل ما أوحي إليه من صلاح العباد في معادهم ومعاشهم ، ولم يكتم منه شيئا .
[ ص: 296 ] الأصل الثالث : أن أعرف الناس بمعاني كلام الله وأحراهم بالوقوف على أسراره هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين لازموه وحضروا التنزيل وعرفوا التأويل .
والأصل الرابع : أن الصحابة رضي الله عنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى التأويل ، ولو كان التأويل من الدين أو علم الدين لأقبلوا عليه ليلا ونهارا ودعوا إليه أولادهم وأهلهم .
ثم قال الغزالي : وبهذه الأصول الأربعة المسلمة عند كل مسلم نعلم بالقطع أن الحق ما قالوه والصواب ما رأوه .
انتهى باختصار .
ولا شك أن استدلال الغزالي هذا لأن مذهب السلف هو الحق - استدلال لا شك في صحته ، ووضوح وجه الدليل فيه ، وأن التأويل لو كان سائغا أو لازما لبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ولقال به أصحابه وتابعوهم كما لا يخفى .
وذكر غير واحد عن الغزالي أنه رجع في آخر حياته إلى تلاوة كتاب الله وحفظ الأحاديث الصحيحة والاعتراف بأن الحق هو ما في كتاب الله وسنة رسوله .
وذكر بعضهم أنه مات وعلى صدره صحيح البخاري رحمه الله .
واعلم أيضا أن الفخر الرازي الذي كان في زمانه أعظم أئمة التأويل - رجع عن ذلك المذهب إلى مذهب السلف معترفا بأن طريق الحق هي اتباع القرآن في صفات الله .
وقد قال في ذلك في كتابه : أقسام اللذات : لقد اختبرت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية ، فلم أجدها تروي غليلا ، ولا تشفي عليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، إليه يصعد الكلم الطيب [ 35 \ 10 ] ، وفي النفي : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] ، هل تعلم له سميا [ 19 \ 65 ] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي . ا هـ .
وقد بين هذا المعنى في أبياته المشهورة التي يقول فيها :
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
[ ص: 297 ] إلى آخر الأبيات .
وكذلك غالب أكابر الذين كانوا يخوضون في الفلسفة والكلام ، فإنه ينتهي بهم أمرهم إلى الحيرة وعدم الثقة بما كانوا يقررون .
وقد ذكر عن الحفيد ابن رشد وهو من أعلم الناس بالفلسفة أنه قال :
ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به ؟
وذكروا عن الشهرستاني أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم ، وقد قال في ذلك : لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم وأمثال هذا كثيرة .
فيا أيها المعاصرون المتعصبون لدعوى أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها خبيث لا يليق بالله لاستلزامه التشبيه بصفات الخلق ، وأنها يجب نفيها وتأويلها بمعان ما أنزل الله بها من سلطان ، ولم يقلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه ولا من التابعين .
فمن هو سلفكم في هذه الدعوى الباطلة المخالفة لإجماع السلف ؟
إن كنتم تزعمون أن الأشعري يقول مثل قولكم ، وأنه سلفكم في ذلك فهو بريء منكم ومن دعواكم .
وهو مصرح في كتبه التي صنفها بعد الرجوع عن الاعتزال أن القائلين بالتأويل هم المعتزلة ، وهم خصومه وهو خصمهم ، كما أوضحنا كلامه في الإباحة والمقالات .
وقد بينا أن أساطين القول بالتأويل قد اعترفوا بأن التأويل لا مستند له ، وأن الحق هو اتباع مذهب السلف كما أوضحنا ذلك عن أبي بكر الباقلاني ، وأبي المعالي الجويني ، وأبي حامد الغزالي ، وأبي عبد الله الفخر الرازي ، وغيرهم ممن ذكرنا .
فنوصيكم وأنفسنا بتقوى الله ، وألا تجادلوا في آيات الله بغير سلطان أتاكم ، والله - جل وعلا - يقول في كتابه : إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير [ 40 \ 56 ] .
[ ص: 298 ] ويقول تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 20 - 21 ] .
المسألة الثانية في الكلام على الاجتهاد .
اعلم أولا أنا قدمنا بطلان قول الظاهرية بمنع الاجتهاد مطلقا ، وأن من الاجتهاد ما هو صحيح موافق للشرع الكريم ، وبسطنا أدلة ذلك بإيضاح في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] .
وبينا طرفا منه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 \ 36 ] ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
وغرضنا في هذه المسألة هو أن نبين أن تدبر القرآن وانتفاع متدبره بالعمل بما علم منه الذي دل عليه قوله تعالى في هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها لا يتوقف على تحصيل الاجتهاد المطلق بشروطه المعروفة عند متأخري الأصوليين .
اعلم أولا : أن المتأخرين من أهل الأصول الذين يقولون بمنع العمل بالكتاب والسنة مطلقا إلا للمجتهدين ، يقولون : إن شروط الاجتهاد هي كون المجتهد بالغا ، عاقلا شديد الفهم .
طبعا عارفا بالدليل العقلي ، الذي هو استصحاب العدم الأصلي ، حتى يرد نقل صارف عنه .
عارفا باللغة العربية ، وبالنحو من صرف وبلاغة مع معرفة الحقائق الشرعية والعرفية .
وبعضهم يزيد المحتاج إليه من فن المنطق كشرائط الحدود ، والرسوم ، وشرائط البرهان .
عارفا بالأصول ، عارفا بأدلة الأحكام من الكتاب والسنة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (499)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 299 إلى صـ 306
[ ص: 299 ] ولا يشترط عندهم حفظ النصوص ، بل يكفي عندهم علمه بمداركها في المصحف وكتب الحديث .
عارفا بمواقع الإجماع والخلاف .
عارفا بشروط المتواتر ، والآحاد والصحيح والضعيف .
عارفا بالناسخ والمنسوخ .
عارفا بأسباب النزول .
عارفا بأحوال الصحابة ، وأحوال رواة الحديث ، اختلفوا في شرط عدم إنكاره للقياس . ا هـ .
ولا يخفى أن مستندهم في اشتراطهم لهذه الشروط ليس نصا من كتاب ولا سنة يصرح بأن هذه الشروط كلها لا يصح دونها عمل بكتاب ولا سنة ، ولا إجماعا دالا على ذلك .
وإنما مستندهم في ذلك هو تحقيق المناط في ظنهم .
وإيضاح ذلك هو أن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين كلها دال على أن العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يشترط له إلا شرط واحد ، وهو العلم بحكم ما يعمل به منهما .
ولا يشترط في العمل بالوحي شرط زائد على العلم بحكمه البتة .
وهذا مما لا يكاد ينازع فيه أحد .
ومراد متأخري الأصوليين بجميع الشروط التي اشترطوها هو تحقيق المناط .
لأن العلم بالوحي لما كان هو مناط العمل به أرادوا أن يحققوا هذا المناط ، أي يبينوا الطرق التي يتحقق بها حصول العلم الذي هو مناط العمل .
فاشترطوا جميع الشروط المذكورة ، ظنا منهم أنه لا يمكن تحقيق حصول العلم بالوحي دونها .
وهذا الظن فيه نظر ; لأن كل إنسان له فهم إذا أراد العمل بنص من كتاب أو سنة فلا [ ص: 300 ] يمتنع عليه ، ولا يستحيل أن يتعلم معناه ويبحث عنه ، هل هو منسوخ أو مخصص أو مقيد حتى يعلم ذلك فيعمل به .
وسؤال أهل العلم : هل لهذا النص ناسخ أو مخصص أو مقيد مثلا . وإخبارهم بذلك ليس من نوع التقليد ، بل هو من نوع الاتباع .
وسنبين إن شاء الله الفرق بين التقليد والاتباع في مسألة التقليد الآتية .
والحاصل أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى واردة بإلزام جميع المكلفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
وليس في شيء منها التخصيص بمن حصل شروط الاجتهاد المذكورة . وسنذكر طرفا منها لنبين أنه لا يجوز تخصيصها بتحصيل الشروط المذكورة .
قال الله تعالى : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [ 7 \ 3 ] ، والمراد بـ ما أنزل إليكم هو القرآن والسنة المبينة له لا آراء الرجال .
وقال تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [ 4 \ 61 ] .
فدلت هذه الآية الكريمة أن من دعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصد عن ذلك - أنه من جملة المنافقين ; لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .
وقال تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] ، والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إلى سنته .
وتعليقه الإيمان في قوله : إن كنتم تؤمنون بالله على رد التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، يفهم منه أن من يرد التنازع إلى غيرهما لم يكن يؤمن بالله .
وقال تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون [ 39 \ 55 ] ، ولا شك أن القرآن أحسن ما أنزل إلينا من ربنا ، والسنة [ ص: 301 ] مبينة له ، وقد هدد من لم يتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا بقوله : من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون .
وقال تعالى : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب [ 39 \ 18 ] ، ولا شك أن كتاب الله وسنة رسوله أحسن من آراء الرجال .
وقال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ 59 \ 7 ] ، وقوله : إن الله شديد العقاب فيه تهديد شديد لمن لم يعمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما إن كان يظن أن أقوال الرجال تكفي عنها .
وقال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [ 33 \ 21 ] ، والأسوة : الاقتداء ، فيلزم المسلم أن يجعل قدوته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك باتباع سنته .
وقال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ 4 \ 65 ] ، وقد أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما اختلفوا فيه .
وقال تعالى : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 28 \ 50 ] .
والاستجابة له - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته هي الرجوع إلى سنته - صلى الله عليه وسلم - وهي مبينة لكتاب الله .
وقد جاء في القرآن العظيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتبع شيئا إلا الوحي ، وأن من أطاعه - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الله .
قال تعالى في سورة يونس : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] .
وقال تعالى في الأنعام : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي [ 6 \ 50 ] .
وقال تعالى في الأحقاف : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [ 46 \ 9 ] .
[ ص: 302 ] وقال تعالى في الأنبياء : قل إنما أنذركم بالوحي الآية [ 21 \ 45 ] ، فحصر الإنذار في الوحي دون غيره .
وقال تعالى : قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي الآية [ 34 \ 50 ] ، فبين أن الاهتداء إنما هو بالوحي ، والآيات بمثل هذا كثيرة .
وإذا علمت منها أن طريقه - صلى الله عليه وسلم - هي اتباع الوحي ، فاعلم أن القرآن دل على أن من أطاعه - صلى الله عليه وسلم - فهو مطيع لله كما قال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] ، وقال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ 3 \ 31 ] .
ولم يضمن الله لأحد ألا يكون ضالا في الدنيا ولا شقيا في الآخرة إلا لمتبعي الوحي وحده .
قال تعالى في طه : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى [ 20 \ 123 ] ، وقد دلت آية طه هذه على انتفاء الضلال والشقاوة عن متبعي الوحي .
ودلت آية البقرة على انتفاء الخوف والحزن عنه ، وذلك في قوله تعالى : فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 38 ] .
ولا شك أن انتفاء الضلال والشقاوة والخوف والحزن عن متبعي الوحي المصرح به في القرآن ، لا يتحقق فيمن يقلد عالما ليس بمعصوم ، لا يدري أصواب ما قلده فيه أم خطأ . في حال كونه معرضا عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
ولا سيما إن كان يظن أن آراء العالم الذي قلده ، كافية مغنية ، عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
والآيات القرآنية الدالة على لزوم اتباع الوحي ، والعمل به ، لا تكاد تحصى ، وكذلك الأحاديث النبوية الدالة على لزوم العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا تكاد تحصى ; لأن طاعة الرسول طاعة الله .
وقد قال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ 59 \ 7 ] ، [ ص: 303 ] وقال تعالى : وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [ 3 \ 132 ] .
وقال تعالى : قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [ 3 \ 32 ] .
وقال : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم [ 4 \ 69 ] .
وقال تعالى : ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [ 33 \ 71 ] .
وقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا [ 4 \ 80 ] .
وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] .
وقال تعالى : تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [ 4 \ 13 - 14 ] .
وقال تعالى : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين [ 5 \ 92 ] .
وقال تعالى : وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [ 8 \ 1 ] .
وقال تعالى : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين [ 24 \ 54 ] .
وقال : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون [ 24 \ 56 ] .
وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم [ 47 \ 33 ] .
[ ص: 304 ] وقال تعالى : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [ 24 \ 51 - 52 ] .
وقال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] .
وقال تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله [ 9 \ 71 ] .
ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي ، محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
فنصوص القرآن والسنة كلها دالة على لزوم تدبر الوحي ، وتفهمه وتعلمه والعمل به ، فتخصيص تلك النصوص كلها ، بدعوى أن تدبر الوحي وتفهمه والعمل به : لا يصح شيء منه إلا لخصوص المجتهدين الجامعين لشروط الاجتهاد المعروفة عند متأخري الأصوليين - يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه ، ولا دليل على ذلك البتة .
بل أدلة الكتاب والسنة دالة على وجوب تدبر الوحي وتفهمه وتعلمه والعمل بكل ما علم منه ، علما صحيحا قليلا كان أو كثيرا .
وهذه المسألة الثانية يتداخل بعض الكلام فيها ، مع بعض الكلام في المسألة الأولى ، فهما شبه المسألة الواحدة .
المسألة الثالثة في التقليد في بيان معناه لغة واصطلاحا وأقسامه وبيان ما يصح منها وما لا يصح
اعلم أن التقليد في اللغة : هو جعل القلادة في العنق .
وتقليد الولاة هو جعل الولايات قلائد في أعناقهم ، ومنه قول لقيط الإيادي :
وقلدوا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
وأما التقليد في اصطلاح الفقهاء : فهو الأخذ بمذهب الغير من غير معرفة دليله .
والمراد بالمذهب هو ما يصح فيه الاجتهاد خاصة .
[ ص: 305 ] ولا يصح الاجتهاد البتة في شيء يخالف نصا من كتابه أو سنة ثابتة ، سالما من المعارض ; لأن الكتاب والسنة حجة على كل أحد كائنا من كان ، لا تسوغ مخالفتهما البتة لأحد كائنا من كان فيجب التفطن ; لأن المذهب الذي فيه التقليد يختص بالأمور الاجتهادية ولا يتناول ما جاء فيه نص صحيح من الوحي سالم من المعارض .
قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره : مختصرا على مذهب الإمام مالك بن أنس ما نصه :
( والمذهب لغة : الطريق ومكان الذهاب ، ثم صار عند الفقهاء حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية ) انتهى محل الغرض منه بلفظه .
فقوله : من الأحكام الاجتهادية تدل على أن اسم المذهب لم يتناول مواقع النصوص الشرعية السالمة من المعارض .
وذلك أمر لا خلاف فيه ; لإجماع العلماء على أن المجتهد المطلق إذا أقام باجتهاده دليلا ، مخالفا لنص من كتاب أو سنة أو إجماع ، أن دليله ذلك باطل بلا خلاف .
وأنه يرد بالقادح المسمى في الأصول بفساد الاعتبار .
وفساد الاعتبار الذي هو مخالفة الدليل لنص أو إجماع من القوادح التي لا نزاع في إبطال الدليل بها ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في القوادح :
والخلف للنص أو إجماع دعا فسادا لاعتبار كل من وعى وبما ذكرنا
تعلم أنه لا اجتهاد أصلا ولا تقليد أصلا في شيء يخالف نصا من كتاب أو سنة أو إجماع .
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن بعض الناس من المتأخرين أجاز التقليد ، ولو كان فيه مخالفة نصوص الوحي ، كما ذكرنا عن الصاوي وأضرابه .
وعليه أكثر المقلدين للمذاهب في هذا الزمان وأزمان قبله .
وبعض العلماء منع التقليد مطلقا ، وممن ذهب إلى ذلك ابن خويز منداد من المالكية ، والشوكاني في القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد .
[ ص: 306 ] والتحقيق : أن التقليد منه ما هو جائز ، ومنه ما ليس بجائز ، ومنه ما خالف فيه المتأخرون المتقدمين من الصحابة وغيرهم من القرون الثلاثة المفضلة .
وسنذكر كل الأقسام هنا ، إن شاء الله مع بيان الأدلة .
أما التقليد الجائز الذي لا يكاد يخالف فيه أحد من المسلمين ، فهو تقليد العامي عالما أهلا للفتيا في نازلة نزلت به ، وهذا النوع من التقليد كان شائعا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلاف فيه .
فقد كان العامي يسأل من شاء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حكم النازلة تنزل به ، فيفتيه فيعمل بفتياه .
وإذا نزلت به نازلة أخرى لم يرتبط بالصحابي الذي أفتاه أولا بل يسأل عنها من شاء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يعمل بفتياه .
قال صاحب نشر البنود في شرحه لقوله في مراقي السعود :
رجوعه لغيره في آخر يجوز للإجماع عند الأكثر ما نصه
: يعني أن العامي يجوز له عند الأكثر الرجوع إلى قول غير المجتهد الذي استفتاه أولا في حكم آخر لإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، على أنه يسوغ للعامي السؤال لكل عالم ، ولأن كل مسألة لها حكم نفسها .
فكما لم يتعين الأول للاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله ، فكذلك في المسألة الأخرى . قاله الحطاب شارح مختصر الخليل .
قال القرافي : انعقد الإجماع على أن من أسلم ، فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حجر .
وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر وقلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ، ويعمل بقولهم بغير نكير .
فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل . انتهى محل الغرض منه .
وما ذكره من انعقاد الإجماعين صحيح كما لا يخفى ، فالأقوال المخالفة لهما من متأخري الأصوليين كلها - مخالفة للإجماع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (500)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 307 إلى صـ 314
[ ص: 307 ] وبعض العلماء يقول : إن تقليد العامي المذكور للعالم وعمله بفتياه من الاتباع لا من التقليد .
والصواب : أن ذلك تقليد مشروع مجمع على مشروعيته .
وأما ما ليس من التقليد بجائز بلا خلاف ، فهو تقليد المجتهد الذي ظهر له الحكم باجتهاده ، مجتهدا آخر يرى خلاف ما ظهر له هو ؛ للإجماع على أن المجتهد إذا ظهر له الحكم باجتهاده لا يجوز له أن يقلد غيره المخالف لرأيه .
وأما نوع التقليد الذي خالف فيه المتأخرون الصحابة وغيرهم من القرون المشهود لهم بالخير ، فهو تقليد رجل واحد معين دون غيره ، من جميع العلماء .
فإن هذا النوع من التقليد ، لم يرد به نص من كتاب ولا سنة ، ولم يقل به أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير .
وهو مخالف لأقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله ، فلم يقل أحد منهم بالجمود على قول رجل واحد معين دون غيره ، من جميع علماء المسلمين .
فتقليد العالم المعين من بدع القرن الرابع ، ومن يدعي خلاف ذلك ، فليعين لنا رجلا واحدا من القرون الثلاثة الأول ، التزم مذهب رجل واحد معين ، ولن يستطيع ذلك أبدا ; لأنه لم يقع البتة .
وسنذكر هنا إن شاء الله جملا من كلام أهل العلم في فساد هذا النوع من التقليد وحجج القائلين به ، ومناقشتها ، وبعد إيضاح ذلك كله نبين ما يظهر لنا بالدليل أنه هو الحق والصواب إن شاء الله .
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في كتابه جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله ، ما نصه :
باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع : قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه ، فقال : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ 9 \ 31 ] .
[ ص: 308 ] وروي عن حذيفة وغيره ، قالوا : " لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم " .
وقال عدي بن حاتم : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي الصليب ، فقال لي : " يا عدي : ألق هذا الوثن من عنقك ، فانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال : قلت : يا رسول الله : إنا لم نتخذهم أربابا . قال : بلى ، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه ؟ فقلت : بلى ، فقال : تلك عبادتهم " .
حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، ثم ساق السند إلى أن قال : عن أبي البختري في قوله عز وجل : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ، ولكنهم أمروهم ، فجعلوا حلال الله حرامه ، وحرامه حلاله فأطاعوهم ، فكانت تلك الربوبية .
قال : وحدثنا ابن وضاح ، ثم ساق السند إلى أن قال : عن أبي البختري ، قال : قيل لحذيفة في قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله أكانوا يعبدونهم ؟ فقال : لا ، ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه .
وقال جل وعز : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ 43 \ 23 - 24 ] .
فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء ، فقالوا : إنا بما أرسلتم به كافرون [ 43 \ 24 ] .
وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عز وجل : إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون [ 8 \ 22 ] .
وقال : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم [ 2 \ 166 - 167 ] .
[ ص: 309 ] وقال عز وجل عائبا لأهل الكفر وذاما لهم : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين [ 21 \ 52 - 53 ] .
وقال : وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل [ 33 \ 67 ] .
ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء .
وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها ; لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر .
وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد ، كما لو قلد رجل فكفر وقلد آخر فأذنب ، وقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها ، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة ; لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا ، وإن اختلفت الآثام فيه .
وقال الله عز وجل : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [ 9 \ 115 ] ، وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب هذا ، وفي ثبوته إبطال التقليد أيضا .
فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها ، وهي الكتاب والسنة أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك .
أخبرنا عبد الوارث ، ثم ساق السند إلى أن قال : حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة ، قال : وما هي يا رسول الله ؟
قال : أخاف عليهم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع " .
وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله " . هذا لفظ أبي عمر في جامعه .
وكثير بن عبد الله المذكور في الإسناد ضعيف ، وأبوه عبد الله مقبول ، ولكن المتنين المرويين بالإسناد المذكور كلاهما له شواهد كثيرة تدل على أن أصله صحيح .
ثم ذكر أبو عمر بن عبد البر في جامعه بإسناده عن زياد بن حدير ، عن عمر بن [ ص: 310 ] الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون .
ثم ذكر بالإسناد المذكور عن ابن مهدي عن جعفر بن حبان ، عن الحسن قال : قال أبو الدرداء : إن فيما أخشى عليكم زلة العالم ، وجدال المنافق بالقرآن ، والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق .
ثم أخرج بإسناده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقول في مجلسه كل يوم ، قلما يخطئه أن يقول ذلك : " الله حكم قسط ، هلك المرتابون ، إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ، ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق ، والمرأة والصبي ، والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول : قد قرأت القرآن ، فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره ، فإياكم وما ابتدع ، فإن كل بدعة ضلالة ، وإياكم وزيغة الحكيم " إلى آخر ما ذكره رحمه الله من الآثار الدالة على نحو ما تقدم من أن زلة العالم من أخوف المخاوف على هذه الأمة .
وإنما كانت كذلك لأن من يقلد العالم تقليدا أعمى يقلده فيما زل فيه فيتقول على الله أن تلك الزلة التي قلد فيها العالم من دين الله ، وأنها مما أمر الله بها ورسوله ، وهذا كما ترى والتنبيه عليه هو مراد ابن عبد البر .
ومرادنا أيضا بإيراد الآثار المذكورة .
ثم قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه ما نصه : وشبه الحكماء زلة العالم بانكسار السفينة ، لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير .
وإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطئ ، لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه .
حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، ثم ساق السند إلى أن قال : عن ابن مسعود أنه كان يقول : اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك .
ثم ساق الروايات في تفسيرهم الإمعة ، ومعنى الإمعة معروف .
قال الجوهري في صحاحه : يقال الإمع والإمعة أيضا للذي يكون لضعف رأيه مع كل أحد ، ومنه قول ابن مسعود : لا يكونن أحدكم إمعة . انتهى منه .
[ ص: 311 ] ولقد أصاب من قال :
شمر وكن في أمور الدين مجتهدا ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
وذكر ابن عبد البر بإسناده عن ابن مسعود في تفسير الإمعة ، أنه قال : كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره ، وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال .
ثم ذكر أبو عمر بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ويل للأتباع من عثرات العالم ، قيل : كيف ذلك ؟ قال : يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فيترك قوله ذلك ثم تمضي الأتباع .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد النخعي ، وهو حديث مشهور عند أهل العلم ، يستغنى عن الإسناد لشهرته عندهم : يا كميل إن هذه القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها للخير ، والناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق ، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ، إلى آخر الحديث .
وفيه : أف لحامل حق لا يصيره له ، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة ، لا يدري أين الحق ، إن قال أخطأ ، وإن أخطأ لم يدر ، مشغوف بما لا يدري حقيقته ، فهو فتنة لمن افتتن به ، وإن من الخير كله من عرفه الله دينه ، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف دينه .
ولا شك أن المقلد غيره تقليدا أعمى يدخل فيما ذكره علي رضي الله عنه في هذا الحديث ; لأنه لا يدري عن دين الله شيئا إلا أن الإمام الفلاني عمل بهذا .
فعلمه محصور في أن من يقلده من الأئمة ذهب إلى كذا ولا يدري أمصيب هو فيه أم مخطئ .
ومثل هذا لم يستضئ بنور العلم ، ولم يلجأ إلى ركن وثيق لجواز الخطأ على متبوعه ، وعدم ميزه هو بين الخطأ والصواب .
ثم ذكر أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :
ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر ، فإنه لا أسوة في الشر .
[ ص: 312 ] وقال في جامعه أيضا رحمه الله : وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما قد ذكرناه في كتابنا هذا أنه قال : " تذهب العلماء ثم تتخذ الناس رؤساء جهالا يسألون فيفتون بغير علم ، فيضلون ويضلون " .
وهذا كله نفي للتقليد ، وإبطال له لمن فهمه وهدى لرشده .
ثم ذكر رحمه الله آثارا نحو ما تقدم ثم قال : وقال : عبيد الله بن المعتمر : لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد .
وهذا كله لغير العامة ، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها ; لأنها لا تتبين موقع الحجة ، ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك ، لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها ، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة . والله أعلم .
ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 16 \ 43 ] .
وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه في القبلة إذا أشكلت عليه .
فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد من تقليد عالمه ، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا .
وذلك والله أعلم لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحريم والتحليل ، والقول في العلم .
ثم ذكر أبو عمر بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ، ومن استشار أخاه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه ، ومن أفتى بفتيا من غير ثبت فإنما إثمها على من أفتاه " .
ثم ذكر بسنده أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : من أفتى بفتيا وهو يعمى عنها كان إثمها عليه ا هـ .
ولا شك أن المقلد أعمى عما يفتى به ; لأن علمه به محصور في أن فلانا قاله مع [ ص: 313 ] علمه بأن فلانا ليس بمعصوم من الخطأ والزلل .
ثم قال أبو عمر رحمه الله : وقال أهل العلم والنظر حد العلم التبيين وإدراك المعلوم على ما هو به ، فمن بان له الشيء فقد علمه .
قالوا : والمقلد لا علم له ، ولم يختلفوا في ذلك إلى أن قال رحمه الله : وقال أبو عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي : التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه ، وذلك ممنوع منه في الشريعة ، والاتباع ما ثبت عليه حجة .
وقال في موضع آخر من كتابه : كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله لدليل يوجب عليك ذلك فأنت مقلده ، والتقليد في دين الله غير صحيح ، وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه ، والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع .
وقال أبو عمر في آخر كلامه في هذا الباب ما نصه : ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد فأغنى ذلك عن الإكثار .
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في كلامه عن التقليد ما نصه : وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بعد ما تقدم .
فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني رحمه الله ، وأنا أورده قال : يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فيما حكمت به ؟
فإن قال : نعم ، أبطل التقليد ; لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد .
وإن قال : حكمت به بغير حجة .
قيل له : فلم أرقت الدماء ، وأبحت الفروج وأتلفت الأموال ، وقد حرم الله ذلك إلا بحجة ؟
قال الله عز وجل : إن عندكم من سلطان بهذا [ 10 \ 68 ] ، أي من حجة بهذا ؟
فإن قال : أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة ، لأني قلدت كبيرا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت علي .
قيل له : إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك ، فتقليد معلم [ ص: 314 ] معلمك أولى ; لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك : كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك .
فإن قال : نعم ، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه .
وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وإن أبى ذلك نقض قوله .
وقيل له : كيف تجوز تقليد من هو أصغر ، وأقل علما ؟
ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما ، وهذا تناقض ؟
فإن قال : لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه ، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك .
قيل له : كذلك من تعلم من معلمك ، فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك ، وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك . لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك .
فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء ، أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع والتابع من دونه في قياس قوله . والأعلى للأدنى أبدا .
وكفى بقول يئول إلى هذا تناقضا وفسادا ا هـ .
ثم قال أبو عمر رحمه الله بعد هذا ما نصه : يقال لمن قال بالتقليد : لم قلت به ، وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا ؟
فإن قال : قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم أحصها ، والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني .
قيل له : أما العلماء ، إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه ، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض ، فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (501)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 315 إلى صـ 322
[ ص: 315 ] وكلهم عالم ، والعالم الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه .
فإن قال : قلدته لأني أعلم أنه صواب .
قيل له : علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سنة أو إجماع ؟
فإن قال : نعم . أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل .
وإن قال : قلدته لأنه أعلم مني .
قيل له : فقلد كل من هو أعلم منك ، فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا ، ولا تخص من قلدته إذ علتك فيه أنه أعلم منك .
فإن قال : قلدته ; لأنه أعلم الناس .
قيل له : فإنه إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحا .
فإن قال : أنا أقلد بعض الصحابة . قيل له : فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم ، ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله ؟
على أن القول لا يصح لفضل قائله ، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه .
وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار ، عن ابن القاسم عن مالك ، قال : ليس كل ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عز وجل : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [ 39 \ 18 ] . فإن قال قصري وقلة علمي يحملني على التقليد .
قيل له : أما من قلد فيما ينزل من أحكام شريعته عالما يتفق له على علمه ، فيصدر في ذلك عما يخبره فمعذور ، لأنه قد أدى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله ، لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة ; لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك .
ولكن من كانت هذه حاله ، هل تجوز له الفتيا في شرائع دين الله ؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج ، وإراقة الدماء ، واسترقاق الرقاب ، وإزالة الأملاك ويصيرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ، ولا قام له الدليل عليه ؟
[ ص: 316 ] وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب ، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما خالفه فيه ، فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع ، لزمه أن يجيزه للعامة .
وكفى بهذا جهلا وردا للقرآن ، قال الله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 7 \ 36 ] ، وقال : أتقولون على الله ما لا تعلمون [ 7 \ 28 ] .
وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ويتيقن فليس بعلم ، وإنما هو ظن ، والظن لا يغني من الحق شيئا . انتهى كله من جامع ابن عبد البر رحمه الله .
واعلم أن حاصل جميع حجج المقلدين منحصر في قولهم : نحن معاشر المقلدين ممتثلون قول الله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 16 \ 43 ] .
فأمر سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه ، وهذا نص قولنا ، وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا يعلم إلى سؤال من يعلم ، فقال في حديث صاحب الشجة : " ألا سألوا إذا لم يعلموا ، إنما شفاء العيي السؤال " .
وقال أبو العسيف : الذي زنى بامرأة مستأجرة : " وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فلم ينكر عليه تقليد من هو أعلم منه " :
وهذا عالم الأرض عمر قد قلد أبا بكر .
فروى شعبة عن عاصم الأحول ، عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة : أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله منه بريء : هو ما دون الولد والوالد ، فقال عمر بن الخطاب : إنني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر .
وصح عنه أنه قال له : رأينا لرأيك تبع ، وصح عن ابن مسعود أنه كان يأخذ بقول عمر .
وقال الشعبي عن مسروق : كان ستة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتون الناس : ابن مسعود ، وعمر بن الخطاب ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وأبي بن كعب ، وأبو موسى .
وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم لقول ثلاثة .
[ ص: 317 ] كان عبد الله يدع قوله لقول عمر ، وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي ، وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب .
وقال جندب : ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " إن معاذا قد سن لكم سنة فكذلك فافعلوا " في شأن الصلاة حيث أخر فصلى ما فاته من الصلاة مع الإمام بعد الفراغ ، وكانوا يصلون ما فاتهم أولا ، ثم يدخلون مع الإمام .
قال المقلدة : وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وهم العلماء أو العلماء والأمراء ، وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به ، فإنه لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختص بهم .
وقال تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه [ 9 \ 100 ] .
وتقليدهم اتباع لهم ففاعله ممن رضي الله عنهم ، ويكفي ذلك الحديث المشهور " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " .
وقال عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم حقهم ، وتمسكوا بهديهم ; فإنهم كانوا على الهدي المستقيم .
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " .
وقال : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد " .
وقد كتب عمر إلى شريح : أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قضى به الصالحون .
[ ص: 318 ] وقد منع عمر عن بيع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة .
وألزم بالطلاق الثلاث فتبعوه أيضا .
واحتلم مرة ، فقال له عمرو بن العاص : خذ ثوبا غير ثوبك ، فقال : لو فعلتها صارت سنة .
وقال أبي بن كعب وغيره من الصحابة : ما استبان لك فاعمل به ، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه .
وقد كان الصحابة يفتون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي بين أظهرهم ، وهذا تقليد لهم قطعا ; إذ قولهم لا يكون حجة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم .
وقد قال تعالى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [ 9 \ 122 ] ، فأوجب عليهم قبول ما أنذروهم به إذا رجعوا إليهم ، وهذا تقليد منهم للعلماء .
وصح عن ابن الزبير ، أنه سئل عن الجد والإخوة ، فقال : أما الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذته خليلا " فإنه أنزله أبا ، وهذا ظاهر في تقليده له .
وقد أمر الله سبحانه بقبول شهادة الشاهد ، وذلك تقليد له .
وجاءت الشريعة بقبول قول القائف ، والخارص والقاسم والمقوم للمتلفات ، وغيرها والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد ، وذلك تقليد محض .
وأجمعت الأمة على قبول قول المترجم والرسول والمعرف والمعدل ، وإن اختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد ، وذلك تقليد محض لهؤلاء .
وأجمعوا على جواز شراء اللحمان ، والثياب والأطعمة وغيرها ، من غير سؤال عن أسباب حلها ، وتحريمها اكتفاء بتقليد أربابها .
ولو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء فضلاء لضاعت مصالح العباد ، وتعطلت الصنائع والمتاجر ، وكان الناس كلهم علماء مجتهدين ، وهذا مما لا سبيل إليه شرعا ، والقدر قد منع من وقوعه .
[ ص: 319 ] وقد أجمع الناس على تقليد الزوج للنساء اللاتي يهدين إليه زوجته ، وجواز وطئها تقليدا لهن في كونها هي زوجته .
وأجمعوا على أن الأعمى يقلد في القبلة ، وعلى تقليد الأئمة في الطهارة ، وقراءة الفاتحة ، وما يصح به الاقتداء ، وعلى تقليد الزوجة مسلمة كانت أو ذمية أن حيضها قد انقطع فيباح للزوج وطؤها بالتقليد .
ويباح للولي تزويجها بالتقليد لها في انقضاء عدتها ، وعلى جواز تقليد الناس للمؤذنين في دخول أوقات الصلوات ، ولا يجب عليهم الاجتهاد ومعرفة ذلك بالدليل .
وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحارث : أرضعتك وأرضعت امرأتك ، فأمره - صلى الله عليه وسلم - بفراقها ، وتقليدها فيما أخبرته به من ذلك .
وقد صرح الأئمة بجواز التقليد ، فقال حفص بن غياث : سمعت سفيان يقول : إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى تحريمه فلا تنهه .
وقال محمد بن الحسن : يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ، ولا يجوز له تقليد من هو مثله .
وقد صرح الشافعي بالتقليد ، فقال : في الضبع بعير ، قلته تقليدا لعمر .
وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب ، قلته تقليدا لعثمان .
وقال في مسألة الجد مع الإخوة إنه يقاسمهم ، ثم قال : وإنما قلت بقول زيد . وعنه قبلنا أكثر الفرائض .
قال في موضع آخر من كتابه الجديد : قلته تقليدا العطاء .
وهذا أبو حنيفة رحمه الله في مسائل الآبار ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها .
وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة ، ويصرح في موطئه بأنه أدرك العمل على هذا ، وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا .
[ ص: 320 ] ويقول في غير موضع : ما رأيت أحدا أقتدي به يفعله ، ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال .
وقد قال الشافعي في الصحابة : رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا ، ونحن نقول ونصدق أن رأي الشافعي والأئمة معه لنا خير من رأينا لأنفسنا .
وقد جعل الله سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين ، ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا ، وذلك عام في كل علم وصناعة .
وقد فاوت الله سبحانه بين قوى الأذهان ، كما فاوت بين الأبدان ، فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله ، والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها .
ولو كان كذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء ، بل جعل سبحانه وتعالى هذا عالما ، وهذا متعلما وهذا متبعا للعالم مؤتما به بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع ، وأين حرم الله تعالى على الجاهل أن يكون متبعا للعالم مؤتما به مقلدا له يسير بسيره وينزل بنزوله .
وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق ، فهل فرض على كل منهم عين أن يأخذ حكم نازلة من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها ؟
وهل ذلك في إمكان أحد فضلا عن كونه مشروعا ؟
وهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحوا البلاد ، وكان الحديث العهد بالإسلام يسألهم فيفتونه .
ولا يقولون له عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل ولا يعرف ذلك عن أحد منهم البتة .
وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود ؟ فهو من لوازم الشرع والقدر .
والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد . وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها .
ونقول لمن احتج على إبطاله : كل حجة أثرية ذكرتها فأنت مقلد لحملتها ورواتها إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم ، فليس بيدك إلا تقليد الراوي .
[ ص: 321 ] وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد ، وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم ، فما الذي سوغ لك تقليد الراوي والشاهد ، ومنعنا من تقليد العالم ، وهذا سمع بأذنه ما رواه ، وهذا عقل بقلبه ما سمعه فأدى هذا مسموعه ، وأدى هذا معقوله .
وفرض على هذا تأدية ما سمعه ، وعلى هذا تأدية ما عقله ، وعلى من لم يبلغ منزلتهما القبول منهما .
ثم يقال للمانعين من التقليد : أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ ، بأن يكون مقلده مخطئا في فتواه ، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق ، ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه .
وهذا كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها ، فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرا بها أمينا ناصحا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه ، وهذا متفق عليه بين العقلاء ا هـ .
هذا هو غاية ما يحتج به المقلدون ، وقد ذكره ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين ، وبين بطلانه من واحد وثمانين وجها .
وسنذكر هنا إن شاء الله جملا مختصرة من كلامه الطويل تكفي المنصف ، وتزيد المسألة إن شاء الله إيضاحا وإقناعا .
قال في إعلام الموقعين بعد ذكره حجج المقلدين التي ذكرناها آنفا ما نصه : قال أصحاب الحجة : عجبا لكم معاشر المقلدين ، الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ، ولا معدودين في زمرة أهله ، كيف أبطلتم مذهبكم ، بنفس دليلكم ، فما للمقلد وما للاستدلال ؟ وأين منصب المقلد من منصب المستدل ؟
وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابا استعرتموها ، من صاحب الحجة فتجملتم بها بين الناس ، وكنتم في ذلك متشبهين بما لم تعطوه ، ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه ، وذلك ثوب زور لبستموه ، ومنصب لستم من أهله غصبتموه .
فأخبرونا : هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه ، وبرهان دلكم عليه ، فنزلتم به من [ ص: 322 ] الاستدلال أقرب منزل ، وكنتم به عن التقليد بمعزل ، أم سلكتم سبيله اتفاقا ، وتخمينا من غير دليل .
وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين سبيل ، وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكم ، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم .
ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة ، قلتم لسنا من أهل هذه السبيل ، وإن خاطبناكم بحكم التقليد ، فلا معنى لما أقمتموه من الدليل .
والعجب أن كل طائفة من الطوائف ، وكل أمة من الأمم ، تدعي أنها على حق ، حاشا فرقة التقليد ، فإنهم لا يدعون ذلك ، ولو ادعوه لكانوا مبطلين ، فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليها ، وبرهان دلهم عليها ، وإنما سبيلهم محض التقليد ، والمقلد لا يعرف الحق من الباطل ، ولا الحالي من العاطل .
وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم ، وقالوا نحن على مذاهبهم ، وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه ، فإنهم بنوا على الحجة ونهوا عن التقليد وأوصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه ، فخالفوهم في ذلك كله .
وقالوا : نحن من أتباعهم ، تلك أمانيهم ، وما أتباعهم إلا من سلك سبيلهم ، واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم .
وأعجب من هذا أنهم مصرحون في كتبهم ببطلان التقليد ، وتحريمه ، وأنه لا يحل القول به في دين الله ، ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته .
ومنهم من صحح التولية وأبطل الشرط .
وكذلك المفتي يحرم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس .
والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده إذ طريق ذلك مسدودة عليه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (502)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 323 إلى صـ 330
ثم كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله ، ويترك له كل ما خالفه [ ص: 323 ] من كتاب أو سنة أو قول صاحب ، أو قول من هو أعلم من متبوعه أو نظيره ، وهذا من أعجب العجب .
وأيضا فإنا نعلم بالضرورة ، أنه لم يكن في عصر الصحابة ، رجل واحد اتخذ رجلا منهم يقلده في جميع أقواله ، فلم يسقط منها شيئا وأسقط أقوال غيره ، فلم يأخذ منها شيئا .
ونعلم بالضرورة ، أن هذا لم يكن في عصر التابعين ، ولا تابعي التابعين .
فليكذبنا المقلدون برجل واحد ، سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه - صلى الله عليه وسلم - فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه ، يبيحون به الفروج ، والدماء والأموال ، ويحرمونها ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ على خطر عظيم ، ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وعلى كل حال ، فأنتم أيها المقلدون : تقولون إنه لا يجوز العمل بالوحي إلا بخصوص المجتهدين فلم سوغتم لأنفسكم الاستدلال على التقليد بآية : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 16 \ 43 ] ، وآية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة الآية [ 9 \ 122 ] .
هل رجعتم عن قولكم بأن الاستدلال بالوحي لا يجوز لغير المجتهد ، أو ارتكبتم ما تعتقدون أنه حرم من استدلالكم بالقرآن مع شدة بعدكم عن رتبة الاجتهاد ؟
وفي هذا رد إجمالي لجميع ما استدللتم به على التقليد الذي أنتم عليه .
ثم يقال : أليست هذه الآيات التي استدللتم بها في زعمكم من ظواهر الكتاب ، التي سن لكم الصاوي وأمثاله أن العمل بها من أصول الكفر ، فإنه لم يستثن شيئا من ظواهر القرآن يكون العمل به ليس من أصول الكفر .
فلم تجرأتم على شيء هو من أصول الكفر وسوغتم لأنفسكم الاستدلال بالقرآن ، مع أنه لا يجوز عندكم إلا للمجتهدين .
وسنذكر رد استدلال المقلدين تفصيلا ، بإيجاز إن شاء الله تعالى .
[ ص: 324 ] أما استدلالهم بآية فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 16 \ 43 ] ، فهو استدلال في غير محله . فإن الآية لا تدل على هذا النوع من التقليد الأعمى الذي هو عليه من التزام جميع أقوال رجل واحد وترك جميع ما سواها .
