-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 299)
من صــ 181 الى صـ 195
" أحدها " أنه إذا حنث لزمه ما حلف به. " والثاني " لا يلزمه شيء. و " الثالث " يلزمه كفارة يمين. ومن العلماء من فرق بين الحلف والطلاق والعتاق وغيرها. والقول الثالث أظهر الأقوال؛ لأن الله تعالى قال: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وقال: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم}
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وعدي بن حاتم وأبي
موسى أنه قال: {ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} وجاء هذا المعنى في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي موسى وعبد الرحمن بن سمرة وهذا يعم جميع أيمان المسلمين فمن حلف بيمين من أيمان المسلمين وحنث أجزأته كفارة يمين. ومن حلف بإيمان الشرك: مثل أن يحلف بتربة أبيه؛ أو الكعبة أو نعمة السلطان أو حياة الشيخ أو غير ذلك من المخلوقات: فهذه اليمين غير منعقدة ولا كفارة فيها إذا حنث باتفاق أهل العلم.
" والنوع الثالث " من الصيغ: أن يعلق الطلاق أو العتاق أو النذر بشرط؛ فيقول: إن كان كذا فعلي الطلاق. أو الحج. أو فعبيدي أحرار. ونحو ذلك: فهذا ينظر إلى مقصوده فإن كان مقصوده أن يحلف بذلك ليس غرضه وقوع هذه الأمور - كمن ليس غرضه وقوع الطلاق إذا وقع الشرط - فحكمه حكم الحالف؛ وهو من " باب اليمين ".
وأما إن كان مقصوده وقوع هذه الأمور: كمن غرضه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط: مثل أن يقول لامرأته: إن أبرأتيني من طلاقك أنت طالق. فتبرئه. أو يكون عرضه أنها إذا فعلت فاحشة أن يطلقها فيقول: إذا فعلت كذا فأنت طالق؛ بخلاف من كان غرضه أن يحلف عليها ليمنعها؛ ولو فعلته لم يكن له غرض في طلاقها فإنها تارة يكون طلاقها أكره إليه من الشرط فيكون حالفا.
وتارة يكون الشرط المكروه أكره إليه من طلاقها؛ فيكون موقعا للطلاق إذا وجد ذلك الشرط فهذا يقع به الطلاق وكذلك إن قال: إن شفى الله مريضي فعلي صوم شهر فشفي فإنه يلزمه الصوم. فالأصل في هذا: أن ينظر إلى مراد المتكلم ومقصوده فإن كان غرضه أن تقع هذه الأمور وقعت منجزة أو معلقة إذا قصد وقوعها عند وقوع الشرط. وإن كان مقصوده أن يحلف بها؛ وهو يكره وقوعها إذا حنث وإن وقع الشرط فهذا حالف بها؛ لا موقع لها فيكون قوله من " باب اليمين "؛ لا من " باب التطليق والنذر " فالحالف هو الذي يلتزم ما يكره وقوعه عند المخالفة كقوله: إن فعلت كذا فأنا يهودي؛ أو نصراني ونسائي طوالق وعبيدي أحرار وعلي المشي إلى بيت الله. فهذا ونحوه يمين؛ بخلاف من يقصد وقوع الجزاء من ناذر ومطلق ومعلق فإن ذلك يقصد ويختار لزوم ما التزمه وكلاهما ملتزم؛ لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم وإن وجد الشرط الملزوم كما إذا قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني فإن هذا يكره الكفر ولو وقع الشرط: فهذا حالف.
والموقع يقصد وقوع الجزاء اللازم عند وقوع الشرط الملزوم؛ سواء كان الشرط مرادا له أو مكروها أو غير مراد له. فهذا موقع ليس بحالف. وكلاهما ملتزم معلق؛ لكن هذا الحالف يكره وقوع اللازم. والفرق بين هذا وهذا ثابت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكابر التابعين وعليه دل الكتاب والسنة وهو مذهب جمهور العلماء.
كالشافعي وأحمد وغيرها: في تعليق النذر. قالوا: إذا كان مقصوده النذر فقال: لئن شفى الله مريضي فعلي الحج. فهو ناذر إذا شفى الله مريضه لزمه الحج فهذا حالف تجزئه كفارة يمين ولا حج عليه.
وكذلك قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ابن عمر وابن عباس وعائشة وأم سلمة. وزينب ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم وغير واحد من الصحابة في من قال إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر. قالوا: يكفر عن يمينه. ولا يلزمه العتق. هذا مع أن العتق طاعة وقربة؛ فالطلاق لا يلزمه بطريق الأولى كما قال ابن عباس رضي الله عنه الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله. ذكره البخاري في صحيحه.
بين ابن عباس أن الطلاق إنما يقع بمن غرضه أن يوقعه؛ لا لمن يكره وقوعه كالحالف به والمكره عليه وعن عائشة أنها قالت: كل يمين وإن عظمت فكفارتها كفارة اليمين بالله. وهذا يتناول جميع الأيمان: من الحلف بالطلاق والعتاق والنذر. وغير ذلك. والقول بأن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق مذهب خلق كثير من السلف والخلف؛ لكن فيهم من لا يلزمه الكفارة: كداود وأصحابه ومنهم من يلزمه كفارة يمين: كطاووس وغيره من السلف والخلف.
والأيمان التي يحلف بها الخلق ثلاثة أنواع.
" أحدها " يمين محترمة منعقدة: كالحلف باسم الله تعالى: فهذه فيها الكفارة بالكتاب والسنة والإجماع.
" الثاني " الحلف بالمخلوقات: كالحالف بالكعبة. فهذه لا كفارة فيها باتفاق المسلمين. " والثالث " أن يعقد اليمين لله فيقول: إن فعلت كذا فعلي الحج. أو مالي صدقة. أو فنسائي طوالق.
أو فعبيدي أحرار؛ ونحو ذلك فهذه فيها الأقوال الثلاثة المتقدمة: إما لزوم المحلوف به وإما الكفارة وإما لا هذا ولا هذا. وليس في حكم الله ورسوله إلا يمينان: يمين من أيمان المسلمين ففيها الكفارة. أو يمين ليست من أيمان المسلمين: فهذه لا شيء فيها إذا حنث. فهذه الأيمان إن كانت من أيمان المسلمين ففيها كفارة؛ وإن لم تكن من أيمان المسلمين لم يلزم بها شيء.
فأما إثبات يمين يلزم الحالف بها ما التزمه ولا تجزئه فيها كفارة: فهذا ليس في دين المسلمين؛ بل هو مخالف للكتاب والسنة. والله تعالى ذكر في سورة التحريم حكم أيمان المسلمين وذكر في السورة التي قبلها حكم طلاق المسلمين فقال في سورة التحريم: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم} وقال في سورة الطلاق:
{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا} {ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} فهو سبحانه بين في هذه السورة حكم الطلاق وبين في تلك حكم أيمان المسلمين. وعلى المسلمين أن يعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله فيعرفوا ما يدخل في الطلاق وما يدخل في أيمان المسلمين ويحكموا في هذا بما حكم الله ورسوله ولا يتعدوا حدود الله فيجعلوا حكم أيمان المسلمين وحكم طلاقهم حكم أيمانهم؛ فإن هذا مخالف لكتاب الله وسنة رسوله.
وإن كان قد اشتبه بعض ذلك على كثير من علماء المسلمين فقد عرف ذلك غيرهم من علماء المسلمين والذين ميزوا بين هذا وهذا من الصحابة والتابعين هم أجل قدرا عند المسلمين ممن اشتبه عليه هذا وهذا وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فما تنازع فيه المسلمين وجب رده إلى الكتاب والسنة. والاعتبار - الذي هو أصح القياس وأجلاه - إنما يدل على قول من فرق بين هذا وهذا مع ما في ذلك من صلاح المسلمين في دينهم ودنياهم إذا فرقوا بين ما فرق الله ورسوله بينه فإن الذين لم يفرقوا بين هذا وهذا أوقعهم هذا الاشتباه: إما في آصار وأغلال وإما في مكر واحتيال: كالاحتيال في ألفاظ الأيمان والاحتيال بطلب إفساد النكاح والاحتيال بدور الطلاق والاحتيال بخلع اليمين والاحتيال بالتحليل.
والله أغنى المسلمين بنبيهم الذي قال الله فيه: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} أي يخلصهم من الآصار والأغلال؛ ومن الدخول في منكرات أهل الحيل. والله تعالى أعلم.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
إذا حلف الرجل يمينا من الأيمان، فالأيمان ثلاثة أقسام:
" أحدها " ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات. كالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء؛ وتربتهم ونحو ذلك: فهذه يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء؛ بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم والنهي نهي تحريم في أصح قوليهم. ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت} وقال {إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم} وفي السنن عنه أنه قال: {من حلف بغير الله فقد أشرك}.
" والثاني " اليمين بالله تعالى كقوله: والله لأفعلن. فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين. وأيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها تعظيم الخالق - لا الحلف بالمخلوقات - كالحلف بالنذر والحرام والطلاق والعتاق كقوله: إن فعلت كذا فعلي صيام شهر أو الحج إلى بيت الله. أو الحل علي حرام لا أفعل كذا. أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام. أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا. أو لا أفعله. أو إن فعلته فنسائي طوالق وعبيدي أحرار وكل ما أملكه صدقة. ونحو ذلك فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة أقوال.
قيل إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به. وقيل لا يلزمه شيء. وقيل: يلزمه كفارة يمين. ومنهم من قال: الحلف بالنذر يجزيه فيه الكفارة والحلف بالطلاق والعتاق يلزمه ما حلف به. وأظهر الأقوال وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار: أنه يجزئه كفارة يمين في جميع أيمان المسلمين كما قال الله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وقال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} فإذا قال: الحل علي حرام لا أفعل كذا. أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا.
أو إن فعلت كذا فعلي الحج. أو مالي صدقة: أجزأه في ذلك كفارة يمين فإن كفر كفارة الظهار فهو أحسن. وكفارة اليمين يخير فيها بين العتق أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم وإذا أطعمهم أطعم كل واحد جراية من الجرايات المعروفة في بلده: مثل أن يطعم ثمان أواق أو تسع أواق بالشامي ويطعم مع ذلك إدامها؛ كما جرت عادة أهل الشام في إعطاء الجرايات خبزا وإداما. وإذا كفر يمينه لم يقع به الطلاق.
وأما إذا قصد إيقاع الطلاق على الوجه الشرعي: مثل أن ينجز الطلاق فيطلقها واحدة في طهر لم يصبها فيه: فهذا يقع به الطلاق باتفاق العلماء وكذلك إذا علق الطلاق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها: مثل أن يكون مريدا للطلاق إذا فعلت أمرا من الأمور. فيقول لها: إن فعلته فأنت طالق. قصده أن يطلقها إذا فعلته: فهذا مطلق يقع به الطلاق عند السلف وجماهير الخلف؛ بخلاف من قصده أن ينهاها ويزجرها باليمين؛ ولو فعلت ذلك الذي يكرهه لم يجز أن يطلقها؛ بل هو مريد لها وإن فعلته؛ لكنه قصد اليمين لمنعها عن الفعل؛ لا مريدا أن يقع الطلاق وإن فعلته: فهذا حلف لا يقع به الطلاق في أظهر قولي العلماء من السلف والخلف؛ بل يجزئه كفارة يمين كما تقدم.
(ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم؛ فقال تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}؟ فوصف الأربعة بأنها رجس من عمل الشيطان؛ وأمر باجتنابها ثم خص الخمر والميسر بأنه يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة. ويهدد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} كما علق الفلاح بالاجتناب في قوله: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} ولهذا يقال: إن هذه الآية دلت على تحريم الخمر والميسر من عدة أوجه. ومعلوم أن " الخمر " لما أمر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه فلا يجوز اقتناؤها ولا شرب قليلها بل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإراقتها وشق ظروفها وكسر دنانها ونهى عن تخليلها وإن كانت ليتامى. مع أنها اشتريت لهم قبل التحريم؛ ولهذا كان الصواب الذي هو المنصوص عن أحمد وابن المبارك وغيرهما: أنه ليس في الخمر شيء محترم؛ لا خمرة الخلال ولا غيرها وأنه من اتخذ خلا فعليه أن يفسده قبل أن يتخمر: بأن يصب في العصير خلا وغير ذلك مما يمنع تخميره؛ بل كان النبي صلى الله عليه وسلم {نهى عن الخليطين} لئلا يقوى أحدهما على صاحبه فيفضي إلى أن يشرب الخمر المسكر من لا يدري. ونهى عن الانتباذ في الأوعية التي يدب السكر فيها ولا يدري ما به كالدباء والحنتم والظرف المزفت والمنقور من الخشب.
وأمر بالانتباذ في السقاء الموكى لأن السكر ينظر: إذا كان في الشراب انشق الظرف؛ وإن كان في نسخ ذلك أو بعضه نزاع ليس هذا موضع ذكره. فالمقصود سد الذرائع المفضية إلى ذلك بوجه من الوجوه.
وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
" الميسر " اشتمل على " مفسدتين ": مفسدة في المال. وهي أكله بالباطل. ومفسدة في العمل وهي ما فيه من مفسدة المال وفساد القلب والعقل وفساد ذات البين. وكل من المفسدتين مستقلة بالنهي فينهى عن أكل المال بالباطل مطلقا ولو كان بغير ميسر كالربا وينهى عما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء ولو كان بغير أكل مال. فإذا اجتمعا عظم التحريم: فيكون الميسر المشتمل عليهما أعظم من الربا.
ولهذا حرم ذلك قبل تحريم الربا ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر حرمها ولو كان الشارب يتداوى بها كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح. وحرم بيعها لأهل الكتاب وغيرهم وإن كان أكل ثمنها لا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ولا يوقع العداوة والبغضاء؛ لأن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه كل ذلك مبالغة في الاجتناب. فهكذا الميسر منهي عن هذا وعن هذا. والمعين على الميسر كالمعين على الخمر؛ فإن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان. وكما أن الخمر تحرم الإعانة عليها ببيع أو عصر أو سقي أو غير ذلك: فكذلك الإعانة على الميسر: كبائع آلاته والمؤجر لها والمذبذب الذي يعين أحدهما: بل مجرد الحضور عند أهل الميسر كالحضور عند أهل شرب الخمر.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم. {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر} وقد رفع إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوم يشربون الخمر فأمر بضربهم فقيل له: إن فيهم صائما. فقال ابدءوا به ثم قال: أما سمعت قوله تعالى {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} فاستدل عمر بالآية؛ لأن الله تعالى جعل حاضر المنكر مثل فاعله؛ بل إذا كان من دعا إلى دعوة العرس لا تجاب دعوته إذا اشتملت على منكر حتى يدعه مع أن إجابة الدعوة حق: فكيف بشهود المنكر من غير حق يقتضي ذلك.
(ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون (105)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
قوله - تعالى علوا كبيرا: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} لا يقتضي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا نهيا ولا إذنا كما في الحديث المشهور في السنن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه}.
وكذلك في حديث أبي ثعلبة الخشني مرفوعا في تأويلها {إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك} وهذا يفسره حديث أبي سعيد في مسلم: {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} فإذا قوي أهل الفجور حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى البر؛ بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب سقط التغيير باللسان في هذه الحال وبقي بالقلب و " الشح " هو شدة الحرص التي توجب البخل والظلم وهو منع الخير وكراهته و " الهوى المتبع " في إرادة الشر ومحبته و " الإعجاب بالرأي " في العقل والعلم فذكر فساد القوى الثلاث التي هي العلم والحب والبغض. كما في الحديث الآخر: {ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وبإزائها الثلاث المنجيات: خشية الله في السر والعلانية والقصد في الفقر والغنى وكلمة الحق في الغضب والرضا} وهي التي سألها في الحديث الآخر: {اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى}.
فخشية الله بإزاء اتباع الهوى فإن الخشية تمنع ذلك كما قال: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} والقصد في الفقر والغنى بإزاء الشح المطاع وكلمة الحق في الغضب والرضا بإزاء إعجاب المرء بنفسه وما ذكره الصديق ظاهر؛ فإن الله قال: {عليكم أنفسكم} أي الزموها وأقبلوا عليها ومن مصالح النفس فعل ما أمرت به من الأمر والنهي. وقال: {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله وأدي الواجب من الأمر والنهي وغيرهما؛ ولكن في الآية فوائد عظيمة:" أحدها " ألا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين فإنهم لن يضروه إذا كان مهتديا.
" الثاني " ألا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى والحزن على ما لا يضر عبث وهذان المعنيان مذكوران في قوله: {واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون}. " الثالث " ألا يركن إليهم ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات كقوله: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم} فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم في آية ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم إما راغبا وإما راهبا.
" الرابع " ألا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم؛ بل يقال لمن اعتدى عليهم عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت كما قال: {ولا يجرمنكم شنآن قوم} الآية. وقال: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وقال: {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} فإن كثيرا من الآمرين الناهين قد يتعدى حدود الله إما بجهل وإما بظلم وهذا باب يجب التثبت فيه وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 300)
من صــ 196 الى صـ 210
" الخامس " أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع من العلم والرفق والصبر وحسن القصد وسلوك السبيل القصد فإن ذلك داخل في قوله: {عليكم أنفسكم} وفي قوله: {إذا اهتديتم}.
فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيها المعنى الآخر. وهو إقبال المرء على مصلحة نفسه علما وعملا وإعراضه عما لا يعنيه كما قال صاحب الشريعة: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه لا سيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة. وكذلك العمل فصاحبه إما معتد ظالم وإما سفيه عابث وما أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ويكون من باب الظلم والعدوان. فتأمل الآية في هذه الأمور من أنفع الأشياء للمرء وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات والقرآن؛ محنة أحمد وغيره وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به وهو الإسراف المذكور في قولهم: {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا}.
وبإزاء هذا العدوان تقصير آخرين فيما أمروا به من الحق أو فيما أمروا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الأمور كلها فما أحسن ما قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين - لا يبالي بأيهما ظفر - غلو أو تقصير. فالمعين على الإثم والعدوان بإزائه تارك الإعانة على البر والتقوى وفاعل المأمور به وزيادة منهي عنها بإزائه تارك المنهي عنه وبعض المأمور به والله يهدينا الصراط المستقيم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين (106)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
الذي يدل عليه القرآن في سورة المائدة في آية الشهادة في قوله {فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا} أي بقولنا ولو كان ذا قربى حذف ضمير كان لظهوره أي ولو كان المشهود له كما في قوله: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} وكما في قوله: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} إلى قوله: {إن يكن غنيا أو فقيرا} أي المشهود عليه ونحو ذلك؛ لأن العادة أن الشهادة المزورة يعتاض عليها وإلا فليس أحد يشهد شهادة مزورة بلا عوض - ولو مدح - أو اتخاذ يد. وآفة الشهادة: إما اللي وإما الإعراض: الكذب والكتمان فيحلفان لا نشتري بقولنا ثمنا: أي لا نكذب ولا نكتم شهادة الله أو لا نشتري بعهد الله ثمنا؛ لأنهما كانا مؤتمنين فعليهما عهد بتسليم المال إلى مستحقه؛ فإن الوصية عهد من العهود.
وقوله بعد ذلك {فإن عثر على أنهما استحقا إثما} أعم من أن يكون في الشهادة أو الأمانة. وسبب نزول الآية يقتضي أنه كان في الأمانة فإنهما استشهدا وائتمنا لكن ائتمانهما ليس خارجا عن القياس؛ بل حكمه ظاهر فلم يحتج فيه إلى تنزيل بخلاف استشهادهما والمعثور على استحقاق الإثم ظهور بعض الوصية عند من اشتراها منهما بعد أن وجد ذكرها في الوصية وسئلا عنها فأنكراها. وقوله: {من الذين استحق عليهم} يحتمل أن يكون مضمنا معنى بغى عليهم وعدى (عليهم كما يقال في الغصب: غصبت علي مالي.
ولهذا قيل: {لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا} أي كما اعتدوا. ثم قوله: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} وحديث ابن عباس في البخاري صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بمعنى ما في القرآن فرد اليمين على المدعيين بعد أن استحلف المدعى عليهم لما عثر على أنهما استحقا إثما وهو إخبار المشترين أنهم اشتروا " الجام " منهما بعد قولهما ما رأيناه فحلف النبي صلى الله عليه وسلم اثنين من المدعين الأوليان وأخذ " الجام " من المشتري وسلم إلى المدعي وبطل البيع وهذا لا يكون مع إقرارهما بأنهما باعا الجام؛ فإنه لم يكن يحتاج إلى يمين المدعيين لو اعترفا بأنه جام الموصي وأنهما غصباه وباعاه بل بقوا على إنكار قبضه مع بيعه أو ادعوا مع ذلك أنه أوصى لهما به وهذا بعيد. فظاهر الآية أن المدعى عليه المتهم بخيانة ونحوها - كما اتهم هؤلاء - إذا ظهر كذبه وخيانته كان ذلك لوثا يوجب رجحان جانب المدعي؛ فيحلف ويأخذ كما قلنا في الدماء سواء والحكمة فيهما واحدة وذلك أنه لما كانت العادة أن القتل لا يفعل علانية بل سرا فيتعذر إقامة البينة ولا يمكن أن يؤخذ بقول المدعي مطلقا أخذ بقول من يترجح جانبه فمع عدم اللوث جانب المنكر راجح أما إذا كان قتل ولوث قوي جانب المدعي فيحلف.
وكذلك الخيانة والسرقة يتعذر إقامة البينة عليهما في العادة ومن يستحل أن يسرق فقد لا يتورع عن الكذب فإذا لم يكن لوث فالأصل براءة الذمة أما إذا ظهر لوث بأن يوجد بعض المسروق عنده فيحلف المدعي ويأخذ وكذلك لو حلف المدعى عليه ابتداء ثم ظهر بعض المسروق عند من اشتراه أو اتهبه أو أخذه منه فإن هذا اللوث في تغليب الظن أقوى؛ لكن في الدم قد يتيقن القتل ويشك في عين القاتل فالدعوى إنما هي بالتعيين. وأما في الأموال: فتارة يتيقن ذهاب المال وقدره مثل أن يكون معلوما في مكان معروف، وتارة يتيقن ذهاب مال لا قدره بأن يعلم أنه كان هناك مال وذهب. وتارة يتيقن هتك الحرز ولا يدري أذهب بشيء أم لا؟ هذا في دعوى السرقة وأما في دعوى الخيانة فلا تعلم الخيانة فإذا ظهر بعض المال المتهم به عند المدعى عليه أو من قبضه منه ظهر اللوث بترجيح جانب المدعي فإن تحليف المدعى عليه حينئذ بعيد.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم {لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم. ولكن اليمين على المدعى عليه} جمع فيه الدماء والأموال فكما أن الدماء إذا كان مع المدعي لوث حلف فكذلك الأموال كما حلفناه مع شاهده فكل ما يغلب على الظن صدقه فهو بمنزلة شاهده كما جعلنا في الدماء الشهادة المزورة لنقص نصابها أو صفاتها لوثا وكذلك في الأموال جعل الشاهد مع اليمين فالشاهد المزور مع لوث وهو. . . (1) لكن ينبغي أن تعتبر في هذا حال المدعي والمدعى عليه في الصدق والكذب فإن باب السرقة والخيانة لا يفعله إلا فاسق فإن كان من أهل ذلك لم يكن. . . (2) إذا لم يكن إلا عدلا. وكذلك المدعي قد يكذب فاعتبار العدالة والفسق في هذا يدل عليه قول الأنصاري: كيف نرضى بأيمان قوم كفار؟ فعلم أن المتهم إذا كان فاجرا فللمدعي أن لا يرضى بيمينه لأنه من يستحل أن يسرق يستحل أن يحلف.
(إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110)
[فصل: بيان معنى تأييد المسيح بروح القدس]
قالوا: وقال أيضا:
{ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس} [المائدة: 110].
فيقال: هذا مما لا ريب فيه، ولا حجة لكم فيه، بل هو حجة عليكم، فإن الله أيد المسيح عليه السلام بروح القدس كما ذكر ذلك في هذه الآية وقال تعالى: في البقرة: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 87].
وقال تعالى:
{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 253].
وهذا ليس مختصا بالمسيح، بل قد أيد غيره بذلك، وقد ذكروا هم أنه قال لداود: روحك القدس لا تنزع مني، وقد «قال نبينا صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: اللهم أيده بروح القدس»، وفي لفظ: «روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه» وكلا اللفظين في الصحيح.
وعند النصارى أن الحواريين حلت فيهم روح القدس، وكذلك عندهم روح القدس حلت في جميع الأنبياء.
وقد قال تعالى:
{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} [النحل: 99] {إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [النحل: 100] {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون} [النحل: 101] {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} [النحل: 102].
وقد قال تعالى في موضع آخر:
{نزل به الروح الأمين - على قلبك} [الشعراء: 193 - 194].
وقال:
{قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97].
فقد تبين أن روح القدس هنا جبريل، وقال تعالى:{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22].
وقال تعالى:
{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52].
وقال تعالى:
{ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} [النحل: 2].
وقال:
{يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق} [غافر: 15].
فهذه الروح التي أوحاها والتي تنزل بها الملائكة على من يشاء من عباده - غير الروح الأمين التي تنزل بالكتاب، وكلاهما يسمى روحا، وهما متلازمان؛ فالروح التي ينزل بها الملك مع الروح الأمين التي ينزل بها روح القدس يراد بها هذا وهذا.
وبكلا القولين فسر المفسرون قوله في المسيح وأيدناه بروح القدس، ولم يقل أحد إن المراد بذلك حياة الله، ولا اللفظ يدل على ذلك ولا استعمل فيه.
وهم إما أن يسلموا أن روح القدس في حق غيره ليس المراد بها حياة الله، فإذا ثبت أن لها معنى غير الحياة، فلو استعمل في حياة الله أيضا لم يتعين أن يراد بها ذلك في حق المسيح، فكيف ولم يستعمل في حياة الله في حق المسيح.
وإما أن يدعوا أن المراد بها حياة الله في حق الأنبياء والحواريين، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يكون اللاهوت حالا في جميع الأنبياء والحواريين، وحينئذ فلا فرق بين هؤلاء وبين المسيح.
ويلزمهم أيضا أن يكون في المسيح لاهوتان: لاهوت الكلمة، ولاهوت الروح، فيكون قد اتحد به أقنومان.
ثم في قوله تعالى: {وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 87]، يمتنع أن يراد بها حياة الله، فإن حياة الله صفة قائمة بذاته لا تقوم بغيره، ولا تختص ببعض الموجودات غيره، وأما عندهم فالمسيح، هو الله الخالق، فكيف يؤيد بغيره، وأيضا فالمتحد بالمسيح هو الكلمة دون الحياة، فلا يصح تأييده بها.
فتبين أنهم يريدون أن يحرفوا القرآن كما حرفوا غيره من الكتب المتقدمة، وأن كلامهم في تفسير المتشابه من الكتب الإلهية - من جنس واحد.
[فصل: نقض دعواهم بورود تسمية المسيح خالقا في القرآن]
قالوا: وقد سماه الله أيضا في هذا الكتاب خالقا حيث قال:
{وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني} [المائدة: 110]
فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة بالناسوت المأخوذ من مريم لأنه كذا قال على لسان داود النبي: " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض، ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه.
وهذا مما يوافق رأينا واعتقادنا في السيد المسيح لذكره، لأنه حيث قال:
{أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله} [آل عمران: 49]
أي بإذن لاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت.
والجواب: أن جميع ما يحتجون به من هذه الآيات وغيرها، فهو حجة عليهم لا لهم، وهكذا شأن جميع أهل الضلال إذا احتجوا بشيء من كتب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم، وذلك لعظمة كتب الله المنزلة وما أنطق به أنبياءه، فإنه جعل ذلك هدى وبيانا للخلق وشفاء لما في الصدور، فلا بد أن يكون في كلام الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل والصدق والكذب، لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل أنبياء الله - تعالى.
إما من كونهم لم يتدبروا القول الذي قالته الأنبياء حق التدبر حتى يفقهوه ويفهموه، وإما من جهة أخذهم ببعض الحق دون بعض، مثل أن يؤمنوا ببعض ما أنزله الله دون بعض، فيضلون من جهة ما لم يؤمنوا به، كما قال تعالى عن النصارى:
{ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} [المائدة: 14]
وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم ومن جهة ترجمة أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة، وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض، ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه، كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده.
وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضا، وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه، وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه.
فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم، فإذا عرف هذا، فنقول:
الجواب عما ذكروه هنا من وجوه:
أحدها: أن الله لم يذكر عن المسيح خلقا مطلقا، ولا خلقا عاما، كما ذكر عن نفسه تبارك وتعالى فأول ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{اقرأ باسم ربك الذي خلق - خلق الإنسان من علق - اقرأ وربك الأكرم - الذي علم بالقلم - علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1 - 5]
وقال تعالى:
{هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم - هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون - هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى} [الحشر: 22 - 24]
. فذكر نفسه بأنه الخالق البارئ المصور، ولم يصف قط شيئا من المخلوقات بهذا لا ملكا ولا نبيا، وكذلك قال تعالى:
{الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل - له مقاليد السماوات والأرض} [الزمر: 62 - 63]
. وقال تعالى:
{وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون - بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 100 - 101]
. ووصف نفسه بأنه رب العالمين، وبأنه مالك يوم الدين، وأنه له الملك وله الحمد، وأنه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، ونحو ذلك من خصائص الربوبية، ولم يصف شيئا من مخلوقاته لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بشيء من الخصائص التي يختص بها، التي وصف بها نفسه سبحانه وتعالى
وأما المسيح عليه السلام فقال فيه:
{وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني} [المائدة: 110]
وقال المسيح عن نفسه:
{أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله} [آل عمران: 49] فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله، فكيف يكون هذا الخالق هو ذاك؟
الوجه الثاني: أنه خلق من الطين كهيئة الطير، والمراد به تصويره بصورة الطير، وهذا الخلق يقدر عليه عامة الناس، فإنه يمكن أحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير، وغير الطير من الحيوانات، ولكن هذا التصوير محرم، بخلاف تصوير المسيح، فإن الله أذن له فيه.
__________
Q (1، 2) بياض بالأصل
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 301)
من صــ 211 الى صـ 225
والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيرا بإذن الله عز وجل ليس المعجزة مجرد خلقه من الطين، فإن هذا مشترك، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المصورين، وقال: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون»
. الوجه الثالث: أن الله أخبر المسيح أنه إنما فعل التصوير والنفخ بإذنه تعالى وأخبر المسيح عليه السلام أنه فعله بإذن الله، وأخبر الله أن هذا من نعمه التي أنعم بها على المسيح عليه السلام كما قال تعالى: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل
. وقال تعالى:
{ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات} [المائدة: 110].
وهذا كله صريح في أنه ليس هو الله، وإنما هو عبد الله فعل ذلك بإذن الله، كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء، وصريح بأن الآذن غير المأذون له، والمعلم ليس هو المعلم، والمنعم عليه وعلى والدته ليس هو إياه، كما ليس هو والدته.
الوجه الرابع: أنهم قالوا: أشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت، ثم قالوا في قوله: بإذن الله أي بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت، وهذا يبين تناقضهم وافتراءهم على القرآن، لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله، ففرق بين المسيح وبين الله، وبين أن الله هو الآذن للمسيح، وهؤلاء زعموا أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بناسوت المسيح هو الخالق وهو الآذن فجعلوا الخالق هو الآذن، وهو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن.
الوجه الخامس: أن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه، فإنهم يقولون: هو إله واحد، وهو الخالق فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه وينعم على نفسه؟
الوجه السادس: أن الخالق إما أن يكون هو الذات الموصوفة بالكلام أو الكلام الذي هو صفة للذات، فإن كان هو الكلام، فالكلام صفة لا تكون ذاتا قائمة بنفسها خالقة، ولو لم تتحد بالناسوت، واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكنا، فكيف وهو ممتنع؟
فقد تبين امتناع كون الكلمة تكون خالقة من وجوه.
وإن كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام، فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين، وعندهم هو الأب، والمسيح عندهم ليس هو الأب، فلا يكون هو الخالق لكل شيء، والقرآن يبين أن الله هو الذي أذن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير، فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله ولا صفة من صفاته، فليس المسيح هو الله ولا ابن قديم أزلي لله ولكن عبده فعل بإذنه.
الوجه السابع: قولهم: فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذ من مريم، لأنه كذا قال على لسان داود النبي: " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ". يقال لهم: هذا النص عن داود حجة عليكم، كما أن التوراة والقرآن وسائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم، فإن داود عليه السلام قال: " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض " ولم يقل: إن كلمة الله هي الخالقة، كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله.
والفرق بين الخالق للسماوات والأرض وبين الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض، أمر ظاهر معروف، كالفرق بين القادر والقدرة، فإن القادر هو الخالق وقد خلق الأشياء بقدرته، وليست القدرة هي الخالقة، وكذلك الفرق بين المريد والإرادة، فإن الله خلق الأشياء بمشيئته، وليست مشيئته هي الخالقة.
وكذلك الدعاء والعبادة هو للإله الخالق لا لشيء من صفاته، فالناس كلهم يقولون: يا الله يا ربنا يا خالقنا، ارحمنا واغفر لنا، ولا يقول أحد: يا كلام الله اغفر لنا وارحمنا، ولا يا قدرة الله ويا مشيئة الله ويا علم الله اغفر لنا وارحمنا، والله تعالى يخلق بقدرته ومشيئته وكلامه، وليست صفاته هي الخالقة.
الوجه الثامن: أن قول داود عليه السلام: " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض " يوافق ما جاء في القرآن والتوراة وغير ذلك من كتب الأنبياء: أن الله يقول للشيء: كن فيكون، وهذا في القرآن في غير موضع، وفي التوراة قال الله: " ليكن كذا ليكن كذا "
الوجه التاسع: قولهم: لأنه ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه، إن أرادوا بكلمته كلامه، وبروحه حياته، فهذه من صفات الله كعلمه وقدرته، فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنها روح الله، فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله فقد كذب عليه. ثم يقال: هذا كلامه وحياته من صفات الله كعلمه وقدرته، وحينئذ فالخالق هو الله وحده، وصفاته داخلة في مسمى اسمه لا يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن أن لله شريكا في خلقه، فإن الله لا شريك له.
ولهذا لما قال الله تعالى: " الله خالق كل شيء " دخل كل ما سواه في مخلوقاته، ولم تدخل صفاته كعلمه وقدرته ومشيئته وكلامه، لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أشياء مباينة له، بل أسماؤه الحسنى متناولة لذاته المقدسة المتصفة بهذه الصفات لا يجوز أن يراد بأسمائه ذاتا مجردة عن صفات الكمال، فإن تلك لا حقيقة لها، ويمتنع وجود ذات مجردة عن صفة فضلا عن وجود ذاته تعالى مجردة عن صفات كماله التي هي لازمة لذاته، فيمتنع تحقق ذاته دونها، ولهذا لا يقال: الله وعلمه خلق، والله وقدرته خلق.
وإن أرادوا بكلمته وروحه المسيح أو شيئا اتحد بناسوت المسيح، فالمسيح عليه السلام كله مخلوق كسائر الرسل، والله وحده هو الخالق، وإن شئت قلت: إن أريد بالروح والكلمة ما هو صفة الله، فتلك داخلة في مسمى اسمه، وإن أريد ما ليس بصفة فذلك مخلوق له كالناسوت.
الوجه العاشر: أن داود عليه السلام لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح ; لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت،وهو عندهم اسم للاهوت والناسوت لما اتحدا، والاتحاد فعل حادث عندهم، فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحا، فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح، ولكن غايتهم أن يقولوا: أراد الكلمة التي اتحدت فيما بعد بالمسيح، لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما نطق به القرآن بقوله:
{يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} [آل عمران: 45]
فالكلمة التي ذكرها وأنها هي التي خلقت السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله، فاحتجاجهم بهذا على هذا احتجاج باطل، بل تلك الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم، والمسيح لا بد أن يدخل فيه الناسوت، فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح.
(إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (112) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين (113) قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين (114) قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين (115)
[فصل: رد دعواهم أنه لا يليق بهم أن يتركوا كلمة الله عندهم التي عظمها القرآن]
قالوا: ثم مدح قرابيننا وتوعدنا إن أهملنا ما معنا وكفرنا بما أنزل إلينا أن يعذبنا عذابا أليما لم يعذبه أحدا من العالمين بقوله ذلك في سورة المائدة:
{إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} [المائدة: 112] (112) {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} [المائدة: 113] (113) {قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين} [المائدة: 114] (114) {قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} [المائدة: 115].
فالمائدة هي القربان المقدس الذي يتقرب به في كل قداس.
والجواب أن يقال:
هذا كذب ظاهر على القرآن في هذا الموضع، كما كذبتم عليه في غير هذا الموضع، فإنه ليس في الآيات ذكر قرابينكم البتة، وإنما فيه ذكر المائدة التي أنزلها الله - تعالى - في عهد المسيح - عليه السلام -، وقولهم: المائدة هي القربان الذي يتقرب به في كل قداس، هو أولا: قول لا دليل عليه، وثانيا: هو قول معلوم الفساد بالاضطرار من دين المسلمين الذين نقلوا هذا القرآن عن محمد صلى الله عليه وسلم لفظه ومعناه، فإنهم متفقون على أن المائدة مائدة أنزلها الله من السماء على عهد المسيح - عليه السلام -، وقصتها مشهورة في عامة الكتب تعرفها العامة والخاصة، ولم يقل أحد إنها قرابين النصارى، وليس في لفظ الآية ما يدل على ذلك، بل يدل على خلاف ذلك، فإن الآية تبين أن المائدة منزلة من السماء وقرابينهم هي عندهم في الأرض لم تنزل من السماء.
وفي الآية أن عيسى قال:
{اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين} [المائدة: 114] (114) {قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين} [المائدة: 115].
وفي أول الكلام:
{إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} [المائدة: 112] (112) {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} [المائدة: 113].
فأين هذا من قرابينهم الموجودة اليوم؟
سورة الأنعام
(الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1)
وهو سبحانه يفتتح خطابه بالحمد ويختم الأمور بالحمد وأول ما خلق آدم كان أول شيء أنطقه به الحمد فإنه عطس فأنطقه بقوله الحمد لله فقال له: يرحمك ربك يا آدم وكان أول ما تكلم به الحمد وأول ما سمعه الرحمة. وهو يختم الأمور بالحمد كقوله: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} وهو سبحانه {له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون}.
(هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (2)
سئل - رضي الله عنه -:
عن قوله تعالى {ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده} وقوله تعالى {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} وقوله تعالى {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} هل المحو والإثبات في اللوح المحفوظ والكتاب الذي جاء في الصحيح {أن الله تعالى كتب كتابا فهو عنده على عرشه} الحديث. وقد جاء: {جف القلم} فما معنى ذلك في المحو والإثبات؟. وهل شرع في الدعاء أن يقول: " اللهم إن كنت كتبتني كذا فامحني واكتبني كذا فإنك قلت: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} وهل صح أن عمر كان يدعو بمثل هذا؟ وهل الصحيح عندكم أن العمر يزيد بصلة الرحم كما جاء في الحديث؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب - رضي الله عنه -:
الحمد لله رب العالمين،أما قوله سبحانه: {ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده} فالأجل الأول هو أجل كل عبد؛ الذي ينقضي به عمره والأجل المسمى عنده هو: أجل القيامة العامة. ولهذا قال: {مسمى عنده} فإن وقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل كما قال: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو}. بخلاف ما إذا قال: (مسمى كقوله: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى} إذ لم يقيد بأنه مسمى عنده فقد يعرفه العباد. وأما أجل الموت فهذا تعرفه الملائكة الذين يكتبون رزق العبد وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
كما قال في الصحيحين عن ابن مسعود قال: {حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق -: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح} فهذا الأجل الذي هو أجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده. وأما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا هو.
وأما قوله: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره} فقد قيل إن المراد الجنس أي ما يعمر من عمر إنسان ولا ينقص من عمر إنسان ثم التعمير والتقصير يراد به شيئان: " أحدهما " أن هذا يطول عمره وهذا يقصر عمره فيكون تقصيره نقصا له بالنسبة إلى غيره كما أن المعمر يطول عمره وهذا يقصر عمره فيكون تقصيره نقصا له بالنسبة إلى غيره كما أن التعمير زيادة بالنسبة إلى آخر. وقد يراد بالنقص النقص من العمر المكتوب كما يراد بالزيادة الزيادة في العمر المكتوب.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه} وقد قال بعض الناس: إن المراد به البركة في العمر بأن يعمل في الزمن القصير ما لا يعمله غيره إلا في الكثير قالوا: لأن الرزق والأجل مقدران مكتوبان.
فيقال لهؤلاء تلك البركة. وهي الزيادة في العمل والنفع. هي أيضا مقدرة مكتوبة وتتناول لجميع الأشياء. والجواب المحقق: أن الله يكتب للعبد أجلا في صحف الملائكة فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب. وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب. ونظير هذا ما في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم {أن آدم لما طلب من الله أن يريه صورة الأنبياء من ذريته فأراه إياهم فرأى فيهم رجلا له بصيص فقال من هذا يا رب؟ فقال ابنك داود.
قال: فكم عمره؟ قال أربعون سنة. قال: وكم عمري؟ قال: ألف سنة. قال فقد وهبت له من عمري ستين سنة. فكتب عليه كتاب وشهدت عليه الملائكة فلما حضرته الوفاة قال قد بقي من عمري ستون سنة. قالوا: وهبتها لابنك داود. فأنكر ذلك فأخرجوا الكتاب. قال النبي صلى الله عليه وسلم فنسي آدم فنسيت ذريته وجحد آدم فجحدت ذريته} وروي أنه كمل لآدم عمره ولداود عمره. فهذا داود كان عمره المكتوب أربعين سنة ثم جعله ستين وهذا معنى ما روي عن عمر أنه قال: اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الأنعام
المجلد الثامن
الحلقة( 302)
من صــ 226 الى صـ 240
والله سبحانه عالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؛ فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده إياه بعد ذلك والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها؛فلهذا قال العلماء: إن المحو والإثبات في صحف الملائكة وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالما به فلا محو فيه ولا إثبات. وأما اللوح المحفوظ فهل فيه محو وإثبات على قولين. والله سبحانه وتعالى أعلم؟.
(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)
[فصل: الدلائل القاطعة عند أهل مكة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم]
وقد ذكرنا أن قومه المعادين له غاية العداوة ما زالوا معترفين بصدقه صلى الله عليه وسلم، وأنهم لم يجربوا عليه كذبا، بل ومعترفين بأن ما يقوله ليس بشعر ولا كهانة، وأنه ليس بساحر، وكانوا في أول أمره يرسلون إلى البلاد التي فيها علماء أهل الكتاب يسألونهم عنه؛ لأن مكة لم يكن بها ذلك.
ففي الصحيحين عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب حدثه، قال: " انطلقت إلى الشام في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبينما أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، قال: وكان دحية الكلبي جاء به، فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، فقال هرقل:: هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم، قال: فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، قال أبو سفيان: فقلت أنا. فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي. فدعا بترجمانه، فقال: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه.
قال: فقال: وايم الله! لولا مخافة أن يؤثر علي كذب لكذبت عليه. ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان في آبائه من ملك، قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا "، وذكر باقي الحديث:
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، حديث سعد بن معاذ، لما قال لأمية: إنهم قاتلوك (يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه)، وفزع منه لذلك، وقال لامرأته ذلك، فقالت: والله ما يكذب محمد، وقال هو - في رواية أخرى -: والله ما يكذب محمد، وعزم أن لا يخرج خوفا من هذا، وقال: والله لا أخرج من مكة. وأراد التخلف عن بدر، حتى قال له أبو جهل: إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد هذا الوادي تخلفوا معك. فقال: أما إذ غلبتني فلأشترين أجود بعير بمكة، وذكرته امرأته بقول سعد، فقال: ما أريد أن
أكون معهم إلا قريبا.
وكذلك ما ذكره أهل المغازي وغيرهم "أن أبي بن خلف لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا أقتله، ثم طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخدشه، وجعل أصحابه يجزعونه ويقولون: إنما هو خدش وليس بشيء، فقال: والله لو كان بمضر لقتلهم، أليس قال: " لأقتلنك". وعن مجاهد: قال مولاي السائب بن أبي السائب: كنت فيمن بنى البيت، وأن قريشا اختلفوا في الحجر حين أرادوا أن يضعوه، حتى كادوا يقع بينهم قتال بالسيوف، فقال: اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين.
فقالوا: يا محمد، قد رضينا بك.
وعن عقيل بن أبي طالب قال: " "جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا له: إن ابن أخيك يأتينا في كعبتنا ونادينا ويسمعنا ما يؤذينا، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل. قال: فقال لي: يا عقيل التمس ابن عمك. قال: فأخرجته من كبس من أكباس شعب أبي طالب، فأقبل يمشي حتى انتهى إلى أبي طالب، فقال له: يا ابن أخي، والله ما علمت إن كنت لي مطيعا، وقد جاءني قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وناديهم فتسمعهم ما يؤذيهم، فإن رأيت أن تكف عنهم؟ قال: فحلق ببصره إلى السماء، فقال: والله ما أنا بأقدر على أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من النار فقال أبو طالب: إنه - والله - ما كذب قط فارجعوا راشدين".
رواه البخاري في تاريخه، وأبو زرعة في الدلائل، ورواه ابن إسحاق قريبا من هذا اللفظ، وقال: " فأخرجته من حفش - وهو بيت صغير - وقال فيه: فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه، وأنه خاذله ومسلمه، وضعف عن القيام معه، فقال: "يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه".
وفي الصحيحين عن عبد الله بن الصامت قال: " قال أبو ذر:خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا فأكرمنا، وأحسن إلينا فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس. فجاء خالنا فثنا علينا الذي قيل له، فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك فيما بعد. فقربنا صرمتنا، فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا بثوبه يبكي، وانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة.
فنافر أنيس رجلا عن صرمتنا وعن مثلها فأتينا الكاهن فخير أنيسا فأتى بصرمتنا ومثلها معها. قال: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء، حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء، حتى تعلوني الشمس، فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني. فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي، ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعراء فما يلتئم على لسان أحد يقري بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون. قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر، قال: فأتيت مكة فضعفت رجلا منهم، فقلت: أين هذا الذي
تدعونه الصابئ؟ فأشار إلي فقال: الصابئ، فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي. . . "، وذكر الحديث وصفة إسلامه رضي الله عنه بلفظ مسلم.
وفي حديث البخاري عن ابن عباس: " أن أبا ذر أرسل أخاه، وقال: اعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدم مكة، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر.
فقال: ما شفيتني فيما أردت، فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد. . . " وذكر تمام الحديث.
وعن جابر بن عبد الله " قال الملأ وأبو جهل: لقد غلبنا أمر
محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر، فأتاه فكلمه، وأتانا ببيان من أمره.
قال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر، وعلمت من ذلك علما، فما يخفى علي إن كان كذلك. فأتاه، فلما خرج إليه قال: أنت - يا محمد - خير أم هاشم؟ وأنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فيم تشتم آلهتنا، وتضلل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك الرياسة، فكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بك الباه زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت، وإن كان بك المال، جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، فلما
فرغ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(بسم الله الرحمن الرحيم {حم - تنزيل من الرحمن الرحيم - كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} [فصلت: 1 - 3].
إلى قوله:
{فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} [فصلت: 13].
فأمسك عتبة على فيه، وناشد بالرحم أن يكف، ورجع إلى أهله، فلم يخرج إلى قريش، فاحتبس عنهم عتبة، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فأتاه أبو جهل فقال: يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد، وأعجبك أمره، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم أن لا يكلم محمدا اأبدا، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر:
{حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} [فصلت: 1].
إلى قوله:
{فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} [فصلت: 13].
فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب ". رواه أبو بكر أحمد بن مردويه، في كتاب التفسير عن محمد بن فضيل عن الأجلح عن الذيال بن حرملة عنه،ورواه يحيى بن معين عن محمد بن فضيل، ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده، ورواه عبد بن حميد عن شيخ أبي يعلى ابن أبي شيبة.
وفي بعض الطرق: " إن كنت تزعم أن هؤلاء خيرا منك فقد عبدوا الآلهة، وإن كنت تزعم أنك خيرا منهم فتكلم حتى نسمع "، ورواه ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زياد مولى لبني هاشم عن
محمد بن كعب، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا حليما. . وذكر الحديث إلى أن قال: " لما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد، قال: ورائي أني - والله - قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصيبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، فقالوا: سحرك - والله - يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم،. ثم ذكر شعر أبي طالب يمدح عتبة فيما قال.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: "قدم ضماد مكة وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل، لعل الله أن يشفيه على يدي، قال: فلقيت محمدا، فقلت: إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهلم، فقال محمد: " إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد " قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء. فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر.
فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " وعلى قومك "، فقال: وعلى قومي". الحديث.
وعن ابن عباس: "أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي، فقرأ عليه من القرآن:
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90].
قال: أعد، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله.
لمغدق، وما يقول هذا البشر ".
وفي لفظ: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: ولم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعوض مما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم
ما تحته. قال: لا ترضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه. فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره. فنزلت:
{ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11] ".
رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة عنه.
وفي رواية أخرى: " أن الوليد بن المغيرة اجتمع، ونفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا، ويرد بعضكم قول بعض، فقالوا:
فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقوم به. فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع، فقالوا: نقول كاهن، فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكهان. فقالوا: نقول مجنون، فقال: ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريظه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: فما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده. فقالوا: ما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله حلاوة، وإن أصله لغدق، وإن فرعه لجنى، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا: ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وبين أخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا له أمره ; فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة، وذلك من قوله:
{ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11].
إلى قوله:
{سأصليه سقر} [المدثر: 26].
وأنزل في النفر الذين كانوا معه:
{الذين جعلوا القرآن عضين} [الحجر: 91].
أي أصنافا.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الأنعام
المجلد الثامن
الحلقة( 303)
من صــ 241 الى صـ 255
وروى ابن إسحاق، عن شيخ من أهل مصر، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قام النضر بن الحارث فقال: " يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا - والله - ما هو بسحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا - والله - ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا - والله - ما هو بشاعر، لقد روينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها؛ هزجه ورجزه وقريظه، وقلتم: مجنون، ولا - والله - ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون فما هو بخنقه، ولا تخليطه، يا معشر قريش انظروا في
شأنكم فإنه - والله - لقد نزل بكم أمر عظيم ". وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة.
قال: وحدثني الزهري قال: " حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان، والأخنس بن شريق، خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا، وطلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في - نفسه شيئا، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا، فلما كانت الليلة الثالثة، فعلوا كذلك، ثم جمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال:
يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، فقال الأخنس: وأنا، والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، ثم إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به ولا نصدقه أبدا ".
وكذلك روي عن المغيرة بن شعبة، أن أبا جهل قال له مثل ذلك، وقال: إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الندوة.
فقلنا: نعم، فينا الحجابة، فقلنا: نعم، فينا السقاية، فقلنا: نعم. وذكر نحوه.
وقد كانوا يرسلون إلى أهل الكتاب ليسألوهم عن أمره صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: " بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: اسألوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله
وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: " سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه، وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة، حتى قدما مكة على قريش، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، خبرنا فسألوه عما أمروهم به. فقال: لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبركم، وجاءه جبريل من الله بسورة الكهف، فيها خبر ما سألوه عنه، من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله:
{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85].
قال ابن إسحاق: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال:
{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} [الكهف: 1].
يعني محمدا، إنك رسولي في تحقيق ما سألوه عنه من نبوته.
{ولم يجعل له عوجا قيما} [الكهف: 1].
أي أنزله قيما؛ أي معتدلا لا اختلاف فيه، وذكر تفسير السورة إلى قوله:
{أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا} [الكهف: 9].
أي وما قدروا من قدري، وفيما صنعت من أمر الخلائق، وما وضعت على العباد من حجتي، ما هو أعظم من ذلك.
قال مجاهد: " ليس بأعجب من آياتنا من هو أعجب من ذلك ".
وفي تفسير العوفي عن ابن عباس: " الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب، أفضل من شأن أصحاب الكهف ".
قلت: والأمر على ما ذكره السلف، فإن قصة أصحاب الكهف هي من آيات الله، فإن مكثهم نياما لا يموتون ثلاثمائة سنة، آية دالة على قدرة الله ومشيئته، وأنه يخلق ما يشاء، ليس كما يقوله أهل الإلحاد. وهي آية على معاد الأبدان كما قال تعالى:
{وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها} [الكهف: 21].
وكان الناس قد تنازعوا في زمانهم: هل تعاد الأرواح دون الأبدان.
وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقصتهم من غير أن يعلمه بشر آية على نبوته، فكانت قصتهم آية على أصول الإيمان الثلاثة ; الإيمان بالله، واليوم الآخر، والإيمان برسوله. ومع هذا فليسوا من آيات الله بعجب، بل من آيات الله ما هو أعجب من ذلك.
وقد ذكر الله تعالى سؤالهم عن الآيات التي كانوا يسألونه عنها ليعلموا: هل هو نبي صادق أم كاذب؟ فقال تعالى:
{ويسألونك عن ذي القرنين} [الكهف: 83].
وقال:
{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين} [يوسف: 7].
إلى قوله:{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} [يوسف: 102].
إلى قوله:
{وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 105].
إلى قوله:
{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [يوسف: 109].
وقال تعالى لما ذكر قصة أهل الكهف التي سألوه عنها:
{ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا} [الكهف: 83].
أي يسألونك عن ذاك، ويسألونك عن هذا.
والقرآن مملوء من إخباره عن الغيب الماضي، الذي لا يعلمه أحد من البشر، إلا من جهة الأنبياء الذين أخبرهم الله بذلك، ليس هو الشيء الذي تزعمه ملاحدة المتفلسفة، فإن هذه الأمور الغيبية المعينة المفصلة لا يؤخذ خبرها قط إلا عن نبي، كموسى، ومحمد، وليس أحد ممن يدعي المكاشفات؛ لا من أولياء الله، ولا من غير أولياء الله يخبر بشيء من ذلك ; ولهذا كان هذا من أعلام الأنبياء وخصائصهم التي لا يشركهم فيها غيرهم.
وأهل الملل متفقون على ما دل عليه العقل الصريح من أن هذا
لا يعلم إلا بخبر نبي. فإذا كان محمد قد أخبر من ذلك بما أخبر به موسى وغيره من الأنبياء، وأخبر بما يعلمونه مما لا يعلمه أحد إلا بالتعلم منهم، وقد عرف أن محمدا لم يتعلم هذا من بشر، كان هذا آية وبرهانا قاطعا على نبوته،. ثم العلم بأن محمدا لم يتعلم هذا من بشر يحصل في حياته، أما قومه المباشرون له، الخبيرون بحاله، فكانوا يعلمون أنه لم يتعلم هذا من بشر، فقامت عليهم الحجة بذلك، وأما من لم يعرف حاله إلا بالسماع فيعلم ذلك بطرق:منها: تواتر أخباره، وكيف كان؟ من حين ولد إلى أن مات كما هي مستفيضة مشهورة متواترة، يعلمها من كان له خبرة بذلك، أعظم مما يعلم به حال موسى وعيسى، فإن محمدا ظهر أمره، وانتشرت أخباره، وتواترت أحواله، أعظم من جميع بني آدم. فما بقي ما دون هذا من أحواله يخفى على الناس فكيف مثل هذا؟!
ومنها: أنه أخبر في القرآن بما لا يوجد عند أهل الكتاب، مثل:
قصة هود وصالح وشعيب، وبعض التفاصيل في قصة إبراهيم وموسى وعيسى؛ مثل تكليم المسيح في المهد، ومثل نزول المائدة، فإن هذا لا يعرفه أهل الكتاب، ومثل إيمان امرأة فرعون، وغير ذلك. فيمتنع أن يقال: إن هذا تعلمه من أهل الكتاب، وقومه لم يكونوا يعلمون ذلك، بل قد أراهم وغيرهم آثار المنذرين الذين عاقبهم الله لما كذبوا الرسل، كقوم عاد وثمود، وغيرهم.
فيستدل الناس بالآثار الموجودة على صدق الرسل، وعقوبة الله لمن يكذبهم. ويستدل قومه وغيرهم على صدقه فيما أخبر به من هذه الأمور التي لم يتعلمها من أهل الكتاب بتصديق أهل الكتاب له فيما وافقهم فيه، مع علمهم أنه لم يتعلم ذلك منهم، ويكون هذا مما يدل على أنه لم يتعلم من أهل الكتاب شيئا كما قد يظنه بعضهم، وذلك من الوجهين كما تقدم.
ومنها: أن أكثر قومه كانوا من أعظم الناس عداوة له، وحرصا على تكذيبه والطعن فيه، وبحثا عما به يقدحون فيه. فلو كان قد تعلم هذه الأخبار من بشر لكانوا يعلمون ذلك، ويقدحون به فيه ويظهرونه، ولكان هذا مما يظهر أعظم مما ظهر غيره. فلما لم يقع ذلك دل على أنهم لم يكونوا يعلمون ذلك، ولم يتمكنوا من القدح به فيه مع
علمهم بحاله، ورغبتهم في القدح به. ومع كمال الداعي والقدرة، يجب وجود المقدور، فلما كان داعيهم تاما، ولم يقدحوا، علم أن ذلك لعجزهم. وعجزهم عن القدح مع علمهم بحاله دليل على أنهم علموا أنه لم يتعلمه من بشر.
ومنها: أن يقال: مثل هذا لو وقع لكان من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل كان المتبعون له المؤمنون به إذا اطلعوا على ذلك فلا بد أن يشيعوه ويعلنوه، فكيف المخالفون له، المكذبون له؟ فإن القوم المتفرقين الذين لم يتواطئوا، كما لا يجتمعون على تعمد الكذب، فلا يجتمعون على كتمان مثل ذلك، بل يجتهد الملوك والرؤساء في إخفاء ما يبطنونه من أمر ملكهم الذي بنوه عليه، ويحلفون أولياءهم على كتمان ذلك، ويبذلون لهم الرغبة والرهبة في ذلك، ثم يظهر ذلك كما فعل القرامطة الباطنية، من أهل
البحرين بني عبيد الله بن ميمون القداح، وكما عرف الناس أن النصيرية لهم خطاب يسرونه إلى أوليائهم، وإن لم يعلم أكثر الناس ما ذلك الخطاب الذي يسرونه.
لا سيما والذين آمنوا بحمده واتبعوه - أولا - من المهاجرين كانوا مؤمنين به باطنا وظاهرا، هجروا لأجله الأوطان والأهل والمال، وصبروا على أنواع المكاره والأذى: طائفة كبيرة ذهبت إلى الحبشة،مهاجرة بدينها لما عذبها المخالفون له حتى يرجعوا عن دينه، وطائفة كانوا بمكة يعذبون ; هذا يقتل، وهذا يخرج به إلى بطحاء مكة في الحر وتوضع الصخرة على بطنه حتى يكفر، وهذا يمنع رزقه ويترك جائعا عريانا.
ثم إنهم هجروا أحب البلاد إليهم، وأفضلها عندهم: مكة - أم القرى - إلى مدينة كانوا فيها محتاجين إلى أهلها، وتركوا أموالهم بمكة، قال تعالى:
{للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} [الحشر: 8].
وقال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [الحج: 39].
وقال تعالى: {فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب} [آل عمران: 195].
وقوله:
{يخرجون الرسول وإياكم} [الممتحنة: 1].
وجميع المهاجرين والأنصار آمنوا به طوعا واختيارا، قبل أن يؤمر أحد بقتال.
فإنه مكث بمكة بضع عشرة سنة لا يقاتل أحدا، ولم يؤمر بقتال، بل كان لا يكره أحدا على الدين كما قال تعالى:
{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} [البقرة: 256].
وكانوا خلقا كثيرا، ومعلوم أن الخلق الكثير الذين اتبعوا شخصا قد جاء بدين لا يوافقه عليه أحد، وطلب منهم أن يؤمنوا به ويتبعوه، ويفارقوا دين آبائهم، ويصبروا على عداوة الناس وأذاهم، ويهجروا لأجله ما ترغب النفوس فيه من الأهل والمال والوطن، وهو - مع
ذلك - لم يعط أحدا منهم مالا، ولا كان له مال يعطيهم إياه، ولا ولى أحدا ولاية، ولم يكن عنده ولاية يوليهم إياها، ولا أكره أحدا، ولا بقرصة في جلده، فضلا عن سوط أو عصا أو سيف، وهو - مع ذلك - يقول عما يخبرهم به من الغيب: " "الله أخبرني به، لم يخبرني بذلك بشر" ".
فلو كانوا - مع ذلك - يعلمون أن تعلمه من بشر لكان هذا مما يقوله بعضهم لبعض. ويمتنع في جبلة بني آدم وفطرهم أن يعلموا أنه كاذب وأنه قد تعلم هذا من بشر، وليس فيهم من يخبر بذلك، مع أنهم كانوا كثيرين لا يمكن تواطؤهم على الكذب والكتمان، بل ولا داعي لهم يدعوهم إلى ذلك. ويمتنع أن لا يعلموا ذلك، وهم بطانته المطلعون على أحواله، وهم يسمعون كلام أعدائه المطلعين على حاله.
والقرآن كان ينزل شيئا فشيئا، لم ينزل جملة، بل كانوا يسألونه عن الشيء بعد الشيء من الغيب بين الذين آمنوا به وباطنوه واطلعوا على أسراره، وهو لا يعلم شيئا من ذلك، ثم يخبرهم به، وهم مطلعون على أمره خبرا بعد خبر، وسؤالا بعد سؤال، وهذا كان بمكة، وليس بها أحد من علماء أهل الكتاب، لا اليهود ولا النصارى، ثم هاجر إلى المدينة، وبها خلق كثير من اليهود ; قينقاع والنضير وقريظة، ولعلهم كانوا بقدر نصف أهلها، أو أقل أو أكثر، وهم - أيضا - يسألونه عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي فيخبرهم بها، ويتلو عليهم ما سأله عنه المشركون من الغيب، وما أخبرهم به، ويتلو عليهم هذا الغيب الذي أوحاه الله إليه، ويبين أن الله أعلمه ذلك، لم يعلمه إياه بشر، فآمن به طائفة من أهل الكتاب وكفرت به طائفة أخرى، والطائفتان ليس فيهم من يقول: إن هذا تعلمه منا أو من إخواننا أو نظرائنا، ولا إنك قرأته في كتبنا.
مع أنه لو كان قد تعلم ذلك منهم لكان شيوخه منهم، وشيوخهم إذا علموا أنه كاذب تعلمه منهم، يمتنع أن يصدقوه باطنا وظاهرا، بل تصديقهم الكتاب الأول، وعلمهم بكذب من ادعى نزول كتاب ثان وقد تعلم منهم يدعوهم إلى أن يبينوا أمره، ويظهروا كذبه، ويقولوا للناس تعلم منا، نحن أخبرناه بذلك، لا سيما مع ما فعله باليهود من القتل والحصار والجلاء والسبي، وغير ذلك.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الأنعام
المجلد الثامن
الحلقة( 304)
من صــ 256 الى صـ 270
وهذا لو وقع، لكان من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، ينقله الموافق والمخالف، فلما لم يقل ذلك أحد، ولم ينقله أحد مع ما أظهره من الأخبار المتواترة التي علمها الخاص والعام،
بأن هذا مما أنبأني الله، لم يخبرني به بشر، كان هذا دليلا قاطعا بينا في أن هذه الأخبار الغيبية التي لا يعلمها إلا نبي أعلمه الله بها، أو من تعلمها من نبي: هي مما أنبأه الله به، ولم يعلمه ذلك بشر، وهذا من الغيب الذي قال الله فيه - في السورة التي فيها استماع الجن للقرآن، وإنذار قومهم به حيث قال -:
{قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا} [الجن: 1].
إلى قوله:{وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} [الجن: 19].
فقوله تعالى:
{فلا يظهر على غيبه} [الجن: 26].
يبين أنه غيب يضاف إليه يختص به، لا يعلمه أحد إلا من جهته، بخلاف ما يغيب عن بعض الناس ويعلمه بعضهم، فإن هذا قد يتعلمه بعضهم من بعض.
فمما سأله عنه أهل الكتاب في المدينة مسائل، وهي غير المسائل التي كان يسأل عنها وهو بمكة، كما كان مشركو قريش يرسلون إلى اليهود بالمدينة، يسألونهم عن محمد، فيرسل اليهود بمسائل يمتحنون بها نبوته، وذلك مثل ما في صحيح البخاري عن أنس قال: " "جاء عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، والولد ينزع إلى أمه تارة، وإلى أبيه ".
قال: " أخبرني جبريل آنفا ". قال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة. " أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه "، فقال: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله "، قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبد الله فيكم، قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وعالمنا وابن عالمنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد
أن محمدا رسول الله "، فقالوا: " شرنا وابن شرنا "، وتنقصوه. قال: فهذا ما كنت أخاف وأحذر".
وروى مسلم - في صحيحه - عن ثوبان قال: " "كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود، وقال: " السلام عليك يا محمد "، فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ قال: قلت: ألا تقول يا رسول الله؟ قال: إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اسمي الذي سماني به أهلي محمد، فقال: اليهودي جئت أسألك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينفعك شيء إن حدثتك. قال: أسمع بأذني، فنكت بعود معه، فقال له: سل، فقال اليهودي: " أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ " فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: في الظلمة دون الجسر، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين، فقال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون؟ قال: زيادة كبد نون، قال: وما غذاؤهم على أثره؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال:
فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلا قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان، قال: ينفعك إذا حدثتك قال: أسمع بأذني، قال: جئت أسألك عن الولد، قال: ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله فقال: اليهودي صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف. فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: إنه سألني هذا الذي سألني عنه، وما أعلم شيئا منه حتى أتاني به الله تعالى".
وروى أبو داود الطيالسي حدثنا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قال: "حضرت عصابة من اليهود يوما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي، فقال: سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على بنيه إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه صدقا لتتابعوني على الإسلام قالوا: لك ذلك، قال: فسلوني عما شئتم، قالوا: أخبرنا عن أربع خلال ; أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه حتى يكون ذكرا، وكيف يكون الأنثى حتى يكون أنثى، وأخبرنا كيف هذا النبي في النوم، ومن وليك من الملائكة؟ قال: فعليكم عهد الله وميثاقه لئن أنا حدثتكم لتتابعوني، فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق، قال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ; هل تعلمون أن إسرائيل - يعقوب - مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه، وأحب الطعام إليه، وكان أحب الشراب إليه ألبان الإبل، وأحب الطعام إليه لحوم الإبل قالوا:
اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد عليهم، قال: فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى ; هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الولد، والشبه له بإذن الله، قالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم اشهد، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، وأنزل التوراة على موسى ; هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه، ولا ينام قلبه، قالوا: اللهم نعم، قال: اللهم اشهد، قالوا: أنت الآن حدثنا من وليك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك، قال: وليي جبريل عليه السلام، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندها نفارقك، لو كان غيره لاتبعناك وصدقناك، قال: فما يمنعكم أن تصدقوا قالوا: إنه عدونا من الملائكة. فأنزل الله عز وجل:
{من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا} [البقرة: 97].
إلى قوله:
{فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98] ".
ففي هذه الأحاديث أن علماء اليهود كعبد الله بن سلام، وغيره كانوا يسألونه عن مسائل، يقولون فيها: لا يعلمها إلا نبي: أي ومن تعلمها من الأنبياء، فإن السائلين كانوا يعلمونها، كما جاء - أيضا -: " لا يعلمها إلا نبي أو رجل أو رجلان ". فكانوا يمتحنونه بهذه المسائل ليتبين هل يعلمها، وإذا كان يعلم ما لا يعلمه إلا نبي، كان نبيا، ومعلوم أن مقصودهم بذلك إنما يتم إذا علموا أنه لم يعلم هذه المسائل من أهل الكتاب، ومن تعلم منهم، وإلا فمعلوم أن هذه المسائل كان تعلمها بعض الناس، لكن تعلمها هؤلاء من الأنبياء.
وهذا يبين أن هؤلاء السائلين له من أهل الكتاب كانوا يعلمون أن أحدا من البشر لم يعلمه ما عند أهل الكتاب من العلم ; إذ لو جوزوا ذلك عليه لم يحصل مقصودهم من امتحانه ; هل هو نبي أم لا؟ فإنهم إذا جوزوا أن يكون تعلم ما لا يعلمه إلا نبي من أهل الكتاب، كان من جنسهم، فلم يكن في علمه بها وإجابتهم عنها دليل على نبوته.
فلا بد أن يكون هؤلاء السائلون يقطعون بأنه لم يتعلم من أهل الكتاب. وهذا كان بالمدينة بعد أن أقام بمكة بضعة عشرة سنة، وانتشر أمره، وكذبه قومه، وحرصوا على إبطال دعوته بكل طريق يقدرون عليه، فلو كان بمكة أو بالمدينة أحد من أهل الكتاب يتعلم منه، أو لقي أحدا من أهل الكتاب في طريق فتعلم منه، لكان ذلك يقدح في مقصود هؤلاء السائلين.
فتبين أنه كان معلوما عند أهل الكتاب أنه لم يتعلم شيئا من الغيب من بشر، لا سيما ولو كان قد تعلمه من أهل الكتاب وقد كذبهم وحاربهم، لأظهروا ذلك، ولشاع في أهل الكتاب، فكان إذا أجابهم قالوا: هذا تعلمته من فلان، وفلان منا، أو هذا علمكه بعض أهل ديننا. وهذا كما كانوا يرسلون إلى قومه من قريش ليسألوه عن مسائل، ويقولون: إن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فهو متقول، ويقولون: سلوه عن مسائل لا يعلمها إلا نبي.
فهذا من أهل المدينة ومن قريش قومه، يبين أن قومه المشركين وأهل الكتاب كانوا متفقين على أنه لم يتعلم شيئا من ذلك البشر، إذ لو جوزوا ذلك لم يحصل مقصودهم بذلك، ولم يجز أن يقولوا لا يعلمها إلا نبي، فإنهم كانوا جميعا يعلمون أن من أهل الكتاب من يعلم هذه المسائل، وبذلك يعرف هل يجيب فيها بما قالته الأنبياء، أو بخلاف ذلك، ويعلمون أن من كان تعلمها من أهل الكتاب، ومن تعلم منهم لا يدل جوابه عنها على نبوته كما لو أجاب عن تلك
المسائل بعض أهل الكتاب، وكما لو سأل في زماننا بعض الناس لبعض المسلمين عن تلك المسائل أو غيرها من أنباء الغيب، التي لا يعلمها إلا نبي، فإن ذلك لا يدل على نبوته؛ لأنه قد تعلم ذلك من الأنبياء.
فدل على أن مرادهم بقولهم: لا يعلمها إلا نبي: أي لا يعلمها ابتداء بدون تعليم من بشر إلا نبي، ويدل على أن المشركين وأهل الكتاب كانوا جميعا متفقين على أنه لم يتعلم من بشر مع انتشار أخباره، ومع اطلاع قومه على أسراره، ومع ظهور ذلك - لو وجد - ومع أنهم لو جوزوا تجويزا أن يكون قد تعلمها من بشر في الباطن، لم يجز أن يستدل بها على نبوته، فدل على أنهم كانوا قاطعين بأنه لم يتعلم ذلك من بشر؛ لا في الباطن، ولا في الظاهر، وهذا طريق بين يدل على أنه لم يتعلم ذلك من بشر سوى الطرق المذكورة هنا.
(قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65)
(فصل: في قول السائل: ولا يقال علم الله ما يختار فالمختار مسطور)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فصل:
وأما قوله:
ولا يقال علم الله ما يختار ... فالمختار مسطور
فهو يتضمن إيراد سؤال من القدرية. وجوابه منهم: فإنهم قد يقولون: نحن نقول: إنه يعلم وإذا قلنا ذلك لم نكن قد نفينا القدر بل أثبتنا القدر بمعنى العلم مع نفي كون الرب تعالى شائيا جميع الحوادث خالقا لأفعال العباد قال الناظم فإن الذي يختاره العبد مسطور قبل ذلك فلا يمكن بغيره فيلزم الجبر. وقد يعترض على هذا الجواب بأن يقال: اللازم هنا بمنزلة الملزوم، فإن علمه بأنه يختاره موافق لما كتبه من أنه يختاره وتغيير العلم أعظم من تغيير المسطور.
وقد يقال: إنه أراد جعل السطر من تمام القول أي لا يقال علم ما يختاره وسطر ذلك. أي فتقدم العلم والكتاب كاف في الإيمان بالقدر فإن مجرد ذلك لا يكفي في الإيمان بالقدر وهذا من حجة القائلين بالجبر. قالوا: خلاف المعلوم ممتنع؛ فالأمر به أمر بممتنع؛ لأنه لو وقع المأمور للزم انقلاب العلم جهلا. وجوابهم أن الممتنع لفظ مجمل فإن أرادوا أن خلاف المعلوم لا يقع ولا يكون فهذا صحيح ولكن التكليف بما لا يكون لا يكون تكليفا بما يعجز عنه الفاعل فإن ما لا يفعله الفاعل قد لا يفعله لعجزه عنه وقد لا يفعله لعدم إرادته فإنما كلف بما يطيقه مع علم الرب أنه لا يكون كما يعلم أن ما لا يشاؤه هو لا يكون مع أنه لو شاء لفعله.
وقول المحتج: لو وقع لانقلب العلم جهلا. قيل: هذا صحيح وهو يدل على أنه لا يقع لكن لا يدل على أن المكلف عاجز عنه لو أراده لم يقدر على فعله فإنه لا يقع لعدم إرادته له لا لعدم قدرته عليه؛ كالذي لا يقع من مقدورات الرب التي لو شاء لفعلها وهو يعلم أنه لا يفعلها. ولا يجوز أن يقال إنه غير قادر عليها كما قاله بعض غلاة أهل البدع؛ بل قد قال سبحانه: {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه} {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} وقال تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا} مع أنه قد ثبت في الصحيحين عن جابر {أنه لما نزل قوله: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك {أو من تحت أرجلكم} قال: أعوذ بوجهك {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: هاتان أهون}.
فهذا الذي أخبر أنه قادر عليه منه ما لا يكون وهو إرسال عذاب من فوق الأمة أو من تحت أرجلهم. ومنه ما يكون وهو لبسهم شيعا وإذاقة بعضهم بأس بعض، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة؛ سألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها؛ وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطانيها؛ وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها}.
وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما لا يكون أنه لو شاء لفعله كقوله: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} وقوله: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} وقوله: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} وأمثال هذه الآيات تبين أنه لو شاء أن يفعل أمورا لم تكن لفعلها؛ وهذا يدل على أنه قادر على ما علم أنه لا يكون؛ فإنه لولا قدرته عليه لكان إذا شاء لا يفعله؛ فإنه لا يمكن فعله إلا بالقدرة عليه فلما أخبر وهو الصادق في خبره أنه لو شاء لفعله علم أنه قادر عليه وإن علم سبحانه أنه لا يكون؛ وعلم أيضا أن خلاف المعلوم قد يكون مقدورا.
وإذا قيل هو ممتنع فهو من باب الممتنع لعدم مشيئة الرب له لا لكونه ممتنعا في نفسه ولا لكونه معجوزا عنه. ولفظ " الممتنع " فيه إجمال كما تقدم وما سمي ممتنعا بمعنى أنه لا يكون مع أنه لو شاء العبد لفعله لقدرته عليه فهذا يجوز تكليفه بلا نزاع؛ وإن سماه بعضهم بما لا يطاق فهذا نزاع لفظي؛ ونزاع في أن القدرة هل يجوز أن تتقدم الفعل أم لا؟
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الأنعام
المجلد الثامن
الحلقة( 305)
من صــ 271 الى صـ 285
(وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (61)
سئل شيخ الإسلام:
هل الملائكة الموكلون بالعبد هم الموكلون دائما أم كل يوم ينزل الله إليه ملكين غير أولئك؟ وهل هو موكل بالعبد ملائكة بالليل وملائكة بالنهار؟ وقوله عز وجل: {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} فما معنى الآية
فأجاب:
الحمد لله، الملائكة أصناف؛ منهم من هو موكل بالعبد دائما. ومنهم ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر؛ فيسألهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون ومنهم ملائكة فضل عن كتاب الناس يتبعون مجالس الذكر. (وأعمال العباد تجمع جملة وتفصيلا فترفع أعمال الليل قبل أعمال النهار وأعمال النهار قبل أعمال الليل تعرض الأعمال على الله في كل يوم اثنين وخميس فهذا كله مما جاءت به الأحاديث الصحيحة وأما إنه كل يوم تبدل عليه الملكان: فهذا لم يبلغنا فيه شيء. والله أعلم.
(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (68)
وسئل - رحمه الله -:
عمن يجب أو يجوز بغضه أو هجره أو كلاهما لله تعالى؟ وماذا يشترط على الذي يبغضه أو يهجره لله تعالى من الشروط؟ وهل يدخل ترك السلام في الهجران أم لا؟ وإذا بدأ المهجور الهاجر بالسلام هل يجب الرد عليه أم لا؟ وهل يستمر البغض والهجران لله عز وجل حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها؟ أم يكون لذلك مدة معلومة؟ فإن كان لها مدة معلومة فما حدها؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
فأجاب: الهجر الشرعي نوعان: أحدهما بمعنى الترك للمنكرات. والثاني بمعنى العقوبة عليها.
فالأول: هو المذكور في قوله تعالى {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}. وقوله تعالى {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم}.
فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم. وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك. بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم أو حضر بغير اختياره. ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله. وفي الحديث: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر}. وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات. كما قال صلى الله عليه وسلم {المهاجر من هجر ما نهى الله عنه}. ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان. فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به ومن هذا قوله تعالى {والرجز فاهجر}.
النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها كما {هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون: الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم} حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقا فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير. والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع.
وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون. فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا؛ ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شرا من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم.
ولهذا جاء في الحديث: {أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة} وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه}. فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها؛ بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة. وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله. فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين.
كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح. وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه. وإذا عرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله. فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صوابا. فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرا غير مأمور به: كان خارجا عن هذا. وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله.
والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث؛ يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا؛ إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا} فهذا الهجر لحق الإنسان حرام وإنما رخص في بعضه كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت. وكما رخص في هجر الثلاث. فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه.
فالأول مأمور به والثاني منهي عنه؛ لأن المؤمنين إخوة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم} وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن: {ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين}. وقال في الحديث الصحيح: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذ اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر}.
وهذا لأن الهجر من " باب العقوبات الشرعية " فهو من جنس الجهاد في سبيل الله. وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله. والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه؛ فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} إنما المؤمنون إخوة فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم. فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه، والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.
وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط. وأهل السنة يقولون: إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى أعلم وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ... (93)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
لما ذكر الله سبحانه قول الذين ما قدروا الله حق قدره حيث أنكروا الإنزال على البشر ذكر المتشبهين به المدعين لمماثلته من الأقسام الثلاثة. فإن المماثل له: إما أن يقول: إن الله أوحى إلي أو يقول: أوحي إلي وألقي إلي وقيل لي ولا يسمي القائل. أو يضيف ذلك إلى نفسه ويذكر أنه هو المنشئ له.
ووجه الحصر: أنه إما أن يحذف الفاعل أو يذكره وإذا ذكره فإما أن يجعله من قول الله أو من قول نفسه. فإنه إذا جعله من كلام الشياطين لم يقبل منه وما جعله من كلام الملائكة فهو داخل فيما يضيفه إلى الله وفيما حذف فاعله فقال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله}. وتدبر كيف جعل الأولين في حيز الذي جعله وحيا من الله ولم يسم الموحي؟ فإنهما من جنس واحد في ادعاء جنس الإنباء وجعل الآخر في حيز الذي ادعى أن يأتي بمثله ولهذا قال: {ممن افترى على الله كذبا} ثم قال: {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} فالمفتري للكذب والقائل: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء: من جملة الاسم الأول وقد قرن به الاسم الآخر فهؤلاء الثلاثة المدعون لشبه النبوة. وقد تقدم قبلهم المكذب للنبوة.
فهذا يعم جميع أصول الكفر التي هي تكذيب الرسل أو مضاهاتهم كمسيلمة الكذاب وأمثاله. وهذه هي " أصول البدع " التي نردها نحن في هذا المقام لأن المخالف للسنة يرد بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو يعارض قول الرسول بما يجعله نظيرا له: من رأي أو كشف أو نحو ذلك.
(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76)
(فصل في بطلان استدلال الجهمية ومن اتبعهم بقول الله: " لا أحب الآفلين " على أن الحركة من لوازم الإله)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
ويقول كثير منهم: إن هذه طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام المذكورة في قوله {لا أحب الآفلين} قالوا: فإن إبراهيم استدل بالأفول - وهو الحركة والانتقال - على أن المتحرك لا يكون إلها. قالوا: ولهذا يجب تأويل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفا لذلك من وصف الرب بالإتيان والمجيء والنزول وغير ذلك؛ فإن كونه نبيا لم يعرف إلا بهذا الدليل العقلي فلو قدح في ذلك لزم القدح في دليل نبوته فلم يعرف أنه رسول الله وهذا ونحوه هو الدليل العقلي الذي يقولون إنه عارض السمع والعقل. ونقول إذا تعارض السمع والعقل امتنع تصديقهما وتكذيبهما وتصديق السمع دون العقل؛ لأن العقل هو أصل السمع فلو جرح أصل الشرع كان جرحا له. ولأجل هذه الطريق أنكرت الجهمية والمعتزلة الصفات والرؤية وقالوا: القرآن مخلوق؛ ولأجلها قالت الجهمية بفناء الجنة والنار؛ ولأجلها قال العلاف بفناء حركاتهم؛ ولأجلها فرع كثير من أهل الكلام؛ كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ودعواهم أن هذه طريقة إبراهيم الخليل في قوله: {لا أحب الآفلين} كذب ظاهر على إبراهيم؛ فإن الأفول هو التغيب والاحتجاب باتفاق أهل اللغة والتفسير وهو من الأمور الظاهرة في اللغة وسواء أريد بالأفول ذهاب ضوء
القمر والكواكب بطلوع الشمس أو أريد به سقوطه من جانب المغرب؛ فإنه إذا طلعت الشمس يقال: إنها غابت الكواكب واحتجبت وإن كانت موجودة في السماء ولكن طمس ضوء الشمس نورها. وهذا مما ينحل به الإشكال الوارد على الآية في طلوع الشمس بعد أفول القمر وإبراهيم عليه السلام لم يقل: {لا أحب الآفلين} لما رأى الكوكب يتحرك؛ والقمر والشمس بل إنما قال ذلك حين غاب واحتجب.
فإن كان إبراهيم قصد بقوله الاحتجاج بالأفول على نفي كون الآفل رب العالمين - كما ادعوه - كانت قصة إبراهيم حجة عليهم؛ فإنه لم يجعل بزوغه وحركته في السماء إلى حين المغيب دليلا على نفي ذلك؛ بل إنما جعل الدليل مغيبه. فإن كان ما ادعوه من مقصوده من الاستدلال صحيحا فإنه حجة على نقيض مطلوبهم وعلى بطلان كون الحركة دليل الحدوث.
لكن الحق أن إبراهيم لم يقصد هذا ولا كان قوله: {هذا ربي} أنه رب العالمين ولا اعتقد أحد من بني آدم أن كوكبا من الكواكب خلق السموات والأرض وكذلك الشمس والقمر ولا كان المشركون قوم إبراهيم يعتقدون ذلك؛ بل كانوا مشركين بالله يعبدون الكواكب ويدعونها ويبنون لها الهياكل ويعبدون فيها أصنامهم وهو دين الكلدانيين والكشدانيين والصابئين المشركين؛ لا الصابئين الحنفاء وهم الذين صنف صاحب " السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم " كتابه على دينهم.
وهذا دين كان كثير من أهل الأرض عليه بالشام والجزيرة والعراق وغير ذلك وكانوا قبل ظهور دين المسيح عليه السلام وكان جامع دمشق وجامع حران وغيرهما موضع بعض هياكلهم: هذا هيكل المشتري وهذا هيكل الزهرة. وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي؛ وبدمشق محاريب قديمة إلى الشمال. والفلاسفة اليونانيون كانوا من جنس هؤلاء المشركين يعبدون الكواكب والأصنام ويصنعون السحر وكذلك أهل مصر وغيرهم. وجمهور المشركين كانوا مقرين برب العالمين والمنكر له قليل مثل فرعون ونحوه.
وقوم إبراهيم كانوا مقرين بالصانع ولهذا قال لهم إبراهيم الخليل: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} {أنتم وآباؤكم الأقدمون} {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} فعادى كل ما يعبدونه إلا رب العالمين وقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء} وقال الخليل عليه السلام {أتعبدون ما تنحتون} {والله خلقكم وما تعملون} وقال تعالى في سورة الأنعام؛ {فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون} {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون} {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} قال الله تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم}.
ولما فسر هؤلاء " الأفول " بالحركة وفتحوا باب تحريف الكلم عن مواضعه دخلت الملاحدة من هذا الباب ففسر ابن سينا وأمثاله من الملاحدة الأفول بالإمكان الذي ادعوه حيث قالوا: إن الأفلاك قديمة أزلية وهي مع ذلك ممكنة وكذلك ما فيها من الكواكب والنيرين. قالوا: فقول إبراهيم {لا أحب الآفلين} أي لا أحب الممكن المعلول وإن كان قديما أزليا. وأين في لفظ الأفول ما يدل على هذا المعنى؟ ولكن هذا شأن المحرفين للكلم عن مواضعه.
وجاء بعدهم من جنس من زاد في التحريف فقال: المراد " بالكواكب والشمس والقمر " هو النفس والعقل الفعال والعقل الأول وقد ذكر ذلك أبو حامد الغزالي في بعض كتبه وحكاه عن غيره في بعضها. وقال هؤلاء الكواكب والشمس والقمر لا يخفى على عاقل أنها ليست رب العالمين بخلاف النفس والعقل.
ودلالة لفظ الكوكب والشمس والقمر على هذه المعاني لو كانت موجودة من عجائب تحريفات الملاحدة الباطنية كما يتأولون العلميات مع العمليات ويقولون: الصلوات الخمس معرفة أسرارنا وصيام رمضان كتمان أسرارنا والحج هو الزيارة لشيوخنا المقدسين. وفتح لهم هذا الباب " الجهمية والرافضة " حيث صار بعضهم يقول: الإمام المبين علي بن أبي طالب والشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية والبقرة المأمور بذبحها عائشة واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين. وقد شاركهم في نحو هذه التحريفات طائفة من الصوفية وبعض المفسرين كالذين يقولون: {والتين والزيتون} {وطور سينين} {وهذا البلد الأمين} أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وكذلك قوله: {كزرع أخرج شطأه} أبو بكر {فآزره} عمر {فاستغلظ} هو عثمان {فاستوى على سوقه} هو علي. وقول بعض الصوفية: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} هو القلب {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} هي النفس.
وأمثال هذه التحريفات. لكن منها ما يكون معناه صحيحا وإن لم يكن هو المراد باللفظ وهو الأكثر في إشارات الصوفية. وبعض ذلك لا يجعل تفسيرا؛ بل يجعل من باب الاعتبار والقياس وهذه طريقة صحيحة علمية كما في قوله تعالى {لا يمسه إلا المطهرون} وقول النبي صلى الله عليه وسلم {لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب}. فإذا كان ورقه {لا يمسه إلا المطهرون} فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة وإذا كان الملك لا يدخل بيتا فيه كلب فالمعاني التي تحبها الملائكة لا تدخل قلبا فيه أخلاق الكلاب المذمومة ولا تنزل الملائكة على هؤلاء وهذا لبسطه موضع آخر.
والمقصود أن أولئك المبتدعة من أهل الكلام لما فتحوا " باب القياس الفاسد في العقليات والتأويل الفاسد في السمعيات "؛ صار ذلك دهليزا للزنادقة الملحدين إلى ما هو أعظم من ذلك من السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات وصار كل من زاد في ذلك شيئا دعاه إلى ما هو شر منه؛ حتى انتهى الأمر بالقرامطة إلى إبطال الشرائع المعلومة كلها كما قال لهم رئيسهم بالشام: قد أسقطنا عنكم العبادات فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة. ولهذا قال من قال من السلف: البدع بريد الكفر والمعاصي بريد النفاق.
ولما اعتقد أئمة الكلام المبتدع أن معنى كون الله خالقا لكل شيء هو ما تقدم: أنه لم يزل غير فاعل لشيء ولا متكلم بشيء حتى أحدث العالم؛ لزمهم أن يقولوا: إن القرآن أو غيره من كلام الله مخلوق منفصل بائن عنه. فإنه لو كان له كلام قديم أو كلام غير مخلوق؛ لزم قدم العالم على الأصل الذي أصلوه لأن الكلام قد عرف العقلاء أنه إنما يكون بقدرة المتكلم ومشيئته.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الأنعام
المجلد الثامن
الحلقة( 306)
من صــ 286 الى صـ 300
وأما كلام يقوم بذات المتكلم بلا قدرة ولا مشيئة؛ فهذا لم يكن يتصوره أحد من العقلاء ولا نعرف أن أحدا قاله بل ولا يخطر ببال جماهير الناس حتى أحدث القول به ابن كلاب. وإنما ألجأه إلى هذا: أن أولئك المتكلمين لما أظهروا موجب أصلهم وهو القول بأن القرآن مخلوق أظهروا ذلك في أوائل المائة الثانية فلما سمع ذلك علماء الأمة أنكروا ذلك ثم صار كلما ظهر قولهم أنكره العلماء - وكلام السلف والأئمة في إنكار ذلك مشهور متواتر - إلى أن صار لهؤلاء المتكلمين الكلام المحدث في دولة المأمون عز وأدخلوه في ذلك وألقوا إليه الحجج التي لهم. وقالوا إما أن يكون العالم مخلوقا أو قديما. وهذا الثاني كفر ظاهر معلوم فساده بالعقل والشرع. وإذا كان العالم مخلوقا محدثا بعد أن لم يكن؛ لم يبق قديم إلا الله وحده.
فلو كان العالم قديما؛ لزم أن يكون مع الله قديم آخر. وكذلك الكلام إن كان قائما بذاته؛ لزم دوام الحوادث وقيامها بالرب وهذا يبطل الدليل الذي اشتهر بينهم على حدوث العالم. وإن كان منفصلا عنه لزم وجود المخلوق في الأزل؛ وهذا قول بقدم العالم. فلما امتحن الناس بذلك واشتهرت هذه المحنة وثبت الله من ثبته من أئمة السنة؛ وكان الإمام - الذي ثبته الله وجعله إماما للسنة حتى صار أهل العلم بعد ظهور المحنة يمتحنون الناس به فمن وافقه كان سنيا وإلا كان بدعيا - هو الإمام أحمد بن حنبل فثبت على أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
فصل:
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال الرازي: " الحجة الثالثة " قصة الخليل: {لا أحب الآفلين} والأفول عبارة عن التغير. وهذا يدل على أن المتغير لا يكون إلها أصلا. والجواب من وجوه:
أحدها: أنا لا نسلم أن الأفول هو التغير ولم يذكر على ذلك حجة؛ بل لم يذكر إلا مجرد الدعوى.
الثاني: أن هذا خلاف إجماع أهل اللغة والتفسير؛ بل هو خلاف ما علم بالاضطرار من الدين؛ والنقل المتواتر للغة والتفسير. فإن " الأفول " هو المغيب. يقال: أفلت الشمس تأفل وتأفل أفولا إذا غابت ولم يقل أحد قط إنه هو التغير ولا إن الشمس إذا تغير لونها يقال إنها أفلت ولا إذا كانت متحركة في السماء يقال إنها أفلت ولا أن الريح إذا هبت يقال إنها أفلت ولا أن الماء إذا جرى يقال إنه أفل ولا أن الشجر إذا تحرك يقال إنه أفل ولا أن الآدميين إذا تكلموا أو مشوا وعملوا أعمالهم يقال إنهم أفلوا؛ بل ولا قال أحد قط إن من مرض أو اصفر وجهه أو احمر يقال إنه أفل. فهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على الله وعلى خليل الله وعلى كلام الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله وعلى أمة محمد جميعا وعلى جميع أهل اللغة وعلى جميع من يعرف معاني القرآن.
الثالث: أن قصة الخليل عليه السلام حجة عليكم فإنه لما رأى كوكبا وتحرك إلى الغروب فقد تحرك؛ ولم يجعله آفلا ولما رأى القمر بازغا رآه متحركا؛ ولم يجعله آفلا؛ فلما رأى الشمس بازغة علم أنها متحركة؛ ولم يجعلها آفلة ولما تحركت إلى أن غابت والقمر إلى أن غاب لم يجعله آفلا.
الرابع: قوله: إن الأفول عبارة عن التغير؛ إن أراد بالتغير الاستحالة: فالشمس والقمر والكواكب لم تستحل بالمغيب؛ وإن أراد به التحرك: فهو لا يزال متحركا. وقوله: {فلما أفل} دل على أنه يأفل تارة ولا يأفل أخرى.
فإن (لما ظرف يقيد هذا الفعل بزمان هذا الفعل والمعنى أنه حين أفل {قال لا أحب الآفلين} فإنما قال ذلك حين أفوله. وقوله: {فلما أفل} دل على حدوث الأفول وتجدده؛ والحركة لازمة له؛ فليس الأفول هو الحركة ولفظ التغير والتحرك مجمل. إن أريد به التحرك أو حلول الحوادث: فليس هو معنى التغير في اللغة وليس الأفول هو التحرك ولا التحرك هو التغير؛ بل الأفول أخص من التحرك والتغير أخص من التحرك. وبين التغير والأفول عموم وخصوص. فقد يكون الشيء متغيرا غير آفل وقد يكون آفلا غير متغير وقد يكون متحركا غير متغير ومتحركا غير آفل. وإن كان التغير أخص من التحرك على أحد الاصطلاحين: فإن لفظ الحركة قد يراد بها الحركة المكانية وهذه لا تستلزم التغير. وقد يراد به أعم من ذلك كالحركة في الكيف والكم؛ مثل حركة النبات بالنمو وحركة نفس الإنسان بالمحبة والرضا والغضب والذكر. فهذه الحركة قد يعبر عنها بالتغير وقد يراد بالتغير في بعض المواضع الاستحالة.
ففي الجملة: الاحتجاج بلفظ التغير إن كان سمعيا فالأفول ليس هو التغير؛ وإن كان عقليا. فإن أريد بالتغير - الذي يمتنع على الرب - محل النزاع: لم يحتج به وإن أريد به مواقع الإجماع فلا منازعة فيه. وأفسد من هذا: قول من يقول: الأفول هو الإمكان كما قاله " ابن سينا " إن الهوي في حضيرة الإمكان أفول بوجه ما؛ فإنه يلزم على هذا أن يكون كل ما سوى الله آفلا ولا يزال آفلا فإن كل ما سواه ممكن ولا يزال ممكنا. ويكون الأفول وصفا لازما لكل ما سوى الله؛ كما أن كونه ممكنا وفقيرا إلى الله وصف لازم له.
وحينئذ: فتكون الشمس والقمر والكواكب: لم تزل ولا تزال آفلة وجميع ما في السموات والأرض لا يزال آفلا. فكيف يصح قوله مع ذلك: {فلما أفل قال لا أحب الآفلين}؟ وعلى كلام هؤلاء المحرفين لكلام الله تعالى وكلام خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم عن مواضعه: هو آفل قبل أن يبزغ ومن حين بزغ وإلى أن غاب. وكذلك جميع ما يرى وما لا يرى في العالم آفل والقرآن بين أنه لما رآها بازغة قال: {هذا ربي} فلما أفلت بعد ذلك. قال: {لا أحب الآفلين} والله أعلم.
(وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل: ذكر الله عن إمامنا إبراهيم خليل الله أنه قال لمناظريه من المشركين الظالمين {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون}. وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن {النبي صلى الله عليه وسلم فسر الظلم بالشرك وقال ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح {إن الشرك لظلم عظيم} فأنكر أن نخاف ما أشركوهم بالله من جميع المخلوقات العلويات والسفليات وعدم خوفهم من إشراكهم بالله شريكا لم ينزل الله به سلطانا وبين أن القسم الذي لم يشرك هو الآمن المهتدي.
وهذه آية عظيمة تنفع المؤمن الحنيف في مواضع فإن الإشراك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل دع جليله وهو شرك في العبادة والتأله وشرك في الطاعة والانقياد وشرك في الإيمان والقبول. فالغالية من النصارى والرافضة وضلال الصوفية والفقراء والعامة يشركون بدعاء غير الله تارة وبنوع من عبادته أخرى وبهما جميعا تارة ومن أشرك هذا الشرك أشرك في الطاعة.
وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك وأتباع القضاة والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما قرأ {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم} فقال يا رسول الله ما عبدوهم فقال ما عبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم}. فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه والحرام ما حرمه والحلال ما حلله والدين ما شرعه إما دينا وإما دنيا وإما دنيا ودينا. ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئا في طاعته بغير سلطان من الله وبهذا يخرج من أوجب الله طاعته من رسول وأمير وعالم ووالد وشيخ وغير ذلك. وأما الشرك الثالث فكثير من أتباع المتكلمة والمتفلسفة بل وبعض المتفقهة والمتصوفة بل وبعض أتباع الملوك والقضاة يقبل قول متبوعه فيما يخبر به من الاعتقادات الخبرية ومن تصحيح بعض المقالات وإفساد بعضها ومدح بعضها وبعض القائلين وذم بعض بلا سلطان من الله. ويخاف ما أشركه في الإيمان والقبول ولا يخاف إشراكه بالله شخصا في الإيمان به وقبول قوله بغير سلطان من الله.