ولا شك أن المراد بأهل الذكر أهل الوحي الذين يعلمون ما جاء من عند الله كعلماء الكتاب والسنة .
فقد أمروا أن يسألوا أهل الذكر ليفتوهم بمقتضى ذلك الذكر الذي هو الوحي .
ومن سأل عن الوحي وأعلم به وبين له كان عمله به اتباعا للوحي لا تقليدا ، واتباع الوحي لا نزاع في صحته .
وإن كانت الآية تدل على نوع تقليد في الجملة ، فهي لا تدل إلا على التقليد الذي قدمنا أنه لا خلاف فيه بين المسلمين ، وهو تقليد العامي الذي تنزل به النازلة عالما من العلماء ، وعمله بما أفتاه به من غير التزام منه لجميع ما يقوله ذلك العالم ، ولا تركه لجميع ما يقوله غيره .
وأما استدلالهم بالحديث الوارد في الرجل الذي أصابته شجة في رأسه ، ثم احتلم ، فسأل أصحابه : هل يعلمون له رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نرى لك رخصة وأنت قادر على الماء ، فاغتسل فمات ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذا لم يعلموا ؟ فإنما شفاء العيي السؤال " .
فهو استدلال أيضا في غير محله ، وهو حجة أيضا على المقلدين لا لهم .
قال في إعلام الموقعين في بيان وجه ذلك ما نصه : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أرشد المستفتين ، كصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه ، وسنته فقال : قتلوه قتلهم الله ، فدعا عليهم حين أفتوا بغير علم ، وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد ; فإنه ليس علما باتفاق الناس .
فإنما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فاعله ، فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم ، فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم .
وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة لأهل العلم ، فإنه لما أخبروه [ ص: 325 ] بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البكر الزاني أقره على ذلك ، ولم ينكره ، فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم .
وأما استدلالهم بأن عمر قال في الكلالة : إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر ، وأن ذلك تقليد منه له . فلا حجة لهم فيه أيضا .
وخلاف عمر لأبي بكر رضي الله عنهما أشهر من أن يذكر .
كما خالفه في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر ، وخالفه عمر .
وبلغ خلافه إلى أن ردهن حرائر إلى أهلهن إلا لمن ولدت لسيدها منهن ، ونقض حكمه ، ومن جملتهن خولة الحنفية أم محمد بن علي .
وخالفه في أرض العنوة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر .
وخالفه في المفاضلة في العطاء ، فرأى أبو بكر التسوية ، ورأى عمر المفاضلة .
وخالفه في الاستخلاف ، فاستخلف أبو بكر عمر على المسلمين ، ولم يستخلف عليهم عمر أحدا إيثارا لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فعل أبي بكر رضي الله عنهم .
وخالفه في الجد والإخوة ، مع أن خلاف أبي بكر الذي استحيا منه عمر هو خلافه في قوله : إن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله منه بريء - هو ما دون الولد والوالد فاستحيا عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه ، وأنه ليس كلامه كله صوابا مأمونا عليه الخطأ .
ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء ، وقد اعترف أنه لم يفهمها ، قاله في إعلام الموقعين .
ومن العجب استدلال المقلدين على تقليدهم ، باستحياء عمر من مخالفة أبي بكر ، مع أنهم لم يستحيوا من مخالفة أبي بكر وعمر ، وجميع الصحابة ، ومخالفة الكتاب والسنة إذا كان ذلك لا يوافق مذهب إمامهم ، كما هو معلوم من عادتهم .
وكما أوضحه الصاوي في الكلام الذي قدمنا على قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] .
[ ص: 326 ] فقد قدمنا هناك أنه قال : إن من خرج عن المذاهب الأربعة فهو ضال مضل ، ولو وافق الصحابة ، والحديث الصحيح والآية ، وربما أداه ذلك إلى الكفر ; لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر .
فمن هذا مذهبه ودينه كيف يستدل باستحياء عمر من مخالفة أبي بكر ؟
بل كيف يستدل بنص من نصوص الوحي ، أو قول أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟
مع أن أبا بكر خليفة راشد أمر النبي بالاقتداء به في قوله : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " الحديث ، فليس الاقتداء بالخلفاء كالاقتداء بغيرهم .
وأما استدلالهم على تقليدهم بقول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما : رأينا لرأيك تبع ، فيكفي في رده ما قدمنا قريبا ، من مخالفة عمر لأبي بكر ، مع القصة التي قال له فيها : رأينا لرأيك تبع ، رد فيها على أبي بكر بعض ما قاله .
وأيد الصحابة ما قال عمر في رده على أبي بكر رضي الله عنهما .
لأن الحديث المذكور في وفد بزاخة من أسد وغطفان حين قدموا على أبي بكر يسألونه الصلح ، فخيرهم أبو بكر بين الحرب المجلية والسلم المخزية .
فقالوا : هذه المجلية قد عرفناها ، فما المخزية ؟
قال : تنزع منكم الحلقة والكراع ، ونغنم ما أصبنا لكم وتردون لنا ما أصبتم منا ؟ وتدون لنا قتلانا إلى آخر كلامه .
وفيه : فقام عمر بن الخطاب فقال : قد رأيت رأيا سنشير عليك ، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت ، وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم ، وتردون ما أصبتم منا ، فنعم ما ذكرت ، وأما ما ذكرت من أن تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار ، فإن قتلانا قد قاتلت فقتلت على ما أمر الله ، أجورها على الله ، ليس لها ديات .
فتتابع القوم على ما قال عمر رضي الله عنه .
فهذه القصة الثابتة : هي التي في بعض ألفاظها : ورأينا لرأيك تبع .
[ ص: 327 ] وأنت ترى عمر رضي الله عنه لم يقلد فيها أبا بكر رضي الله عنه ، إلا فيما يعتقد صوابه .
فإن ما ظهر له أنه صواب قال له فيه : نعم ما ذكرت .
وما ظهر له أنه ليس بصواب رده على أبي بكر ، وهو قول أبي بكر بدفع ديات الشهداء ; لأن عمر يعتقد أن الشهيد في سبيل الله لا دية له ; لأن الله يقول : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [ 9 \ 111 ] .
وذلك يوضح لك أن الصحابة رضي الله عنهم لا يعدلون عن الكتاب والسنة إلى قول أحد .
وأما احتجاجهم بتقليد ابن مسعود لعمر فهو ظاهر السقوط ، ولو وافق عمر في بعض المسائل فهو من قبيل موافقة بعض العلماء لبعض ، لاتفاق رأيهم لا لتقليد بعضهم لبعض .
وقد خالف ابن مسعود عمر رضي الله عنهما في مسائل كثيرة جدا ، كمخالفته له في أم الولد ; لأن ابن مسعود يقول فيها : إنها تعتق من نصيب ولدها ، ومن ذلك أن ابن مسعود كان يطبق في ركوعه إلى أن مات ، وعمر كان يضع يديه على ركبتيه .
وكان ابن مسعود يقول في الحرام : هي يمين ، وعمر يقول : إنه طلقة واحدة .
وكان ابن مسعود يحرم النكاح بين الزانيين وعمر يتوبهما ، وينكح أحدهما الآخر .
وكان ابن مسعود يرى بيع الأمة طلاقها ، وعمر يرى عدم ذلك ، وأمثال هذا كثيرة معلومة .
مع أن ابن مسعود يقول : إنه أعلم الصحابة بكتاب الله وأنه لو كان أحد أعلم منه به لرحل إليه ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة .
وقد قدمنا عنه قوله : كن عالما أو متعلما ، ولا تكن إمعة .
فليس ابن مسعود من أهل التقليد ، مع أن المقلدين المحتجين بتقليد ابن مسعود [ ص: 328 ] لعمر ، لا يقلدون ابن مسعود ، ولا عمر ولا غيرهما من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
ولا يأخذون بقول الله ولا رسوله وإنما يفضلون على ذلك كله تقليد أحد الأئمة أصحاب المذاهب رحمهم الله .
وأما استدلالهم على التقليد بأن عبد الله كان يدع قوله لقول عمر .
وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي .
وزيد يدع قوله لقول أبي بن كعب فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأنه من المعلوم أن الصحابة المذكورين رضي الله عنهم لا يدعون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد ، وهذا لا شك فيه .
وكان ابن عمر يدع قول عمر ، إذا ظهرت له السنة .
وكان ابن عباس يقول : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون : قال أبو بكر وعمر .
وأما استدلالهم على التقليد بأن معاذا رضي الله عنه صلى مسبوقا فصلى ما أدرك مع الإمام أولا ، ثم قضى ما فاته بعد سلام الإمام ، وكانوا قبل ذلك يصلون ما فاتهم أولا ، ثم يدخلون مع الإمام في الباقي .
وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ذلك : " إن معاذا قد سن لكم سنة ، فكذلك فافعلوا " ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن ذلك لم يكن سنة إلا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما لا يخفى .
فلا حجة قطعا في قول أحد كائنا من كان ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجود .
وإنما العبرة بقوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقريره ، وهذا معلوم بالضرورة من الدين .
وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ 4 \ 59 ] .
قائلين إن المراد بأولي الأمر العلماء ، وأن طاعتهم المأمور بها في الآية هي تقليدهم ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأنه لا يجوز طاعة أولي الأمر إجماعا فيما خالف كتابا أو سنة ، ولا طاعة لهم إلا في المعروف كما جاءت به الأحاديث الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 329 ] ولا نزاع بين المسلمين في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
والتحقيق في معنى الآية الكريمة أن المراد بأولي الأمر : ما يشمل الأمراء والعلماء ; لأن العلماء مبلغون عن الله وعن رسوله ، والأمراء منفذون ، ولا تجوز طاعة أحد منهم إلا فيما أذن الله فيه ; لأن ما أمر به أولو الأمر لا يخلو من أحد أمرين :
أحدهما : أن يكون طاعة لله ولرسوله من غير نزاع ، وطاعة أولي الأمر في مثل هذا من طاعة الله ورسوله .
والثاني : أن يحصل فيه نزاع ، هل هو من طاعة الله ورسوله أو لا ؟
وفي هذه الحالة لا تجوز الطاعة العمياء لأولي الأمر ولا التقليد الأعمى كما صرح الله تعالى بذلك في نفس الآية .
لأنه تعالى لما قال : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ 4 \ 59 ] ، أتبع ذلك بقوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [ 4 \ 59 ] ، فالآية صريحة في رد كل نزاع إلى الله ورسوله .
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إليه في حياته ، والرد إلى سنته بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم .
وقد قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 - 30 ] بعض الأحاديث الصحيحة الدالة على أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، كحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " .
وحديث علي رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار : " لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا ، إنما الطاعة في المعروف " .
وفي الكتاب العزيز : ولا يعصينك في معروف [ 60 \ 12 ] .
ولا يخفى أن طاعة الله وطاعة رسوله المأمور بها في الآية لا يتحقق وجودها إلا بمعرفة أمر الله ورسوله ونهي الله ورسوله .
[ ص: 330 ] والمقلدون مقرون على أنفسهم بأنهم لا يعلمون أمر الله ولا نهيه ، ولا أمر رسوله ولا نهيه .
وغاية ما يدعون علمه هو أن الإمام الذي قلدوه قال كذا ، مع عجزهم عن التمييز بين ما هو خطأ وما هو صواب ، بل أكثرهم لا يميزون بين قول الإمام وبين ما ألحقه أتباعه بعده مما قاسوه على أصول مذهبه .
ولا شك أن طاعة العلماء هي اقتفاء ما كانوا عليه من النظر في كتاب الله وسنة رسوله وتقديمها على كل قول وعلى كل رأي كائنا ما كان .
فمن قلدهم التقليد الأعمى وترك الكتاب والسنة لأقوالهم ، فهو المخالف لهم المتباعد عن طاعتهم كما تقدم ، وكما سيأتي إن شاء الله .
وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه [ 9 \ 100 ] ، قائلين : إن تقليدهم من جملة اتباعهم بإحسان ، فمقلدهم ممن رضي الله عنه بنص الآية فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن الذين اتبعوهم بإحسان هم الذين ساروا على مثل ما كانوا عليه من العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن أحد منهم يقلد رجلا ويترك الكتاب والسنة لقوله .
فالمقلدون التقليد الأعمى ليسوا ممن اتبعوهم البتة ، بل هم أعظم الناس مخالفة لهم ، وأبعدهم عن اتباعهم ، فأتبع الناس لمالك مثلا ابن وهب ونظراؤه ، ممن يعرضون أقواله على الكتاب والسنة فيأخذون منها ما وافقهما دون غيره .
وأتبع الناس لأبي حنيفة أبو يوسف ومحمد مع كثرة مخالفتهما له ، لأجل الدليل من كتاب أو سنة .
وأتبع أصحاب أحمد بن حنبل له البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم ، لتقديمهم الدليل على قوله وقول غيره ، وهكذا .
وأما استدلالهم على تقليدهم ، بحديث : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " فهو ظاهر السقوط أيضا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (503)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 331 إلى صـ 338
[ ص: 331 ] اعلم أولا أن الحديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به ، فجميع طرقه ليس فيها شيء قائم ، قال في إعلام الموقعين :
روي هذا الحديث من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر .
ومن طريق حمزة الجري ، عن نافع عن ابن عمر ، ولا يثبت شيء منها .
قال ابن عبد البر : حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد ; أن أبا عبد الله بن مضرح حدثهم : ثنا محمد بن أيوب الصموت قال : قال لنا البزار : وأما ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " فهذا الكلام لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم . انتهى منه .
وضعف الحديث المذكور معروف عن أهل العلم .
مع أن المقلدين المحتجين به يمنعون تقليد الصحابة ، ويحرمون الاهتداء بتلك النجوم .
وهو تناقض عجيب لأنهم تركوا نفس ما دل عليه الحديث واستدلوا بالحديث على ما لم يتعرض له الحديث ، وهو تقديمهم تقليد أئمتهم على تقليد الصحابة .
مع أن قياسهم على الصحابة لا يصح لعظم الفارق ، وبما ذكرنا تعلم سقوط استدلالهم بما ذكروا عن ابن مسعود من قوله : " من كان مستنا منكم فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد " .
والله - جل وعلا - يقول : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم [ 2 \ 44 ] .
وأما استدلالهم بقوله - صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " .
وقوله - صلى الله عليه وسلم : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " فهو حجة عليهم لا لهم ; لأن سنة الخلفاء الراشدين التي حث عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرونة بسنته ليس فيها البتة تقليد أعمى ، ولا التزام قول رجل بعينه .
[ ص: 332 ] بل سنتهم هي اتباع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتقديمهما على كل شيء ; لأنهم هم أتبع الناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشدهم حرصا على العمل بما جاء به .
فالذي يقدم آراء الرجال على كتاب الله وسنة رسوله ويستدل على ذلك بحديث : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث ، هو كما ترى .
وأقوال الخلفاء رضي الله عنهم وأفعالهم كلها معروفة مدونة إلى الآن ليس فيها تقليد أعمى ، ولا جمود على قول رجل واحد .
وإنما هي عمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم ، ومشاورة لأصحابه فيما نزل من النوازل واستنباط ما لم يكن منصوصا من نصوص الكتاب والسنة على أحسن الوجوه وأتقنها ، وأقربها لرضا الله والاحتياط في طاعته .
وكانوا إذا بلغهم شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجعوا إليه ولو كان مخالفا لرأيهم .
فقد رجع أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى قول المغيرة بن شعبة ، ومحمد بن مسلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض للجدة السدس .
وكان أبو بكر يرى أنها لا ميراث لها ، وقد قال لها لما جاءته : " لا أرى لك شيئا في كتاب الله ، ولا أعلم لك شيئا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم " .
وقد رجع عمر إلى قول المذكورين في دية الجنين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل فيها غرة عبد أو وليدة .
ورجع عمر أيضا إلى حديث عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر .
ورجع عمر أيضا إلى قول الضحاك بن سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها .
ورجع عثمان بن عفان إلى حديث فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالسكنى في البيت الذي توفي عنها زوجها وهي فيه حتى تنقضي عدتها .
وكان عثمان بعد ذلك يفتي بوجوب السكنى للمتوفى عنها حتى تنقضي عدتها .
[ ص: 333 ] وأمثال هذا أكثر من أن تحصى ، وفي ذلك بيان واضح ، لأن سنة الخلفاء الراشدين هي المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وتقديم سنته على كل شيء ، فعلينا جميعا أن نعمل بمثل ما كانوا يعملون لنكون متبعين لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنتهم .
أما المقلد المعرض عن سنتهم ، وعن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مفضلا على ذلك تقليد أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد رحمهم الله ، فما كان يحق له أن يستدل بحديث : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث لأنه مقر بمقتضى تقليده بأنه أبعد الناس عن العمل بحديث " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث .
وأما استدلالهم بأن عمر كتب إلى شريح : أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن في سنة رسول الله فبما قضى به الصالحون فهو حجة عليهم أيضا لا لهم ; لأن فيه تقديم كتاب الله ، ثم سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم العمل بما قضى به الصالحون ، وخيرهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
ولو كان المقلدون يمتثلون هذا ، لما أنكر عليهم أهل العلم ، ولكن المقلدين المحتجين بهذا يمنعون العمل بكتاب الله وسنة رسوله ، والعمل بفتاوى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
ويوجبون الجمود على قول الإمام الذي قلدوه والتزموا بمذهبه .
ومن كانت هذه حاله ، فلا يحق له أن يستدل بشيء من هذه الأدلة .
وأما استدلالهم بأن عمر رضي الله عنه منع بيع أمهات الأولاد فتبعه الصحابة .
وألزم الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وتبعه الصحابة ، فهو ظاهر السقوط أيضا .
وقد قدمنا أن متابعة بعض الصحابة لبعض إنما هي لاتفاقهم فيما رأوه ، لا لأن بعضهم مقلد بعضا تقليدا أعمى .
وقد قدمنا إيضاح ذلك بما يكفي .
مع أن المقلدين المحتجين بهذا يمنعون تقليد عمر ، وسائر الصحابة ، فمن عجائبهم أنهم يستدلون بما يعتقدون أن العمل به ممنوع .
[ ص: 334 ] وأما استدلالهم بأن عمرو بن العاص قال لعمر لما احتلم : خذ ثوبا غير ثوبك ، فقال : لو فعلت صارت سنة . فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن عمر بن الخطاب خاف أن يفعل شيئا فيعتقد من لا علم عنده أنه إنما فعله لكونه سنة ، فامتنع من فعله لأجل هذا المحذور .
مع أن المقلد يرى منع تقليد عمر رضي الله عنه .
وأما استدلالهم بما ذكروه عن أبي وغيره أنه قال : ما استبان لك فاعمل به ، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه ، فهو حجة عليهم أيضا لا لهم .
لأن قوله : ما استبان لك فاعمل به ، صريح في أن ما استبان من كتاب الله وسنة رسوله ، يجب العمل به ولا يجوز العدول عنه لقول أحد .
وهذا نقيض ما عليه المقلدون ، فهم دائما يستدلون على مذهبهم بما يناقضه .
والأظهر أن مراد أبي بن كعب بقوله : فكله إلى عالمه ، أي فكل علمه إلى الله .
فمراده بما اشتبه المتشابه ، ومراده بعالمه : الله .
فهو يشير إلى قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ 3 \ 7 ] .
فالذين قالوا " آمنا به كل من عند ربنا " فقد وكلوا ما اشتبه عليهم إلى عالمه وهو الله .
ويحتمل أن يكون مراد أبي بقوله : فكله إلى عالمه أي فكله إلى من هو أعلم به منك من العلماء ، وهذا هو الذي فهمه ابن القيم في إعلام الموقعين من كلام أبي .
وعلى هذا الاحتمال فلا حجة فيه أيضا للمقلدين ; لأن من خفي عليه شيء من العلم فوكله إلى من هو أعلم به منه ، فقد أصاب .
ولا يلزم من ذلك الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله بل هو عمل بالقرآن لقوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 \ 36 ] .
[ ص: 335 ] وأما استدلالهم على تقليدهم بأن الصحابة كانوا يفتون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجود بين أظهرهم ، وأن ذلك تقليد لهم فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأنهم ما كانوا يفتونهم في حالة وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم إلا بما علمهم من الكتاب والسنة كما لا يخفى .
ومن أفتى منهم وغلط في فتواه أنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتواه التي ليست مطابقة للحق ، وردها عليه كإنكاره على أبي السنابل بن بعكك قوله لسبيعة الأسلمية لما مات زوجها ووضعت حملها بعد ذلك بأيام : " إنها لا تنقضي عدتها إلا بعد أربعة أشهر وعشر ليال " .
وقد استدل أبو السنابل على ما أفتى به بعموم قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ 2 \ 234 ] .
وقد رد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتواه مبينا أن عموم قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا [ 2 \ 234 ] مخصص بقوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] .
وكإنكاره - صلى الله عليه وسلم - على الذين أفتوا صاحب الشجة بأنهم لم يجدوا له رخصة وهو يقدر على الماء .
وقد قدمنا قصته ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيهم : " قتلوه قتلهم الله " الحديث .
والظاهر أنهم استندوا في فتواهم لما فهموه من قوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا [ 4 \ 43 ] ، وغفلوا عن قوله : وإن كنتم مرضى [ 4 \ 43 ] ، وأمثال هذا كثيرة .
وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [ 9 \ 122 ] ، قائلين إن الآية أوجبت قبول إنذارهم ، وأن ذلك تقليد لهم ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن الإنذار في قوله : ولينذروا قومهم لا يكون برأي .
وإنما يكون بالوحي خاصة ، وقد حصر تعالى الإنذار في الوحي بأداة الحصر التي هي " إنما " في قوله : قل إنما أنذركم بالوحي [ 21 \ 45 ] .
وبه تعلم أن الإنذار لا يقوم إلا بالحجة فمن لم تقم عليه الحجة ، لم يكن قد أنذر ، كما [ ص: 336 ] أن النذير من أقام الحجة ، فمن لم يأت بحجة فليس بنذير .
فما لا شك فيه أن هذا الإنذار المذكور في قوله : ولينذروا ، والتحذير من مخالفته في قوله : لعلهم يحذرون ليس برأي ولا اجتهاد .
وإنما هو إنذار بالوحي ممن تفقه في الدين ، وصار ينذر بما علمه من الدين ، كما يدل عليه قوله تعالى قبله ليتفقهوا في الدين [ 9 \ 122 ] ، فهو يدل على أن قوله : ولينذروا قومهم أي بما تفقهوا فيه من الدين .
وليس التفقه في الدين إلا علم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
فتبين أن الآية لا دليل فيها البتة لطائفة التقليد ، الذين يوجبون تقليد إمام بعينه ، من غير أن يرد من أقواله شيء ، ولا يؤخذ من أقوال غيره شيء .
ونجعل أقواله عيارا لكتاب الله وسنة رسوله فما وافق أقواله منهما قبل وما لم يوافقها منهما رد .
وهذا النوع من التقليد لا شك في بطلانه ، وعدم جوازه .
فالآية الكريمة بعيدة كل البعد من الدلالة عليه ، مع أن استدلال المقلدين بها على تقليدهم استدلال بشيء يعتقدون أن الاستدلال به ممنوع باتا ، لأنه استدلال بقرآن .
وأما قبول إنذارهم فهو من الاتباع لا من التقليد ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .
وأما استدلالهم بأن ابن الزبير ، قال ما يدل على تقليده لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في أن الجد يحجب الإخوة ، فهو ظاهر السقوط أيضا .
وقد قدمنا مرارا في رد استدلالهم بتقليد الصحابة بعضهم بعضا ما يكفي ، فأغنى عن إعادته هنا .
وأما استدلالهم بقبول شهادة الشاهد في الحقوق . قائلين : إن قبول شهادته فيما شهد به تقليد له ، فهو ظاهر السقوط لظهور الفرق بينه وبين ما استدلوا عليه به . من تقليد رجل واحد بعينه ، بحيث لا يترك من أقواله شيء ولا يؤخذ مما خالفها شيء ، ولو كان كتابا أو سنة .
[ ص: 337 ] وذلك من وجهين :
أحدهما : أن العمل بشهادة الشاهد أخذ بكتاب الله وسنة رسوله ، لأن الله يقول : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] ، ويقول : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - القضاء بالشاهد واليمين في الأموال ، وفي الحديث : " شاهداك أو يمينه " وهو حديث صحيح .
فالأخذ بشهادة الشاهد إذا من العمل بكتاب الله وسنة رسوله لا من التقليد لرجل واحد بعينه تقليدا أعمى .
الوجه الثاني : أن الشاهد إنما يخبر عما أدركه بإحدى حواسه ، والمدرك بالحاسة يحصل به القطع لمن أدركه بخلاف الرأي ، فإن صاحبه لا يقطع بصحة ما ظهر له من الرأي .
ولذا أجمع العلماء على الفرق بين خبر التواتر المستند إلى حس ، وبين خبر التواتر المستند إلى عقل .
فأجمعوا على أن الأول يوجب العلم المفيد للقطع لاستناده إلى الحس .
وأن الثاني لا يوجبه ، ولو كان خبر التواتر يفيد العلم في المعقولات لكان قدم العالم مقطوعا به ; لأنه تواتر عليه من الفلاسفة خلق لا يحصيهم إلا الله .
مع أن حدوث العالم أمر قطعي لا شك فيه ، فالذين تواتروا من الفلاسفة على قدم العالم الذي هو من المعقولات لا من المحسوسات لو تواتر عشرهم على أمر محسوس لأفاد العلم اليقيني فيه .
فالشاهد إن أخبر عن محسوس ، وكان عدلا ، فهو عدل مخبر عما قطع به قطعا لا يتطرق إليه الشك ، بخلاف المجتهد ، فإنه عدل أخبر عما ظنه ، فوضوح الفرق بين الأمرين كما ترى .
[ ص: 338 ] وأما استدلالهم على تقليدهم بقبول قول القائف والخارص والمقوم والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد .
وتقليد الأعمى في القبلة .
وتقليد المؤذنين في الوقب والمترجمين والمعرفين ، والمعدلين ، والمجرحين .
وتقليده المرأة في طهرها ، فهو كله ظاهر السقوط أيضا .
لأن جميع ذلك لا يقبل منه إلا ما قام عليه دليل من كتاب أو سنة ، فالعمل به من العمل بالدليل الشرعي لا من التقليد الأعمى .
وذلك كله من قبيل الشهادة ، والإخبار بما عرفه القائف والخارص إلى آخره ، لا من قبيل الفتوى في الدين .
وقد استدل العلماء على قبول قول القائف بسرور النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول مجزز بن الأعور المدلجي في أسامة وزيد : " هذه الأقدام بعضها من بعض " .
فلو كان قول القائف لا يقبل ؛ لما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم ، ولما برقت أسارير وجهه سرورا به .
فقبوله لذلك ، فهو اتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم .
وقد قدمنا الأحاديث النبوية الدالة على قبول قول الخارص ، وبينا أن بعضها ثابت في الصحيح ، ورد قول من منع ذلك في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ 6 \ 141 ] ، فهذا مثال ما ثبت بالسنة من قبول قول المذكورين .
ومثال ما دل عليه القرآن من ذلك قبول قول الحكمين في المثل في جزاء الصيد ; لأن الله نص عليه في قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم [ 5 \ 95 ] .
وهكذا كل من ذكروا ، فإن قبول قولهم إنما صح بدليل شرعي يدل على قبوله من كتاب أو سنة أو إجماع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (504)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 339 إلى صـ 346
[ ص: 339 ] مع أن الإخبار عن جميع ما ذكر إخبار عن محسوس ، والتقليد الذي استدلوا به عليه إخبار عن معقول مظنون .
والفرق بين الأمرين قدمناه قريبا ، فليس شيء من ذلك تقليدا أعمى بدون حجة .
وأما استدلالهم على التقليد المذكور بجواز شراء اللحوم والثياب والأطعمة وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها اكتفاء بتقليد أربابها ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن الاكتفاء بقول الذابح والبائع ليس بتقليد أعمى في حكم ديني لهما .
وإنما هو عمل بالأدلة الشرعية ; لأنها دلت على أن ما في أسواق المسلمين من اللحوم والسلع محمول على الجواز والصحة ، حتى يظهر ما يخالف ذلك .
ومما يدل على ذلك ، ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " إن قوما قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا عليه أنتم وكلوا ، قال : وكانوا حديثي عهد بالكفر " .
قال المجد في المنتقى بعد أن ساق الحديث : رواه البخاري والنسائي وابن ماجه ، وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد . انتهى منه .
وقد أجمع العلماء على هذا ، فالعمل به عمل بالدليل الشرعي ; لأن الله لو كلف الناس ألا يشتري أحد منهم شيئا حتى يعلم حليته فوقعوا في حرج عظيم تتعطل به المعيشة ويختل به نظامها .
فأجاز الله تعالى ذلك برفع الحرج كما قال تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] ، فالاستدلال به على التقليد الأعمى فاسد ، لأنه أخذ بالحجة والدليل ، وليس من التقليد .
وأما استدلالهم على التقليد بأن الله لو كلف الناس كلهم الاجتهاد ، وأن يكونوا علماء ضاعت مصالح العباد ، وتعطلت الصنائع والمتاجر ، وهذا مما لا سبيل إليه شرعا وقدرا ، فهو ظاهر السقوط أيضا .
ومن أوضح الأدلة على سقوطه أن القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير ، لم يكن فيهم تقليد رجل واحد بعينه هذا التقليد الأعمى .
[ ص: 340 ] ولم تتعطل متاجرهم ، ولا صنائعهم ، ولم يرتكبوا ما يمنعه الشرع ولا القدر ، بل كانوا كلهم لا يقدمون شيئا على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
وكان فيهم علماء مجتهدون يعلمون بالكتاب والسنة ويفتون بهما ، وكان فيهم قوم دون رتبتهم في العلم ، يتعلمون من كتاب الله وسنة رسوله ما يحتاجون للعمل به في أنفسهم ، وهم متبعون لا مقلدون .
وفيهم طائفة أخرى ، هي العوام لا قدرة لها على التعلم ، وكانوا يستفتون فيما نزل من النوازل من شاءوا من العلماء ، وتارة يسألونه عن الدليل فيما أفتاهم به .
وتارة يكتفون بفتواه ولا يسألون ، ولم يتقيدوا بنفس ذلك العالم الذي يستفتونه ، فإذا نزلت بهم نازلة أخرى ، سألوا عنها غيره من العلماء إن شاءوا ، ولا إشكال في هذا الذي مضت عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم ، ولا يلزمه تعطيل صنائع ولا متاجر ، ولا يمنعه شرع ولا قدر .
فكيف يستدل منصف للتقليد الأعمى ، بأن الناس لو لم ترتكبه لوقعوا في المحذور المذكور .
وعلى كل حال فكل عاقل لم يعمه التعصب ، يعلم أن تقليد إمام واحد بعينه ، بحيث لا يترك من أقواله شيء ، ولا يؤخذ من أقوال غيره شيء ، وجعل أقواله عيارا لكتاب الله ، وسنة رسوله ، فما وافق أقواله منهما جاز العمل به ، وما خالفها منهما وجب اطراحه ، وترك العمل به - لا وجه له البتة .
وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وإجماع الأئمة الأربعة ، فالواجب على المسلمين تعلم كتاب الله وسنة رسوله ، والعمل بما علموا منهما .
والواجب على العوام الذين لا قدرة لهم على التعلم سؤال أهل العلم ، والعمل بما أفتوهم به .
وسيأتي لهذا زيادة إيضاح وإقناع للمنصف في التنبيهات الآتية إن شاء الله تعالى .
وقد بينا هنا بطلان جميع الحجج التي يحتج بها المقلدون التقليد المذكور ، وما لم [ ص: 341 ] نذكر من حججهم ، قد أوضحنا رده وإبطاله فيما ذكرنا .
تنبيهات مهمة تتعلق بهذه الآية الكريمة : التنبيه الأول : اعلم أن المقلدين اغتروا بقضيتين ظنوهما صادقتين ، وهما بعيدتان من الصدق . وظن صدقهما يدخل أوليا في عموم قوله تعالى : إن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 10 \ 36 ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " .
أما الأولى منهما فهي ظنهم أن الإمام الذي قلدوه لا بد أن يكون قد اطلع على جميع معاني كتاب الله ، ولم يفته منها شيء ، وعلى جميع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفته منها شيء
ولذلك فإن كل آية وكل حديث قد خالفا قوله فلا شك عندهم أن ذلك الإمام اطلع على تلك الآية وعلم معناها ، وعلى ذلك الحديث وعلم معناه ، وأنه ما ترك العمل بهما إلا لأنه اطلع على ما هو أقوى منهما وأرجح .
ولذلك يجب تقديم ذلك الأرجح الذي تخيلوه شيء من الوحي الموجود بين أيديهم .
وهذا الظن كذب باطل بلا شك .
والأئمة كلهم معترفون بأنهم ما أحاطوا بجميع نصوص الوحي ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .
ومن أصرح ذلك أن الإمام مالكا رحمه الله ، إمام دار الهجرة المجمع على علمه وفضله وجلالته ، لما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما جمعه في موطئه لم يقبل ذلك من أبي جعفر ورده عليه .
وأخبره أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في أقطار الدنيا ، كلهم عنده علم ليس عند الآخر .
ولم يجمع الحديث جمعا تاما بحيث أمكن جمع جميع السنة إلا بعد الأئمة الأربعة ; لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين تفرقوا في أقطار الدنيا روي عنهم كثير من [ ص: 342 ] الأحاديث لم يكن عند غيرهم ، ولم يتيسر الاطلاع عليه إلا بعد أزمان ، وكثرة علم العالم لا تستلزم اطلاعه على جميع النصوص .
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو عجز عن أن يفهم معنى الكلالة حتى مات رضي الله عنه ، وقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها كثيرا فبينها له ولم يفهم .
فقد ثبت عنه رضي الله عنه أنه قال : ما سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، حتى طعن بإصبعه في صدري ، وقال لي : " يكفيك آية الصيف في آخر سورة النساء " ، فهذا من أوضح البيان ; لأن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية الصيف يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ 4 \ 176 ] ، والآية تبين معنى الكلالة بيانا شافيا ، لأنها أوضحت أنها : ما دون الولد والوالد .
فبينت نفي الولد بدلالة المطابقة في قوله تعالى : إن امرؤ هلك ليس له ولد [ 4 \ 176 ] ، وبينت نفي الوالد بدلالة الالتزام في قوله تعالى : وله أخت فلها نصف ما ترك [ 4 \ 176 ] ; لأن ميراث الأخت يستلزم نفي الولد .
ومع هذا البيان النبوي الواضح لهذه الآية الكريمة ، فإن عمر رضي الله عنه لم يفهم ، وقد صح عنه أن الكلالة لم تزل مشكلة عليه .
وقد خفي معنى هذا أيضا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال في الكلالة : أقول فيها برأيي . فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، هو ما دون الولد والوالد .
فوافق رأيه معنى الآية ، والظاهر أنه لو كان فاهما للآية لكفته عن الرأي ; كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه : " تكفيك آية الصيف " ، وهو تصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بأن في الآية كفاية عن كل ما سواها في الحكم المسئول عنه .
ومما يوضح ذلك أن عمر طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان الآية ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم ، فما أحال عمر على الآية إلا لأن فيها من البيان ما يشفي ويكفي .
وقد خفي على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أعطى الجدة السدس [ ص: 343 ] حتى أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس " فرجع إلى قولهما .
ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم : قضى في دية الجنين بغرة عبد أو وليدة حتى أخبره المذكوران قبل .
ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن المرأة ترث من دية زوجها . حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه : أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها .
ولم يعلم أيضا بأخذ الجزية من المجوسي حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر .
ولم يعلم بحكم الاستئذان ثلاثا حتى أخبره أبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه .
ولم يعلم عثمان رضي الله عنه بوجوب السكنى للمتوفى عنها حتى أخبرته فريعة بنت مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم ألزمها بالسكنى في المحل الذي مات عنها زوجها فيه حتى تنقضي عدتها .
وأمثال هذا أكثر من أن تحصر ، فهؤلاء الخلفاء الراشدون وهم هم ، خفي عليهم كثير من قضايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحاديثه مع ملازمتهم له ، وشدة حرصهم على الأخذ منه ، فتعلموه ممن هو دونهم في الفضل والعلم .
فما ظنك بغيرهم من الأئمة الذين نشأوا وتعلموا بعد تفرق الصحابة في أقطار الدنيا ؟
وروى عنه الأحاديث عدول من الأقطار التي ذهبوا إليها ؟
والحاصل أن ظن إحاطة الإمام بجميع نصوص الشرع ومعانيها ظن لا يغني من الحق شيئا ، وليس بصحيح قطعا ; لأنه لا شك أنه يفوته بعض الأحاديث فلم يطلع عليها ويرويه بعض العدول عن الصحابة فيثبت عند غيره .
وهو معذور في ترك العمل به ، بعدم اطلاعه عليه مع أنه بذل المجهود في البحث ; ولذا كان له أجر الاجتهاد والعذر في الخطأ .
[ ص: 344 ] وقد يكون الإمام اطلع على الحديث ، ولكن السند الذي بلغه به ضعيف فيتركه لضعف السند .
ويكون غيره اطلع على رواية أخرى صحيحة يثبت بها الحديث فهو معذور في تركه ، لأنه لم يطلع إلا على السند الضعيف ، ولم تبلغه الطريق الصحيحة الأخرى .
وقد يترك الحديث لشيء يظنه أرجح منه ، ويكون الواقع أن الحديث أرجح من ذلك الشيء الذي ظنه لقيام أدلة أخرى على ذلك لم يطلع عليها إلى أسباب أخر كثيرة ، كترك الأئمة للعمل ببعض النصوص .
وبهذا كله تعلم أن ظن اطلاع الإمام على كل شيء من أحكام الشرع وإصابته في معانيها كلها - ظن باطل ، وكل واحد من الأئمة يصرح ببطلان هذا الظن كما سترى إيضاحه إن شاء الله .
فاللازم هو ما قاله الأئمة أنفسهم رحمهم الله من أنهم قد يخطئون ، ونهوا عن اتباعهم في كل شيء يخالف نصا من كتاب أو سنة .
فالمتبع لهم حقيقة ، هو من لا يقدم على كتاب الله وسنة رسوله شيئا .
أما الذي يقدم أقوال الرجال على الكتاب وصحيح السنة ، فهو مخالف لهم لا متبع لهم ، ودعواه اتباعهم كذب محض .
وأما القضية الثانية : فهي ظن المقلدين أن لهم مثل ما للإمام من العذر في الخطأ .
وإيضاحه : أنهم يظنون أن الإمام لو أخطأ في بعض الأحكام وقلدوه في ذلك الخطأ يكون لهم من العذر في الخطأ والأجر مثل ما لذلك الإمام الذي قلدوه ; لأنهم متبعون له فيجري عليهم ما جرى عليه .
وهذا ظن كاذب باطل بلا شك . لأن الإمام الذي قلدوه بذل جهده في تعلم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وفتاواهم .
فقد شمر وما قصر فيما يلزم من تعلم الوحي والعمل به وطاعة الله على ضوء الوحي المنزل ، ومن كان هذا شأنه فهو جدير بالعذر في خطئه والأجر في اجتهاده .
وأما مقلدوه فقد تركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله ، وأعرضوا عن تعلمهما [ ص: 345 ] إعراضا كليا مع يسره وسهولته ونزلوا أقوال الرجال الذين يخطئون ويصيبون منزلة الوحي المنزل من الله .
فأين هؤلاء من الأئمة الذين قلدوهم ؟
وهذا الفرق العظيم بينهم وبينهم ، يدل دلالة واضحة ، على أنهم ليسوا مأجورين في الخطأ في تقليد أعمى إذ لا اقتداء ولا أسوة في غير الحق .
وليسوا معذورين لأنهم تركوا ما يلزمهم تعلمه من أمر الله ونهيه على ضوء وحيه المنزل .
والذي يجب عليهم من تعلم ذلك هو ما تدعوهم الحاجة للعمل به ، كأحكام عباداتهم ومعاملاتهم .
وأغلب ذلك تدل عليه نصوص واضحة ، سهلة التناول من الكتاب والسنة .
والحاصل أن المعرض عن كتاب الله ، وسنة رسوله المفرط في تعلم دينه ، مما أنزل الله ، وما سنه رسوله ، المقدم كلام الناس على كتاب الله ، وسنة رسوله ، لا يكون له البتة ما للإمام الذي لم يعرض عن كتاب الله وسنة رسوله ، ولم يقدم عليهما شيئا ولم يفرط في تعلم الأمر والنهي من الكتاب والسنة .
فأين هذا من هذا ؟
سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب
التنبيه الثاني
اعلم أن الأئمة الأربعة رحمهم الله ، متفقون على منع تقليدهم التقليد الأعمى الذي يتعصب له من يدعون أنهم أتباعهم .
ولو كانوا أتباعهم حقا لما خالفوهم في تقليدهم الذي منعوا منه ونهوا عنه .
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد القاضي المالكي ، قال : حدثنا موسى بن إسحاق ، قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر ، قال : حدثنا معن بن عيسى ، قال : [ ص: 346 ] سمعت مالك بن أنس يقول : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
فمالك رحمه الله مع علمه وجلالته وفضله يعترف بالخطأ وينهى عن القول بما خالف الوحي من رأيه ، فمن كان مالكيا فليمتثل قول مالك ولا يخالفه بلا مستند .
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه أيضا : أخبرني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، حدثني أبي ، حدثنا محمد بن عمر بن لبابة ، قال : حدثنا مالك بن علي القرشي ، قال : أنبأنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، قال : دخلت على مالك فوجدته باكيا فسلمت عليه فرد علي ثم سكت عني يبكي ، فقلت له : يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك ؟ فقال لي : يا ابن قعنب ، إنا لله على ما فرط مني ، ليتني جلدت بكل كلمة تكلمت بها في هذا الأمر بسوط ، ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي ، وهذه المسائل قد كانت لي سعة فيما سبقت إليه . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
ومن المعلوم بالضرورة أن مالكا رحمه الله لا يسره ولا يرضيه تقديم رأيه هذا الذي يسترجع ويبكي ندما عليه ، ويتمنى لو ضرب بالسياط ولم يكن صدر منه ، على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
فليتق الله وليستحي من الله من يقدم مثل هذا الرأي على الكتاب والسنة زاعما أنه متبع مالكا في ذلك .
وهو مخالف فيه لمالك ، ومخالف فيه لله ورسوله ، ولأصحابه ولكل من يعتد به من أهل العلم .
وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين : وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة .
فقال الشافعي : مثل الذي يطلب العلم بلا حجة ، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري ، ذكره البيهقي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (505)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 347 إلى صـ 354
وقال إسماعيل بن عيسى المزني في أول مختصره : اختصرت هذا من علم الشافعي ، [ ص: 347 ] ومن معنى قوله ؛ لأقربه على من أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره ؛ لينظر فيه لدينه ، ويحتاط فيه لنفسه إلى أن قال : وقال أحمد بن حنبل : لا تقلدني ، ولا تقلد مالكا ، ولا الثوري ولا الأوزاعي ، وخذ من حيث أخذوا .