وبهذا يخرج من شرع الله تصديقه من المرسلين والعلماء المبلغين والشهداء الصادقين وغير ذلك. فباب الطاعة والتصديق ينقسم إلى مشروع في حق البشر وغير مشروع. وأما العبادة والاستعانة والتأله فلا حق فيها للبشر بحال فإنه كما قال القائل ما وضعت يدي في قصعة أحد إلا ذللت له. ولا ريب أن من نصرك ورزقك كان له سلطان عليك فالمؤمن يريد أن لا يكون عليه سلطان إلا لله ولرسوله ولمن أطاع الله ورسوله.
وقبول مال الناس فيه سلطان لهم عليه فإذا قصد دفع هذا السلطان وهذا القهر عن نفسه كان حسنا محمودا يصح له دينه بذلك وإن قصد الترفع عليهم والترؤس والمراءاة بالحال الأولى كان مذموما وقد يقصد بترك الأخذ غنى نفسه عنهم في ترك أموالهم لهم. فهذه أربع مقاصد صالحة: غنى نفسه، وعزتها حتى لا تفتقر إلى الخلق ولا تذل لهم، وسلامة مالهم ودينهم عليهم حتى لا تنقص عليهم أموالهم فلا يذهبها عنهم ولا يوقعهم بأخذها منهم فيما يكره لهم من الاستيلاء عليه ففي ذلك منفعة له ألا يذل ولا يفتقر إليهم ومنفعة لهم أن يبقى لهم مالهم ودينهم وقد يكون في ذلك منفعة بتأليف قلوبهم بإبقاء أموالهم لهم حتى يقبلوا منه ويتألفون بالعطاء لهم فكذلك في إبقاء أموالهم لهم وقد يكون في ذلك أيضا حفظ دينهم فإنهم إذا قبل منهم المال قد يطمعون هم أيضا في أنواع من المعاصي ويتركون أنواعا من الطاعات فلا يقبلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي ذلك منافع ومقاصد أخر صالحة.
وأما إذا كان الأخذ يفضي إلى طمع فيه حتى يستعان به في معصية أو يمنع من طاعة فتلك مفاسد أخر وهي كثيرة ترجع إلى ذله وفقره لهم فإنهم لا يتمكنون من منعه من طاعة إلا إذا كان ذليلا أو فقيرا إليهم ولا يتمكنون هم من استعماله في المعصية إلا مع ذله أو فقره فإن العطاء يحتاج إلى جزاء ومقابلة فإذا لم تحصل مكافأة دنيوية من مال أو نفع لم يبق إلا ما ينتظر من المنفعة الصادرة منه إليهم.
وللرد وجوه مكروهة مذمومة منها: الرد مراءاة بالتشبه بمن يريد غنى وعزة ورحمة للناس في دينهم ودنياهم. ومنها التكبر عليهم والاستعلاء حتى يستعبدهم ويستعلي عليهم بذلك فهذا مذموم أيضا. ومنها البخل عليهم فإنه إذا أخذ منهم احتاج أن ينفعهم ويقضي حوائجهم فقد يترك الأخذ بخلا عليهم بالمنافع. ومنها الكسل عن الإحسان إليهم فهذه أربع مقاصد فاسدة في الرد للعطاء: الكبر والرياء والبخل والكسل.
فالحاصل أنه قد يترك قبول المال لجلب المنفعة لنفسه أو لدفع المضرة عنها أو لجلب المنفعة للناس أو دفع المضرة عنهم فإن في ترك أخذه غنى نفسه وعزها وهو منفعة لها وسلامة دينه ودنياه مما يترتب على القبول من أنواع المفاسد وفيه نفع الناس بإبقاء أموالهم ودينهم لهم ودفع الضرر المتولد عليهم إذا بذلوا بذلا قد يضرهم وقد يتركه لمضرة الناس أو لترك منفعتهم فهذا مذموم كما تقدم وقد يكون في الترك أيضا مضرة نفسه أو ترك منفعتها إما بأن يكون محتاجا إليه فيضره تركه أو يكون في أخذه وصرفه منفعة له في الدين والدنيا فيتركها من غير معارض مقاوم.
فلهذا فصلنا هذه المسألة فإنها مسألة عظيمة وبإزائها مسألة القبول أيضا وفيها التفصيل لكن الأغلب أن ترك الأخذ كان أجود من القبول ولهذا يعظم الناس هذا الجنس أكثر وإذا صح الأخذ كان أفضل أعني الأخذ والصرف إلى الناس.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
فمن كان في قلبه رياسة لمخلوق ففيه من عبوديته بحسب ذلك. فلما خوفوا خليله بما يعبدونه ويشركون به - الشرك الأكبر كالعبادة - قال الخليل: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} يقول: إن تطيعوا غير الله وتعبدوا غيره وتكلمون في دينه ما لم ينزل به سلطانا: فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ أي تشركون بالله ولا تخافونه وتخوفوني أنا بغير الله فمن ذا الذي يستحق الأمن إلى قوله: {أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} أي: هؤلاء الموحدون المخلصون؛ ولهذا قال الإمام أحمد لبعض الناس: لو صححت لم تخف أحدا.
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)
[عن ابن مسعود قال]: {لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بذلك. ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما هو الشرك}.
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه فدخل ذات يوم فقرأ فأتى على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} إلى آخر الآية فانتعل وأخذ رداءه ثم أتى إلى أبي بن كعب فقال: يا أبا المنذر أتيت قبل على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وقد نرى أنا نظلم ونفعل. فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا ليس بذلك يقول الله: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما ذلك الشرك.
(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)
وقال أيضا:
فصل:
ذكر الله أنه يرفع درجات من يشاء في قصة مناظرة إبراهيم وفي قصة احتيال يوسف ولهذا قال السلف: بالعلم؛ فإن سياق الآيات يدل عليه فقصة إبراهيم في العلم بالحجة والمناظرة لدفع ضرر الخصم عن الدين وقصة يوسف في العلم بالسياسة والتدبير لتحصل منفعة المطلوب فالأول علم بما يدفع المضار في الدين والثاني علم بما يجلب المنافع أو يقال: الأول هو العلم الذي يدفع المضرة عن الدين ويجلب منفعته والثاني علم بما يدفع المضرة عن الدنيا ويجلب منفعتها أو يقال قصة إبراهيم في علم الأقوال النافعة عند الحاجة إليها وقصة يوسف في علم الأفعال النافعة عند الحاجة إليها فالحاجة في جلب المنفعة ودفع المضرة قد تكون إلى القول وقد تكون. . . (1).
ولهذا كان المقصرون عن علم الحجج والدلالات، وعلم السياسة والإمارات مقهورين مع هذين الصنفين تارة بالاحتياج إليهم إذا هجم عدو يفسد الدين بالجدل أو الدنيا بالظلم وتارة بالاحتياج إليهم إذا هجم على أنفسهم من أنفسهم ذلك وتارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شر بعض في الدين والدنيا وتارة يعيشون في ظلهم في مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم ولا وال يظلمهم وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدامغة لأهل البدع والسياسة الدافعة للظلم.
ولهذا قيل: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: العلماء والأمراء وكما أن المنفعة فيهما فالمضرة منهما فإن البدع والظلم لا تكون إلا فيهما: أهل الرياسة العلمية وأهل الرياسة القدرية ولهذا قال طائفة من السلف كالثوري وابن عيينة وغيرهما ما معناه: أن من نجا من فتنة البدع وفتنة السلطان فقد نجا من الشر كله وقد بسطت القول في هذا في الصراط المستقيم عند قوله: {فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا}.
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (90)
فصل:
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه وأن نقتدي بهم وبهداهم. قال تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} وقال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده وقد نسخ بشرعه ما نسخه من شرع غيره فلم يبق طريق إلى الله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم فما أمر به من العبادات أمر إيجاب أو استحباب فهو مشروع وكذلك ما رغب فيه وذكر ثوابه وفضله.
ولا يجوز أن يقال إن هذا مستحب أو مشروع إلا بدليل شرعي، ولا يجوز أن يثبت شريعة بحديث ضعيف لكن إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي وروي له فضائل بأسانيد ضعيفة جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب، وذلك أن مقادير الثواب غير معلومة فإذا روي في مقدار الثواب حديث لا يعرف أنه كذب لم يجز أن يكذب به وهذا هو الذي كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره يرخصون فيه وفي روايات أحاديث الفضائل. وأما أن يثبتوا أن هذا عمل مستحب مشروع بحديث ضعيف فحاشا لله كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب فإنهم لم يكونوا يستحلون روايته إلا أن يبينوا أنه كذب لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين}.
[فصل في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه]
فصل فإن قيل: ما ذكرتموه من الأدلة معارض بما يدل على خلافه، وذلك: أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقوله تعالى: {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] وقوله: {اتبع ملة إبراهيم} [النحل: 123] وقوله: {يحكم بها النبيون الذين أسلموا} [المائدة: 44] وغير ذلك من الدلائل المذكورة في غير هذا الموضع، مع أنكم مسلمون لهذه القاعدة، وهي قول عامة السلف وجمهور الفقهاء.
ومعارض بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: " ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ " قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا لله فنحن نصومه تعظيما له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فنحن أحق وأولى بموسى منكم " فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه" متفق عليه.
وعن أبي موسى رضي الله عنه، قال: "كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فصوموه أنتم" متفق عليه، وهذا اللفظ للبخاري، ولفظ مسلم "تعظمه اليهود وتتخذه عيدا" وفي لفظ له: " كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء ويتخذونه عيدا، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشاراتهم ".
وعن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته، ثم فرق بعد"، متفق عليه.
__________
Q (1) خرم بالأصل
وفي نسخة شركة حرف الإلكترونية: " قد تكون إلى القول وقد تكون إلى الفعل "
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الأنعام
المجلد الثامن
الحلقة( 307)
من صــ 301 الى صـ 315
قيل: أما المعارضة بكون شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، فذاك مبني على مقدمتين، كلتاهما منفية في مسألة التشبه بهم:
إحداهما: أن يثبت أن ذلك شرع لهم، بنقل موثوق به، مثل أن يخبرنا الله في كتابه، أو على لسان رسوله، أو ينقل بالتواتر، ونحو ذلك، فأما مجرد الرجوع إلى قولهم، أو إلى ما في كتبهم، فلا يجوز بالاتفاق، والنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد استخبرهم فأخبروه، ووقف على ما في التوراة؛ فإنما ذلك لأنه لا يروج عليه باطلهم، بل الله سبحانه يعرفه ما يكذبون مما يصدقون، كما قد أخبره بكذبهم غير مرة. وأما نحن فلا نأمن أن يحدثونا بالكذب، فيكون فاسق، بل كافر قد جاءنا بنبأ فاتبعناه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم".
المقدمة الثانية: أن لا يكون في شرعنا بيان خاص لذلك، فأما إذا كان فيه بيان خاص: إما بالموافقة، أو بالمخالفة، استغني عن ذلك فيما ينهى عنه من موافقته، ولم يثبت أنه شرع لمن كان قبلنا، وإن ثبت فقد كان هدي نبينا صلى الله عليه وسلم بخلافه، وبهم أمرنا نحن أن نتبع ونقتدي، وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم: أن يكون هدينا مخالفا لهدي اليهود والنصارى، وإنما تجيء الموافقة في بعض الأحكام العارضة، لا في الهدي الراتب، والشعار الدائم.
ثم ذلك بشرط: أن لا يكون قد جاء عن نبينا وأصحابه خلافه، أو ثبت أصل شرعه في ديننا، وقد ثبت عن نبي من الأنبياء
أصله، أو وصفه مثل: فداء من نذر أو يذبح ولده بشاة، ومثل: الختان المأمور به في ملة إبراهيم عليه السلام، ونحو ذلك. وليس الكلام فيه.
وأما حديث عاشوراء: فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه قبل استخباره لليهود وكانت قريش تصومه، ففي الصحيحين، من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلما هاجر إلى المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان قال: " من شاء صامه، ومن شاء تركه" وفي رواية: " وكان يوما تستر فيه الكعبة ".
وأخرجاه من حديث هشام عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك
يوم عاشوراء " فمن شاء صامه، ومن شاء تركه".
وفيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه".
فإذا كان أصل صومه لم يكن موافقا لأهل الكتاب، فيكون قوله: "فنحن أحق بموسى منكم" توكيدا لصومه، وبيانا لليهود: أن الذي يفعلونه من موافقة موسى نحن أيضا نفعله، فنكون أولى بموسى منكم.
ثم الجواب عن هذا، وعن قوله: "كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء" من وجوه:أحدها: أن هذا كان متقدما، ثم نسخ الله ذلك، وشرع له مخالفة أهل الكتاب، وأمره بذلك، وفي متن الحديث: " أنه سدل شعره موافقة لهم، ثم فرق شعره بعد " ولهذا صار الفرق شعار المسلمين، وكان من الشروط على أهل الذمة " أن لا يفرقوا شعورهم " وهذا كما أن الله شرع له في أول الأمر استقبال بيت المقدس موافقة لأهل الكتاب، ثم نسخ ذلك، وأمر باستقبال الكعبة، وأخبر عن اليهود وغيرهم من السفهاء أنهم سيقولون: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142].
وأخبر أنهم لا يرضون عنه حتى يتبع قبلتهم، وأخبره أنه: إن اتبع أهواءهم من بعد ما جاءه من العلم ما له من الله من ولي، ولا نصير، وأخبره أن: {ولكل وجهة هو موليها} [البقرة: 148] وكذلك أخبره في موضع آخر أنه جعل لكل شرعة ومنهاجا فالشعار من جملة الشرعة.
والذي يوضح ذلك: أن هذا اليوم - عاشوراء - الذي صامه وقال: "نحن أحق بموسى منكم" قد شرع - قبيل موته - مخالفة اليهود في صومه، وأمر صلى الله عليه وسلم بذلك ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الذي يقول: "وكان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء"، وهو الذي روى قوله: "نحن أحق بموسى منكم" أشد الصحابة رضي الله عنهم أمرا بمخالفة اليهود في صوم يوم عاشوراء، وقد ذكرنا أنه هو الذي روى شرع المخالفة.
وروى - أيضا - مسلم في صحيحه عن الحكم بن الأعرج قال: "انتهيت إلى ابن عباس، وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: " إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، وأصبح يوم التاسع
صائما. قلت: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم".
وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع"، يعني يوم عاشوراء.
ومعنى قول ابن عباس: " صم التاسع "، يعني: والعاشر. هكذا ثبت عنه، وعلله بمخالفة اليهود، قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان بن عمرو بن دينار أنه سمع عطاء، سمع ابن عباس رضي الله عنهما، يقول: " صوموا التاسع والعاشر، خالفوا اليهود ".
وروينا في فوائد داود بن عمرو عن إسماعيل بن علية قال: ذكروا عند ابن أبي نجيح، أن ابن عباس كان يقول " يوم عاشوراء يوم التاسع "، فقال ابن
أبي نجيح: إنما قال ابن عباس: " أكره أن أصوم فاردا، ولكن صوموا قبله يوما، أو بعده يوما ". 50 ويحقق ذلك: ما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم"، قال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح ".
وروى سعيد في سننه عن هشيم، عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا يوما قبله، أو يوما بعده". ورواه أحمد، ولفظه: "صوموا قبله يوما، أو بعده يوما".
ولهذا نص أحمد على مثل ما رواه ابن عباس وأفتى به، فقال في رواية الأثرم " أنا أذهب في عاشوراء: إلى أن يصام يوم التاسع والعاشر؛ لحديث ابن عباس: "صوموا التاسع والعاشر".
وقال حرب: سألت أحمد عن صوم يوم عاشوراء، فقال: " يصوم التاسع والعاشر ".
وقال في رواية الميموني وأبي الحارث " من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر، إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة أيام؛ ابن سيرين يقول ذلك ".
وقد قال بعض أصحابنا: إن الأفضل: صوم التاسع والعاشر، وإن اقتصر على العاشر لم يكره.
ومقتضى كلام أحمد: أنه يكره الاقتصار على العاشر؛ لأنه سئل عنه فأفتى بصوم اليومين، وأمر بذلك، وجعل هذا هو السنة لمن أراد صوم عاشوراء،
واتبع في ذلك حديث ابن عباس، وابن عباس كان يكره إفراد العاشر على ما هو مشهور عنه.
ومما يوضح ذلك: أن كل ما جاء من التشبه بهم، إنما كان في صدر الهجرة، ثم نسخ؛ ذلك أن اليهود إذ ذاك، كانوا لا يتميزون عن المسلمين لا في شعور، ولا في لباس، لا بعلامة، ولا غيرها.
ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع، الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدي.
وسبب ذلك: أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه كالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء؛ لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا؛ شرع بذلك.
ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب؛ لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.
فأما في دار الإسلام والهجرة، التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شرعت المخالفة. وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة تختلف لهم باختلاف الزمان والمكان؛ ظهرت حقيقية الأحاديث في هذا.
الوجه الثاني: لو فرضنا أن ذلك لم ينسخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان له أن يوافقهم؛ لأنه يعلم حقهم من باطلهم؛ بما يعلمه الله إياه، ونحن نتبعه، فأما نحن فلا يجوز لنا أن نأخذ شيئا من الدين عنهم: لا من أقوالهم، ولا من أفعالهم، بإجماع المسلمين المعلوم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو قال رجل: يستحب لنا موافقة أهل الكتاب، الموجودين في زماننا؛ لكان قد خرج عن دين الأمة.
الثالث أن نقول بموجبه: كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم إنه أمر بمخالفتهم، وأمرنا نحن أن نتبع هديه وهدي أصحابه السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار.
والكلام إنما هو في أنا منهيون عن التشبه بهم فيما لم يكن سلف الأمة عليه، فأما ما كان سلف الأمة عليه، فلا ريب فيه؛ سواء فعلوه، أو تركوه؛ فإنا لا نترك ما أمر الله به لأجل أن الكفار تفعله مع أن الله لم يأمرنا بشيء يوافقونا عليه إلا ولا بد فيه من نوع مغايرة يتميز بها دين الله المحكم مما قد نسخ، أو بدل.
[فصل في أقسام أعمال الكفار]
فصل قد ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار، ما دل على أن التشبه بهم في الجملة منهي عنه، وأن مخالفتهم في هديهم مشروع، إما إيجابا، وإما استحبابا بحسب المواضع.
وقد تقدم بيان: أن ما أمر به من مخالفتهم: مشروع، سواء كان ذلك الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم، أو لم يقصد، وكذلك ما نهي عنه من مشابهتهم: يعم ما إذا قصدت مشابهتهم، أو لم تقصد؛ فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها، وفيها ما لا يتصور قصد المشابهة فيه، كبياض الشعر، وطول الشارب، ونحو ذلك.
ثم اعلم أن أعمالهم ثلاثة أقسام:
- قسم مشروع في ديننا، مع كونه كان مشروعا لهم، أو لا يعلم أنه كان مشروعا لهم لكنهم يفعلونه الآن.
- وقسم كان مشروعا ثم نسخه شرع القرآن.
- وقسم لم يكن مشروعا بحال، وإنما هم أحدثوه.
وهذه الأقسام الثلاثة: إما أن تكون في العبادات المحضة، وإما أن تكون في العادات المحضة، وهي الآداب، وإما أن تجمع العبادات والعادات، فهذه تسعة أقسام -.
فأما القسم الأول: وهو ما كان مشروعا في الشريعتين، أو ما كان مشروعا لنا وهم يفعلونه، فهذا كصوم عاشوراء، أو كأصل الصلاة والصيام، فهنا تقع - المخالفة في صفة ذلك العمل، كما سن لنا صوم تاسوعاء وعاشوراء، كما أمرنا بتعجيل الفطور والمغرب مخالفة لأهل الكتاب، وبتأخير السحور مخالفة لأهل الكتاب.
وكما أمرنا بالصلاة في النعلين مخالفة لليهود، وهذا كثير في العبادات،
وكذلك في العادات، قال صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق لغيرنا" وسن توجيه قبور المسلمين إلى الكعبة؛ تمييزا لها عن مقابر الكافرين، فإن أصل الدفن من الأمور المشروعة، في الأمور العادية، ثم قد اختلفت الشرائع في صفته، وهو أيضا فيه عبادات، ولباس النعل في الصلاة فيه عبادة وعادة، ونزع النعل في الصلاة شريعة كانت لموسى عليه السلام، وكذلك اعتزال الحيض ونحو ذلك من الشرائع التي جامعناهم في أصلها، وخالفناهم في وصفها.
القسم الثاني: ما كان مشروعا ثم نسخ بالكلية: كالسبت أو إيجاب صلاة، أو صوم، ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا، سواء كان واجبا عليهم فيكون عبادة، أو محرما عليهم فيتعلق بالعادات، فليس للرجل أن يمتنع من أكل الشحوم وكل ذي ظفر على وجه التدين بذلك، وكذلك ما كان مركبا منهما، وهي الأعياد التي كانت مشروعة لهم، فإن العيد المشروع يجمع عبادة. وهو ما فيه من صلاة، أو ذكر، أو صدقة، أو نسك، ويجمع عادة، وهو ما يفعل فيه
من التوسع في الطعام واللباس، أو ما يتبع ذلك من ترك الأعمال الواضبة واللعب المأذون فيه في الأعياد لمن ينتفع باللعب، ونحو ذلك.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم - لما زجر أبو بكر رضي الله عنه الجويريتين عن الغناء في بيته -: "دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا، وإن هذا عيدنا" وكان الحبشة يلعبون بالحراب يوم العيد، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم.
فالأعياد المشروعة يشرع فيها - وجوبا، أو استحبابا -: من العبادات ما لا يشرع في غيرها، ويباح فيها، أو يستحب، أو يجب من العادات التي للنفوس فيها حظ، ما لا يكون في غيرها كذلك. ولهذا وجب فطر العيدين، وقرن بالصلاة في أحدهما الصدقة، وقرن بها في الآخر الذبح. وكلاهما من أسباب الطعام.
فموافقتهم في هذا القسم المنسوخ من العبادات، أو العادات، أو كلاهما: أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع الأصل، ولهذا كانت الموافقة في هذا محرمة، كما سنذكره، وفي الأول قد لا تكون إلا مكروهة.
وأما القسم الثالث: وهو ما أحدثوه من العبادات، أو العادات،
أو كليهما فهو أقبح وأقبح؛ فإنه لو أحدثه المسلمون لقد كان يكون قبيحا، فكيف إذا كان مما لم يشرعه نبي قط؟ بل أحدثه الكافرون، فالموافقة فيه ظاهرة القبح، فهذا أصل.
وأصل آخر وهو: أن كل ما يشابهون فيه: من عبادة، أو عادة، أو كليهما هو: من المحدثات في هذه الأمة، ومن البدع، إذ الكلام في ما كان من خصائصهم، وأما ما كان مشروعا لنا، وقد فعله سلفنا السابقون: فلا كلام فيه.
فجميع الأدلة الدالة من الكتاب والسنة والإجماع على قبح البدع، وكراهتها تحريما أو تنزيها، تندرج هذه المشابهات فيها، فيجتمع فيها أنها بدع محدثة، وأنها مشابهة للكافرين، وكل واحد من الوصفين موجب للنهي؛ إذ المشابهة منهي عنها في الجملة ولو كانت في السلف! والبدع منهي عنها في الجملة، ولو لم يفعلها الكفار، فإذا اجتمع الوصفان صارا علتين مستقلتين في القبح والنهي.
(وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ... (91)
(فصل في المقدمات البرهانية التي تدل على المطلوب وأنها من أحسن جدل بالبرهان)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
الجدل إنما يشترط فيه أن يسلم الخصم المقدمات وإن لم تكن بينة معروفة فإذا كانت بينة معروفة كانت برهانية. والقرآن لا يحتج في مجادلته بمقدمة لمجرد تسليم الخصم بها كما هي الطريقة الجدلية عند أهل المنطق وغيرهم بل بالقضايا والمقدمات التي تسلمها الناس وهي برهانية وإن كان بعضهم يسلمها وبعضهم ينازع فيها ذكر الدليل على صحتها كقوله: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} فإن الخطاب لما كان مع من يقر بنبوة موسى من أهل الكتاب ومع من ينكرها من المشركين ذكر ذلك بقوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} وقد بين البراهين الدالة على صدق موسى في غير موضع. وعلى قراءة من قرأ يبدونها كابن كثير وأبي عمرو جعلوا الخطاب مع المشركين وجعلوا قوله: {وعلمتم ما لم تعلموا} احتجاجا على المشركين بما جاء به محمد؛ فالحجة على أولئك نبوة موسى وعلى هؤلاء نبوة محمد ولكل منهما من البراهين ما قد بين بعضه في غير موضع.
وعلى قراءة الأكثرين بالتاء هو خطاب لأهل الكتاب وقوله: {وعلمتم ما لم تعلموا} بيان لما جاءت به الأنبياء مما أنكروه فعلمهم الأنبياء ما لم يقبلوه ولم يعلموه فاستدل بما عرفوه من أخبار الأنبياء وما لم يعرفوه. وقد قص سبحانه قصة موسى وأظهر براهين موسى وآياته التي هي من أظهر البراهين والأدلة حتى اعترف بها السحرة الذين جمعهم فرعون وناهيك بذلك فلما أظهر الله حق موسى؛ وأتى بالآيات التي علم بالاضطرار أنها من الله؛ وابتلعت عصاه الحبال والعصي التي أتى
بها السحرة بعد أن جاءوا بسحر عظيم وسحروا أعين الناس واسترهبوا الناس ثم لما ظهر الحق وانقلبوا صاغرين قالوا: {آمنا برب العالمين} {رب موسى وهارون} فقال لهم فرعون: {آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى} {قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات} من الدلائل البينات اليقينية القطعية وعلى الذي فطرنا؛ وهو خالقنا وربنا الذي لا بد لنا منه لن نؤثرك على هذه الدلائل اليقينية وعلى خالق البرية {فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى}.
وقد ذكر الله هذه القصة في عدة مواضع من القرآن يبين في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعا غير النوع الآخر كما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء متعددة كل اسم يدل على معنى لم يدل عليه الاسم الآخر وليس في هذا تكرار بل فيه تنويع الآيات مثل: أسماء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل: محمد وأحمد؛ والحاشر والعاقب؛ والمقفى؛ ونبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة في كل اسم دلالة على معنى ليس في الاسم الآخر وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة.
وكذلك القرآن إذا قيل فيه؛ قرآن؛ وفرقان وبيان؛ وهدى وبصائر وشفاء ونور ورحمة وروح فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الآخر. وكذلك أسماء الرب تعالى إذا قيل: الملك؛ القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز؛ الجبار المتكبر الخالق البارئ؛ المصور فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الذي في الاسم الآخر فالذات واحدة والصفات متعددة فهذا في الأسماء المفردة. وكذلك في الجمل التامة يعبر عن القصة بجمل تدل على معان فيها ثم يعبر عنها بجمل أخرى تدل على معان أخر وإن كانت القصة المذكورة ذاتها واحدة فصفاتها متعددة ففي كل جملة من الجمل معنى ليس في الجمل الأخر.
وليس في القرآن تكرار أصلا وأما ما ذكره بعض الناس من أنه كرر القصص مع إمكان الاكتفاء بالواحدة وكان الحكمة فيه: أن وفود العرب كانت ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرئهم المسلمون شيئا من القرآن فيكون ذلك كافيا وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة فلو لم يكن الآيات والقصص مثناة متكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى قوم وقصة نوح إلى قوم فأراد الله أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض وأن يلقيها إلى كل سمع. فهذا كلام من لم يقدر القرآن قدره. وأبو الفرج اقتصر على هذا الجواب في قوله: (مثاني لما قيل: لم ثنيت؟ وبسط هذا له موضع آخر فإن التثنية هي التنويع والتجنيس وهي استيفاء الأقسام ولهذا يقول من يقول من السلف: الأقسام والأمثال.
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون (93)
وقال محمد بن إسحاق في رواية ابن بكير عنه: قال أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي بكر بن حزم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة وفرق جيوشه أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة " عبد الله بن خطل وعبد الله بابن أبي سرح وإنما أمر بابن أبي سرح لأنه كان قد أسلم فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فرجع مشركا ولحق بمكة فكان يقول: لهم إني لأصرفه كيف شئت أنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له: أو كذا أو كذا فيقول: نعم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "عليم حليم" فيقول له: أو أكتب "عزيز حكيم" فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلاهما سواء.
قال ابن إسحاق: حدثني شرحبيل بن سعد أن فيه نزلت: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فر إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمأن هل مكة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمن له فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا وهو واقف عليه ثم قال: " نعم" فانصرف به فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صمت إلا رجاء أن يقوم إليه بعضكم فيقتله" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله ألا أومأت إلي فأقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن النبي لا يقتل بالإشارة ".
وقال ابن إسحاق في رواية إبراهيم بن سعد عنه: حدثني بعض علمائنا أن ابن أبي سرح رجع إلى قريش فقال: والله لو أشاء لقلت كما يقول محمد وجئت بمثل ما يأتي به إنه ليقول الشيء وأصرفه إلى شيء فيقول: أصبت ففيه أنزل الله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الأنعام
المجلد الثامن
الحلقة( 308)
من صــ 316 الى صـ 330
قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا أحدا قاتلهم إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان أسلم وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فارتد مشركا راجعا إلى قريش فقال: والله إني لأصرفه حيث أريد إنه ليملي علي فأقول أو كذا أو كذا فيقول: نعم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يملي عليه فيقول: "عزيز حكيم" أو "حكيم حليم" فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول: "كل صواب".
وروينا في مغازي معمر عن الزهري في قصة الفتح قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أصحابه بالكف وقال: "كفوا السلاح" إلا خزاعة من بكر ساعة ثم أمرهم فكفوا فآمن الناس كلهم إلا أربعة: ابن أبي سرح وابن خطل ومقيس الكناني وامرأة أخرى ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لم أحرم مكة ولكن الله حرمها وإنها لم تحل لأحد من قبلي ولا تحل لأحد بعدي إلى يوم القيامة وإنما أحلها الله لي ساعة من نهار" قال ثم جاء عثمان بن عفان بابن أبي سرح فقال: بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه من ناحية أخرى فقال: بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه أيضا فقال: بايعه يا رسول الله فمد يده فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أعرضت عنه واني لأظن بعضكم سيقتله" فقال رجل من الأنصار: فهلا أومضت إلي يا رسول الله فقال: "إن النبي لا يومض" فكأنه رآه غدرا.
وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم وأمرهم بقتل أربعة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح والحويرث بن نقيد وابن خطل ومقيس بن حبابة أحد بني ليث وأمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ويقال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل النفر وأن يقتل عبد الله بن أبي سرح وكان ارتد بعد الهجرة كافرا فاختبأ حتى اطمأن الناس ثم أقبل يريد أن يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ليقوم رجل من أصحابه فيقتله فلم يقم إليه أحد ولم يشعروا بالذي في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: لو أشرت إلي يا رسول الله ضربت عنقه فقال "إن النبي لا يفعل ذلك" ويقال: أجاره عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة وقتلت إحدى القينتين وكمنت الأخرى حتى استؤمن لها.
وذكر محمد بن عائد في مغازيه هذه القصة مثل ذلك.
وذكر الواقدي عن أشياخه قالوا: وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "سميع عليم" فيكتب "عليم حكيم" فيقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:
كذاك قال الله ويقرأه فافتتن وقال: ما يدري محمد ما يقوله إني لأكتب له ما شئت هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد وخرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح فلما كان يومئذ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فقال: يا أخي إني والله أستجير بك فاحبسني ها هنا واذهب إلى محمد فكلمه في فإن محمدا إن رآني ضرب الذي فيه عيناي إن جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا فقال عثمان: بل اذهب معي قال عبد الله: والله لئن رآني ليضربن عنقي ولا ينظرني قد أهدر دمي وأصحابه يطلبونني في كل موضع فقال عثمان:
انطلق معي فلا يقتلك إن شاء الله فلم يرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عثمان آخذا بيد عبد الله بن سعد ابن أبي سرح واقفين بين يديه فأقبل عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أمه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتفطمه وكانت تلطفني وتتركه فهبه لي فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عثمان كلما أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام وإنما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم إرادة أن يقوم رجل فيضرب عنقه لأنه لم يؤمنه فلما رأى أن لا يقوم أحد وعثمان قد أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه وهو يقول:
يا رسول الله بايعه فداك أبي وأمي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم ثم التفت إلى أصحابه فقال: ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله أو قال الفاسق فقال عباد بن بشر: ألا أومأت إلي يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه ويقال: قال هذا أبو اليسر ويقال: عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لا أقتل بالإشارة ".
وقائل يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: " إن النبي لا تكون له خائنة الأعين ".
فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما رآه فقال عثمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بأبي وأمي لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألم أبايعه وأومنه؟ " قال: بلى يا رسول الله ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما كان قبله" فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فأخبره فكان يأتي فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس.
فوجه الدلالة أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتمم له الوحي ويكتب له ما يريد فيوافقه عليه وأنه يصرفه حيث شاء ويغير ما أمره به من الوحي فيقره على ذلك وزعم أنه سينزل مثل ما أنزل الله إذ كان قد أوحي إليه في زعمه كما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه والافتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر به والردة في الدين وهو من أنواع السب.
وكذلك ما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفرية قصمه الله وعاقبه عقوبة خارجة عن العادة ليتبين لكل أحد افتراؤه إذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة ريبا بأن يقول القائل: كاتبه أعلم الناس بباطنه وبحقيقة أمره وقد أخبر عنه بما أخبر فمن نصر الله لرسوله أن أظهر فيه آية يبين بها أنه مفتر.
روى البخاري في صحيحه عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: "كان رجلا نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيا فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له واعمقوا في الأرض ما استطاعوا فأصبح وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه".
ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: "كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب قال: فرفعوه قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمد فأعجبوا به فما لبث أن قصم الله عنقه فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذا".
فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مرارا وهذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله وأنه كان كاذبا إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه ومظهر لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد.
ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى إذ تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عرضه فعجلنا فتحة وتيسر ولم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوا فيه.
وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بأيدي عباده المؤمنين.
وكذلك لما تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من ابن أبي سرح أهدر دمه لما طعن في النبوة وافترى عليه الكذب مع أنه قد آمن جميع أهل مكة الذين قاتلوه وحاربوه أشد المحاربة ومع أن السنة في المرتد أنه لا يقتل حتى يستتاب إما وجوبا أو استحبابا.
وسنذكر إن شاء الله أن جماعة ارتدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعوا إلى التوبة وعرضت عليهم حتى تابوا وقبلت توبتهم.
وفي ذلك دليل على أن جرم الطاعن على الرسول صلى الله عليه وسلم الساب له أعظم من جرم المرتد ثم إن إباحة النبي صلى الله عليه وسلم دمه بعد مجيئه تائبا مسلما وقوله: "هلا قتلتموه" ثم عفوه عنه بعد ذلك دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتله وأن يعفو عنه ويعصم دمه وهو دليل على أن له صلى الله عليه وسلم أن يقتل من سبه وإن تاب وعاد إلى الإسلام.
يوضح ذلك أشياء:
منها: أنه قد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة وكذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم بها وقد تقدم عنه أنه قال لعثمان قبل أن يقدم به على النبي صلى الله عليه وسلم: إن جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا وتوبة المرتد إسلامه.
ثم إنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح وهدوء الناس وبعد ما تاب فأراد النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن يقتلوه حينئذ وتربص زمانا ينتظر فيه قتله ويظن أن بعضهم سيقتله وهذا دليل واضح على جواز قتله بعد إسلامه.
وكذلك لما قال له عثمان: إنه يفر منك كلما رآك قال: "ألم أبايعه وأومنه" قال: بلى ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال: "الإسلام يجب ما قبله" فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خوف القتل سقط بالبيعة والأمان وأن الإثم زال بالإسلام فعلم أن الساب إذا عاد إلى الإسلام جب الإسلام إثم السب وبقي قتله جائزا حتى يوجد إسقاط القتل ممن يملكه إن كان ممكنا.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر هذا في موضعه فإن غرضنا هنا أن نبين أن مجرد الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة فيه يوجب القتل في الحال التي لا يقتل فيه لمجرد الردة وإذا كان ذلك موجبا للقتل استوى فيه المسلم والذمي ولأن كل ما يوجب القتل سوى الردة يستوي فيه المسلم والذمي.
وفي كتمان الصحابة لابن أبي سرح ولإحدى القينتين دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب قتلهم وإنما أباحه مع جواز عفوه عنهم وفي ذلك دليل على أنه كان مخيرا بين القتل والعفو وهذا يؤيد أن القتل كان لحق النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن افتراء ابن أبي سرح والكاتب الآخر النصراني على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان يتعلم منهما افتراء ظاهر.
وكذلك قوله: "إني لأصرفه كيف شئت إنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له أو كذا أو كذا فيقول نعم" فرية ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يكتبه إلا ما أنزله الله ولا يأمره أن يكتب قرآنا إلا ما أوحاه الله إليه ولا ينصرف له كيف شاء بل ينصرف كما يشاء الله.
وكذلك قوله: "إني لأكتب له ماشئت هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد وإن محمدا إذا كان يتعلم مني فإني سأنزل مثل ما أنزل الله" فرية ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتبه ما شاء ولا كان يوحى إليه شيء.
وكذلك قول النصراني: "ما يدري محمد إلا ما كتبت له" من هذا القبيل وعلى هذا الافتراء حاق به العذاب واستوجب العقاب.
ثم اختلف أهل العلم: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أقره على أن يكتب شيئا غير ما ابتدأه النبي صلى الله عليه وسلم بإكتابه؟ وهل قال له شيئا؟ على قولين:
أحدهما: أن النصراني وابن أبي سرح افتريا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كله وأنه لم يصدر منه قول فيه إقرار على كتابة غير ما قاله أصلا وإنما لما زين لهما الشيطان الردة افتريا عليه لينفرا عنه الناس ويكون قبول ذلك منهما متوجها لأنهما فارقاه بعد خبرة وذلك أنه لم يخبر أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: هذا الذي قلته أو كتبته صواب وإنما هو حال الردة أخبر أنه قال له ذلك وهو إذ ذاك كافر عدو يفتري على الله ما هو أعظم من ذلك.
يبين ذلك أن الذي في الصحيح أن النصراني كان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له نعم ربما كان هو يكتب غير ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ويغيره ويزيده وينقصه فظن أن عمدة النبي صلى الله عليه وسلم على كتابته مع ما فيه من التبديل ولم يدر أن كتاب الله آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وأنه لا يغسله الماء وأن الله حافظ له وأن الله يقرئ نبيه فلا ينسى إلا ما شاء الله مما يريد رفعه ونسخ تلاوته وأن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن كل عام وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه آية أقرأها لعدد من المسلمين يتواتر نقل الآية بهم وأكثر من نقل هذه القصة من المفسرين ذكر أنه كان يملي عليه {سميعا عليما} فيكتب هو {عليما حكيما} وإذا قال:
{عليما حكيما} كتب {غفورا رحيما} وأشباه ذلك ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له شيئا.
قالوا: وإذا كان الرجل قد علم أنه من أهل الفرية والكذب حتى أظهر الله كذبه آية بينة والروايات الصحيحة المشهورة لم تتضمن إلا أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال أو أنه كتب ما شاء فقط علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له شيئا.
قالوا: وما روي في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو منقطع أو معلل ولعل قائله قاله بناء على أن الكاتب هو الذي قال ذلك ومثل هذا قد يلتبس الأمر فيه حتى يشتبه ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وما قيل إنه قاله رد على هذا القول فلا سؤال.
القول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له شيئا فروى الإمام أحمد وغيره من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس أن رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أملى عليه {سميعا عليما} يقول: كتبت {سميعا بصيرا} قال: دعه وإذا أملى عليه "عليما حكيما" كتب "عليما حليما" قال حماد نحو ذا.
قال: وكان قد قرأ البقرة وآل عمران وكان من قرأهما فقد قرأ قرآنا كثيرا فذهب فتنصر وقال: لقد كنت أكتب لمحمد ما شئت فيقول: "دعه" فمات فدفن فنبذته الأرض مرتين أو ثلاثا قال أبو طلحة: فلقد رأيته منبوذا فوق الأرض رواه الإمام أحمد.
حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس أن رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرأ البقرة وآل عمران وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا يعني عظم فكان النبي صلى الله عليه وسلم يملي عليه {غفورا رحيما} فيكتب {عليما حكيما} فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب كذا وكذا اكتب كيف شئت ويملي عليه {عليما حكيما} فيكتب {سميعا بصيرا} فيقول: اكتب كيف شئت فارتد ذلك الرجل عن الإسلام فلحق بالمشركين وقال: أنا أعلمكم بمحمد إن كنت لأكتب ما شئت فمات ذلك الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض لا تقبله" قال أنس: فحدثني أبو طلحة "أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل فوجده منبوذا قال أبو طلحة: ما شأن هذا الرجل؟ قالوا: قد دفناه مرارا فلم تقبله الأرض" فهذا إسناد صحيح.
وقد قال من ذهب إلى القول الأول: أعل البزار حديث ثابت عن أنس قال: رواه عنه ولم يتابع عليه ورواه حميد عن أنس قال وأظن حميدا إنما سمعه من ثابت قالوا: ثم إن أنسا لم يذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم أو شهده يقول ذلك ولعله حكى ما سمع.
وفي هذا الكلام تكلف ظاهر والذي ذكرناه في حديث ابن إسحاق والواقدي وغيرهما موافق لظاهر هذه الرواية وكذلك ذكر طائفة من أهل التفسير وقد جاءت آثار فيها بيان صفة الحال على هذا القول ففي حديث ابن إسحاق: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: {عليم حكيم} فيقول: "أو أكتب عزيز حكيم" فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم كلاهما سواء" وفي الرواية الأخرى: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يملي عليه فيقول "عزيز حكيم أو حكيم عليم" فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول: "كل صواب".
ففي هذا بيان لأن كلا الحرفين كان قد نزل وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأهما ويقول له: "اكتب كيف شئت من هذين الحرفين فكل صواب" وقد جاء مصرحا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف إن قلت عزيز حكيم أو غفور رحيم فهو كذلك ما لم يختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة " وفي حرف جماعة من الصحابة: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم} والأحاديث في ذلك منتشرة تدل على أن من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن أن تختم الآية الواحدة بعدة أسماء من أسماء الله على سبيل البدل يخير القارئ في القراءة بأيها شاء وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخيره أن يكتب ما شاء من تلك الحروف وربما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم بحرف من الحروف فيقول له: "أو أكتب كذا وكذا" لكثرة ما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخير بين الحرفين فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم كلاهما سواء" لأن الآية نزلت بالحرفين وربما كتب هو أحد الحرفين ثم قرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فأقره عليه لأنه قد نزل كذلك أيضا وختم الآي بمثل {سميع عليم} و {عليم حكيم} و {غفور رحيم} أو بمثل {سميع بصير} أو {عليم حكيم} أو {عليم حليم} كثير في القرآن وكان نزول الآية على عدة من هذه الحروف أمرا معتادا ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرأن في كل رمضان وكانت العرضة الأخيرة هي حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ الناس به اليوم وهو الذي جمع عثمان والصحابة رضي الله عنهم أجمعين عليه الناس ولهذا ذكر ابن عباس هذه القصة في الناسخ والمنسوخ وكذلك ذكرها الإمام أحمد في كتابه الناسخ والمنسوخ لتضمنها نسخ بعض الحروف.
وروى فيها وجه آخر رواه الإمام أحمد في الناسخ والمنسوخ: حدثنا مسكين ابن بكير ثنا معان قال: وسمعت أبا خلف يقول: كان ابن أبي سرح كتب للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن فكان ربما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن خواتم الآي {يعملون} و {يفعلون} ونحو ذا فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب أي ذلك شئت" قال: فيوفقه الله للصواب من ذلك فأتى أهل مكة مرتدا فقالوا: يا ابن أبي سرح كيف كنت تكتب لابن أبي كبشة القرآن؟ قال: أكتبه كيف شئت قال: فأنزل الله في ذلك {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} الآية كلها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "من أخذ ابن أبي سرح فليضرب عنقه حيثما وجده وإن كان متعلقا بأستار الكعبة ".
ففي هذا الأثر أنه كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حرفين جائزين فيقول له: "اكتب أي ذلك شئت" فيوفقه الله للصواب فيكتب أحب الحرفين إلى الله وكان كلاهما منزلا أو يكتب ما أنزله الله فقط إن لم يكن الآخر منزلا وكان هذا التخيير من النبي صلى الله عليه وسلم إما توسعة إن كان الله قد أنزلهما أو ثقة بحفظ الله وعلما منه بأنه لا يكتب إلا ما أنزل وليس هذا ينكر في كتاب تولى الله حفظه وضمن أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وذكر بعضهم وجها ثالثا وهو أنه ربما كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يمله الآية حتى لم يبق منها إلا كلمة أو كلمتان فيستدل بما قرأ منها على باقيها كما يفعله الفطن الذكي فيكتبه ثم يقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "كذلك أنزلت" كما اتفق مثل ذلك لعمر في قوله: {فتبارك الله أحسن الخالقين}.
وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثل هذا في هذه القصة وإن كان هذا الإسناد ليس بثقة قال: عن ابن أبي سرح أنه كان تكلم بالإسلام وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحايين فإذا أملى عليه {عزيز حكيم} كتب {غفور رحيم} فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أو ذاك سواء" فلما نزلت {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله: {خلقا آخر} عجب عبد الله بن سعد فقال: {فتبارك الله أحسن الخالقين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذا أنزلت علي فاكتبها" فشك حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال فنزلت هذه الآية.
ومما ضعفت به هذه الرواية أن المشهور أن الذي تكلم بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومن الناس من قال قولا آخر قال: الذي ثبت في رواية أنس أنه كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم ما كتبه بعدما كتبه فيملي عليه {سميعا عليما} فيقول: كتبت {سميعا بصيرا} فيقول: "دعه" أو "اكتب كيف شئت" وكذلك في حديث الواقدي أنه كان يقول: "كذاك أنزل الله" ويقره.
قالوا: وكان النبي صلى الله عليه وسلم به حاجة إلى من يكتب لقلة الكتاب في الصحابة وعدم حضور الكتاب منهم في وقت الحاجة إليهم فإن العرب كان الغالب عليهم الأمية حتى إن كان الجو العظيم يطلب فيه كاتب فلا يوجد وكان أحدهم إذا أراد كتابة أو شقة وجد مشقة حتى يحصل له كاتب فإذا اتفق للنبي صلى الله عليه وسلم من يكتب له انتهز الفرصة في كتابته فإذا زاد كاتب أو نقص تركه لحرصه على كتابة ما يمليه ولا يأمره بتغيير ذلك خوفا من ضجره وأن يقطع الكتابة قبل إتمامها ثقة منه صلى الله عليه وسلم بأن تلك الكلمة أو الكلمتين تستدرك فيما بعد بالإلقاء إلى من يتلقنها منه أو بكتابتها تعويلا على المحفوظ عنده وفي قلبه كما قال الله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى}.
والأشبه والله أعلم هو الوجه الأول وأن هذا كان فيما أنزل القرآن فيه على حروف عدة فإن القول المرضي عند علماء السلف الذي يدل عليه عامة الأحاديث وقراءات الصحابة أن المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه هو أحد الحروف السبعة وهو العرضة الأخيرة وأن الحروف الستة خارجة عن هذا المصحف وأن الحروف السبعة كانت تختلف الكلمة مع أن المعنى غير مختلف ولا متضاد.
الحديث العاشر: حديث القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومولاة بني هاشم وذلك مشهور مستفيض عند أهل السير وقد تقدم في حديث سعيد بن المسيب أنه صلى الله عليه وسلم "أمر بقتل فرتني".
وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم وأمر بقتل أربعة نفر قال: وأمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: وقتلت إحدى القينتين وكمنت الأخرى حتى استؤمن لها.
وكذلك ذكر محمد بن عائد القرشي في مغازيه.
وقال ابن إسحاق في رواية ابن بكير عنه قال أبو عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي بكر بن حزم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة وفرق جيوشه أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة: عبد الله بن خطل" ثم قال: وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى له يخدمه وكان مسلما فنزل منزلا وأمر المولى يذبح له تيسا ويصنع له طعاما فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا وكانت له قينة صاحبتها قينة كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقتلهما معه قال: ومقيس بن حبابة بقتله الأنصاري الذي قتل أخاه وسارت مولاة لبني عبد المطلب وكانت ممن يؤذيه بمكة.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الأنعام
المجلد الثامن
الحلقة( 309)
من صــ 331 الى صـ 345
(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)
[فصل كلام الرافضي على إثبات الأشاعرة لرؤية الله تعالى والرد عليه]
فصل
قال الرافضي: وذهبت الأشاعرة إلى أن الله يرى بالعين، مع أنه مجرد من الجهات. وقد قال الله تعالى: {لا تدركه الأبصار} [سورة الأنعام: 103] وخالفوا الضرورة من أن المدرك بالعين يكون مقابلا أو في حكمه، وخالفوا جميع العقلاء في ذلك، وذهبوا إلى تجويز أن يكون بين أيدينا جبال شاهقة من الأرض إلى السماء مختلفة الألوان لا نشاهدها، وأصوات هائلة لا نسمعها، وعساكر مختلفة متحاربة بأنواع الأسلحة، بحيث تماس أجسامنا أجسامهم، لا نشاهد صورهم ولا حركاتهم، ولا نسمع أصواتهم الهائلة، وأن نشاهد جسما أصغر الأجسام كالذرة في المشرق ونحن في المغرب، مع كثرة الحائل بيننا وبينها، وهذا هو السفسطة.
فيقال له: الكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: أما إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة فهو قول سلف الأمة وأئمتها، وجماهير المسلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرها. وقد تواترت فيه الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند علماء الحديث، وجمهور القائلين بالرؤية يقولون: يرى عيانا مواجهة، كما هو المعروف بالعقل.
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «إنكم سترون ربكم - عز وجل - يوم القيامة كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته.» " وفي لفظ: " «كما ترون الشمس والقمر صحوا» "، وفي لفظ: " «هل تضارون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فهل تضارون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر».
وإذا كان كذلك فتقدير أن يكون بعض أهل السنة المثبتين للرؤية أخطأوا في بعض أحكامها، لم يكن ذلك قدحا في مذهب أهل السنة والجماعة، فإنا لا ندعي العصمة لكل صنف منهم، وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة، وأن كل مسألة اختلف فيها أهل السنة والجماعة والرافضة فالصواب فيها مع أهل السنة، وحيث تصيب الرافضة فلا بد أن يوافقهم على الصواب بعض أهل السنة، وللروافض خطأ لا يوافقهم أحد عليه من أهل السنة، وليس للرافضة مسألة واحدة لا يوافقهم فيها أحد انفردوا بها عن جميع أهل السنة والجماعة إلا وهم مخطئون فيها كإمامة الإثني عشر وعصمتهم.
والجواب الثاني أن الذين قالوا: إن الله يرى بلا مقابلة هم الذين قالوا: إن الله ليس فوق العالم، فلما كانوا مثبتين للرؤية نافين للعلو احتاجوا إلى الجمع بين هاتين المسألتين. وهذا قول طائفة من الكلابية والأشعرية، وليس هو قولهم كلهم بل ولا قول أئمتهم، بل أئمة القوم يقولون: إن الله بذاته فوق العرش، ومن نفى ذلك منهم فإنما نفاه لموافقته المعتزلة في نفي ذلك ونفي ملزوماته، فإنهم لما وافقوهم على صحة الدليل الذي استدلت به المعتزلة على حدوث العالم، وهو أن الجسم لا يخلو عن (* الحركة والسكون، وما لا يخلو عنهما فهو حادث، لامتناع حوادث لا أول لها.
قالوا: فيلزم حدوث كل جسم، فيمتنع أن يكون *) البارئ جسما ; لأنه قديم، ويمتنع أن يكون في جهة ; لأنه لا يكون في الجهة إلا جسم، فيمتنع أن يكون مقابلا للرائي ; لأن المقابلة لا تكون إلا بين جسمين.
ولا ريب أن جمهور العقلاء من مثبتي الرؤية ونفاتها يقولون: إن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة؛ ولهذا يذكر الرازي أن جميع فرق الأمة تخالفهم في ذلك.
لكن هم يقولون لهذا المشنع عليهم: نحن أثبتنا الرؤية ونفينا الجهة، فلا يلزم ما ذكرته، فإن أمكن رؤية المرئي لا في جهة من الرائي صح قولنا، وإن لم يكن لزم خطؤنا في إحدى المسألتين: إما في نفي الرؤية وإما في نفي مباينة الله لخلقه وعلوه عليهم.
وإذا لزم الخطأ في إحداهما، لم يتعين الخطأ في نفي الرؤية، بل يجوز أن يكون الخطأ في نفي العلو والمباينة، وليست موافقتنا لك حجة لك، فليس تناقضنا دليلا على صواب قولك في نفي علو الله على خلقه، بل الرؤية ثابتة بالنصوص المستفيضة وإجماع السلف، مع دلالة العقل عليها.
وحينئذ فلازم الحق حق. ونحن إذا أثبتنا هذا الحق ونفينا بعض لوازمه، كان هذا التناقض أهون من نفي الحق ولوازمه. وأنتم نفيتم الرؤية ونفيتم العلو والمباينة، فكان قولكم أبعد عن المعقول والمنقول من قولنا، وقولنا أقرب من قولكم، وإن كان في قولنا تناقض فالتناقض في قولكم أكثر ومخالفتكم لنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة (8 أظهر، وهذا بين؛ فإن ما في النصوص الإلهية ونصوص سلف الأمة 8) من إثبات الصفات والرؤية وعلو الله متواتر مستفيض.
والنفاة لا يستندون لا إلى كتاب ولا إلى سنة ولا إلى إجماع بل عارضوا برأيهم الفاسد ما تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وأما التناقض فإن هؤلاء النفاة للرؤية يقولون: إنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له، ولا يقرب من شيء، ولا يقرب منه شيء، ولا يراه أحد، ولا يحجب عن رؤيته شيء دون شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل من عنده شيء، إلى أمثال ذلك.
وإذا قيل لهم: هذا مخالف للعقل، وهذا صفة المعلوم المعدوم الممتنع وجوده.
قالوا: هذا النفي من حكم الوهم.
فيقال لهم: إذا عرض على العقل موجود ليس بجسم قائم بنفسه يمكن رؤيته كان العقل قابلا لهذا لا ينكره. فإذا قيل مع ذلك: إنه يرى بلا مواجهة، فإن قيل: هذا ممكن، بطل قولهم. وإن قيل: هذا مما يمنعه العقل. قيل: منع العقل لما جعلتموه موجودا واجبا أعظم.
فإن قلتم: إنكار ذلك من حكم الوهم.
قيل لكم: وإنكار هذا حينئذ أولى أن يكون من حكم الوهم.
وإن قلتم: بل هذا الإنكار من حكم العقل.
قيل لكم: وذلك الإنكار من حكم العقل بطريق الأولى.
فإنكم تقولون: حكم الوهم الباطل أن يحكم فيما ليس بمحسوس بحكم المحسوس، وحينئذ إذا قلتم: إن البارئ تعالى غير محسوس يمكن أن تقبلوا فيه الحكم الذي يمتنع في المحسوس وهو امتناع الرؤية بدون المقابلة.
وإن قلتم: إنه محسوس أي يمكن الإحساس به لم يبطل فيه حكم الوهم، فامتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه، وحينئذ فيجوز رؤيته.
وإن قلتم: إذا كان غير محسوس فهو غير مرئي.
قيل: إن أردتم بالمحسوس الحس المعتاد فالرؤية التي يثبتها مثبتة الرؤية بلا مقابلة ليست هي الرؤية المعتادة، بل هي رؤية لا نعلم صفتها، كما أثبتم وجود موجود لا نعلم صفته، فكل ما تلزمونهم به من الشناعات والمناقضات يلزمكم أكثر منه.
الجواب الثالث: أن يقال: أهل الحديث والسنة المحضة متفقون على إثبات العلو والمباينة وإثبات الرؤية، وحينئذ فمن أثبت أحدهما ونفى الآخر أقرب إلى الشرع والعقل (* ممن نفاهما جميعا.
فالأشعرية الذين أثبتوا الرؤية ونفوا الجهة أقرب إلى الشرع والعقل *) من المعتزلة والشيعة الذين نفوهما. أما كونهم أقرب إلى الشرع فلأن الآيات والأحاديث والآثار المنقولة عن الصحابة في دلالتها على العلو وعلى الرؤية أعظم من أن تحصر، وليس مع نفاة الرؤية والعلو ما يصلح أن يذكر من الأدلة الشرعية، وإنما يزعمون أن عمدتهم العقل.
فنقول: قول الأشعرية المتناقضين خير من قول هؤلاء، وذلك أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا يشار إليه ولا يقرب منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا ترفع إليه الأيدي، ونحو ذلك - كانت الفطرة منكرة لذلك. والعقلاء جميعهم الذين لم تتغير فطرتهم ينكرون ذلك، ولا يقر بذلك إلا من لقن أقوال النفاة وحجتهم وإلا فالفطر السليمة متفقة على إنكار ذلك أعظم من إنكار خرق العادات ; لأن العادات يجوز انخراقها باتفاق أهل الملل وموافقة عقلاء الفلاسفة لهم على ذلك.
فنقول: إن كان قول النفاة حقا مقبولا في العقل فإثبات وجود الرب على العرش من غير أن يكون جسما أقرب إلى العقل وأولى بالقبول. وإذا ثبت أنه فوق العرش، فرؤية ما هو فوق الإنسان وإن لم يكن جسما أقرب إلى العقل وأولى بالقبول. من إثبات قول النفاة. فتبين أن الرؤية على قول هؤلاء أقرب إلى العقل من قول النفاة، وإذا قدر أن هذا خلاف المعتاد، فتجويز انخراق العادة أولى من قول النفاة، فإن قول النفاة ممتنع في فطر العقلاء لا يمكن جوازه، وأما انخراق العادة فجائز.
الجواب الرابع: أن الأشعرية تقول: إن الله قادر على أن يخلق بحضرتنا ما لا نراه ولا نسمعه من الأجسام والأصوات، وأن يرينا ما بعد منا، لا يقولون: إن هذا واقع، بل يقولون: إن الله قادر عليه وليس كل ما كان قادرا عليه يشكون في وقوعه، بل يعلمون أن هذا ليس واقعا الآن، وتجويز الوقوع غير الشك في الوقوع.
وعبارة هذا الناقل تقتضي أنهم يجوزون أن يكون هذا الآن موجودا ونحن لا نراه، وهذا لا يقوله عاقل، ولكن هذا قيل لهم بطريق الإلزام. قيل [لهم]: إذا جوزتم الرؤية في غير جهة، فجوزوا هذا. فقالوا: نعم نجوز. كما أنهم يقولون: رؤية الله جائزة في الدنيا، أي: هو قادر على أن يرنا نفسه، وهم يعلمون مع هذا أن أحدا من الناس لا يرى الله في الدنيا إلا ما تنوزع فيه من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه، ومن شك منهم في وقوع الرؤية في الدنيا فلجهله بالأدلة النافية لذلك.
وقد ذكر الأشعري في وقوع الرؤية بالأبصار في الدنيا لغير النبي - صلى تعالى عليه وسلم - قولين؛ لكن الذي عليه أهل السنة قاطبة أن الله لم يره أحد بعينيه في الدنيا.
وقد ذكر الإمام أحمد وغيره اتفاق السلف على هذا [النفي] وأنهم لم يتنازعوا إلا في النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة. وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت» ". مضى هذا الحديث من قبل في هذا الكتاب 2 - 516، 612.
وقد سأل موسى - عليه السلام - الرؤية فمنعها، فلا يكون آحاد الناس أفضل من موسى. وفي الجملة ليس كل ما قال قائل: " إنه ممكن مقدور " يشك في وقوعه.
فالأشعرية ومن وافقهم من أتباع الشافعي ومالك وأحمد - وإن كانوا يقولون بجواز أمور ممتنعة في العادة في الرؤية - فيقولون: إنه لا حجاب بين الله وبين العبد إلا عدم خلق الرؤية في العين، وكذلك يقولون في سائر المرئيات.
فكانوا ينفون أن يكون في العين قوة امتازت بها فحصلت بها الرؤية، ويمنعون أن يكون بين الأسباب ومسبباتها ملازمة، وأن يكون بين الموانع وممنوعاتها ممانعة، ويجعلون ذلك كله عادة محضة استندت إلى محض المشيئة، ويجوزون خرقها بمحض المشيئة.
فهم يقولون: إنا نعلم انتفاء كثير مما يعلم إمكانه كما نعلم أن البحر لم ينقلب دما، ولا الجبال ياقوتا، ولا الحيوانات أشجارا، بل يجعلون العلم بمثل هذا من العقل الذي يتميز به العاقل عن المجنون، وهم وإن كانوا يتناقضون وفي قولهم ما هو باطل عقلا ونقلا فأقوالهم في القدر والصفات والرؤية خير من أقوال المعتزلة وموافقيهم من الشيعة وإن كان الصواب هو ما عليه السلف وأئمة السنة وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور كبار أصحابهم والنصوص المأثورة في ذلك عن الأئمة المذكورين في غير هذا الموضع.
والبيان التام هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أعلم الخلق بالحق وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق في بيان الحق، فما بينه من أسماء الله وصفاته وعلوه ورؤيته هو الغاية في هذا الباب، والله الموفق للصواب.
(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون (108)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" وقوله فيما يروي عن ربه عز وجل: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" فإن من سب الدهر من الخلق لم يقصد سب الله سبحانه وإنما يقصد أن يسب من فعل به ذلك الفعل مضيفا له إلى الدهر فيقع السب على الله لأنه هو الفاعل في الحقيقة وسواء قلنا أنه الدهر اسم من أسماء الله تعالى كما قال نعيم بن حماد أو قلنا إنه ليس باسم وإنما قوله:
"أنا الدهر" أي أنا الذي أفعل ما ينسبونه إلى الدهر ويوقعون السب عليه كما قاله أبو عبيدة والأكثرون ولهذا لا يكفر من سب الدهر ولا يقتل لكن يؤدب ويعزر لسوء منطقه والسب المذكور في قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} قد قيل: إن المسلمين كانوا إذا سبوا آلهة الكفار سب الكفار من يأمرهم بذلك وإلههم الذين يعبدونه معرضين عن كونه ربهم وإلههم فيقع سبهم على الله لأنه إلهنا ومعبودنا فيكونوا سابين لموصوف وهو الله سبحانه ولهذا قال سبحانه: {عدوا بغير علم} وهو شبيه بسب الدهر من بعض الوجوه وقيل: كانوا يصرحون بسب الله عدوا وغلوا وفي الكفر قال قتادة: "كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله بغير علم فانزل الله: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} " وقال أيضا: "كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله" وذلك أنه في اللجاجة أن يسب الجاهل من يعظمه مراغمة لعدوه إذا كان يعظمه أيضا كما قال بعض الحمقى:
سبوا عليا كما سبوا عتيقكم ... كفرا بكفر وإيمانا بإيمان
وكما يقول بعض الجهال: مقابلة الفاسد بمثله وكما قد تحمل بعض جهال المسلمين الحمية على أن يسب عيسى إذا جاهره المحاربون بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من الموجبات للقتل.
(قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون (109)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ.
منها قوله: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} والآية بعدها. أشكلت قراءة الفتح على كثير بسبب أنهم ظنوا أن الآية بعدها جملة مبتدأة وليس كذلك؛ لكنها داخلة في خبر أن. والمعنى: إذا كنتم لا تشعرون أنها إذا جاءت لا يؤمنون وأنا أفعل بهم هذا: لم يكن قسمهم صدقا؛ بل قد يكون كذبا وهو ظاهر الكلام المعروف أنها " أن " المصدرية ولو كان (ونقلب) إلخ. كلاما مبتدأ لزم أن كل من جاءته آية قلب فؤاده وليس كذلك بل قد يؤمن كثير منهم.
(وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وأخبر في غير موضع أن الرسالة عمت جميع بني آدم؛ فهذه الأصول الثلاثة: توحيد الله والإيمان برسله وباليوم الآخر أمور متلازمة؛ ولهذا قال - سبحانه -: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن} إلى قوله: {وليقترفوا ما هم مقترفون} فأخبر أن جميع الأنبياء لهم أعداء وهم شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف وهو: المزين المحسن يغرون به والغرور: التلبيس والتمويه وهذا شأن كل كلام وكل عمل يخالف ما جاءت به الرسل من أمر المتكلمة وغيرهم من الأولين والآخرين ثم قال: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} فعلم أن مخالفة الرسل وترك الإيمان بالآخرة متلازمان فمن لم يؤمن بالآخرة أصغى إلى زخرف أعدائهم فخالف الرسل كما هو موجود في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمة وغيرها.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الأنعام
المجلد الثامن
الحلقة( 310)
من صــ 346 الى صـ 360
(أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين (114)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
و " المقصود هنا " أن قوله {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا} يتناول نزول القرآن العربي على كل قول. وقد أخبر: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} إخبار مستشهد بهم لا مكذب لهم. وقال إنهم يعلمون ذلك ولم يقل إنهم يظنونه أو يقولونه والعلم لا يكون إلا حقا مطابقا للمعلوم بخلاف القول والظن الذي ينقسم إلى حق وباطل؛ فعلم أن القرآن العربي منزل من الله لا من الهواء ولا من اللوح ولا من جسم آخر ولا من جبريل ولا من محمد ولا غيرهما وإذا كان أهل الكتاب يعلمون ذلك فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة كان أهل الكتاب المقرون بذلك خيرا منه من هذا الوجه. وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} أنه أنزله إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزله بعد ذلك منجما مفرقا بحسب الحوادث ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله كما قال تعالى: {بل هو قرآن مجيد} {في لوح محفوظ} وقال تعالى: {إنه لقرآن كريم} {في كتاب مكنون} {لا يمسه إلا المطهرون}. وقال تعالى: {كلا إنها تذكرة} {فمن شاء ذكره} {في صحف مكرمة} {مرفوعة مطهرة} {بأيدي سفرة} {كرام بررة} وقال تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}
فإن كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ. وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله. والله تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون وهو سبحانه قد قدر مقادير الخلائق وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها كما ثبت ذلك في صريح الكتاب والسنة وآثار السلف ثم إنه يأمر الملائكة بكتابتها بعد ما يعملونها؛ فيقابل به الكتابة المتقدمة على الوجود والكتابة المتأخرة عنه فلا يكون بينهما تفاوت هكذا قال ابن عباس وغيره من السلف - وهو حق - فإذا كان ما يخلقه بائنا منه قد كتبه قبل أن يخلقه فكيف يستبعد أن يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم به.
(وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم (115)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} ذكر هذا بعد قوله: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين} ثم قال: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} وقال تعالى: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا}. فأخبر في هاتين الآيتين أنه لا مبدل لكلمات الله وأخبر في الأولى أنها تمت صدقا وعدلا. وقد تواتر {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ ويأمر بالاستعاذة بكلمات الله التامات وفي بعض الأحاديث التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر}. وقال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {الذين آمنوا وكانوا يتقون} {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم}.
وقال تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين} فأخبر في هذه الآية أيضا أنه لا مبدل لكلمات الله؛ عقب قوله: {فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا} وذلك بيان أن وعد الله الذي وعده رسله من كلماته التي لا مبدل لها لما قال في أوليائه: {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله} فإنه ذكر أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. فوعدهم بنفي المخافة والحزن وبالبشرى في الدارين. وقال بعد ذلك: {ولا مبدل لكلمات الله} فكان في هذا تحقيق كلام الله الذي هو وعده.
كما قال: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله}. وقال: {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. وقال المؤمنون: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد}. فإخلاف ميعاده تبديل لكلماته - وهو سبحانه لا مبدل لكلماته. يبين ذلك قوله تعالى {لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد} {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} فأخبر سبحانه أنه قدم إليهم بالوعيد وقال: {ما يبدل القول لدي} وهذا يقتضي أنه صادق في وعيده أيضا وأن وعيده لا يبدل.
وهذا مما احتج به القائلون بأن فساق الملة لا يخرجون من النار. وقد تكلمنا عليهم في غير هذا الموضع؛ لكن هذه الآية تضعف جواب من يقول: إن إخلاف الوعيد جائز. فإن قوله: {ما يبدل القول لدي} بعد قوله: {وقد قدمت إليكم بالوعيد} دليل على أن وعيده لا يبدل كما لا يبدل وعده. لكن التحقيق الجمع بين نصوص الوعد والوعيد وتفسير بعضها ببعض من غير تبديل شيء منها كما يجمع بين نصوص الأمر والنهي من غير تبديل شيء منها. وقد قال تعالى: {سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله} والله أعلم.
(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (121)
وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:
فصل:
و " التسمية على الذبيحة " مشروعة؛ لكن قيل: هي مستحبة كقول الشافعي. وقيل: واجبة مع العمد وتسقط مع السهو كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه. وقيل: تجب مطلقا؛ فلا تؤكل الذبيحة بدونها سواء تركها عمدا أو سهوا كالرواية الأخرى عن أحمد اختارها أبو الخطاب وغيره وهو قول غير واحد من السلف. وهذا أظهر الأقوال؛ فإن الكتاب والسنة قد علق الحل بذكر اسم الله في غير موضع كقوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} وقوله {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} وفي الصحيحين أنه قال: " {ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا} وفي الصحيح أنه قال لعدي: " {إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فقتل فكل وإن خالط كلبك كلاب آخر فلا تأكل؛ فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره}.
وثبت في الصحيح أن الجن سألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال: " {لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علفا لدوابكم} قال النبي صلى الله عليه وسلم " {فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما زاد إخوانكم من الجن} فهو صلى الله عليه وسلم لم يبح للجن المؤمنين إلا ما ذكر اسم الله عليه؛ فكيف بالإنس؛ ولكن إذا وجد الإنسان لحما قد ذبحه غيره جاز له أن يأكل منه ويذكر اسم الله عليه؛ لحمل أمر الناس على الصحة والسلامة كما ثبت في الصحيح {أن قوما قالوا يا رسول الله إن ناسا حديثي عهد بالإسلام يأتون باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا؟ فقال: سموا أنتم وكلوا}
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عن " الذبيحة " التي يتيقن أنه ما سمي عليها: هل يجوز أكلها؟ وهل تنجس الأواني؟
فأجاب:
الحمد لله، " التسمية " عليها واجبة بالكتاب والسنة وهو قول جمهور العلماء؛ لكن إذا لم يعلم الإنسان هل سمى الذابح أم لم يسم أكل منها وإن تيقن أنه لم يسم لم يأكل وكذلك الأضحية.
(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125)
فصل:
وقد ذكر الله في كتابه الفرق بين " الإرادة " و " الأمر " و " القضاء " و " الإذن " و " التحريم " و " البعث " و " الإرسال " و " الكلام " و " الجعل ": بين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه؛ وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يثيب أصحابه ولا يجعلهم من أوليائه المتقين وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب عليه وأكرمهم وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين؛ وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه فمن استعمله الرب سبحانه وتعالى فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه. فـ " الإرادة الكونية " هي مشيئته لما خلقه وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وإرادته الكونية والإرادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه المتناولة لما أمر به وجعله شرعا ودينا.
وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح قال الله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} وقال نوح عليه السلام لقومه: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} وقال تعالى: {وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} وقال تعالى في الثانية: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقال في آية الطهارة: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح قال: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم} {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما}
{يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نهاهم عنه: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}
والمعنى أنه أمركم بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فمن أطاع أمره كان مطهرا قد أذهب عنه الرجس بخلاف من عصاه. وأما " الأمر " فقال في الأمر الكوني: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} وقال تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} وقال تعالى: {أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس}
وأما: الأمر الديني: فقال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} وقال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا} وأما " الإذن " فقال في الكوني لما ذكر السحر: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} أي بمشيئته وقدرته؛ وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل. وقال في " الإذن الديني ":
{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وقال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} {وداعيا إلى الله بإذنه} وقال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} وقال تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله}.
وأما " القضاء " فقال في الكوني: {فقضاهن سبع سماوات في يومين} وقال سبحانه: {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} وقال في الديني:
{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} أي أمر وليس المراد به قدر ذلك فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع كقوله تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} وقول الخليل عليه السلام لقومه: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} {أنتم وآباؤكم الأقدمون} {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} وقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء} وقال تعالى: {قل يا أيها الكافرون} {لا أعبد ما تعبدون} {ولا أنتم عابدون ما أعبد} {ولا أنا عابد ما عبدتم} {ولا أنتم عابدون ما أعبد} {لكم دينكم ولي دين} وهذه كلمة تقتضي براءته من دينهم ولا تقتضي رضاه بذلك؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون}.
ومن ظن من الملاحدة أن هذا رضا منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم كمن ظن أن قوله {وقضى ربك} بمعنى قدر وأن الله سبحانه ما قضى بشيء إلا وقع وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله؛ فإن هذا من أعظم الناس كفرا بالكتب.
وأما لفظ " البعث " فقال تعالى في البعث الكوني: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا} وقال في البعث الديني: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}. وأما لفظ " الإرسال " فقال في الإرسال الكوني: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا} وقال تعالى: {وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} وقال في الديني {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} وقال تعالى: {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه} وقال تعالى: {إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا} وقال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس}.
وأما لفظ " الجعل " فقال في الكوني: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} وقال في الديني: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} وقال تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام}.
وأما لفظ " التحريم " فقال في الكوني: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} وقال تعالى: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} وقال في الديني {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} وقال تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت} الآية.
وأما لفظ " الكلمات " فقال في الكلمات الكونية {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " {أعوذ بكلمات الله التامة كلها من شر ما خلق ومن غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون} " وقال صلى الله عليه وسلم " {من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك} " وكان يقول: " {أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن} ".
و " {كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر} " هي التي كون بها الكائنات فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته.
وأما " كلماته الدينية " وهي كتبه المنزلة وما فيها من أمره ونهيه فأطاعها الأبرار وعصاها الفجار. وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية وجعله الديني وإذنه الديني وإرادته الدينية. وأما كلماته الكونية التي لا يجاوزها بر ولا فاجر؛ فإنه يدخل تحتها جميع الخلق حتى إبليس وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق والمشيئة والقدرة والقدر لهم فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب. وأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور وتركوا المحظور وصبروا على المقدور فأحبهم وأحبوه ورضي عنهم ورضوا عنه. وأعداؤه أولياء الشياطين وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم ويغضب عليهم ويلعنهم ويعاديهم. وبسط هذه الجمل له موضع آخر وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع " الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان "
وجمع الفرق بينهما اعتبارهم بموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء وأعدائه الأشقياء وبين أوليائه أهل الجنة وأعدائه أهل النار وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد وبين أعدائه أهل الغي والضلال والفساد وأعدائه حزب الشيطان وأوليائه الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.
سؤال عن القدر
أورده أحد علماء الذميين فقال:
أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأوضح حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
دعاني وسد الباب عني، فهل إلى ... دخولي سبيل بينوا لي قضيتي
قضى بضلالي ثم قال ارض بالقضا ... فما أنا راض بالذي فيه شقوتي
فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا ... فربي لا يرضى بشؤم بليتي
فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي ... فقد حرت دلوني على كشف حيرتي
إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة ... فهل أنا عاص في اتباع المشيئة
وهل لي اختيار أن أخالف حكمه ... فبالله فاشفوا بالبراهين علتي
فأجاب شيخ الإسلام الشيخ الإمام العالم العلامة أحمد ابن تيمية مرتجلا:
الحمد لله رب العالمين.
سؤالك يا هذا سؤال معاند ... مخاصم رب العرش باري البرية
فهذا سؤال خاصم الملأ العلا ... قديما به إبليس أصل البلية
ومن يك خصما للمهيمن يرجعن ... على أم رأس هاويا في الحفيرة
ويدعى خصوم الله يوم معادهم ... إلى النار طرا معشر القدرية
سواء نفوه، أو سعوا ليخاصموا ... به الله أو ماروا به للشريعة
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلة
فإنهمو لم يفهموا حكمة له ... فصاروا على نوع من الجاهلية
فإن جميع الكون أوجب فعله ... مشيئة رب الخلق باري الخليقة
وذات إله الخلق واجبة بما ... لها من صفات واجبات قديمة
مشيئته مع علمه ثم قدرة ... لوازم ذات الله قاضي القضية
وإبداعه ما شاء من مبدعاته ... بها حكمة فيه وأنواع رحمة
ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة ... من المنكري آياته المستقيمة
بل الحق أن الحكم لله وحده ... له الخلق والأمر الذي في الشريعة
هو الملك المحمود في كل حالة ... له الملك من غير انتقاص بشركة
فما شاء مولانا الإله فإنه ... يكون وما لا لا يكون بحيلة
وقدرته لا نقص فيها وحكمه ... يعم فلا تخصيص في ذي القضية
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 311)
من صــ 361 الى صـ 375
أريد بذا أن الحوادث كلها ... بقدرته كانت ومحض المشيئة
ومالكنا في كل ما قد أراده ... له الحمد حمدا يعتلي كل مدحة
فإن له في الخلق رحمته سرت ... ومن حكم فوق العقول الحكيمة
أمورا يحار العقل فيها إذا رأى ... من الحكم العليا وكل عجيبة
فنؤمن أن الله عز بقدرة ... وخلق وإبرام لحكم المشيئة
فنثبت هذا كله لإلهنا ... ونثبت ما في ذاك من كل حكمة
وهذا مقام طالما عجز الأولى ... نفوه وكروا راجعين بحيرة
وتحقيق ما فيه بتبيين غوره ... وتحرير حق الحق في ذي الحقيقة
هو المطلب الأقصى لوراد بحره ... وذا عسر في نظم هذي القصيدة
لحاجته إلى بيان محقق ... لأوصاف مولانا الإله الكريمة
وأسمائه الحسنى وأحكام دينه ... وأفعاله في كل هذي الخليقة
وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا ... وإلهامه للخلق أفضل نعمة
وقد قيل في هذا وخط كتابه ... بيان شفاء للنفوس السقيمة
فقولك: لم قد شاء؟ مثل سؤال من ... يقول: فلم قد كان في الأزلية
وذاك سؤال يبطل العقل وجهه ... وتحريمه قد جاء في كل شرعة
وفي الكون تخصيص كثير يدل من ... له نوع عقل أنه بإرادة
وإصداره عن واحد بعد واحد ... أو القول بالتجويز رمية حيرة
ولا ريب في تعليق كل مسبب ... بما قبله من علة موجبية
بل الشأن في الأسباب أسباب ما ترى ... وإصدارها عن الحكم محض المشيئة
وقولك: لم شاء الإله؟ هو الذي ... أزل عقول الخلق في قعر حفرة
فإن المجوس القائلين بخالق ... لنفع ورب مبدع للمضرة
سؤالهم عن علة السر أوقعت ... أوائلهم في شبهة الثنوية
وإن ملاحيد الفلاسفة الأولى ... يقولون بالفعل القديم لعلة
بغوا علة للكون بعد انعدامه ... فلم يجدوا ذاكم فضلوا بضلة
وإن مبادي الشر في كل أمة ... ذوي ملة ميمونة نبوية
بخوضهمو في ذاكم صار شركهم ... وجاء دروس البينات بفترة
ويكفيك نقضا أن ما قد سألته ... من العذر مردود لدى كل فطرة
فأنت تعيب الطاعنين جميعهم ... عليك وترميهم بكل مذمة
وتنحل من والاك صفو مودة ... وتبغض من ناواك من كل فرقة
وحالهم في كل قول وفعلة ... كحالك يا هذا بأرجح حجة
وهبك كففت اللوم عن كل كافر ... وكل غوي خارج عن محبة
فيلزمك الإعراض عن كل ظالم ... على الناس في نفس ومال وحرمة
ولا تغضبن يوما على سافك دما ... ولا سارق مالا لصاحب فاقة
ولا شاتم عرضا مصونا وإن علا ... ولا ناكح فرجا على وجه غية
ولا قاطع للناس نهج سبيلهم ... ولا مفسد في الأرض في كل وجهة
ولا شاهد بالزور إفكا وفرية ... ولا قاذف للمحصنات بزنية
ولا مهلك للحرث والنسل عامدا ... ولا حاكم للعالمين برشوة
وكف لسان اللوم عن كل مفسد ... ولا تأخذن ذا جرمة بعقوبة
وسهل سبيل الكاذبين تعمدا ... على ربهم من كل جاء بفرية
وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم ... بروم فساد النوع ثم الرياسة
وجادل عن الملعون فرعون إذ طغى ... فأغرق في اليم انتقاما بغضبة
وكل كفور مشرك بإلهه ... وآخر طاغ كافر بنبوة
كعاد ونمروذ وقوم لصالح ... وقوم لنوح ثم أصحاب أيكة
وخاصم لموسى ثم سائر من أتى ... من الأنبياء محييا للشريعة
على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا ... ونالوا من المعاصي بليغ العقوبة
وإلا فكل الخلق في كل لفظة ... ولحظة عين أو تحرك شعرة
وبطشة كف أو تخطي قديمة ... وكل حراك بل وكل سكينة
همو تحت أقدار الإله وحكمه ... كما أنت فيما قد أتيت بحجة
وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل ... فعال ردى طردا لهذي المقيسة
فهل يمكن رفع الملام جميعه ... عن الناس طرا عند كل قبيحة؟
وترك عقوبات الذين قد اعتدوا ... وترك الورى الإنصاف بين الرعية
فلا تضمنن نفس ومال بمثله ... ولا يعقبن عاد بمثل الجريمة
وهل في عقول الناس أو في طباعهم ... قبول لقول النذل ما وجه حيلتي؟
ويكفيك نقضا ما بجسم ابن آدم ... صبي ومجنون وكل بهيمة
من الألم المقضي في غير حيلة ... وفيما يشاء الله أكمل حكمة
إذا كان في هذا له حكمة فما ... يظن بخلق الفعل ثم العقوبة؟
وكيف ومن هذا عذاب مولد ... عن الفعل فعل العبد عند الطبيعة؟
كآكل سم أوجب الموت أكله ... وكل بتقدير لرب البرية
فكفرك يا هذا كسم أكلته ... وتعذيب نار مثل جرعة غصة
ألست ترى في هذه الدار من جنى ... يعاقب إما بالقضا أو بشرعة؟
ولا عذر للجاني بتقدير خالق ... كذلك في الأخرى بلا مثنوية
وتقدير رب الخلق للذنب موجب ... لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة
وما كان من جنس المتاب لرفعه ... عواقب أفعال العباد الخبيثة
كخير به تمحى الذنوب ودعوة ... تجاب من الجاني ورب شفاعة
وقول حليف الشر إني مقدر ... علي كقول الذئب هذي طبيعتي
وتقديره للفعل يجلب نقمة ... كتقديره الأشياء طرا بعلة
فهل ينفعن عذر الملوم بأنه ... كذا طبعه أم هل يقال لعثرة؟
أم الذم والتعذيب أوكد للذي ... طبيعته فعل الشرور الشنيعة؟
فإن كنت ترجو أن تجاب بما عسى ... ينجيك من نار الإله العظيمة
فدونك رب الخلق فاقصده ضارعا ... مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة
وذلل قياد النفس للحق واسمعن ... ولا تعرضن عن فكرة مستقيمة
وما بان من حق فلا تتركنه ... ولا تعص من يدعو لأقوم شرعة
ودع دين ذا العادات لا تتبعنه ... وعج عن سبيل الأمة الغضبية
ومن ضل عن حق فلا تقفونه ... وزن ما عليه الناس بالمعدلية
هنالك تبدو طالعات من الهدى ... تبشر من قد جاء بالحنيفية
بملة إبراهيم ذاك إمامنا ... ودين رسول الله خير البرية
فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذي ... به جاءت الرسل الكرام السجية
وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي ... حوى كل خير في عموم الرسالة
وأخبر عن رب العباد بأن من ... غدا عنه في الأخرى بأقبح خيبة
فهذي دلالات العباد لحائر ... وأما هداه فهو فعل الربوبية
وفقد الهدى عند الورى لا يفيد من ... غدا عنه بل يجري بلا وجه حجة
وحجة محتج بتقدير ربه ... تزيد عذابا كاحتجاج مريضة
وأما رضانا بالقضاء فإنما ... أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة
كسقم وفقر ثم ذل وغربة ... وما كان من مؤذ بدون جريمة
فأما الأفاعيل التي كرهت لنا ... فلا ترتضى مسخوطة لمشيئة
وقد قال قوم من أولي العلم لا رضا ... بفعل المعاصي والذنوب الكبيرة
وقال فريق نرتضي بقضائه ... ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة
وقال فريق نرتضي بإضافة ... إليه وما فينا فنلقي بسخطة
كما أنها للرب خلق وإنها ... لمخلوقه ليست كفعل الغريزة
فنرضى من الوجه الذي هو خلقه ... ونسخط من وجه اكتساب الخطيئة
ومعصية العبد المكلف تركه ... لما أمر المولى وإن بمشيئة
فإن إله الخلق حق مقاله ... بأن العباد في جحيم وجنة
كما أنهم في هذه الدار هكذا ... بل البهم في الآلام أيضا ونعمة
وحكمته العليا اقتضت ما اقتضت من ... الفروق بعلم ثم أيد ورحمة
يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي ... يقدره نحو العذاب بعزة
ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم ... بأعمال صدق في رجاء وخشية
وأمر إله الخلق بين ما به ... يسوق أولي التنعيم نحو السعادة
فمن كان من أهل السعادة أثرت ... أوامره فيه بتيسير صنعة
ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل ... بأمر ولا نهي بتقدير شقوة
ولا مخرج للعبد عما به قضي ... ولكنه مختار حسن وسوأة
فليس بمجبور عديم الإرادة ... ولكنه شاء بخلق الإرادة
ومن أعجب الأشياء خلق مشيئة ... بها صار مختار الهدى بالضلالة
فقولك: هل اختار تركا لحكمة؟ ... كقولك: هل اختار ترك المشيئة؟
وأختار أن لا اختار فعل ضلالة ... ولو نلت هذا الترك فزت بتوبة
وذا ممكن لكنه متوقف ... على ما يشاء الله من ذي المشيئة
فدونك فافهم ما به قد أجبت من ... معان إذا انحلت بفهم غريزة
أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى ... ولله رب الخلق أكمل مدحة
وصلى إله الخلق جل جلاله ... على المصطفى المختار خير البرية
(يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (130)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والمقصود أن الجن إذا اعتدوا على الإنس أخبروا بحكم الله ورسوله وأقيمت عليهم الحجة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كما يفعل بالإنس؛ لأن الله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وقال تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا} ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل حيات البيوت حتى تؤذن ثلاثا كما في صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان}
وفي صحيح مسلم أيضا {عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته قال: فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلي أن اجلس فجلست فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار ويرجع إلى أهله فاستأذنه يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة فقالت:
اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه فما يدرى أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك وقلنا: ادع الله يحييه لنا قال: استغفروا لصاحبكم ثم قال: إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان} وفي لفظ آخر لمسلم أيضا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليه ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر} وقال لهم: {اذهبوا فادفنوا صاحبكم}.
وذلك أن قتل الجن بغير حق لا يجوز كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق والظلم محرم في كل حال، فلا يحل لأحد أن يظلم أحدا ولو كان كافرا بل قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.
والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وفي صور الطير وفي صور بني آدم كما أتى الشيطان قريشا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر قال تعالى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} إلى قوله: {والله شديد العقاب}. وكما روي أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة هل يقتلوا الرسول أو يحبسونه أو يخرجونه؟ كما قال تبارك وتعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} فإذا كان حيات البيوت قد تكون جنا فتؤذن ثلاثا فإن ذهبت وإلا قتلت فإنها إن كانت حية قتلت وإن كانت جنية فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك والعادي هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلا وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك فلا يجوز. وأهل العزائم والأقسام يقسمون على بعضهم ليعينهم على بعض تارة يبرون قسمه وكثيرا لا يفعلون ذلك بأن يكون ذلك الجني معظما عندهم وليس للمعزم وعزيمته من الحرمة ما يقتضي إعانتهم على ذلك إذ كان المعزم قد يكون بمنزلة الذي يحلف غيره ويقسم عليه بمن يعظمه وهذا تختلف أحواله فمن أقسم على الناس ليؤذوا من هو عظيم عندهم لم يلتفتوا إليه وقد يكون ذاك منيعا فأحوالهم شبيهة بأحوال الإنس لكن الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفى بالعهد؛ والجن أجهل وأكذب وأظلم وأغدر.
والمقصود أن أرباب العزائم مع كون عزائمهم تشتمل على شرك وكفر لا تجوز العزيمة والقسم به فهم كثيرا ما يعجزون عن دفع الجني وكثيرا ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجني الصارع للإنس أو حبسه فيخيلوا إليهم أنهم قتلوه أو حبسوه ويكون ذلك تخييلا وكذبا هذا إذا كان الذي يرى ما يخيلونه صادقا في الرؤية فإن عامة ما يعرفونه لمن يريدون تعريفه إما بالمكاشفة والمخاطبة إن كان من جنس عباد المشركين وأهل الكتاب ومبتدعة المسلمين الذين تضلهم الجن والشياطين وأما ما يظهرونه لأهل العزائم والأقسام أنهم يمثلون ما يريدون تعريفه فإذا رأى المثال أخبر عن ذلك وقد يعرف أنه مثال وقد يوهمونه أنه نفس المرئي وإذا أرادوا سماع كلام من يناديه من مكان بعيد مثل من يستغيث ببعض العباد الضالين من المشركين وأهل الكتاب وأهل الجهل من عباد المسلمين إذا استغاث به بعض محبيه فقال: يا سيدي فلان فإن الجني يخاطبه بمثل صوت ذلك الإنسي فإذا رد الشيخ عليه الخطاب أجاب ذلك الإنسي بمثل ذلك الصوت وهذا وقع لعدد كثير أعرف منهم طائفة.
(ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (131)
أي: هذا بهذا السبب فعلم أنه لا يعذب من كان غافلا ما لم يأته نذير ودل أيضا على أن ذلك ظلم تنزه سبحانه عنه.
وأيضا فإن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها كقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقوله تعالى {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها} وقوله: {لا تكلف نفس إلا وسعها} وقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة فقال: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقد دعاه المؤمنون بقولهم: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فقال: " قد فعلت ". فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسا ما تعجز عنه خلافا للجهمية المجبرة ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي خلافا للقدرية والمعتزلة. وهذا فصل الخطاب في هذا الباب.
(قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (145)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وإنما حرم على الذين هادوا ما ذكره في سورة الأنعام. ولهذا أنكر في سورة الأنعام وغيرها على من حرم ما لم يحرمه كقوله: {قل آلذكرين حرم أم الأنثيين} ثم قال: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} ثم قال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآيات. وقال في سورة النحل: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} الآية وأخبر أنه حرم ذلك ببغيهم فقال: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وقال: {ذلك جزيناهم ببغيهم}. وهذا كله يدل على أصح قولي العلماء وهو: أن هذا التحريم باق عليهم بعد مبعث محمد لا يزول إلا بمتابعته؛ لأنه تحريم عقوبة على ظلمهم وبغيهم؛ وهذا لم يزل بل زاد وتغلظ فكانوا أحق بالعقوبة.
وأيضا فإن الله تعالى أخبر بهذا التحريم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليبين أنه لم يحرم إلا هذا وهذا؛ فلو كان ذلك التحريم قد زال لم يستثنه.
وأيضا فإن التحريم لا يزول إلا بتحليل منه وهو إنما أحل أكل الطيبات للمؤمنين بقوله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} الآية وقوله: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد} وقوله: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} إلى قوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} وهذا خطاب للمؤمنين ولهذا قال: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} ثم قال: {وطعامكم حل لهم} فلو كان ما أحل لنا حلا لهم لم يحتج إلى هذا وقوله: {وطعامكم حل لهم} لا يدخل فيه ما حرم عليهم كما أن قوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} لا يدخل فيه ما حرم علينا مما يستحلونه هم كصيد الحرم وما أهل به لغير الله.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 312)
من صــ 376 الى صـ 390
(فصل في أن ما حرمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس نسخا للقرآن وإنما زيادة عليه)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال - صلى الله عليه وسلم -: {لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال أحللناه؛ وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى} وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه.
وعلموا أن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو زيادة تحريم ليس نسخا للقرآن؛ لأن القرآن إنما دل على أن الله لم يحرم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير وعدم التحريم ليس تحليلا وإنما هو بقاء للأمر على ما كان وهذا قد ذكره الله في سورة الأنعام التي هي مكية باتفاق العلماء ليس كما ظنه أصحاب مالك والشافعي أنها من آخر القرآن نزولا وإنما سورة المائدة هي المتأخرة وقد قال الله فيها: {أحل لكم الطيبات} فعلم أن عدم التحريم المذكور في سورة الأنعام ليس تحليلا وإنما هو عفو. فتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع للعفو ليس نسخا للقرآن.
(سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148)
فصل:
وأما قول القائل: الزنا وغيره من المعاصي مكتوب علينا؛ فهو كلام صحيح لكن هذا لا ينفعه الاحتجاج به؛ فإن الله كتب أفعال العباد خيرها وشرها وكتب ما يصيرون إليه من الشقاوة والسعادة. وجعل الأعمال سببا للثواب والعقاب وكتب ذلك كما كتب الأمراض وجعلها سببا للموت وكما كتب أكل السم وجعله سببا للمرض والموت فمن أكل السم فإنه يمرض أو يموت. والله قدر وكتب هذا وهذا؛ كذلك من فعل ما نهي عنه من الكفر والفسق والعصيان فإنه يعمل ما كتب عليه وهو مستحق لما كتبه الله من الجزاء لمن عمل ذلك. وحجة هؤلاء بالقدر على المعاصي من جنس حجة المشركين الذين قال الله عنهم: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم} وقال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} قال الله تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}.
(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ... (152)
فذكر أنه لم يكلف نفسا إلا وسعها حين أمر بتوفية الكيل والميزان بالقسط؛ لأن الكيل لا بد له أن يفضل أحد المكيلين على الآخر ولو بحبة أو حبات وكذلك التفاضل في الميزان قد يحصل بشيء يسير لا يمكن الاحتراز منه فقال تعالى: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}.
ولهذا كان القصاص مشروعا إذا أمكن استيفاؤه من غير جنف كالاقتصاص في الجروح التي تنتهي إلى عظم.
وفي الأعضاء التي تنتهي إلى مفصل فإذا كان الجنف واقعا في الاستيفاء عدل إلى بدله وهو الدية؛ لأنه أشبه بالعدل من إتلاف زيادة في المقتص منه وهذه حجة من رأى من الفقهاء أنه لا قود إلا بالسيف في العنق قال: لأن القتل بغير السيف وفي غير العنق لا نعلم فيه المماثلة بل قد يكون التحريق والتغريق والتوسيط ونحو ذلك أشد إيلاما؛ لكن الذين قالوا: يفعل به مثل ما فعل قولهم أقرب إلى العدل؛ فإنه مع تحري التسوية بين الفعلين يكون العبد قد فعل ما يقدر عليه من العدل وما حصل من تفاوت الألم خارج عن قدرته.
(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (153)
{وقال عبد الله بن مسعود خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال: هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم قرأ: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.
وإذا تأمل العاقل - الذي يرجو لقاء الله - هذا المثال وتأمل سائر الطوائف من الخوارج ثم المعتزلة ثم الجهمية والرافضة ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث ويدعي أن سبيله هو الصواب - وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم الذي لا يتكلم عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث - لا سيما في أخبار الصفات - حمل الحديث على عقله وصرح بتقديمه على الحديث وجعل عقله ميزانا للحديث فليت شعري هل عقله هذا كان مصرحا بتقديمه في الشريعة المحمدية فيكون من السبيل المأمور باتباعه أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وهؤلاء الاتحادية وأمثالهم إنما أتوا من قلة العلم والإيمان بصفات الله التي يتميز بها عن المخلوقات وقلة اتباع السنة وطريقة السلف في ذلك بل قد يعتقدون من التجهم ما ينافي السنة تلقيا لذلك عن متفلسف أو متكلم فيكون ذلك الاعتقاد صادا لهم عن سبيل الله كلما أرادت قلوبهم أن تتقرب إلى ربها وتسلك الصراط المستقيم إليه وتعبده - كما فطروا عليه وكما بلغتهم الرسل من علوه وعظمته - صرفتهم تلك العوائق المضلة عن ذلك حتى تجد خلقا من مقلدة الجهمية يوافقهم بلسانه وأما قلبه فعلى الفطرة والسنة وأكثرهم لا يفهمون ما النفي الذي يقولونه بألسنتهم؟ بل يجعلونه تنزيها مطلقا مجملا. ومنهم من لا يفهم قول الجهمية. بل يفهم من النفي معنى صحيحا ويعتقد أن المثبت يثبت نقيض ذلك ويسمع من بعض الناس ذكر ذلك. مثل أن يفهم من قولهم: ليس في جهة ولا له مكان ولا هو في السماء: أنه ليس في جوف السموات وهذا معنى صحيح؛ وإيمانه بذلك حق ولكن يظن أن الذين قالوا هذا النفي اقتصروا على ذلك وليس كذلك. بل مرادهم: أنه ما فوق العرش شيء أصلا ولا فوق السموات إلا عدم محض؛ ليس هناك إله يعبد ولا رب يدعى ويسأل ولا خالق خلق الخلائق ولا عرج بالنبي إلى ربه أصلا هذا مقصودهم.
(فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون (157)
فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}
فذكر سبحانه انه يجزي الصادف عن آياته مطلقا ـ سواء كان مكذبا أو لم يكن ـ سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن لك من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عن اتباعا لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر، وقد يكون كافرا من لا يكذبه إذا لم يؤمن به.
ولهذا أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما أنزله وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك، وجعل ذلك من نعوت الكفار والمنافقين.