وقال : من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال .
وقال بشر بن الوليد : قال أبو يوسف : لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا .
وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب ، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله . انتهى محل الغرض منه .
ومما لا شك فيه أن الأئمة الأربعة رحمهم الله نهوا عن تقليدهم في كل ما خالف كتابا أو سنة كما نقله عنهم أصحابهم ، كما هو مقرر في كتب الحنفية عن أبي حنيفة .
وكتب الشافعية عن الشافعي القائل : إذا صح الحديث فهو مذهبي .
وكتب المالكية ، والحنابلة عن مالك وأحمد رحمهم الله جميعا .
وكذلك كان غيرهم من أفاضل العلماء يمنعون من تقليدهم فيما لم يوافق الكتاب والسنة وقد يتحفظون منه ولا يرضون .
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه : وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عن سحنون ، قال : كان مالك بن أنس ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، ومحمد بن إبراهيم بن دينار ، وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز ، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما .
وإذا سأله محمد بن إبراهيم بن دينار وذووه لم يجبهم فقال له : يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما ، وأسألك أنا وذوي فلا تجيبنا ؟ فقال : أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك ؟ قال : نعم ، فقال له : إني قد كبرت سني ورق عظمي ، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني ، [ ص: 348 ] ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان ، إذا سمعا مني حقا قبلاه ، وإذا سمعا خطأ تركاه ، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه .
قال محمد بن حارث : هذا والله هو الدين الكامل ، والعقل الراجح ، لا كمن يأتي بالهذيان ، ويريد أن ينزل من القلوب منزلة القرآن . انتهى منه .
التنبيه الثالث
اعلم أن المقلدين للأئمة هذا التقليد الأعمى قد دل كتاب الله ، وسنة رسوله ، وإجماع من يعتد به من أهل العلم ، أنه لا يجوز لأحد منهم أن يقول : هذا حلال وهذا حرام ; لأن الحلال ما أحله الله ، على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه أو سنة رسوله ، والحرام ما حرمه الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه ، أو سنة رسوله .
ولا يجوز البتة للمقلد أن يزيد على قوله : هذا الحكم قاله الإمام الذي قلدته أو أفتى به .
أما دلالة القرآن على منع ذلك فقد قال تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، وقال تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [ 16 \ 116 ] ، وقال تعالى : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا .
ومعلوم أن العبرة بعموم الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب كما بيناه مرارا ، وأوضحنا أدلته من السنة الصحيحة .
ومما يوضح هذا أن المقلد الذي يقول : هذا حلال وهذا حرام من غير علم بأن الله حرمه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - يقول على الله بغير علم قطعا .
فهو داخل بلا شك في عموم قوله تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ 7 \ 33 ] .
فدخوله في قوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون كما [ ص: 349 ] ترى ، وهو داخل أيضا في عموم قوله تعالى : إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ 2 \ 169 ] .
وأما السنة ، فقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان . ح ، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا يحيى بن آدم ، حدثنا سفيان ، قال : أملاه علينا إملاء .
ح وحدثني عبد الله بن هاشم - واللفظ له - حدثني عبد الرحمن يعني ابن مهدي ، حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال : " اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله " الحديث .
وفيه : " وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري ، أتصيب حكم الله فيهم أم لا " . هذا لفظ مسلم في صحيحه .
وفيه النهي الصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسبة حكم إلى الله ، حتى يعلم بأن هذا حكم الله الذي شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم ، ولأجل هذا كان أهل العلم لا يتجرءون على القول بالتحريم والتحليل إلا بنص من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه : حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا يوسف بن عدي ، قال : حدثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب ، قال : قال الربيع بن خيثم : إياكم أن يقول الرجل في شيء : إن الله حرم هذا أو نهى عنه ، فيقول الله : كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه .
قال : أو يقول : إن الله أحل هذا وأمر به ، فيقول : كذبت لم أحله ولم آمر به .
وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب أنهما سمعا مالك بن أنس يقول : لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء : هذا حلال وهذا حرام .
ما كانوا يجترئون على ذلك ، وإنما كانوا يقولون : نكره هذا ، ونرى هذا حسنا ، ونتقي هذا ، ولا نرى هذا .
[ ص: 350 ] وزاد عتيق بن يعقوب : ولا يقولون حلال وحرام .
أما سمعت قول الله عز وجل : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] .
الحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله .
قال أبو عمر : معنى قول مالك هذا أن ما أخذ من العلم رأيا واستحسانا لم نقل فيه حلال ولا حرام والله أعلم . انتهى محل الغرض منه .
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسيره في الكلام على قوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام [ 16 \ 116 ] ما نصه : أسند الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش ، قال : ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلال ولا حرام ، ولكن كان يقول : كانوا يكرهون وكانوا يستحبون .
وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام .
ولكن يقولون : إياكم وكذا وكذا . ولم أكن لأصنع هذا .
ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان ، إلا أن يكون البارئ تعالى صرح بذلك عنه .
وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول : إني أكره كذا .
وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى . انتهى محل الغرض منه .
وإذا كان مالك وإبراهيم النخعي وغيرهما من أكابر أهل العلم لا يتجرءون أن يقولوا في شيء من مسائل الاجتهاد والرأي : هذا حلال أو حرام .
فما ظنك بغيرهم من المقلدين الذين لم يستضيئوا بشيء من نور الوحي ؟
فتجرؤهم على التحريم والتحليل بلا مستند من الكتاب إنما نشأ لهم من الجهل بكتاب الله وسنة رسوله ، وآثار السلف الصالح .
وآية يونس المتقدمة صريحة فيما ذكرنا صراحة تغني عن كل ما سواها ; لأنه تعالى لما قال : فجعلتم منه حراما وحلالا [ 10 \ 59 ] أتبع ذلك بقوله : قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون .
[ ص: 351 ] ولم يجعل واسطة بين إذنه في ذلك وبين الافتراء عليه ، فمن كان عنده إذن من الله بتحريم هذا أو تحليلا فليعتمد على إذن الله في ذلك .
ومن لم يكن عنده إذن من الله في ذلك فليحذر من الافتراء على الله ، إذ لا واسطة بين الأمرين .
ومعلوم أن العبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سببها .
فالذين يقولون من الجهلة المقلدين : هذا حلال وهذا حرام ، وهذا حكم الله ، ظنا منهم أن أقوال الإمام الذي قلدوه تقوم مقام الكتاب والسنة وتغني عنهما ، وأن ترك الكتاب والسنة والاكتفاء بأقوال من قلدوه أسلم لدينه أعمتهم ظلمات الجهل المتراكمة عن الحقائق حتى صاروا يقولون هذا .
فهم كما ترى ، مع أن الإمام الذي قلدوه ، ما كان يتجرأ على مثل الذي تجرءوا عليه ; لأن علمه يمنعه من ذلك .
والله - جل وعلا - يقول : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب [ 39 \ 9 ] .
التنبيه الرابع
اعلم أن مما لا بد منه معرفة الفرق بين الاتباع والتقليد ، وأن محل الاتباع لا يجوز التقليد فيه بحال .
وإيضاح ذلك : أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله ، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع المسلمين ، لا يجوز فيه التقليد بحال ; لأن كل اجتهاد يخالف النص ، فهو اجتهاد باطل ، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد ; لأن نصوص الكتاب والسنة ، حاكمة على كل المجتهدين ، فليس لأحد منهم مخالفتها كائنا من كان .
ولا يجوز التقليد فيما خالف كتابا أو سنة أو إجماعا إذ لا أسوة في غير الحق ، فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الاتباع فقط .
ولا اجتهاد ، ولا تقليد فيما دل عليه نص ، من كتاب أو سنة - سالم من المعارض .
[ ص: 352 ] والفرق بين التقليد والاتباع أمر معروف عند أهل العلم ، لا يكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم .
وقد قدمنا كلام ابن خويز منداد الذي نقله عنه ابن عبد البر في جامعه ، وهو قوله : التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه ، وذلك ممنوع منه في الشريعة ، والاتباع ما ثبت عليه حجة .
وقال في موضع آخر من كتابه : كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده ، والتقليد في دين الله غير صحيح .
وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه ، والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع . ا هـ .
وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين : وقد فرق الإمام أحمد رحمه الله بين التقليد والاتباع .
فقال أبو داود : سمعته يقول : الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه ، ثم هو من بعد في التابعين مخير . انتهى محل الغرض منه .
قال مقيده عفا الله عنه ، وغفر له : أما كون العمل بالوحي اتباعا لا تقليدا فهو أمر قطعي ، والآيات الدالة على تسميته اتباعا كثيرة جدا ; كقوله تعالى : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [ 7 \ 3 ] .
وقوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم [ 39 \ 55 ] .
وقوله تعالى : قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 203 ] .
وقوله تعالى : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] .
وقوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [ 6 \ 155 ] .
[ ص: 353 ] وقوله تعالى : اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين [ 6 \ 106 ] .
وقوله تعالى : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [ 46 \ 9 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
فالعمل بالوحي ، هو الاتباع كما دلت عليه الآيات .
ومن المعلوم الذي لا شك فيه ، أن اتباع الوحي المأمور به في الآيات لا يصح اجتهاد يخالفه من الوجوه ، ولا يجوز التقليد في شيء يخالفه .
فاتضح من هذا الفرق بين الاتباع والتقليد ، وأن مواضع الاتباع ليست محلا أصلا للاجتهاد ولا للتقليد ، فنصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة السالمة من المعارض لا اجتهاد ولا تقليد معها البتة ; لأن اتباعها والإذعان لها فرض على كل أحد كائنا من كان كما لا يخفى .
وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد ، وموضع الاتباع ليس محل اجتهاد .
فجعل شروط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والاتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط ، كما ترى .
والتحقيق أن اتباع الوحي لا يشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه ، وأنه يصح علم حديث والعمل به ، وعلم آية والعمل بها .
ولا يتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد ، فيلزم المكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة ، ويعمل بكل ما علم من ذلك ، كما كان عليه أول هذه الأمة ، من القرون المشهود لها بالخير .
التنبيه الخامس
اعلم أنه لا يخفى علينا أن المقلدين التقليد الأعمى المذكور ، يقولون :
هذا الذي تدعوننا إليه وتأمروننا به من العمل بالكتاب والسنة ، وتقديمهما على آراء [ ص: 354 ] الرجال من التكليف بما لا يطاق ; لأنا لا قدرة لنا على معرفة الكتاب والسنة حتى نعمل بهما .
ولا يمكننا معرفة شيء من الشرع إلا عن طريق الإمام الذي نقلده ; لأنا لم نتعلم نحن ولا آباؤنا شيئا غير ذلك .
فإذا لم نقلد إمامنا بقينا في حيرة لا نعلم شيئا من أحكام عباداتنا ولا معاملاتنا ، وتعطلت بيننا الأحكام إذ لا نعرف قضاء ولا فتوى ولا غير ذلك من الأحكام إلا عن طريق مذهب إمامنا ; لأن أحكامه مدونة عندنا وهي التي نتعلمها ونتدارسها دون غيرها من الكتاب أو السنة وأقوال الصحابة ومذاهب الأئمة الآخرين .
ونحن نقول : والله لقد ضيقتم واسعا . وادعيتم العجز ، وعدم القدرة في أمر سهل ، ولا شك أن الأحوال الراهنة للمقلدين التقليد الأعمى للمذاهب المدونة تقتضي صعوبة شديدة جدا في طريق التحول من التقليد الأعمى إلى الاستضاءة بنور الوحي .
وذلك إنما نشأ من شدة التفريط في تعلم الكتاب والسنة والإعراض عنهما إعراضا كليا يتوارثه الأبناء عن الآباء ، والآباء عن الأجداد ، فالداء المستحكم من مئات السنين لا بد لعلاجه من زمن طويل .
ونحن لا نقول : إن الجاهل بالكتاب والسنة يعمل بهما باجتهاده ، بل نعوذ بالله من أن نقول ذلك .
ولكنا نقول : إن الكتاب والسنة يجب تعلمهما ، ولا يجوز الإعراض عنهما وأن كل ما علمه المكلف منهما علما صحيحا ناشئا عن تعلم صحيح وجب عليه العمل به ، فالبلية العظمى إنما نشأت من توارث الإعراض عنهما إعراضا كليا اكتفاء عنهما بغيرهما ، وهذا من أعظم المنكر وأشنع الباطل .
فالذي ندعو إليه هو المبادرة بالرجوع إليهما بتعلمهما أولا ثم العمل بهما والتوبة إلى الله من الإعراض عنهما .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (506)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 355 إلى صـ 362
ودعوى أن تعلمهما غير مقدور عليه ، لا يشك في بطلانها عاقل ، ونعيذ أنفسنا وإخواننا بالله أن يدعوا على أنفسهم أن على قلوبهم أكنة ، وفي آذانهم وقرا يمنعهم من فهم كتاب الله ; لأن ذلك قول الكفار لا قول المسلمين ، قال الله تعالى : [ ص: 355 ] حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون [ 41 \ 1 - 5 ] .
فاحذر يا أخي وارحم نفسك أن تقول مثل قول هؤلاء الكفرة وكنت تسمع ربك يقول : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 17 ] ، ويقول : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ 44 \ 58 ] .
ويقول كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] .
فلا تخرج نفسك من عموم أولي الألباب الذين هم أصحاب العقول ; لأنك إن فعلت ذلك اعترفت على نفسك أنك لست من جملة العقلاء .
وعلى كل حال فلا يخلو المقلدون التقليد الأعمى ، من أحد أمرين :
أحدهما : ألا يلتفتوا إلى نصح ناصح ، بل يستمرون على تقليدهم الأعمى ، والإعراض عن نور الوحي عمدا ، وتقديم رأي الرجال عليه .
وهذا القسم منهم لا نعلم له عذرا في كتاب الله ولا سنة رسوله ، ولا في قول أحد من الصحابة ، ولا أحد من القرون المشهود لهم بالخير ; لأن حقيقة ما هم عليه هو الإعراض عما أنزل الله عمدا مع سهولة تعلم القدر المحتاج إليه منه ، والاستغناء عنه بأقوال الأئمة .
ومن كان هذا شأنه وهو تام العقل والفهم قادر على التعلم فعدم عذره كما ترى .
الأمر الثاني : هو أن يندم المقلدون على ما كانوا عليه من التفريط في تعلم الوحي ، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
ويبادروا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ويشرعوا في ذلك بجد . تائبين مما كانوا عليه من التفريط قبل ذلك ، وهذا القسم على هدى من الله ، وهو الذي ندعو إخواننا إليه .
التنبيه السادس
لا خلاف بين أهل العلم في أن الضرورة لها أحوال خاصة تستوجب أحكاما غير [ ص: 356 ] أحكام الاختيار .
فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاء صحيحا حقيقيا ، فهو في سعة من أمره فيه .
وقد استثنى الله - جل وعلا - حالة الاضطرار في خمس آيات من كتابه ، ذكر فيها المحرمات الأربع التي هي من أغلظ المحرمات تحريما وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، فإن الله تعالى كلما ذكر تحريمها استثنى منها حالة الضرورة ، فأخرجها من حكم التحريم .
قال تعالى في سورة الأنعام : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم [ 6 \ 145 ] .
وقال في الأنعام أيضا : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ 6 \ 119 ] .
وقال تعالى في النحل : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم [ 16 \ 115 ] .
وقال تعالى في البقرة : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم [ 2 \ 173 ] .
وقال تعالى في المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به إلى قوله : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ 5 \ 3 ] .
وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطرارا حقيقيا ، بحيث يكون لا قدرة له البتة ، على غيره مع عدم التفريط لكونه لا قدرة له أصلا على الفهم ، أو له قدرة على الفهم وقد عاقته عوائق قاهرة عن التعلم .
أو هو في أثناء التعلم ولكنه يتعلم تدريجا لأنه لا يقدر على تعلم كل ما يحتاجه في وقت واحد .
[ ص: 357 ] أو لم يجد كفئا يتعلم منه ونحو ذلك فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة ; لأنه لا مندوحة له عنه .
أما القادر على التعلم المفرط فيه ، والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي ، فهذا الذي ليس بمعذور .
التنبيه السابع
اعلم أن موقفنا من الأئمة رحمهم الله من الأربعة وغيرهم هو موقف سائر المسلمين المنصفين منهم .
وهو موالاتهم ، ومحبتهم ، وتعظيمهم ، وإجلالهم ، والثناء عليهم ، بما هم عليه من العلم والتقوى ، واتباعهم في العمل بالكتاب والسنة وتقديمهما على رأيهم ، وتعلم أقوالهم للاستعانة بها على الحق ، وترك ما خالف الكتاب والسنة منها .
وأما المسائل التي لا نص فيها فالصواب النظر في اجتهادهم فيها ، وقد يكون اتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا ; لأنهم أكثر علما وتقوى منا .
ولكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضا الله وأحوطها وأبعدها من الاشتباه ، كما قال - صلى الله عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .
وقال : " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " .
وحقيقة القول الفصل في الأئمة - رحمهم الله - أنهم من خيار علماء المسلمين ، وأنهم ليسوا معصومين من الخطأ ، فكل ما أصابوا فيه فلهم فيه أجر الاجتهاد وأجر الإصابة ، وما أخطئوا فيه فهم مأجورون فيه باجتهادهم معذورون في خطئهم فهم مأجورون على كل حال ، لا يلحقهم ذم ولا عيب ولا نقص في ذلك .
ولكن كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حاكمان عليهم وعلى أقوالهم كما لا يخفى .
فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم فلا تك ممن يذمهم وينتقصهم ولا ممن يعتقد أقوالهم مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله أو مقدمة عليهما .
[ ص: 358 ] التنبيه الثامن
اعلم أن كلا من الأئمة أخذت عليه مسائل . قال بعض العلماء : إنه خالف فيها السنة ، وسنذكر طرفا من ذلك هنا إن شاء الله .
أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فهو أكثر الأئمة في ذلك ; لأنه أكثرهم رأيا .
ولكثرة المسائل التي حصل فيها القيل والقال من ذلك لا نحتاج إلى بسط تفصيلها .
وبعض المسائل التي قيل فيها ذلك يظهر أنه لم تبلغه السنة فيها ، وبعضها قد بلغته السنة فيها ، ولكنه تركها لشيء آخر ظنه أرجح منها ، كتركه العمل لحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأموال .
وحديث تغريب الزاني البكر ; لأنه ترك العمل بذلك ونحوه احتراما للنصوص القرآنية في ظنه ; لأنه يعتقد أن الزيادة على النص نسخ وأن القضاء بالشاهد واليمين نسخ ; لقوله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] .
فاحترم النص القرآني المتواتر ، فلم يرض نسخه بخبر آحاد سنده دون سنده ; لأن نسخ المتواتر بالآحاد عنده رفع للأقوى بالأضعف ، وذلك لا يصح .
وكذلك حديث تغريب الزاني البكر فهو عنده زيادة ناسخة لقوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، والمتواتر لا ينسخ بالآحاد .
فتركه العمل بهذا النوع من الأحاديث بناه على مقدمتين :
إحداهما : أن الزيادة على النص نسخ .
والثانية : أن المتواتر لا ينسخ بالآحاد .
وخالفه في المقدمة الأولى جمهور العلماء ، ووافقوه في الثانية .
والذي يظهر لنا ونعتقده اعتقادا جازما أن كلتا المقدمتين ليست بصحيحة .
أما الزيادة فيجب فيها التفصيل ، فإن كانت أثبتت حكما نفاه النص أو نفت حكما أثبته النص فهي نسخ .
[ ص: 359 ] وإن كانت لم تتعرض للنص بنفي ولا إثبات بل زادت شيئا سكت عنه النص فلا يمكن أن تكون نسخا لأنها إنما رفعت الإباحة العقلية التي هي البراءة الأصلية ، ورفعها ليس نسخا إجماعا .
وأما نسخ المتواتر بالآحاد ، فالتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا مانع منه ولا محذور فيه ، ولا وجه لمنعه البتة ، وإن خالف في ذلك جمهور أهل الأصول ; لأن أخبار الآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عن المتواتر لا وجه لردها ، ولا تعارض البتة بينها وبين المتواتر إذ لا تناقض بين خبرين اختلف زمنهما ، لجواز صدق كل منهما في وقته .
فلو أخبرك مثلا عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب ، بأن أخاك الغائب لم يزل غائبا ولم يأت منزله ; لأنهم كانوا بمنزله وليس بموجود ، ثم أخبرك بعد ذلك رجل واحد بأن أخاك موجود في منزله الآن ، فهل يسوغ لك أن تقول له كذبت ، لأني أخبرني عدد كثير قبلك أنه لم يأت ؟
ولو قلت له ذلك لقال لك هم في وقت إخبارهم لك صادقون ، ولكن أخاك جاء بعد ذلك .
فالمتواتر في وقت نزوله صادق ، وخبر الآحاد الوارد بعده صادق أيضا ; لأنه أفاد تجدد شيء لم يكن ، فحصر المحرمات مثلا في الأربع المذكورة في قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية [ 6 \ 145 ] صادق في ذلك الوقت ، لا يوجد محرم على طاعم يطعمه إلا تلك المحرمات الأربع .
فلا تحرم في ذلك الوقت الحمر الأهلية ، ولا ذو الناب من السباع ، ولا الخمر ، ولا غير ذلك .
فإذا جاء بعد خبر آحاد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية بخيبر ، فهل يسوغ لقائل أن يقول :
هذا الخبر الصحيح مردود لأنه يعارض حصر المحرمات في الأربع المذكورة في آية : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما [ 6 \ 145 ] ؟
ولو قال ذلك لقيل له : هذا الخبر الصحيح لا تناقضه الآية ، لأنه إنما أفاد حكما [ ص: 360 ] جديدا طارئا لم يكن مشروعا من قبل ، وأحكام الشريعة تتجدد شيئا فشيئا ، والآية لم تدل على استمرار الحصر المذكور فيها .
فتبين أن زيادة حكم طارئ لا تناقض بينها وبين ما كان قبلها .
وإيضاح هذا أن نسخ المتواتر بالآحاد إنما رفع استمرار حكم المتواتر ودلالة المتواتر على استمرار حكمه ليست قطعية حتى يمنع نسخها بأخبار الآحاد الصحيحة .
وقد قدمنا إيضاح هذا في سورة الأنعام ، وقصدنا مطلق المثال لما يقال : إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله خالف فيه السنة برأيه .
وغرضنا أن نبين أنه رحمه الله لم يخالف شيئا من ذلك ، إلا لشيء اعتقده مسوغا لذلك ، وأنه لا يترك السنة إلا لشيء يراه مستوجبا لذلك شرعا .
ومما يبين ذلك أنه كان يقدم ضعيف الحديث على الرأي .
قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين ما نصه : وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي .
وعلى ذلك بنى مذهبه كما قدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي .
وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس .
ومنع قطع يد السارق لسرقة أقل من عشرة دراهم ، والحديث فيه ضعيف .
وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف .
وشرط في إقامة الجمعة المصر ، والحديث فيه كذلك .
وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيها غير مرفوعة .
فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة قوله ، وقول الإمام أحمد : وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعف في اصطلاح المتأخرين ; بل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفا . انتهى محل الغرض منه .
ومن أمثلة ما ذكر أن أبا حنيفة رحمه الله خالف فيها السنة لزوم الطمأنينة في الصلاة ، وتعين تكبيرة الإحرام في الدخول فيها ، والسلام للخروج منها ، [ ص: 361 ] وقراءة الفاتحة فيها ، والنية في الوضوء ، والغسل ، إلى غير ذلك من مسائل كثيرة .
ولا يتسع المقام هنا لذكر ما استدل به أبو حنيفة لذلك ومناقشة الأدلة .
بل المقصود بيان أن الأئمة لا يخلو أحد منهم من أن يؤخذ عليه شيء خالف فيه سنة وأنهم لم يخالفوها إلا لشيء سوغ لهم ذلك .
وعند المناقشة الدقيقة قد يظهر أن الحق قد يكون معهم وقد يكون الأمر بخلاف ذلك .
وعلى كل حال فهم مأجورون ومعذورون كما تقدم إيضاحه .
وقد أخذ بعض العلماء على مالك رحمه الله أشياء قال : إنه خالف فيها السنة قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه : وقد ذكر يحيى بن سلام قال : سمعت عبد الله بن غانم في مجلس إبراهيم بن الأغلب يحدث عن الليث بن سعد أنه قال : أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة ، كلها مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما قال مالك فيها برأيه ، قال : ولقد كتبت إليه في ذلك . انتهى محل الغرض منه .
ومعلوم أن مثل كلام الليث هذا عن مالك لا أثر له ، لأنه لم يعين المسائل المذكورة ولا أدلتها .
فيجوز أن يكون الصواب فيها مع مالك لأدلة خفيت على الليث ، فليس خفاؤها على مالك بأولى من خفائها على الليث .
ولا شك أن مذهب مالك المدون فيه فروع تخالف بعض نصوص الوحي . والظاهر أن بعضها لم يبلغه رحمه الله ولو بلغه لعمل به .
وأن بعضها بلغه وترك العمل به لشيء آخر يعتقده دليلا أقوى منه .
ومن أمثلة ما لم يبلغه النص فيه - صيام ست من شوال بعد صوم رمضان .
قال رحمه الله في الموطأ ما نصه : إني لم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف .
وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته ، [ ص: 362 ] وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء ، ولو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ، ورأوهم يعلمون ذلك . انتهى منه بلفظه .
وفيه تصريح مالك رحمه الله بأنه لم يبلغه صيام ست من شوال عن أحد من السلف ، وهو صريح في أنه لم يبلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم .
ولا شك أنه لو بلغه الترغيب فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان يصومها ويأمر بصومها ، فضلا عن أن يقول بكراهتها .
وهو لا يشك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرأف وأرحم بالأمة منه ; لأن الله وصفه - صلى الله عليه وسلم - في القرآن بأنه رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] .
فلو كان صوم السنة يلزمه المحذور الذي كرهها مالك من أجله لما رغب فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولراعى المحذور الذي راعاه مالك .
ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ألغى المحذور المذكور وأهدره ، لعلمه بأن شهر رمضان أشهر من أن يلتبس بشيء من شوال .
كما أن النوافل المرغب فيها قبل الصلوات المكتوبة وبعدها لم يكرهها أحد من أهل العلم خشية أن يلحقها الجهلة بالمكتوبات لشهرة المكتوبات الخمس وعدم التباسها بغيرها .
وعلى كل حال ، فإنه ليس لإمام من الأئمة أن يقول هذا الأمر الذي شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكروه لخشية أن يظنه الجهال من جنس الواجب .
وصيام الستة المذكورة ، وترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ثابت عنه .
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن أيوب ، وقتيبة بن سعيد ، وعلي بن حجر جميعا عن إسماعيل ، قال ابن أيوب : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ; أنه حدثه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر " انتهى منه بلفظه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (507)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 363 إلى صـ 370
وفيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالترغيب في صوم الستة المذكورة فالقول بكراهتها من [ ص: 363 ] غير مستند من أدلة الوحي خشية إلحاق الجهال لها برمضان ، لا يليق بجلالة مالك وعلمه وورعه ، لكن الحديث لم يبلغه كما هو صريح كلامه نفسه رحمه الله في قوله : لم يبلغني ذلك عن أحد من السلف ، ولو بلغه الحديث لعمل به ; لأنه رحمه الله من أكثر الناس اتباعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحرصهم على العمل بسنته .
والحديث المذكور رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي ، وصوم السنة المذكور رواه أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه ، منهم ثوبان ، وجابر ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، والبراء بن عازب كما بينه صاحب نيل الأوطار .
وعلى كل حال فالحديث صحيح ويكفي في ذلك إسناد مسلم المذكور ، ولا عبرة بكلام من تكلم في سعد بن سعيد لتوثيق بعض أهل العلم له واعتماد مسلم عليه في صحيحه .
ومن أمثلة ما لم تبلغ مالكا رحمه الله فيه السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إفراد صوم يوم الجمعة ، فقد قال رحمه الله في الموطأ ما نصه : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ، ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة ، وصيامه حسن ، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه ، وأراه كان يتحراه . انتهى منه بلفظه .
وفيه تصريحه رحمه الله بأنه لم يسمع أحدا من أهل العلم ينهى عن صوم الجمعة .
وأن ذلك حسن عنده ، وأنه رأى بعض أهل العلم يتحرى يوم الجمعة ليصومه .
وهذا تصريح منه رحمه الله بأنه لم يبلغه نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة وحده ، وأمره من صامه أن يصوم معه يوما غيره وإلا أفطر إن ابتدأ صيامه ناويا إفراده .
ولو بلغته السنة في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمل بها وترك العمل بغيرها ; لأن النهي عن صوم يوم الجمعة وحده ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة ، عن محمد بن عباد ، قال : سألت جابرا رضي الله عنه : أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الجمعة ؟ قال : نعم . زاد غير أبي عاصم : يعني أن ينفرد بصومه .
حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح عن [ ص: 364 ] أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده " .
حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى عن شعبة ، ح وحدثني محمد ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة ، فقال : أصمت أمس ؟ قالت : لا ، قال : تريدين أن تصومي غدا ؟ قالت : لا . قال : فأفطري " .
وقال حماد بن الجعد سمع قتادة حدثني أبو أيوب : أن جويرية حدثته فأمرها ، فأفطرت ، انتهى من صحيح البخاري بلفظه .
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا عمرو الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الحميد بن جبير عن محمد بن عباد بن جعفر " سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم الجمعة ؟ فقال : نعم ، ورب هذا البيت " .
وقال مسلم أيضا : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص وأبو معاوية عن الأعمش ، ح وحدثنا يحيى بن يحيى واللفظ له أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده " .
وفي لفظ في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " هذا لفظ مسلم في صحيحه .
ولا شك أن هذه الأحاديث لو بلغت مالكا ما خالفها ، فهو معذور في كونها لم تبلغه .
وقال النووي في شرح مسلم : وأما قول مالك في الموطأ : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن به يقتدى نهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن ، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه .
فهذا الذي قاله هو الذي رآه ، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو ، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره .
[ ص: 365 ] وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة ، فيتعين القول به ، ومالك معذور ، فإنه لم يبلغه .
قال الداودي من أصحاب مالك : لم يبلغ مالكا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه . انتهى منه .
وهذا هو الحق الذي لا شك فيه ; لأن مالكا من أورع العلماء وأكثر الناس اتباعا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يدعها وهو عالم بها .
وقوله في هذا الحديث : " إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " أي كأن ينذر أحد صوم اليوم الذي يشفي الله فيه مريضه ، فوافق ذلك يوم الجمعة ; لأن صومه له لأجل النذر ، الذي لم يقصد بأصله تعيين يوم الجمعة .
وإنما النهي فيمن قصد بصومه نفس يوم الجمعة دون غيره .
والغرض عندنا إنما هو المثال لبعض الأحكام التي لم تبلغ مالكا فيها السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو بلغته لعمل بها .
ومعلوم أن هنالك بعضا من النصوص ترك مالك العمل به مع أنه بلغه ; لأنه يعتقد أن ما ترك النص من أجله أرجح من النص .
وهذا يحتاج فيه إلى مناقشات دقيقة بين الأدلة ، فقد يكون الحق في ذلك مع هذا الإمام تارة ومع غيره أخرى .
فقد ترك مالك العمل بحديث خيار المجلس مع أنه حديث متفق عليه ، وقد بلغ مالكا .
وقد حلف عبد الحميد الصائغ من المالكية بالمشي إلى مكة على أنه لا يفتي بثلاث . قالها مالك .
ومراده بالثلاث المذكورة - عدم القول بخيار المجلس هذا مع صحة الحديث فيه .
وجنسية القمح والشعير مع صحة الأحاديث الدالة على أنهما جنسان .
والتدمية البيضاء ، ولا شك أن مالكا بلغه حديث خيار المجلس هذا .
[ ص: 366 ] فقد روى في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار " .
قال مالك : وليس لهذا عندنا حد معروف ، ولا أمر معمول به فيه . انتهى منه بلفظه .
مع أن مالكا لم يعمل بهذا الحديث الصحيح : وأشار في الموطأ إلى بعض الأسباب التي منعته من العمل به في قوله : وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه ، لأن خيار المجلس لم يحدد بحد معروف .
فصار القول به مانعا من انعقاد البيع إلى حد غير معروف .
وقد يكون المتعاقدان في سفينة في البحر لا يمكنهم التفرق بالأبدان ، وقد يكونان مسجونين في محل لا يمكنهما التفرق فيه .
وقد حمل مالك التفرق المذكور في الحديث على التفرق في الكلام ، وصيغة العقد ، قال : وقد أطلق التفرق على التفرق في الكلام دون الأبدان في قوله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته [ 4 \ 130 ] ، فالتفرق في الآية إنما هو بالتكلم بصيغة الطلاق لا بالأبدان .
وقوله تعالى : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة [ 98 \ 4 ] ، فالتفرق في الآية تفرق بالكلام والاعتقاد ، فلا يشترط أن يكون بالأبدان .
وحجج من احتج لمالك في عدم أخذه بحديث خيار المجلس هذا كثيرة معروفة .
منها ما هو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم [ 2 \ 282 ] ، وقوله : أوفوا بالعقود [ 5 \ 1 ] ، وقوله : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] .
ومنها ما هو بغير ذلك ، وليس غرضنا هنا بسط الحجج ومناقشتها ، وإنما غرضنا المثال ; لأن الإمام قد يترك نصا بلغه لاعتقاد أن ما ترك من أجله النص أرجح من نفس النص ، وأنه يجب على المسلم مراعاة المخرج والنجاة لنفسه فينظر في الأدلة ، ويعمل بأقواها وأقربها إلى رضا الله .
كما حلف عبد الحميد الصائغ بالمشي إلى مكة ، لا يفتي بقول مالك في هذا .
[ ص: 367 ] مع أنه عالم مالكي ، لأنه رأى الأدلة واضحة وضوحا لا لبس فيه في أن المراد بالتفرق التفرق بالأبدان .
وقد صرح بذلك جماعة من الصحابة منهم ابن عمر راوي الحديث ، ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة .
ولا شك أن المنصف إذا تأمل تأملا صادقا خاليا من التعصب عرف أن الحق هو ثبوت خيار المجلس ، وأن المراد بالتفرق التفرق في الأبدان لا بالكلام ; لأن معنى التفرق بالكلام هو حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري .
وكل عاقل يعلم أن الخيار حاصل لكل من البائع والمشتري ضرورة قبل حصول الإيجاب والقبول ، فحمل كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا حمل له على تحصيل حاصل ، وهو كما ترى .
مع أن حمل الكلام على هذا المعنى يستلزم أن المراد بالمتبايعين في الحديث المتساومان ; لأنه لا يصدق عليهما اسم المتبايعين حقيقة إلا بعد حصول الإيجاب والقبول .
وحمل المتبايعين في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المتساومين اللذين لم ينعقد بينهما بيع خلاف الظاهر أيضا كما ترى .
وأما كون القمح والشعير جنسا واحدا ، فقد استدل له مالك ببعض الآثار التي ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم .
قال في الموطأ : إنه بلغه أن سليمان بن يسار قال : فني علف حمار سعد بن أبي وقاص فقال لغلامه : خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيرا ، ولا تأخذ إلا مثله . انتهى منه بلفظه .
وفي الموطأ أيضا عن نافع عن سليمان بن يسار أنه أخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فني علف دابته ، فقال لغلامه : خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيرا ولا تأخذ إلا مثله . انتهى منه بلفظه .
وفي الموطأ أيضا : أن مالكا بلغه عن القاسم بن محمد عن ابن معيقيب الدوسي مثل [ ص: 368 ] ذلك . قال مالك : وهو الأمر عندنا . انتهى منه بلفظه .
فهذه الآثار هي عمدة مالك رحمه الله في كون القمح والشعير جنسا واحدا ، وعضد ذلك بتقارب منفعتهما .
والتحقيق الذي لا شك فيه أن القمح والشعير جنسان ، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تصح معارضتها البتة بمثل هذه الآثار المروية عمن ذكر .
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه " انتهى منه بلفظه .
وهو صريح بأن القمح والشعير جنسان مختلفان ، كاختلافهما مع التمر والملح ، وأن التفاضل جائز مع اختلاف الجنس إن كان يدا بيد ، وروى مسلم في صحيحه والإمام أحمد عن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد " انتهى منه بلفظه .
وللنسائي وابن ماجه وأبي داود نحوه ، وفي آخره : وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا .
قال المجد في المنتقى لما ساق هذا الحديث - ما نصه : وهو صريح في كون البر والشعير جنسين ، وما قاله صحيح كما ترى .
والأحاديث بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا طرفا منها في سورة البقرة ، والمقصود هنا بيان صراحة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن القمح والشعير جنسان لا جنس واحد ، وأنهما لا يجوز ترك العمل بها مع صحتها ووضوحها ، ولا أن يقدم عليها أثر موقوف على سعد بن أبي وقاص ولا أثر موقوف على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، ولا أثر موقوف على ابن معيقيب .
واعلم أنه لا يصح الاستدلال لكون القمح والشعير جنسا واحدا بحديث معمر بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم وغيره ، قال : كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الطعام بالطعام مثلا بمثل " الحديث ، وذلك لأمرين : [ ص: 369 ] أحدهما أن معمرا المذكور قال في آخر الحديث : وكان طعامهم يومئذ الشعير ، فقد عين أن عرفهم المقارن للخطاب يخصص الطعام المذكور بالشعير .
والمقرر في أصول مالك : أن العرف المقارن للخطاب من المخصصات المنفصلة التي يخصص بها العام قال في مراقي السعود في ذلك :
والعرف حيث قارن الخطابا ودع ضمير البعض والأسبابا
الأمر الثاني : إن الاستدلال بالحديث المذكور على فرض اعتبار عمومه ، وعدم تخصيصه بالعرف المذكور ، يقتضي أن الطعام كله جنس واحد فيدخل التمر والملح لصدق الطعام عليهما ، وهذا لا قائل به كما ترى .
فالظاهر أن الإمام مالكا رحمه الله ومن وافقه من أهل العلم ، لم تبلغهم هذه الأحاديث الصحيحة المصرحة ، بأن القمح والشعير والتمر والملح أجناس .
وأن القمح يباع بالشعير كيف شاء المتبايعان إن كان يدا بيد .
وأما التدمية البيضاء فقول مالك فيها يظهر لنا قوته واتجاهه ، وإن خالف في ذلك بعض أصحابه وأكثر أهل العلم .
وقد بين وجه قول مالك فيها ابن عبد البر وابن العربي وغيرهما .
والمسائل التي قال بعض أهل العلم إن مالكا خالف فيها السنة المعروفة منها ما ذكرنا .
ومنها مسألة سجود الشكر وسجدات التلاوة في المفصل ، وعدم الجهر بآمين ، وعدم رفع اليدين عند الركوع والرفع منه ، وعدم قول الإمام : ربنا ولك الحمد ، وعدم ضفر رأس المرأة الميتة ثلاث ضفائر ، وترك السجدة الثانية في الحج ، وغير ذلك من المسائل .
وقد قدمنا أن بعض ما ترك مالك من النصوص قد بلغته فيه السنة ولكنه رأى غيرها أرجح منها ، وأن بعضها لم يبلغه ، وأن الحق قد يكون معه في بعض المسائل التي أخذت عليه ، وقد يكون مع غيره ، كما قال مالك نفسه رحمه الله : كل كلام فيه مقبول ومردود ، إلا كلام صاحب هذا القبر .
وهو تارة يقدم دليل القرآن المطلق أو العام على السنة التي هي أخبار آحاد ; لأن [ ص: 370 ] القرآن أقوى سندا وإن كانت السنة أظهر دلالة ، ولأجل هذا لم يبح ميتة الجراد بدون ذكاة ; لأنه يقدم عموم حرمت عليكم الميتة [ 5 \ 3 ] . على حديث : " أحلت لنا ميتتان ودمان " الحديث ، وقدم عموم قوله تعالى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية [ 7 \ 55 ] ، على الأحاديث الواردة بالجهر بآمين لأن التأمين دعاء ، والدعاء مأمور بإخفائه في الآية المذكورة .
فالآية أقوى سندا وأحاديث الجهر بالتأمين أظهر دلالة في محل النزاع . ومن المعلوم أن أكثر أهل العلم يقدمون السنة في نحو هذا .
وقد قدم مالك رحمه الله دليل القرآن فيما ذكرنا كما قدمه أيضا في الثانية من سجدتي الحج لأن نص الآية الكريمة فيها كالصريح في أن المراد سجود الصلاة ، لأن الله يقول فيها : ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم [ 22 \ 77 ] ، فذكر الركوع مع السجود يدل على أن المراد سجود الصلاة .
والأمر بالصلاة في القرآن لا يستلزم سجود التلاوة كقوله : فصل لربك وانحر [ 108 \ 2 ] .
ولذلك لا يسجد عند قوله تعالى في آخر الحجر : فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين [ 15 \ 98 ] .
قالوا : لأن معنى قوله : فسبح بحمد ربك أي : صل لربك متلبسا بحمده ، وكن من الساجدين في صلاتك .
ولا شك أن قوله تعالى في ثانية الحج : ياأيها الذين آمنوا اركعوا الآية [ 22 \ 77 ] أصرح في إرادة سجود الصلاة من قوله تعالى : فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (508)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 371 إلى صـ 378
ثم بعد هذا كله فإننا نكرر أن الأئمة رحمهم الله لا يلحقهم نقص ولا عيب فيما أخذ عليهم ; لأنهم رحمهم الله بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم اجتهدوا بحسب طاقتهم ، فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته ، والمخطئ منهم مأجور في اجتهاده معذور في خطئه ، ولا يسعنا هنا مناقشة الأدلة فيما أخذ عليهم رحمهم الله ، وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة [ ص: 371 ] رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجب تقديمهما على أقوالهم ، لأنهم غير معصومين من الخطأ ، وأن مذاهبهم المدونة لا يصح ولا يجوز الاستغناء بها عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن على كل مسلم قادر على التعليم أن يتعلم الكتاب والسنة ، ومعرفة مذاهب الأئمة تعينه على ذلك ، والنظر فيما استدل به كل منهم يعينه على معرفة أرجح الأقوال وأقربها إلى رضا الله .
وكذلك الشافعي وأحمد رحمهما الله ، فإن كل واحد منهما لا يخلو من شيء قد أخذ عليه ، ومرادنا هنا التمثيل لذلك ، وأن الوحي مقدم على أقوالهم جميعا ، وليس قصدنا الإكثار من ذلك .
وهذه أمثلة بالمطلوب وكان الشيخ رحمه الله أرجأ إيرادها فنذكرها على ما هو ظاهر من المذهبين ونرجو أن تكون موافقة لما أراد . وبالله التوفيق .
فمما هو في مذهب أحمد رحمه الله صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين من الشعبان حينما يشك فيه هل هو تمام شعبان أو أول رمضان . وذلك حينما تكون السماء مغيمة خشية أن يظهر الهلال خلف الغيم أو القتر .
ولا يكون يوم شك إذا كانت السماء صحوا لأنه إذا رئي الهلال فهو من رمضان وإلا فهو من شعبان .
فمذهب أحمد هو صوم هذا اليوم المشكوك فيه احتياطا لرمضان ، وهو نص المعنى إلا أنه ذكر عن أحمد روايات أخر . ولكن صومه هو المقدم في المذهب . ولكنه مخالف لصريح النص في قوله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك : " من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم " - صلى الله عليه وسلم .
قال في بلوغ المرام : ذكره البخاري تعليقا ووصله ، قال في سبل السلام : واعلم أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلة بغيم ساتر ، أو نحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان ، والحديث وما في معناه يدل على تحريم صومه . ا هـ .
يعني بما في معناه قوله - صلى الله عليه وسلم : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين " . متفق عليه ، ولمسلم " فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين " وللبخاري : " فأكملوا العدة ثلاثين " .
وشبهة أحمد في قوله - صلى الله عليه وسلم : " فاقدروا له " بمعنى فضيقوا عليه كما في قوله [ ص: 372 ] تعالى : ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله [ 65 \ 7 ] ، ولكن هذا معارض للنص الصريح في معنى " فاقدروا له ثلاثين " وقوله : " فأكملوا العدة ثلاثين " أي سواء في شعبان أو في تمام رمضان عند الفطر ، ولم يقل بصومه من الأئمة إلا أحمد رحمه الله .
ومما هو عند الشافعي قوله بنقض الوضوء من مجرد لمس المرأة الأجنبية بدون حائل مع ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عائشة رضي الله عنها : " كنت أنام معترضة في القبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي فإذا سجد غمزني في رجلي فأقبضها فإذا قام مددتها " .
وقد أجابوا عن ذلك باحتمال سترها بحائل فجاء قولها " افتقدت رسول الله ذات ليلة فقمت أطلبه والحجرات ليس فيه آنذاك السرج حتى وقعت كفي على بطن قدمه وهو ساجد يقول : سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، فقلت : والله إنك لفي واد وأنا في واد " .
فلما قام للركعة الثانية ظنته ذهب عند بعض نسائه فاغتسل ثم جاء يصلي عندها فقامت وأدخلت يدها في شعر رأسه تتحسس هل اغتسل أم لا . إلخ .
ولهم أجوبة على كل ذلك ولكنها لا تنهض مع هذه النصوص الصريحة .
وشبهة الشافعي في ذلك في معنى : لامستم النساء من قوله تعالى : أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا [ 4 \ 43 ] ، ولم يقل بنقض الوضوء به من الأئمة إلا الشافعي رحمه الله .
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أنه لا يتأتى من أحد أئمة المسلمين أن يخالف نصا صريحا من كتاب أو سنة ، بدون أن تكون لديه شبهة معارضة بنص آخر ، أو عدم بلوغ النص إليه ، أو عدم صحته عنده أو غير ذلك مما هو معروف في هذا المقام .
وإنما أوردنا هذين المثالين تتمة للبحث ولمجرد المثال .
التنبيه التاسع
اعلم أن كل من يرى أنه لا بد له من تقليد الإمام في كل شيء بدعوى أنه لا يقدر على الاستدلال بكتاب ولا سنة ، ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولا أحد غير ذلك الإمام [ ص: 373 ] يجب عليه أن يتنبه تنبها تاما للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقا ، وبين ما ألحق بعده على قواعد مذهبه ، وما زاده المتأخرون وقتا بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه ، لتبرأ منها ، وأنكر على ملحقها ، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح .
ويزيده بطلانا نسبته إلى الله ورسوله ، بدعوى أنه شرع ذلك على لسان رسوله ، ونحو هذا كثير في المختصرات في المذاهب وكتب المتأخرين منهم .
ومن أمثلته في مذهب مالك قول خليل المالكي في مختصره الذي قال فيه مبينا لما به الفتوى : كأقل الطهر ، يعني أن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما .
والذين يعتقدون مذهب مالك يعتقدون أن مالكا يقول : بأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما ، وهذا لم يقله مالك أبدا ولم يفت به ولم يروه عنه أحد من أصحابه .
والذي كان يقوله مالك : أن أقل الطهر ثمانية أيام أو عشرة أيام ، وهو الذي نقله عنه أجلاء أهل مذهبه كأبي محمد بن أبي زيد في رسالته رحمه الله .
والقول بأن أقل الطهر خمسة عشر هو قول ابن مسلمة واعتمده صاحب التلقين ، وجعله ابن شاش المشهور ، أي مشهور مذهب مالك .
مع أن مالكا لم يقله ولم يعلم به ، وأمثال هذا كثيرة جدا في مذهب مالك وغيره .
ومثال استحسان المتأخرين ما لم يقله الإمام مما لا شك أنه لو بلغ الإمام لم يقبله قول الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره في الصوم : وعاشوراء وتاسوعاء - ما نصه : قال الشيخ زروق في شرح القرطبية : صيام المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صلح علمه وورعه .
قال : إنه من أعياد المسلمين فينبغي ألا يصام فيه ، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري يذكر ذلك كثيرا ويستحسنه . انتهى .
قلت : لعله يعني ابن عباد . فقد قال في رسائله الكبرى ما نصه : وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم ، وكل ما يفعل فيه مما [ ص: 374 ] يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب - أمر مباح لا ينكر على أحد قياسا على غيره من أوقات الفرح .
والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود ، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان ، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان - أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة وتدفعه الآراء المستقيمة .
ولقد كنت فيما خلا من الزمان خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر ، فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعاما مختلفا ليأكلوه هنالك .
فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل ، وكنت إذ ذاك صائما فقلت لهم : إني صائم ، فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة ، وقال لي ما معناه : إن هذا اليوم يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصيام بمنزلة العيد ، فتأملت كلامه فوجدته حقا ، وكأنني كنت نائما فأيقظني . انتهى بلفظه .
فهذا الكلام الذي يقتضي قبح صوم يوم المولد وجعله كيوم العيد من غير استناد إلى كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا قول أحد من أصحابه ولا من تابعيه .
ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ولا من فقهاء الأمصار المعروفين الذي أدخله بعض المتأخرين في مذهب مالك ، ومالك بريء منه براءة الشمس من اللمس ، ولم يجر على أصول مذهبه ، لأن علة تحريم صوم يوم العيد والفطر عنده أن الله تعالى يكلف عباده في كل سنة عبادتين عظيمتين والأمر بهما عام لكل من يستطيعهما ، وإحداهما تجب في العمر مرة واحدة وهي الحج . والثانية تجب كل سنة في شهر رمضان منها ، وهي الصوم ، فإذا انتهت عبادة الحج أو عبادة الصوم ألزم الله الناس كلهم أن يكونوا في ضيافته يوم النحر ويوم عيد الفطر .
فمن صام في أحد اليومين أعرض عن ضيافة الله ، والإعراض عن ضيافته تعالى لا يجوز .
[ ص: 375 ] فإلحاق يوم المولد بيوم العيد إلحاق لا أساس له ، لأنه إلحاق ليس بجامع بينهما ولا نفي فارق ، ولا إلحاق البتة إلا بجامع أو نفي فارق .
وكل من لم يطمس الله بصيرته يعلم أن الحق الذي لا شك فيه هو اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
ومعلوم أن جعل يوم المولد كيوم العيد في منع الصوم لم يقله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولا أحد من الأئمة الأربعة ، فهو تشريع لاستقباح قربة الصوم ومنعها في يوم المولد من غير استناد إلى وحي ولا قياس صحيح ، ولا قول أحد ممن يقتدى به .
ومما لا نزاع فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله رحمة للعالمين ، كما قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] ، ورسالته - صلى الله عليه وسلم - هي أعظم نعمة على الخلق ، كما بينه علماء التفسير في الكلام على قوله تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا [ 14 \ 28 ] ، والخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه ، والشر كل الشر في تشريع ما لم يشرعه ، والتقول عليه بما لم يقله .
فالمقلدون لمالك مثل هذا التقليد الأعمى يعتقدون أن هذا الكلام الذي ذكره الحطاب عن زروق وابن عباد وابن عاشر ، أنه هو مذهب مالك وأنه من شرع الله ودينه ، وأنه ما دام من مذهب مالك ، فاللازم تقديمه على الكتاب والسنة لأنهما لا يجوز العمل إلا للمجتهد المطلق .
وهذا مثال من بلايا التقليد الأعمى وعظائمه .
ولا يخفى أن ادعاء أن وجود نعم الله كمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على استقباح طاعة الله بالصوم في أوقات وجود تلك النعم - ظاهر الفساد ، لأن المناسب لنعم الله هو طاعته بأنواع الطاعات كالصوم .
ولذا تجد الناس ينذرون لله صوم اليوم الذي ينعم الله عليهم فيه بشفاء المريض أو إتيان الغائب ، وهذا أمر معروف وهو المعقول لا عكسه .
ومما يوضح هذا أن إنزال القرآن العظيم هو أعظم نعمة على البشر ; ولأجل ذلك علمهم الله حمده تعالى على هذه النعمة العظمى في أول سورة الكهف في قوله تعالى : [ ص: 376 ] الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [ 18 \ 1 ] .
وقد بين تعالى أنه أنزل هذه النعمة في شهر رمضان ، فكان نزول هذه النعمة في شهر رمضان مقتضيا لصومه لا لجعل أيامه أعيادا يستقبح صومها ، لأن الله تعالى قال : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان [ 2 \ 185 ] .
وهذا هو أعظم النعم ، وقد رتب على هذا بالفاء قوله بعده : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، فافهم .
والمقصود بهذا المثال النصيحة للذين لم يقدروا على غير هذا التقليد الأعمى ليبحثوا في كتب المذهب وأمهاته عن أقوال الإمام وكبار أصحابه ليفرقوا بينها وبين أنواع الاستحسان التي لا مستند لها ، التي يدخلها المتأخرون وقتا بعد وقت وهي ظاهرة الفساد عند من رزقه الله علما بكتاب الله وسنة رسوله .
ومما لا شك فيه أن أقوال مالك وكبراء أصحابه مثلا أحرى بالصواب في الجملة من استحسان ابن عباد وابن عاشر وأمثالهما .
التنبيه العاشر
اعلم أن الدعوى التي اتفق عليها متأخرو الأصوليين التي تتضمن حكمهم على خالق السماوات والأرض - جل وعلا - لا يجوز لمسلم يريد الحق والإنصاف أن يعتقدها ، ولا أن يصدقهم فيها لظهور عدم صحتها ومخالفتها للنص ، والحكم فيها على الله بلا مستند ، وهو - جل وعلا - الذي يحكم لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب .
وهذه الدعوى المذكورة هي المتركبة مما يأتي ، وهو أن الاجتهاد قد انقرض في الدنيا وانسد بابه ، وأن الله تعالى محكوم عليه بأن لا يخلق مجتهدا ولا يعلم أحدا من خلقه علما يمكن أن يكون به مجتهدا إلى ظهور المهدي المنتظر .
وأنه لا يجوز لأحد أن يعمل بكتاب ولا سنة ولا أن يقلد أحدا كائنا من كان غير الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المدونة ، كما نص على هذه الدعوى حاكيا إجماعهم عليها صاحب مراقي السعود في قوله :
والمجمع اليوم عليه الأربعه وقفو غيرها الجميع منعه [ ص: 377 ] حتى يجيء الفاطم المجدد
دين الهدى لأنه مجتهد
ومراده بالفاطمي المهدي المنتظر ; لأنه شريف .
وقوله : حتى يجيء ، حرف غاية ، والمغيا به منع تقليد أحد غير الأربعة المذكور في قوله : وقفو غيرها الجميع منعه .
وهذا صريح في أنهم حاكمون على الله القدير العليم ، بأنه لا يخلق مجتهدا قبل وجود المهدي المنتظر ، وهذا الذي قاله صاحب مراقي السعود هو المقرر في كتب المتأخرين من الأصوليين من أهل المذاهب المدونة .
وهذا الحكم على الله الذي كل يوم هو في شأن بأنه لا يخلق مجتهدا قبل المهدي من مدة انقراض الاجتهاد المزعوم هو يا أخي كما ترى .
ولا شك أنك إن لم يعمك التعصب المذهبي تقطع أنه لا مستند له ، وهذا الذي ذكره صاحب مراقي السعود قد صرح بما يناقضه في قوله قبله :
والأرض لا عن قائم مجتهد تخلو إلى تزلزل القواعد
وهذا النقيض الأخير هو الصحيح الموافق للحق ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله " الحديث . وهو حديث مشهور متفق عليه لا نزاع في صحته .
ولا شك في أن هذه الطائفة التي صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها لا تزال ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله أنها طائفة على كتاب الله ، وسنة رسوله ، وليست البتة من المقلدين التقليد الأعمى .
لأن الحق هو ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة كما قال تعالى في سورة النساء : ياأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم [ 4 \ 170 ] ، وقال في الأنعام : وكذب به قومك وهو الحق [ 6 \ 66 ] ، وقال في النمل : فتوكل على الله إنك على الحق المبين [ 27 \ 79 ] ، وقال في يونس : ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم [ 10 \ 108 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
فدعوى أن الأرض لم يبق فيها مجتهد البتة ، وأن ذلك مستمر إلى ظهور المهدي [ ص: 378 ] المنتظر مناقضة لهذا الحديث الثابت ثبوتا لا مطعن فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم .
ومما لا نزاع فيه أن كل ما يناقض الحق فهو ضلال ، لأن الله - جل وعلا - يقول : فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون [ 10 \ 32 ] ، والعلم عند الله تعالى .
التنبيه الحادي عشر
اعلم يا أخي أن هذا الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، واعتقاد الاستغناء عنهما بالمذاهب المدونة الذي عم جل من في المعمورة من المسلمين من أعظم المآسي والمصائب ، والدواهي التي دهت المسلمين من مدة قرون عديدة .
ولا شك أن النتائج الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن الكتاب والسنة من جملتها ما عليه المسلمون في واقعهم الآن من تحكيم القوانين الوضعية المنافي لأصل الإسلام ; لأن الكفار إنما احتاجوهم بفصلهم عن دينهم بالغزو الفكري عن طرق الثقافة وإدخال الشبه والشكوك في دين الإسلام .
ولو كان المسلمون يتعلمون كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويعملون بما فيهما لكان ذلك حصنا منيعا لهم من تأثير الغزو الفكري في عقائدهم ودينهم .
ولكن لما تركوا الوحي ونبذوه وراء ظهورهم واستبدلوا به أقوال الرجال لم تقم لهم أقوال الرجال ومذاهب الأئمة رحمهم الله مقام كلام الله والاعتصام بالقرآن ، وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - والتحصن بسنته .
ولذلك وجد الغزو الفكري طريقا إلى قلوب الناشئة من المسلمين ، ولو كان سلاحهم المضاد القرآن والسنة لم يجد إليهم سبيلا .
ولا شك أن كل منصف يعلم أن كلام الناس ، ولو بلغوا ما بلغوا من العلم والفضل - لا يمكن أن يقوم مقام كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .
وبالجملة فمما لا شك فيه أن هذا الغزو الفكري الذي قضى على كيان المسلمين ، ووحدتهم وفصلهم عن دينهم ، لو صادفهم وهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله لرجع مدحورا في غاية الفشل لوضوح أدلة الكتاب والسنة ، وكون الغزو الفكري المذكور لم يستند إلا على الباطل والتمويه كما هو معلوم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (509)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 379 إلى صـ 386
[ ص: 379 ] قوله تعالى : إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم
الظاهر أن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، قوم كفروا بعد إيمانهم .
وقال بعض العلماء : هم اليهود الذين كانوا يؤمنون بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما بعث وتحققوا أنه هو النبي الموصوف في كتبهم كفروا به .
وعلى هذا القول فارتدادهم على أدبارهم هو كفرهم به بعد أن عرفوه وتيقنوه ، وعلى هذا فالهدى الذي تبين لهم هو صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - ومعرفته بالعلامات الموجودة في كتبهم .
وعلى هذا القول فهذه الآية يوضحها قوله تعالى في سورة البقرة : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين [ 2 \ 89 ] ; لأن قوله : فلما جاءهم ما عرفوا مبين معنى قوله : من بعد ما تبين لهم الهدى ، وقوله : كفروا وصدوكم مبين معنى قوله : ارتدوا على أدبارهم .
وقال بعض العلماء : نزلت الآية المذكورة في المنافقين .
وقد بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن سبب ارتداد هؤلاء القوم من بعد ما تبين لهم الهدى ، هو إغواء الشيطان لهم كما قال تعالى مشيرا إلى علة ذلك : الشيطان سول لهم أي زين لهم الكفر والارتداد عن الدين ، وأملى لهم أي مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر .
قال الزمخشري : سول سهل لهم ركوب العظائم من السول ، وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا ، وأملى لهم ومد لهم في الآمال والأماني . انتهى .
[ ص: 380 ] وإيضاح هذا أن هؤلاء المرتدين على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وقع لهم ذلك بسبب أن الشيطان سول لهم ذلك أي سهله لهم وزينه لهم وحسنه لهم ومناهم بطول الأعمار ; لأن طول الأمل من أعظم أسباب ارتكاب الكفر والمعاصي .
وفي هذا الحرف قراءتان سبعيتان : قرأه عامة السبعة غير أبي عمرو وأملى لهم بفتح الهمزة واللام بعدها ألف وهو فعل ماض مبني للفاعل ، وفاعله ضمير يعود إلى الشيطان .
وأصل الإملاء الإمهال والمد في الأجل ، ومنه قوله تعالى : وأملي لهم إن كيدي متين [ 7 \ 183 ] ، وقوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما [ 3 \ 178 ] .
ومعنى إملاء الشيطان لهم وعده إياهم بطول الأعمار ، كما قال تعالى : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] .
وقال تعالى : واستفزز من استطعت منهم بصوتك إلى قوله : وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 17 \ 64 ] .
وقال بعض العلماء : ضمير الفاعل في قوله : وأملى لهم على قراءة الجمهور راجع إلى الله تعالى .
والمعنى : الشيطان سول لهم أي سهل لهم الكفر والمعاصي ، وزين ذلك وحسنه لهم ، والله - جل وعلا - أملى لهم : أي أمهلهم إمهال استدراج .
وكون التسويل من الشيطان والإمهال من الله ، قد تشهد لهم آيات من كتاب الله كقوله تعالى في تزيين الشيطان لهم : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم [ 8 \ 48 ] ، وقوله تعالى : تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم [ 16 \ 63 ] ، وقوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم [ 14 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وكقوله تعالى في إملاء الله لهم استدراجا : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 381 ] ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، وقوله تعالى : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا [ 19 \ 75 ] ، وقوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ 6 \ 44 ] ، وقوله تعالى : ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 95 ] ، وقوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وحده من السبعة " وأملي لهم " بضم الهمزة وكسر اللام ، بعدها ياء مفتوحة بصيغة الماضي المبني للمفعول والفاعل المحذوف ، فيه الوجهان المذكوران آنفا في فاعل : وأملى لهم على قراءة الجمهور بالبناء للفاعل .
وقد ذكرنا قريبا ما يشهد لكل منهما من القرآن كقوله تعالى في إملاء الشيطان لهم : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] ، وقوله في إملاء الله لهم : وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 45 ] ، كما تقدم قريبا .
والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر راجعة إلى قوله تعالى : الشيطان سول لهم وأملى لهم .
أي ذلك التسويل والإملاء المفضي إلى الكفر بسبب أنهم : قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر .
وظاهر الآية يدل على أن بعض الأمر الذي قالوا لهم سنطيعكم فيه مما نزل الله وكرهه أولئك المطاعون .
والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته ومؤازرته له على ذلك الباطل ، أنه كافر بالله بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 27 - 28 ] .
وقد قدمنا ما يوضح ذلك من القرآن في سورة الشورى في الكلام على قوله [ ص: 382 ] تعالى : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ 42 \ 10 ] ، وفي مواضع عديدة من هذا الكتاب المبارك .
وبينا في سورة الشورى أيضا شدة كراهة الكفار لما نزل الله ، وبينا ذلك بالآيات القرآنية في الكلام على قوله تعالى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [ 42 \ 13 ] ، وقد قدمنا مرارا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والله يعلم إسرارهم قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم " أسرارهم " بفتح الهمزة ، جمع سر .
وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم إسرارهم بكسر الهمزة مصدر أسر كقوله : وأسررت لهم إسرارا [ 71 \ 9 ] ، وقد قالوا لهم ذلك سرا فأفشاه الله العالم بكل ما يسرون وما يعلنون .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم أي : فكيف يكون حال هؤلاء إذا توفتهم الملائكة ؟ أي قبض ملك الموت وأعوانه أرواحهم في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدبارهم .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الملائكة يتوفون الكفار وهم يضربون وجوههم وأدبارهم جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأنفال : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [ 8 \ 50 ] ، وقوله في الأنعام : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون [ 6 \ 93 ] .
فقوله : باسطو أيديهم أي بالضرب المذكور .
والإشارة في قوله : ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي أعني قوله : يضربون وجوههم ، أي ذلك بضرب وقت الموت واقع بسبب بأنهم اتبعوا ما أسخط الله أي أغضبه من الكفر به ، وطاعة الكفار الكارهين لما نزله .
والإسخاط استجلاب السخط ، وهو الغضب هنا .
[ ص: 383 ] وقوله : وكرهوا رضوانه لأن من أطاع من كره ما نزل الله فقد كره رضوان الله ; لأن رضوانه تعالى ليس إلا في العمل بما نزل ، فاستلزمت كراهة ما نزل كراهة رضوانه لأن رضوانه فيما نزل ، ومن أطاع كارهه ، فهو ككارهه .
وقوله : فأحبط أعمالهم أي أبطلها ، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة ، وقد أوضحنا المقام في ذلك إيضاحا تاما في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا [ 17 \ 19 ] .
وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] .
واعلم أن هذه الآية الكريمة ، قد قال بعض العلماء : إنها نزلت في المنافقين .
وقال بعضهم : إنها نزلت في اليهود ، وإن المنافقين أو اليهود قالوا للكفار الذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ، وهو عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتعويق عن الجهاد ونحو ذلك .
وبعضهم يقول : إن الذين اتبعوا ما أسخط الله هم اليهود حين كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرفوه وكرهوا رضوانه ، وهو الإيمان به - صلى الله عليه وسلم .
والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها ، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله .
مسألة
اعلم أن كل مسلم ، يجب عليه في هذا الزمان تأمل هذه الآيات ، من سورة محمد وتدبرها ، والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد ; لأن كثيرا ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد .
لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما نزل الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو هذا القرآن وما يبينه به النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنن .
[ ص: 384 ] فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين لما نزله الله : سنطيعكم في بعض الأمر ، فهو داخل في وعيد الآية .
وأحرى من ذلك من يقول لهم : سنطيعكم في الأمر كالذين يتبعون القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله ، فإن هؤلاء لا شك أنهم ممن تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم .
وأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه ، وأنه محبط أعمالهم .
فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا : سنطيعكم في بعض الأمر .
قوله تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم
اللام في قوله " لنبلونكم " موطئة لقسم محذوف .
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير شعبة عن عاصم بالنون الدالة على العظمة في الأفعال الثلاثة ، أعني لنبلونكم ، ونعلم ، ونبلو .
وقرأه شعبة عن عاصم بالمثناة التحتية .
وضمير الفاعل يعود إلى الله وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله - جل وعلا - يبلو الناس أي يختبرهم بالتكاليف ، كبذل الأنفس والأموال في الجهاد ليتميز بذلك صادقهم من كاذبهم ، ومؤمنهم من كافرهم - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله [ 2 \ 214 ] .
وقوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ 3 \ 142 ] .
وقوله تعالى : أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون [ 3 \ 142 ] .
وقوله تعالى : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [ 9 \ 16 ] .
وقوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب [ 29 \ 1 - 3 ] .
[ ص: 385 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة حتى نعلم المجاهدين [ 3 \ 179 ] .
وقد قدمنا إزالة الإشكال في نحوه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه [ 2 \ 143 ] .
فقلنا في ذلك ما نصه : ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون .
وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه بقوله - جل وعلا : وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور [ 3 \ 154 ] .
فقوله : والله عليم بذات الصدور بعد قوله : " ليبتلي " - دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئا لم يكن عالما به ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ; لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار .
وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه .
ومعنى إلا لنعلم أي علما يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك ، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس ، أما عالم السر والنجوى ، فهو عالم بكل ما سيكون ، كما لا يخفى . ا هـ .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : ( وهذا العلم هو العلم الذي يقع عليه به الجزاء لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم ، فتأويله : حتى نعلم المجاهدين علم شهادة ، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة ، ونبلو أخباركم نختبرها ونظهرها ) انتهى محل الغرض منه .
وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : [ ص: 386 ] ( ولنبلونكم أيها المؤمنون بالقتل وجهاد أعداء الله حتى نعلم المجاهدين منكم ، يقول : حتى يعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد في الله منكم وأهل الصبر على قتال أعدائه فيظهر ذلك لهم ويعرف ذوو البصائر منكم في دينه من ذوي الشك والحيرة فيه ، وأهل الإيمان من أهل النفاق ، ونبلو أخباركم فنعرف الصادق منكم من الكاذب ) انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وما ذكره من أن المراد بقوله حتى نعلم المجاهدين الآية : حتى يعلم حزبنا وأولياؤنا المجاهدين منكم والصابرين - له وجه ، وقد يرشد له قوله تعالى : ونبلو أخباركم أي نظهرها ونبرزها للناس .
وقوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب [ 3 \ 179 ] ; لأن المراد بميز الخبيث من الطيب ظهور ذلك للناس .
ولذا قال : وما كان الله ليطلعكم على الغيب [ 3 \ 179 ] ، فتعلموا ما ينطوي عليه الخبيث والطيب ، ولكن الله عرفكم بذلك بالاختبار والابتلاء الذي تظهر بسببه طوايا الناس من خبث وطيب .
والقول الأول وجيه أيضا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم الظاهر أن " صدوا " في هذه الآية متعدية ، والمفعول محذوف ، أي كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله فهم ضالون مضلون .
وقد قدمنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم [ 16 \ 97 ] أن التأسيس مقدم على التوكيد كما هو مقرر في الأصول .
و " صدوا " هنا إن قدرت لازمة فمعنى الصدود الكفر ، فتكون كالتوكيد لقوله : كفروا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (510)
سُورَةُ الْفَتْحِ
صـ 387 إلى صـ 394
[ ص: 387 ] وإن قدرت متعدية كان ذلك تأسيسا ; لأن قوله : كفروا يدل على كفرهم في أنفسهم .
وقوله : " وصدوا " على أنه متعد يدل على أنهم حملوا غيرهم على الكفر وصدوه عن الحق ، وهذا أرجح مما قبله .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وشاقوا الرسول أي خالفوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - مخالفة شديدة .
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أمرين . أحدهما أن الذين كفروا وصدوا غيرهم عن الحق وخالفوه - صلى الله عليه وسلم - لن يضروا الله بكفرهم شيئا ، لأنه غني لذاته الغنى المطلق .
والثاني أنهم إنما يضرون بذلك أنفسهم ، لأن ذلك الكفر سبب لإحباط أعمالهم ، كما قال تعالى : وسيحبط أعمالهم .
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات من كتاب الله .
فمن الآيات الدالة على الأول الذي هو غنى الله عن خلقه ، وعدم تضرره بمعصيتهم - قوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] .
وقوله تعالى : إن تكفروا فإن الله غني عنكم [ 39 \ 7 ] .
وقوله تعالى : وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] .
وقوله تعالى : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض [ 10 \ 68 ] .
وقوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد [ 64 \ 6 ] .
وقوله تعالى : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومن الآيات الدالة على الثاني وهو إحباط أعمالهم بالكفر أي إبطالها به - قوله [ ص: 388 ] تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] .
وقوله تعالى : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [ 14 \ 18 ] .
وقوله تعالى : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] .
وقوله تعالى : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 16 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول .
قد قدمنا كثيرا جدا من الآيات المماثلة له قريبا في جملة كلامنا الطويل على قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن الآية [ 4 \ 82 ] ، [ 47 \ 24 ] .
قوله تعالى : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن من مات على الكفر لن يغفر الله له ، لأن النار وجبت له بموته على الكفر - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله ، كقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين [ 3 \ 91 ] .
وقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون [ 2 \ 161 - 162 ] .
وقوله تعالى : ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [ 4 \ 18 ] .
وقوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 2 \ 217 ] .
قوله تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم . [ ص: 389 ] قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم إلى السلم بفتح السين .
وقرأ حمزة وشعبة " إلى السلم " بكسر السين .
وقوله تعالى : فلا تهنوا أي لا تضعفوا وتذلوا ، ومنه قوله تعالى : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله [ 3 \ 146 ] .
وقوله تعالى : ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين [ 8 \ 18 ] ، أي مضعف كيدهم ، وقول زهير بن أبي سلمى :
وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت فأصبح الحبل منها واهنا خلقا
وقوله تعالى : وأنتم الأعلون جملة حالية ، أي : فلا تضعفوا عن قتال الكفار وتدعوا إلى السلم أي تبدءوا بطلب السلم أي الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون أي والحال أنكم أنتم الأعلون ، أي الأقهرون والأغلبون لأعدائكم ، ولأنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون .
وهذا التفسير في قوله : وأنتم الأعلون هو الصواب .
وتدل عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى بعده والله معكم لأن من كان الله معه هو الأعلى وهو الغالب وهو القاهر المنصور الموعود بالثواب ، فهو جدير بأن لا يضعف عن مقاومة الكفار ولا يبدؤهم بطلب الصلح والمهادنة .
وكقوله تعالى : وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 173 ] ، وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا [ 40 \ 51 ] ، وقوله : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، وقوله تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم [ 9 \ 14 ] .
ومما يوضح معنى آية القتال هذه قوله تعالى : ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون [ 4 \ 104 ] ; لأن قوله تعالى : وترجون من الله ما لا يرجون من النصر الذي وعدكم الله به والغلبة وجزيل الثواب .
[ ص: 390 ] وذلك كقوله هنا : وأنتم الأعلون وقوله : والله معكم أي بالنصر والإعانة والثواب .
واعلم أن آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال إن إحداهما ناسخة للأخرى ، بل هما محكمتان ، وكل واحدة منهما منزلة على حال غير الحال التي نزلت عليه الأخرى .
فالنهي في آية القتال هذه في قوله تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم إنما هو عن الابتداء بطلب السلم .
والأمر بالجنوح إلى السلم في آية الأنفال محله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها ، كما هو صريح قوله تعالى : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله الآية [ 8 \ 61 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة والله معكم قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ 16 \ 128 ] ، وهذا الذي ذكرنا في معنى هذه الآية أولى وأصوب مما فسرها به ابن كثير رحمه الله .
وهو أن المعنى : لا تدعوا إلى الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون أي في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد ، أي : وإما إن كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم أي الصلح والمهادنة ، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي :
السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جرع
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولن يتركم أعمالكم أي لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم .
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من عدم نقصه تعالى شيئا من ثواب الأعمال جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا [ 49 \ 14 ] ، أي لا ينقصكم من ثوابها شيئا .
وقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] .
[ ص: 391 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة ، وقد قدمناها مرارا .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ولن يتركم أصله من الوتر ، وهو الفرد .
فأصل قوله : " لن يتركم " لن يفردكم ويجردكم من أعمالكم بل يوفيكم إياها .
قوله تعالى : وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم .
هذه الأجور التي وعد الله بها من آمن واتقى جاءت مبينة في آيات كثيرة كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم [ 57 \ 28 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولا يسألكم أموالكم . في هذه الآية الكريمة أوجه معلومة عند أهل التفسير منها أن المعنى : ولا يسألكم النبي - صلى الله عليه وسلم - أموالكم أجرا على ما بلغكم من الوحي المتضمن لخير الدنيا والآخرة .
وهذا الوجه تشهد له آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله [ 34 \ 47 ] .
وقوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ 38 \ 86 ] .
وقوله تعالى : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون [ 52 \ 40 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله [ 11 \ 29 ] ، وذكرنا بعض ذلك في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [ 42 \ 23 ] .
قوله تعالى : والله الغني وأنتم الفقراء . قد قدمنا الآيات الموضحة له قريبا في الكلام على قوله تعالى : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى الآية [ 47 \ 32 ] .
[ ص: 392 ] قوله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم . وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا [ 4 \ 133 ] .
[ ص: 393 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْفَتْحِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا .
التَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ ; لِأَنَّهُ فَتْحٌ عَظِيمٌ .
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي تَهَيَّأَ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْتَمِعُوا بِالْكُفَّارِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبَيَّنُوا لَهُمْ مَحَاسِنَهُ ، فَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ .
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَامَ سِتٍّ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَ ةٍ .
وَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَ مَكَّةَ حِينَ نَقَضَ الْكُفَّارُ الْعَهْدَ ، كَانَ خُرُوجُهُ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ عَامَ ثَمَانٍ .
وَكَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ ، وَذَلِكَ يُوَضِّحُ أَنَّ الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ الْمَذْكُورِ فَتْحَ مَكَّةَ ، وَإِنْ قَالَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا قُلْنَا ، وَلِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ سُورَةَ الْفَتْحِ هَذِهِ نَزَلَتْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي طَرِيقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ .
وَلَفْظُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ : إِنَّا فَتَحْنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَتْحَ قَدْ مَضَى ، فَدَعْوَى أَنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ وَلَمْ يَقَعْ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ بِقُرْبِ سَنَتَيْنِ - خِلَافُ الظَّاهِرِ .
وَالْآيَةُ الَّتِي فِي فَتْحِ مَكَّةَ دَلَّتْ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لَا عَلَى الْمُضِيِّ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ الْآيَةَ [ 110 \ 1 ] .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي كِتَابِنَا " دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ " مَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ : [ ص: 394 ] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ الْآيَةَ [ 48 \ 2 ] .
قوله تعالى : ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم .
ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الإيمان يزيد دلت عليه آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا [ 8 \ 2 ] ، وقوله تعالى : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون [ 9 \ 124 ] ، وقوله تعالى : ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا [ 74 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد أوضحناه مرارا .
والحق الذي لا شك فيه أن الإيمان يزيد وينقص ، كما عليه أهل السنة والجماعة ، وقد دل عليه الوحي من الكتاب والسنة كما تقدم .
قوله تعالى : ولله جنود السماوات والأرض .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أن له جنود السماوات والأرض ، وبين في المدثر أن جنوده هذه لا يعلمها إلا هو ، وذلك في قوله : وما يعلم جنود ربك إلا هو [ 74 \ 31 ] .
قوله تعالى : ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء .
أظهر الأقوال وأصحها في الآية أن اللام في قوله : ليدخل متعلقة بقوله : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم [ 48 \ 4 ] .
وإيضاح المعنى هو الذي أنزل السكينة ، أي السكون والطمأنينة إلى الحق في قلوب المؤمنين ، ليزدادوا بذلك إيمانا لأجل أن يدخلهم بالطمأنينة إلى الحق ، وازدياد الإيمان جنات تجري من تحتها الأنهار .
ومفهوم المخالفة في قوله : في قلوب المؤمنين أن قلوب غير المؤمنين ليست كذلك وهو كذلك ولذا كان جزاؤهم مخالفا لجزاء المؤمنين كما صرح تعالى بذلك في قوله : ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (511)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
صـ 395 إلى صـ 402
[ ص: 395 ] وإيضاح المعنى أنه تعالى وفق المؤمنين بإنزال السكينة وازدياد الإيمان ، وأشقى غيرهم من المشركين والمنافقين فلم يوفقهم بذلك ليجازي كلا بمقتضى عمله .
وهذه الآية شبيهة في المعنى بقوله تعالى في آخر الأحزاب : وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات [ 33 \ 73 ] .
قوله تعالى : وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا .
بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أنه يجازي المشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات بثلاث عقوبات وهي غضبه ، ولعنته ، ونار جهنم .
وقد بين في بعض الآيات بعض نتائج هذه الأشياء الثلاثة ، كقوله في الغضب : ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى [ 20 \ 81 ] ، وقوله في اللعنة : ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا [ 4 \ 52 ] ، وقوله في نار جهنم : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته [ 3 \ 192 ] .
قوله تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا .
بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أنه أرسل نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - شاهدا ومبشرا ونذيرا .
وقد بين تعالى أنه يبعثه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة شاهدا على أمته ، وأنه مبشر للمؤمنين ومنذر للكافرين . قال تعالى في شهادته - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة على أمته : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] ، وقوله تعالى : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء [ 16 \ 89 ] .
فآية النساء وآية النحل المذكورتان الدالتان على شهادته - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة على أمته تبينان آية الفتح هذه .
وما ذكرنا من أنه مبشر للمؤمنين ونذير للكافرين أوضحه في قوله تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] .
[ ص: 396 ] وقد أوضحنا هذا في أول سورة الكهف ، وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة - ذكره وزيادة في سورة الأحزاب في قوله تعالى : ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ 33 \ 45 - 46 ] .
وقوله هنا : إنا أرسلناك شاهدا حال مقدرة ، وقوله : ومبشرا ونذيرا كلاهما حال معطوف على حال .
قوله تعالى : قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا .
أمر الله - جل وعلا - نبيه أن يقول للمنافقين الذين تخلفوا عنه واعتذروا بأعذار كاذبة : فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا [ 48 \ 11 ] أي لا أحد يملك دفع الضر الذي أراد الله إنزاله بكم ولا منع النفع الذي أراد نفعكم به فلا نافع إلا هو ولا ضار إلا هو تعالى ، ولا يقدر أحد على دفع ضر أراده ولا منع نفع أراده .
وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأحزاب قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا [ 33 \ 17 ] .
وقوله تعالى في آخر يونس : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله الآية [ 10 \ 107 ] .
وقوله في الأنعام : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ 6 \ 17 ] .
وقوله تعالى في المائدة : قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [ 5 \ 17 ] .
وقوله تعالى في فاطر : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له الآية [ 35 \ 2 ] .
وقوله تعالى في الملك : قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم [ 67 \ 28 ] .
[ ص: 397 ] وقد ذكرنا بعض الآيات الدالة على هذا في أول سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة الآية [ 35 \ 2 ] . وفي سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا [ 46 \ 8 ] .
قوله تعالى : فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه أنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين . والسكينة تشمل الطمأنينة والسكون إلى الحق والثبات والشجاعة عند البأس .
وقد ذكر - جل وعلا - إنزاله السكينة على رسوله وعلى المؤمنين في براءة في قوله : ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين [ 9 \ 26 ] ، وذكر إنزال سكينته على رسوله في قوله في براءة : إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه الآية [ 9 \ 40 ] .
وذكر إنزاله سكينته على المؤمنين في قوله : فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم الآية [ 48 \ 18 ] .
وهذه الآيات كلها لم يبين فيها موضع إنزال السكينة ، وقد بين في هذه السورة الكريمة أن محل إنزال السكينة هو القلوب ، وذلك في قوله : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين الآية [ 48 \ 4 ] .
قوله تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله .
ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ذكره في سورة التوبة ، وسورة الصف ، وزاد فيهما أنه فاعل ذلك ، ولو كان المشركون يكرهونه ، فقال في الموضعين : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ 9 \ 33 ] ، [ 61 - 9 ] .
قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ 5 \ 54 ] .
[ ص: 398 ] قوله تعالى : ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع .
قرأ هذا الحرف ابن كثير وابن ذكوان وابن عامر " شطأه " بفتح الطاء ، والباقون من السبعة بسكون الطاء .
وقرأ عامة السبعة غير ابن ذكوان : فآزره بألف بعد الهمزة .
وقرأه ابن ذكوان عن عامر " فأزره " بلا ألف بعد الهمزة مجردا .
وقرأ عامة السبعة غير قنبل على سوقه بواو ساكنة بعد السين .
وقرأه قنبل عن ابن كثير بهمزة ساكنة بدلا من الواو ، وعنه ضم الهمزة بعد السين ، بعدها واو ساكنة .
وهذه الآية الكريمة قد بين الله فيها أنه ضرب المثل في الإنجيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بأنهم كالزرع يظهر في أول نباته رقيقا ضعيفا متفرقا ، ثم ينبت بعضه حول بعض ، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد وتعجب جودته أصحاب الزراعة ، العارفين بها ، فكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا في أول الإسلام في قلة وضعف ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة حتى بلغوا ما بلغوا .
وقوله تعالى : كزرع أخرج شطأه أي فراخه فنبت في جوانبه . وقوله : فآزره على قراءة الجمهور من المؤازرة ، بمعنى المعاونة والتقوية ، وقال بعض العلماء : فآزره أي ساواه في الطول ، وبكل واحد من المعنيين فسر قول امرئ القيس :
بمحنية قد آزر الصال نبتها مجر جيوش غانمين وخيب
وأما على قراءة ابن ذكوان فآزره بلا ألف ، فالمعنى شد أزره أي قواه .
ومنه قوله تعالى عن موسى : واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري الآية [ 20 \ 29 - 31 ] ، وقوله : فاستغلظ أي صار ذلك الزرع غليظا بعد أن كان رقيقا ، وقوله : فاستوى أي استتم وتكامل على سوقه أي على قصبه .
[ ص: 399 ] وما تضمنته الآية الكريمة من المثل المذكور في الإنجيل المضروب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بأنهم يكونون في مبدأ أمرهم في قلة وضعف ، ثم بعد ذلك يكثرون ويقوون - جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى كقوله : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره [ 8 \ 26 ] .
وقوله تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة [ 3 \ 123 ] ، وقوله تعالى : اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون الآية [ 5 \ 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 400 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : لَا تُقَدِّمُوا فِيهِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ مِنْهَا وَهُوَ أَصَحُّهَا وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ مُضَارِعُ " قَدَّمَ " اللَّازِمِ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ .
وَمِنْهُ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ ، وَمُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ بِكَسْرِ الدَّالِّ فِيهِمَا ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلِ " قَدَّمَ " بِمَعْنَى تَقَدَّمَ .
وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ مِنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ تَمَامُ الْعَشَرَةِ : " لَا تَقَدَّمُوا " بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ ، وَأَصْلُهُ : لَا تَتَقَدَّمُوا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُضَارِعُ " قَدَّمَ " الْمُتَعَدِّي ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ ، أَيْ : لَا تُقَدِّمُوا قَوْلًا وَلَا فِعْلًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ أَمْسِكُوا عَنْ ذَلِكَ حَتَّى تَصْدُرُوا فِيهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُضَارِعُ " قَدَّمَ " الْمُتَعَدِّي ، وَلَكِنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى اللَّازِمِ ، وَقُطِعَ النَّظَرُ عَنْ وُقُوعِهَا عَلَى مَفْعُولِهَا ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ أَصْلُ الْفِعْلِ دُونَ وُقُوعِهِ عَلَى مَفْعُولٍ .