(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (159)
[فصل: اجتماع المسلمين بإجماعهم وتفرق النصارى بابتداعهم]
وكذلك تعظيمهم للصليب، واستحلالهم لحم الخنزير، وتعبدهم بالرهبانية، وامتناعهم من الختان، وتركهم طهارة الحدث والخبث، فلا يوجبون غسل جنابة ولا وضوءا، ولا يوجبون اجتناب شيء من الخبائث في صلاتهم لا عذرة ولا بولا ولا غير ذلك من الخبائث إلى غير ذلك.
كلها شرائع أحدثوها وابتدعوها بعد المسيح عليه السلام، ودان بها أئمتهم وجمهورهم، ولعنوا من خالفهم فيها، حتى صار المتمسك فيهم بدين المسيح المحض مغلوبا مقموعا قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وأكثر ما هم عليه من الشرائع والدين لا يوجد منصوصا عن المسيح عليه السلام.
وأما المسلمون: فكل ما أجمعوا عليه إجماعا ظاهرا يعرفه العامة والخاصة فهو منقول عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، لم يحدث ذلك أحد لا باجتهاده ولا بغير اجتهاده، بل ما قطعنا بإجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يوجد مأخوذا عن نبيهم.
وأما ما يظن فيه إجماعهم ولا يقطع به:
فمنه ما يكون ذلك الظن خطأ، ويكون بينهم فيه نزاع، ثم قد يكون نص الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا القول، وقد يكون مع هذا القول.
ومنه ما يكون ظن الإجماع عليه صوابا، ويكون فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أثر خفيت دلالته أو معرفته على بعض الناس.
وذلك أن الله تبارك وتعالى أكمل الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وبينه، وبلغه البلاغ المبين، فلا تحتاج أمته إلى أحد بعده يغير شيئا من دينه، وإنما تحتاج إلى معرفة دينه الذي بعث به فقط، وأمته لا تجتمع على ضلالة، بل لا يزال في أمته طائفة قائمة بالحق، حتى تقوم الساعة، فإن الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأظهره بالحجة والبيان، وأظهره باليد والسنان، ولا يزال في أمته أمة ظاهرة بهذا وهذا حتى تقوم الساعة.
والمقصود هنا: أن ما اجتمعت عليه الأمة إجماعا ظاهرا تعرفه العامة والخاصة، فهو منقول عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ونحن لا نشهد بالعصمة إلا لمجموع الأمة، وأما كثير من طوائف الأمة ففيهم بدع مخالفة للرسول، وبعضها من جنس بدع اليهود والنصارى، وفيهم فجور ومعاصي، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من ذلك، كما قال تعالى له: {فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} [الشعراء: 216].
وقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} [الأنعام: 159].
وقال صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فليس مني» وذلك مثل إجماعهم على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الأمم أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، فإن هذا تلقوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو منقول عندهم نقلا متواترا يعلمونه بالضرورة.
وكذلك إجماعهم على استقبال الكعبة البيت الحرام في صلاتهم، فإن هذا الإجماع منهم على ذلك مستند إلى النقل المتواتر عن نبيهم وهو مذكور في كتابهم.
وكذلك الإجماع على وجوب الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وحج البيت العتيق الذي بناه إبراهيم خليل الرحمن، ودعا الناس إلى حجه وحجته الأنبياء، حتى حجه موسى بن عمران ويونس بن متى وغيرهما، وإجماعهم على وجوب الاغتسال من الجنابة وتحريم الخبائث وإيجاب الطهارة للصلاة، فإن هذا كله مما تلقوه عن نبيهم، وهو منقول عنه صلى الله عليه وسلم نقلا متواترا وهو مذكور في القرآن.
وأما النصارى، فليست الصلوات التي يصلونها منقولة عن المسيح عليه السلام ولا الصوم الذي يصومونه منقولا عن المسيح، بل جعل أولهم الصوم أربعين يوما، ثم زادوا فيه عشرة أيام، ونقلوه إلى الربيع، وليس هذا منقولا عندهم عن المسيح عليه السلام.
وكذلك حجهم للقمامة، وبيت لحم، وكنيسة صيدنايا ليس شيء من ذلك منقولا عن المسيح عليه السلام، بل وكذلك عامة أعيادهم مثل عيد القلندس، وعيد الميلاد، وعيد الغطاس - وهو القداس - وعيد الخميس وعيد الصليب الذي جعلوه في وقت ظهور الصليب، لما أظهرته هيلانة الحرانية الفندقانية أم قسطنطين بعد المسيح عليه السلام بمائتين من السنين، وعيد الخميس والجمعة والسبت التي في آخر صومهم، وغير ذلك من أعيادهم التي رتبوها على أحوال المسيح والأعياد التي ابتدعوها لكبرائهم، فإن ذلك كله من بدعهم التي ابتدعوها بلا كتاب نزل من الله تعالى، بل هم يبنون الكنائس على اسم بعض من يعظمونه، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنهم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» وهذا بخلاف المساجد التي تبنى لله عز وجل كما قال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن: 18].
وقال: {في بيوت أذن الله أن ترفع} [النور: 36].
وقال تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} [الأعراف: 29].
وقال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التوبة: 18].
والنصارى كأشباههم من المشركين يخشون غير الله، ويدعون غير الله.
(قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161)
" والحنيف " للسلف فيه ثلاث عبارات. قال محمد بن كعب: مستقيما. وقال عطاء: مخلصا. وقال آخرون: متبعا. فهو مستقيم القلب إلى الله دون ما سواه قال الله تعالى: {فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين} وقال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة. فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه لا بالحب ولا بالخوف ولا بالرجاء؛ ولا بالسؤال؛ ولا بالتوكل عليه؛ بل لا يحبون إلا الله ولا يحبون معه أندادا ولا يحبون إلا إياه؛ لا لطلب منفعة ولا لدفع مضرة ولا يخافون غيره كائنا من كان ولا يسألون غيره ولا يتشرفون بقلوبهم إلى غيره. ولهذا {قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا متشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك} - فالسائل بلسانه والمتشرف بقلبه - متفق على صحته.
(قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164)
فصل:
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما قول السائل: هل يؤذيه البكاء عليه؟. فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف والخلف والعلماء. والصواب أنه يتأذى بالبكاء عليه كما نطقت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه} - وفي لفظ - {من ينح عليه يعذب بما نيح عليه} " وفي الحديث الصحيح أن عبد الله بن رواحة لما أغمي عليه جعلت أخته تندب وتقول: واعضداه واناصراه فلما أفاق قال: ما قلت لي شيئا إلا قيل لي: أكذلك أنت؟. وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره فهو مخالف لقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة. فمنهم من غلط الرواة لها كعمر بن الخطاب وغيره، وهذه طريقة عائشة والشافعي وغيرهما. ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه وهو قول طائفة: كالمزني وغيره. ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كانت عادتهم فيعذب على ترك النهي عن المنكر وهو اختيار طائفة: منهم جدي أبو البركات وكل هذه الأقوال ضعيفة جدا. والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبي موسى الأشعري وغيرهم لا ترد بمثل هذا. وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه ولا يكون الأمر كذلك، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئا.
وعائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظين - وهي الصادقة فيما نقلته - فروت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: {إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه} وهذا موافق لحديث عمر فإنه إذا جاز أن يزيده عذابا ببكاء أهله جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله؛ ولهذا رد الشافعي في مختلف الحديث هذا الحديث نظرا إلى المعنى، وقال: الأشبه روايتها الأخرى: {أنهم يبكون عليه وإنه ليعذب في قبره}. والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، واعتقد هؤلاء أن الله يعاقب الإنسان بذنب غيره فجوزوا أن يدخلوا أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم، وهذا وإن كان قد قاله طوائف منتسبة إلى السنة فالذي دل عليه الكتاب والسنة أن الله لا يدخل النار إلا من عصاه كما قال: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} فلا بد أن يملأ جهنم من أتباع إبليس فإذا امتلأت لم يكن لغيرهم فيها موضع فمن لم يتبع إبليس لم يدخل النار.
سورة الأعراف
(اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (3)
فصل:
قد أمرنا الله تعالى باتباع ما أنزل إلينا من ربنا وباتباع ما يأتي منه من الهدى وقد أنزل علينا الكتاب والحكمة كما قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} والحكمة من الهدى قال تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا} والأمر باتباع الكتاب والقرآن يوجب الأمر باتباع الحكمة التي بعث بها الرسول وباتباعه وطاعته مطلقا. وقال تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} وقال تعالى: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} وقال تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} وقال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم}.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 313)
من صــ 391 الى صـ 405
وقد أمر بطاعة الرسول في نحو أربعين موضعا كقوله تعالى: {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} وقوله تعالى {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} وقوله: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} إلى قوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} إلى قوله تعالى {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} إلى قوله: {أو يصيبهم عذاب أليم} وقوله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وقوله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وقوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقوله تعالى
{ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} وقوله تعالى {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار} إلى قوله: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها} وقوله تعالى {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} وقوله تعالى {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا}
{وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} {ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} وقوله تعالى {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا} {يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا} {لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} فهذه النصوص توجب اتباع الرسول وإن لم نجد ما قاله منصوصا بعينه في الكتاب كما أن تلك الآيات توجب اتباع الكتاب وإن لم نجد ما في الكتاب منصوصا بعينه في حديث عن الرسول غير الكتاب. فعلينا أن نتبع الكتاب وعلينا أن نتبع الرسول واتباع أحدهما هو اتباع الآخر؛ فإن الرسول بلغ الكتاب والكتاب أمر بطاعة الرسول. ولا يختلف الكتاب والرسول ألبتة كما لا يخالف الكتاب بعضه بعضا قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.
والأحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب اتباع الكتاب وفي وجوب اتباع سنته صلى الله عليه وسلم كقوله: {لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال حللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا وإنه مثل القرآن أو أعظم} هذا الحديث في السنن والمسانيد مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة جهات من حديث أبي ثعلبة وأبي رافع وأبي هريرة وغيرهم.
وفي صحيح مسلم عنه من حديث جابر أنه قال في خطبة الوداع: {وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله تعالى} وفي الصحيح عن {عبد الله بن أبي أوفى أنه قيل له: هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا قيل: فكيف كتبه على الناس الوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله}. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسر القرآن كما فسرت أعداد الصلوات وقدر القراءة فيها والجهر والمخافتة وكما فسرت فرائض الزكاة ونصبها وكما فسرت المناسك وقدر الطواف بالبيت والسعي ورمي الجمار ونحو ذلك. وهذه السنة إذا ثبتت فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب اتباعها وقد يكون من سنته ما يظن أنه مخالف لظاهر القرآن وزيادة عليه كالسنة المفسرة لنصاب السرقة والموجبة لرجم الزاني المحصن فهذه السنة أيضا مما يجب اتباعه عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر طوائف المسلمين إلا من نازع في ذلك من الخوارج المارقين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم. فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قاتلهم يوم القيامة}.
وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة في وصفهم وذمهم والأمر بقتالهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه وقد روى مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه كأنها هي التي أشار إليها أحمد بن حنبل فإن مسلما أخذ عن أحمد. وقد روى البخاري حديثهم من عدة أوجه وهؤلاء أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد اعدل فإنك لم تعدل. فمن جوز عليه أن يظلمه فلا يعدل كمن يوجب طاعته فيما ظلم فيه؛ لكنهم يوجبون اتباع ما بلغه عن الله وهذا من جهلهم وتناقضهم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل وقال: لقد خبت وخسرت إن لم أعدل} أي: إن اتبعت من هو غير عادل فأنت خائب خاسر.
وقال: {أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني} يقول: إذا كان الله قد ائتمنني على تبليغ كلامه أفلا تأمنوني على أن أؤدي الأمانة إلى الله؟ قال تعالى: {وما كان لنبي أن يغل}. وفي الجملة فالقرآن يوجب طاعته في حكمه وفي قسمه ويذم من يعدل عنه في هذا أو هذا كما قال تعالى في حكمه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وقال تعالى:
{ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} {فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا} {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} وقال تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين} {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} {وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين} {أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون} {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}.
وقال في قسمه للصدقات والفيء قال في الصدقات: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} وقال في الفيء {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم} الآيات الثلاث.
فالطاعن في شيء من حكمه أو قسمه - كالخوارج - طاعن في كتاب الله مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارق لجماعة المسلمين وكان شيطان الخوارج مقموعا لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان فلما افترقت الأمة في خلافة علي رضي الله عنه وجد شيطان الخوارج موضع الخروج فخرجوا وكفروا عليا ومعاوية ومن والاهما فقاتلهم أولى الطائفتين بالحق علي بن أبي طالب كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تمرق مارقة على حين فرقة من الناس تقتلهم أولى الطائفتين بالحق}.
ولهذا لما ناظرهم من ناظرهم كابن عباس وعمر بن عبد العزيز وغيرهما بينوا لهم بطلان قولهم بالكتاب والميزان كما بين لهم ابن عباس حيث أنكروا على علي بن أبي طالب قتاله لأهل الجمل ونهيه عن اتباع مدبرهم والإجهاز على جريحهم وغنيمة أموالهم وذراريهم وكانت حجة الخوارج أنه ليس في كتاب الله إلا مؤمن أو كافر فإن كانوا مؤمنين لم يحل قتالهم وإن كانوا كفارا أبيحت دماؤهم وأموالهم وذراريهم فأجابهم ابن عباس بأن القرآن يدل على أن عائشة أم المؤمنين وبين أن أمهات المؤمنين حرام فمن أنكر أمومتها فقد خالف كتاب الله ومن استحل فرج أمه فقد خالف كتاب الله. وموضع غلطهم ظنهم أن من كان مؤمنا لم يبح قتاله بحال وهذا مما ضل به من ضل من الشيعة حيث ظنوا أن من قاتل عليا كافر؛فإن هذا خلاف القرآن قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فأخبر سبحانه أنهم مؤمنون مقتتلون وأمر إن بغت إحداهما على الأخرى أن تقاتل التي تبغي فإنه لم يكن أمر بقتال أحدهما ابتداء ثم أمر إذا فاءت إحداهما بالإصلاح بينهما بالعدل وقال: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فدل القرآن على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي وأنه يأمر بقتال الباغية حيث أمر الله به.
وكذلك عمر بن عبد العزيز لما ناظرهم وأقروا بوجوب الرجوع إلى ما نقله الصحابة عن الرسول من فرائض الصلاة بين لهم عمر أنه كذلك يجب الرجوع إلى ما نقلوه عنه صلى الله عليه وسلم من فريضة الرجم ونصاب الزكاة وأن الفرق بينهما فرق بين المتماثلين فرجعوا إلى ذلك. وكذلك ابن عباس ناظرهم لما أنكروا تحكيم الرجال بأن الله قال في الزوجين: إذا خيف شقاق بينهما أن يبعث حكما من أهله وحكما من أهلها وقال: {إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما} وأمر أيضا أن يحكم في الصيد بجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم فمن أنكر التحكيم مطلقا فقد خالف كتاب الله تعالى وذكر ابن عباس أن التحكيم في أمر أميرين لأجل دماء الأمة أولى من التحكيم في أمر الزوجين؛ والتحكيم لأجل دم الصيد. وهذا استدلال من ابن عباس بالاعتبار وقياس الأولى وهو من الميزان فاستدل عليهم بالكتاب والميزان قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}.
أمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منا وأمر إن تنازعنا في شيء أن نرده إلى الله والرسول فدل هذا على أن كل ما تنازع المؤمنون فيه من شيء فعليهم أن يردوه إلى الله والرسول والمعلق بالشرط يعدم عند عدم الشرط فدل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا لم يكن هذا الأمر ثابتا وكذلك إنما يكون لأنهم إذا لم يتنازعوا كانوا على هدى وطاعة لله ورسوله فلا يحتاجوا حينئذ أن يأمروا بما هم فاعلون من طاعة الله والرسول. ودل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا بل اجتمعوا فإنهم لا يجتمعون على ضلالة ولو كانوا قد يجتمعون على ضلالة لكانوا حينئذ أولى بوجوب الرد إلى الله والرسول منهم إذا تنازعوا فقد يكون أحد الفريقين مطيعا لله والرسول.
فإذا كانوا مأمورين في هذا الحال بالرد إلى الله والرسول ليرجع إلى ذلك فريق منهم - خرج عن ذلك - فلأن يؤمروا بذلك إذا قدر خروجهم كلهم عنه بطريق الأولى والأحرى أيضا فقد قال لهم {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}. فلما نهاهم عن التفرق مطلقا دل ذلك على أنهم لا يجتمعون على باطل؛ إذ لو اجتمعوا على باطل لوجب اتباع الحق المتضمن لتفرقهم وبين أنه ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا كما قال: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} فإذا كانت قلوبهم متألفة غير مختلفة على أمر من الأمور كان ذلك من تمام نعمة الله عليهم؛ ومما من به عليهم فلم يكن ذلك اجتماعا على باطل؛ لأن الله تعالى أعلم بجميع الأمور. انتهى والحمد لله رب العالمين.
(قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (12)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -
فصل:
حجة إبليس في قوله: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} هي باطلة لأنه عارض النص بالقياس. ولهذا قال بعض السلف: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
ويظهر فسادها بالعقل من وجوه خمسة. " أحدها " أنه ادعى أن النار خير من الطين وهذا قد يمنع فإن الطين فيه السكينة والوقار والاستقرار والثبات والإمساك ونحو ذلك وفي النار الخفة والحدة والطيش والطين فيه الماء والتراب. " الثاني " أنه وإن كانت النار خيرا من الطين فلا يجب أن يكون المخلوق من الأفضل أفضل فإن الفرع قد يختص بما لا يكون في أصله وهذا التراب يخلق منه من الحيوان والمعادن والنبات ما هو خير منه والاحتجاج على فضل الإنسان على غيره بفضل أصله على أصله حجة فاسدة احتج بها إبليس وهي حجة الذين يفخرون بأنسابهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " {من قصر به عمله لم يبلغ به نسبه} ". " الثالث " أنه وإن كان مخلوقا من طين فقد حصل له بنفخ الروح المقدسة فيه ما شرف به فلهذا قال: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} فعلق السجود بأن ينفخ فيه من روحه فالموجب للتفضيل هذا المعنى الشريف الذي ليس لإبليس مثله. " الرابع " أنه مخلوق بيدي الله تعالى كما قال تعالى:
{ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} وهو كالأثر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وعن عبد الله بن عمرو في تفضيله على الملائكة حيث قالت الملائكة: " {يا رب قد خلقت لبني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون وينكحون؛ فاجعل لنا الآخرة كما جعلت لهم الدنيا فقال: لا أفعل. ثم أعادوا. فقال: لا أفعل ثم أعادوا فقال: وعزتي لا أجعل صالح من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان} ". " الخامس " أنه لو فرض أنه أفضل فقد يقال: إكرام الأفضل للمفضول ليس بمستنكر.
(ولباس التقوى ذلك خير ... (26)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
الأعمال الصالحة من ذكر الله وغيره تسمى جنة ولباسا. كما قال تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير} في أشهر القولين. وكما قال في الحديث: {خذوا جنتكم قالوا: يا رسول الله من عدو حضر قال: لا ولكن جنتكم من النار: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر}.
(إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (27)
سئل الشيخ - رحمه الله -:
عن قوله تعالى {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} الآية الكريمة. هل ذلك عام لا يراهم أحد أم يراهم بعض الناس دون بعض؟ وهل الجن والشياطين جنس واحد ولد إبليس أم جنسين: ولد إبليس وغير ولده؟.
فأجاب شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله ورضي عنه آمين - فقال:
الحمد لله، الذي في القرآن أنهم يرون الإنس من حيث لا يراهم الإنس وهذا حق يقتضي أنهم يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها وليس فيه أنهم لا يراهم أحد من الإنس بحال؛ بل قد يراهم الصالحون وغير الصالحين أيضا؛ لكن لا يرونهم في كل حال والشياطين هم مردة الإنس والجن وجميع الجن ولد إبليس. والله أعلم.
(وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28)
وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:
قوله: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} والفاحشة أريد بها كشف السوآت فيستدل به على أن في الأفعال السيئة من الصفات ما يمنع أمر الشرع بها فإنه أخبر عن نفسه في سياق الإنكار عليهم أنه لا يأمر بالفحشاء فدل ذلك على أنه منزه عنه فلو كان جائزا عليه لم يتنزه عنه. فعلم أنه لا يجوز عليه الأمر بالفحشاء؛ وذلك لا يكون إلا إذا كان الفعل في نفسه سيئا فعلم أن كلما كان في نفسه فاحشة فإن الله لا يجوز عليه الأمر به وهذا قول من يثبت للأفعال في نفسها صفات الحسن والسوء كما يقوله أكثر العلماء كالتميميين وأبي الخطاب؛ خلاف قول من يقول: إن ذلك لا يثبت قط إلا بخطاب.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 314)
من صــ 406 الى صـ 420
وكذلك قوله: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} علل النهي عنه بما اشتمل عليه من أنه فاحشة وأنه ساء سبيلا فلو كان إنما صار فاحشة وساء سبيلا بالنهي لما صح ذلك؛ لأن العلة تسبق المعلول لا تتبعه ومثل ذلك كثير في القرآن. وأما في الأمر فقوله: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} دليل على أنه أمر به؛ لأنه خير لنا؛ ولأن الله علم فيه ما لم نعلمه. ومثله قوله في آية الطهور {ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} دليل على أنه أمر بالطهور؛ لما فيه من الصلاح لنا وهذا أيضا في القرآن كثير.
سئل - رحمه الله تعالى -:
عمن يعتقد أن الخير من الله والشر من الشيطان؟ وأن الشر هو بيد العبد، إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله، فإذا أنكر عليه في هذه يقول: قال الله تعالى: {إن الله لا يأمر بالفحشاء} {فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر} وإن عقيدة هذا، أن الخير من الله وأن الشر بيده، فإذا أراد أن يفعل الشر فعله؛ فإنه قال: إن لي مشيئة فإذا أردت أن أفعل الشر فعلته، فهل له مشيئة فعالة أم لا؟.
فأجاب:
الحمد لله، أصل هذا الكلام له مقدمتان:
إحداهما: أن يعلم العبد أن الله يأمر بالإيمان والعمل الصالح، ويحب الحسنات ويرضاها، ويكرم أهلها، ويثيبهم ويواليهم، ويرضى عنهم، ويحبهم ويحبونه، وهم جند الله المنصورون، وحزب الله الغالبون، وهم أولياؤه المتقون، وحزبه المفلحون، وعباده الصالحون أهل الجنة، وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وهم أهل الصراط المستقيم. صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وأن الله نهى عن السيئات من الكفر والفسوق والعصيان، وهو يبغض ذلك ويمقت أهله، ويلعنهم ويغضب عليهم، ويعاقبهم ويعاديهم، وهم أعداء الله ورسوله، وهم أولياء الشيطان، وهم أهل النار
وهم الأشقياء. لكنهم يتقاربون في هذا ما بين كافر وفاسق، وعاص ليس بكافر ولا فاسق.
والمقدمة الثانية: أن يعلم العبد أن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه. لا رب غيره؛ ولا خالق سواه، وأنه ما شاء كان؛ وما لم يشأ لم يكن؛ لا حول ولا قوة إلا به؛ ولا ملجأ منه إلا إليه؛ وأنه على كل شيء قدير. فجميع ما في السماوات والأرض: من الأعيان وصفاتها؛ وحركاتها؛ فهي مخلوقة له؛ مقدورة له؛ مصرفة بمشيئته، لا يخرج شيء منها عن قدرته وملكه؛ ولا يشركه في شيء من ذلك غيره؛ بل هو سبحانه لا إله إلا هو وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد؛ وهو على كل شيء قدير، فالعبد فقير إلى الله في كل شيء، يحتاج إليه في كل شيء لا يستغني عن الله طرفة عين؛ فمن يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له. فإذا ثبتت هاتان " المقدمتان ".
فنقول: إذا ألهم العبد أن يسأل الله الهداية ويستعينه على طاعته، أعانه وهداه، وكان ذلك سبب سعادته في الدنيا والآخرة، وإذا خذل العبد فلم يعبد الله؛ ولم يستعن به، ولم يتوكل عليه، وكل إلى حوله وقوته. فيوليه الشيطان، وصد عن السبيل، وشقي في الدنيا والآخرة وكل ما يكون في الوجود هو بقضاء الله وقدره؛ لا يخرج أحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المحفوظ، وليس لأحد على الله حجة؛ بل {فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل. وعلى العبد أن يؤمن بالقدر، وليس له أن يحتج به على الله؛ فالإيمان به هدى؛ والاحتجاج به على الله ضلال وغي، بل الإيمان بالقدر يوجب أن يكون العبد صبارا شكورا؛ صبورا على البلاء، شكورا على الرخاء، إذا أصابته نعمة علم أنها من عند الله فشكره، سواء كانت النعمة حسنة فعلها، أو كانت خيرا حصل بسبب سعيها، فإن الله هو الذي يسر عمل الحسنات، وهو الذي تفضل بالثواب عليها، فله الحمد في ذلك كله.
وإذا أصابته مصيبة صبر عليها، وإن كانت تلك المصيبة قد جرت على يد غيره، فالله هو الذي سلط ذلك الشخص، وهو الذي خلق أفعاله، وكانت مكتوبة على العبد؛ كما قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير} {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} وقال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه}.
قالوا: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. وعليه إذا أذنب أن يستغفر ويتوب، ولا يحتج على الله بالقدر، ولا يقول: أي ذنب لي وقد قدر علي هذا الذنب؛ بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب، وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره ومشيئته، إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وخلقه؛ لكن العبد هو الذي أكل الحرام، وفعل الفاحشة،وهو الذي ظلم نفسه؛ كما أنه هو الذي صلى وصام وحج وجاهد، فهو الموصوف بهذه الأفعال؛ وهو المتحرك بهذه الحركات، وهو الكاسب بهذه المحدثات، له ما كسب وعليه ما اكتسب، والله خالق ذلك وغيره من الأشياء لما له في ذلك من الحكمة البالغة بقدرته التامة ومشيئته النافذة. قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك}. فعلى العبد أن يصبر على المصائب، وأن يستغفر من المعائب.
والله تعالى لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر؛ ولا يحب الفساد، وهو سبحانه خالق كل شيء؛ وربه ومليكه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ ومشيئة العبد للخير والشر موجودة، فإن العبد له مشيئة للخير والشر، وله قدرة على هذا وهذا. وهو العامل لهذا وهذا، والله خالق ذلك كله وربه ومليكه؛ لا خالق غيره؛ ولا رب سواه؛ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وقد أثبت الله " المشيئتين " مشيئة الرب؛ ومشيئة العبد؛ وبين أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب في قوله تعالى {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما} وقال تعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين} {لمن شاء منكم أن يستقيم} {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} وقد قال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}.
وبعض الناس يظن أن المراد هنا بالحسنات والسيئات الطاعات والمعاصي؛ فيتنازعون هذا يقول: قل كل من عند الله، وهذا يقول الحسنة من الله، والسيئة من نفسك، وكلاهما أخطأ في فهم الآية؛ فإن المراد هنا بالحسنات والسيئات، النعم والمصائب. كما في قوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} أي امتحناهم واختبرناهم بالسراء والضراء.
ومعنى الآية في المنافقين: كانوا إذا أصابتهم حسنة مثل النصر والرزق والعافية. قالوا: هذا من الله، وإذا أصابتهم سيئة - مثل ضرب ومرض وخوف من العدو - قالوا: هذا من عندك يا محمد أنت الذي جئت بهذا الدين الذي عادانا لأجله الناس، وابتلينا لأجله بهذه المصائب، فقال الله تعالى: {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} أنت إنما أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر، وما أصابك من نعمة: نصر وعافية ورزق فمن الله، نعمة أنعم الله بها عليك، وما أصابك من سيئة: فقر وذل وخوف ومرض وغير ذلك، فمن نفسك وذنوبك وخطاياك. كما قال في الآية الأخرى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} وقال تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وقال تعالى: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور}.
فالإنسان إذا أصابته المصائب بذنوبه وخطاياه كان هو الظالم لنفسه، فإذا تاب واستغفر جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب، والذنوب مثل أكل السم. فهو إذا أكل السم مرض أو مات فهو الذي يمرض ويتألم ويتعذب ويموت، والله خالق ذلك كله، وإنما مرض بسبب أكله، وهو الذي ظلم نفسه بأكل السم. فإن شرب الترياق النافع عافاه الله، فالذنوب كأكل السم، والترياق النافع كالتوبة النافعة، والعبد فقير إلى الله تعالى في كل حال، فهو بفضله ورحمته يلهمه التوبة، فإذا تاب تاب عليه، فإذا سأله العبد ودعاه استجاب دعاءه. كما قال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}. ومن قال: لا مشيئة له في الخير ولا في الشر فقد كذب.
ومن قال: إنه يشاء شيئا من الخير أو الشر بدون مشيئة الله فقد كذب؛ بل له مشيئة لكل ما يفعله باختياره من خير وشر، وكل ذلك إنما يكون بمشيئة الله وقدرته فلا بد من الإيمان بهذا وهذا، ليحصل الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ومن احتج بالقدر على المعاصي فحجته داحضة، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول، بل هؤلاء الضالون. كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. فإن هؤلاء إذا ظلمهم ظالم، بل لو فعل الإنسان ما يكرهونه، وإن كان حقا لم يعذروه بالقدر، بل يقابلوه بالحق والباطل، فإن كان القدر حجة لهم فهو حجة لهؤلاء، وإن لم يكن حجة لهؤلاء لم يكن حجة لهم؛ وإنما يحتج أحدهم بالقدر عند هواه ومعصية مولاه، لا عند ما يؤذيه الناس ويظلمونه. وأما المؤمن فهو بالعكس في ذلك إذا آذاه الناس نظر إلى القدر، فصبر واحتسب، وإذا أساء هو تاب واستغفر.
كما قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} فالمؤمن يصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب والمعايب، والمنافق بالعكس لا يستغفر من ذنبه بل يحتج بالقدر، ولا يصبر على ما أصابه، فلهذا يكون شقيا في الدنيا والآخرة؛ والمؤمن سعيدا في الدنيا والآخرة. والله سبحانه أعلم.
(قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون (29)
وقال شيخ الإسلام:
فصل جامع:
قد كتبت فيما تقدم في مواضع قبل بعض القواعد: وآخر مسودة الفقه: أن جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم وهذا أصل جامع عظيم. وتفصيل ذلك: أن الله خلق الخلق لعبادته فهذا هو المقصود المطلوب لجميع الحسنات وهو إخلاص الدين كله لله وما لم يحصل فيه هذا المقصود: فليس حسنة مطلقة مستوجبة لثواب الله في الآخرة وإن كان حسنة من بعض الوجوه له ثواب في الدنيا.
وكل ما نهى عنه فهو زيغ وانحراف عن الاستقامة ووضع للشيء في غير موضعه فهو ظلم. ولهذا جمع بينهما سبحانه في قوله: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} فهذه الآية في سورة الأعراف المشتملة على أصول الدين والاعتصام بالكتاب وذم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله كالشرك وتحريم الطيبات أو خالفوا ما شرعه الله من أمور دينهم كإبليس ومخالفي الرسل من قوم نوح إلى قوم فرعون والذين بدلوا الكتاب من أهل الكتاب فاشتملت السورة على ذم من أتى بدين باطل ككفار العرب ومن خالف الدين الحق كله كالكفار بالأنبياء أو بعضه ككفار أهل الكتاب. وقد جمع سبحانه في هذه السورة وفي الأنعام وفي غيرهما ذنوب المشركين في نوعين.
أحدهما: أمر بما لم يأمر الله به كالشرك ونهي عما لم ينه الله عنه كتحريم الطيبات. فالأول: شرع من الدين ما لم يأذن به الله.
والثاني: تحريم لما لم يحرمه الله. وكذلك في الحديث الصحيح حديث عياض بن حمار: عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: {إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا}.
ولهذا كان ابتداع العبادات الباطلة من الشرك ونحوه: هو الغالب على النصارى ومن ضاهاهم من منحرفة المتعبدة والمتصوفة، وابتداع التحريمات الباطلة هو الغالب على اليهود ومن ضاهاهم من منحرفة المتفقهة بل أصول دين اليهود فيه آصار وأغلال من التحريمات ولهذا قال لهم المسيح: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} وأصل دين النصارى فيه تأله بألفاظ متشابهة وأفعال مجملة فالذين في قلوبهم زيغ اتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. قررته في غير هذا الموضع بأن توحيد الله الذي هو إخلاص الدين له والعدل الذي نفعله نحن هو جماع الدين يرجع إلى ذلك فإن إخلاص الدين لله أصل العدل كما أن الشرك بالله ظلم عظيم.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والمقصود هنا: أن المقصود بذلك كله هو أن يقوم الناس بالقسط؛ ولهذا لما كان المشركون يحرمون أشياء ما أنزل الله بها من سلطان ويأمرون بأشياء ما أنزل الله بها من سلطان أنزل الله في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما يذمهم على ذلك وذكر ما أمر به هو وما حرمه هو فقال: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} وقال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
وهذه الآية تجمع أنواع المحرمات كما قد بيناه في غير هذا الموضع وتلك الآية تجمع أنواع الواجبات كما بيناه أيضا وقوله: {أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} أمر مع القسط بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له وهذا أصل الدين وضده هو الذنب الذي لا يغفر قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وهو الدين الذي أمر الله به جميع الرسل وأرسلهم به إلى جميع الأمم قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}.
وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}.
ولهذا ترجم البخاري في صحيحه " باب ما جاء في أن دين الأنبياء واحد " وذكر الحديث الصحيح في ذلك وهو الإسلام العام الذي اتفق عليه جميع النبيين. قال نوح عليه السلام {وأمرت أن أكون من المسلمين} وقال تعالى في قصة إبراهيم: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} وقال تعالى: {قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}. وقال في قصة بلقيس: {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} وقال: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا}.
وهذا التوحيد الذي هو أصل الدين هو أعظم العدل وضده وهو الشرك أعظم الظلم كما أخرجا في الصحيحين عن {عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال: ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم} "؟ وفي الصحيحين عن {ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} الآية}.
(ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)
وقال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية على قول الله عز وجل: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين}: هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة ودعاء المسألة؛ فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما؛ وهما متلازمان.
فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره ودفعه. وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر. ولهذا أنكر تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرا ولا نفعا. وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك} وقال: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين الضر والنفع القاصر والمتعدي فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم. وهذا كثير في القرآن يبين تعالى أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع.
والضر فهو يدعو للنفع والضر دعاء المسألة ويدعو خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة. وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. وعلى هذا فقوله: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} يتناول نوعي الدعاء. وبكل منهما فسرت الآية. قيل: أعطيه إذا سألني.
وقيل: أثيبه إذا عبدني. والقولان متلازمان. وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ بل هذا استعماله في حقيقته المتضمنة للأمرين جميعا فتأمله فإنه موضوع عظيم النفع وقل ما يفطن له. وأكثر آيات القرآن دالة على معنيين فصاعدا فهي من هذا القبيل. مثال ذلك قوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} فسر " الدلوك " بالزوال وفسر بالغروب وليس بقولين؛ بل اللفظ يتناولهما معا؛ فإن الدلوك هو الميل. ودلوك الشمس ميلها. ولهذا الميل مبتدأ ومنتهى فمبتدؤه الزوال ومنتهاه الغروب واللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار. ومثاله أيضا تفسير " الغاسق " بالليل وتفسيره بالقمر.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 315)
من صــ 421 الى صـ 435
فإن ذلك ليس باختلاف؛ بل يتناولهما لتلازمهما. فإن القمر آية الليل. ونظائره كثيرة. ومن ذلك قوله تعالى {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} أي دعاؤكم إياه وقيل: دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول ومحل الأول مضافا إلى الفاعل وهو الأرجح من القولين. وعلى هذا فالمراد به نوعي الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر أي ما يعبأ بكم لولا أنكم ترجونه وعبادته تستلزم مسألته. فالنوعان داخلان فيه.
ومن ذلك قوله تعالى {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر؛ ولهذا أعقبه: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} الآية. ويفسر الدعاء في الآية بهذا وهذا. وروى الترمذي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - على المنبر - " {إن الدعاء هو العبادة. ثم قرأ قوله تعالى {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} الآية} قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وأما قوله تعالى {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} الآية. وقوله: {إن يدعون من دونه إلا إناثا} الآية. وقوله: {وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل} الآية. وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأوثانهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة فهو في دعاء العبادة أظهر؛ لوجوه ثلاثة: " أحدها " أنهم قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم عبادتهم لهم. " الثاني " أن الله تعالى: فسر هذا الدعاء في موضع آخر كقوله تعالى: {وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون} {من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون} وقوله تعالى {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}. وقوله تعالى {لا أعبد ما تعبدون} فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم.
" الثالث " أنهم كانوا يعبدونها في الرخاء فإذا جاءتهم الشدائد دعوا الله وحده وتركوها ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة. وقوله تعالى {فادعوا الله مخلصين له الدين} هو دعاء العبادة والمعنى اعبدوه وحده وأخلصوا عبادته لا تعبدوا معه غيره.
وأما قول إبراهيم عليه السلام {إن ربي لسميع الدعاء} فالمراد بالسمع هاهنا السمع الخاص وهو سمع الإجابة والقبول لا السمع العام؛ لأنه سميع لكل مسموع. وإذا كان كذلك فالدعاء: دعاء العبادة ودعاء الطلب وسمع الرب تعالى له إثابته على الثناء وإجابته للطلب فهو سميع هذا وهذا. وأما قول زكريا عليه السلام {ولم أكن بدعائك رب شقيا} فقد قيل: إنه دعاء المسألة والمعنى: أنك عودتني إجابتك ولم تشقني بالرد والحرمان؛ فهو توسل إليه سبحانه وتعالى بما سلف من إجابته وإحسانه وهذا ظاهر هاهنا.
وأما قوله تعالى {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} الآية: فهذا الدعاء: المشهور أنه دعاء المسألة وهو سبب النزول. قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه فيقول مرة: " يا الله " ومرة " يا رحمن " فظن المشركون أنه يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية. وأما قوله {إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} فهذا دعاء العبادة المتضمن للسلوك رغبة ورهبة والمعنى: إنا كنا نخلص له العبادة؛ وبهذا استحقوا أن وقاهم الله عذاب السموم لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره؛ فإنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض {لن ندعو من دونه إلها} أي: لن نعبد غيره. وكذا قوله: {أتدعون بعلا} الآية. وأما قوله: {وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم} فهذا دعاء المسألة يكبتهم الله ويخزيهم يوم القيامة بآرائهم أن شركاءهم لا يستجيبون لهم دعوتهم وليس المراد اعبدوهم. وهو نظير قوله تعالى {ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم}.
إذا عرف هذا: فقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} يتناول نوعي الدعاء؛ لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن دعاء العبادة ولهذا أمر بإخفائه وإسراره. قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت أي ما كانت إلا همسا بينهم وبين ربهم عز وجل؛ وذلك أن الله عز وجل يقول: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} وأنه ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله فقال: {إذ نادى ربه نداء خفيا}. وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة: " أحدها " أنه أعظم إيمانا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي. و " ثانيها " أنه أعظم في الأدب والتعظيم لأن الملوك لا ترفع الأصوات عندهم ومن رفع صوته لديهم مقتوه ولله المثل الأعلى فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.
و " ثالثها " أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه. وذلت جوارحه وخشع صوته؛ حتى أنه ليكاد تبلغ ذلته وسكينته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق. وقلبه يسأل طالبا مبتهلا ولسانه لشدة ذلته ساكتا وهذه الحال لا تأتي مع رفع الصوت بالدعاء أصلا. و " رابعها " أنه أبلغ في الإخلاص. و " خامسها " أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء فإن رفع الصوت يفرقه فكلما خفض صوته كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو سبحانه.
و " سادسها " - وهو من النكت البديعة جدا - أنه دال على قرب صاحبه للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله عز وجل: {إذ نادى ربه نداء خفيا}فلما استحضر القلب قرب الله عز وجل وأنه أقرب إليه من كل قريب أخفى دعاءه ما أمكنه. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح: {لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال: أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا إن الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته} ". وقد قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص ليس قربا عاما من كل أحد فهو قريب من داعيه وقريب من عابديه وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وقوله تعالى {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} فيه الإرشاد والإعلام بهذا القرب. و " سابعها " أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يمل اللسان وتضعف قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر فإذا رفع صوته فإنه لا يطول له؛ بخلاف من خفض صوته. و " ثامنها " أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات؛فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل على هذا تشويش ولا غيره وإذا جهر به فرطت له الأرواح البشرية ولا بد ومانعته وعارضته ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفزع عليه همته؛ فيضعف أثر الدعاء ومن له تجربة يعرف هذا فإذا أسر الدعاء أمن هذه المفسدة. و " تاسعها " أن أعظم النعمة الإقبال والتعبد ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة فإن أنفس الحاسدين متعلقة بها وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد.
وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام {لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا} الآية. وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله تعالى قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار؛ ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله تعالى ولا يطلع عليه أحد والقوم أعظم شيئا كتمانا لأحوالهم مع الله عز وجل وما وهب الله من محبته والأنس به وجمعية القلب ولا سيما فعله للمهتدي السالك فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبت أصول تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه - بحيث لا يخشى عليه من العواصف فإنه إذا أبدى حاله مع الله تعالى ليقتدى به ويؤتم به - لم يبال. وهذا باب عظيم النفع إنما يعرفه أهله.
وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله تعالى فهو من عظيم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء عن أعين الحاسدين وهذه فائدة شريفة نافعة. و " عاشرها " أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه وتعالى متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه فهو ذكر وزيادة كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه للطلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " {أفضل الدعاء الحمد لله} " فسمى الحمد لله دعاء وهو ثناء محض؛ لأن الحمد متضمن الحب والثناء والحب أعلى أنواع الطلب؛ فالحامد طالب للمحبوب فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب؛ فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب فهو دعاء حقيقة بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه.
و " المقصود " أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه وقد قال تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة} فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكره في نفسه قال مجاهد وابن جريج: أمروا أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح وتأمل كيف قال في آية الذكر: {واذكر ربك} الآية.
وفي آية الدعاء: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} فذكر التضرع فيهما معا وهو التذلل والتمسكن والانكسار وهو روح الذكر والدعاء. وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها؛ ولا بد لمن أكثر من ذكر الله أن يثمر له ذلك محبته والمحبة ما لم تقترن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل تضره؛ لأنها توجب التواني والانبساط وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أن استغنوا بها عن الواجبات وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله.
ومحبته له فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل. ولقد حدثني رجلا أنه أنكر على بعض هؤلاء خلوة له ترك فيها الجمعة فقال له الشيخ أليس الفقهاء يقولون: إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط؟ فقال له: بلى. فقال له: فقلب المريد أعز عليه من عشرة دراهم - أو كما قال - وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه. فقال له: هذا غرور بك الواجب الخروج إلى أمر الله عز وجل. فتأمل هذا الغرور العظيم كيف أدى إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها وهو يظن أنه من خاصة الخاصة.
وسبب هذا عدم اقتران الخوف من الله بحبه وإرادته؛ ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن. والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما كلها شيء كالخائف الذي معه سوط يضرب به مطيته؛ لئلا تخرج عن الطريق.
والرجا حاد يحدوها يطلب لها السير والحب قائدها وزمامها الذي يشوقها فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا يردها إذا حادت عن الطريق خرجت عن الطريق وظلت عنها. فما حفظت حدود الله ومحارمه ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته فمتى خلا القلب من هذه الثلاث فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه فتأمل أسرار القرآن وحكمته في اقتران الخيفة بالذكر والخفية بالدعاء مع دلالته على اقتران الخفية بالدعاء والخيفة بالذكر أيضا وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء؛ لأن الدعاء مبني عليه فإن الداعي ما لم يطمع في سؤاله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبه؛ إذ طلب ما لا طمع له فيه ممتنع وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه فذكر في كل آية ما هو اللائق بها من الخوف والطمع فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور.
وقوله تعالى {إنه لا يحب المعتدين} قيل المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك. وقد روى أبو داود في سننه عن {عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء} وعلى هذا فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات.
وتارة يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية: من الحاجة إلى الطعام والشراب. ويسأله بأن يطلعه على غيبه أو أن يجعله من المعصومين أو يهب له ولدا من غير زوجة ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله. وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضا في الدعاء. وبعد: فالآية أعم من ذلك كله وإن كان الاعتداء بالدعاء مرادا بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شيء: دعاء كان أو غيره؛ كما قال تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وعلى هذا: فيكون أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان وهم يدعون معه غيره فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا؛ فإن أعظم العدوان الشرك وهو وضع العبادة في غير موضعها فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلا في قوله تعالى {إنه لا يحب المعتدين} ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع؛ بل دعاء هذا كالمستغني المدلي على ربه وهذا من أعظم الاعتداء لمنافاته لدعاء الذليل.
فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد. ومن الاعتداء أن يعبده بما لم يشرع ويثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه فإن هذا اعتداء في دعائه: الثناء والعبادة وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب. وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين: " أحدهما " محبوب للرب سبحانه وهو الدعاء تضرعا وخفية. " الثاني " مكروه له مسخوط وهو الاعتداء فأمر بما يحبه وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير وهو لا يحب فاعله ومن لا يحبه الله فأي خير يناله؟ وقوله تعالى {إنه لا يحب المعتدين} عقيب قوله: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم؛ فقسمت الآية الناس إلى قسمين؛ داع لله تضرعا وخفية ومعتد بترك ذلك.
وقوله تعالى {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والداعي إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله مفسد فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم الفساد في الأرض بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو الشرك بالله ومخالفة أمره.
قال الله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} قال عطية في الآية: ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم. وقال غير واحد من السلف: إذا قحط المطر فالدواب تلعن عصاة بني آدم فتقول: اللهم العنهم فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر. و " بالجملة " فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره أو مطاع متبع غير الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعظم الفساد في الأرض ولا صلاح لها ولأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن أمر بمعصيته فلا سمع ولا طاعة: فإن الله أصلح الأرض برسوله صلى الله عليه وسلم ودينه وبالأمر بالتوحيد ونهى عن فسادها بالشرك به ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك؛ فسببه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى غير الله.
ومن تدبر هذا حق التدبر وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي غيره عموما وخصوصا ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى {وادعوه خوفا وطمعا} إنما ذكر الأمر بالدعاء لما ذكره معه من الخوف والطمع فأمر أولا بدعائه تضرعا وخفية ثم أمر أيضا أن يكون الدعاء خوفا وطمعا. وفصل الجملتين بجملتين: " إحداهما " خبرية ومتضمنة للنهي وهي قوله: {إنه لا يحب المعتدين}.
و " الثانية " طلبية. وهي قوله تعالى {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} والجملتان مقررتان للجملة الأولى مؤكدتان لمضمونها. ثم لما تم تقريرها وبيان ما يضاده أمر بدعائه خوفا وطمعا؛ لتعلق قوله {إنه لا يحب المعتدين} بقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية}. ولما كان قوله: {وادعوه خوفا وطمعا} مشتملا على جميع مقامات الإيمان والإحسان وهي الحب والخوف والرجاء: عقبها بقوله {إن رحمة الله قريب من المحسنين} أي: إنما تنال من دعاه خوفا وطمعا فهو المحسن والرحمة قريب منه؛ لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة. ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابل الاعتداء بعدم التضرع والخفية عقب ذلك بقوله تعالى: {إنه لا يحب المعتدين}. وانتصاب قوله: {تضرعا وخفية} {خوفا وطمعا} على الحال أي ادعوه متضرعين إليه مختفين خائفين مطيعين.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 316)
من صــ 436 الى صـ 450
وقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور هو الإحسان المطلوب منكم ومطلوبكم أنتم من الله رحمته ورحمته قريب من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه تضرعا وخفية وخوفا وطمعا. فقرر مطلوبكم منه وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم. وقوله تعالى {إن رحمة الله قريب من المحسنين} له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله بمفهومه. فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان وهو السبب في قرب الرحمة منهم ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين.
فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة؛ وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة لأنها إحسان من الله عز وجل أرحم الراحمين وإحسانه تبارك وتعالى إنما يكون لأهل الإحسان؛ لأن الجزاء من جنس العمل وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة بعد ببعد وقرب بقرب فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته. والله سبحانه يحب المحسنين ويبغض من ليس من المحسنين ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه الله فرحمته أبعد شيء منه والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله تعالى والإقبال إليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابة وحياء ومحبة وخشية.
فهذا هو مقام " الإحسان " كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان؛ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه} " فإذا كان هذا هو الإحسان فرحمته قريب من صاحبه؛ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة؟. وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: {قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ثم قال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة} ". آخر الكلام على الآيتين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
(قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين (88) قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (89)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
قوله سبحانه: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين} {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} ظاهره دليل على أن شعيبا والذين آمنوا معه كانوا على ملة قومهم؛ لقولهم: {أو لتعودن في ملتنا} ولقول شعيب: (أنعود فيها {أولو كنا كارهين} ولقوله: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم} فدل على أنهم كانوا فيها. ولقوله: {بعد إذ نجانا الله منها}.
فدل على أن الله أنجاهم منها بعد التلوث بها؛ ولقوله: {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} ولا يجوز أن يكون الضمير عائدا على قومه؛ لأنه صرح فيه بقوله: {لنخرجنك يا شعيب} ولأنه هو المحاور له بقوله: {أولو كنا كارهين} إلى آخرها وهذا يجب أن يدخل فيه المتكلم ومثل هذا في سورة إبراهيم {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين} الآية.
وقال شيخ الإسلام:
هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ فيها،
ومنها قوله: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا} الآية وما في معناها. التحقيق: أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه حتى في النسب كما في حديث هرقل. ومن نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص إذا كان على مثل دينهم إذا كان معروفا بالصدق والأمانة وفعل ما يعرفون وجوبه وترك ما يعرفون قبحه. قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} فلم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب وليس في هذا ما ينفر عن القبول منهم؛ ولهذا لم يذكره أحد من المشركين قادحا. وقد اتفقوا على جواز بعثة رسول لا يعرف ما جاءت به الرسل قبله من النبوة والشرائع وأن من لم يقر بذلك بعد الرسالة فهو كافر،كافر والرسل قبل الوحي لا تعلمه فضلا عن أن تقر به. قال تعالى: {ينزل الملائكة بالروح من أمره} الآية. وقال: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق} فجعل إنذارهم بالتوحيد كالإنذار بيوم التلاق وكلاهما عرفوه بالوحي.
وما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بغضت إليه الأوثان لا يجب أن يكون لكل نبي فإنه سيد ولد آدم والرسول الذي ينشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم يكون أكمل من غيره من جهة تأييد الله له بالعلم والهدى وبالنصر والقهر كما كان نوح وإبراهيم. ولهذا يضيف الله الأمر إليهما في مثل قوله: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم} الآية. {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم} الآية. وذلك أن نوحا أول رسول بعث إلى المشركين وكان مبدأ شركهم من تعظيم الموتى الصالحين. وقوم إبراهيم مبدؤه من عبادة الكواكب ذاك الشرك الأرضي وهذا السماوي؛ ولهذا سد صلى الله عليه وسلم ذريعة هذا وهذا.
(وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون (137)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
قد أخبر الله بأنه بارك في أرض الشام في آيات: منها قوله: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها}. ومنها قوله: {ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}. ومنها قوله: {تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين}. ومنها قوله: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة} وهي قرى الشام وتلك قرى اليمن والتي بينهما قرى الحجاز ونحوها وبادت. ومنها قوله: {إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
وقال تعالى: {ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} وإنما دمر ما بنوه وعرشوه فأما الأعراض التي قامت بهم فتلك فنيت قبل أن يغرقوا وقوله: {وما كانوا يعرشون} دليل على أن العروش مفعول لهم هم فعلوا العرش الذي فيه وهو التأليف.
(سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (146)
وقال شيخ الإسلام:
فصل:
جاء في حديث {إن أكبر الكبائر الكفر والكبر} وهذا صحيح فإن هذين الذنبين أساس كل ذنب في الإنس والجن فإن إبليس هو الذي فعل ذلك أولا وهو أصل ذلك. قال الله تعالى: {إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} وقال: {إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين} وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر} فجعل الكبر يضاد الإيمان. وكذلك الشرك في مثل قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} وقال ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من مات وهو لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة} قال: وأنا أقول: من مات وهو يشرك بالله شيئا دخل النار.
ثم من الناس من يجمع بينهما ومنهم من ينفرد له أحدهما والمؤمن الصالح عافاه الله منهما فإن الإنسان إما أن يخضع لله وحده أو يخضع لغيره مع خضوعه له أو لا يخضع لا لله ولا لغيره فالأول هو المؤمن والثاني هو المشرك والثالث هو المتكبر الكافر وقد لا يكون كافرا في بعض المواضع والنصارى آفتهم الشرك واليهود آفتهم الكبر كما قال تعالى عن النصارى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} وقال عن اليهود: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} ولهذا عوقبت اليهود بضرب الذلة والمسكنة عليهم والنصارى بالضلال والبدع والجهالة.
(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال ... (157)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فإن أميته - صلى الله عليه وسلم - لم تكن من جهة فقد العلم والقراءة عن ظهر قلب فإنه إمام الأئمة في هذا. وإنما كان من جهة أنه لا يكتب ولا يقرأ مكتوبا. كما قال الله فيه: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك}.
وقد اختلف الناس هل كتب يوم الحديبية بخطه معجزة له؟ أم لم يكتب؟ وكان انتفاء الكتابة عنه مع حصول أكمل مقاصدها بالمنع من طريقها من أعظم فضائله وأكبر معجزاته فإن الله علمه العلم بلا واسطة كتاب معجزة له ولما كان قد دخل في الكتب من التحريف والتبديل وعلم هو صلى الله عليه وسلم أمته الكتاب والحكمة من غير حاجة منه إلى أن يكتب بيده وأما سائر أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وغيرهم فالغالب على كبارهم الكتابة لاحتياجهم إليها إذ لم يؤت أحد منهم من الوحي ما أوتيه صارت أميته المختصة به كمالا في حقه من جهة الغنى بما هو أفضل منها وأكمل ونقصا في حق غيره من جهة فقده الفضائل التي لا تتم إلا بالكتابة.
وقال - رحمه الله تعالى
فالله تعالى أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث والخبائث نوعان:
ما خبثه لعينه لمعنى قام به كالدم والميتة ولحم الخنزير. وما خبثه لكسبه كالمأخوذ ظلما؛ أو بعقد محرم كالربا والميسر. فأما الأول فكل ما حرم ملابسته كالنجاسات حرم أكله وليس كل ما حرم أكله حرمت ملابسته كالسموم والله قد حرم علينا أشياء من المطاعم والمشارب وحرم أشياء من الملابس.
(قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت ... (158)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى جميع الثقلين: إنسهم وجنهم عربهم وعجمهم ملوكهم وزهادهم الأولياء منهم وغير الأولياء فليس لأحد الخروج عن متابعته باطنا وظاهرا ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة في دقيق ولا جليل لا في العلوم ولا الأعمال وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى وأما موسى فلم يكن مبعوثا إلى الخضر.
الثاني: أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر ولهذا لما بين أسبابها لموسى وافقه على ذلك ولو كان مخالفا لشريعته لم يوافقه بحال. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع فإن خرق السفينة مضمونه أن المال المعصوم يجور للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه؛ فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية كما جاز للراعي - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم - أن يذبح الشاة؛ التي خاف عليها الموت وقصة الغلام مضمونها جواز قتل الصبي الصائل ولهذا قال ابن عباس لنجدة: وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم.
وأما إقامة الجدار ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة إذا كان لذرية قوم صالحين.
[فصل: شخصية الرسول وشريعته وأمته، وكرامات الصالحين منها، كل ذلك من آياته]
وسيرة الرسول وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته، وأمته من آياته، وعلم أمته ودينهم من آياته، وكرامات صالح أمته من آياته. وذلك يظهر بتدبر سيرته من حين ولد وإلى أن بعث، ومن حيث بعث إلى أن مات، وتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله، فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا، من صميم سلالة إبراهيم الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلم يأت نبي بعد إبراهيم إلا من ذريته، ونجعل له ابنين: إسماعيل، وإسحاق، وذكر في التوراة هذا وهذا، وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل، ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره، ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولا منهم، ثم من قريش صفوة بني إبراهيم، ثم من بني هاشم صفوة قريش، ومن مكة أم القرى وبلد البيت الذي بناه إبراهيم، ودعا الناس إلى حجه، ولم يزل محجوجا من عهد إبراهيم، مذكورا في كتب الأنبياء بأحسن وصف.
وكان من أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم، مشهودا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، وممن آمن به، وممن كفر بعد النبوة لا يعرف له شيء يعاب به؛ لا في أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جرب عليه كذبة قط، ولا ظلم ولا فاحشة، وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أميا من قوم أميين لا يعرف، لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب: التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئا عن علوم الناس، ولا جالس أهلها، ولم يدع نبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبرنا بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله.
، ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس، وكذبه أهل الرياسة وعادوه، وسعوا في هلاكه وهلاك من اتبعه بكل طريق، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم، والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة، ولا لرهبة،فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم، ولا جهات يوليهم إياها، ولا كان له سيف، بل كان السيف، والمال، والجاه مع أعدائه.
وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى، وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة. وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فتجتمع في الموسم قبائل العرب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابرا على ما يلقاه من تكذيب المكذب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود قد سمعوا أخباره منهم، وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الذي تخبرهم به اليهود، وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كان قد انتشر، وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به، وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم، وعلى الجهاد معه، فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية، ولا برهبة إلا قليلا من الأنصار أسلموا في الظاهر، ثم حسن إسلام بعضهم، ثم أذن له في الجهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائما بأمر الله على أكمل طريقة، وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم، وأوفاهم بالعهد، مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة، وظهوره على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة، وهو - على ذلك - لازم لأكمل الطرق وأتمها، حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان، ومن أخبار الكهان، وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرمة، وقطيعة الأرحام، لا يعرفون آخرة ولا معادا، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم، حتى إن النصارى لما رأوهم - حين قدموا الشام - قالوا:
ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء، وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض، وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين.
وهو صلى الله عليه وسلم مع ظهور أمره، وطاعة الخلق له، وتقديمهم له على الأنفس والأموال، مات صلى الله عليه وسلم ولم يخلف درهما ولا دينارا، ولا شاة ولا بعيرا له، إلا بغلته وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير ابتاعها لأهله، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله، والباقي يصرفه في مصالح المسلمين، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك.
وهو في كل وقت يظهر على يديه من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه، ويخبرهم بخبر ما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء حتى أكمل الله دينه الذي بعث به، وجاءت شريعته أكمل شريعة، لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه، لم يأمر بشيء فقيل ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقيل ليته لم ينه عنه، وأحل الطيبات لم يحرم شيئا منها كما حرم في شرع غيره، وحرم الخبائث لم يحل منها شيئا كما استحله غيره، وجمع محاسن ما عليه الأمم، فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه، وأخبر بأشياء ليست في الكتب.
فليس في الكتب إيجاب لعدل، وقضاء بفضل، وندب إلى الفضائل، وترغيب في الحسنات إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه.
وإذا نظر اللبيب في العبادات التي شرعها، وعبادات غيره من الأمم ظهر فضلها ورجحانها، وكذلك في الحدود والأحكام، وسائر الشرائع.
وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة، فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم، وإن قيس دينهم وعباداتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم، وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم في سبيل الله وصبرهم على المكاره في ذات الله، ظهر أنهم أعظم جهادا وأشجع قلوبا، وإذا قيس سخاؤهم وبذلهم وسماحة أنفسهم بغيرهم، تبين أنهم أسخى وأكرم من غيرهم، وهذه الفضائل به نالوها، ومنه تعلموها، وهو الذي أمرهم بها، لم يكونوا قبله متبعين لكتاب جاء هو بتكميله كما جاء المسيح بتكميل شريعة التوراة.
فكانت فضائل أتباع المسيح وعلومهم بعضها من التوراة، وبعضها من الزبور، وبعضها من النبوات، وبعضها من المسيح، وبعضها ممن بعده كالحواريين، وقد استعانوا بكلام الفلاسفة، وغيرهم حتى أدخلوا - لما غيروا دين المسيح - في دين المسيح أمورا من أمور الكفار المناقضة لدين المسيح.
وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا قبله يقرءون كتابا، بل عامتهم ما آمنوا بموسى وعيسى وداود، والتوراة والإنجيل والزبور إلا من جهته، فهو الذي أمرهم أن يؤمنوا بجميع الأنبياء، ويقروا بجميع الكتب المنزلة من عند الله، ونهاهم أن يفرقوا بين أحد من الرسل، فقال تعالى في الكتاب الذي جاء به:
{قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136] (136) {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 137].
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 317)
من صــ 451 الى صـ 465
وقال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 285 - 286].
وأمته لا يستحلون أن يأخذوا شيئا من الدين من غير ما جاء به، ولا يبتدعون بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فلا يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله.
لكن ما قصه عليهم من أخبار الأنبياء وأممهم اعتبروا به، وما حدثهم أهل الكتاب، موافقا لما عندهم، صدقوه، وما لم يعلموا صدقه ولا كذبه أمسكوا عنه، وما عرفوا أنه باطل كذبوه، ومن أدخل في الدين ما ليس منه من أقوال متفلسفة الهند أو الفرس أو اليونان أو غيرهم، كان - عندهم - من أهل الإلحاد والابتداع، وهذا هو الدين الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون، وهو الذي عليه أئمة الدين، الذين لهم في الأمة لسان صدق، وعليه جماعة المسلمين وعامتهم، ومن خرج عن ذلك كان مذموما مدحورا عند الجماعة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة الظاهرون إلى قيام الساعة، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة».
وقد تنازع بعض المسلمين، مع اتفاقهم على هذا الأصل الذي هو دين الرسل عموما، ودين محمد خصوصا.
ومن خالف في هذا الأصل كان - عندهم - ملحدا مذموما، ليسوا كالنصارى الذين ابتدعوا دينا قام به أكابر علمائهم وعبادهم، وقاتل عليه ملوكهم، ودان به جمهورهم، وهو دين مبتدع ليس هو دين المسيح، ولا دين غيره من الأنبياء.
والله - سبحانه وتعالى - أرسل رسله بالعلم النافع والعمل الصالح، فمن اتبع الرسل، حصل له سعادة الدنيا والآخرة. وإنما دخل في البدع من قصر في اتباع الأنبياء علما وعملا.
ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق تلقى ذلك عنه المسلمون أمته.
فكل علم نافع وعمل صالح عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أخذوه عن نبيهم، مع ما يظهر لكل عاقل: أن أمته أكمل الأمم في جميع الفضائل العلمية والعملية، ومعلوم أن كل كمال في الفرع المتعلم هو من الأصل المعلم، وهذا يقتضي أنه كان أكمل الناس علما ودينا، وهذه الأمور توجب العلم الضروري بأنه كان صادقا في قوله:
{إني رسول الله إليكم جميعا} [الأعراف: 158].
لم يكن كاذبا مفتريا، فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو من خيار الناس وأكملهم إن كان صادقا، أو هو من شر الناس وأخبثهم إن كان كاذبا.
وما ذكر من كمال علمه ودينه، يناقض الشر والخبث والجهل، فتعين أنه متصف بغاية الكمال في العلم والدين، وهذا يستلزم أنه كان صادقا في قوله:
{إني رسول الله} [الأعراف: 158].
لأن الذي لم يكن صادقا: إما أن يكون متعمدا للكذب، أو مخطئا، والأول: يوجب أنه كان ظالما غاويا، والثاني: يقتضي أنه كان جاهلا ضالا، وكمال علمه ينافي جهله، وكمال دينه ينافي تعمد الكذب. فالعلم بصفاته يستلزم العلم بأنه لم يكن متعمدا للكذب، ولم يكن جاهلا يكذب بلا علم، وإذا انتفى هذا وذاك تعين أنه كان صادقا عالما بأنه صادق ; ولهذا نزهه الله عن هذين الأمرين بقوله تعالى:
{والنجم إذا هوى - ما ضل صاحبكم وما غوى - وما ينطق عن الهوى - إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 1 - 4].
وقال تعالى عن الملك الذي جاء به:
{إنه لقول رسول كريم - ذي قوة عند ذي العرش مكين - مطاع ثم أمين} [التكوير: 19 - 21].
، ثم قال عنه:
{وما صاحبكم بمجنون - ولقد رآه بالأفق المبين - وما هو على الغيب بضنين} [التكوير: 22 - 24].
أي: بمتهم أو بخيل، كالذي لا يعلم إلا بجعل، أو لمن يكرمه:{وما هو بقول شيطان رجيم - فأين تذهبون - إن هو إلا ذكر للعالمين} [التكوير: 25 - 27].
وقال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين - نزل به الروح الأمين - على قلبك لتكون من المنذرين - بلسان عربي مبين} [الشعراء: 192 - 195].
إلى قوله:
{هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - تنزل على كل أفاك أثيم - يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [الشعراء: 221 - 223].
بين سبحانه أن الشيطان إنما ينزل على من يناسبه ليحصل به غرضه، فإن الشيطان يقصد الشر: وهو الكذب والفجور، ولا يقصد الصدق والعدل، فلا يقترن إلا بمن فيه كذب، إما عمدا وإما خطأ، فإن الخطأ في الدين هو من الشيطان أيضا، كما قال ابن مسعود - لما سئل عن مسألة -: " أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه ".
فالرسول بريء من تنزل الشيطان عليه في العمد والخطأ، بخلاف غير الرسول، فإنه قد يخطئ، ويكون خطؤه من الشيطان، وإن كان خطؤه مغفورا له، فإذا لم يعرف له خبر أخبر به كان فيه مخطئا، ولا أمر أمر به كان فيه فاجرا، علم أن الشيطان لم ينزل عليه، وإنما ينزل عليه ملك كريم ; ولهذا قال في الآية الأخرى عن النبي:
{إنه لقول رسول كريم - وما هو بقول شاعر - قليلا ما تؤمنون - ولا بقول كاهن - قليلا ما تذكرون - تنزيل من رب العالمين} [الحاقة: 40 - 43].
(واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون (163)
(فصل في أن الإيجاب والتحريم " قد يكون نعمة؛ وقد يكون عقوبة؛ وقد يكون محنة)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
" الإيجاب والتحريم " قد يكون نعمة؛ وقد يكون عقوبة؛ وقد يكون محنة. فالأول كإيجاب الإيمان والمعروف؛ وتحريم الكفر والمنكر وهو الذي أثبته القائلون بالحسن والقبح العقليين والعقوبة كقوله: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وقوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما} إلى قوله: {ذلك جزيناهم ببغيهم} وقوله: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} فسماها آصارا وأغلالا والآصار في الإيجاب والأغلال في التحريم. وقوله: {ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} ويشهد له قوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} فإن هذا النفي العام ينفي كل ما يسمى حرجا،والحرج: الضيق فما أوجب الله ما يضيق؛ ولا حرم ما يضيق وضده السعة والحرج مثل الغل وهو: الذي لا يمكنه الخروج منه مع حاجته إلى الخروج وأما المحنة فمثل قوله: {إن الله مبتليكم بنهر} الآية. ثم ذلك قد يكون بإنزال الخطاب وهذا لا يكون إلا في زمن الأنبياء وقد انقطع. وقد يكون بإظهار الخطاب لمن لم يكن سمعه؛ ثم سمعه وقد يكون باعتقاد نزول الخطاب أو معناه وإن كان اعتقادا مخطئا لأن الحكم الظاهر تابع لاعتقاد المكلف. فالتكليف الشرعي إما أن يكون باطنا وظاهرا؛ مثل الذي تيقن أنه منزل من عند الله. وإما أن يكون ظاهرا؛ مثل الذي يعتقد أن حكم الله هو الإيجاب أو التحريم؛ إما اجتهادا وإما تقليدا وإما جهلا مركبا بأن نصب سبب يدل على ذلك ظاهرا دون ما يعارضه تكليف ظاهر؛ إذ المجتهد المخطئ مصيب في الظاهر لما أمر به؛ وهو مطيع في ذلك هذا من جهة الشرع وقد يكون من جهة الكون بأن يخلق سبحانه ما يقتضي وجود التحريم الثابت بالخطاب والوجوب الثابت بالخطاب كقوله: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} فأخبر أنه بلاهم بفسقهم حيث أتى بالحيتان يوم التحريم ومنعها يوم الإباحة. كما يؤتى المحرم المبتلى بالصيد يوم إحرامه. ولا يؤتى به يوم حله؛ أو يؤتى بمن يعامله ربا ولا يؤتى بمن يعامله بيعا. ومن ذلك مجيء الإباحة والإسقاط نعمة وهذا كثير كقوله: {الآن خفف الله عنكم} وقد تقدم نظائرها.
(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172)
[فصل البرهان التاسع والثلاثون " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم " والجواب عليه]
فصل
قال الرافضي.: " البرهان التاسع والثلاثون: قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [سورة الأعراف: 172] في. كتاب " الفردوس "
لابن شيرويه يرفعه عن حذيفة بن اليمان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سمي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد. قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} [سورة الأعراف: 172]. قالت الملائكة: بلى، فقال - تبارك وتعالى - أنا ربكم، ومحمد نبيكم، وعلي أميركم». وهو صريح في الباب ".
والجواب من وجوه: أحدها: منع الصحة، والمطالبة بتقريرها. وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أن مجرد رواية صاحب " الفردوس " لا تدل على أن الحديث صحيح، فابن شيرويه الديلمي الهمذاني ذكر في هذا الكتاب أحاديث كثيرة صحيحة وأحاديث حسنة * وأحاديث موضوعة، وإن كان من أهل العلم والدين، ولم يكن ممن يكذب هو، لكنه نقل ما في كتب الناس، والكتب *. فيها الصدق والكذب، ففعل. كما فعل كثير من الناس في جمع الأحاديث: إما بالأسانيد، وإما محذوفة الأسانيد.
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. .
الثالث: أن الذي في القرآن أنه قال: {ألست بربكم قالوا بلى} ليس فيه ذكر النبي ولا الأمير، وفيه قوله: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} [سورة الأعراف: 173]. فدل على أنه ميثاق التوحيد خاصة ; ليس فيه ميثاق النبوة ; فكيف ما دونها؟.
الرابع: أن الأحاديث المعروفة في هذا، التي في المسند والسنن والموطأ. وكتب التفسير وغيرها، ليس فيها شيء من هذا. ولو كان ذلك مذكورا في الأصل لم يهمله جميع الناس، وينفرد به من لا يعرف صدقه، بل يعرف أنه كذب.
الخامس: أن الميثاق أخذ على جميع الذرية، فيلزم أن يكون علي أميرا على الأنبياء كلهم، من نوح إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا كلام المجانين ; فإن أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله عليا، فكيف يكون أميرا عليهم؟.
وغاية ما يمكن أن يكون أميرا على أهل زمانه. أما الإمارة على من خلق قبله، وعلى من يخلق بعده، فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول، ولا يستحي فيما يقول. .
ومن العجب أن هذا الحمار الرافضي الذي. هو أحمر من عقلاء اليهود، الذين قال الله فيهم: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} [سورة الجمعة: 5]. والعامة معذورون في
قولهم: الرافضي حمار اليهودي، وذلك أن عقلاء اليهود يعلمون أن هذا ممتنع عقلا وشرعا، وأن هذا كما يقال: خر عليهم السقف من تحتهم فيقال.: لا عقل ولا قرآن.
وكذلك كون علي أميرا على ذرية آدم كلهم.، وإنما ولد بعد موت آدم بألوف السنين، وأن يكون أميرا على الأنبياء الذين هم متقدمون عليه في الزمان والمرتبة، وهذا من جنس قول ابن عربي الطائي وأمثاله من ملاحدة المتصوفة. الذين يقولون إن الأنبياء كانوا يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، الذي وجد بعد محمد بنحو ستمائة سنة 206. فدعوى هؤلاء في الإمامة من جنس دعوى هؤلاء في الولاية، وكلاهما يبني أمره على الكذب والغلو والشرك والدعاوي الباطلة، ومناقضة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
ثم إن هذا الحمار الرافضي يقول: " وهو صريح في الباب " فهل يكون هذا حجة عند أحد من أولي الألباب؟ أو يحتج بهذا من يستحق.
أو يؤهل للخطاب؟ فضلا عن أن يحتج به في تفسيق خيار هذه الأمة وتضليلهم وتكفيرهم وتجهيلهم؟.
ولولا أن هذا المعتدي الظالم قد اعتدى على خيار أولياء الله، وسادات أهل الأرض، خير خلق الله بعد النبيين اعتداء يقدح في الدين، ويسلط الكفار والمنافقين، ويورث الشبه والضعف عند كثير من المؤمنين - لم يكن بنا حاجة إلى كشف أسراره، وهتك أستاره، والله حسيبه وحسيب أمثاله.
(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180)
وسئل:
عمن قال: لا يجوز الدعاء إلا بالتسعة والتسعين اسما ولا يقول: يا حنان يا منان ولا يقول: يا دليل الحائرين فهل له أن يقول ذلك؟.
فأجاب:
الحمد لله، هذا القول وإن كان قد قاله طائفة من المتأخرين كأبي محمد بن حزم وغيره؛ فإن جمهور العلماء على خلافه وعلى ذلك مضى سلف الأمة وأئمتها وهو الصواب لوجوه.
أحدها أن التسعة والتسعين اسما لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي حمزة وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث وفيها حديث ثان أضعف من هذا. رواه ابن ماجه. وقد روي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف. وهذا القائل الذي حصر أسماء الله في تسعة وتسعين لم يمكنه استخراجها من القرآن وإذا لم يقم على تعيينها دليل يجب القول به لم يمكن أن يقال هي التي يجوز الدعاء بها دون غيرها؛ لأنه لا سبيل إلى تمييز المأمور من المحظور فكل اسم يجهل حاله يمكن أن يكون من المأمور ويمكن أن يكون من المحظور وإن قيل: لا تدعوا إلا باسم له ذكر في الكتاب والسنة. قيل: هذا أكثر من تسعة وتسعين.
الوجه الثاني: أنه إذا قيل تعيينها على ما في حديث الترمذي مثلا ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث مثل اسم " الرب " فإنه ليس في حديث الترمذي وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الاسم كقول آدم: {ربنا ظلمنا أنفسنا}. وقول نوح: {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم} وقول إبراهيم: {ربنا اغفر لي ولوالدي} وقول موسى: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} وقول المسيح: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء} وأمثال ذلك.
حتى أنه يذكر عن مالك وغيره أنهم كرهوا أن يقال يا سيدي بل يقال: يا رب لأنه دعاء النبيين وغيرهم كما ذكر الله في القرآن. وكذلك اسم " المنان " ففي الحديث الذي رواه أهل السنن {أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع داعيا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الملك أنت الله المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى} وهذا رد لقول من زعم أنه لا يمكن في أسمائه المنان. وقد قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - لرجل ودعه قل: يا دليل الحائرين دلني على طريق الصادقين واجعلني من عبادك الصالحين.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الاعراف
المجلد الثامن
الحلقة( 318)
من صــ 466 الى صـ 480
وقد أنكر طائفة من أهل الكلام: كالقاضي أبي بكر وأبي الوفاء ابن عقيل أن يكون من أسمائه الدليل؛ لأنهم ظنوا أن الدليل هو الدلالة التي يستدل بها والصواب ما عليه الجمهور؛ لأن الدليل في الأصل هو المعرف للمدلول ولو كان الدليل ما يستدل به فالعبد يستدل به أيضا فهو دليل من الوجهين جميعا.
وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله وتر يحب الوتر}. وليس هذا الاسم في هذه التسعة والتسعين وثبت عنه في الصحيح أنه " قال: {إن الله جميل يحب الجمال} وليس هو فيها وفي الترمذي وغيره أنه قال: {إن الله نظيف يحب النظافة} وليس هذا فيها وفي الصحيح عنه أنه قال: {إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا} وليس هذا فيها. وتتبع هذا يطول. ولفظ التسعة والتسعين المشهورة عند الناس في الترمذي: الله. الرحمن. الرحيم. الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الحبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي القيوم. الواجد. الماجد. الأحد - ويروى الواحد - الصمد القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعالي. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرءوف. مالك الملك ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المعطي. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور.
الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ". ومن أسمائه التي ليست في هذه التسعة والتسعين اسمه: السبوح وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {سبوح قدوس} واسمه " الشافي " كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول: {أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقما} وكذلك أسماؤه المضافة مثل: أرحم الراحمين وخير الغافرين ورب العالمين ومالك يوم الدين وأحسن الخالقين وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ومقلب القلوب وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة وثبت في الدعاء بها بإجماع المسلمين وليس من هذه التسعة والتسعين. الوجه الثالث: ما احتج به الخطابي وغيره وهو حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك.
أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم في الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي وشفاء صدري وجلاء حزني وذهاب غمي وهمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلمهن؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن} رواه الإمام أحمد في المسند وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه. قال الخطابي وغيره: فهذا يدل على أن له أسماء استأثر بها وذلك يدل على أن قوله: {إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة} أن في أسمائه تسعة وتسعين من أحصاها دخل الجنة كما يقول القائل: إن لي ألف درهم أعددتها للصدقة وإن كان ماله أكثر من ذلك. والله في القرآن قال: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} فأمر أن يدعى بأسمائه الحسنى مطلقا ولم يقل: ليست أسماؤه الحسنى إلا تسعة وتسعين اسما والحديث قد سلم معناه والله أعلم.
(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)
فأمره أن يأخذ بالعفو في أخلاق الناس وهو ما يقر من ذلك. قال ابن الزبير: أمر الله نبيه أن يأخذ بالعفو من أخلاق الناس وهذا كقوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} من أموالهم. هذا من العفو ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين.
وهذه الآية فيها جماع الأخلاق الكريمة؛ فإن الإنسان مع الناس إما أن يفعلوا معه غير
ما يحب أو ما يكره. فأمر أن يأخذ منهم ما يحب ما سمحوا به ولا يطالبهم بزيادة. وإذا فعلوا معه ما يكره أعرض عنهم وأما هو فيأمرهم بالمعروف. وهذا باب واسع.
(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201) وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون (202)
إن " المتقين " كما وصفهم الله بقوله: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} فإذا طاف بقلوبهم طائف من الشيطان تذكروا فيبصرون.
قال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله؛ فيكظم الغيظ. وقال ليث عن مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه. والشهوة والغضب مبدأ السيئات فإذا أبصر رجع.
ثم قال: {وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون}. أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون. قال ابن عباس: لا الإنس تقصر عن السيئات. ولا الشياطين تمسك عنهم. فإذا لم يبصر بقي قلبه في غي والشيطان يمده في غيه. وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب. فذلك النور والإبصار. وتلك الخشية والخوف يخرج من قلبه. وهذا: كما أن الإنسان يغمض عينيه فلا يرى شيئا وإن لم يكن أعمى؛ فكذلك القلب بما يغشاه من رين الذنوب لا يبصر الحق. وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر. وهكذا جاء في الآثار: قال أحمد بن حنبل في كتاب (الإيمان): حدثنا يحيى عن أشعث عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ينزع منه الإيمان؛ فإن تاب أعيد إليه}. وقال: حدثنا يحيى عن عوف قال: قال الحسن: " يجانبه الإيمان ما دام كذلك فإن راجع راجعه الإيمان ". وقال أحمد: حدثنا معاوية عن أبي إسحاق عن الأوزاعي قال: وقد قلت للزهري حين ذكر هذا الحديث - {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} فإنهم يقولون: فإن لم يكن مؤمنا فما هو؟ قال: فأنكر ذلك. وكره مسألتي عنه.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي. عن سفيان عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوجناه لا يزني منكم زان إلا نزع الله منه نور الإيمان فإن شاء أن يرده رده وإن شاء أن يمنعه منعه. وقال أبو داود السجستاني: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية بن الوليد حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الله بن ربيعة الحضرمي أنه أخبره {عن أبي هريرة أنه كان يقول: إنما الإيمان كثوب أحدكم يلبسه مرة ويقلعه أخرى} وكذلك رواه بإسناده عن عمر وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وفي حديث عن أبي هريرة مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم {إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة فإذا انقطع رجع إليه الإيمان}. وهذا (إن شاء الله) يبسط في موضع آخر.
(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204)
أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة وأن القراءة في الصلاة مرادة من هذا النص. ولهذا كان أعدل الأقوال في القراءة خلف الإمام أن المأموم إذا سمع قراءة الإمام يستمع لها وينصت لا يقرأ بالفاتحة ولا غيرها وإذا لم يسمع قراءته بها يقرأ الفاتحة وما زاد وهذا قول جمهور السلف والخلف وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابه وهو أحد قولي الشافعي واختاره طائفة من محققي أصحابه وهو قول محمد بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة.
وأما قول طائفة من أهل العلم كأبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يقرأ خلف الإمام لا بالفاتحة ولا غيرها لا في السر ولا في الجهر؛ فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما. وفيها قول ثالث: أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام وهذا مروي عن الليث والأوزاعي وهو اختيار جدي أبي البركات.
ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور؛ لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام: هل تبطل صلاته؟ على قولين وقد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد على وجهين في مذهب أحمد.
وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعا لقراءة إمامه خير من أن يقرأ معه فعلم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام وعلى هذا فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها وهذا خلاف إذا لم يسمع فإن كونه تاليا لكتاب الله يثاب بكل حرف عشر حسنات خيرا من كونه ساكتا بلا فائدة؛ بل يكون عرضة للوسواس وحديث النفس الذي لا ثواب فيه فقراءة يثاب عليها خيرا من حديث نفس لا ثواب عليه. وبسط هذا له موضع آخر.
(واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين (205)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
قال الله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال} فأمر بذكر الله في نفسه فقد يقال: هو ذكره في قلبه بلا لسانه؛ لقوله بعد ذلك: {ودون الجهر من القول} وقد يقال وهو أصح: بل ذكر الله في نفسه باللسان مع القلب وقوله: {ودون الجهر من القول} كقوله: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}. وفي الصحيح عن عائشة قالت نزلت في الدعاء. وفي الصحيح عن {ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن أنزل عليه فقال الله: لا تجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت به عن أصحابك فلا يسمعوه}. فنهاه عن الجهر والمخافتة. فالمخافتة هي ذكره في نفسه والجهر المنهي عنه هو الجهر المذكور في قوله: {ودون الجهر}
لا يقرأ خلف الإمام لا بالفاتحة ولا غيرها لا في السر ولا في الجهر؛ فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما. وفيها قول ثالث: أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام وهذا مروي عن الليث والأوزاعي وهو اختيار جدي أبي البركات. ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور؛ لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام: هل تبطل صلاته؟ على قولين وقد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد على وجهين في مذهب أحمد. وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعا لقراءة إمامه خير من أن يقرأ معه فعلم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام وعلى هذا فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها وهذا خلاف إذا لم يسمع فإن كونه تاليا لكتاب الله يثاب بكل حرف عشر حسنات خيرا من كونه ساكتا بلا فائدة؛ بل يكون عرضة للوسواس وحديث النفس الذي لا ثواب فيه فقراءة يثاب عليها خيرا من حديث نفس لا ثواب عليه. وبسط هذا له موضع آخر.
فإن الجهر هو الإظهار الشديد يقال: رجل جهوري الصوت ورجل جهير. وكذلك قول عائشة في الدعاء فإن الدعاء كما قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} وقال: {إذ نادى ربه نداء خفيا} فالإخفاء قد يكون بصوت يسمعه القريب وهو المناجاة والجهر مثل المناداة المطلقة وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم {لما رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير فقال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته} " ونظير قوله: {واذكر ربك في نفسك} قوله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه
" {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي. ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} " وهذا يدخل فيه ذكره باللسان في نفسه فإنه جعله قسيم الذكر في الملأ وهو نظير قوله: {ودون الجهر من القول} والدليل على ذلك أنه قال: {بالغدو والآصال} ومعلوم أن ذكر الله المشروع بالغدو والآصال في الصلاة وخارج الصلاة هو باللسان مع القلب مثل صلاتي الفجر والعصر والذكر المشروع عقب الصلاتين وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه وفعله من الأذكار والأدعية المأثورة من عمل اليوم والليلة المشروعة طرفي النهار بالغدو والآصال. وقد يدخل في ذلك أيضا ذكر الله بالقلب فقط؛ لكن يكون الذكر في النفس كاملا وغير كامل؛ فالكامل باللسان مع القلب وغير الكامل بالقلب فقط.
ويشبه ذلك قوله تعالى {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} فإن القائلين بأن الكلام المطلق كلام النفس استدلوا بهذه الآية وأجاب عنها أصحابنا وغيرهم بجوابين: " أحدهما " أنهم قالوا بألسنتهم قولا خفيا.
و " الثاني " أنه قيده بالنفس وإذا قيد القول بالنفس فإن دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق. وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم " {إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به} " فقوله حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به دليل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق وأنه ليس باللسان. وقد احتج بعض هؤلاء بقوله: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور} وجعلوا القول المسر في القلب دون اللسان؛ لقوله: {إنه عليم بذات الصدور} وهذه حجة ضعيفة جدا؛ لأن قوله: {وأسروا قولكم أو اجهروا به} يبين أن القول يسر به تارة ويجهر به أخرى وهذا إنما هو فيما يكون في القول الذي هو بحروف مسموعة. وقوله بعد ذلك: {إنه عليم بذات الصدور} من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى فإنه إذا كان عليما بذات الصدور فعلمه بالقول المسر والمجهور به أولى. ونظيره قوله: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار}.
(إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون (206)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما " سجود التلاوة " فهو خضوع لله وكان ابن عمر وغيره يسجدون على غير وضوء وعن عثمان بن عفان في الحائض تسمع السجدة قال: تومئ برأسها وكذلك قال سعيد بن المسيب " قال: ويقول: اللهم لك سجدت. وقال الشعبي: من سمع السجدة وهو على غير وضوء يسجد حيث كان وجهه وقد سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ففعله الكافر والمسلم وسجد سحرة فرعون. وعلى هذا فليس بداخل في مسمى الصلاة.
ولكن سجدتا السجود يشبهان صلاة الجنازة فإنها قيام مجرد لكن هي صلاة فيها تحريم وتحليل؛ ولهذا كان الصحابة يتطهرون لها ورخص ابن عباس في التيمم لها إذا خشي الفوات وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وهي كسجدتي السهو يشترط لها استقبال الكعبة والاصطفاف كما في الصلاة والمؤتم فيه تبع للإمام لا يكبر قبله ولا يسلم قبله كما في الصلاة؛ بخلاف سجود التلاوة فإنه عند كثير من أهل العلم يسجد وإن لم يسجد القارئ. والحديث الذي يروى {إنك إمامنا فلو سجدت لسجدنا} من مراسيل عطاء وهو من أضعف المراسيل قاله أحمد وغيره ومن قال: إنه لا يسجد إلا إذا سجد لم يجعله مؤتما به من كل وجه فلا يشترط أن يكون المستمعون يسجدون جميعا صفا كما يسجدون خلف الإمام للسهو ولا يشترط أن يكون الإمام إمامه كما في الصلاة وللمأموم أن يرفع قبل إمامه فعلم أنه ليس بمؤتم به في صلاة وإن قيل: إنه مؤتم به في غير صلاة كائتمام المؤمن على الدعاء بالداعي وائتمام المستمع بالقارئ.
وقال شيخ الإسلام:
فصل: في " سجود القرآن "
وهو نوعان: خبر عن أهل السجود ومدح لهم أو أمر به وذم على تركه. فالأول سجدة الأعراف {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} وهذا ذكره بعد الأمر باستماع القرآن والذكر. وفي الرعد {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال} وفي النحل {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون} {ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون}{يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} وفي سبحان: {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} {ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا} {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} وهذا خبر عن سجود مع من سمع القرآن فسجد.
وكذلك في مريم {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} فهؤلاء الأنبياء سجدوا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن وأولئك الذين أوتوا العلم من قبل القرآن إذا يتلى عليهم القرآن يسجدون. وظاهر هذا سجود مطلق كسجود السحرة وكقوله {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} وإن كان المراد به الركوع. فالسجود هو خضوع له وذل له؛ ولهذا يعبر به عن الخضوع. كما قال الشاعر: ترى الأكم فيها سجدا للحوافر. قال جماعة من أهل اللغة: السجود التواضع والخضوع وأنشدوا:ساجد المنخر ما يرفعه ... خاشع الطرف أصم المسمع
قيل لسهل بن عبد الله: أيسجد القلب؟ قال: نعم سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا. وفي " سورة الحج " الأولى خبر: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} والثانية أمر مقرون بالركوع ولهذا صار فيها نزاع. وسجدة الفرقان: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا} خبر مقرون بذم من أمر بالسجود فلم يسجد ليس هو مدحا. وكذلك سجدة " النمل ": {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون} {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} خبر يتضمن ذم من يسجد لغير الله ولم يسجد لله. ومن قرأ ألا يا اسجدوا. كانت أمرا.
وفي " الم تنزيل السجدة " {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} وهذا من أبلغ الأمر والتخصيص؛ فإنه نفى الإيمان عمن ذكر بآيات ربه ولم يسجد إذا ذكر بها. وفي " ص " خبر عن سجدة داود وسماها ركوعا. و " حم تنزيل " أمر صريح: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون}. و " النجم " أمر صريح: {فاسجدوا لله واعبدوا} و " الانشقاق " أمر صريح عند سماع القرآن {فما لهم لا يؤمنون} {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}. و " {اقرأ باسم ربك الذي خلق} " أمر مطلق: {واسجد واقترب} فالستة الأول إلى الأولى من الحج خبر ومدح. والتسع البواقي من الثانية من الحج أمر وذم لمن لم يسجد إلا " ص " فنقول: قد تنازع الناس في وجوب سجود التلاوة.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
الحلقة( 319)
من صــ 481 الى صـ 495
قيل: يجب " وقيل لا يجب " وقيل يجب إذا قرئت السجدة في الصلاة وهو رواية عن أحمد والذي يتبين لي أنه واجب: فإن الآيات التي فيها مدح لا تدل بمجردها على الوجوب لكن آيات الأمر والذم والمطلق منها قد يقال: إنه محمول على الصلاة كالثانية من الحج والفرقان واقرأ وهذا ضعيف فكيف وفيها مقرون بالتلاوة كقوله {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} فهذا نفي للإيمان بالآيات عمن لا يخر ساجدا إذا ذكر بها. وإذا كان سامعا لها فقد ذكر بها. وكذلك " سورة الانشقاق " {فما لهم لا يؤمنون} {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} وهذا ذم لمن لا يسجد إذا قرئ عليه القرآن كقوله: {فما لهم عن التذكرة معرضين} {وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم} {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا}.
وكذلك " سورة النجم " قوله: {أفمن هذا الحديث تعجبون} {وتضحكون ولا تبكون} {وأنتم سامدون} {فاسجدوا لله واعبدوا} أمر بالغا عقب ذكر الحديث الذي هو القرآن يقتضي أن سماعه سبب الأمر بالسجود لكن السجود المأمور به عند سماع القرآن كما أنه ليس مختصا بسجود الصلاة فليس هو مختصا بسجود التلاوة فمن ظن هذا أو هذا فقد غلط بل هو متناول لهما جميعا كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم. فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه.
فالسجود عند سماع آية السجدة هو سجود مجرد عند سماع آية السجدة سواء تليت مع سائر القرآن أو وحدها ليس هو سجودا عند تلاوة مطلق القرآن فهو سجود عند جنس القرآن. وعند خصوص الأمر بالسجود فالأمر يتناوله. وهو أيضا متناول لسجود القرآن أيضا وهو أبلغ فإنه سبحانه وتعالى قال: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} فهذا الكلام يقتضي أنه لا يؤمن بآياته إلا من إذا ذكر بها خر ساجدا وسبح بحمد ربه وهو لا يستكبر. ومعلوم أن قوله: {بآياتنا} ليس يعني بها آيات السجود فقط بل جميع القرآن فلا بد أن يكون إذا ذكر بجميع آيات القرآن يخر ساجدا وهذا حال المصلي فإنه يذكر بآيات الله بقراءة الإمام والإمام يذكر بقراءة نفسه فلا يكونون مؤمنين حتى يخروا سجدا وهو سجودهم في الصلاة وهو سجود مرتب ينتقلون أولا إلى الركوع ثم إلى السجود والسجود مثنى كما بينه الرسول ليجتمع فيه خروران: خرور من قيام وهو السجدة الأولى وخرور من قعود وهو السجدة الثانية. وهذا مما يستدل به على وجوب قعدة الفصل والطمأنينة فيها كما مضت به السنة؛ فإن الخرور ساجدا لا يكون إلا من قعود أو قيام. وإذا فصل بين السجدتين كحد السيف أو كان إلى القعود أقرب لم يكن هذا خرورا. ولكن الذي جوزه ظن أن السجود يحصل بوضع الرأس على الأرض كيف ما كان. وليس كذلك. بل هو مأمور به كما قال: {إذا ذكروا بها خروا سجدا} ولم يقل: سجدوا. فالخرور مأمور به كما ذكره في هذه الآية ونفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة كما أن وضع الجبهة على الأرض عبادة مقصودة.
يدل على ذلك قوله تعالى {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} {ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا} {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} فمدح هؤلاء وأثنى عليهم بخرورهم للأذقان أي على الأذقان سجدا. والثاني بخرورهم للأذقان: أي عليها يبكون. فتبين أن نفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة يحبها الله وليس المراد بالخرور إلصاق الذقن بالأرض كما تلصق الجبهة والخرور على الذقن هو مبدأ الركوع والسجود منتهاه فإن الساجد يسجد على جبهته لا على ذقنه لكنه يخر على ذقنه والذقن آخر حد الوجه وهو أسفل شيء منه وأقربه إلى الأرض.
فالذي يخر على ذقنه يخر وجهه ورأسه خضوعا لله. ومن حينئذ قد شرع في السجود فكما أن وضع الجبهة هو آخر السجود فالخرور على الذقن أول السجود وتمام الخرور أن يكون من قيام أو قعود وقد روي عن ابن عباس {يخرون للأذقان} أي للوجوه. قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم إنما يخر لوجهه والذقن مجتمع اللحيين وهو غضروف أعضاء الوجه. فإذا ابتدأ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن.
وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه فلذلك قال: {للأذقان} ويجوز أن يكون المعنى يخرون للوجوه فاكتفى بالذقن من الوجه. كما يكتفي بالبعض من الكل. وبالنوع من الجنس. قلت: والذي يخر على الذقن لا يسجد على الذقن فليس الذقن من أعضاء السجود بل أعضاء السجود سبعة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء: الجبهة وأشار بيده إلى الأنف واليدين والركبتين والقدمين} ولو سجد على ذقنه ارتفعت جبهته والجمع بينهما متعذر أو متعسر؛ لأن الأنف بينهما وهو ناتئ يمنع إلصاقهما معا بالأرض في حال واحدة فالساجد يخر على ذقنه ويسجد على جبهته. فهذا خرور السجود. ثم قال: {ويخرون للأذقان يبكون} فهذا خرور البكاء قد يكون معه سجود وقد لا يكون.
فالأول كقوله: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} فهذا خرور وسجود وبكاء. والثاني: كقوله: {ويخرون للأذقان يبكون} فقد يبكي الباكي من خشية الله مع خضوعه بخروره وإن لم يصل إلى حد السجود وهذا عبادة أيضا؛ لما فيه من الخرور لله والبكاء له. وكلاهما عبادة لله فإن بكاء الباكي لله كالذي يبكي من خشية الله. من أفضل العبادات. وقد روي {عينان لا تمسهما النار: عين باتت تحرس في سبيل الله وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين}.
فذكر صلى الله عليه وسلم هؤلاء السبعة إذ كل منهم كمل العبادة التي قام بها وقد صنف مصنف في نعتهم سماه (اللمعة في أوصاف السبعة. فالإمام العادل: كمل ما يجب من الإمارة والشاب الناشئ في عبادة الله كمل ما يجب من عبادة الله والذي قلبه معلق بالمساجد كمل عمارة المساجد بالصلوات الخمس لقوله: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله}. والعفيف: كمل الخوف من الله والمتصدق كمل الصدقة لله؛ والباكي: كمل الإخلاص.
وأما قوله عن داود عليه السلام {وخر راكعا وأناب} لا ريب أنه سجد. كما ثبت بالسنة وإجماع المسلمين أنه سجد لله والله سبحانه مدحه بكونه خر راكعا وهذا أول السجود وهو خروره. فذكر سبحانه أول فعله وهو خروره راكعا ليبين أن هذا عبادة مقصودة وإن كان هذا الخرور كان ليسجد. كما أثنى على النبيين بأنهم كانوا {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} {الذين أوتوا العلم من قبله} أنهم {إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} {ويخرون للأذقان يبكون} وذلك لأن الخرور هو أول الخضوع المنافي للكبر فإن المتكبر يكره أن يخر ويحب أن لا يزال منتصبا مرتفعا إذا كان الخرور فيه ذل وتواضع وخشوع؛ ولهذا يأنف منه أهل الكبر من العرب وغير العرب. فكان أحدهم إذا سقط منه الشيء لا يتناوله لئلا يخر وينحني.
فإن الخرور انخفاض الوجه والرأس وهو أعلى ما في الإنسان وأفضله وهو قد خلق رفيعا منتصبا فإذا خفضه لا سيما بالسجود كان ذلك غاية ذله؛ ولهذا لم يصلح السجود إلا لله فمن سجد لغيره فهو مشرك ومن لم يسجد له فهو مستكبر عن عبادته وكلاهما كافر من أهل النار.
قال تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وقال تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} وقال في قصة بلقيس: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون} {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} والشمس أعظم ما يرى في عالم الشهادة وأعمه نفعا وتأثيرا.
فالنهي عن السجود لها نهي عما هو دونها بطريق الأولى من الكواكب والأشجار وغير ذلك. وقوله: {واسجدوا لله الذي خلقهن} دلالة على أن السجود للخالق لا للمخلوق وإن عظم قدره؛ بل لمن خلقه.
وهذا لمن يقصد عبادته وحده. كما قال: {إن كنتم إياه تعبدون} لا يصلح له أن يسجد لهذه المخلوقات قال تعالى: {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} فإنه قد علم سبحانه أن في بني آدم من يستكبر عن السجود له فقال: الذين هم أعظم من هؤلاء لا يستكبرون عن عبادة ربهم " بل يسبحون له بالليل والنهار ولا يحصل لهم سآمة ولا ملالة. بخلاف الآدميين فوصفهم هنا بالتسبيح له ووصفهم بالتسبيح والسجود جميعا في قوله: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}وهم يصفون له صفوفا كما قالوا: {وإنا لنحن الصافون} {وإنا لنحن المسبحون}. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها قال: يسدون الأول فالأول ويتراصون في الصف}.
فصل:
فآياته سبحانه توجب شيئين: أحدهما: فهمها وتدبرها ليعلم ما تضمنته.
والثاني: عبادته والخضوع له إذا سمعت فتلاوته إياها وسماعها يوجب هذا وهذا فلو سمعها السامع ولم يفهمها كان مذموما ولو فهمها ولم يعمل بما فيها كان مذموما بل لا بد لكل أحد عند سماعها من فهمها والعمل بها. كما أنه لا بد لكل أحد من استماعها فالمعرض عن استماعها كافر والذي لا يفهم ما أمر به فيها كافر. والذي يعلم ما أمر به فلا يقر بوجوبه ويفعله كافر. وهو سبحانه يذم الكفار بهذا وهذا. وهذا كقوله: {فما لهم عن التذكرة معرضين} {كأنهم حمر مستنفرة} {فرت من قسورة} وقوله: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} وقوله: {كتاب
فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} {بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون} ونظائره كثيرة. وقال فيمن لم يفهمها ويتدبرها: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} فذمهم على أنهم لا يفهمون ولو فهموا لم يعملوا بعلمهم. وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} وقال: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا}. قال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها فكأنهم صم لم يسمعوها عمن لم يروها.
وقال غيره من أهل اللغة: لم يبقوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يروا وإن لم يكونوا خروا حقيقة. تقول العرب شتمت فلانا فقام يبكي وقعد يندب وأقبل يعتذر وظل يفتخر وإن لم يكن قام ولا قعد. قلت: في ذكره سبحانه لفظ الخرور دون غيره حكمة فإنهم لو خروا وكانوا صما وعميانا لم يكن ذلك ممدوحا بل معيبا. فكيف إذا كانوا صما وعميانا بلا خرور. فلا بد من شيئين: من الخرور والسجود. ولا بد من السمع والبصر لما في آياته من النور والهدى والبيان.
وكذلك لما شرعت الصلاة شرع فيها القراءة في القيام ثم الركوع والسجود. فأول ما أنزل الله من القرآن: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} فافتتحها بالأمر بالقراءة وختمها بالأمر بالسجود فقال: {واسجد واقترب} فقوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم} يدل على أن التذكير بها كقراءتها في الصلاة موجب للسجود والتسبيح وإنه من لم يكن إذا ذكر بها يخر ساجدا ويسبح بحمد ربه فليس بمؤمن وهذا متناول الآيات التي ليس فيها سجود وهي جمهور آيات القرآن ففي القرآن أكثر من ستة آلاف آية وأما آيات السجدة فبضع عشرة آية.
وقوله: {ذكروا بها} يتناول جميع الآيات فالتذكير بها جميعها موجب للتسبيح والسجود وهذا مما يستدل به على وجوب التسبيح والسجود. وعلى هذا تدل عامة أدلة الشريعة من الكتاب والسنة تدل على وجوب جنس التسبيح فمن لم يسبح في السجود فقد عصى الله ورسوله وإذا أتى بنوع من أنواع التسبيح المشروع أجزأه.
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
(إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فإن قيل: إذا كان المؤمن حقا هو الفاعل للواجبات التارك للمحرمات: فقد قال: {أولئك هم المؤمنون حقا} ولم يذكر إلا خمسة أشياء. وكذلك قال في الآية الأخرى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}. وكذلك قوله: {إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله}. قيل عن هذا جوابان:
(أحدهما): أن يكون ما ذكر مستلزما لما ترك؛ فإنه ذكر وجل قلوبهم إذا ذكر الله، وزيادة إيمانهم إذا تليت عليهم آياته مع التوكل عليه وإقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنا وظاهرا، وكذلك الإنفاق من المال والمنافع؛ فكان هذا مستلزما للباقي؛ فإن وجل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه. وقد فسروا (وجلت) بفرقت. وفي قراءة ابن مسعود: (إذا ذكر الله فرقت قلوبهم). وهذا صحيح؛ فإن " الوجل في اللغة " هو الخوف يقال: حمرة الخجل وصفرة الوجل. ومنه قوله تعالى {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} {قالت عائشة: يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف أن يعاقب؟ قال: لا يا ابنة الصديق هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه}.
وقال السدي في قوله تعالى {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فينزع عنه. وهذا كقوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} {فإن الجنة هي المأوى} وقوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}. قال مجاهد وغيره من المفسرين: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه بين يدي الله؛ فيتركها خوفا من الله. وإذا كان " وجل القلب من ذكره " يتضمن خشيته ومخافته؛ فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المحظور. قال سهل بن عبد الله: ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إليه أقرب من الافتقار، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله.
ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وقد جمع الله بين وصفهم بوجل القلب إذا ذكر وبزيادة الإيمان إذا سمعوا آياته. قال الضحاك: زادتهم يقينا. وقال الربيع بن أنس: خشية. وعن ابن عباس تصديقا. وهكذا قد ذكر الله هذين الأصلين في مواضع قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}.
(فصل فيمن يصعق أو يخر ميتا عند سماع القرآن)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
غالب ما يحكى من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عباد أهل البصرة مثل حكاية من مات أو غشي عليه في سماع القرآن ونحوه. كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة فإنه قرأ في صلاة الفجر: {فإذا نقر في الناقور} فخر ميتا وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المري فمات وكذلك غيره ممن روي أنهم ماتوا باستماع قراءته وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن ولم يكن في الصحابة من هذا حاله؛ فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين: كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم. والمنكرون لهم مأخذان: منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا.
يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال: ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق. ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدي الصحابة كما نقل عن أسماء وابنها عبد الله. والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه وإن كان حال الثابت أكمل منه؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا. فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد فما رأيت أعقل منه ونحو هذا. وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه.
لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن وهي وجل القلوب ودموع العين واقشعرار الجلود كما قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} وقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} وقال تعالى: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} وقال: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}وقال: {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}.
وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرين عليها والجفاء عن الدين ما هو مذموم وقد فعلوا ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها وكلا طرفي هذه الأمور ذميم. بل المراتب ثلاث: (أحدها حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب لا يلين للسماع والذكر وهؤلاء فيهم شبه من اليهود.
قال الله تعالى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون} وقال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}.
و (الثانية) حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه فهذا الذي يصعق صعق موت أو صعق غشي فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد وضعف القلب عن حمله وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورا دنيوية يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله. ومن عباد الصور من أمرضه العشق أو قتله أو جننه وكذلك في غيره ولا يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه بمنزلة ما يرد على البدن من الأسباب التي تمرضه أو تقتله أو كان أحدهم مغلوبا على ذلك. فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان لم يكن فيه ذنب فيما أصابه فلا وجه للريبة.
كمن سمع القرآن السماع الشرعي ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفناء ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها؛ فإنه إذا لم يكن السبب محظورا لم يكن السكران مذموما بل معذورا فإن السكران بلا تمييز.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد التاسع
الحلقة( 320)
من صــ 1 الى صـ 10
فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل ما يكرهه الله.
ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم. وهذه حال الصحابة رضي الله عنهم وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أسري به إلى السماء وأراه الله ما أراه وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله فحاله أفضل من حال موسى صلى الله عليه وسلم الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل وحال موسى حال جليلة علية فاضلة: لكن حال محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلى وأفضل.
والمقصود: أن هذه الأمور التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة وذلك لشدة الخوف فإن الذي يذكرونه من خوف عتبة الغلام وعطاء السليمي وأمثالهما أمر عظيم. ولا ريب أن حالهم أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده من خشية الله ما قابلهم أو تفضل عليهم. ومن خاف الله خوفا مقتصدا يدعوه إلى فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله من غير هذه الزيادة فحاله أكمل وأفضل من حال هؤلاء وهو حال الصحابة رضي الله عنهم.
(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (9)
وقال شيخ الإسلام:
فصل:
قال سبحانه في قصة بدر: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} {وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم} فوعدهم بالإمداد بألف وعدا مطلقا وأخبر أنه جعل إمداد الألف بشرى ولم يقيده وقال في قصة أحد: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} فإن هذا أظن فيه قولين: " أحدهما " أنه متعلق بأحد؛ لقوله بعد ذلك: {ليقطع طرفا من الذين كفروا} الآية.
ولأنه وعد مقيد وقوله فيه: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به} يقتضي خصوص البشرى بهم. وأما قصة بدر فإن البشرى بها عامة فيكون هذا كالدليل على ما روي من أن ألف بدر باقية في الأمة فإنه أطلق الإمداد والبشرى وقدم (به) على (لكم) عناية بالألف وفي أحد كانت العناية بهم لو صبروا فلم يوجد الشرط.
[فصل: من آياته صلى الله عليه وسلم تأييد الله له بملائكته]
النوع السادس: من آياته صلى الله عليه وسلم تأييد الله له بملائكته قال الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9] الآية. وقال تعالى: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} [آل عمران: 124]، وقال تعالى: في الخندق:{إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} [الأحزاب: 9]. وقال تعالى في حنين: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} [التوبة: 26]. وقال تعالى في الهجرة: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} [التوبة: 40].
وقال تعالى في بدر: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [الأنفال: 12]. وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، وجعل يهتف بربه: " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى أسقط رداءه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك.
فأنزل الله عز وجل:سوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة بالسوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " صدقت. ذلك من مدد السماء الثالثة " فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين»، وذكر الحديث.
وذكر البخاري في هذا الحديث «فخرج يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول
{سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 45]»
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن بعض بني ساعدة قال: «سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول: لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى. فلما نزلت الملائكة، ورآها إبليس، وأوحى الله إليهم
{أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال: 12]
وتثبيتهم أن الملائكة تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه وتقول له: أبشروا فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم، كروا
عليهم، فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه، وقال: {إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون} [الأنفال: 48].
وهو في صورة سراقة، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول: لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه على موعد من محمد وأصحابه. ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال فلا تقتلوهم، وخذوهم أخذا».
وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: «رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن يساره رجلين عليهم ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم، ولا بعده، ويعني جبرائيل وميكائيل عليهما السلام»وفي الصحيحين عن عائشة قالت: «أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش (ابن العرقة) رماه في الأكحل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وضع السلاح فاغتسل فأتاه جبريل عليه السلام، وهو ينفض عن رأسه الغبار فقال " وضعت السلاح، والله ما وضعناه، اخرج إليهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد، قال: إني أحكم فيهم أن يقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية، والنساء، وتقسم أموالهم»، وفي بعض طرق البخاري فأتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار
{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9]
فأمده الله بالملائكة.
قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة
الجزء التاسع
سوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة بالسوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " صدقت. ذلك من مدد السماء الثالثة " فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين»، وذكر الحديث.
وذكر البخاري في هذا الحديث «فخرج يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول
{سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 45]»
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن بعض بني ساعدة قال: «سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول: لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى. فلما نزلت الملائكة، ورآها إبليس، وأوحى الله إليهم
{أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال: 12]
وتثبيتهم أن الملائكة تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه وتقول له: أبشروا فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم، كروا
عليهم، فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه، وقال: {إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون} [الأنفال: 48].
وهو في صورة سراقة، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول: لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه على موعد من محمد وأصحابه. ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال فلا تقتلوهم، وخذوهم أخذا».
وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: «رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن يساره رجلين عليهم ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم، ولا بعده، ويعني جبرائيل وميكائيل عليهما السلام»
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: «أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش (ابن العرقة) رماه في الأكحل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وضع السلاح فاغتسل فأتاه جبريل عليه السلام، وهو ينفض عن رأسه الغبار فقال " وضعت السلاح، والله ما وضعناه، اخرج إليهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد، قال: إني أحكم فيهم أن يقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية، والنساء، وتقسم أموالهم»، وفي بعض طرق البخاري فأتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار وروى البخاري عن أنس قال: «كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل صلوات الله عليه حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة
وفي المغازي من غير طريق أن الصحابة رأوا جبريل في صورة دحية الكلبي، وأنه معتم بعمامة أرخى طرفها بين كتفيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثه الله إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويلقي الرعب في قلوبهم»
وروى البخاري عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: " هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب»
وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال، وسلم علي ثم قال: يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني إليك ربك لتأمرني بأمرك ما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئا».
(فصل)
وسئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية - رضي الله عنه -:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وفقهم الله لطاعته فيمن يقول: لا يستغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم هل يحرم عليه هذا القول وهل هو كفر أم لا؟ وإن استدل بآيات من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم هل ينفعه دليله أم لا؟ وإذا قام الدليل من الكتاب والسنة فما يجب على من يخالف ذلك؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله، قد ثبت بالسنة المستفيضة بل المتواترة واتفاق الأمة: أن نبينا صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به يطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم (*) وأنه يشفع لهم. ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد. وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين؛ وهؤلاء مبتدعة ضلال وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل.
وأما من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمه. وأما من أقر بشفاعته وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به؛ كما رواه البخاري في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. وفي سنن أبي داود وغيره {أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك} وذكر تمام الحديث فأنكر قوله نستشفع بالله عليك ولم ينكر قوله نستشفع بك على الله بل أقره عليه فعلم جوازه فمن أنكر هذا فهو ضال مخطئ مبتدع؛ وفي تكفيره نزاع وتفصيل.
وأما من أقر بما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من شفاعته والتوسل به ونحو ذلك ولكن قال لا يدعى إلا الله وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك: فهذا مصيب في ذلك بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضا. كما قال الله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} وقال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} وكما قال تعالى: {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض} وكما قال تعالى: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله} وقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}. فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة: يجب إثباتها والمعاني المنفية بالكتاب والسنة؛ يجب نفيها والعبارة الدالة على المعاني نفيا وإثباتا إن وجدت في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجب إقرارها. وإن وجدت في كلام أحد وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه وإلا رجع فيه إليه. وقد يكون في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عبارة لها معنى صحيح لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهذا يرد عليه فهمه.
كما روى الطبراني في معجمه الكبير {أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال أبو بكر الصديق: قوموا بنا لنستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله} فهذا إنما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الثاني وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله وإلا فالصحابة كانوا يطلبون منه الدعاء ويستسقون به كما في صحيح البخاري عن ابن عمر قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش له ميزاب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وهو قول أبي طالب ولهذا قال العلماء المصنفون في أسماء الله تعالى: يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله وأن كل غوث فمن عنده وإن كان جعل ذلك على يدي غيره فالحقيقة له سبحانه وتعالى ولغيره مجاز. قالوا: من أسمائه تعالى المغيث والغياث وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة قالوا واجتمعت الأمة على ذلك.
وقال أبو عبد الله الحليمي: الغياث هو المغيث وأكثر ما يقال غياث المستغيثين ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلصهم وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين: {اللهم أغثنا اللهم أغثنا} يقال أغاثه إغاثة وغياثا وغوثا وهذا الاسم في معنى المجيب والمستجيب قال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال والاستجابة أحق بالأقوال وقد يقع كل منهما موقع الآخر. قالوا الفرق بين المستغيث والداعي أن المستغيث ينادي بالغوث.
والداعي ينادي بالمدعو والمغيث. وهذا فيه نظر فإن من صيغة الاستغاثة يا لله للمسلمين وقد روي عن معروف الكرخي أنه كان يكثر أن يقول وا غوثاه ويقول إني سمعت الله يقول: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} وفي الدعاء المأثور {: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك}. والاستغاثة برحمته استغاثة به في الحقيقة كما أن الاستعاذة بصفاته استعاذة به في الحقيقة وكما أن القسم بصفاته قسم به في الحقيقة ففي الحديث: {أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق} وفيه {أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك}.
ولهذا استدل الأئمة فيما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله: {أعوذ بكلمات الله التامة} قالوا: والاستعاذة لا تصلح بالمخلوق. وكذلك القسم قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت} وفي لفظ {من حلف بغير الله فقد أشرك} رواه الترمذي وصححه. ثم قد ثبت في الصحيح: الحلف " بعزة الله " و " لعمر الله " ونحو ذلك مما اتفق المسلمون على أنه ليس من الحلف بغير الله الذي نهي عنه والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به وإما مخطئ ضال. وأما بالمعنى الذي نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أيضا مما يجب نفيها ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضا كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها. ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي المشهور بالديار المصرية: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
وفي دعاء موسى عليه السلام " اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك " ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق وكان مختصا بالله: صح إطلاق نفيه عما سواه ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوز مطلق الاستغاثة بغير الله ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله.
وكذلك الاستغاثة أيضا فيها ما لا يصلح إلا لله وهي المشار إليها بقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه وكذلك الاستنصار. قال الله تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} والنصر المطلق هو خلق ما به يغلب العدو ولا يقدر عليه إلا الله. ومن خالف ما ثبت بالكتاب والسنة: فإنه يكون إما كافرا وإما فاسقا وإما عاصيا إلا أن يكون مؤمنا مجتهدا مخطئا فيثاب على اجتهاده ويغفر له خطؤه وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذي تقوم عليه به الحجة فإن الله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة فخالفها: فإنه يعاقب بحسب ذلك إما بالقتل وإما بدونه والله أعلم.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد التاسع
الحلقة( 321)
من صــ 11 الى صـ 25
(فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم (17)
وقوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [سورة الأنفال: 17] معناه: ما أصبت إذ حذفت ولكن الله هو الذي أصاب، فالمضاف إليه الحذف باليد، والمضاف إلى الله تعالى الإيصال إلى العدو وإصابتهم به، وليس المراد بذلك ما يظنه بعض الناس أنه لما خلق الرامي [والرمي]، قالوا: كان هو الرامي في الحقيقة، فإن ذلك لو كان صحيحا لكونه خالقا لرميه لاطرد ذلك في سائر الأفعال، فكان يقول:
وما مشيت إذا مشيت ولكن الله مشى، وما لطمت ولكن الله لطم، وما طعنت ولكن الله طعن، وما ضربت بالسيف ولكن الله ضرب، وما ركبت الفرس ولكن الله ركب، وما صمت، وما صليت، وما حججت، ولكن الله صام وصلى وحج.
ومن المعلوم بالضرورة بطلان هذا كله، وهذا من غلو المثبتين للقدر. ولهذا يروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنهم كانوا يرمونه بالحجارة لما حصر، فقال لهم: لماذا ترمونني؟ فقالوا: ما رميناك ولكن الله رماك. فقال: لو أن الله رماني لأصابني، ولكن أنتم ترمونني وتخطئونني.
وهذا مما احتج به القدرية النفاة على أن الصحابة لم يكونوا يقولون: إن الله خالق أفعال العباد. كما احتج بعض المثبتة بقوله تعالى: {ولكن الله رمى} [سورة الأنفال: 17] وكلاهما خطأ. فإن الله إذا خلق في عبد فعلا، لم يجب أن يكون ذلك المخلوق صوابا من العبد، كما أنه إذا خلق في الجسم طعما أو ريحا، لم يجب أن يكون ذلك طيبا، وإذا خلق للعبد عينين ولسانا، لم يجب أن يكون بصيرا ناطقا. فاستناد الكذب الذي في الناس، كاستناد جميع ما يكون في المخلوقين من الصفات القبيحة والأحوال المذمومة وذلك لا يقتضي أنه في نفسه مذموم، ولا أنه موصوف بتلك الصفات. ولكن لفظ " الاستناد " لفظ مجمل. أتراه أنه إذا استند إليه العجز المخلوق في الناس لكونه خالقه، يكون هو عاجزا؟ فهذا مما يبين فساد هذه الحجة.
وقال - رحمه الله -:
فصل:
في قوله: {فلم تقتلوهم} الآية ثلاثة أقوال: " أحدها " أنه مبني على أن الفعل المتولد ليس من فعل الآدمي؛ بل من فعل الله والقتل هو الإزهاق وذاك متولد وهذا قد يقوله من ينفي التولد وهو ضعيف؛ لأنه نفى الرمي أيضا وهو فعل مباشر ولأنه قال: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقال: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} فأثبت القتل. ولأن القتل هو الفعل الصالح للإزهاق ليس هو الزهوق؛ بخلاف الإماتة.
" الثاني " أنه مبني على خلق الأفعال وهذا قد يقوله كثير من الصوفية وأظنه مأثورا عن الجنيد سلب العبد الفعل نظرا إلى الحقيقة؛ لأن الله هو خالق كل صانع وصنعته وهذا ضعيف لوجهين.
" أحدهما " أنا وإن قلنا بخلق الفعل فالعبد لا يسلبه بل يضاف الفعل إليه أيضا فلا يقال ما آمنت ولا صليت ولا صمت ولا صدقت ولا علمت فإن هذا مكابرة؛ إذ أقل أحواله الاتصاف وهو ثابت.
وأيضا فإن هذا لم يأت في شيء من الأفعال المأمور بها إلا في القتل والرمي ببدر ولو كان هذا لعموم خلق الله أفعال العباد لم يختص ببدر.
" الثالث " أن الله سبحانه خرق العادة في ذلك فصارت رءوس المشركين تطير قبل وصول السلاح إليها بالإشارة وصارت الجريدة تصير سيفا يقتل به. وكذلك رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابت من لم يكن في قدرته أن يصيبه فكان ما وجد من القتل وإصابة الرمية خارجا عن قدرتهم المعهودة فسلبوه لانتفاء قدرتهم عليه وهذا أصح وبه يصح الجمع بين النفي والإثبات {وما رميت} أي ما أصبت {إذ رميت} إذ طرحت {ولكن الله رمى} أصاب. وهكذا كل ما فعله الله من الأفعال الخارجة عن القدرة المعتادة بسبب ضعيف كإنباع الماء وغيره من خوارق العادات أو الأمور الخارجة عن قدرة الفاعل وهذا ظاهر فلا حجة فيه لا على الجبر ولا على نفي التولد.
وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وقوله: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} يدل على أن الصيد مقتول للآدمي الذي قتله بخلاف قوله: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} فإنه مثل قوله: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} فإن قتلهم حصل بأمور خارجة عن قدرتهم مثل إنزال الملائكة وإلقاء الرعب في قلوبهم وكذلك الرمي لم يكن في قدرته أن التراب يصيب أعينهم كلهم ويرعب قلوبهم فالرمي الذي جعله الله خارجا عن قدرة العبد المعتاد هو الرمي الذي نفاه الله عنه. قال أبو عبيد: ما ظفرت أنت ولا أصبت ولكن الله ظفرك وأيدك. وقال الزجاج: ما بلغ رميك كفا من تراب أو حصى أن يملأ عيون ذلك الجيش الكثير إنما الله تولى ذلك. وذكر ابن الأنباري: ما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب. ولهذا كان هذا أمرا خارجا عن مقدوره فكان من آيات نبوته.
[فصل: تسخير الأحجار له عليه السلام من أعلام نبوته]
وأما النوع الخامس: تأثيره في الأحجار، وتصرفه فيها، وتسخيرها له ففي صحيح البخاري، عن أنس قال: «صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم الجبل، فقال: اسكن - وضربه برجله - فليس عليك إلا نبي، وصديق، وشهيدان». وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن». وفي الترمذي، عن علي، قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله شجر، ولا جبل إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله». ورواه الحاكم في صحيحه.
وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فلما واجهنا العدو تقدمته، فأعلو ثنية، فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم فتوارى عني، فما دريت ما صنع، ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فولى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأرجع منهزما،وعلي بردتان متزرا بإحداهما مرتديا بالأخرى، فاستطلق إزاري فجمعتهما جميعا ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأى ابن الأكوع فزعا. فلما غشوا النبي صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من الأرض، واستقبل به وجوههم، فقال: شاهت الوجوه. فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله».
وفي صحيح مسلم، عن العباس بن عبد المطلب قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي فلما التقى المسلمون، والكفار ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إرادة أن لا تسرع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي عباس، ناد أصحاب الشجرة.
فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. يا لبيك يا لبيك. قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حين حمي الوطيس. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب الكعبة. قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا حتى هزمهم الله، وقد قال الله تعالى: عن يوم بدر: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال: 17]»
وروى ابن إسحاق، عن جماعة منهم عروة، والزهري، وعاصم بن عمر، وغيرهم قالوا: «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش هو، وأبو بكر ما معهما غيرهما، وقد تدانى القوم بعضهم من بعض، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من نصره ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد. وأبو بكر يقول: بعد مناشدتك ربك يا رسول الله فإن الله سينجز لك ما وعدك من نصره.
وخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة، ثم هب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله عز وجل، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع - يقول: الغبار - ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعبأ أصحابه وهيأهم، وقال: لا يعجلن رجل منكم بقتال حتى نؤذنه، فإذا أكثبكم القوم - يقول: قربوا منكم - فانضحوهم عنكم بالنبل، ثم تزاحم الناس فلما تدانى بعضهم من بعض خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من حصباء ثم استقبل بها قريشا، فنفخ بها وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احملوا عليهم يا معشر المسلمين. فحمل المسلمون وهزم الله قريشا، وقتل من قتل من أشرافهم، وأسر من أسر منهم. وفي حديث ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، فقال له جبريل: خذ قبضة من تراب.
فأخذ قبضة من تراب، ورمى بها وجوههم، فما في المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه، ومنخريه، وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين».
(ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23)
قال: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} أي لأفهمهم ما سمعوه. ثم قال: ولو أفهمهم مع هذه الحال التي هم عليها {لتولوا وهم معرضون} فقد فسدت فطرتهم فلم يفهموا ولو فهموا لم يعملوا. فنفى عنهم صحة القوة العلمية وصحة القوة العملية.
(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33)
وقال - رحمه الله -:
فصل:
في قوله تعالى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} والكلام عليها من وجهين:
" أحدهما " في الاستغفار الدافع للعذاب.
و" الثاني " في العذاب المدفوع بالاستغفار.
أما " الأول ": فإن العذاب إنما يكون على الذنوب والاستغفار يوجب مغفرة الذنوب التي هي سبب العذاب فيندفع العذاب كما قال تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} فبين سبحانه أنهم إذا فعلوا ذلك متعوا متاعا حسنا إلى أجل مسمى ثم إن كان لهم فضل أوتوا الفضل.
وقال تعالى عن نوح: {يا قوم إني لكم نذير مبين} {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} {يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى} إلى قوله: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} {يرسل السماء عليكم مدرارا} الآية وقال تعالى: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم} وذلك أنه قد قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} وقال تعالى {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} وقال تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وقال تعالى: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم} وقال تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}.
وأما العذاب المدفوع فهو يعم العذاب السماوي ويعم ما يكون من العباد وذلك أن الجميع قد سماه الله عذابا كما قال تعالى في النوع الثاني: {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} وقال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم} وكذلك: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} إذ التقدير بعذاب من عنده أو بعذاب بأيدينا كما قال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم}.
وعلى هذا فيكون العذاب بفعل العباد وقد يقال: التقدير: {ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده} أو يصيبكم بأيدينا؛ لكن الأول هو الأوجه؛ لأن الإصابة بأيدي المؤمنين لا تدل على أنها إصابة بسوء؛ إذ قد يقال: أصابه بخير وأصابه بشر. قال تعالى: {وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده} وقال تعالى: {فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون}.
وقال تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء} ولأنه لو كان لفظ الإصابة يدل على الإصابة بالشر لاكتفى بذلك في قوله: {أن يصيبكم الله}. وقد قال تعالى أيضا: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. ومن ذلك قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} إلى قوله: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} وقوله تعالى {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}.
ومن ذلك أنه يقال في بلال ونحوه: كانوا من المعذبين في الله ويقال إن أبا بكر اشترى سبعة من المعذبين في الله. وقال صلى الله عليه وسلم " {السفر قطعة من العذاب} ".
وإذا كان كذلك فقوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} مع ما قد ثبت في الصحيحين عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم " {أنه لما نزل قوله: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال: أعوذ بوجهك {أو من تحت أرجلكم} قال: أعوذ بوجهك {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: هاتان أهون} " يقتضي أن لبسنا شيعا وإذاقة بعضنا بأس بعض هو من العذاب الذي يندفع بالاستغفار كما قال: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وإنما تنفى الفتنة بالاستغفار من الذنوب والعمل الصالح. وقوله تعالى {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم} قد يكون العذاب من عنده وقد يكون بأيدي العباد فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع؛ فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم وألف بينهم وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض.
وكذلك قوله: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} يدخل في العذاب الأدنى ما يكون بأيدي العباد كما قد فسر بوقعة بدر بعض ما وعد الله به المشركين من العذاب.
وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فأخبر أنه لا يعذب مستغفرا؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب فيندفع العذاب كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب} وقد قال تعالى: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله}. فبين أن من وحده واستغفره متعه متاعا حسنا إلى أجل مسمى ومن عمل بعد ذلك خيرا زاده من فضله وفي الحديث: {يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.
فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}. ولهذا قال تعالى: {فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا فحقهم عند مجيء البأس التضرع وقال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} قال عمر بن عبد العزيز: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد التاسع
الحلقة( 322)
من صــ 26 الى صـ 40
(وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35)
{وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} قال السلف من الصحابة والتابعين: " المكاء " كالصفير ونحوه من التصويت مثل الغناء. و " التصدية ": التصفيق باليد. فقد أخبر الله عن المشركين أنهم كانوا يجعلون التصدية والغناء لهم صلاة وعبادة وقربة يعتاضون به عن الصلاة التي شرعها الله ورسوله. وأما المسلمون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: فصلاتهم وعبادتهم القرآن واستماعه والركوع والسجود وذكر الله ودعاؤه ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله فمن اتخذ الغناء والتصفيق عبادة وقربة فقد ضاهى المشركين في ذلك وشابههم فيما ليس من فعل المؤمنين: المهاجرين والأنصار. فإن كان يفعله في بيوت الله فقد زاد في مشابهته أكبر وأكبر واشتغل به عن الصلاة وذكر الله ودعائه فقد عظمت مشابهته لهم.
وصار له كفل عظيم من الذم الذي دل عليه قوله سبحانه وتعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} لكن قد يغفر له ذلك لاجتهاده أو لحسنات ماحية أو غير ذلك. فيما يفرق فيه بين المسلم والكافر. لكن مفارقته للمشركين في غير هذا لا يمنع أن يكون مذموما خارجا عن الشريعة داخلا في البدعة التي ضاهى بها المشركين فينبغي للمؤمن أن يتفطن له لهذا ويفرق بين سماع المؤمنين الذي أمر الله به ورسوله وسماع المشركين الذي نهى الله عنه ورسوله.
(قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين (38)
وسئل:
عن اليهودي أو النصراني إذا أسلم، هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام؟
فأجاب:
إذا أسلم باطنا وظاهرا غفر له الكفر الذي تاب منه بالإسلام بلا نزاع وأما الذنوب التي لم يتب منها مثل: أن يكن مصرا على ذنب أو ظلم أو فاحشة ولم يتب منها بالإسلام. فقد قال بعض الناس: إنه يغفر له بالإسلام. والصحيح: أنه إنما يغفر له ما تاب منه. كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل: {أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية. ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر} و " حسن الإسلام " أن يلتزم فعل ما أمر الله به وترك ما نهي عنه. وهذا معنى التوبة العامة فمن أسلم هذا الإسلام غفرت ذنوبه كلها. وهكذا كان إسلام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعمرو بن العاص: {أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله} " فإن اللام لتعريف العهد والإسلام المعهود بينهم كان الإسلام الحسن.
وقوله: " {ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر} " أي: إذا أصر على ما كان يعمله من الذنوب فإنه يؤاخذ بالأول والآخر. وهذا موجب النصوص والعدل فإن من تاب من ذنب غفر له ذلك الذنب ولم يجب أن يغفر له غيره. والمسلم تائب من الكفر كما قال تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} وقوله: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} أي إذا انتهوا عما نهوا عنه غفر لهم ما قد سلف. فالانتهاء عن الذنب هو التوبة منه. من انتهى عن ذنب غفر له ما سلف منه. وأما من لم ينته عن ذنب فلا يجب أن يغفر له ما سلف لانتهائه عن ذنب آخر. والله أعلم.
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بشيء مما عمله في الجاهلية لا من حقوق الله ولا من حقوق العباد من غير خلاف نعلمه لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}
ولقوله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام يجب ما قبله " رواه مسلم ولقوله صلى الله عليه وسلم: " من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية " متفق عليه.
ولهذا أسلم خلق كثير وقد قتلوا رجالا يعرفون فلم يطلب أحدا منه بقود ولا دية ولا كفارة.
أسلم وحشي قاتل حمزة وابن العاص قاتل ابن قوقل وعقبة بن الحارث قاتل خبيب بن عدي ومن لا يحصى ممن ثبت في الصحيح أنه أسلم وقد علم أنه قتل رجلا بعينه من المسلمين فلم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على أحد منهم قصاصا بل قال صلى الله عليه وسلم: " يضحك الله تعالى إلى رجلين يقتل أحدهما صاحبه كلاهما يدخل الجنة يقتل هذا في سبيل الله فيدخل الجنة ثم يتوب الله على القاتل فيسلم ويقتل في سبيل الله فيدخل الجنة " متفق عليه.
وكذلك أيضا لم يضمن النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم مالا أتلفه للمسلمين ولا أقام على أحد حد زنا أو سرقة أو شرب أو قذف سواء كان قد أسلم بعد الأسر أو قبل الأسر وهذا مما لا نعلم بين المسلمين فيه خلافا لا في روايته ولا في الفتوى به.
بل لو أسلم الحربي وبيده مال مسلم قد أخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه مما لا يملك به مسلم من مسلم لكونه محرما في دين الإسلام كان له ملكا ولم يرده إلى المسلم الذي كان يملكه عند جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ومنصوص قول أحمد وقول الجماهير من أصحابه بناء على أن الإسلام أو العهد قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكا له لأنه خرج عن مالكه المسلم في سبيل الله ووجب أجره على الله وآخذه هذا مستحلا له وقد غفر له بإسلامه ما فعله في دماء المسلمين وأموالهم فلم يضمنه بالرد إلى مالكه كما لم يضمن ما أتلفه من النفوس والأموال ولا يقضي ما تركه من العبادات لأن كل ذلك كان تابعا للاعتقاد فلما رجع عن الاعتقاد غفر له ما تبعه من الذنوب فصار ما بيده من المال لا تبعة عليه فيه فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها من ربا وغيره.
ومن العلماء من قال: يرده على مالكه المسلم وهو قول الشافعي وأبي الخطاب من الحنبلية بناء على أن اغتنامهم فعل محرم فلا يملكون به مال المسلم كالغصب ولأنه لو أخذه المسلم منهم أخذا لا يملك به مسلم من مسلم بأن يغنمه أو يسرقه فإنه يرد إلى مالكه المسلم لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما اتفق الناس فيما نعلمه عليه ولو كانوا قد ملكوه كملكه الغانم منهم ولم يرده.
والأول أصح لأن المشركين كانوا يغنمون من أموال المسلمين الشيء الكثير من الكراع والسلاح وغير ذلك وقد أسلم عامة أولئك المشركين فلم يسترجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد منهم مالا مع أن بعض تلك الأموال لا بد أن يكون باقيا.
ويكفي في ذلك أن الله سبحانه قال: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا} وقال: {أذن للذين يقاتلون} إلى قوله: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} وقال: {وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج
أهله منه} وقال: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم}.
فبين الله سبحانه أن المسلمين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق حتى صاروا فقراء بعد أن كانوا أغنياء.
ثم إن المشركين استولوا على تلك الديار والأموال وكانت باقية إلى حين الفتح وقد أسلم من استولى عليها في الجاهلية ثم لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على أحد منهم أخرج من داره بعد الفتح والإسلام دارا ولا مالا بل قيل للنبي يوم الفتح: ألا تنزل في دارك؟ فقال: "وهل ترك لنا عقيل من دار؟ ".
وسأله المهاجرون أن يرد عليهم أموالهم التي استولى عليها أهل مكة فأبى ذلك صلى الله عليه وسلم وأقرها بيد من استولى عليها بعد إسلامه.
وذلك أن عقيل بن أبي طالب بعد الهجرة استولى على دار النبي صلى الله عليه وسلم ودور إخوته من الرجال والنساء مع ما ورثه من أبيه أبي طالب قال أبو رافع: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال: "فهل ترك لنا عقيل منزلا؟ " وكان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة.
وقد ذكر أهل العلم بالسيرة منهم أبو الوليد الأزرقي أن رباع عبد المطلب بمكة صارت لبني عبد المطلب فمنها شعب ابن يوسف وبعض دار ابن يوسف لأبي طالب والجو الذي بينه وبين دار ابن يوسف دار المولد مولد النبي صلى الله عليه وسلم وما حوله لأبي النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد المطلب ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له هذه الدار ورثها من أبيه وبها ولد وكان له دار ورثها هو وولده من خديجة رضي الله تعالى عنها.
قال الأزرقي: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسكنيه كليهما مسكنه الذي ولد فيه ومسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة بنت خويلد وولد فيه ولده جميعا.
قال: وكان عقيل بن أبي طالب أخذ مسكنه الذي ولد فيه وأما بيت خديجة فأخذه معتب بن أبي لهب وكان أقرب الناس إليه جوارا فباعه بعد من معاوية وقد شرح أهل السير ما ذكرنا في دور المهاجرين.
قال: الأزرقي: دار جحش بن رئاب الأسدي التي بالمعلى لم تزل في يد ولد جحش فلما أذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الهجرة إلى المدينة خرج آل جحش جميعا الرجال والنساء إلى المدينة مهاجرين وتركوا دارهم خالية وهم حلفاء حرب بني أمية فعمد أبو سفيان إلى دارهم هذه فباعها بأربعمائة دينار من عمرو بن علقمة العامري فلما بلغ آل جحش أن أبا سفيان باع دارهم أنشأ أبو أحمد يهجو أبا سفيان ويعيره ببيعها وذكر أبياتا.
فلما كان يوم فتح مكة أتى أبو أحمد بن جحش وقد ذهب بصره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها فقال: يا رسول الله إن أبا سفيان عمد إلى داري فباعها فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فساره بشيء فما سمع أبو أحمد ذكرها بعد ذلك فقيل لأبي أحمد بعد ذلك: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال لي " إن صبرت كان خيرا وكان لك بها دار في الجنة " قال: قلت: فأنا أصبر فتركها أبو أحمد.
قال: وكان لعتبة بن غزوان دار تسمى ذات الوجهين فلما هاجر أخذها يعلي بن أمية وكان استوصاه بها حين هاجر فلما كان عام الفتح وكلم بنو جحش رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارهم فكره أن يرجعوا في شيء من أموالهم أخذت منهم في الله تعالى وهجروه لله أمسك عتبة بن غزوان عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره هذه ذات الوجهين وسكت المهاجرون فلم يتكلم أحد منهم في دار هجرها لله ورسوله وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسكنه الذي ولد فيه ومسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة وهذه القصة معروفة عند أهل العلم.
قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر ببن حزم والزهير بن عكاشة بن أبي أحمد قال: أبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح عليهم في دورهم فقالوا لأبي أحمد يا أبا أحمد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره لكم أن ترجعوا في شيء من أموالكم مما أصيب في الله.
وقال ابن إسحاق أيضا في رواية زياد بن عبد الله البكائي عنه: وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق أحد منهم بمكة إلا مفتون أو محبوس ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله والى رسوله إلا أهل دور مسمون: بنو مظعون من بني جمح وبنو جحش بن رئاب حلفاء بني أمية وبنو البكير من بني سعد بن ليث حلفاء عدي بن كعب فإن دورهم غلقت بمكة ليس فيها ساكن.
ولما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا خيرا منها في الجنة؟ " فقال: بلى فقال: "ذلك لك " فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كلمه أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال الناس لأبي أحمد: يا أبا أحمد إن النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم أصيب منكم في الله فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي عن أشياخه قالوا: وقام أبو أحمد بن جحش على باب المسجد على جمل له حين فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته يعني الخطبة التي خطبها وهو واقف بباب الكعبة حين دخل الكعبة فصلى فيها ثم خرج يوم الفتح فقال أبو أحمد وهو يصيح: أنشد بالله يا بني عبد مناف حلفي أنشد بالله يا بني عبد مناف داري قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فسار عثمان بشيء فذهب عثمان إلى أبي أحمد فساره فنزل أبو أحمد عن بعيره وجلس مع القوم فما سمع أبو أحمد ذكرها حتى لقي الله.
فهذا نص في أن المهاجرين طلبوا استرجاع ديارهم فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها بيد من استولى عليها ومن اشتراها منه وجعل صلى الله عليه وسلم ما أخذه منهم الكفار بمنزلة ما أصيب من ديارهم وما أنفقوه من أموالهم وتلك دماء وأموال اشتراها الله وسلمت إليه ووجب أجرها على الله فلا رجعة فيها وذلك لأن المشركين يستحلون دماءنا وأموالنا وأصابوا ذلك كله استحلالا وهم آثمون في هذا الاستحلال فإذا أسلموا جب الإسلام ذلك الإثم وصاروا كأنهم ما أصابوا دما ولا مالا فما بأيديهم لا يجوز انتزاعه منهم.
فإن قيل: ففي الصحيحين عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ألا تنزل في دارك بمكة؟ قال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور" وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين.
وفي رواية للبخاري أنه قال: يا رسول أين تنزل غدا؟ وذلك زمن الفتح فقال: "وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ " ثم قال: " لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر " قيل للزهري: ومن ورث أبا طالب؟ قال: ورثه عقيل وطالب وفي رواية معمر عن الزهري أين منزلك غدا في حجتك؟ رواه البخاري.
وظاهر هذا أن الدور انتقلت إلى عقيل بطريق الإرث لا بطريق الاستيلاء ثم باعها.
قلنا: أما دار النبي صلى الله عليه وسلم التي ورثها من أبيه وداره التي هي له ولولده من زوجته المؤمنة خديجة فلا حق لعقيل فيها فعلم أنه استولى عليها وأما دور أبي طالب فإن أبا طالب توفي قبل الهجرة بسنين والمواريث لم تفرض ولم يكن نزل بعد منع المسلم من ميراث الكافر بل كل من مات بمكة من المشركين أعطي أولاده المسلمون نصيبهم من الإرث كغيرهم بل كان المشركون ينكحون المسلمات الذي هو أعظم من الإرث وإنما قطع الله الموالاة بين المسلمين والكافرين بمنع النكاح والإرث وغير ذلك بالمدينة وشرع الجهاد القاطع للعصمة.
قال ابن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة نظر إلى تلك الرباع فما أدرك منها قد اقتسم على أمر الجاهلية تركه لم يحركه وما وجده لم يقسم قسمه على قسمة الإسلام.
وهذا الذي رواه ابن أبي نجيح يوافق الأحاديث المسندة في ذلك مثل حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وكل قسم أدركه الإسلام فإنه على ما قسم الإسلام " رواه أبو داود وابن ماجه.
وهذا أيضا يوافق ما دل عليه كتاب الله ولا نعلم فيه خلافا فإن الحربي لو عقد عقدا فاسدا من ربا أو بيع خمر أو خنزير أو نحو ذلك ثم أسلم بعد قبض العوض لم يحرم ما بيده ولم يجب عليه رده ولو ولم يكن قبضة لم يجز له أن يقبض منه إلا ما يجوز للمسلم كما دل عليه قوله تعالى: {اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} فأمرهم بترك ما بقي في ذمم الناس ولم يأمرهم برد ما قبضوه.
وكذلك وضع النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس كل دم أصيب في الجاهلية وكل ربا في الجاهلية حتى ربا العباس ولم يأمر برد ما كان قبض فكذلك الميراث: إذا مات الميت في الجاهلية واقتسموا تركته أمضيت القسمة فإن أسلموا قبل الاقتسام أو تحاكموا إلينا قبل القسمة قسم على قسم الإسلام فلما مات أبو طالب كان الحكم بينهم أن يرثه جميع ولده فلم يقتسموا رباعه حتى هاجر جعفر وعلي إلى المدينة فاستولى عقيل عليها وباعها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لم يترك لنا عقيل منزلا إلا استولى عليه وباعه " وكان معنى هذا الكلام أنه استولى على دور كنا نستحقها إذ ذاك ولولا ذلك لم تضف الدور إليه وإلى بني عمه إذا لم يكن لهم فيها حق ثم قال بعد ذلك:
"لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن" يريد والله أعلم لو أن الرباع باقية بيده إلى الآن لم يقسم لكنا نعطي رباع أبي طالب كلها له دون إخوته لأنه ميراث لم يقسم فيقسم الآن على قسم الإسلام ومن قسم الإسلام أن لا يرث المسلم الكافر فكان نزول هذا الحكم بعد موت أبي طالب وقبل قسمة تركته بمنزله نزوله قبل موته فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن عليا وجعفرا ليس لهما المطالبة بشيء من ميراث أبي طالب لو كان باقيا فكيف إذا أخذ منهم في سبيل الله؟ فإذا كان المشرك الحربي لا يطالب بعد إسلامه بما كان أصابه من دماء المسلمين وأموالهم وحقوق الله ولا ينتزع ما بيده من أموالهم التي غنمها منهم لم يؤاخذ أيضا بما أسلفه من سب وغيره فهذا وجه العفو عن هؤلاء.
وهذا الذي ذكرناه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحتم قتل من كان يسبه من المشركين مع العفو عمن هو مثله في الكفر كان مستقرا في نفوس أصحابه على عهده وبعد عهده يقصدون قتل الساب ويحرضون عليه وإن أمسكوا عن غيره ويجعلون ذلك هو الموجب لقتله ويبذلون في ذلك نفوسهم كما تقدم من حديث الذي قال: "سبني وسب أبي وأمي وكف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم حمل عليه حتى قتل وحديث الذي قتل أباه لما سمعه يسب النبي صلى الله عليه وسلم وحديث الأنصاري الذي نذر أن يقتل العصماء فقتلها وحديث الذي نذر أن يقتل ابن أبي سرح وكف النبي صلى الله عليه وسلم عن مبايعته ليوفي بنذره.
وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: إني لواقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال: أي عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم فما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا قال: فتعجبت لذلك قال وغمزني الآخر فقال لي مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت لهما: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: " أيكما قتله؟ " فقال كل واحد منهما أنا قتلته فقال: "هل مسحتما سيفيكما" فقالا: لا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال: "كلاكما قتله " وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح والرجلان: معاذ ابن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء.
والقصة مشهورة في فرح النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وسجوده شكرا وقوله: " هذا فرعون هذه الأمة " هذا مع نهيه عن قتل أبي البختري ابن هشام مع كونه كافرا غير ذي عهد لكفه عنه وإحسانه بالسعي في نقض صحيفة الجور ومع قوله: " لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى يعني الأسرى لأطلقتهم له " يكافئ المطعم بإجارته له بمكة والمطعم كافر غير معاهد فعلم أن مؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين إهلاكه والانتقام منه بخلاف الكاف عنه وإن اشتراكا في الكفر كما كان يكافئ المحسن إليه بإحسانه وإن كان كافرا.
يؤيد ذلك أن أبا لهب كان له من القرابة ما له فلما آذاه وتخلف عن بني هاشم في نصره نزل القرآن فيه بما نزل من اللعنة والوعيد باسمه خزيا لم يفعل بغيره من الكافرين كما روي عن ابن عباس أنه قال: "ما كان أبو لهب إلا من كفار قومه حتى خرج منا حين تحالفت قريش علينا فظاهرهم فسبه الله وبنو المطلب مع مساواتهم لعبد شمس ونوفل في النسب لما أعانوه ونصروه وهم كفار شكر الله ذلك لهم فجعلهم بعد الإسلام مع بني هاشم في سهم ذوي القربى وأبو طالب لما أعانه ونصره وذب عنه خفف عنه العذاب فهو من أخف أهل النار عذابا".
وقد روي أن أبا لهب يسقى في نقرة الإبهام لعتقه ثويبة إذ بشرته بولادته.
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير (39)
فإذا لم يكن الدين كله لله وكانت فتنة.
وأصل الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله، والعبادة لله، والاستعانة بالله، والخوف من الله، والرجاء لله، والإعطاء لله، والمنع لله. وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله، الذي أمره أمر الله، ونهيه نهي الله، ومعاداته معاداة الله، وطاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله.
وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وهو الحق، وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء، ليعظم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعا، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله، ولم يكن مجاهدا في سبيل الله. فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره، معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل، وسنة وبدعة؟.
وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، وكفر بعضهم بعضا، وفسق بعضهم بعضا. ولهذا قال تعالى فيهم: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة - وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [سورة البينة: 4 - 5].
وقال تعالى: {كان الناس أمة واحدة} [سورة البقرة: 213]، يعني:
فاختلفوا، كما في سورة يونس، وكذلك في قراءة بعض الصحابة. وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين: أنهم كانوا على دين الإسلام. وفي تفسير ابن عطية عن ابن عباس: أنهم كانوا على الكفر. وهذا ليس بشيء. وتفسير ابن عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن عباس، بل قد ثبت عنه أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام.
وقد قال في سورة يونس: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} [سورة يونس: 19] فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد، فعلم أنه كان حقا.
(فصل: ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه فعقوبتنا له في الدنيا أكبر)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وهنا قاعدة شريفة ينبغي التفطن لها:
وهو أن ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه فعقوبتنا له في الدنيا أكبر وأما ما عاد من الذنوب بمضرة الإنسان في نفسه فقد تكون عقوبته في الآخرة أشد وإن كنا نحن لا نعاقبه في الدنيا.
وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس؛ فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا لا محالة لكف ظلم الناس بعضهم عن بعض ثم هو نوعان:
أحدهما: منع ما يجب لهم من الحقوق وهو التفريط.
والثاني: فعل ما يضر به وهو العدوان. فالتفريط في حقوق العباد. . . (1)
__________
Q (1) خرم في الأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد التاسع
الحلقة( 323)
من صــ 41 الى صـ 55
ولهذا يعاقب الداعية إلى البدع بما لا يعاقب به الساكت ويعاقب من أظهر المنكر بما لا يعاقب به من استخفى به ونمسك عن عقوبة المنافق في الدين وإن كان في الدرك الأسفل من النار. وهذا لأن الأصل أن تكون العقوبة من فعل الله تعالى فإنه الذي يجزي الناس على أعمالهم في الآخرة وقد يجزيهم أيضا في الدنيا.
وأما نحن فعقوبتنا للعباد بقدر ما يحصل به أداء الواجبات وترك المحرمات بحسب إمكاننا كما قال صلى الله عليه وسلم {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله} وقال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} وقال: {والفتنة أكبر من القتل}.
ولهذا من تاب من الكفار والمحاربين وسائر الفساق قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبة التي لحق الله، فإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه عصم دمه وأهله وماله، وكذلك قاطع الطريق والزاني والسارق والشارب إذا تابوا قبل القدرة عليهم لحصول المقصود بالتوبة وأما إذا تابوا بعد القدرة لم تسقط العقوبة كلها؛ لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الحدود وحصول الفساد؛ ولأن هذه التوبة غير موثوق بها؛ ولهذا إذا أسلم الحربي عند القتال صح إسلامه لأنه أسلم قبل القدرة عليه بخلاف من أسلم بعد الأسر فإنه لا يمنع استرقاقه وإن عصم دمه. ويبنى على هذه " القاعدة ": أنه قد يقر من الكفار والمنافقين بلا عقوبة من يكون عذابه في الآخرة أشد إذا لم يتعد ضرره إلى غيره: كالذين يؤتون الجزية عن يد وهم صاغرون والذين أظهروا الإسلام والتزموا شرائعه ظاهرا مع نفاقهم؛ لأن هذين الصنفين كفوا ضررهم في الدين والدنيا عن المسلمين ويعاقبون في الآخرة على ما اكتسبوه من الكفر والنفاق وأما من أظهر ما فيه مضرة فإنه تدفع مضرته ولو بعقابه وإن كان مسلما فاسقا أو عاصيا أو عدلا مجتهدا مخطئا بل صالحا أو عالما سواء في ذلك المقدور عليه والممتنع.
مثال المقدور عليه إنما يعاقب من أظهر الزنا والسرقة وشرب الخمر وشهادة الزور وقطع الطريق وغير ذلك لما فيه من العدوان على النفوس والأموال والأبضاع وإن كان مع هذا حال الفاسق في الآخرة خيرا من حال أهل العهد الكفار ومن حال المنافقين؛ إذ الفاسق خير من الكافر والمنافق بالكتاب والسنة والإجماع. وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم؛ وإن كان قد يكون معذورا فيها في نفس الأمر لاجتهاد أو تقليد.
وكذلك يجوز قتال " البغاة ": وهم الخارجون على الإمام أو غير الإمام بتأويل سائغ مع كونهم عدولا ومع كوننا ننفذ أحكام قضائهم ونسوغ ما قبضوه. من جزية أو خراج أو غير ذلك. إذ الصحابة لا خلاف في بقائهم على العدالة وذلك أن التفسيق انتفى للتأويل السائغ.
وأما القتال: فليؤدوا ما تركوه من الواجب وينتهوا عما ارتكبوه من المحرم وإن كانوا متأولين. وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه وإن كانوا قوما صالحين فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على ترك واجب أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا وإن كانوا معذورين فيه لدفع ضرر فعلهم في الدنيا كما يقام الحد على من تاب بعد رفعه إلى الإمام وإن كان قد تاب توبة نصوحا وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم وفيهم المكره فيحشرون على نياتهم، وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر لما كان فيهم العباس وغيره، وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إلا بقتالهم فالعقوبات المشروعة والمقدورة قد تتناول في الدنيا من لا يستحقها في الآخرة وتكون في حقه من جملة المصائب كما قيل في بعضهم: القاتل مجاهد والمقتول شهيد. وعلى هذا فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه ولا يستفتى ولا يصلى خلفه قد يكون من هذا الباب؛ فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها وإن كان في نفس الأمر تائبا أو معذورا؛ إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين: إما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها وإما عقوبة فاعلها ونكاله. فأما هجره بترك. . . (1) في غير هذا الموضع. ومن هذا الباب هجر الإمام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد ولمن تاب بعد الإجابة ولمن فعل بدعة ما؛ مع أن فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة؛ فإن هجره لهم والمسلمين معه لا يمنع معرفة قدر فضلهم كما أن الثلاثة الذين خلفوا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق.
حتى قد قيل إن اثنين منهما شهدا بدرا وقد قال الله لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأحدهم كعب بن مالك شاعر النبي صلى الله عليه وسلم وأحد أهل العقبة فهذا " أصل عظيم " أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل لا يمنع أن يكون المعاقب عدلا أو رجلا صالحا كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة؛ وبين عقوبة الآخرة والله سبحانه أعلم.
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير (41)
فصل:
وقد قال الله تعالى في آية الخمس: {فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين} ومثل ذلك في آية الفيء. وقال في آية الصدقات: {للفقراء والمساكين والعاملين عليها} الآية فأطلق الله ذكر الأصناف؛ وليس في اللفظ ما يدل على التسوية بل على خلافها فمن أوجب باللفظ التسوية فقد قال ما يخالف الكتاب والسنة ألا ترى أن الله لما قال: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} وقال تعالى: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} وقال تعالى: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} وقال تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم} {للسائل والمحروم} وقال تعالى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} وأمثال ذلك لم تكن التسوية في شيء من هذه المواضع واجبة؟ بل ولا مستحبة في أكثر هذه المواضع سواء كان الإعطاء واجبا أو مستحبا بل بحسب المصلحة.
ونحن إذا قلنا في الهدي والأضحية: يستحب أن يأكل ثلثا ويتصدق بثلث؛ فإنما ذلك إذا لم يكن هناك سبب يوجب التفضيل؛ وإلا فلو قدر كثرة الفقراء لاستحببنا الصدقة بأكثر من الثلث وكذلك إذا قدر كثرة من يهدي إليه على الفقراء؛ وكذلك الأكل. فحيث كان الأخذ بالحاجة أو المنفعة كان الاعتبار بالحاجة والمنفعة بحسب ما يقع بخلاف المواريث فإنها قسمت بالأنساب التي لا يختلف فيها أهلها فإن اسم الابن يتناول الكبير والصغير والقوي والضعيف ولم يكن الأخذ لا لحاجته ولا لمنفعته؛ بل لمجرد نسبه؛ فلهذا سوى فيها بين الجنس الواحد.
وأما هذه المواضع فالأخذ فيها بالحاجة والمنفعة؛ فلا يجوز أن تكون التسوية بين الأصناف واجبة ولا مستحبة؛ بل العطاء بحسب الحاجة والمنفعة كما كان أصل الاستحقاق معلقا بذلك والواو تقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم المذكور والمذكور أنه لا يستحق الصدقة إلا هؤلاء فيشتركون في أنها حلال لهم وليس إذا اشتركوا في الحكم المذكور وهو مطلق الحل يشتركون في التسوية فإن اللفظ لا يدل على هذا بحال. ومثله يقال في كلام الواقف والموصي وكان بعض الواقفين قد وقف على المدرس والمعيد والقيم والفقهاء والمتفقهة؛ وجرى الكلام في ذلك فقلنا: يعطي بحسب المصلحة فطلب المدرس الخمس بناء على هذا الظن؛ فقيل له: فأعطي القيم أيضا الخمس لأنه نظير المدرس فظهر بطلان حجته. آخره والحمد لله رب العالمين.
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ... (60)
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على المنبر هذه الآية فقال: " {ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي}. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: " {ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا}. وفي رواية: " {ومن تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة جحدها}.
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل؛ إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته. فإنهن من الحق}. وقال: " {ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه}. وقال مكحول: كتب عمر بن الخطاب إلى الشام: أن علموا علموا أولادكم الرمي والفروسية. وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميا}. {ومر على نفر من أسلم ينتضلون فقال صلى الله عليه وسلم ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميا ارموا وأنا مع بني فلان فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم}.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه {نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني نفض كنانته يوم أحد - وقال: ارم فداك أبي وأمي} وقال علي بن أبي طالب: {ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد: قال له: ارم سعد فداك أبي وأمي}. وقال أنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " {لصوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة} وكان إذا كان في الجيش جثا بين يديه ونثر كنانته فقال: نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم له السيف والقوس والرمح.
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من رمى بسهم في سبيل الله - بلغ العدو أو لم يبلغه - كانت له عدل رقبة}. وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير؛ والرامي به والممد به} وهذا لأن هذه الأعمال هي أعمال الجهاد والجهاد أفضل ما تطوع به الإنسان وتطوعه أفضل من تطوع الحج وغيره كما قال تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم} {خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم}.
وفي الصحيح {أن رجلا قال: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام فقال علي بن أبي طالب: الجهاد في سبيل الله أفضل من هذا كله. فقال عمر بن الخطاب لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إذا قضيت الصلاة سألته عن ذلك. فسأله؛ فأنزل الله هذه الآية} فبين لهم أن الإيمان والجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام والحج والعمرة والطواف ومن الإحسان إلى الحجاج بالسقاية؛ ولهذا قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. ولهذا كان الرباط في الثغور أفضل من المجاورة بمكة والمدينة والعمل بالرمح والقوس في الثغور أفضل من صلاة التطوع.
وأما في الأمصار البعيدة من العدو فهو نظير صلاة التطوع. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {إن في الجنة مائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله}. وهذه الأعمال كل منها له محل يليق به هو أفضل فيه من غيره فالسيف عند مواصلة العدو والطعن عند مقاربته والرمي عند بعده أو عند الحائل كالنهر والحصن ونحو ذلك. فكلما كان أنكى في العدو وأنفع للمسلمين فهو أفضل. وهذا يختلف باختلاف أحوال العدو وباختلاف حال المجاهدين في العدو. ومنه ما يكون الرمي فيه أنفع ومنه ما يكون الطعن فيه أنفع. وهذا مما يعلمه المقاتلون.
(هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62)
[فصل البرهان الثالث والعشرون " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين " والجواب عليه]
فصل
قال الرافضي: البرهان الثالث والعشرون: قوله تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} [سورة الأنفال: 62] من طريق أبي نعيم عن أبي هريرة قال: مكتوب على العرش لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد عبدي ورسولي أيدته بعلي بن أبي طالب، وذلك قوله في كتابه: ({هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين}، يعني بعلي، وهذه من أعظم الفضائل التي لم تحصل لغيره من الصحابة، فيكون هو الإمام ".
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل. وأما مجرد العزو إلى رواية أبي نعيم فليس حجة بالاتفاق. وأبو نعيم له كتاب مشهور في " فضائل الصحابة "، وقد ذكر قطعة من الفضائل في أول " الحلية "، فإن كانوا يحتجون بما رواه، فقد روى في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ما ينقض بنيانهم ويهدم أركانهم، وإن كانوا [لا] يحتجون بما رواه فلا يعتمدون على نقله، ونحن نرجع فيما رواه - هو وغيره - إلى أهل العلم بهذا الفن والطرق التي بها يعلم صدق الحديث وكذبه، من النظر في إسناده ورجاله، وهل هم ثقات سمع بعضهم من بعض أم لا؟ وننظر إلى شواهد الحديث وما يدل [عليه] على أحد الأمرين، لا فرق عندنا بين ما يروى في فضائل علي أو فضائل غيره، فما ثبت أنه صدق صدقناه، وما كان كذبا كذبناه.
فنحن نجيء بالصدق ونصدق به، لا نكذب، ولا نكذب صادقا. وهذا معروف عند أئمة السنة. وأما من افترى على الله كذبا أو كذب بالحق، فعلينا أن نكذبه في كذبه وتكذيبه للحق، كأتباع مسيلمة
الكذاب والمكذبين بالحق الذي جاء به الرسول واتبعه عليه المؤمنون به: صديقه الأكبر وسائر المؤمنين.
ولهذا نقول في الوجه الثاني: إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. وهذا الحديث - وأمثاله - مما جزمنا أنه كذب موضوع نشهد أنه كذب موضوع، فنحن والله الذي لا إله إلا هو - نعلم علما ضروريا في قلوبنا، لا سبيل لنا إلى دفعه، أن هذا الحديث [كذب] ما حدث به أبو هريرة، وهكذا نظائره مما نقول فيه مثل ذلك.
وكل من كان عارفا بعلم الحديث وبدين الإسلام يعرف، وكل من لم يكن له بذلك علم لا يدخل معنا، كما أن أهل الخبرة بالصرف يحلفون على ما يعلمون أنه مغشوش، وإن كان من لا خبرة له لا يميز بين المغشوش والصحيح.
الثالث: أن الله تعالى قال: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} [سورة الأنفال: 62 - 63]. وهذا نص في أن المؤمنين عدد مؤلف بين قلوبهم، وعلي واحد [منهم] ليس له قلوب يؤلف بينها.
والمؤمنون صيغة جمع، فهذا نص صريح لا يحتمل أنه أراد به واحدا
معينا، وكيف يجوز أن يقال: المراد بهذا علي وحده؟
الوجه الرابع: أن يقال: من المعلوم بالضرورة والتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان قيام دينه بمجرد موافقة علي، فإن عليا كان من أول من أسلم، فكان الإسلام ضعيفا، فلولا أن الله هدى من هداه إلى الإيمان والهجرة والنصرة، لم يحصل بعلي وحده شيء من التأييد، ولم يكن إيمان الناس وهجرتهم ولا نصرتهم على يد علي، ولم يكن علي منتصبا: لا بمكة ولا بالمدينة للدعوة إلى الإيمان، كما كان أبو بكر منتصبا لذلك، ولم ينقل أنه أسلم على يد علي أحد من السابقين الأولين، لا من المهاجرين ولا من الأنصار، بل لا نعرف أنه أسلم على يد علي أحد من الصحابة، لكن لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قد يكون قد أسلم على يديه من أسلم، إن كان وقع ذلك وليس أولئك من الصحابة، وإنما أسلم أكابر الصحابة على يد أبي بكر، ولا كان يدعو المشركين ويناظرهم، كما كان أبو بكر يدعوهم ويناظرهم، ولا كان المشركون يخافونه، كما يخافون أبا بكر وعمر.
بل قد ثبت في الصحاح والمساند والمغازي، واتفق عليه الناس، أنه «لما كان يوم أحد وانهزم المسلمون، صعد أبو سفيان على الجبل وقال: أفي القوم محمد؟ [أفي القوم محمد؟] فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" لا تجيبوه ". فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجيبوه " فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجيبوه ". فقال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر - رضي الله عنه - نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء، وقد بقي لك ما يسوءك. فقال: يوم بيوم بدر. فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. ثم أخذ أبو سفيان يرتجز ويقول:
اعل هبل. . اعل هبل.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا تجيبوه؟ " فقالوا: وما نقول؟ قال: " قولوا: الله أعلى وأجل " فقال: إن لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا تجيبوه " فقالوا: وما نقول؟ قال: " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم " فقال: ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني».
فهذا جيش المشركين إذ ذاك لا يسأل إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، فلو كان القوم خائفين من علي أو عثمان أو طلحة أو الزبير أو نحوهم، أو كان للرسول تأييد بهؤلاء، كتأييده بأبي بكر وعمر، لكان يسأل عنهم كما يسأل عن هؤلاء، فإن المقتضي للسؤال قائم، والمانع
منتف، ومع وجود القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب معه وجود الفعل.
الوجه الخامس: أنه لم يكن لعلي في الإسلام أثر حسن، إلا ولغيره من الصحابة مثله، ولبعضهم آثار أعظم من آثاره. وهذا معلوم لمن عرف السيرة الصحيحة الثابتة بالنقل. وأما من يأخذ بنقل الكذابين وأحاديث الطرقية، فباب الكذب مفتوح، وهذا الكذب يتعلق بالكذب على الله، {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه} [سورة العنكبوت: 68].
ومجموع المغازي التي كان فيها القتال مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع مغاز، والمغازي كلها بضع وعشرون غزاة، وأما السرايا فقد قيل: إنها تبلغ سبعين.
__________
Q (1) خرم بالأصل مقدار نصف سطر
قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 83):
ومن الظاهر أن آخر الكلام الذي سقط قوله [كما قد بسط] يعني (في غير هذا الموضع)، وقد بسط الشيخ الكلام على هذا الأصل، وبين نوعي الهجر بالتفصيل في: 28/ 203 - 210.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد التاسع
الحلقة( 324)
من صــ 56 الى صـ 70
ومجموع من قتل من الكفار في غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبلغون ألفا أو أكثر أو أقل، ولم يقتل [علي] منهم عشرهم ولا نصف عشرهم، وأكثر السرايا لم يكن يخرج فيها. وأما بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يشهد شيئا من الفتوحات: لا هو ولا عثمان ولا طلحة،
ولا الزبير، إلا أن يخرجوا مع عمر حين خرج إلى الشام. وأما الزبير فقد شهد فتح مصر، وسعد شهد فتح القادسية، وأبو عبيدة فتح الشام.
فكيف يكون تأييد الرسول بواحد من أصحابه دون سائرهم والحال هذه؟ وأين تأييده بالمؤمنين كلهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين بايعوه تحت الشجرة والتابعين لهم بإحسان؟
وقد كان المسلمون يوم بدر ثلاثمائة وثلاث عشر، ويوم أحد نحو سبعمائة، ويوم الخندق أكثر من ألف أو قريبا من ذلك، ويوم بيعة الرضوان ألفا وأربعمائة، وهم الذين شهدوا فتح خيبر، ويوم فتح مكة كانوا عشرة آلاف، ويوم حنين كانوا اثني عشر ألفا: تلك العشرة، والطلقاء ألفان.
وأما تبوك فلا يحصى من شهدها، بل كانوا أكثر من ثلاثين [ألفا]. وأما حجة الوداع فلا يحصى من شهدها معه، وكان قد أسلم على عهده أضعاف من رآه وكان من أصحابه، وأيده الله بهم في حياته باليمن وغيرها. وكل هؤلاء من المؤمنين الذين أيده الله بهم، بل كل من آمن وجاهد إلى يوم القيامة دخل في هذا المعنى.
(ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64)
أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله فهو كافيكم كلكم، وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك كما يظنه بعض الغالطين إذ هو وحده كاف نبيه وهو حسبه ليس معه من يكون هو وإياه حسبا للرسول وهذا في اللغة كقول الشاعر:
فحسبك والضحاك سيف مهند
وتقول العرب: حسبك وزيدا درهم أي يكفيك وزيدا جميعا درهم.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
فكل من اتبع الرسول فإن الله حسبه؛ أي كافيه وهاديه وناصره؛ أي: كافيه كفايته وهدايته وناصره ورازقه.
[فصل البرهان الرابع والعشرون " ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " والجواب عليه]
فصل
قال الرافضي: " البرهان الرابع والعشرون: قوله تعالى: {ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [سورة الأنفال: 64]. من طريق أبي نعيم قال: نزلت في علي. وهذه فضيلة لم تحصل لأحد من الصحابة غيره، فيكون هو الإمام ".
والجواب من وجوه: أحدها: منع الصحة.
الثاني: أن هذا القول ليس بحجة.
الثالث: أن يقال: هذا الكلام من أعظم الفرية على الله ورسوله. وذلك أن قوله: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [سورة الأنفال: 64] معناه: أن الله حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، فهو وحده كافيك وكافي من معك من المؤمنين. وهذا كما تقول العرب: حسبك وزيدا درهم.
ومنه قول الشاعر:
فحسبك والضحاك سيف مهند
وذلك أن " حسب " مصدر، فلما أضيف لم يحسن العطف عليه إلا بإعادة الجار، فإن العطف بدون ذلك، وإن كان جائزا في أصح القولين فهو قليل، وإعادة الجار أحسن وأفصح، فعطف على المعنى، والمضاف إليه في معنى المنصوب، فإن قوله: " فحسبك والضحاك " [معناه: يكفيك والضحاك].
والمصدر يعمل عمل الفعل، لكن إذا أضيف عمل في غير المضاف إليه، ولهذا إن أضيف إلى الفاعل نصب المفعول، وإن أضيف إلى المفعول رفع الفاعل، فتقول: أعجبني دق القصار الثوب، وهذا وجه الكلام. وتقول: أعجبني دق الثوب القصار.
ومن النحاة من يقول: إعماله منكرا أحسن من إعماله مضافا ; لأنه بالإضافة قوي شبهه بالأسماء. والصواب أن إضافته إلى أحدهما وإعماله في الآخر أحسن من تنكيره وإعماله فيهما. فقول القائل: أعجبني دق القصار الثوب. أحسن من قوله: دق الثوب القصار، فإن التنكير أيضا من خصائص الأسماء، والإضافة أخف ; لأنه اسم، والأصل فيه أن يضاف ولا يعمل، لكن لما تعذرت إضافته إلى الفاعل والمفعول جميعا، أضيف إلى أحدهما، وأعمل في الآخر.
وهكذا في المعطوفات: إن أمكن إضافتها إليها كلها، كالمضاف إلى الظاهر، فهو أحسن. كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" «إن الله حرم بيع الخمر والميتة [والدم] والخنزير والأصنام» ".
وكقولهم: «نهى عن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة».
وإن تعذر لم يحسن ذلك، كقولك: حسبك وزيدا درهم، عطفا على المعنى.
ومما يشبه هذا قوله: {وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} [سورة الأنعام: 96]، نصب هذا على محل الليل المجرور، فإن اسم الفاعل كالمصدر، ويضاف تارة ويعمل تارة أخرى.
وقد ظن بعض الغالطين أن معنى الآية: أن الله والمؤمنين حسبك، ويكون: {من اتبعك} رفعا عطفا على الله، وهذا خطأ قبيح مستلزم للكفر ; فإن الله وحده حسب جميع الخلق.
كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [سورة آل عمران: 173] * أي: الله وحده كافينا كلنا.
وفي البخاري عن ابن عباس في هذه الكلمة: قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل *.
فكل من النبيين قال: حسبي الله، فلم يشرك بالله غيره في كونه حسبه، فدل على أن الله وحده حسبه ليس معه غيره.
ومنه قوله تعالى: {أليس الله بكاف عبده} [سورة الزمر: 36]، وقوله تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله} [سورة التوبة: 59] الآية، فدعاهم إلى أن يرضوا ما آتاهم الله ورسوله، وإلى أن يقولوا: حسبنا الله، ولا يقولوا: حسبنا الله ورسوله ; لأن الإيتاء يكون بإذن الرسول، كما قال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [سورة الحشر: 7]
وأما الرغبة فإلى الله، كما قال تعالى: {فإذا فرغت فانصب - وإلى ربك فارغب} [سورة الشرح: 7].
وكذلك التحسب الذي هو التوكل على الله وحده. فلهذا أمروا أن يقولوا: حسبنا الله، ولا يقولوا ورسوله. فإذا لم يجز أن يكون الله ورسوله * حسب المؤمن، كيف يكون المؤمنون مع الله حسبا لرسوله؟!
وأيضا فالمؤمنون محتاجون إلى الله، كحاجة الرسول إلى الله *، فلا بد لهم من حسبهم، ولا يجوز أن يكون معونتهم وقوتهم من الرسول وقوة الرسول منهم ; فإن هذا يستلزم الدور، بل قوتهم من الله، وقوة الرسول من الله، [فالله] وحده يخلق قوتهم، والله وحده يخلق قوة الرسول.
فهذا كقوله: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين - وألف بين قلوبهم} [سورة الأنفال: 62 - 63]، فإنه وحده هو المؤيد للرسول بشيئين: أحدهما: نصره الذي ينصر به، والثاني: بالمؤمنين الذين أتى بهم.
وهناك قال: حسبك الله، ولم يقل: نصر الله. فنصر الله منه، كما أن المؤمنين من مخلوقاته أيضا، فعطف ما منه على ما منه، إذ كلاهما منه. وأما هو سبحانه فلا يكون معه غيره في إحداث شيء من الأشياء، بل هو وحده الخالق لكل ما سواه، ولا يحتاج في شيء من ذلك إلى غيره.
وإذا تبين هذا، فهؤلاء الرافضة رتبوا جهلا على جهل، فصاروا في
ظلمات بعضها فوق بعض، فظنوا أن قوله: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} معناه: أن الله ومن اتبعك من المؤمنين حسبك، ثم جعلوا المؤمنين الذين اتبعوه هم علي بن أبي طالب.
وجهلهم [في] هذا أظهر من جهلهم في الأول، فإن الأول قد يشتبه على بعض الناس، وأما هذا فلا يخفى على عاقل، فإن عليا لم يكن وحده [من الخلق] كافيا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكن معه إلا علي لما أقام دينه. وهذا علي لم يغن عن نفسه ومعه أكثر جيوش الأرض، بل لما حاربه معاوية مع أهل الشام، كان معاوية مقاوما له أو مستظهرا، سواء كان ذلك بقوة قتال أو قوة مكر واحتيال، فالحرب خدعة:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة بلغت من العلياء كل مكان.
فإذا لم يغن عن نفسه بعد ظهور الإسلام واتباع أكثر أهل الأرض له، فكيف يغني عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأهل الأرض كلهم أعداؤه؟!
وإذا قيل: إن عليا إنما لم يغلب معاوية ومن معه لأن جيشه لا يطيعونه، بل كانوا مختلفين عليه.
قيل: فإذا كان من معه من المسلمين لم يطيعوه، فكيف يطيعه الكفار الذين يكفرون بنبيه وبه؟!
وهؤلاء الرافضة يجمعون بين النقيضين ; لفرط جهلهم وظلمهم: يجعلون عليا أكمل الناس قدرة وشجاعة، حتى يجعلوه هو الذي أقام دين الرسول، وأن الرسول كان محتاجا إليه. ويقولون مثل هذا الكفر، إذ يجعلونه شريكا لله في إقامة دين محمد، ثم يصفونه بغاية العجز والضعف والجزع والتقية بعد ظهور الإسلام وقوته ودخول الناس فيه أفواجا.
ومن المعلوم قطعا أن الناس بعد دخولهم في دين الإسلام أتبع للحق منهم قبل دخولهم فيه، فمن كان مشاركا لله في إقامة دين محمد، حتى قهر الكفار وأسلم الناس، كيف لا يفعل هذا في قهر طائفة بغوا عليه، هم أقل من الكفار الموجودين عند بعثة الرسول، وأقل منهم شوكة، وأقرب إلى الحق منهم؟!
فإن الكفار حين بعث الله محمدا كانوا أكثر ممن نازع عليا وأبعد عن الحق، فإن أهل الحجاز والشام واليمن ومصر والعراق وخراسان والمغرب كلهم كانوا كفارا، ما بين مشرك وكتابي ومجوسي وصابئ، ولما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت جزيرة العرب قد ظهر فيها الإسلام، ولما قتل عثمان كان الإسلام قد ظهر في الشام ومصر والعراق وخراسان والمغرب.
فكان أعداء الحق عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم - أقل منهم
وأضعف، وأقل عداوة منهم له عند مبعثه، وكذلك كانوا عند مقتل عثمان أقل منهم وأضعف، وأقل عداوة منهم له حين بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ; فإن جميع الحق الذي كان يقاتل عليه علي، هو جزء من الحق الذي قاتل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن كذب بالحق الذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - وقاتله عليه، كذب بما قاتل عليه علي من ذلك.
فإذا كان علي في هذه الحال قد ضعف وعجز عن نصر الحق ودفع الباطل، فكيف يكون حاله حين المبعث، وهو أضعف وأعجز، وأعداء الحق أعظم وأكثر وأشد عداوة؟!
ومثل الرافضة في ذلك مثل النصارى: ادعوا في المسيح الإلهية، وأنه رب كل شيء ومليكه، وهو على كل شيء قدير. ثم يجعلون أعداءه صفعوه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه، وأنه جعل يستغيث فلا يغيثوه، فلا [أفلحوا] بدعوى تلك القدرة القاهرة، ولا بإثبات هذه الذلة التامة.
وإن قالوا: كان هذا برضاه.
قيل: فالرب إنما يرضى بأن يطاع لا بأن يعصى. فإن كان قتله وصلبه برضاه، كان ذلك عبادة وطاعة لله، فيكون اليهود الذين صلبوه عابدين لله مطيعين في ذلك، فيمدحون على ذلك لا يذمون. وهذا من أعظم الجهل والكفر.
وهكذا يوجد من فيه شبه من النصارى والرافضة من الغلاة في أنفسهم وشيوخهم، تجدهم في غاية الدعوى وفي غاية العجز. كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وفقير مختال ". وفي لفظ: " عائل مزهو " وفي لفظ: " وعائل مستكبر» " وهذا معنى قول بعض العامة: الفقر والزنطرة.
فهكذا شيوخ الدعاوى والشطح: يدعي أحدهم الإلهية وما هو أعظم من النبوة، ويعزل الرب عن ربوبيته والنبي عن رسالته، ثم آخرته شحاذ يطلب ما يقيته، أو خائف يستعين بظالم على دفع مظلمته، فيفتقر إلى لقمة، ويخاف من كلمة، فأين هذا الفقر والذل من دعوى الربوبية المتضمنة للغنى والعز؟!
وهذه حال المشركين الذين قال الله فيهم: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} [سورة الحج: 31].
وقال: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} [سورة العنكبوت: 41] وقال: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} [سورة آل عمران: 151].
والنصارى فيهم شرك بين، كما قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [سورة التوبة: 31]. وهكذا من أشبههم من الغالية من الشيعة والنساك: فيه شرك وغلو، [كما في النصارى شرك وغلو] واليهود فيهم كبر، والمستكبر معاقب بالذل.
قال تعالى: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [سورة آل عمران: 112].
وقال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [سورة البقرة: 87] فتكذيبهم وقتلهم للأنبياء كان استكبارا.
فالرافضة فيهم شبه من اليهود من وجه، وشبه من النصارى من وجه. ففيهم شرك وغلو وتصديق بالباطل كالنصارى، وفيهم جبن وكبر وحسد وتكذيب بالحق كاليهود
وهكذا غير الرافضة من أهل الأهواء والبدع، تجدهم في نوع من الضلال ونوع من الغي، فيهم شرك وكبر.
لكن الرافضة أبلغ من غيرهم في ذلك، ولهذا تجدهم من أعظم الطوائف تعطيلا لبيوت الله ومساجده من الجمع والجماعات، التي هي أحب الاجتماعات إلى الله. وهم أيضا لا يجاهدون الكفار أعداء الدين، بل كثيرا ما يوالونهم ويستعينون بهم على عداوة المسلمين، فهم يعادون أولياء الله المؤمنين، ويوالون أعداءه المشركين وأهل الكتاب، كما يعادون أفضل الخلق [من] المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان، ويوالون أكفر الخلق من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم من الملاحدة، وإن كانوا يقولون: هم كفار، فقلوبهم وأبدانهم إليهم أميل منها إلى المهاجرين والأنصار والتابعين وجماهير المسلمين.
وما من أحد من أهل الأهواء والبدع، حتى المنتسبين إلى العلم والكلام والفقه والحديث والتصوف إلا وفيه شعبة من ذلك، كما يوجد أيضا شعبة من ذلك في أهل الأهواء من أتباع الملوك والوزراء والكتاب والتجار، لكن الرافضة أبلغ في الضلال والغي من جميع الطوائف أهل البدع.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 325)
من صــ 71 الى صـ 85
(والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم (75)
قالت طائفة من السلف: هذا يدخل فيه من آمن وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة وهكذا قوله تعالى {للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه أو أوقعه في معصية ثم هجر السيئات وجاهد نفسه وغيرها من العدو وجاهد المنافقين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك وصبر على ما أصابه من قول أو فعل. والله سبحانه وتعالى أعلم.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
(فصل في التعريف بالسورة الكريمة)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وقد أنزل الله " سورة براءة " التي تسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين. أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس قال: هي الفاضحة ما زالت تنزل (ومنهم (ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها.
وعن المقداد بن الأسود قال: هي " سورة البحوث " لأنها بحثت عن سرائر المنافقين.
وعن قتادة قال: هي المثيرة؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين. وعن ابن عباس قال: هي المبعثرة. والبعثرة والإثارة متقاربان. وعن ابن عمر: أنها المقشقشة. لأنها تبرئ من مرض النفاق. يقال: تقشقش المريض إذا برأ: قال الأصمعي: وكان يقال لسورتي الإخلاص: المقشقشتان؛ لأنهما يبرئان من النفاق.
وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك عام تسع من الهجرة وقد عز الإسلام وظهر. فكشف الله فيها أحوال المنافقين ووصفهم فيها بالجبن وترك الجهاد. ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله والشح على المال.
وهذان داءان عظيمان: الجبن والبخل. قال النبي صلى الله عليه وسلم {شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع} حديث صحيح؛ ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار كما دل عليه قوله: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} وقال تعالى. {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}.
وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} {لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون}. فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فما هم منهم؛ ولكن يفزعون من العدو. فـ {لو يجدون ملجأ} يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد أو (مغارات وهي جمع مغارة. ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر؛ كما يغور الماء. أو مدخلا وهو الذي يتكلف الدخول إليه إما لضيق بابه أو لغير ذلك. أي مكانا يدخلون إليه. ولو كان الدخول بكلفة ومشقة (لولوا عن الجهاد {إليه وهم يجمحون} أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام. وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا وفيما قبلها من الحوادث وبعدها.
وقال في وصفهم بالشح: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}. فهذه حال من أنفق كارها فكيف بمن ترك النفقة رأسا وقال: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} وقال: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون}.
وقال في السورة: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}. فانتظمت هذه الآية حال من أخذ المال بغير حقه أو منعه من مستحقه من جميع الناس؛ فإن الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد. وقد أخبر أن كثيرا منهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون - أي يعرضون ويمنعون.
يقال: صد عن الحق صدودا وصد غيره صدا. وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل: من وقف أو عطية على الدين كالصلاة والنذور التي تنذر لأهل الدين ومن الأموال المشتركة كأموال بيت المال ونحو ذلك. فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين. ثم قال: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله. والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل الله سواء كان ملكا أو مقدما أو غنيا أو غير ذلك. وإذا دخل في هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب فما كنز من الأموال المشتركة التي يستحقها عموم الأمة - ومستحقها: مصالحهم - أولى وأحرى.
(براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (2)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وهذه الأشهر عند جمهور العلماء هي المذكورة في قوله تعالى: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين} [التوبة: 2].
فإن المشركين كانوا على نوعين: نوعا لهم عهد مطلق غير مؤقت، وهو عقد جائز غير لازم، ونوعا لهم عهد مؤقت، فأمر الله رسوله أن ينبذ إلى المشركين أهل العهد المطلق ; لأن هذا العهد جائز غير لازم، وأمره أن يسيرهم أربعة أشهر، ومن كان له عهد مؤقت فهو عهد لازم، فأمره الله أن يوفي له إذا كان مؤقتا، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الهدنة لا تجوز إلا مؤقتة، وذهب بعضهم إلى أنه يجوز للإمام أن يفسخ الهدنة مع قيامهم بالواجب، والصواب هو القول الثالث، وهو أنها تجوز مطلقة ومؤقتة.
فأما المطلقة فجائزة غير لازمة، يخير بين إمضائها وبين نقضها. والمؤقتة لازمة.
[فصل قال الرافضي الحادي عشر أن رسول الله أنفذه لأداء سورة براءة ثم رده والرد عليه]
(فصل)
قال الرافضي: " الحادي عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - أنفذه لأداء سورة براءة، ثم أنفذ عليا، وأمره برده، وأن يتولى هو ذلك، ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها، فكيف يصلح للإمامة العامة المتضمنة لأداء الأحكام إلى جميع الأمة؟! "
والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كذب باتفاق أهل العلم، وبالتواتر العام ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع، لم يرده ولا رجع، بل هو الذي أقام للناس الحج ذلك العام، وعلي من جملة رعيته، يصلي خلفه، ويدفع بدفعه، ويأتمر بأمره كسائر من معه.
وهذا من العلم المتواتر عند أهل العلم: لم يختلف اثنان في أن أبا بكر هو الذي أقام الحج ذلك العام بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم. فكيف يقال: إنه أمره برده؟!
ولكن أردفه بعلي لينبذ إلى المشركين عهدهم ; لأن عادتهم كانت جارية أن لا يعقد العقود ولا يحلها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فلم يكونوا يقبلون ذلك من كل أحد.
وفي الصحيحين م: وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حجة الوداع، في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: " أن: «لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» "، وفي رواية: «ثم أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلي، وأمره أن يؤذن ببراءة، فأذن علي معنا في أهل منى يوم النحر ببراءة، وبأن لا يحج (* بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان». قال: فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج *) عام حجة الوداع - التي حج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشرك.
قال أبو محمد بن حزم: " وما حصل في حجة الصديق كان من أعظم فضائله ; لأنه هو الذي خطب بالناس في ذلك الموسم والجمع العظيم، والناس منصتون لخطبته، يصلون خلفه، وعلي من جملتهم. وفي السورة فضل أبي بكر وذكر الغار، فقرأها علي على الناس، فهذا مبالغة في فضل أبي بكر، وحجة قاطعة ".
وتأميره لأبي بكر على علي هذا كان بعد قوله: " «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى»؟ "، ولا ريب أن هذا الرافضي ونحوه من شيوخ الرافضة من أجهل الناس بأحوال الرسول وسيرته وأموره ووقائعه، يجهلون من ذلك ما هو متواتر معلوم لمن له أدنى معرفة بالسيرة، ويجيئون إلى ما وقع فيقبلونه، ويزيدون فيه وينقصون.
وهذا القدر، وإن كان الرافضي لم يفعله، فهو فعل شيوخه وسلفه الذين قلدهم، ولم يحقق ما قالوه، ويراجع ما هو المعلوم عند أهل العلم المتواتر عندهم، المعلوم لعامتهم وخاصتهم.
الثاني: قوله: " الإمامة العامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة ".
قول باطل ; فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيها، لا تحتاج فيها إلى الإمام، إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء، وكانت عامة الشريعة التي يحتاج الناس إليها عند الصحابة معلومة، ولم يتنازعوا زمن الصديق في شيء منها، إلا واتفقوا بعد النزاع بالعلم الذي كان يظهره بعضهم لبعض، وكان الصديق يعلم عامة الشريعة، وإذا خفي عنه الشيء اليسير سأل عنه الصحابة ممن كان عنده علم ذلك، كما «سألهم عن ميراث الجدة، فأخبره من أخبره منهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس».
الثالث: أن القرآن بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كل أحد من المسلمين، فيمتنع أن يقال: إن أبا بكر لم يكن يصلح لتبليغه.
الرابع: أنه لا يجوز أن يظن أن تبليغ القرآن يختص بعلي ; فإن القرآن لا يثبت بخبر الآحاد، بل لا بد أن يكون منقولا بالتواتر.
الخامس: أن الموسم ذلك العام كان يحج فيه المسلمون والمشركون، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن ينادي في الموسم: " «أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» " كما ثبت في الصحيحين. فأي حاجة كانت بالمشركين إلى أن يبلغوا القرآن.
(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (6)
وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله -:
عن قوله تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} فسماه هنا كلام الله وقال في مكان آخر: {إنه لقول رسول كريم} فما معنى ذلك؟ فإن طائفة ممن يقول بالعبارة يدعون أن هذا حجة لهم ثم يقولون: أنتم تعتقدون أن موسى - صلوات الله عليه - سمع كلام الله عز وجل حقيقة من الله من غير واسطة وتقولون: إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة فما الفرق بين هذا وهذا؟ وتقولون: إن القرآن صفة لله تعالى وأن صفات الله تعالى قديمة؛ فإن قلتم إن هذا نفس كلام الله تعالى فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية وإن قلتم: غير ذلك قلتم بمقالتنا ونحن نطلب منكم في ذلك جوابا نعتمد عليه إن شاء الله تعالى.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذه الآية حق كما ذكر الله وليست إحدى الآيتين معارضة للأخرى بوجه من الوجوه ولا في واحدة منهما حجة لقول باطل وإن كان كل من الآيتين قد يحتج بها بعض الناس على قول باطل وذلك أن قوله: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} فيه دلالة على أنه يسمع كلام الله من التالي المبلغ وأن ما يقرؤه المسلمون هو كلام الله كما في حديث جابر في السنن: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول: ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي} وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما خرج على المشركين فقرأ عليهم: {الم} {غلبت الروم} {في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} قالوا له هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا بكلام صاحبي؛ ولكنه كلام الله. وقد قال تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} {وجعلت له مالا ممدودا} {وبنين شهودا} {ومهدت له تمهيدا} {ثم يطمع أن أزيد} {كلا إنه كان لآياتنا عنيدا} {سأرهقه صعودا} {إنه فكر وقدر} {فقتل كيف قدر} {ثم قتل كيف قدر} {ثم نظر} {ثم عبس وبسر} {ثم أدبر واستكبر} {فقال إن هذا إلا سحر يؤثر} {إن هذا إلا قول البشر} "
فمن قال: إن هذا القرآن قول البشر كان قوله مضاهيا لقول الوحيد الذي أصلاه الله سقر. ومن المعلوم لعامة العقلاء أن من بلغ كلام غيره كالمبلغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} إذا سمعه الناس من المبلغ قالوا: هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو قال المبلغ هذا كلامي وقولي لكذبه الناس لعلمهم بأن الكلام كلام لمن قاله مبتدئا منشئا؛ لا لمن أداه راويا مبلغا. فإذا كان مثل هذا معلوما في تبليغ كلام المخلوق فكيف لا يعقل في تبليغ كلام الخالق الذي هو أولى أن لا يجعل كلاما لغير الخالق جل وعلا. وقد أخبر تعالى بأنه منزل منه فقال: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} وقال: {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}.
فجبريل رسول الله من الملائكة جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وكلاهما مبلغ له كما قال: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} وقال: {إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} وهو مع هذا كلام الله ليس لجبريل ولا لمحمد فيه إلا التبليغ والأداء كما أن المعلمين له في هذا الزمان والتالين له في الصلاة أو خارج الصلاة ليس لهم فيه إلا ذلك لم يحدثوا شيئا من حروفه ولا معانيه قال الله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} إلى قوله: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون} {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}.
كان بعض المشركين يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلمه من بعض الأعاجم الذين بمكة إما عبد ابن الحضرمي وإما غيره كما ذكر ذلك المفسرون فقال تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه} أي يضيفون إليه التعليم لسان {أعجمي وهذا لسان عربي مبين} فكيف يتصور أن يعلمه أعجمي وهذا الكلام عربي؟ وقد أخبر أنه نزله روح القدس من ربك بالحق فهذا بيان أن هذا القرآن العربي الذي تعلمه من غيره لم يكن هو المحدث لحروفه ونظمه؛ إذ يمكن لو كان كذلك أن يكون تلقى من الأعجمي معانيه وألف هو حروفه وبيان أن هذا الذي تعلمه من غيره نزل به روح القدس من ربك بالحق يدل على أن القرآن جميعه منزل من الرب سبحانه وتعالى لم ينزل معناه دون حروفه.
ومن المعلوم أن من بلغ كلام غيره كمن بلغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الناس أو أنشد شعر غيره كما لو أنشد منشد قول لبيد:ألا كل شيء ما خلا الله باطل أو قول عبد الله بن رواحة حيث قال: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا أو قوله: وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع وهذا الشعر قاله منشئه لفظه ومعناه وهو كلامه لا كلام غيره بحركته وصوته ومعناه القائم بنفسه ثم إذا أنشده المنشد وبلغه عنه علم أنه شعر ذلك المنشئ وكلامه ونظمه وقوله مع أن هذا الثاني أنشده بحركة نفسه وصوت نفسه وقام بقلبه من المعنى نظير ما قام بقلب الأول وليس الصوت المسموع من المنشد هو الصوت المسموع من المنشئ والشعر شعر المنشئ لا شعر المنشد - والمحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا روى قوله: {إنما الأعمال بالنيات} بلغه بحركته وصوته مع أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به بحركته وصوته وليس صوت المبلغ صوت النبي صلى الله عليه وسلم ولا حركته كحركته والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلام المبلغ له عنه. فإذا كان هذا معلوما معقولا فكيف لا يعقل أن يكون ما يقرأ القارئ إذا قرأ {الحمد لله رب العالمين} {الرحمن الرحيم} {مالك يوم الدين} أن يقال هذا الكلام كلام البارئ وإن كان الصوت صوت القارئ.
فمن ظن أن الأصوات المسموعة من القراء صوت الله فهو ضال مفتر مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول قائل قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين؛ بل قد أنكر الإمام أحمد وغيره على من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق وبدعوه كما جهموا من قال: لفظي بالقرآن مخلوق. وقالوا القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف فكيف من قال لفظي به قديم أو صوتي به قديم؟ فابتداع هذا وضلاله أوضح. فمن قال إن لفظه بالقرآن غير مخلوق أو صوته أو فعله أو شيئا من ذلك فهو ضال مبتدع.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 326)
من صــ 86 الى صـ 100
وهؤلاء قد يحتجون بقوله {حتى يسمع كلام الله} ويقولون هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق فهذا غير مخلوق ونحن لا نسمع إلا صوت القارئ وهذا جهل منهم فإن سماع كلام الله بل وسماع كل كلام يكون تارة من المتكلم به بلا واسطة ويكون بواسطة الرسول المبلغ له قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} ومن قال: إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا. ولو قال قائل: إنا نسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه الصحابة منه لكان ضلاله واضحا فكيف من يقول أنا أسمع كلام الله منه كما سمعه موسى وإن كان الله كلم موسى تكليما بصوت سمعه موسى فليس صوت المخلوقين صوتا للخالق. وكذلك مناداته لعباده بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وتكلمه بالوحي حتى يسمع أهل السموات والأرض صوته كجر السلسلة على الصفا وأمثال ذلك مما جاءت به النصوص والآثار كلها ليس فيها أن صفة المخلوق هي صفة الخالق؛ بل ولا مثلها بل فيها الدلالة على الفرق بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق فليس كلامه مثل كلامه ولا معناه مثل معناه ولا حرفه مثل حرفه ولا صوته مثل صوته كما أنه ليس علمه مثل علمه ولا قدرته مثل قدرته ولا سمعه مثل سمعه ولا بصره مثل بصره فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
ولما استقر في فطر الخلق كلهم الفرق بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وبين سماعه من المبلغ عنه كان ظهور هذا الفرق في سماع كلام الله من المبلغين عنه أوضح من أن يحتاج إلى الإطناب. وقد بين أئمة السنة والعلم - كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتابه في خلق الأفعال وغيرهما من أئمة السنة - من الفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت العباد بالقرآن وغيره ما لا يخالفهم فيه أحد من العلماء أهل العقل والدين.
وقال أيضا شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:
فصل:
قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} وهو منزل من الله كما قال تعالى: {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق}. فأخبر سبحانه أنهم يعلمون ذلك والعلم لا يكون إلا حقا. وقال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} وقال تعالى: {ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} وقال تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى} ونحو ذلك وقال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق}.
فأخبر سبحانه أنه منزل من الله ولم يخبر عن شيء أنه منزل من الله إلا كلامه؛ بخلاف نزول الملائكة والمطر والحديد وغير ذلك. ولهذا كان القول المشهور عن السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود؛ فإن من قال إنه مخلوق يقول إنه خلق في بعض المخلوقات القائمة بنفسها فمن ذلك المخلوق نزل وبدأ لم ينزل من الله فإخبار الله تعالى أنه منزل من الله يناقض أن يكون قد نزل من غير الله؛ ولهذا