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [ 40 \ 68 ] ، أَيْ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ ، وَلَا يُرَادُ فِي ذَلِكَ وُقُوعُهُمَا عَلَى مَفْعُولٍ .
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [ 39 \ 9 ] ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِالْعِلْمِ لَا يَسْتَوُونَ مَعَ غَيْرِ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ .
وَلَا يُرَادُ هُنَا وُقُوعُ الْعِلْمِ عَلَى مَفْعُولٍ ، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : لَا تُقَدِّمُوا لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِالتَّقْدِيمِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَةِ : أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [ 4 \ 82 ] أَنَّ لَفْظَةَ : بَيْنَ يَدَيْهِ [ 2 \ 97 ] ، مَعْنَاهَا أَمَامَهُ ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ .
[ ص: 401 ] وَالْمَعْنَى لَا تَتَقَدَّمُوا أَمَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : فَتَقُولُوا فِي شَيْءٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا تَشْرِيعُ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَتَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ ، وَتَحْلِيلُ مَا لَمْ يُحَلِّلْهُ ، لِأَنَّهُ لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا حَلَالَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [ 42 \ 10 ] ، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [ 18 \ 26 ] ، وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [ 17 \ 9 ] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ .
وَقَوْلُهُ : إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَهُوَ سَمِيعٌ لِكُلِّ مَا تَقُولُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَغَيْرِهِ ، عَلِيمٌ بِكُلِّ مَا تَفْعَلُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَغَيْرِهِ .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون .
سبب نزول هذه الآية الكريمة ، أنه لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد تميم ، أشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يؤمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة بن عدس ، وأشار عليه عمر أن يؤمر عليهم الأقرع بن حابس بن عقال ، فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما فأنزل الله : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ذكره البخاري في صحيحه وغيره .
وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحترموه ويوقروه ، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته ، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض ، أي ينادونه باسمه : يا محمد ، يا أحمد ، كما ينادي بعضهم بعضا .
وإنما أمروا أن يخاطبوه خطابا يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض ، كأن [ ص: 402 ] يقولوا : يا نبي الله أو يا رسول الله ونحو ذلك .
وقوله : أن تحبط أعمالكم أي لا تفعلوا ذلك لئلا تحبط أعمالكم ، أو ينهاكم عن ذلك كراهة أن تحبط أعمالكم ، وأنتم لا تشعرون أي : لا تعلمون بذلك .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من لزوم توقير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه واحترامه جاء مبينا في مواضع أخر كقوله تعالى : لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه [ 48 \ 9 ] ، على القول بأن الضمير في وتعزروه وتوقروه للنبي - صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [ 24 \ 63 ] ، كما تقدم وقوله تعالى : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه [ 7 \ 157 ] ، وقوله هنا : ولا تجهروا له بالقول أي لا تنادوه باسمه : كـ : يا محمد .
وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله تعالى لا يخاطبه في كتابه باسمه ، وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم والتوقير ، كقوله : ياأيها النبي [ 9 \ 73 ] ، ياأيها الرسول [ 5 \ 41 ] ، ياأيها المزمل [ 73 \ 1 ] ، ياأيها المدثر [ 74 \ 1 ] ، مع أنه ينادي غيره من الأنبياء بأسمائهم كقوله : وقلنا ياآدم [ 2 \ 35 ] ، وقوله : وناديناه أن ياإبراهيم [ 37 \ 104 ] ، وقوله : قال يانوح إنه ليس من أهلك [ 11 \ 46 ] ، قيل يانوح اهبط بسلام منا [ 11 \ 48 ] ، وقوله : قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس [ 7 \ 144 ] ، وقوله : إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك [ 3 \ 55 ] ، وقوله : ياداود إنا جعلناك خليفة [ 38 \ 29 ] .
أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يذكر اسمه في القرآن في خطاب ، وإنما يذكر في غير ذلك كقوله : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل [ 3 \ 144 ] ، وقوله : وآمنوا بما نزل على محمد [ 47 \ 2 ] ، وقوله : محمد رسول الله والذين معه [ 48 \ 29 ] .
وقد بين تعالى أن توقيره واحترامه - صلى الله عليه وسلم - بغض الصوت عنده لا يكون إلا من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، أي أخلصها لها وأن لهم بذلك عند الله المغفرة والأجر العظيم ، وذلك في قوله تعالى : إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم [ 49 \ 3 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (512)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
صـ 403 إلى صـ 410
[ ص: 403 ] وقال بعض العلماء في قوله : ولا تجهروا له بالقول أي لا ترفعوا عنده الصوت كرفع بعضكم صوته عند بعض .
قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه : وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا ، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة ، وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها . انتهى محل الغرض منه .
وظاهر هذه الآية الكريمة أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر ، وقد قال القرطبي : إنه لا يحبط عمله بغير شعوره ، وظاهر الآية يرد عليه .
وقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه : وقوله عز وجل أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري ، كما جاء في الصحيح : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض " انتهى محل الغرض منه بلفظه .
ومعلوم أن حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته كحرمته في أيام حياته ، وبه تعلم أن ما جرت به العادة اليوم من اجتماع الناس قرب قبره - صلى الله عليه وسلم - وهم في صخب ولغط . وأصواتهم مرتفعة ارتفاعا مزعجا كله لا يجوز ، ولا يليق ، وإقرارهم عليه من المنكر .
وقد شدد عمر رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في مسجده - صلى الله عليه وسلم - وقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا .
مسألتان
الأولى : اعلم أن عدم احترام النبي - صلى الله عليه وسلم - المشعر بالغض منه ، أو تنقيصه - صلى الله عليه وسلم - والاستخفاف به أو الاستهزاء به - ردة عن الإسلام وكفر بالله .
وقد قال تعالى في الذين استهزءوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت [ ص: 404 ] راحلته : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [ 9 \ 65 - 66 ] .
المسألة الثانية : وهي من أهم المسائل ، اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته ، التي لا يجوز صرفها لغيره ، وبين حقوق خلقه كحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ليضع كل شيء في موضعه ، على ضوء ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة .
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته - التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب التي لا يقدر على كشفها إلا الله .
فالتجاء المضطر الذي أحاطت به الكروب ودهمته الدواهي لا يجوز إلا لله وحده ، لأنه من خصائص الربوبية ، فصرف ذلك الحق لله وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومرضاته ، وهو عين التوقير والتعظيم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة له وحده - جل وعلا .
وقد بين - جل وعلا - في آيات كثيرة من كتابه أن التجاء المضطر من عباده إليه وحده في أوقات الشدة والكرب من خصائص ربوبيته تعالى .
من أصرح ذلك الآيات التي في سورة النمل ، أعني قوله تعالى : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى إلى قوله : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 59 - 64 ] .
فإنه - جل وعلا - قال في هذه الآيات الكريمات العظيمات : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون [ 27 \ 59 ] .
ثم بين خصائص ربوبيته الدالة على أنه المعبود وحده ، فقال : أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون [ 27 \ 60 ] .
فهذه المذكورات التي هي خلق السماوات والأرض ، وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق ذات البهجة ، التي لا يقدر على إنبات شجرها إلا الله - من خصائص ربوبية الله ; [ ص: 405 ] ولذا قال تعالى بعدها : أإله مع الله يقدر على خلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق به ، والجواب لا ; لأنه لا إله إلا الله وحده .
ثم قال تعالى : أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون [ 27 \ 61 ] .
فهذه المذكورات أيضا ، التي هي جعل الأرض قرارا ، وجعل الأنهار خلالها ، وجعل الجبال الرواسي فيها ، وجعل الحاجز بين البحرين - من خصائص ربوبيته - جل وعلا - ولذا قال بعد ذكرها أإله مع الله ؟ والجواب : لا .
فالاعتراف لله - جل وعلا - بأن خلق السماوات والأرض وإنزال الماء وإنبات النبات ونحو ذلك مما ذكر في الآيات من خصائص ربوبيته - جل وعلا - هو الحق ، وهو من طاعة الله ورسوله ، ومن تعظيم الله وتعظيم رسوله بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في تعظيم الله .
ثم قال تعالى وهو محل الشاهد : أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون [ 27 \ 62 ] .
فهذه المذكورات التي هي إجابة المضطر إذا دعا ، وكشف السوء وجعل الناس خلفاء في الأرض من خصائص ربوبيته - جل وعلا - ولذا قال بعدها أإله مع الله قليلا ما تذكرون .
فتأمل قوله تعالى : أإله مع الله مع قوله : أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء - تعلم أن إجابة المضطرين إذا التجئوا ودعوا وكشف السوء عن المكروبين ، لا فرق في كونه من خصائص الربوبية بينه وبين خلق السماوات والأرض ، وإنزال الماء وإنبات النبات ، ونصب الجبال وإجراء الأنهار ، لأنه - جل وعلا - ذكر الجميع بنسق واحد في سياق واحد ، وأتبع جميعه بقوله : أإله مع الله .
فمن صرف شيئا من ذلك لغير الله توجه إليه الإنكار السماوي الذي هو في ضمن قوله : أإله مع الله فلا فرق البتة بين تلك المذكورات في كونها كلها من خصائص الربوبية .
ثم قال تعالى : أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون [ 27 \ 63 ] .
[ ص: 406 ] فهذه المذكورات التي هي هدي الناس في ظلمات البر والبحر ، وإرسال الرياح بشرا ، أي مبشرات ، بين يدي رحمته التي هي المطر - من خصائص ربوبيته - جل وعلا .
ولذا قال تعالى : أإله مع الله ، ثم نزه - جل وعلا - نفسه عن أن يكون معه إله يستحق شيئا مما ذكر فقال - جل وعلا : تعالى الله عما يشركون .
ثم قال تعالى : أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 64 ] .
فهذه المذكورات التي هي بدء خلق الناس وإعادته يوم البعث ، ورزقه للناس من السماء بإنزال المطر ، ومن الأرض بإنبات النبات - من خصائص ربوبيته - جل وعلا - ولذا قال بعدها أإله مع الله .
ثم عجز - جل وعلا - كل من يدعي شيئا من ذلك كله لغير الله ، فقال آمرا نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يخاطبهم بصيغة التعجيز : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين .
وقد اتضح من هذه الآيات القرآنية أن إجابة المضطرين الداعين ، وكشف السوء عن المكروبين ، من خصائص الربوبية كخلق السماوات والأرض وإنزال الماء ، وإنبات النبات ، والحجز بين البحرين إلى آخر ما ذكر .
وكون إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين من خصائص الربوبية ، كما أوضحه تعالى في هذه الآيات من سورة النمل - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى مخاطبا نبيه - صلى الله عليه وسلم : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده [ 10 \ 107 ] .
وقوله تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ 6 \ 17 ] .
وقوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له [ 35 \ 2 ] .
فعلينا معاشر المسلمين أن نتأمل هذه الآيات القرآنية ونعتقد ما تضمنته ونعمل به [ ص: 407 ] لنكون بذلك مطيعين لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - معظمين لله ولرسوله ; لأن أعظم أنواع تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص العبادة لله - جل وعلا - وحده .
فإخلاص العبادة له - جل وعلا - وحده هو الذي كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - ويأمر به وقد قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ 98 \ 5 ] ، وقال تعالى : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين إلى قوله : قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ 39 \ 11 - 15 ] .
واعلم أن الكفار في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعلمون علما يقينا أن ما ذكر من إجابة المضطر وكشف السوء عن المكروب ، من خصائص الربوبية وكانوا إذا دهمتهم الكروب ، كإحاطة الأمواج بهم في البحر في وقت العواصف يخلصون الدعاء لله وحده ، لعلمهم أن كشف ذلك من خصائصه ، فإذا أنجاهم من الكرب رجعوا إلى الإشراك .
وقد بين الله - جل وعلا - هذا في آيات من كتابه كقوله تعالى : هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق [ 10 \ 22 - 23 ] .
وقوله تعالى : قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم الآية [ 6 \ 63 - 65 ] .
وقوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون [ 6 \ 40 ] .
وقوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا [ 17 \ 67 - 69 ] .
[ ص: 408 ] وقوله تعالى : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] .
وقوله تعالى : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد [ 31 \ 32 ] .
وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه [ 17 \ 67 ] ، أن سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أنه لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة ذهب فارا منه إلى بلاد الحبشة فركب في البحر متوجها إلى الحبشة فجاءتهم ريح عاصف ، فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده . فقال عكرمة في نفسه : والله إن كان لا ينفع في البحر غيره ، فإنه لا ينفع في البر غيره . اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد - صلى الله عليه وسلم - فلأجدنه رءوفا رحيما ، فخرجوا من البحر فخرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه . انتهى .
وقد قدمنا هناك أن بعض المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالا من هؤلاء الكفار المذكورين ; لأنهم في وقت الشدائد يلجئون لغير الله طالبين منه ما يطلب المؤمنون من الله ، وبما ذكر تعلم أن ما انتشر في أقطار الدنيا من الالتجاء في أوقات الكروب والشدائد إلى غير الله - جل وعلا - كما يفعلون ذلك قرب قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعند قبور من يعتقدون فيهم الصلاح زاعمين أن ذلك من دين الله ومحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه ومحبة الصالحين ، كله من أعظم الباطل ، وهو انتهاك لحرمات الله وحرمات رسوله .
لأن صرف الحقوق الخاصة بالخالق التي هي من خصائص ربوبيته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره ممن يعتقد فيهم الصلاح - مستوجب سخط الله وسخط النبي - صلى الله عليه وسلم - وسخط كل متبع له بالحق .
ومعلوم أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يأمر بذلك هو ولا أحد من أصحابه ، وهو ممنوع في شريعة كل نبي من الأنبياء ، والله - جل وعلا - يقول : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 79 - 80 ] .
[ ص: 409 ] بل الذي كان يأمر به - صلى الله عليه وسلم - هو ما يأمره الله بالأمر به في قوله تعالى : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [ 3 \ 64 ] .
واعلم أن كل عاقل إذا رأى رجلا متدينا في زعمه مدعيا حب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه وهو يعظم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمدحه بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وأنزل الماء من السماء وأنبت به الحدائق ذات البهجة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا إلى آخر ما تضمنته الآيات المتقدمة ، فإن ذلك العاقل لا يشك في أن ذلك المادح المعظم في زعمه من أعداء الله ورسوله المتعدين لحدود الله .
وقد علمت من الآيات المحكمات أنه لا فرق بين ذلك وبين إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين .
فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل وأن نعظم ربنا بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وإخلاص العبادة له ، وتعظيم نبينا - صلى الله عليه وسلم - باتباعه والاقتداء به في تعظيم الله والإخلاص له والاقتداء به في كل ما جاء به .
وألا نخالفه - صلى الله عليه وسلم - ولا نعصيه ، وألا نفعل شيئا يشعر بعدم التعظيم والاحترام ، كرفع الأصوات قرب قبره - صلى الله عليه وسلم - وقصدنا النصيحة والشفقة لإخواننا المسلمين ليعملوا بكتاب الله ، ويعظموا نبيه - صلى الله عليه وسلم - تعظيم الموافق لما جاء به - صلى الله عليه وسلم - ويتركوا ما يسميه الجهلة محبة وتعظيما وهو في الحقيقة احتقار وازدراء وانتهاك لحرمات الله ، ورسوله - صلى الله عليه وسلم : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا [ 4 \ 123 - 124 ] .
واعلم أيضا رحمك الله : أنه لا فرق بين ما ذكرنا من إجابة المضطر وكشف السوء عن المكروب ، وبين تحصيل المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله ، كالحصول على الأولاد والأموال وسائر أنواع الخير .
[ ص: 410 ] فإن التجاء العبد إلى ربه في ذلك أيضا من خصائص ربوبيته - جل وعلا - كما قال تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض [ 10 \ 31 ] وقال تعالى : فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له [ 29 \ 17 ] وقال تعالى : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور [ 42 \ 49 ] وقال تعالى : وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات [ 16 \ 72 ] وقال تعالى : واسألوا الله من فضله [ 4 \ 32 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وفي الحديث : " إذا سألت فاسأل الله " .
وقد أثنى الله - جل وعلا - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالتجائهم إليه وقت الكرب يوم بدر في قوله : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم [ 8 \ 9 ] ، فنبينا - صلى الله عليه وسلم - كان هو وأصحابه إذا أصابهم أمر أو كرب التجئوا إلى الله وأخلصوا له الدعاء ، فعلينا أن نتبع ولا نبتدع .
تنبيه
اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يتأمل في معنى العبادة ، وهي تشمل جميع ما أمر الله أن يتقرب إليه به من جميع القربات فيخلص تقربه بذلك إلى الله ولا يصرف شيئا منه لغير الله كائنا ما كان .
والظاهر أن ذلك يشمل هيئات العبادة فلا ينبغي للمسلم عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يضع يده اليمنى على اليسرى كهيئة المصلي ، لأن هيئة الصلاة داخلة في جملتها فينبغي أن تكون خالصة لله ، كما كان - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه يخلصون العبادات وهيئاتها لله وحده .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين .
نزلت هذه الآية الكريمة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وقد أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني المصطلق ليأتيهم بصدقات أموالهم فلما سمعوا به تلقوه فرحا به ، فخاف منهم وظن أنهم يريدون قتله ، فرجع إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وزعم له أنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتله ، فقدم وفد منهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه بكذب الوليد ، فأنزل الله هذه الآية ، وهي تدل على عدم تصديق الفاسق في خبره .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (513)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
صـ 411 إلى صـ 418
[ ص: 411 ] وصرح تعالى في موضع آخر بالنهي عن قبول شهادة الفاسق ، وذلك في قوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون [ 24 \ 4 ] ، ولا خلاف بين العلماء في رد شهادة الفاسق وعدم قبول خبره .
وقد دلت هذه الآية من سورة الحجرات على أمرين :
الأول منهما : أن الفاسق إن جاء بنبأ ممكن معرفة حقيقته ، وهل ما قاله فيه الفاسق حق أو كذب - فإنه يجب فيه التثبت .
والثاني : هو ما استدل عليه بها أهل الأصول من قبول خبر العدل لأن قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا بدل بدليل خطابه ، أعني مفهوم مخالفته أن الجائي بنبأ إن كان غير فاسق بل عدلا لا يلزم التبين في نبئه على قراءة : فتبينوا . ولا التثبت على قراءة : فتثبتوا ، وهو كذلك .
وأما شهادة الفاسق فهي مردودة كما دلت عليه آية النور المذكورة آنفا .
وقد قدمنا معنى الفسق وأنواعه في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
وقوله : أن تصيبوا قوما أي لئلا تصيبوا قوما ، أو كراهة أن تصيبوا قوما بجهالة ، أي لظنكم النبأ الذي جاء به الفاسق حقا فتصبحوا على ما فعلتم من إصابتكم للقوم المذكورين نادمين لظهور كذب الفاسق فيما أنبأ به عنهم ; لأنهم لو لم يتبينوا في نبأ الوليد عن بني المصطلق لعاملوهم معاملة المرتدين ؟ ولو فعلوا ذلك لندموا .
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي : فتبينوا بالباء التحتية الموحدة بعدها مثناة تحتية مشددة ثم نون ، وقرأه حمزة والكسائي : " فتثبتوا " بالثاء المثلثة بعدها ياء تحتية موحدة مشددة ، ثم تاء مثناة فوقية .
والأول من التبين ، والثاني من التثبت .
ومعنى القراءتين واحد ، وهو الأمر بالتأني وعدم العجلة حتى تظهر الحقيقة فيما أنبأ به الفاسق .
[ ص: 412 ] قوله تعالى : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان .
وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أنه هو الذي حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان - جاء موضحا في آيات كثيرة ، مصرح فيها بأنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كقوله تعالى : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا [ 18 \ 17 ] .
وقوله تعالى : ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه [ 17 \ 97 ] .
وقوله تعالى : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون [ 7 \ 178 ] .
وقوله تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 7 - 8 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، نرجو الله الرحيم الكريم أن يهدينا وألا يضلنا .
قوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة .
هذه الأخوة التي أثبت الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة للمؤمنين بعضهم لبعض هي أخوة الدين لا النسب .
وقد بين تعالى أن الأخوة تكون في الدين في قوله تعالى : فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين [ 33 \ 5 ] .
وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] أن الأخوة الدينية أعظم وأقوى من الأخوة النسبية ، وبينا أدلة ذلك من الكتاب والسنة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن . قوله : لا يسخر قوم من قوم أي لا يستخفوا ولا يستهزئوا بهم ، والعرب تقول : سخر منه بكسر الخاء ، يسخر بفتح الخاء على القياس ، إذا استهزأ به واستخف .
[ ص: 413 ] وقد نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة عن السخرية من الناس ، مبينا أن المسخور منه قد يكون خيرا من الساخر .
ومن أقبح القبيح استخفاف الدنيء الأرذل بالأكرم الأفضل ، واستهزاؤه به .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن السخرية جاء ذم فاعله وعقوبته عند الله في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم [ 9 \ 79 ] .
وقد بين تعالى أن الكفار المترفين في الدنيا كانوا يسخرون من ضعاف المؤمنين في دار الدنيا ، وأن أولئك يسخرون من الكفار يوم القيامة ، كما قال تعالى : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة [ 2 \ 212 ] ، وقال تعالى : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون إلى قوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 29 - 36 ] .
فلا ينبغي لمن رأى مسلما في حالة رثة تظهر بها عليه آثار الفقر والضعف أن يسخر منه ؛ لهذه الآيات التي ذكرنا .
قوله تعالى : ولا تلمزوا أنفسكم .
أي لا يلمز أحدكم أخاه كما تقدم إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
وقد أوعد الله - جل وعلا - الذين يلمزون الناس في قوله تعالى : ويل لكل همزة لمزة [ 104 \ 12 ] ، والهمزة كثير الهمز للناس ، واللمزة كثير اللمز .
قال بعض العلماء : الهمز يكون بالفعل كالغمز بالعين احتقارا وازدراء ، واللمز باللسان ، وتدخل فيه الغيبة .
وقد صرح الله تعالى بالنهي عن ذلك في قوله : ولا يغتب بعضكم بعضا [ 49 \ 12 ] ، ونفر عنه غاية التنفير في قوله تعالى : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه [ 49 \ 12 ] ، فيجب على المسلم أن يتباعد كل التباعد من الوقوع في عرض أخيه .
[ ص: 414 ] قوله تعالى : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه خلق الناس من ذكر وأنثى ، ولم يبين هنا كيفية خلقه للذكر والأنثى المذكورين ولكنه بين ذلك في مواضع أخر من كتاب الله ، فبين أنه خلق ذلك الذكر الذي هو آدم من تراب ، وقد بين الأطوار التي مر بها ذلك التراب ، كصيرورته طينا لازبا وحمأ مسنونا وصلصالا كالفخار .
وبين أنه خلق تلك الأنثى التي هي حواء من ذلك الذكر الذي هو آدم فقال في سورة النساء : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] وقال تعالى في الأعراف : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها [ 7 \ 189 ] ، وقال تعالى في الزمر : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها [ 39 \ 6 ] .
وقد قدمنا أنه خلق نوع الإنسان على أربعة أنواع مختلفة :
الأول منها : خلقه لا من أنثى ولا من ذكر وهو آدم عليه السلام .
والثاني : خلقه من ذكر بدون أنثى وهو حواء .
والثالث : خلقه من أنثى بدون ذكر وهو عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
الرابع : خلقه من ذكر وأنثى وهو سائر الآدميين ، وهذا يدل على كمال قدرته - جل وعلا .
مسألة
قد دلت هذه الآيات القرآنية المذكورة على أن المرأة الأولى كان وجودها الأول مستندا إلى وجود الرجل وفرعا عنه .
وهذا أمر كوني قدري من الله ، أنشأ المرأة في إيجادها الأول عليه .
وقد جاء الشرع الكريم المنزل من الله ليعمل به في أرضه بمراعاة هذا الأمر الكوني القدري في حياة المرأة في جميع النواحي .
فجعل الرجل قائما عليها وجعلها مستندة إليه في جميع شئونها كما قال تعالى : [ ص: 415 ] الرجال قوامون على النساء الآية [ 4 \ 34 ] .
فمحاولة استواء المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة لا يمكن أن تتحقق ؛ لأن الفوارق بين النوعين كونا وقدرا أولا ، وشرعا منزلا ثانيا - تمنع من ذلك منعا باتا .
ولقوة الفوارق الكونية والقدرية والشرعية بين الذكر والأنثى ، صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن المتشبه من النوعين بالآخر .
ولا شك أن سبب هذا اللعن هو محاولة من أراد التشبه منهم بالآخر ، لتحطيم هذه الفوارق التي لا يمكن أن تتحطم .
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال " .
وقد قدمنا هذا الحديث بسنده في سورة بني إسرائيل ، وبينا هناك أن من لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ملعون في كتاب الله ، فلو كانت الفوارق بين الذكر والأنثى يمكن تحطيمها وإزالتها لم يستوجب من أراد ذلك اللعن من الله ورسوله .
ولأجل تلك الفوارق العظيمة الكونية القدرية بين الذكر والأنثى ، فرق الله - جل وعلا - بينهما في الطلاق ، فجعله بيد الرجل دون المرأة ، وفي الميراث ، وفي نسبة الأولاد إليه .
وفي تعدد الزوجات دون الأزواج : صرح بأن شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد في قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية [ 2 \ 282 ] ، فالله الذي خلقهما لا شك أنه أعلم بحقيقتهما ، وقد صرح في كتابه بقيام الرجل مقام امرأتين في الشهادة .
وقد قال تعالى : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 - 22 ] ، أي غير عادلة لعدم استواء النصيبين لفضل الذكر على الأنثى .
ولذلك وقعت امرأة عمران في مشكلة لما ولدت مريم ، كما قال تعالى عنها : فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى الآية [ 3 \ 36 ] فامرأة عمران تقول : وليس الذكر كالأنثى ، وهي صادقة في ذلك بلا شك .
[ ص: 416 ] والكفرة وأتباعهم يقولون : إن الذكر والأنثى سواء .
ولا شك عند كل عاقل في صدق هذه السالبة وكذب هذه الموجبة .
وقد أوضحنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] وجه الحكمة في جعل الطلاق بيد الرجل وتفضيل الذكر على الأنثى في الميراث وتعدد الزوجات ، وكون الولد ينسب إلى الرجل ، وذكرنا طرفا من ذلك في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : وللرجال عليهن درجة [ 2 \ 228 ] ، وبينا أن الفوارق الطبيعية بينهما كون الذكورة شرفا وكمالا وقوة طبيعية خلقية ، وكون الأنوثة بعكس ذلك .
وبينا أن العقلاء جميعا مطبقون على الاعتراف بذلك ، وأن من أوضح الأدلة التي بينها القرآن على ذلك اتفاق العقلاء على أن الأنثى من حين نشأتها تحلى بأنواع الزينة من حلي وحلل ، وذلك لجبر النقص الجبلي الخلقي الذي هو الأنوثة كما قال الشاعر :
وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
وقد بينا أن الله تعالى أوضح هذا بقوله : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 18 ] ، فأنكر على الكفار أنهم مع ادعاء الولد له تعالى جعلوا له أنقص الولدين وأضعفهما خلقة وجبلة وهو الأنثى .
ولذلك نشأت في الحلية من صغرها ، لتغطية النقص الذي هو الأنوثة وجبره بالزينة ، فهو في الخصام غير مبين .
لأن الأنثى لضعفها الخلقي الطبيعي لا تقدر أن تبين في الخصام إبانة الفحول الذكور ، إذا اهتضمت وظلمت لضعفها الطبيعي .
وإنكار الله تعالى على الكفار أنهم مع ادعائهم له الولد جعلوا له أنقص الولدين وأضعفهما - كثير في القرآن كقوله تعالى : أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون [ 37 \ 153 - 154 ] ، وقوله : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، وقوله تعالى : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء [ 39 \ 4 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
[ ص: 417 ] وأما الذكر فإنه لا ينشأ في الحلية ، لأن كمال ذكورته وشرفها وقوتها الطبيعية التي لا تحتاج معه إلى التزين بالحلية التي تحتاج إليه الأنثى ، لكماله بذكورته ونقصها بأنوثتها .
ومما لا نزاع فيه بين العقلاء أن الذكر والأنثى إذا تعاشرا المعاشرة البشرية الطبيعية التي لا بقاء للبشر دونها ، فإن المرأة تتأثر بذلك تأثرا طبعيا كونيا قدريا مانعا لها من مزاولة الأعمال كالحمل والنفاس وما ينشأ عن ذلك من الضعف والمرض والألم .
بخلاف الرجل فإنه لا يتأثر بشيء من ذلك ، ومع هذه الفوارق لا يتجرأ على القول بمساواتهما في جميع الميادين إلا مكابر في المحسوس ، فلا يدعو إلى المساواة بينهما إلا من أعمى الله بصيرته .
وقد قدمنا في الموضعين اللذين أشرنا لهما من هذا الكتاب المبارك ما يكفي المنصف ، فأغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا .
لما كان قوله تعالى : إنا خلقناكم من ذكر وأنثى [ 49 \ 13 ] ، يدل على استواء الناس في الأصل ; لأن أباهم واحد وأمهم واحدة وكان في ذلك أكبر زاجر عن التفاخر بالأنساب وتطاول بعض الناس على بعض ، بين تعالى أنه جعلهم شعوبا وقبائل لأجل أن يتعارفوا أي يعرف بعضهم بعضا ، ويتميز بعضهم عن بعض لا لأجل أن يفتخر بعضهم على بعض ويتطاول عليه .
وذلك يدل على أن كون بعضهم أفضل من بعض وأكرم منه إنما يكون بسبب آخر غير الأنساب .
وقد بين الله ذلك هنا بقوله : إن أكرمكم عند الله [ 49 \ 13 ] ، فاتضح من هذا أن الفضل والكرم إنما هو بتقوى الله لا بغيره من الانتساب إلى القبائل ، ولقد صدق من قال :
فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
وقد ذكروا أن سلمان رضي الله عنه كان يقول :
[ ص: 418 ]
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وهذه الآيات القرآنية ، تدل على أن دين الإسلام سماوي صحيح ، لا نظر فيه إلى الألوان ولا إلى العناصر ، ولا إلى الجهات ، وإنما المعتبر فيه تقوى الله - جل وعلا - وطاعته ، فأكرم الناس وأفضلهم أتقاهم لله ، ولا كرم ولا فضل لغير المتقي ، ولو كان رفيع النسب .
والشعوب جمع شعب ، وهو الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة .
فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن يجمع الأفخاذ ، والفخذ يجمع الفصائل .
خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة .
وسميت الشعوب ، لأن القبائل تتشعب منها . ا هـ .
ولم يذكر من هذه الست في القرآن إلا ثلاث : الشعوب ، والقبائل كما في هذه الآية ، والفصيلة في المعارج في قوله : وفصيلته التي تؤويه [ 70 \ 13 ] ، وقد قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات موضحا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
واعلم أن العرب قد تطلق بعض هذه الست على بعض كإطلاق البطن على القبيلة في قول الشاعر :
وإن كلابا هذه عشر أبطن وأنت بريء من قبائلها العشر
كما قدمناه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : ثلاثة قروء [ 2 \ 228 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (514)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
صـ 419 إلى صـ 426
قوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن هؤلاء الأعراب وهم أهل البادية من العرب [ ص: 419 ] قالوا آمنا ، وأن الله - جل وعلا - أمر نبيه أن يقول لهم : لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ، وهذا يدل على نفي الإيمان عنهم وثبوت الإسلام لهم .
وذلك يستلزم أن الإيمان أخص من الإسلام لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم .
وقد قدمنا مرارا أن مسمى الإيمان الشرعي الصحيح والإسلام الشرعي الصحيح - هو استسلام القلب بالاعتقاد واللسان بالإقرار ، والجوارح بالعمل ، فمؤداهما واحد كما يدل له قوله تعالى : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 35 - 36 ] .
وإذا كان ذلك كذلك فإنه يحتاج إلى بيان وجه الفرق بين الإيمان والإسلام في هذه الآية الكريمة ، لأن الله نفى عنهم الإيمان دون الإسلام ، ولذلك وجهان معروفان عند العلماء أظهرهما عندي أن الإيمان المنفي عنهم في هذه الآية هو مسماه الشرعي الصحيح ، والإسلام المثبت لهم فيها هو الإسلام اللغوي الذي هو الاستسلام والانقياد بالجوارح دون القلب .
وإنما ساغ إطلاق الحقيقة اللغوية هنا على الإسلام مع أن الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية على الصحيح ، لأن الشرع الكريم جاء باعتبار الظاهر . وأن توكل كل السرائر إلى الله .
فانقياد الجوارح في الظاهر بالعمل واللسان بالإقرار يكتفى به شرعا ، وإن كان القلب منطويا على الكفر .
ولهذا ساغ إرادة الحقيقة اللغوية في قوله : ولكن قولوا أسلمنا ; لأن انقياد اللسان والجوارح في الظاهر إسلام لغوي مكتفى به شرعا عن التنقيب عن القلب .
وكل انقياد واستسلام وإذعان يسمى إسلاما لغة . ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل العدوي مسلم الجاهلية :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما استوت شدها
جميعا وأرسى عليها الجبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له المزن تحمل عذبا زلالا إذا هي سيقت إلى بلدة
أطاعت فصبت عليها سجالا [ ص: 420 ] وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الريح تصرف حالا فحالا
فالمراد بالإسلام في هذه الأبيات : الاستسلام والانقياد ، وإذا حمل الإسلام في قوله : ولكن قولوا أسلمنا انقدنا واستسلمنا بالألسنة والجوارح . فلا إشكال في الآية .
وعلى هذا القول فالأعراب المذكورون منافقون ، لأنهم مسلمون في الظاهر ، وهم كفار في الباطن .
الوجه الثاني : أن المراد بنفي الإيمان في قوله : لم تؤمنوا نفي كمال الإيمان ، لا نفيه من أصله .
وعليه فلا إشكال أيضا ، لأنهم مسلمون مع أن إيمانهم غير تام ، وهذا لا إشكال فيه عند أهل السنة والجماعة القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص .
وإنما استظهرنا الوجه الأول ، وهو أن المراد بالإسلام معناه اللغوي دون الشرعي ، وأن الأعراب المذكورين كفار في الباطن وإن أسلموا في الظاهر ، لأن قوله - جل وعلا : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [ 49 \ 14 ] ، يدل على ذلك دلالة كما ترى ، لأن قوله : يدخل فعل في سياق النفي وهو من صيغ العموم كما أوضحناه مرارا ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود :
ونحو لا شربت أو إن شربا واتفقوا إن مصدر قد جلبا
فقوله : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم : في معنى لا دخول للإيمان في قلوبكم .
والذين قالوا بالثاني . قالوا : إن المراد بنفي دخوله نفي كماله ، والأول أظهر كما ترى .
وقوله تعالى : في هذه الآية الكريمة : قالت الأعراب : المراد به بعض الأعراب ، وقد استظهرنا أنهم منافقون لدلالة القرآن على ذلك ، وهم من جنس الأعراب الذين قال الله فيهم : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر [ 9 \ 98 ] ، وإنما قلنا : إن المراد بعض الأعراب في هذه الآية ، لأن الله بين في موضع آخر أن منهم من ليس كذلك ، وذلك في قوله تعالى : [ ص: 421 ] ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم [ 9 \ 99 ] .
قوله تعالى : قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم . لما قال هؤلاء الأعراب : آمنا ، وأمر الله نبيه أن يكذبهم في قوله : قل لم تؤمنوا وقوله : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم أمر نبيهم أن يقول لهم بصيغة الإنكار : أتعلمون الله بدينكم وذلك بادعائكم أنكم مؤمنون والله لا يخفى عليه شيء من حالكم ، وهو عالم بأنكم لم تؤمنوا وعالم بكل ما في السماوات والأرض ، وعالم بكل شيء .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تقبيح تزكية النفس بالكذب جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 \ 32 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله تعالى : إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] .
[ ص: 422 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ ق .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ .
الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ الْمَحْذُوفِ فِي سُورَةِ ص ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا .
وقوله تعالى هنا : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد . قد قدمنا في سورة ص أن من المقسم عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صادق وأن رسالته حق ، كما دل عليه قوله في ص : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] ، وقد دل على ذلك قوله هنا : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ، وقد قدمنا في " ص " أنه يدخل في المقسم عليه تكذيب الكفار في إنكارهم البعث ، ويدل عليه قوله هنا : فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ، والحاصل أن المقسم عليه في ص ، بقوله : والقرآن ذي الذكر [ 38 \ 1 ] ، وفي " ق " بقوله : والقرآن المجيد - محذوف وهو تكذيب الكفار في إنكارهم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنكارهم البعث ، وإنكارهم كون المعبود واحدا ، وقد بينا الآيات الدالة على ذلك في سورة ص ، وذكرنا هناك أن كون المقسم عليه في سورة ق هذه المحذوف يدخل فيه إنكارهم لرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وتكذيبهم في إنكارهم للبعث بدليل قوله : فقال الكافرون هذا شيء عجيب وبينا وجه إيضاح ذلك بالآيات المذكورة هناك وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج .
الهمزة في قوله : أفلم تتعلق بمحذوف ، والفاء عاطفة عليه ، كما قدمنا مرارا أنه أظهر الوجهين ، وأنه أشار إليه في الخلاصة بقوله :
[ ص: 423 ] وحذف متبوع بدا هنا استبح والتقدير : أأعرضوا عن آيات الله فلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج . أي ليس فيها من شقوق ولا تصدع ولا تفطر ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تعظيم شأن كيفية بنائه تعالى للسماء وتزيينه لها وكونها لا تصدع ولا شقوق فيها جاء كله موضحا في آيات أخر كقوله - جل وعلا - في بنائه للسماء : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها [ 79 \ 27 - 28 ] ، وقوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون [ 51 \ 47 ] ، وقوله تعالى : وبنينا فوقكم سبعا شدادا [ 78 \ 12 ] ، وقوله تعالى : الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] ، وقوله تعالى : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين [ 23 \ 17 ] ، وقوله تعالى في أول الرعد : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش [ 13 \ 2 ] ، وقوله تعالى في لقمان : خلق السماوات بغير عمد ترونها الآية [ 31 \ 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وكقوله تعالى في تزيينه للسماء ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين [ 67 \ 5 ] ، وقوله تعالى : وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا الآية [ 41 \ 12 ] ، وقوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب [ 37 \ 6 ] ، وقوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين [ 15 \ 6 ] ، وكقوله تعالى في حفظه للسماء من أن يكون فيها فروج أي شقوق : فارجع البصر هل ترى من فطور [ 67 \ 3 ] ، والفطور والفروج بمعنى واحد ، وهو الشقوق والصدوع . وقوله تعالى : وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون [ 21 \ 32 ] .
أما إذا كان يوم القيامة فإن السماء تتشقق وتتفطر ، وتكون فيها الفروج كما قال تعالى : ويوم تشقق السماء بالغمام [ 25 \ 25 ] ، وقال تعالى : فإذا انشقت السماء فكانت وردة [ 55 \ 37 ] ، وقال تعالى : فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء الآية [ 69 \ 16 ] ، وقال تعالى : إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت [ 84 \ 1 - 2 ] ، وقال تعالى : إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] ، وقال تعالى : يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به [ 73 \ 17 - 18 ] ، وقال تعالى : فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت [ 77 \ 8 - 9 ] .
[ ص: 424 ] قوله تعالى : والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه مد الأرض وألقى فيها الجبال الرواسي وأنبت فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ، وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله ، كقوله تعالى : وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين إلى قوله : لقوم يتفكرون ، وكقوله : خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه [ 31 \ 10 - 11 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كل زوج بهيج أي من كل صنف حسن من أصناف النبات ، وقوله : تبصرة أي قدرنا الأرض وألقينا فيها الرواسي وأنبتنا فيها أصناف النبات الحسنة لأجل أن نبصر عبادنا كمال قدرتنا على البعث وعلى كل شيء وعلى استحقاقنا للعبادة دون غيرنا .
قوله تعالى : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج .
قوله : كذلك الخروج ، معناه أن الله تبارك وتعالى : يبين أن إحياء الأرض بعد موتها بإنبات النبات فيها بعد انعدامه واضمحلاله - دليل على بعث الناس بعد الموت بعد كونهم ترابا وعظاما ، فقوله : كذلك الخروج يعني أن خروج الناس أحياء من قبورهم بعد الموت كخروج النبات من الأرض بعد عدمه ، بجامع استواء الجميع في أنه جاء بعد عدم ، وهذا أحد براهين البعث التي يكثر الاستدلال عليه بها في القرآن ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في صدر سورة البقرة وأول النحل وأول الجاثية ، وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : كل كذب الرسل فحق وعيد .
هذه الآية الكريمة تدل على أن من كذب الرسل يحق عليه العذاب ، أي يتحتم ويثبت في حقه ثبوتا لا يصح معه تخلفه عنه ، وهو دليل واضح على أن ما قاله بعض أهل [ ص: 425 ] العلم من أن الله يصح أن يخلف وعيده ، لأنه قال : إنه لا يخلف وعده ولم يقل إنه لا يخلف وعيده ، وأن إخلاف الوعيد حسن لا قبيح ، وإنما القبيح هو إخلاف الوعد ، وأن الشاعر قال :
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
لا يصح بحال ، لأن وعيده تعالى للكفار حق ووجب عليهم بتكذيبهم للرسل كما دل عليه قوله هنا : كل كذب الرسل فحق وعيد .
وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف العلة كقوله : سها فسجد ، أي لعلة سهوه وسرق فقطعت يده ، أي لعلة سرقته ، ومنه قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، فتكذيبهم الرسل علة صحيحة لكون الوعيد بالعذاب حق ووجب عليهم ، فدعوى جواز تخلفه باطلة بلا شك ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، والتحقيق : أن المراد بالقول الذي لا يبدل لديه هو الوعيد الذي قدم به إليهم .
وقوله تعالى في سورة " ص " إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] ، وبهذا تعلم أن الوعيد الذي لا يمتنع إخلافه هو وعيد عصاة المسلمين بتعذيبهم على كبائر الذنوب ، لأن الله تعالى أوضح ذلك في قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] ، وهذا في الحقيقة تجاوز من الله عن ذنوب عباده المؤمنين العاصين ، ولا إشكال في ذلك ، وقد أوضحنا هذا في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله [ 6 \ 128 ] .
قوله تعالى : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد .
هذه الآية الكريمة من براهين البعث ، لأن من لم يعي بخلق الناس ولم يعجز عن إيجادهم الأول لا شك في قدرته على إعادتهم وخلقهم مرة أخرى ; لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من البدء . والآيات الدالة على هذا كثيرة جدا ، كقوله تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، وقوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] ، [ ص: 426 ] وقوله : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وقد أوضحنا الآيات الدالة على براهين البعث التي يكثر الاستدلال عليه بها في القرآن ، كخلق الناس أولا ، وخلق السماوات والأرض وما فيهما وإحياء الأرض بعد موتها ، وغير ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في البقرة والنحل والحج والجاثية وغير ذلك ، وأحلنا على ذلك مرارا كثيرة .
قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] .
قوله تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .
قوله إذ : منصوب بقوله : أقرب ، أي نحن أقرب إليه من حبل الوريد في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان جميع ما يصدر منه ، والمراد أن الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد في وقت كتابة الحفظة أعماله لا حاجة له لكتب الأعمال ، لأنه عالم بها ، لا يخفى عليه منها شيء ، وإنما أمر بكتابة الحفظة للأعمال لحكم أخرى كإقامة الحجة على العبد يوم القيامة ، كما أوضحه بقوله : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، ومفعول التلقي في الفعل الذي هو يتلقى ، والوصف الذي هو المتلقيان محذوف تقديره : إذ يتلقى المتلقيان جميع ما يصدر عن الإنسان فيكتبانه عليه .
قال الزمخشري : والتلقي التلقن بالحفظ والكتابة ا هـ منه ، والمعنى واضح لأن الملك يتلقى عمل الإنسان عند صدوره منه فيكتبه عليه ، والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان ، وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه ومقعد الآخر عن شماله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (515)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .
صـ 427 إلى صـ 434
[ ص: 427 ] والقعيد : قال بعضهم : معناه القاعد ، والأظهر أن معناه المقاعد ، وقد يكثر في العربية إطلاق الفعيل وإرادة المفاعل ، كالجليس بمعنى المجالس ، والأكيل بمعنى المآكل ، والنديم بمعنى المنادم ، وقال بعضهم : القعيد هنا هو الملازم ، وكل ملازم دائما أو غالبا يقال له قعيد ، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي :
قعيدك ألا تسمعيني ملامة ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا والمعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، وهو أسلوب عربي معروف ، وأنشد له سيبويه في كتابه قول عمرو بن أحمر الباهلي :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني
وقول قيس بن الخطيم الأنصاري :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
وقول ضابئ بن الحارث البرجمي :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
فقول ابن أحمر : كنت منه ووالدي بريئا أي كنت بريئا منه وكان والدي بريئا منه .
وقول ابن الخطيم : نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض : أي نحن راضون وأنت راض .
وقول ضابئ بن الحارث : فإني وقيار بها لغريب : يعني : إني لغريب وقيار غريب ، وهذا أسلوب عربي معروف ، ودعوى أن قوله في الآية : قعيد هي الأولى أخرت وحذفت الثانية لدلالتها عليها لا دليل عليه ، ولا حاجة إليه كما ترى ، لأن المحذوف إذا صحت الدلالة عليه بالأخير فلا حاجة إلى أن هذا الأخير أصله هو الأول ، ولا دليل عليه .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما يلفظ من قول ، أي ما ينطق بنطق ولا يتكلم بكلام إلا لديه ، أي إلا والحال أن عنده رقيبا ، أي ملكا مراقبا لأعماله حافظا لها شاهدا عليها لا يفوته منها شيء . عتيد : أي حاضر ليس بغائب يكتب عليه ما يقول من خير وشر ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإنسان عليه حفظة من الملائكة [ ص: 428 ] يكتبون أعماله ، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله . كقوله تعالى : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 - 12 ] ، وقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] ، وقوله تعالى : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 28 - 29 ]
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : كلا سنكتب ما يقول الآية [ 19 \ 79 ]
وفي سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : ستكتب شهادتهم ويسألون [ 43 \ 19 ] ، وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن القعيد الذي هو عن اليمين يكتب الحسنات ، والذي عن الشمال يكتب السيئات ، وأن صاحب الحسنات أمين على صاحب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : أمهله ولا تكتبها عليه لعله يتوب أو يستغفر ؟ وبعضهم يقول : يمهله سبع ساعات . والعلم عند الله تعالى .
تنبيه :
اعلم أن العلماء اختلفوا في عمل العبد الجائز الذي لا ثواب ولا عقاب عليه ، هل تكتبه الحفظة عليه أو لا ؟ فقال بعضهم : يكتب عليه كل شيء حتى الأنين في المرض ، وهذا هو ظاهر قوله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] ; لأن قوله : " من قول " نكرة في سياق النفي زيدت قبلها لفظة " من " ، فهي نص صريح في العموم .
وقال بعض العلماء : لا يكتب من الأعمال إلا ما فيه ثواب أو عقاب ، وكلهم مجمعون على أنه لا جزاء إلا فيما فيه ثواب أو عقاب فالذين يقولون : لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب ، والذين يقولون : يكتب الجميع - متفقون على إسقاط ما لا ثواب فيه ولا عقاب ، إلا أن بعضهم يقولون : لا يكتب أصلا ، وبعضهم يقولون : يكتب أولا ، ثم يمحى . وزعم بعضهم أن محو ذلك ، وإثبات ما فيه ثواب أو عقاب هو معنى قوله تعالى : [ ص: 429 ] يمحوا الله ما يشاء ويثبت الآية [ 13 \ 39 ] .
والذين قالوا : لا يكتب ما لا جزاء فيه . قالوا : إن في الآية نعتا محذوفا سوغ حذفه العلم به ، لأن كل الناس يعلمون أن الجائز لا ثواب فيه ولا عقاب ، وتقدير النعت المحذوف : ما يلفظ من قول مستوجب للجزاء ، وقد قدمنا أن حذف النعت إذا دل عليه - أسلوب عربي معروف ، وقدمنا أن منه قوله تعالى : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] ، أي كل سفينة صحيحة لا عيب فيها بدليل قوله : فأردت أن أعيبها [ 18 \ 79 ] ، وقوله تعالى : وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة [ 17 \ 58 ] ، أي قرية ظالمة بدليل قوله تعالى : وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [ 28 \ 59 ] ، وإن من شواهده قول المرقش الأكبر :
ورب أسيلة الخدين بكر مهفهفة لها فرع وجيد
أي لها فرع فاحم وجيد طويل . وقول عبيد بن الأبرص :
من قوله قول ومن فعله فعل ومن نائله نائل
أي قول فصل ، وفعل جميل ، ونائل جزل .
قوله تعالى : لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى : بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون [ 27 \ 66 ] .
قوله تعالى : يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد .
قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع وشعبة عن عاصم يوم نقول بالنون الدالة على العظمة . وقرأه نافع وشعبة " يوم يقول " بالياء ، وعلى قراءتهما فالفاعل ضمير يعود إلى الله ، واعلم أن الاستفهام في قوله : هل من مزيد فيه للعلماء قولان معروفان : الأول : أن الاستفهام إنكاري كقوله تعالى : هل يهلك إلا القوم الظالمون [ 6 \ 47 ] ، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون ، وعلى هذا فمعنى هل من مزيد لا محل للزيادة لشدة امتلاء النار ، واستدل بعضهم لهذا الوجه بآيات من كتاب الله كقوله تعالى : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 430 ] وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] ، قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ 38 \ 84 - 85 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " يس " في الكلام على قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم [ 36 \ 7 ] ، لأن إقسامه تعالى في هذه الآية المدلول عليه بلام التوطئة في " لأملأن " على أنه يملأ جهنم من الجنة والناس - دليل على أنها لا بد أن تمتلئ ، ولذا قالوا : إن معنى هل من مزيد لا مزيد ، لأني قد امتلأت فليس في محل للمزيد .
وأما القول الآخر ، فهو أن المراد بالاستفهام في قول النار : هل من مزيد ؟ هو طلبها للزيادة ، وأنها لا تزال كذلك حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قط قط أي كفاني قد امتلأت ، وهذا الأخير هو الأصح ، ولما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " إن جهنم لا تزال تقول : هل من مزيد ، حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط " ، لأن في هذا الحديث المتفق عليه التصريح بقولها : قط قط ، أي كفاني قد امتلأت ، وأن قولها قبل ذلك : هل من مزيد لطلب الزيادة ، وهذا الحديث الصحيح من أحاديث الصفات ، وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة الأعراف والقتال . واعلم أن قول النار في هذه الآية : هل من مزيد - قول حقيقي ينطقها الله به ، فزعم بعض أهل العلم أنه كقول الحوض :
امتلأ الحوض فقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني
وإن المراد بقولها ذلك هو ما يفهم من حالها خلاف التحقيق ، وقد أوضحنا ذلك بأدلته في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا [ 25 \ 12 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد .
قوله : " أزلفت " أي قربت ، وقوله : " غير بعيد " فيه معنى التوكيد لقوله : " أزلفت " سواء أعربت " غير بعيد " بأنها حال أو ظرف ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من إزلاف الجنة للمتقين جاء في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى : وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت [ 81 \ 12 - 13 ] ، وقوله تعالى : وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين [ 26 \ 90 - 91 ] .
[ ص: 431 ] قال البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآية : غير بعيد ينظرون إليها قبل أن يدخلوها .
قوله تعالى : لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد . قوله : لهم ما يشاءون فيها قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولدينا مزيد . قال بعض العلماء : المزيد النظر إلى وجه الله الكريم ، ويستأنس لذلك بقوله تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، لأن الحسنى الجنة ، والزيادة النظر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين [ 43 \ 8 ] .
قوله تعالى : ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام [ 7 \ 54 ] ، وبينا هناك أن الله أوضح ذلك في فصلت في قوله تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين - إلى قوله : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 9 - 12 ] ، وأوضحنا ذلك في سورة فصلت .
واللغوب : التعب والإعياء من العمل .
قوله تعالى : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ما يقوله الكفار والتسبيح بحمده - جل وعلا - أطراف النهار ، قد ذكره الله في غير هذا الموضع كقوله تعالى [ ص: 432 ] في أخريات طه : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى [ 20 \ 130 ] ، وأمره له بالتسبيح بعد أمره له بالصبر على أذى الكفار فيه - دليل على أن التسبيح يعينه الله به على الصبر المأمور به ، والصلاة داخلة في التسبيح المذكور كما قدمنا إيضاح ذلك ، وذكرنا فيه حديث نعيم بن همار في آخر الحجر في الكلام على قوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين [ 15 \ 97 - 98 ] ، وبينا هنالك أن الله أمر بالاستعانة بالصبر وبالصلاة كما قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة الآية [ 2 \ 45 ] .
قوله تعالى : يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج .
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " يس " في الكلام على قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] .
قوله تعالى : يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير .
قرأ هذا الحرف نافع ، وابن كثير ، وابن عامر : " تشقق " بتشديد الشين بإدغام إحدى التاءين فيها ، وقرأ الباقون بتخفيف الشين لحذف إحدى التاءين ، وقوله تعالى : سراعا : جمع سريع ، وهو حال من الضمير المجرور في قوله : عنهم أي تشقق الأرض عنهم في حال كونهم مسرعين إلى الداعي وهو الملك الذي ينفخ في الصور ، ويدعو الناس إلى الحساب والجزاء ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الناس يوم البعث يخرجون من قبورهم مسرعين إلى المحشر قاصدين نحو الداعي ، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ 70 \ 43 ] ، وقوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] ، وقوله : ينسلون أي يسرعون ، وقوله تعالى : يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي الآية [ 54 \ 7 - 8 ] ، فقوله : مهطعين : أي مسرعين مادي أعناقهم على الأصح ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " يس " في الكلام على قوله : فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] .
[ ص: 433 ] قوله تعالى : وما أنت عليهم بجبار .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 \ 99 ] .
قوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة [ 35 \ 18 ] .
[ ص: 434 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَا تِ أَمْرًا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ .
أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذَّارِيَاتِ الرِّيَاحُ ، وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الذَّرْوَ صِفَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ صِفَاتِ الرِّيَاحِ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [ 18 \ 45 ] ، وَمَعْنَى تَذْرُوهُ : تَرْفَعُهُ وَتُفَرِّقُهُ ، فَهِيَ تَذْرُو التُّرَابَ وَالْمَطَرَ وَغَيْرَهُمَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ :
وَمَنْهَلٍ آجِنٍ قَفْرٍ مَحَاضِرُهُ تَذْرُو الرِّيَاحُ عَلَى جَمَّاتِهِ الْبَعَرَا
وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّ الذَّارِيَاتِ النِّسَاءُ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَامِلَاتِ وِقْرًا : السَّحَابُ ، أَيِ الْمُزْنُ تَحْمِلُ وِقْرًا ثِقَلًا مِنَ الْمَاءِ .
وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ تَصْرِيحُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - بِوَصْفِ السَّحَابِ بِالثِّقَالِ ، وَهُوَ جَمْعُ ثَقِيلَةٍ ، وَذَلِكَ لِثِقَلِ السَّحَابَةِ بِوَقْرِ الْمَاءِ الَّذِي تَحْمِلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [ 13 \ 12 ] ، وَهُوَ جَمْعُ سَحَابَةٍ ثَقِيلَةٍ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [ 7 \ 57 ] .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُرَادُ بِالْحَامِلَاتِ وِقْرًا : السُّفُنُ تَحْمِلُ الْأَثْقَالَ مِنَ النَّاسِ وَأَمْتِعَتِهُم ْ ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إِنَّ " الْحَامِلَاتِ وِقْرًا " الرِّيَاحُ أَيْضًا كَانَ وَجْهُهُ ظَاهِرًا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (516)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .
صـ 435 إلى صـ 442
وَدَلَالَةُ بَعْضِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ وَاضِحَةٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ الرِّيَاحَ تَحْمِلُ السَّحَابَ الثِّقَالَ بِالْمَاءِ ، وَإِذَا كَانَتِ الرِّيَاحُ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُ السَّحَابَ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ، فَنِسْبَةُ حَمْلِ ذَلِكَ الْوِقْرِ إِلَيْهَا أَظْهَرُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى السَّحَابِ الَّتِي هِيَ مَحْمُولَةٌ لِلرِّيَاحِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ [ ص: 435 ] تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [ 7 \ 57 ] .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا ، أَيْ حَتَّى إِذَا حَمَلَتِ الرِّيَاحُ سَحَابًا ثِقَالًا ، فَالْإِقْلَالُ الْحَمْلُ ، وَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَى الرِّيحِ . وَدَلَالَةُ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَامِلَاتِ وِقْرًا هِيَ الرِّيَاحُ - ظَاهِرَةٌ كَمَا تَرَى ، وَيَصِحُّ شُمُولُ الْآيَةِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّهُ هُوَ الْأَجْوَدُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، وَبَيَّنَّا كَلَامَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِيهِ ، وَكَلَامَهُمْ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ وَغَيْرِهَا .
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَامِلَاتِ وِقْرًا : هِيَ حَوَامِلُ الْأَجِنَّةِ مِنَ الْإِنَاثِ - ظَاهِرُ السُّقُوطِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَارِيَاتِ يُسْرًا : السُّفُنُ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ يُسْرًا ، أَيْ : جَرْيًا ذَا يُسْرٍ أَيْ سُهُولَةٍ .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ الْمُنَكَّرَ حَالٌ كَمَا قَدَّمْنَا نَحْوَهُ مِرَارًا : أَيْ فَالْجَارِيَاتِ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُيَسَّرَةً مُسَخَّرًا لَهَا الْبَحْرٌ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ كَثْرَةُ إِطْلَاقِ الْوَصْفِ بِالْجَرْيِ عَلَى السُّفُنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ [ 42 \ 32 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [ 69 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [ 22 \ 65 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ [ 45 \ 12 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقِيلَ : الْجَارِيَاتُ الرِّيَاحُ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَالْمُقَسِّمَا تِ أَمْرًا : هِيَ الْمَلَائِكَةُ يُرْسِلُهَا اللَّهُ فِي شُئُونٍ وَأُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالْمُقَسِّمَا تِ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَالْمُدَبِّرَا تِ أَمْرًا [ 79 \ 5 ] ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِتَسْخِيرِ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِكِتَابَةِ الْأَعْمَالِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لَقَبْضِ الْأَرْوَاحِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِإِهْلَاكِ الْأُمَمِ ، كَمَا وَقَعَ لِقَوْمِ صَالِحٍ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَوْلَهُ : " أَمْرًا " مَفْعُولٌ بِهِ لِلْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْمُقَسِّمَاتُ ، وَهُوَ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَمْثِلَةَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ تَنْكِيرِ الْمُفْرَدِ كَمَا [ ص: 436 ] هُنَا ، وَتَعْرِيفِهِ وَإِضَافَتِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [ 22 \ 5 ] ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ هُوَ قَوْلُهُ : إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ، وَالْمُوجِبُ لِهَذَا التَّوْكِيدِ هُوَ شِدَّةُ إِنْكَارِ الْكُفَّارِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ .
وَقَوْلُهُ : إِنَّمَا تُوعَدُونَ " مَا " فِيهِ مَوْصُولَةٌ ، وَالْعَائِدُ إِلَى الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ ، وَالْوَصْفُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ، أَيْ : إِنَّ الَّذِي تُوعَدُونَهُ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ لَصِدْقٌ لَا كَذِبَ فِيهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ ، أَيْ إِنَّ الْوَعْدَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ لَصَادِقٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ صِيغَةَ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي " لَصَادِقٌ " بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ ، أَيْ إِنَّ الْوَعْدَ أَوِ الْمَوْعُودَ بِهِ لَمَصْدُوقٌ فِيهِ لَا مَكْذُوبٌ بِهِ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [ 69 \ 21 ] ، أَيْ مَرْضِيَّةٍ . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ صِدْقِ مَا يُوعَدُونَهُ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [ 3 \ 9 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [ 6 \ 134 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [ 56 \ 3 ] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .
وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا الْجَزَاءُ ، أَيْ وَإِنَّ الْجَزَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [ 24 \ 25 ] ، أَيْ جَزَاءَهُمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى [ 53 \ 40 - 41 ] .
وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْ كَوْنِهِ خَلَقَ الْخَلْقَ لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ ظَنُّ الْكُفَّارِ ، وَهَدَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ السَّيِّئِ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ ، قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ ظَنَّ عَدَمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ، وَمُنَزِّهًا نَفْسَهُ عَنِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ عَبَثًا لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ : أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [ 23 \ 115 - 116 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ 38 \ 27 ] ، فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ " ص " هَذِهِ : بَاطِلًا أَيْ عَبَثًا لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ .
قوله تعالى : والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك .
[ ص: 437 ] قوله تعالى : ذات الحبك فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضا ، فذهب بعض أهل العلم ، إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك ، وعليه فالمعنى ذات الحبك أي ذات الطرائق ، فما يبدو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح هو الحبك ، وهو جمع حبيكة أو حباك ، قالوا : ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك ، ومن هذا المعنى قول زهير :
مكلل بأصول النجم تنسجه ريح خريق بضاحي مائة حبك
وقول الراجز :
كأنما جللها الحواك طنفسة في وشيها حباك
وممن نقل عنه هذا القول الكلبي والضحاك .
وقال بعض أهل العلم : " ذات الحبك " أي ذات الخلق الحسن المحكم ، وممن قال به - ابن عباس وعكرمة وقتادة .
وهذا الوجه يدل عليه قوله تعالى : الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ 67 \ 3 - 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وعلى هذا القول فالحبك مصدر ، لأن كل عمل أتقنه عامله وأحسن صنعه ، تقول فيه العرب : حبكه حبكا بالفتح على القياس . والحبك بضمتين بمعناه .
وقال بعض العلماء : ذات الحبك : أي الزينة .
وممن روي عنه هذا سعيد بن جبير والحسن ، وعلى هذا القول فالآية كقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح [ 67 \ 5 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في " ق " في الكلام على قوله : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها [ 50 \ 6 ] .
وقال بعض العلماء : ذات الحبك أي ذات الشدة ، وهذا القول يدل له قوله تعالى : وبنينا فوقكم سبعا شدادا [ 78 \ 12 ] .
[ ص: 438 ] والعرب تسمي شدة الخلق حبكا ، ومنه قيل للفرس الشديد الخلق : محبوك .
ومنه قول امرئ القيس :
قد غدا يحملني في أنفه لاحق الإطلين محبوك ممر
والآية تشمل الجميع ، فكل الأقوال حق ، والمقسم عليه في هذه الآية هو قوله تعالى : إنكم لفي قول مختلف ، أي إنكم أيها الكفار لفي قول مختلف في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وشأن القرآن ، لأن بعضهم يقول : هو شعر ، وبعضهم يقول : سحر ، وبعضهم يقول : كهانة ، وبعضهم يقول : أساطير الأولين ، وقول من قال في قول مختلف أي لأن بعضهم مصدق ، وبعضهم مكذب - خلاف التحقيق .
ويدل على أن الاختلاف إنما هو بين المكذبين دون المصدقين - قوله تعالى في ق : بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج [ 50 \ 5 ] ، أي مختلط ، وقال بعضهم : مختلف ، والمعنى واحد .
وقوله تعالى : يؤفك عنه من أفك أظهر الأقوال فيه عندي ولا ينبغي العدول عنه في نظري ، أن لفظة " عن " في الآية سببية كقوله تعالى : وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك [ 11 \ 53 ] ، أي بسبب قولك ، ومن أجله ، والضمير المجرور بـ " عن " راجع إلى القول المختلف ، والمعنى : " يؤفك " أي يصرف عن الإيمان بالله ورسوله . " عنه " أي عن ذلك القول المختلف أي بسببه . " من أفك " أي من سبقت له الشقاوة في الأزل ، فحرم الهدى وأفك عنه ، لأن هذا القول المختلف يكذب بعضه بعضا ويناقضه .
ومن أوضح الأدلة على كذب القول وبطلانه اختلافه وتناقضه كما لا يخفى ، فهذا القول المختلف الذي يحاول كفار مكة أن يصدوا به الناس عن الإسلام ، الذي يقول فيه بعضهم : إن الرسول ساحر ، وبعضهم يقول شاعر ، وبعضهم يقول : كذاب - ظاهر البطلان لتناقضه وتكذيب بعضه لبعض ، فلا يصرف عن الإسلام بسببه إلا من صرف ، أي صرفه الله عن الحق لشقاوته في الأزل فمن لم يكتب عليه في سابق علم الله الشقاوة والكفر لا يصرفه عن الحق قول ظاهر الكذب والبطلان لتناقضه .
وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صالي الجحيم [ 37 \ 161 - 163 ] .
[ ص: 439 ] ومعنى هذه الآية أن دين الكفار ، الذي هو الشرك بالله وعبادة الأوثان ، مع حرصهم على صد الناس عن دين الإسلام إليه " ما هم بفاتنين " أي ليسوا بمضلين عليه أحدا لظهور فساده وبطلانه " إلا من هو صال الجحيم " أي إلا من قدر الله عليه الشقاوة وأنه من أهل النار في سابق علمه ، هذا هو الظاهر لنا في معنى هذه الآية الكريمة .
وأكثر المفسرين على أن الضمير في قوله : يؤفك عنه راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو القرآن ، أي يصرف عن الإيمان بالنبي أو القرآن ، من أفك أي صرف عن الحق ، وحرم الهدى لشدة ظهور الحق في صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن القرآن منزل من الله ، وهذا خلاف ظاهر السياق كما ترى .
وقول من قال : يؤفك عنه ، أي يصرف عن القول المختلف الباطل من أفك ، أي من صرف عن الباطل إلى الحق لا يخفى بعده وسقوطه .
والذين قالوا هذا القول يزعمون أن الإفك يطلق على الصرف عن الحق إلى الباطل ، وعن الباطل إلى الحق ، ويبعد هذا أن القرآن لم يرد فيه الإفك مراد به إلا الصرف عن الخير إلى الشر دون عكسه .
قوله تعالى : إن المتقين في جنات وعيون .
لا يخفى على من عنده علم بأصول الفقه أن هذه الآية الكريمة فيها الدلالة المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإيماء والتنبيه على أن سبب نيل هذه الجنات والعيون هو تقوى الله ، والسبب الشرعي هو العلة الشرعية على الأصح . وكون التقوى سبب دخول الجنات الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] .
قوله تعالى : وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الجاثية .
قوله تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون .
[ ص: 440 ] اختلف العلماء في المراد بكون رزق الناس في السماء ، فذهبت جماعة من أهل العلم أن المراد أن جميع أرزاقهم منشؤها من المطر وهو نازل من السماء ، ويكثر في القرآن إطلاق اسم الرزق على المطر لهذا المعنى ، كقوله تعالى : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] .
وقوله تعالى : واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق [ 45 \ 5 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة المؤمن .
وإنزاله تعالى الرزق من السماء بإنزال المطر من أعظم آياته الدالة على عظمته وأنه المعبود وحده ، ومن أعظم نعمه على خلقه في الدنيا ، ولذلك كثر الامتنان به في القرآن على الخلق .
وقال بعض أهل العلم : معنى قوله : وفي السماء رزقكم أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة ، والله - جل وعلا - يدبر أمر الأرض من السماء ، كما قال تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه الآية [ 32 \ 5 ] ، وقوله تعالى : وما توعدون " ما " في محل رفع ، عطف على قوله : رزقكم ، والمراد بما يوعدون ، قال بعض أهل العلم : الجنة ، لأن الجنة فوق السماوات ، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح ، لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك كما قيل :
وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر ولما حكى النابغة الجعدي شعره المشهور ، قال فيه : بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال له - صلى الله عليه وسلم : " إلى أين يا أبا ليلى . قال : إلى الجنة ، قال : نعم إن شاء الله " .
وقال بعض أهل العلم : وما توعدون من الخير والشر كله مقدر في السماء ، كما بيناه في القول الثاني في المراد بالرزق في الآية ، وهذا المعنى فيما يوعدون به أنسب لهذا القول الثاني في معنى الرزق .
وقد وردت قصص تدل على أنه هو الذي يتبادر إلى ذهن السامع ، فمن ذلك ما ذكره غير واحد عن سفيان الثوري أنه قال : قرأ واصل الأحدب هذه الآية وفي السماء رزقكم وما توعدون [ ص: 441 ] فقال : ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض ، فدخل خربة يمكث ثلاثا لا يصيب شيئا ، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب ، وكان له أخ أحسن منه نية ، فدخل معه فصارتا دوخلتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت .
ومن ذلك أيضا : ما ذكره الزمخشري في تفسير هذه الآية ، قال : وعن الأصمعي ، قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له ، فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال : اتل علي ، فتلوت : والذاريات ، فلما بلغت قوله تعالى : وفي السماء رزقكم قال : حسبك ، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر ، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت ، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح ، وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [ 51 \ 23 ] ، فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين ، قائلا ثلاثا ، وخرجت معها نفسه . انتهى .
قوله تعالى : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما .
إلى آخر القصة ، قد قدمنا إيضاحه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : ونبئهم عن ضيف إبراهيم [ 15 \ 51 ] ، وفي سورة هود في القصة المذكورة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم .
قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا الآية [ 41 \ 16 ] .
[ ص: 442 ] قوله تعالى : فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون [ 41 \ 7 ] .
قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " ق " في الكلام على قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها الآية [ 50 \ 6 ] .
تنبيه :
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بنيناها بأيد ، ليس من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم ، لأن قوله : بأيد ليس جمع يد : وإنما الأيد القوة ، فوزن قوله هنا بأيد فعل ، ووزن الأيدي أفعل ، فالهمزة في قوله : بأيد في مكان الفاء ، والياء في مكان العين ، والدال في مكان اللام ، ولو كان قوله تعالى : بأيد جمع يد لكان وزنه أفعلا ، فتكون الهمزة زائدة والياء في مكان الفاء ، والدال في مكان العين ، والياء المحذوفة لكونه منقوصا هي اللام .
والأيد ، والآد في لغة العرب بمعنى القوة ، ورجل أيد قوي ، ومنه قوله تعالى : وأيدناه بروح القدس [ 2 \ 87 ] ، أي قويناه به ، فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط غلطا فاحشا ، والمعنى : والسماء بنيناها بقوة .
قوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ما أتى نبي قوما إلا قالوا ساحر أو مجنون ، ثم قال : أتواصوا به ، ثم أضرب عن تواصيهم بذلك إضراب إبطال ، لأنهم لم يجمعوا في زمن حتى يتواصوا فقال : بل هم قوم طاغون أي الموجب الذي جمعهم على اتفاقهم جميعا على تكذيب الرسل ونسبتهم للسحر والجنون هو اتحاد في الطغيان الذي هو مجاوزة الحد في الكفر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (517)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .
صـ 443 إلى صـ 450
[ ص: 443 ] وهذا يدل على أنهم إنما اتفقوا ، لأن قلوب بعضهم تشبه قلوب بعض في الكفر والطغيان ، فتشابهت مقالاتهم للرسل لأجل تشابه قلوبهم .
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة البقرة : كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [ 2 \ 118 ] .
قوله تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم .
نفيه - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة للوم عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - يدل على أنه أدى الأمانة ونصح للأمة .
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] ، وقوله تعالى : فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [ 13 \ 40 ] ، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة معلومة .
قوله تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين .
قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يجعل الله شيئا لحكم متعددة فيذكر بعض حكمه في بعض المواضع ، فإنا نذكر بقية حكمه ، والآيات الدالة عليها ، وقد قدمنا أمثلة ذلك .
ومن ذلك القبيل هذه الآية الكريمة ، فإنها تضمنت واحدة من حكم التذكير وهي رجاء انتفاع المذكر به ، لأنه تعالى قال هنا : وذكر ، ورتب عليه قوله : فإن الذكرى تنفع المؤمنين .
ومن حكم ذلك أيضا خروج المذكر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد جمع الله هاتين الحكمتين في قوله : قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [ 7 \ 134 ] .
ومن حكم ذلك أيضا النيابة عن الرسل في إقامة حجة الله على خلقه في أرضه ; لأن الله تعالى يقول : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .
[ ص: 444 ] وقد بين هذه الحجة في آخر " طه " في قوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك [ 20 \ 134 ] .
وأشار لها في القصص في قوله : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] .
وقد قدمنا هذه الحكم في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] .
قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
اختلف العلماء في معنى قوله : ليعبدون ، فقال بعضهم : المعنى ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء ، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم كما يدل عليه قوله تعالى : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] ، وهذا القول نقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان .
وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق فيها المجموع وأراد بعضهم .
وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، ومن أوضحها قراءة حمزة والكسائي : " فإن قتلوكم فاقتلوهم " ، من القتل لا من القتال ، وقد بينا هذا في مواضع متعددة ، وذكرنا أن من شواهده العربية قول الشاعر :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا من يدي ورقاء عن رأس خالد
فتراه نسب الضرب لبني عبس مع تصريحه أن الضارب الذي نبا بيده السيف عن رأس خالد يعني ابن جعفر الكلابي ، هو ورقاء يعني ابن زهير العبسي .
وقد قدمنا في الحجرات أن من ذلك قوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا [ 49 \ 147 ] ، بدليل قوله : ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر إلى قوله : سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم [ 9 \ 99 ] .
وقال بعض العلماء : معنى قوله : إلا ليعبدون : أي " إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا [ ص: 445 ] أو كرها " ، لأن المؤمن يطيع باختياره والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبرا عليه ، وهذا القول رواه ابن جرير عن ابن عباس واختاره ، ويدل له قوله تعالى : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها [ 13 \ 15 ] ، والسجود والعبادة كلاهما خضوع وتذلل لله - جل وعلا - وقد دلت الآية على أن بعضهم يفعل ذلك طوعا وبعضهم يفعله كرها .
وعن مجاهد أنه قال : إلا ليعبدون : أي إلا ليعرفوني . واستدل بعضهم لهذا القول بقوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] ، ونحو ذلك من الآيات وهو كثير في القرآن ، وقد أوضحنا كثرته فيه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
وقال بعض أهل العلم : وهو مروي عن مجاهد أيضا معنى قوله : إلا ليعبدون : أي إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره ، وعلى هذا القول : فإرادة عبادتهم المدلول عليها باللام في قوله : ليعبدون - إرادة دينية شرعية وهي الملازمة للأمر ، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل لطاعة الله ، لا إرادة كونية قدرية ، لأنها لو كانت كذلك لعبده جميع الإنس والجن ، والواقع خلاف ذلك بدليل قوله تعالى : قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد إلى آخر السورة .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق - إن شاء الله - في معنى هذه الآية الكريمة إلا ليعبدون ، أي إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم أي أختبرهم بالتكاليف ، ثم أجازيهم على أعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية ، لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله ، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملا ، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم .
قال تعالى في أول سورة هود : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء [ 11 \ 7 ] ، ثم بين الحكمة في ذلك فقال : ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 11 \ 7 ] .
[ ص: 446 ] وقال تعالى في أول سورة الملك : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] .
وقال تعالى في أول سورة الكهف : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] .
فتصريحه - جل وعلا - في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق ، هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملا ، يفسر قوله : ليعبدون . وخير ما يفسر به القرآن - القرآن .
ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولا وبعثهم ثانيا ، هو جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وذلك في قوله تعالى في أول يونس : إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 10 \ 4 ] ، وقوله في النجم : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] .
وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يترك سدى ، أي مهملا ، لم يؤمر ولم ينه ، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت أي ويجازيه على عمله ، قال تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى إلى قوله : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] .
والبراهين على البعث دالة على الجزاء ، وقد نزه تعالى نفسه عن هذا الظن الذي ظنه الكفار به تعالى ، وهو أنه لا يبعث الخلق ولا يجازيهم منكرا ذلك عليهم في قوله : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى [ 46 \ 3 ] .
تنبيه :
اعلم أن الآيات الدالة على حكمة خلق الله للسماوات والأرض وأهلهما وما بينهما [ ص: 447 ] قد يظن غير المتأمل أن بينهما اختلافا ، والواقع خلاف ذلك ; لأن كلام الله لا يخالف بعضه بعضا ، وإيضاح ذلك أن الله تبارك وتعالى ذكر في بعض الآيات أن حكمة خلقه للسماوات والأرض هي إعلام خلقه بأنه قادر على كل شيء ، وأنه محيط بكل شيء علما ، وذلك في قوله تعالى في آخر الطلاق : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ 65 \ 12 ] .
وذكر في مواضع كثيرة من كتابه أنه خلق الخلق ليبين للناس كونه هو المعبود وحده ، كقوله تعالى : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [ 2 \ 163 ] ، ثم أقام البرهان على أنه إله واحد بقوله بعده : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] ، ولما قال : ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] ، بين أن خلقهم برهان على أنه المعبود وحده بقوله بعده : الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية [ 2 \ 21 ] .
والاستدلال على أن المعبود واحد بكونه هو الخالق - كثير جدا في القرآن ، وقد أوضحنا الآيات الدالة عليه في أول سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا الآية [ 25 \ 2 - 3 ] ، وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
وذكر في بعض الآيات أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي الناس ، وذلك في قوله : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 11 \ 7 ] .
وذكر في بعض الآيات أنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم وذلك في قوله : إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط الآية [ 10 \ 4 ] ، وذكر في آية الذاريات هذه أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه ، فقد يظن غير العالم أن بين هذه الآيات اختلافا مع أنها لا اختلاف بينها ، لأن الحكم المذكور فيها كلها راجع إلى شيء واحد ، وهو معرفة الله وطاعته ومعرفة وعده ووعيده ، فقوله : لتعلموا أن الله على كل شيء قدير [ 65 \ 12 ] ، [ ص: 448 ] وقوله : اعبدوا ربكم الذي خلقكم [ 2 \ 21 ] راجع إلى شيء واحد هو العلم بالله ، لأن من عرف الله أطاعه ووحده .
وهذا العلم يعلمهم الله إياه ويرسل لهم الرسل بمقتضاه ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، فالتكليف بعد العلم ، والجزاء بعد التكليف ، فظهر بهذا اتفاق الآيات لأن الجزاء لا بد له من تكليف ، وهو الابتلاء المذكور في الآيات والتكليف لا بد له من علم ، ولذا دل بعض الآيات على أن حكمة الخلق للمخلوقات هي العلم بالخالق ، ودل بعضها على أنها الابتلاء ، ودل بعضها على أنها الجزاء ، وكل ذلك حق لا اختلاف فيه ، وبعضه مرتب على بعض .
وقد بينا معنى إلا ليعبدون في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ولذلك خلقهم [ 11 \ 119 ] ، وبينا هناك أن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله : ولذلك خلقهم أي ولأجل الاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم ، وفي قوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس [ 7 \ 179 ] إرادة كونية قدرية ، وأن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله : إلا ليعبدون ، إرادة دينية شرعية .
وبينا هناك أيضا الأحاديث الدالة على أن الله خلق الخلق منقسما إلى شقي وسعيد ، وأنه كتب ذلك وقدره قبل أن يخلقهم ، وقال تعالى : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] ، : وقال : فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] .
والحاصل : أن الله دعا جميع الناس على ألسنة رسله إلى الإيمان به وعبادته وحده وأمرهم بذلك ، وأمره بذلك مستلزم للإرادة الدينية الشرعية ، ثم إن الله - جل وعلا - يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء بإرادته الكونية القدرية فيصيرون إلى ما سبق به العلم من شقاوة وسعادة ، وبهذا تعلم وجه الجمع بين قوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس . وقوله : ولذلك خلقهم ، وبين قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، وإنما ذكرنا أن الإرادة قد تكون دينية شرعية ، وهي ملازمة للأمر والرضا ، وقد تكون كونية قدرية وليست ملازمة لهما ، لأن الله يأمر الجميع بالأفعال المرادة منهم دينا ، ويريد ذلك كونا وقدرا من بعضهم دون بعض ، كما قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [ 4 \ 64 ] ، [ ص: 449 ] فقوله : إلا ليطاع أي : فيما جاء به من عندنا ، لأنه مطلوب مراد من المكلفين شرعا ودينا ، وقوله : بإذن الله يدل على أنه لا يقع من ذلك إلا ما أراده الله كونا وقدرا ، والله - جل وعلا - يقول : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كل ميسر لما خلق له " ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : وهو يطعم ولا يطعم [ 6 \ 14 ] .
قوله تعالى : فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون .
أصل الذنوب في لغة العرب الدلو ، وعادة العرب أنهم يقتسمون ماء الآبار والقلب بالدلو ، فيأخذ هذا منه ملء دلو ، ويأخذ الآخر كذلك ، ومن هنا أطلقوا اسم الذنوب التي هي الدلو على النصيب . قال الراجز في اقتسامهم الماء بالدلو :
لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب
ويروى :
إنا إذا شاربنا شريب له ذنوب ولنا ذنوب
فإن أبى كان لنا القليب
ومن إطلاق الذنوب على مطلق النصيب قول علقمة بن عبدة التميمي ، وقيل عبيد :
وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب
وقول أبي ذؤيب :
لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب
فالذنوب في البيتين النصيب ، ومعنى الآية الكريمة : فإن للذين ظلموا بتكذيب [ ص: 450 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ذنوبا ، أي نصيبا من عذاب الله مثل ذنوب أصحابهم من الأمم الماضية من العذاب لما كذبوا رسلهم .
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى : قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين [ 39 \ 50 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فلا يستعجلون قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [ 13 \ 6 ] ، وفي سورة مريم في الكلام على قوله : فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا [ 19 \ 84 ] ، وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار بالويل من يوم القيامة لما ينالهم فيه من عذاب النار - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى في " ص " : فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وقوله في إبراهيم : وويل للكافرين من عذاب شديد [ 14 \ 2 ] ، وقوله في المرسلات : ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 15 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقد قدمنا أن كلمة وويل ، قال فيها بعض أهل العلم : إنها مصدر لا فعل له من لفظه ، ومعناه الهلاك الشديد ، وقيل : هو واد في جهنم تستعيذ من حره ، والذي سوغ الابتداء بهذه النكرة أن فيها معنى الدعاء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (518)
سُورَةُ الطُّورِ .
صـ 451 إلى صـ 458
[ ص: 451 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الطُّورِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ .
هَذِهِ الْأَقْسَامُ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْسَمَ بِبَعْضِهَا بِخُصُوصِهِ ، وَأَقْسَمَ بِجَمِيعِهَا فِي آيَةٍ عَامَّةٍ لَهَا وَلِغَيْرِهَا .
أَمَّا الَّذِي أَقْسَمَ مِنْهَا إِقْسَامًا خَاصًّا فَهُوَ الطُّورُ ، وَالْكِتَابُ الْمَسْطُورُ ، وَالسَّقْفُ الْمَرْفُوعُ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الطُّورَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالطُّورِ فِي قَوْلِهِ : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ [ 95 \ 21 ] .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْكِتَابَ الْمَسْطُورَ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ، وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّهُ مِنَ الْإِقْسَامِ بِهِ فِي كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [ 43 \ 1 - 2 ] ، [ 44 \ 1 - 2 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ 36 \ 1 - 2 ] ، وَقِيلَ : هُوَ كِتَابُ الْأَعْمَالِ ، وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ .
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ : هُوَ السَّمَاءُ ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [ 51 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [ 85 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [ 91 \ 5 ] ، وَالرَّقُّ بِفَتْحِ الرَّاءِ كُلُّ مَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنْ صَحِيفَةٍ وَغَيْرِهَا ، وَقِيلَ هُوَ الْجِلْدُ الْمُرَقَّقُ لِيُكْتَبَ فِيهِ ، وَقَوْلُهُ : مَنْشُورٍ أَيْ مَبْسُوطٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [ 17 \ 13 ] ، وَقَوْلُهُ : بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [ 74 \ 52 ] .
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ : هُوَ الْبَيْتُ الْمَعْرُوفُ فِي السَّمَاءِ الْمُسَمَّى بِالضُّرَاحِ بِضَمِّ الضَّادِ ، وَقِيلَ فِيهِ مَعْمُورٌ ، لِكَثْرَةِ مَا يَغْشَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُتَعَبِّدِي نَ ، فَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ : " أَنَّهُ يَزُورُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ، وَلَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَهَا " .
[ ص: 452 ] وَقَوْلُهُ : وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْجُورَ هُوَ الْمُوقَدُ نَارًا ، قَالُوا : وَسَيَضْطَرِمُ الْبَحْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا ، مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [ 40 \ 72 ] .
الْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ أَنَّ الْمَسْجُورَ بِمَعْنَى الْمَمْلُوءِ ، لِأَنَّهُ مَمْلُوءٌ مَاءً ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَسْجُورِ عَلَى الْمَمْلُوءِ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ :
فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعا مَسْجُورَةً مُتَجَاوِرًا قُلَّامُهَا
فَقَوْلُهُ : مَسْجُورَةً أَيْ عَيْنًا مَمْلُوءَةً مَاءً ، وَقَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ الْعُكْلِيِّ :
إِذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورَةً تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ وَالسَّاسَمَا
وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي مَعْنَى الْمَسْجُورِ هُمَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ : وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [ 81 \ 6 ] ، وَأَمَّا الْآيَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي أَقْسَمَ فِيهَا تَعَالَى بِمَا يَشْمَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَغَيْرِهَا ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ [ 69 \ 38 - 39 ] ، لِأَنَّ الْإِقْسَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ الذَّارِيَاتِ ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .
قوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون .
الدع في لغة العرب : الدفع بقوة وعنف ، ومنه قوله تعالى : فذلك الذي يدع اليتيم ، أي يدفعه عن حقه بقوة وعنف ، وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين :
أحدهما : أن الكفار يدفعون إلى النار بقوة وعنف يوم القيامة .
والثاني : أنهم يقال لهم يوم القيامة توبيخا وتقريعا : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] .
وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات أخر ، أما [ ص: 453 ] الأخير منهما ، وهو كونهم يقال لهم : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] ، وقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله في السجدة : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون [ 32 \ 20 ] ، وقوله في سبأ : فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون [ 34 \ 42 ] ، وقوله تعالى في المرسلات : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأما الأول منهما وهو كونهم يدفعون إلى النار بقوة فقد ذكره الله - جل وعلا - في آيات من كتابه كقوله تعالى : خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم [ 44 \ 47 ] ، أي جروه بقوة وعنف إلى وسط النار . والعتل في لغة العرب : الجر بعنف وقوة ، ومنه قول الفرزدق :
ليس الكرام بناحليك أباهم حتى ترد إلى عطية تعتل
وقوله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام [ 55 \ 41 ] ، أي تجمع الزبانية بين ناصية الواحد منهم ، أي مقدم شعر رأسه وقدمه ، ثم تدفعه في النار بقوة وشدة .
وقد بين - جل وعلا - أنهم أيضا يسحبون في النار على وجوههم في آيات من كتابه كقوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر [ 54 \ 48 ] ، وقوله تعالى : الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون [ 40 \ 70 - 72 ] .
وقوله في هذه الآية الكريمة " يوم يدعون " - بدل من قوله " يومئذ " في قوله تعالى قبله : فويل يومئذ للمكذبين [ 52 \ 11 ] .
قوله تعالى : اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار معذبون في النار لا محالة ، سواء صبروا أو لم يصبروا ، فلا ينفعهم في ذلك صبر ولا جزع ، وقد أوضح هذا المعنى في قوله : قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص [ 14 \ 21 ] .
[ ص: 454 ] قوله تعالى : كل امرئ بما كسب رهين . ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الناس ، وقد بين تعالى في آيات أخر أن أصحاب اليمين خارجون من هذا العموم ، وذلك في قوله تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين [ 74 \ 38 - 41 ] .
ومن المعلوم أن التخصيص بيان ، كما تقرر في الأصول .
قوله تعالى : وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون .
لم يذكر هنا شيء من صفات هذه الفاكهة ولا هذا اللحم إلا أنه مما يشتهون ، وقد بين صفات هذه الفاكهة في مواضع أخر كقوله تعالى : وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة [ 56 \ 32 - 33 ] ، وبين أنها أنواع في مواضع أخر كقوله : ولهم فيها من كل الثمرات [ 47 \ 15 ] ، وقوله تعالى : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها الآية [ 2 \ 2 ] ، وقوله تعالى : أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون [ 37 \ 41 - 42 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ووصف اللحم المذكور بأنه من الطير ، والفاكهة بأنها مما يتخيرونه على غيره ، وذلك في قوله : وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون [ 56 \ 20 - 21 ] .
قوله تعالى : يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم .
قرأه ابن كثير وأبو عمرو : " لا لغو " بالبناء على الفتح ، " ولا تأثيم " كذلك لأنها " لا " التي لنفي الجنس فبنيت معها ، وهي إن كانت كذلك ؛ نص في العموم ، وقرأه الباقون من السبعة لا لغو فيها ولا تأثيم بالرفع والتنوين . لأن لا النافية للجنس إذا تكررت كما هنا جاز إعمالها وإهمالها ، والقراءتان في الآية فيهما المثال للوجهين ، وإعمالها كثير ، ومن شواهد إهمالها قراءة الجمهور في هذه الآية ، وقول الشاعر :
وما هجرتك حتى قلت معلنة لا ناقة لي في هذا ولا جمل
وقوله : يتنازعون فيها كأسا : أي يتعاطون ، ويتناول بعضهم من بعض . " كأسا " أي خمرا ، فالتنازع يطلق لغة على كل تعاط وتناول ، فكل قوم يعطي بعضهم بعضا شيئا [ ص: 455 ] ويناوله إياه ، فهم يتنازعونه كتنازع كئوس الشراب والكلام ، وهذا المعنى معروف في كلام العرب .
ومنه في الشراب قول الأخطل :
وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة السار
فقوله : نازعته طيب الراح : أي ناولته كئوس الخمر وناولنيها ، ومنه في الكلام قول امرئ القيس :
ولما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
والكأس تطلق على إناء الخمر ، ولا تكاد العرب تطلق الكأس إلا على الإناء المملوء ، وهي مؤنثة ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا لغو فيها ولا تأثيم يعني أن خمر الجنة التي يتعاطاها المؤمنون فيها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا ، فخمر الآخرة لا لغو فيها ، واللغو كل كلام ساقط لا خير فيه ، فخمر الآخرة لا تحمل شاربيها على الكلام الخبيث والهذيان ، لأنها لا تؤثر في عقولهم بخلاف خمر الدنيا ، فإنهم إن يشربوها سكروا وطاشت عقولهم ، فتكلموا بالكلام الخبيث والهذيان ، وكل ذلك من اللغو .
والتأثيم : هو ما ينسب به فاعله إلى الإثم ، فخمر الآخرة لا يأثم شاربها بشربها ، لأنها مباحة له ، فنعم بلذتها كما قال تعالى : وأنهار من خمر لذة للشاربين [ 47 \ 15 ] ، ولا تحمل شاربها على أن يفعل إثما بخلاف خمر الدنيا ، فشاربها يأثم بشربها ويحمله السكر على الوقوع في المحرمات كالقتل والزنا والقذف .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من مخالفة خمر الآخرة لخمر الدنيا ، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [ 37 \ 45 - 47 ] ، وقوله : لا فيها غول : أي ليس فيها غول يغتال العقول فيذهبها كخمر الدنيا . ولا هم عنها ينزفون : أي لا يسكرون ، وكقوله تعالى : يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 17 - 19 ] ، [ ص: 456 ] وقوله : لا يصدعون أي لا يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها .
وقد أوضحنا معنى هذه الآيات في صفة خمر الآخرة ، وبينا أنها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا ، وذكرنا الشواهد العربية في ذلك في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر الآية [ 5 \ 90 ] .
قوله تعالى : ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة يطوف عليهم " غلمان " جمع غلام ، أي خدم لهم ، وقد قدمنا إطلاقات الغلام وشواهدها العربية في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم [ 15 \ 53 ] .
ولم يبين هنا ما يطوفون عليهم به ، وذكر هنا حسنهم بقوله : كأنهم لؤلؤ مكنون في أصدافه ، لأن ذلك أبلغ في صفائه وحسنه ، وقيل : " مكنون " أي مخزون لنفاسته ، لأن النفيس هو الذي يخزن ويكن .
وبين تعالى في الواقعة بعض ما يطوفون عليهم به في قوله : يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين [ 56 \ 17 - 18 ] ، وزاد في هذه الآية كونهم مخلدين ، وذكر بعض ما يطاف عليهم به في قوله : يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب [ 76 \ 15 - 16 ] ، وقوله تعالى : ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا [ 76 \ 15 - 16 ] .
والظاهر أن الفاعل المحذوف في قوله : ويطاف عليهم في آية الزخرف والإنسان المذكورتين هو الغلمان المذكورون في الطور والواقعة ، وذكر بعض صفات هؤلاء الغلمان في الإنسان في قوله تعالى : ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا [ 76 \ 19 ] .
قوله تعالى : قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا ، وأن [ ص: 457 ] المسئول عنهم يقول للسائل : إنا كنا قبل أي في دار الدنيا في أهلنا مشفقين أي خائفين من عذاب الله ، ونحن بين أهلنا أحياء " فمن الله علينا " أي أكرمنا ، وتفضل علينا بسبب الخوف منه في دار الدنيا فهدانا ، ووفقنا في الدنيا ووقانا في الآخرة عذاب السموم ، والسموم النار ولفحها ووهجها ، وأصله الريح الحارة التي تدخل المسام ، والجمع سمائم . ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
أنامل لم تضرب على البهم بالضحى بهن ووجه لم تلحه السمائم
وقد يطلق السموم على الريح الشديدة البرد ، ومنه قول الراجز :
اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه الفاء في قوله : فمن الله علينا تدل على أن علة ذلك هي الخوف من الله في دار الدنيا ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا سبب للسلامة منه في الآخرة - يفهم من دليل خطابه ، أعني مفهوم مخالفته : أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها جاء موضحا في غير هذا الموضوع . فذكر تعالى أن السرور في الدنيا وعدم الخوف من الله سبب العذاب يوم القيامة ، وذلك في قوله : وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور الآية [ 84 \ 10 - 14 ] .
وقد تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل ، فقوله : إنه كان في أهله مسرورا علة لقوله : فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا .
والمسرور في أهله في دار الدنيا ليس بمشفق ولا خائف ، ويؤيد ذلك قوله بعده : إنه ظن أن لن يحور ؛ لأن معناه : ظن أن لن يرجع إلى الله حيا يوم القيامة ، ولا شك أن من ظن أنه لا يبعث بعد الموت لا يكون مشفقا في أهله خوفا من العذاب ، لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء . وكون " لن يحور " بمعنى لن يرجع - معروف في كلام العرب ، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي :
[ ص: 458 ]
أليلتنا بذي حسم أنيري إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فقوله : فلا تحوري ، أي فلا ترجعي .
وقول لبيد بن ربيعة العامري :
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد ما هو ساطع
أي يرجع رمادا ، وقيل : يصير ، والمعنى واحد .
وقوله تعالى : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون الآية [ 56 \ 41 - 47 ] ، لأن تنعمهم في الدنيا المذكور في قوله : مترفين ، وإنكارهم للبعث المذكور في قوله : أئذا متنا وكنا ترابا الآية - دليل على عدم إشفاقهم في الدنيا ، وهو علة كونهم في سموم وحميم .
وقد قدمنا قريبا أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل ، فقوله تعالى : إنهم كانوا قبل ذلك مترفين الآية - علة لقوله : في سموم وحميم الآية .
وقد ذكر - جل وعلا - أن الإشفاق من عذاب الله من أسباب دخول الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة ، كما دل عليه منطوق آية الطور هذه ، قال تعالى في المعارج : والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون إلى قوله : أولئك في جنات مكرمون الآيات [ 27 \ 35 ] ، وذكر ذلك من صفات أهل الجنة في قوله تعالى : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله : أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [ 23 \ 57 - 61 ] ، وقد قال تعالى : والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم [ 56 \ 10 - 12 ] .
وقوله في آية الواقعة المذكورة : وكانوا يصرون على الحنث العظيم ، أي يديمون ويعزمون على الذنب الكبير ، كالشرك وإنكار البعث ، وقيل : المراد بالحنث حنثهم في اليمين الفاجرة كما في قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (519)
سُورَةُ النَّجْمِ
صـ 459 إلى صـ 466
[ ص: 459 ] قوله تعالى : فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون .
نفى الله - جل وعلا - عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاث صفات قبيحة عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - رماه بها الكفار ، وهي الكهانة والجنون والشعر ، أما دعواهم أنه كاهن أو مجنون ، فقد نفاها صريحا بحرف النفي الذي هو " ما " في قوله : فما أنت وأكد النفي بالباء في قوله : بكاهن وأما كونه شاعرا فقد نفاه ضمنا بأم المنقطعة في قوله : أم يقولون شاعر ، لأنها تدل على الإضراب والإنكار المتضمن معنى النفي .
وقد جاءت آيات أخر بنفي هذه الصفات عنه - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى في نفي الجنون عنه في أول القلم : ما أنت بنعمة ربك بمجنون [ 68 \ 2 ] ، وقوله في التكوير : وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] ، وكقوله في نفي الصفتين الأخيرتين أعني الكهانة والشعر : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون [ 69 \ 41 - 42 ] ، وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة الشعراء وغيرها .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : نتربص به ريب المنون [ 52 \ 30 ] ، أي ننتظر به حوادث الدهر ، حتى يحدث له منها الموت ، فالمنون : الدهر ، وريبه : حوادثه التي يطرأ فيها الهلاك والتغيير ، والتحقيق أن الدهر هو المراد في قول أبي ذؤيب الهذلي :
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
لأن الضمير في قوله : وريبه يدل على أن المنون الدهر ، ومن ذلك أيضا قول الآخر :
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وقال بعض العلماء : المنون في الآية الموت ، وإطلاق المنون على الموت معروف في كلام العرب ، ومنه قول أبي الغول الطهوي :
هم منعوا حمى الوقبى بضرب يؤلف بين أشتات المنون
لأن الذين ماتوا عند ذلك الماء المسمى بالوقبى ، جاءوا من جهات مختلفة ، فجمع الموت بينهم في محل واحد ، ولو ماتوا في بلادهم لكانت مناياهم في بلاد شتى .
[ ص: 460 ] قوله تعالى : فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين .
قد قدمنا أن الله تحداهم بسورة واحدة من هذا القرآن في سورة البقرة في قوله : فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله الآية [ 2 \ 23 ] ، وفي سورة يونس في قوله تعالى : قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله الآية [ 10 \ 3 8 ] .
وتحداهم في سورة هود بعشر سور منه في قوله : قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله الآية [ 11 \ 13 ] .
وتحداهم في سورة الطور هذه به كله في قوله : فليأتوا بحديث مثله الآية .
وبين في سورة بني إسرائيل أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك في قوله : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله الآية [ 17 \ 88 ] .
وقد أطلق - جل وعلا - اسم الحديث على القرآن في قوله هنا : فليأتوا بحديث مثله كما أطلق عليه ذلك في قوله : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الآية [ 39 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه الآية [ 12 \ 111 ] .
قوله تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون .
قد قدمنا الكلام عليه وعلى الآيات المشابهة له في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] .
قوله تعالى : أم لهم سلم يستمعون فيه الآية . قد قدمنا الكلام عليه وعلى الآيات المشابهة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها الآية [ 15 \ 16 - 17 ] .
قوله تعالى : أم له البنات ولكم البنون .
[ ص: 461 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] ، وفي مواضع أخر متعددة .
قوله تعالى : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له وما يتعلق بها من الأحكام في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا الآية [ 11 \ 29 ] .
قوله تعالى : وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم الآية [ 6 \ 7 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا .
بين - جل وعلا - في هذه الآية أن كيد الكفار لا يغني عنهم شيئا في الآخرة في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون [ 77 \ 38 - 39 ] .
وبين أنه لا ينفعهم في الدنيا أيضا كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون [ 52 \ 42 ] ، وقوله : إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا الآية [ 86 \ 15 - 16 ] ، وقوله : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 7 \ 182 - 183 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون .
الظاهر أن قوله : عذابا دون ذلك هو ما عذبوا به في دار الدنيا من القتل وغيره .
كما دل على ذلك قوله : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر الآية [ 32 \ 21 ] ، وقوله تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [ 9 \ 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، ولا مانع من دخول عذاب القبر في ذلك ، لأنه قد يدخل في ظاهر الآية ، وما قيل في معنى الآية غير هذا لا يتجه عندي . والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 462 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ النَّجْمِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا النَّجْمِ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُرَادُ بِهِ النَّجْمُ إِذَا رُجِمَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثُّرَيَّا ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ ، وَلَفْظَةُ النَّجْمِ عَلَمٌ لِلثُّرَيَّا بِالْغَلَبَةِ ، فَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تُطْلِقُ لَفْظَ النَّجْمِ مُجَرَّدًا إِلَّا عَلَيْهَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ :
أَقُولُ وَالنَّجْمُ قَدْ مَالَتْ أَوَاخِرُهُ إِلَى الْمَغِيبِ تَثَبَّتْ نَظْرَةً حَارِ
فَقَوْلُهُ : وَالنَّجْمِ : يَعْنِي الثُّرَيَّا .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا هَوَى : أَيْ سَقَطَ مَعَ الصُّبْحِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ . وَقِيلَ : النَّجْمُ الزَّهْرَةُ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ نُجُومُ السَّمَاءِ ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمُفْرَدِ وَإِرَادَةِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ : وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [ 54 \ 45 ] ، يَعْنِي الْأَدْبَارَ . وَقَوْلُهُ : وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [ 89 \ 22 ] ، أَيِ : الْمَلَائِكَةُ ، وَقَوْلُهُ : أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا [ 25 \ 75 ] ، أَيِ الْغُرَفَ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِهَذَا فِي الْقُرْآنِ ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [ 22 \ 5 ] ، وَإِطْلَاقُ النَّجْمِ مُرَادًا بِهِ النُّجُومَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ :
ثُمَّ قَالُوا تُحِبُّهَا قُلْتُ بَهْرًا عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ
وَقَوْلُ الرَّاعِي :
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ سَرِيعٍ بِأَيْدِي الْآكِلِينَ جُمُودُهَا
[ ص: 463 ] وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، فَمَعْنَى هُوِيِّ النُّجُومِ سُقُوطُهَا إِذَا غَرَبَتْ أَوِ انْتِثَارُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَقِيلَ : النَّجْمُ النَّبَاتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الْجُمْلَةُ النَّازِلَةُ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَإِنَّهُ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْجُمًا مُنَجَّمًا فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَكُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهُ وَقْتَ نُزُولِهَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا اسْمُ النَّجْمِ صِدْقًا عَرَبِيًّا صَحِيحًا كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا حَانَ وَقْتُهُ مِنَ الدِّيَةِ الْمُنَجَّمَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَالْكِتَابَةِ الْمُنَجَّمَةِ عَلَى الْعَبْدِ الْمُكَاتَبِ .
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : إِذَا هَوَى أَيْ نَزَلَ بِهِ الْمَلَكُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَوْلُهُ : هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا إِذَا اخْتَرَقَ الْهَوَا نَازِلًا مِنْ أعَلَى إِلَى أَسْفَلَ .
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ الثُّرَيَّا وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ خُصُوصُهَا ، وَإِنِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ - لَيْسَ بِوَجِيهٍ عِنْدِي .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّجْمَ يُرَادُ بِهِ النُّجُومُ . وَإِنْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعُهُ تَعَالَى لِلنُّجُومِ فِي الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [ 56 \ 75 ] ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى هُنَا كَالْمُرَادِ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ فِي الْوَاقِعَةِ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْمُرَادِ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ مَسَاقِطُهَا إِذَا غَابَتْ . وَقَالَ بَعْضُهُمُ : انْتِثَارُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَنَازِلُهَا فِي السَّمَاءِ ، لِأَنَّ النَّازِلَ فِي مَحِلٍّ وَاقِعٍ فِيهِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ مَوَاقِعُ نُجُومِ الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِهَا الْمَلَكُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ : أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي وَأَقْرَبُهَا لِلصَّوَابِ فِي نَظَرِي - أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى هُنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، وَبِمَوَاقِعِ النُّجُومِ فِي الْوَاقِعَةِ هُوَ نُجُومُ الْقُرْآنِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْمَلَكُ نَجْمًا فَنَجْمًا ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى الَّذِي هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَقٍّ وَأَنَّهُ مَا ضَلَّ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى - مُوَافِقٌ فِي الْمَعْنَى لِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ إِلَى قَوْلِهِ : تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ 56 \ 77 - 80 ] .
[ ص: 464 ] وَالْإِقْسَامُ بِالْقُرْآنِ عَلَى صِحَّةِ رِسَالَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [ 36 \ 1 - 5 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [ 43 \ 1 - 4 ] ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ كَوْنَ الْمُقْسَمِ بِهِ الْمُعَبَّرِ بِالنُّجُومِ هُوَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ - أَنْسَبُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ : وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [ 56 \ 76 ] ، لَأَنَّ هَذَا التَّعْظِيمَ مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَقْسَمَ بِهِ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ أَنْسَبُ لِذَلِكَ مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ وَنَجْمِ الْأَرْضِ . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الضَّلَالُ يَقَعُ مِنَ الْجَهْلِ بِالْحَقِّ ، وَالْغَيُّ هُوَ الْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ مَعَ مَعْرِفَتِهِ ، أَيْ مَا جَهِلَ الْحَقَّ وَمَا عَدَلَ عَنْهُ ، بَلْ هُوَ عَالِمٌ بِالْحَقِّ مُتَّبِعٌ لَهُ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِطْلَاقَاتِ الضَّلَالِ فِي الْقُرْآنِ بِشَوَاهِدِهَا الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [ 26 \ 20 ] ، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ الْآيَةَ [ 18 \ 103 - 104 ] .
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [ 27 \ 79 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [ 22 \ 67 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ 42 \ 52 ] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ 43 \ 43 ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى اسْتَدَلَّ بِهِ عُلَمَاءُ [ ص: 465 ] الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَجْتَهِدُ ، وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ ، اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الْآيَةَ [ 9 \ 43 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [ 8 \ 67 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ [ 9 \ 113 ] .
قَالُوا : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا عَنِ اجْتِهَادٍ ، لَمَا قَالَ : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الْآيَةَ . وَلَمَا قَالَ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَاتِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى مَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ إِلَّا شَيْئًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَهُ ، فَمَنْ يَقُولُ : إِنَّهُ شِعْرٌ أَوْ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ - هُوَ أَكْذَبُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَكْفَرُهُمْ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَذِنَ لِلْمُتَخَلِّفِ ينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَأَسَرَ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ ، وَاسْتَغْفَرَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَنْزِلَ عَلَيْهِ وَحْيٌ خَاصٌّ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
قوله تعالى : علمه شديد القوى .
المراد بشديد القوى في هذه الآية هو جبريل عليه السلام ، والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - علمه هذا الوحي ملك شديد القوى هو جبريل .
وهذه الآية الكريمة قد تضمنت أمرين :
أحدهما : أن هذا الوحي الذي من أعظمه هذا القرآن العظيم ، علمه جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر من الله .
والثاني : أن جبريل شديد القوة .
وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع .
أما الأول منهما وهو كون جبريل نزل عليه بهذا الوحي وعلمه إياه ، فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله الآية [ 2 \ 97 ] وقوله تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين [ 26 \ 192 - 194 ] وقوله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] . [ ص: 466 ] وقوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه [ 75 \ 16 - 18 ] ، أي إذا قرأه عليك الملك المرسل به إليك منا مبلغا له عنا فاتبع قرآنه ، أي اقرأ كما سمعته يقرأ .
وأما الأمر الثاني ، وهو شدة قوة جبريل النازل بهذا الوحي فقد ذكره في قوله : إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين [ 81 \ 19 - 20 ] وقوله في آية التكوير هذه : لقول رسول أي لقوله المبلغ له عن الله ، فقرينة ذكر الرسول تدل على أنه إنما يبلغ شيئا أرسل به ، فالكلام كلام الله بألفاظه ومعانيه ، وجبريل مبلغ عن الله ، وبهذا الاعتبار نسب القول له . لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سمعه إلا منه ، فهو القول الذي أرسله الله به ، وأمره بتبليغه ، كما تدل عليه قرينة ذكر الرسول ، وسيأتي إيضاح هذه المسألة إن شاء الله في سورة التكوير ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ما زاغ البصر وما طغى .
قد قدمنا بعض الكلام عليه في أول سورة الإسراء .
قوله تعالى : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى .
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : ويجعلون لله البنات الآية [ 16 \ 57 ] ، وفي مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
قوله تعالى : فلله الآخرة والأولى .
بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن له الآخرة والأولى وهي الدنيا ، وبين هذا في غير هذا الموضع كقوله : إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى [ 92 \ 12 ] ، وبين في موضع آخر أن له كل شيء ، وذلك في قوله : إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء [ 27 \ 91 ] ، وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (520)
سُورَةُ النَّجْمِ
صـ 467 إلى صـ 474
قوله تعالى : وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : [ ص: 467 ] واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة الآية [ 2 \ 48 ] ، ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة .
وقد قدمنا الآيات الموضحة في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [ 43 \ 19 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى [ 46 \ 3 ] ، وفي سورة الذاريات في الكلام على قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] .
قوله تعالى : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى : والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون [ 42 \ 37 ] .
قوله تعالى : إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء [ 4 \ 49 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى .
قوله : تولى : أي رجع وأدبر عن الحق ، وقوله : وأعطى قليلا ، قال بعضهم : قليلا من المال ، وقال بعضهم : أعطى قليلا من الكلام الطيب ، وقوله : وأكدى أي قطع ذلك العطاء ولم يتمه ، وأصله من أكدى صاحب الحفر إذا انتهى في حفره إلى [ ص: 468 ] صخرة لا يقدر على الحفر فيها ، وأصله من الكدية وهي الحجارة تعترض حافر البئر ونحوه فتمنعه الحفر ، وهذا الذي أعطى قليلا وأكدى اختلف فيه العلماء ، فقيل : هو الوليد بن المغيرة قارب أن يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فعيره بعض المشركين ، فقال : أتركت دين الأشياخ وضللتهم ؟ قال : إني خشيت عذاب الله ، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه . فأنزل الله عز وجل الآية .
وعلى هذا فقوله : تولى : أي الوليد عن الإسلام بعد أن قارب ، وأعطى قليلا من المال للذي ضمن له أن يتحمل عنه ذنوبه . وأكدى : أي بخل عليه بالباقي ، وقيل : أعطى قليلا من الكلام الطيب كمدحه للقرآن ، واعترافه بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، " وأكدى " أي انقطع عن ذلك ورجع عنه . وقيل : هو العاص بن وائل السهمي ، كان ربما وافق النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور ، وذلك هو معنى إعطائه القليل ثم انقطع عن ذلك ، وهو معنى إكدائه ، وهذا قول السدي ولم ينسجم مع قوله بعده : أعنده علم الغيب الآية [ 53 \ 35 ]
وعن محمد بن كعب القرظي أنه أبو جهل ، قال : والله ما يأمرنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بمكارم الأخلاق ، وذلك معنى إعطائه قليلا ، وقطعه لذلك معروف .
واقتصر الزمخشري على أنه عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال : روي أن عثمان بن عفان كان يعطي ماله في الخير ، فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وهو أخوه من الرضاعة : يوشك ألا يبقى لك شيء . فقال عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى ، وأرجو عفوه ، فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها ، وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ، فأعطاه وأشهد عليه ، وأمسك عن العطاء فنزلت الآية .
ومعنى " تولى " ترك المركز يوم أحد ، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل . انتهى منه .
ولا يخفى سقوط هذا القول وبطلانه ، وأنه غير لائق بمنصب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة سبعة أمور :
[ ص: 469 ] الأول : إنكار علم الغيب المدلول عليه بالهمزة في قوله : أعنده علم الغيب والمراد نفي علمه للغيب .
الثاني : أن لكل من إبراهيم وموسى صحفا لم ينبأ بما فيها هذا الكافر .
الثالث : أن إبراهيم وفى ، أي أتم القيام بالتكاليف التي كلفه ربه بها .
الرابع : أن في تلك الصحف أنه ألا تزر وازرة وزر أخرى .
الخامس : أن فيها أيضا أنه ليس للإنسان إلا ما سعى .
السادس : وأن سعيه سوف يرى .
السابع : أنه يجزاه الجزاء الأوفى ، أي الأكمل الأتم .
وهذه الأمور السبعة قد جاءت كلها موضحة في غير هذا الموضع .
أما الأول منها ، وهو عدم علمهم الغيب ، فقد ذكره تعالى في مواضع كثيرة كقوله تعالى : أم عندهم الغيب فهم يكتبون [ 68 \ 47 ] ، وقوله : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، وقوله : وما كان الله ليطلعكم على الغيب [ 3 \ 179 ] ، وقوله تعالى : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية [ 72 \ 26 ] وقوله تعالى : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وقد قدمناها مرارا .
والثاني : الذي هو أن لإبراهيم وموسى صحفا لم يكن هذا المتولي المعطي قليلا المكدي عالما بها ، ذكره تعالى في قوله : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [ 87 \ 18 - 19 ] .
والثالث منها : وهو إبراهيم وفى تكاليفه ، فقد ذكره تعالى في قوله : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن [ 2 \ 124 ] ، وقد قدمنا أن الأصح في الكلمات التي ابتلي بها أنها التكاليف .
وأما الرابع منها : وهو أنه ألا تزر وازرة وزر أخرى ، فقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون [ 29 \ 12 ] ، [ ص: 470 ] وقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 \ 18 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا ، والجواب عما يرد عليها من الإشكال في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وذكرنا وجه الجمع بين الآيات الواردة في ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون [ 16 \ 25 ] .
وأما الخامس منها : وهو أنه ليس للإنسان إلا ما سعى ، فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها الآية [ 17 \ 7 ] ، وقوله : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ 45 \ 15 ] ، وقوله : ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون [ 30 \ 44 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى يدل على أن الإنسان لا يستحق أجرا إلا على سعيه بنفسه ، ولم تتعرض هذه الآية لانتفاعه بسعي غيره بنفي ولا إثبات ، لأن قوله : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى قد دلت اللام فيه على أنه لا يستحق ولا يملك شيئا إلا بسعيه ، ولم تتعرض لنفي الانتفاع بما ليس ملكا له ولا مستحقا له .
وقد جاءت آية من كتاب الله تدل على أن الإنسان قد ينتفع بسعي غيره وهي قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء [ 52 \ 21 ] .
وقد أوضحنا وجه الجمع بين قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وبين قوله : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان الآية في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة النجم ، وقلنا فيه ما نصه : والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الآية إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه ، ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره ، لأنه لم يقل : وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى ، وإنما قال : [ ص: 471 ] وأن ليس للإنسان ، وبين الأمرين فرق ظاهر ، لأن سعي الغير ملك لساعيه إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير ، وإن شاء أبقاه لنفسه .
وقد أجمع العلماء على انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه ونحو ذلك مما ثبت الانتفاع بعمل الغير فيه .
الثاني : أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم ، إذ لو كانوا كفارا لما حصل لهم ذلك . فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين ، كما وقع في الصلاة في الجماعة ، فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا ، وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير ، سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة ، وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى : واتبعتهم ذريتهم بإيمان .
الثالث : أن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نص قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولكن من سعي الآباء فهو سعي للآباء أقر الله عيونهم بسببه ، بأن رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم .
فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها ، لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد ، فانتفاع الأولاد تبع فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم ، كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين والخلق الذين ينشؤهم للجنة . والعلم عند الله تعالى . ا هـ منه .
والأمر السادس والسابع : وهما أن عمله سوف يرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى ، فقد جاءا موضحين في آيات كثيرة كقوله تعالى : والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم الآية [ 7 \ 8 - 9 ] .
وقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] .
وقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] .
[ ص: 472 ] وقوله تعالى : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فهو يرى أي يعلم ذلك الغيب ، والآية تدل على أن سبب النزول لا يخلو من إعطاء شيء في مقابلة تحمل الذنوب عمن أعطى لأن فاعل ذلك ليس عنده علم الغيب فيعلم به أن الذي ضمن له تحمل ذنوبه بفعل ذلك ، ولم ينبأ بما في الصحف الأولى ، من أنه " ألا تزر وازرة وزر أخرى " أي لا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى .
وقد قدمنا تفسيره موضحا في سورة بني إسرائيل ، وأنه لا يملك الإنسان ولا يستحق إلا سعي نفسه ، وقد اتضح بذلك أنه لا يمكن أن يتحمل إنسان ذنوب غيره ، وقد دلت على ذلك آيات كثيرة معلومة .
وقال أبو حيان في البحر : أفرأيت بمعنى أخبرني ، والمفعول الأول هو الموصول وصلته . والمفعول الثاني هو جملة أعنده علم الغيب فهو يرى .
قوله تعالى : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه خلق الزوجين أي النوعين الذكر والأنثى من نطفة ، وهي نطفة المني إذا تمنى أي تصب وتراق في الرحم ، على أصح القولين .
ويدل قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] ، وقوله تعالى : ألم يك نطفة من مني يمنى [ 75 \ 37 ] .
والعرب تقول : أمنى الرجل ومني ؛ إذا أراق المني وصبه .
وقال بعض العلماء : من نطفة إذا تمنى أي تقدر بأن يكون الله قدر أن ينشأ منها حمل ، من قول العرب : مني الماني إذا قدر . ومن هذا المعنى قول أبي قلابة الهذلي ، وقيل سويد بن عامر المصطلقي :
لا تأمن الموت في حل وفي حرم إن المنايا توافي كل إنسان واسلك سبيلك فيها غير محتشم
حتى تلاقي ما يمني لك الماني
[ ص: 473 ] وقد قدمنا الكلام على النطفة مستوفى من جهات في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة الآية [ 16 \ 4 ] . وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث [ 22 \ 5 ] ، وفي كل من الموضعين زيادة ليست في الآخر .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الاستدلال بخلق النوعين ، أعني الذكر والأنثى من النطفة جاء موضحا في غير هذا الموضع ، وأنه يستدل به على أمرين : هما قدرة الله على البعث ، وأنه ما خلق الإنسان إلا ليكلفه ويجازيه ، وقد جمع الأمرين قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 57 \ 36 - 40 ] ، فذكر دلالة ذلك على البعث في قوله : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ، وذكر أنه ما خلقه ليهمله من التكليف والجزاء ، منكرا على من ظن ذلك بقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي مهملا من التكليف والجزاء .
وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا [ 25 \ 54 ] .
قوله تعالى : وأن عليه النشأة الأخرى .
قد قدمنا الآيات الموضحة له ، وأحلنا عليها مرارا كثيرة .
قوله تعالى : وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لما أهلك به عادا . والآيات الموضحة لما أهلك به ثمود في سورة فصلت في قوله تعالى في الكلام في شأن عاد : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا الآية [ 41 \ 16 ] . وقوله في شأن ثمود : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون الآية [ 41 \ 17 ] .
قوله تعالى : وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى .
قوله : وقوم نوح معطوف على قوله : وأنه أهلك عادا الأولى [ 53 \ 50 ] ، أي وأهلك قوم نوح ولم يبين هنا كيفية إهلاكهم ، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر من [ ص: 474 ] كتابه كقوله تعالى : وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم الآية [ 25 \ 37 ] .
وقوله تعالى : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [ 29 \ 14 ] .
وقوله تعالى : ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين [ 21 \ 77 ] .
وقوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] .
وقوله تعالى : ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون [ 11 \ 37 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون قوم نوح أظلم وأطغى ، أي أشد ظلما وطغيانا من غيرهم ، قد بينه تعالى في آيات أخر كقوله تعالى : قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 5 - 7 ] .
وقوله تعالى : قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا إلى قوله : وقد أضلوا كثيرا [ 71 \ 21 - 24 ] .
وقوله تعالى : إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ 71 \ 27 ] .
وقوله : ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه [ 11 \ 38 ] .
ومن أعظم الأدلة على ذلك قوله تعالى : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما [ 29 \ 14 ] ، لأن قوما لم يتأثروا بدعوة نبي كريم ناصح في هذا الزمن الطويل لا شك أنهم أظلم الناس وأطغاهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (521)
سُورَةُ الْقَمَرِ .
صـ 475 إلى صـ 482
قوله تعالى : والمؤتفكة أهوى .
المؤتفكة مفتعلة من الإفك ، وهو القلب والصرف ، والمراد بها قرى قوم لوط بدليل قوله في غير هذا الموضع : والمؤتفكات [ 9 \ 70 ] ، بالجمع . فهو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع كما أوضحناه مرارا ، وأكثرنا من أمثلته في القرآن وفي كلام العرب [ ص: 475 ] وأحلنا عليه مرارا ، وإنما قيل لها : مؤتفكة ، لأن جبريل أفكها فائتفكت ، ومعنى أفكها أنه رفعها نحو السماء ثم قلبها جاعلا أعلاها أسفلها ، وجعل عاليها أسفلها هو ائتفاكها وإفكها .
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة هود في قوله تعالى : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة الآية [ 11 \ 82 ] .
وقوله تعالى في سورة الحجر : فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل [ 15 \ 73 - 74 ] .
وقد بينا قصة قوم لوط في هود والحجر ، وقوله في هذه الآية الكريمة : أهوى تقول العرب : هوى الشيء إذا انحدر من عال إلى أسفل . وأهواه غيره إذا ألقاه من العلو إلى السفل ، لأن الملك رفع قراهم ثم أهواها أي ألقاها تهوي إلى الأرض منقلبة أعلاها أسفلها .
قوله تعالى : أزفت الآزفة .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : أتى أمر الله [ 16 \ 1 ] ، وفي سورة المؤمن في قوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة [ 40 \ 18 ] .
قوله تعالى : أفمن هذا الحديث تعجبون .
قد قدمنا الآيات التي فيها إطلاق اسم الحديث على القرآن في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : فليأتوا بحديث مثله الآية [ 52 \ 34 ] .
[ ص: 476 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْقَمَرِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ .
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ . قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ . قَوْلُهُ تَعَالَى : يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي .
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ " يس " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [ 36 \ 51 ] ، وَفِي سُورَةِ " ق " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا [ 50 \ 44 ] .
قوله تعالى : يقول الكافرون هذا يوم عسر .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا [ 25 \ 24 ] ، وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] .
قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .
قرأ هذا الحرف ابن عامر : ففتحنا بتشديد التاء للتكثير ، وباقي السبعة بتخفيفها .
وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن نبيه نوحا دعاه قائلا : إن قومه غلبوه [ ص: 477 ] سائلا ربه أن ينتصر له منهم ، وأن الله انتصر له منهم ، فأهلكهم بالغرق ، لأنه تعالى فتح أبواب السماء بماء منهمر أي متدفق منصب بكثرة وأنه تعالى فجر الأرض عيونا .
وقوله : عيونا ، تمييز محول عن المفعول ، والأصل فجرنا عيون الأرض . والتفجير : إخراج الماء منها بكثرة ، و " أل " في قوله : فالتقى الماء للجنس ، ومعناه التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدر ، أي قدره الله وقضاه .
وقيل : إن معناه أن الماء النازل من السماء والمتفجر من الأرض جعلهما الله بمقدار ليس أحدهما أكثر من الآخر . والأول أظهر .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من دعاء نوح ربه - جل وعلا - أن ينتصر له من قومه فينتقم منهم ، وأن الله أجابه فانتصر له منهم فأهلكهم جميعا بالغرق في هذا الماء المتلقى من السماء والأرض - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأنبياء : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين [ 21 \ 76 - 77 ] .
وقوله تعالى في الصافات : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم إلى قوله : ثم أغرقنا الآخرين [ 37 \ 75 - 82 ] .
وقد بين - جل وعلا - أن دعاء نوح فيه سؤاله الله أن يهلكهم إهلاكا مستأصلا . وتلك الآيات فيها بيان لقوله هنا : فانتصر وذلك كقوله تعالى : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ 71 \ 26 - 27 ] ، وما دعا نوح على قومه إلا بعد أن أوحى الله إليه أنه لا يؤمن منهم أحد غير القليل الذي آمن ، وذلك في قوله تعالى : وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [ 11 \ 36 ] ، وقد قال تعالى : وما آمن معه إلا قليل [ 11 \ 40 ] .
وقوله تعالى : عيونا قرأه ابن كثير ، وابن عامر في رواية ابن ذكوان ، وعاصم في رواية شعبة ، وحمزة ، والكسائي : " عيونا " بكسر العين لمجانسة الياء .
وقرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر في رواية هشام ، وعاصم في رواية حفص " عيونا " بضم العين على الأصل .
[ ص: 478 ] قوله تعالى : وحملناه على ذات ألواح ودسر .
لم يبين هنا ذات الألواح والدسر ، ولكنه بين في مواضع أخر أن المراد وحملناه على سفينة ذات ألواح ، أي من الخشب ودسر : أي مسامير تربط بعض الخشب ببعض ، وواحد الدسر دسار ككتاب وكتب ، وعلى هذا القول أكثر المفسرين .
وقال بعض العلماء وبعض أهل اللغة : الدسور الخيوط التي تشد بها ألواح السفينة .
وقال بعض العلماء : الدسور جؤجؤ السفينة أي صدرها ومقدمها الذي تدسر به الماء أي تدفعه وتمخره به ، قالوا : هو من الدسر وهو الدفع .
فمن الآيات الدالة على أن ذات الألواح والدسر السفينة - قوله تعالى : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية [ 69 \ 11 ] ، أي السفينة ، كما أوضحناه في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى : ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام [ 42 \ 32 ] .
وقوله تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة [ 29 \ 15 ] ، وقوله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون [ 36 \ 41 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولقد تركناها آية فهل من مدكر .
الضمير في قوله تعالى : تركناها ، قال بعض العلماء : إنه عائد إلى هذه الفعلة العظيمة التي فعل بقوم نوح .
والمعنى : ولقد تركنا فعلتنا بقوم نوح وإهلاكنا لهم آية لمن بعدهم ، لينزجروا ويكفوا عن تكذيب الرسل ، لئلا نفعل بهم مثل ما فعلنا بقوم نوح ، وكون هذه الفعلة آية - نص عليه تعالى بقوله : وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية [ 25 \ 37 ] ، وقوله تعالى : فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 119 - 121 ] .
وقال بعض العلماء : الضمير في تركناها عائد إلى السفينة ، وكون سفينة نوح آية بينه الله تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين [ 29 \ 15 ] ، وقوله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] .
[ ص: 479 ] قوله تعالى : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر .
قد قدمنا إيضاحه في سورة القتال في كلامنا الطويل على قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] .
قوله تعالى : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر .
قد قدمنا الآيات الموضحة له ، وكلام أهل العلم في يوم النحس المستمر في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات [ 41 \ 16 ] .
قوله تعالى : فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه . وقوله تعالى : أؤلقي الذكر عليه من بيننا .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهما في الكلام على قوله تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] ، وقوله تعالى : أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري الآية [ 38 \ 8 ] .
قوله تعالى : إنا مرسلو الناقة فتنة لهم .
قوله : مرسلو الناقة ، أي : مخرجوها من الهضبة ، فتنة لهم أي ابتلاء واختبارا ، وهو مفعول من أجله ، لأنهم اقترحوا على صالح إخراج ناقة من صخرة ، وأنها إن خرجت لهم منها آمنوا به واتبعوه ، فأخرج الله الناقة من تلك الصخرة معجزة لصالح ، وفتنة لهم أي ابتلاء واختبارا ، وذلك أن تلك الناقة معجزة عاينوها ، وأن الله حذرهم على لسان نبيه صالح من أن يمسوها بسوء وأنهم إن تعرضوا لها بأذى أخذهم الله بعذابه .
والمفسرون يقولون : إنهم قالوا له : إن أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة وبراء عشراء اتبعناك .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله أرسل لهم هذه الناقة امتحانا واختبارا ، وأنهم إن تعرضوا لآية الله هذه ، التي هي الناقة بسوء أهلكهم - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في سورة الأعراف : [ ص: 480 ] قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم [ 7 \ 73 ] ، وقوله تعالى في سورة هود عن صالح : ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب [ 11 \ 64 - 65 ] ، وقوله تعالى في الشعراء : قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم [ 26 \ 155 - 156 ] .
وقد بين تعالى أنهم عقروا الناقة فجاءهم العذاب المستأصل في آيات من كتابه كقوله تعالى في الأعراف : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم إلى قوله : فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين [ 7 \ 77 - 78 ] ، وقوله تعالى : فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب [ 26 \ 157 - 158 ] ، وقوله : فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم الآية [ 91 \ 14 ] .
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون الآية [ 41 \ 17 ] .
قوله تعالى : ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر .
قوله تعالى : ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر أي أخبر يا صالح ثمود أن الماء وهو ماء البئر التي كانت تشرب منها الناقة - قسمة بينهم ، فيوم للناقة ويوم لثمود ، فقوله : بينهم : أي بين الناقة وثمود ، وغلب العقلاء على الناقة كل شرب محتضر أي يحضره صاحبه ، فتحضر الناقة شرب يومها وتحضر ثمود شرب يومها .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آية أخرى وهي قوله تعالى في الشعراء : قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم [ 26 \ 155 ] ، وشرب الناقة هو الذي حذرهم منه صالح لئلا يتعرضوا له في قوله تعالى : فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها [ 91 \ 13 ] .
قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر .
قوله : فتعاطى ، قال أبو حيان في البحر : فتعاطى هو مطاوع عاطى ، وكأن [ ص: 481 ] هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضا ، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده . انتهى محل الغرض منه .
والعرب تقول : تعاطى كذا إذا فعله أو تناوله ، وعاطاه إذا تناوله ، ومنه قول حسان رضي الله عنه :
كلتاهما حلب العصير فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل
وقوله : فعقر أي تعاطى عقر الناقة فعقرها ، فمفعولا الفعلين محذوفان تقديرهما كما ذكرنا ، وعبر عن عاقر الناقة هنا بأنه صاحبهم ، وعبر عنه في الشمس بأنه أشقاهم وذلك في قوله : إذ انبعث أشقاها [ 91 \ 14 ] .
وهذه الآية الكريمة تشير إلى إزالة إشكال معروف في الآية . وإيضاح ذلك أن الله تعالى فيها نسب العقر لواحد لا لجماعة ، لأنه قال : فتعاطى فعقر بالإفراد مع أنه أسند عقر الناقة في آيات أخر إلى ثمود كلهم كقوله في سورة الأعراف : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم الآية [ 7 \ 77 ] ، وقوله تعالى في هود : فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام [ 11 \ 65 ] ، وقوله في الشعراء : فعقروها فأصبحوا نادمين [ 26 \ 157 ] ، وقوله في الشمس : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] .
ووجه إشارة الآية إلى إزالة هذا الإشكال هو أن قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر يدل على أن ثمود اتفقوا كلهم على عقر الناقة ، فنادوا واحدا منهم لينفذ ما اتفقوا عليه ، أصالة عن نفسه ونيابة عن غيره . ومعلوم أن المتمالئين على العقر كلهم عاقرون ، وصحت نسبة العقر إلى المنفذ المباشر للعقر ، وصحت نسبته أيضا إلى الجميع ، لأنهم متمالئون كما دل عليه ترتيب تعاطي العقر بالفاء في قوله : فتعاطى فعقر على ندائهم صاحبهم لينوب عنهم في مباشرة العقر في قوله تعالى : فنادوا صاحبهم أي نادوه ليعقرها .
وجمع بعض العلماء بين هذه الآيات بوجه آخر ، وهو أن إطلاق المجموع مرادا به بعضه - أسلوب عربي مشهور ، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب .
وقد قدمنا في سورة الحجرات أن منه قراءة حمزة في قوله تعالى : فإن قاتلوكم فاقتلوهم [ 2 \ 191 ] [ ص: 482 ] بصيغة المجرد في الفعلين ، لأن من قتل ومات لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله ، بل المراد في إن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر ، ونظيره قول ابن مطيع :
فإن تقتلونا عند حرة واقم فإنا على الإسلام أول من قتل أي فإن تقتلوا بعضنا ، وإن منه أيضا : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا [ 49 \ 14 ] ، لأن هذا في بعضهم دون بعض ، بدليل قوله تعالى : ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر إلى قوله : سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم [ 9 \ 99 ] .
وقد قدمنا في الحجرات وغيرها أن من أصرح الشواهد العربية في ذلك قول الشاعر :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
وقوله تعالى : فعقر : أي قتلها ، والعرب تطلق العقر على القتل والنحر والجرح ومنه قول امرئ القيس :
تقول وقد مال الغبيط بنا معا عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
ومن إطلاق العقر على نحر الإبل لقرى الضيف - قول جرير :
تعدون عقر الذيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
قوله تعالى : إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة .
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون [ 41 \ 17 ] .
قوله تعالى : إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر .
قوله : إنا أرسلنا عليهم حاصبا : قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء [ 25 \ 40 ] ، وقوله : إلا آل لوط نجيناهم بسحر قد قدمنا الآيات الموضحة له إيضاحا شافيا بكثرة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (522)
سُورَةُ الرَّحْمَنِ
صـ 483 إلى صـ 490
[ ص: 483 ] وقد تضمنت إيضاح قصة لوط وقومه في سورة هود وسورة الحجر في الكلام على القصة المذكورة في السورتين .
قوله تعالى : ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر . تضمنت هاتان الآيتان ثلاثة أمور :
الأول : أن آل فرعون جاءتهم النذر .
الثاني : أنهم كذبوا بآيات الله .
الثالث : أن الله أخذهم أخذ عزيز مقتدر .
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة هنا جاءت موضحة في آيات أخر من كتاب الله .
أما الأول منها وهو أن آل فرعون وقومه جاءهم النذر ، فقد أوضحه تعالى في آيات كثيرة من كتابه .
اعلم أولا أن قوله : جاء آل فرعون النذر ، قيل : هو جمع نذير وهو الرسول ، وقيل : هو مصدر بمعنى الإنذار ، فعلى أنه مصدر فقد بينت الآيات القرآنية بكثرة أن الذي جاءهم بذلك الإنذار هو موسى وهارون . وعلى أنه جمع نذير أي منذر ، فالمراد به موسى وهارون ، وقد جاء في آيات كثيرة إرسال موسى وهارون لفرعون كقوله تعالى في طه فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك [ 20 \ 47 ] .
ثم بين تعالى إنذارهما له في قوله : إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى [ 20 \ 48 ] ، ونحوها من الآيات . وفي هذه الآية سؤال معروف ، وهو أن الله تبارك وتعالى أرسل لفرعون نبيين هما موسى وهارون ، كما قال تعالى : فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين [ 26 \ 16 ] ، وهنا جمع النذر في قوله : ولقد جاء آل فرعون النذر ، وللعلماء عن هذا أجوبة ، أحدها أن أقل الجمع اثنان كما هو المقرر في أصول مالك بن أنس رحمه الله ، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله :
أقل معنى الجمع في المشتهر لاثنان في رأي الإمام الحميري
[ ص: 484 ] قالوا : ومنه قوله تعالى : فقد صغت قلوبكما [ 66 \ 4 ] ، ولهما قلبان فقط وقوله : فإن كان له إخوة فلأمه السدس [ 4 \ 11 ] ، والمراد بالإخوة اثنان فصاعدا كما عليه الصحابة فمن بعدهم خلافا لابن عباس ، وقوله : وأطراف النهار [ 20 \ 130 ] ، وله طرفان . ومنها ما ذكره الزمخشري وغيره من أن المراد بالنذر موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون . ومنها أن النذر مصدر بمعنى الإنذار .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق في الجواب - أن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع المرسلين ، ومن كذب نذيرا واحدا فقد كذب جميع النذر ، لأن أصل دعوة جميع الرسل واحدة ، وهي مضمون لا إله إلا الله كما أوضحه تعالى بقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، وقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] ، وقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 43 \ 45 ] .
وأوضح تعالى أن من كذب بعضهم فقد كذب جميعهم في قوله تعالى : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا [ 4 \ 150 ] ، ، وأشار إلى ذلك في قوله : لا نفرق بين أحد من رسله [ 2 \ 285 ] ، وقوله : لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون [ 2 \ 136 ] ، وقوله تعالى : والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم الآية [ 4 \ 152 ] .
وقد أوضح تعالى في سورة الشعراء أن تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع الرسل ، وذلك في قوله : كذبت قوم نوح المرسلين [ 26 \ 105 ] ، ثم بين أن تكذيبهم للمرسلين إنما وقع بتكذيبهم نوحا وحده ، حيث أفرد ذلك بقوله : إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إلى قوله : قال رب إن قومي كذبون [ 26 \ 106 - 107 ] ، وقوله تعالى : كذبت عاد المرسلين [ 26 \ 123 ] ، ثم بين أن ذلك بتكذيب هود وحده ، حيث أفرده بقوله : إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون [ 26 \ 124 ] ، ونحو ذلك في قوله تعالى في [ ص: 485 ] قصة صالح وقومه ، ولوط وقومه ، وشعيب وأصحاب الأيكة ، كما هو معلوم ، وهو واضح لا خفاء فيه ، ويزيده إيضاحا قوله - صلى الله عليه وسلم : " إنا معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " يعني أنهم كلهم متفقون في الأصول وإن اختلفت شرائعهم في بعض الفروع .
وأما الأمر الثاني : وهو كون فرعون وقومه كذبوا بآيات الله ، فقد جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 \ 132 ] ، وقوله تعالى : ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى [ 20 \ 56 ] ، وقوله تعالى : فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى [ 79 \ 20 - 21 ] ، وقوله تعالى : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ 27 \ 12 - 14 ] .
وأما الأمر الثالث وهو قوله تعالى : فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، فقد جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين إلى قوله : فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم [ 51 \ 38 - 40 ] ، وقوله تعالى : فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم [ 20 \ 78 ] ، وقوله تعالى : وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون [ 2 \ 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله : أخذ عزيز مقتدر يوضحه قوله تعالى : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 \ 102 ] .
وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم تلا قوله تعالى : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى الآية [ 11 \ 102 ] ، " ، والعزيز الغالب ، والمقتدر : شديد القدرة عظيمها .
قوله تعالى : أكفاركم خير من أولئكم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : فأهلكنا أشد منهم بطشا [ 43 \ 8 ] ، وفي صدر سورة الروم ، وغير ذلك من المواضع .
[ ص: 486 ] قوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا [ 52 \ 13 ] .
قوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الزخرف في بعض المناقشات التي ذكرناها في الكلام على قوله تعالى : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ 43 \ 81 ] .
قوله تعالى : وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر .
الصحيح في معنى الآية أن كل شيء فعله الناس مكتوب عليهم في الزبر التي هي صحف الأعمال وكل صغير وكبير مستطر أي مكتوب عليهم لا يترك منه شيء .
وهذا المعنى جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا [ 18 \ 49 ] ، وقوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا [ 3 - 30 ] .
والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب . والمستطر معناه المسطور ، أي المكتوب ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر .
أي في جنات وأنهار كما أوضح تعالى ذلك في قوله : تجري من تحتها الأنهار [ 2 \ 25 ] ، وقوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى [ 47 \ 15 ] .
وقد ذكرنا كثيرا من أمثلة إطلاق المفرد ، وإرادة الجمع كما هنا في القرآن العظيم ، مع تنكير المفرد وتعريفه ، وإضافته ، وأكثرنا أيضا من الشواهد العربية على ذلك في سورة [ ص: 487 ] الحج في الكلام على قوله تعالى : ثم نخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] ، وفي غير ذلك من المواضع . والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 488 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الرَّحْمَنِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا تَجَاهَلَ الْكُفَّارُ الرَّحْمَنَ - جَلَّ وَعَلَا - كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [ 25 \ 60 ] ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفُرْقَانِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الرَّحْمَنِ وَأَدِلَّتَهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : عَلَّمَ الْقُرْآنَ . أَيْ عَلَّمَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ فَتَلَقَّتْهُ أُمَّتُهُ عَنْهُ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَضَمَّنُ رَدَّ اللَّهِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ تَعَلَّمَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ بَشَرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [ 16 \ 10 3 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [ 74 \ 24 ] ، أَيْ يَرْوِيهِ مُحَمَّدٌ عَنْ غَيْرِهِ .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [ 25 \ 4 - 5 ] .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّهُ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ بَشَرٍ ، بَلِ الرَّحْمَنُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ إِيَّاهُ ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [ 25 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [ 11 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [ 41 \ 1 - 4 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : [ ص: 489 ] وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ 7 \ 52 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [ 20 \ 113 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [ 25 \ 33 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [ 75 \ 17 - 19 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [ 42 \ 52 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [ 12 \ 3 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [ 4 \ 113 ] ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [ 2 \ 185 ] .
وَتَعْلِيمُهُ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ، قَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مَنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [ 35 \ 32 ] .
وَقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [ 18 \ 1 ] ، وَبَيَّنَ أَنَّ إِنْزَالَهُ رَحْمَةٌ مِنْهُ لِخَلْقِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [ 28 \ 86 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [ 44 \ 5 - 6 ] ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي الْكَهْفِ وَالزُّخْرُفِ .
عَلَّمَ الْقُرْآنَ حَذَفَ فِيهِ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْن ِ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي ، كَمَا ظَنَّهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ ، وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ ، وَالصَّوَابُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ ، مِنْ أَنَّ الْمَحْذُوفَ الْأَوَّلُ ، وَتَقْدِيرُهُ : عَلَّمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ : جِبْرِيلَ ، وَقِيلَ : الْإِنْسَانَ .
قوله تعالى : خلق الإنسان علمه البيان .
اعلم أولا أن خلق الإنسان وتعليمه البيان من أعظم آيات الله الباهرة ، كما أشار تعالى لذلك بقوله في أول النحل : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] [ ص: 490 ] وقوله : في آخر " يس " أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 36 \ 77 ] .
فالإنسان بالأمس نطفة واليوم هو في غاية البيان وشدة الخصام يجادل في ربه وينكر قدرته على البعث ، فالمنافاة العظيمة التي بين النطفة وبين الإبانة في الخصام ، مع أن الله خلقه من نطفة وجعله خصيما مبينا ؛ آية من آياته - جل وعلا - دالة على أنه المعبود وحده ، وأن البعث من القبور حق .
وقوله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة خلق الإنسان لم يبين هنا أطوار خلقه للإنسان ، ولكنه بينها في آيات أخر كقوله تعالى في الفلاح : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 12 - 14 ] ، والآيات المبينة أطوار خلق الإنسان كثيرة معلومة .
وقد بينا ما يتعلق بالإنسان من الأحكام في جميع أطواره قبل ولادته في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] ، وبينا هناك معنى النطفة والعلقة والمضغة في اللغة .
وقوله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة علمه البيان التحقيق فيه أن المراد بالبيان الإفصاح عما في الضمير .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أنه علم الإنسان البيان قد جاء موضحا في قوله تعالى : فإذا هو خصيم مبين في سورة النحل [ 16 \ 4 ] ، و " يس " [ 36 \ 77 ] ، وقوله : مبين على أنه اسم فاعل " أبان " المتعدية ، والمفعول محذوف للتعميم ، أي مبين كل ما يريد بيانه وإظهاره بلسانه مما في ضميره ، وذلك لأنه ربه علمه البيان ، وعلى أنه صفة مشبهة من " أبان " اللازمة ، وأن المعنى فإذا هو خصيم مبين ، أي : بين الخصومة ظاهرها ، فكذلك أيضا ، لأنه ما كان بين الخصومة إلا لأن الله علمه البيان .
وقد امتن الله - جل وعلا - على الإنسان بأنه جعل له آلة البيان التي هي اللسان والشفتان ، وذلك في قوله تعالى : ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين [ 90 \ 9 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (523)
سُورَةُ الرَّحْمَنِ
صـ 491 إلى صـ 498
[ ص: 491 ] قوله تعالى : الشمس والقمر بحسبان .
الحسبان : مصدر زيدت فيه الألف والنون ، كما زيدت في الطغيان والرجحان والكفران ، فمعنى بحسبان أي بحساب وتقدير من العزيز العليم ، وذلك من آيات الله ونعمه أيضا على بني آدم ، لأنهم يعرفون به الشهور والسنين والأيام ، ويعرفون شهر الصوم وأشهر الحج ويوم الجمعة وعدد النساء اللاتي تعتد بالشهور ، كاليائسة والصغيرة والمتوفى عنها .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون [ 10 \ 5 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب [ 17 \ 12 ] .
قوله تعالى : والنجم والشجر يسجدان .
اختلف العلماء في المراد بالنجم في هذه الآية ، فقال بعض العلماء : النجم هو ما لا ساق له من النبات كالبقول ، والشجر هو ما له ساق ، وقال بعض أهل العلم : المراد بالنجم نجوم السماء .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي صوابه أن المراد بالنجم هو نجوم السماء ، والدليل على ذلك أن الله - جل وعلا - في سورة الحج صرح بسجود نجوم السماء والشجر ، ولم يذكر في آية من كتابه سجود ما ليس له ساق من النبات بخصوصه . ونعني بآية الحج قوله تعالى : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر الآية [ 22 \ 18 ] .
فدلت هذه الآية أن الساجد من الشجر في آية الرحمن هو النجوم السماوية المذكورة مع الشمس والقمر في سورة الحج . وخير ما يفسر به القرآن القرآن ، وعلى هذا الذي اخترناه فالمراد بالنجم النجوم ، وقد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم ، [ ص: 492 ] وأول سورة الحج ، وذكرنا أن من الشواهد العربية لإطلاق النجم وإرادة النجم - قول الراعي :
فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
وقول عمرو بن أبي ربيعة المخزومي :
أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب
ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصا والتراب
وقوله في هذه الآية الكريمة : يسجدان قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال [ 13 \ 15 ] .
قوله تعالى : والسماء رفعها ووضع الميزان .
قوله : والسماء رفعها قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " ق " في الكلام على قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها الآية [ 50 \ 6 ] .
وقوله : ووضع الميزان ، قد قدمنا الكلام عليه في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان الآية [ 42 \ 17 ] .
قوله تعالى : وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها [ 6 \ 152 ] ، وذكرنا بعضه في سورة الشورى .
قوله تعالى : والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية أنه وضع الأرض للأنام وهو الخلق ، لأن وضع الأرض لهم على هذا الشكل العظيم ، القابل لجميع أنواع الانتفاع من إجراء الأنهار وحفر الآبار وزرع الحبوب والثمار ، ودفن الأموات وغير ذلك من أنواع المنافع من أعظم الآيات [ ص: 493 ] وأكبر الآلاء التي هي النعم ، ولذا قال تعالى بعده : فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 13 ] .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من امتنانه - جل وعلا - على خلقه بوضع الأرض لهم بما فيها من المنافع ، وجعلها آية لهم ، دالة على كمال قدرة ربهم واستحقاقه للعبادة وحده - جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى : وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين الآية [ 13 \ 3 ] .
وقوله تعالى : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه الآية [ 67 \ 15 ] .
وقوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 : 30 - 33 ] ، وقوله تعالى : والأرض فرشناها فنعم الماهدون [ 51 \ 48 ] ، وقوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض فراشا الآية [ 2 \ 22 ] .
وقوله تعالى : والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا الآية [ 50 \ 7 ] .
وقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ 2 \ 29 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فيها فاكهة أي فواكه كثيرة ، وقد قدمنا أن هذا أسلوب عربي معروف ، وأوضحنا ذلك بالآيات وكلام العرب .
وقوله : والنخل ذات الأكمام ذات أي صاحبة ، والأكمام جمع كم بكسر الكاف ، وهو ما يظهر من النخلة في ابتداء إثمارها ، شبه اللسان ثم ينفخ عن النور ، وقيل : هو ليفها ، واختار ابن جرير شموله للأمرين .
وقوله : والحب كالقمح ونحوه .
وقوله : ذو العصف قال أكثر العلماء : العصف ورق الزرع ، ومنه قوله تعالى : فجعلهم كعصف مأكول [ 105 \ 5 ] ، وقيل : العصف التبن .
وقوله : والريحان : اختلف العلماء في معناه ، فقال بعض أهل العلم : هو كل [ ص: 494 ] ما طاب ريحه من النبت وصار يشم للتمتع بريحه . وقال بعض العلماء : الريحان الرزق ، ومنه قول النجم بن تولب العكلي :
فروح الإله وريحانه ورحمته وسماء درر غمام ينزل رزق العباد
فأحيا البلاد وطاب الشجر
ويتعين كون الريحان بمعنى الرزق على قراءة حمزة والكسائي ، وأما على قراءة غيرهما فهو محتمل للأمرين المذكورين .
وإيضاح ذلك أن هذه الآية قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم : والحب ذو العصف والريحان بضم الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث ، وهو عطف على فاكهة أي : فيها فاكهة ، وفيها الحب إلخ ، وقرأه ابن عامر : " والحب ذا العصف والريحان " ، بفتح الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث ، وفي رسم المصحف الشامي " ذا العصف " بألف بعد الذال ، مكان الواو ، والمعنى على قراءته : وخلق الحب ذا العصف والريحان ، وعلى هاتين القراءتين - فالريحان محتمل لكلا المعنيين المذكورين .
وقراءة حمزة والكسائي بضم الباء في " الحب " وضم الذال في " ذو العصف " وكسر نون الريحان عطفا على العصف ، وعلى هذا فالريحان لا يحتمل المشموم ؛ لأن الحب الذي هو القمح ونحوه - صاحب عصف وهو الورق أو التبن ، وليس صاحب مشموم طيب ريح .
فيتعين على هذه القراءة أن المراد بالعصف ما تأكله الأنعام من ورق وتبن . والمراد بالريحان ما يأكله الناس من نفس الحب ، فالآية على هذا المعنى كقوله : متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 33 ] ، وقوله تعالى : فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم [ 32 \ 27 ] .
وقوله تعالى : فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم [ 20 \ 53 - 54 ] ، وقوله تعالى : لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون الآية [ 16 \ 10 - 11 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فيها فاكهة ما ذكره تعالى فيه من الامتنان بالفاكهة التي هي أنواع - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في سورة [ ص: 495 ] الفلاح لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون [ 23 \ 19 ] ، وقوله تعالى : وفاكهة وأبا [ 80 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وما ذكره هنا من الامتنان بالحب جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى : فأنبتنا به جنات وحب الحصيد [ 50 \ 9 ] ، وقوله تعالى : فأنبتنا فيها حبا وعنبا [ 80 \ 27 - 28 ] ، وقوله تعالى : وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون [ 36 \ 33 ] ، وقوله تعالى : نخرج منه حبا متراكبا الآية [ 6 \ 99 ] ، وقوله تعالى : إن الله فالق الحب والنوى [ 6 \ 95 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وما ذكره تعالى هنا من الامتنان بالنخل - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى : والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد [ 50 \ 10 ] ، وقوله تعالى : فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب الآية [ 23 \ 19 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وما ذكره هنا من الامتنان بالريحان على أنه الرزق كما في قراءة حمزة والكسائي - جاء موضحا في آيات كثيرة أيضا كقوله تعالى : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] ، وقوله تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض [ 10 \ 31 ] ، وقوله تعالى : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه [ 67 \ 21 ] ، وقوله تعالى : وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات الآية [ 40 \ 64 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
مسألة :
أخذ بعض علماء الأصول من هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات كقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ 2 \ 29 ] - أن الأصل فيما على الأرض الإباحة ، حتى يرد دليل خاص بالمنع ، لأن الله امتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض ، وجعل لهم فيها أرزاقهم من القوت والتفكه في آية الرحمن هذه ، وامتن عليهم بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعا في قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا .
ومعلوم أنه - جل وعلا - لا يمتن بحرام إذ لا منة في شيء محرم ، واستدلوا لذلك أيضا بحصر المحرمات في أشياء معينة في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : [ ص: 496 ] قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير الآية [ 6 \ 145 ] ، وقوله تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن الآية [ 7 \ 33 ] ، وقوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآية [ 6 \ 151 ] .
وفي هذه المسألة قولان آخران :
أحدهما : أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة ، واحتجوا لهذا بأن جميع الأشياء مملوكة لله - جل وعلا - ، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه ، وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول ، ليس هذا محل بسطها .
القول الثاني : هو الوقف وعدم الحكم فيها بمنع ولا إباحة حتى يقوم الدليل ، فتحصل أن في المسألة ثلاثة مذاهب : المنع ، والإباحة ، والوقف .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل ، لأن الأعيان التي خلقها الله في الأرض للناس - بها ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر كأنواع الفواكه وغيرها .
الثانية : أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع كأكل الأعشاب السامة القاتلة .
الثالثة : أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى ، فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضرر ، فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك لعموم قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا . وقوله : والأرض وضعها للأنام الآية .
وإن كان فيها ضرر لا يشوبه نفع فهي على التحريم لقوله - صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " .
وإن كان فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى فلها ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون النفع أرجح من الضرر .
والثانية : عكس هذا .
والثالثة : أن يتساوى الأمران .
فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساويا له فالمنع لحديث : " لا ضرر ولا [ ص: 497 ] ضرار " ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وإن كان النفع أرجح ، فالأظهر الجواز ، لأن المقرر في الأصول أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
وألغ إن يك الفساد أبعدا
أو رجح الإصلاح كالأسارى تفدى بما ينفع للنصارى
وانظر تدلي دولي العنب في كل مشرق وكل مغرب
ومراده : تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة ، أو البعيدة ممثلا له بمثالين :
الأول منهما : أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة قدمت على المفسدة المرجوحة ، التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداء للأسارى .
الثاني : أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب ، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه ، لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة . وهذا التفصيل الذي اخترنا قد أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :
والحكم ما به يجيء الشرع وأصل كل ما يضر المنع
تنبيه :
اعلم أن علماء الأصول يقولون : إن الإنسان لا يحرم عليه فعل شيء إلا بدليل من الشرع ، ويقولون : إن الدليل على ذلك عقلي ، وهو البراءة الأصلية المعروفة بالإباحة العقلية ، وهي استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه .
ونحن نقول : إنه قد دلت آيات من كتاب الله على أن استصحاب العدم الأصلي قبل ورود الدليل الناقل عنه حجة في الإباحة ، ومن ذلك أن الله لما أنزل تشديده في تحريم الربا في قوله تعالى : فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله الآية [ 2 \ 279 ] ، وكانت وقت نزولها عندهم أموال مكتسبة من الربا ، اكتسبوها قبل نزول التحريم - بين الله تعالى لهم أن ما فعلوه من الربا على البراءة الأصلية قبل نزول التحريم لا حرج عليهم فيه ، إذ [ ص: 498 ] لا تحريم إلا ببيان ، وذلك في قوله تعالى : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف [ 2 \ 275 ] ، وقوله : ما سلف أي : ما مضى قبل نزول التحريم . ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف [ 4 \ 22 ] ، وقوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف [ 4 \ 23 ] . والأظهر أن الاستثناء فيهما في قوله : إلا ما قد سلف منقطع ، أي لكن ما سلف من ذلك قبل نزول التحريم فهو عفو ، لأنه على البراءة الأصلية .
ومن أصرح الآيات الدالة على ذلك - قوله تعالى : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [ 9 \ 115 ] ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استغفر لعمه أبي طالب بعد موته على الشرك ، واستغفر المسلمون لموتاهم المشركين عاتبهم الله في قوله : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى الآية [ 9 \ 113 ] - ندموا على الاستغفار لهم ، فبين الله لهم أن استغفارهم لهم لا مؤاخذة به ، لأنه وقع قبل بيان منعه ، وهذا صريح فيما ذكرنا .
وقد قدمنا أن الأخذ بالبراءة الأصلية يعذر به في الأصول أيضا في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وبينا هناك كلام أهل العلم في ذلك ، وأوضحنا ما جاء في ذلك من الآيات القرآنية . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار .
الصلصال : الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة ، أي صوت إذا قرع بشيء ، وقيل : الصلصال المنتن ، والفخار الطين المطبوخ ، وهذه الآية بين الله فيها طورا من أطوار التراب الذي خلق منه آدم ، فبين في آيات أنه خلقه من تراب كقوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] ، وقوله تعالى : ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون [ 30 \ 20 ] ، وقوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة [ 40 \ 67 ] ، وقوله تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم [ 20 \ 55 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
-
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (524)
سُورَةُ الرَّحْمَنِ
صـ 499 إلى صـ 506
[ ص: 499 ] وقد بينا في قوله تعالى : فإنا خلقناكم من تراب وقوله : منها خلقناكم أن المراد بخلقهم منها هو خلق أبيهم آدم منها ، لأنه أصلهم وهم فروعه ، ثم إن الله تعالى عجن هذا التراب بالماء فصار طينا ، ولذا قال : أأسجد لمن خلقت طينا [ 17 \ 61 ] ، وقال : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ 23 \ 12 ] ، وقال تعالى : وبدأ خلق الإنسان من طين [ 32 \ 7 ] ، وقال : أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب [ 37 \ 11 ] ، وقال تعالى : إني خالق بشرا من طين [ 38 \ 71 ] ، ثم خمر هذا الطين فصار حمأ مسنونا ، أي طينا أسود متغير الريح ، كما قال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون الآية [ 15 \ 26 ] . قال تعالى : إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون [ 15 \ 28 ] ، وقال عن إبليس : قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون [ 15 \ 33 ] ، والمسنون قيل المتغير ، وقيل المصور ، وقيل الأملس ، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالا . كما قال هنا : خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، وقال : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون .
فالآيات يصدق بعضها بعضا ، ويتبين فيها أطوار ذلك التراب ; كما لا يخفى .
قوله : الجان أي وخلق الجان وهو أبو الجن ، وقيل : هو إبليس . وقيل : هو الواحد من الجن .
وعليه فالألف واللام للجنس ، والمارج : اللهب الذي لا دخان فيه ، وقوله : من نار بيان لمارج ، أي من لهب صاف كائن من النار .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه تعالى خلق الجان من النار - جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في الحجر : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم [ 15 \ 26 ] ، وقوله تعالى : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين .
وقد أوضحنا الكلام على هذا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 \ 34 ] .
قوله تعالى : رب المشرقين ورب المغربين .
[ ص: 500 ] قد أوضحنا الكلام عليه في أول الصافات في الكلام على قوله تعالى : رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق [ 37 \ 5 ] .
قوله تعالى : مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا [ 25 \ 53 ] .
قوله تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان .
قرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو : " يخرج " بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول ، وعليه فاللؤلؤ نائب فاعل " يخرج " وقرأه باقي السبعة : يخرج بفتح الياء وضم الراء مبنيا للفاعل ، وعليه فاللؤلؤ فاعل " يخرج " .
اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا : إن المراد بقوله في هذه الآية يخرج منهما أي من مجموعها الصادق بالبحر الملح ، وإن الآية من إطلاق المجموع وإرادة بعضه ، وإن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان من البحر الملح وحده دون العذب .
وهذا القول الذي قالوه في هذه الآية مع كثرتهم وجلالتهم لا شك في بطلانه ، لأن الله صرح بنقيضه في سورة فاطر ، ولا شك أن كل ما ناقض القرآن فهو باطل ، وذلك في قوله تعالى : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها [ 35 \ 12 ] ، فالتنوين في قوله : من كل تنوين عوض أي من كل واحد من العذب والملح تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها ، وهي اللؤلؤ والمرجان ، وهذا مما لا نزاع فيه .
وقد أوضحنا هذا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم الآية [ 6 \ 130 ] ، واللؤلؤ الدر ، والمرجان الخرز الأحمر . وقال بعضهم : المرجان صغار الدر واللؤلؤ كباره .
قوله تعالى : وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام .
[ ص: 501 ] قد قدمنا الكلام عليه في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى : ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام [ 42 \ 32 ] .
قوله تعالى : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من فناء كل من على الأرض وبقاء وجهه - جل وعلا - المتصف بالجلال والإكرام - جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه [ 28 \ 88 ] ، وقوله تعالى : وتوكل على الحي الذي لا يموت [ 25 \ 58 ] ، وقوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت [ 3 \ 185 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والوجه صفة من صفات الله العلي وصف بها نفسه ، فعلينا أن نصدق ربنا ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق .
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح بالآيات القرآنية في سورة الأعراف ، وفي سورة القتال . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] ، وتكلمنا أيضا هناك على غيرها من الآيات التي يفسرها الجاهلون بكتاب الله بغير معانيها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن السماء ستنشق يوم القيامة ، وأنها إذا انشقت صارت وردة كالدهان ، وقوله : وردة : أي حمراء كلون الورد ، وقوله : كالدهان : فيه قولان معروفان للعلماء :
الأول منهما : أن الدهان هو الجلد الأحمر ، وعليه فالمعنى أنها تصير وردة متصفة بلون الورد مشابهة للجلد الأحمر في لونه .
[ ص: 502 ] والثاني : أن الدهان هو ما يدهن به ، وعليه ، فالدهان ، قيل : هو جمع دهن ، وقيل : هو مفرد ، لأن العرب تسمي ما يدهن به دهانا ، وهو مفرد ، ومنه قول امرئ القيس :
كأنهما مزادتا متعجل فريان لما تسلقا بدهان
وحقيقة الفرق بين القولين أنه على القول بأن الدهان هو الجلد الأحمر يكون الله وصف السماء عند انشقاقها يوم القيامة بوصف واحد وهو الحمرة فشبهها بحمرة الورد ، وحمرة الأديم الأحمر .
قال بعض أهل العلم : إنها يصل إليها حر النار فتحمر من شدة الحرارة . وقال بعض أهل العلم : أصل السماء حمراء إلا أنها لشدة بعدها وما دونها من الحواجز لم تصل العيون إلى إدراك لونها الأحمر على حقيقته ، وأنها يوم القيامة ترى على حقيقة لونها .
وأما على القول بأن الدهان هو ما يدهن به ، فإن الله قد وصف السماء عند انشقاقها بوصفين أحدهما حمرة لونها ، والثاني أنها تذوب وتصير مائعة كالدهن .
أما على القول الأول ، فلم نعلم آية من كتاب الله تبين هذه الآية ، بأن السماء ستحمر يوم القيامة حتى تكون كلون الجلد الأحمر .
وأما على القول الثاني الذي هو أنها تذوب وتصير مائعة ، فقد أوضحه الله في غير هذا الموضع وذلك في قوله تعالى في المعارج : إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا يوم تكون السماء كالمهل [ 70 \ 7 - 8 ] ، والمهل شيء ذائب على كلا القولين ، سواء قلنا : إنه دردي الزيت وهو عكره ، أو قلنا إنه الذائب من حديد أو نحاس أو نحوهما .
وقد أوضح تعالى في الكهف أن المهل شيء ذائب يشبه الماء ، شديد الحرارة ، وذلك في قوله تعالى : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا [ 18 \ 29 ] .
والقول بأن الوردة تشبيه بالفرس الكميت وهو الأحمر لأن حمرته تتلون باختلاف الفصول ، فتشتد حمرتها في فصل ، وتميل إلى الصفرة في فصل ، وإلى الغبرة في فصل .
وأن المراد بالتشبيه كون السماء عند انشقاقها تتلون بألوان مختلفة واضح البعد عن ظاهر الآية . وقول من قال : إنها تذهب وتجيء - معناه له شاهد في كتاب الله ، وذلك في [ ص: 503 ] قوله تعالى : يوم تمور السماء مورا الآية [ 52 \ 9 ] ، ولكنه لا يخلو عندي من بعد .
وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من انشقاق السماء يوم القيامة - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى : إذا السماء انشقت [ 84 \ 1 ] ، وقوله تعالى : فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء [ 69 \ 15 - 16 ] ، وقوله : ويوم تشقق السماء بالغمام الآية [ 25 \ 25 ] ، وقوله : إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " ق " في الكلام على قوله تعالى : وما لها من فروج [ 50 \ 6 ] .
قوله تعالى : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة لا يسأل إنسا ولا جانا عن ذنبه ، وبين هذا المعنى في قوله تعالى في القصص : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] .
وقد ذكر - جل وعلا - في آيات أخر أنه يسأل جميع الناس يوم القيامة الرسل والمرسل إليهم ، وذلك في قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، وقوله : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] .
وقد جاءت آيات من كتاب الله مبينة لوجه الجمع بين هذه الآيات التي قد يظن غير العالم أن بينها اختلافا .
اعلم أولا أن السؤال المنفي في قوله هنا فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ، وقوله : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] - أخص من السؤال المثبت في قوله : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ، لأن هذه فيها تعميم السؤال في كل عمل ، والآيتان قبلها ليس فيهما نفي السؤال إلا عن الذنوب خاصة ، وللجمع بين هذه الآيات أوجه معروفة عند العلماء .
الأول منهما : وهو الذي دل عليه القرآن ، وهو محل الشاهد عندنا من بيان القرآن بالقرآن هنا ، هو أن السؤال نوعان : أحدهما سؤال التوبيخ والتقريع وهو من أنواع العذاب ، والثاني هو سؤال الاستخبار والاستعلام .
فالسؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام ، لأن الله أعلم [ ص: 504 ] بأفعالهم منهم أنفسهم كما قال تعالى : أحصاه الله ونسوه [ 58 \ 6 ] .
وعليه فالمعنى : لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان سؤال استخبار واستعلام لأن الله أعلم بذنبه منه .
والسؤال المثبت في الآيات الأخرى هو سؤال التوبيخ والتقريع ، سواء كان عن ذنب أو غير ذنب . ومثال سؤالهم عن الذنوب سؤال توبيخ وتقريع قوله تعالى : فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون [ 3 \ 106 ] ، ومثاله عن غير ذنب قوله تعالى : وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون [ 37 \ 24 - 26 ] ، وقوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا [ 52 \ 13 - 15 ] ، وقوله : ألم يأتكم رسل منكم [ 6 \ 130 ] .
أما سؤال الموءودة في قوله : وإذا الموءودة سئلت [ 81 \ 8 ] ، فلا يعارض الآيات النافية السؤال عن الذنب ، لأنها سئلت عن أي ذنب قتلت وهذا ليس من ذنبها ، والمراد بسؤالها توبيخ قاتلها وتقريعه ، لأنها هي تقول لا ذنب لي فيرجع اللوم على من قتلها ظلما .
وكذلك سؤال الرسل ، فإن المراد به توبيخ من كذبهم وتقريعه ، مع إقامة الحجة عليه بأن الرسل قد بلغته ، وباقي أوجه الجمع بين الآيات لا يدل عليه قرآن ، وموضوع هذا الكتاب بيان القرآن بالقرآن ، وقد بينا بقيتها في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في أول سورة الأعراف .
وقد قدمنا طرفا من هذا الكتاب المبارك في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] .
قوله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام .
قوله : بسيماهم : أي بعلامتهم المميزة لهم ، وقد دل القرآن على أنها هي سواد وجوههم وزرقة عيونهم ، كما قال تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم الآية [ 3 \ 106 ] ، وقال تعالى : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة [ 39 \ 70 ] [ ص: 505 ] وقال تعالى : وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 10 \ 27 ] ، وقال تعالى : ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة [ 80 \ 40 - 42 ] ، لأن معنى قوله : ترهقها قترة أي يعلوها ويغشاها سواد كالدخان الأسود ، وقال تعالى في زرقة عيونهم : ونحشر المجرمين يومئذ زرقا [ 20 \ 102 ] ، ولا شيء أقبح وأشوه من سواد الوجوه وزرقة العيون ، ولذا لما أراد الشاعر أن يقبح علل البخيل بأسوأ الأوصاف وأقبحها ، فوصفها بسواد الوجوه وزرقة العيون حيث قال :
وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود
ولا سيما إذا اجتمع مع سواد الوجه اغبراره ، كما في قوله : عليها غبرة ترهقها قترة فإن ذلك يزيده قبحا على قبح .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فيؤخذ بالنواصي والأقدام ، وقد قدمنا تفسيره والآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا [ 52 \ 13 ] .
قوله تعالى : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن .
أما قوله : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور أيضا في الكلام على قوله تعالى : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] .
وأما قوله تعالى : يطوفون بينها وبين حميم آن فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم الآية [ 22 \ 19 - 20 ] .
قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان .
وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون فيها وجهان صحيحان كلاهما يشهد له قرآن ، فنذكر ذلك كله مبينين أنه كله حق ، وذكرنا لذلك أمثلة متعددة في [ ص: 506 ] هذا الكتاب المبارك ، ومن ذلك هذه الآية الكريمة .
وإيضاح ذلك أن هذه الآية الكريمة فيها وجهان معروفان عند العلماء ، كلاهما يشهد له قرآن .
أحدهما : أن المراد بقوله : مقام ربه : أي قيامه بين يدي ربه ، فالمقام اسم مصدر بمعنى القيام ، وفاعله على هذا الوجه هو العبد الخائف ، وإنما أضيف إلى الرب لوقوعه بين يديه ، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ 79 \ 40 ] ، فإن قوله : ونهى النفس عن الهوى : قرينة دالة على أنه خاف عاقبة الذنب حين يقوم بين يدي ربه ، فنهى نفسه عن هواها .
والوجه الثاني : أن فاعل المصدر الميمي الذي هو المقام - هو الله تعالى ، أي : خاف هذا العبد قيام الله عليه ومراقبته لأعماله وإحصاءها عليه ، ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على قيام الله على جميع خلقه وإحصائه عليهم أعمالهم كقوله تعالى : الله لا إله إلا هو الحي القيوم [ 2 \ 255 ] ، وقوله تعالى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [ 13 \ 33 ] ، وقوله تعالى : ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه الآية [ 10 \ 61 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد قدمنا في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى في شأن الجن : ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم الآية [ 46 \ 31 ] أن قوله : ولمن خاف مقام ربه جنتان ، وتصريحه بالامتنان بذلك على الإنس والجن في قوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 47 ] نص قرآني على أن المؤمنين الخائفين مقام ربهم من الجن يدخلون الجنة .
قوله تعالى : متكئين على فرش بطائنها من إستبرق .
قد بينا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] ، جميع الآيات القرآنية الدالة على تنعم أهل الجنة بالسندس والإستبرق ، والحلية بالذهب والفضة ، وبينا أن جميع ذلك يحرم على ذكور هذه الأمة في دار الدنيا .
قوله تعالى : فيهن قاصرات الطرف .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg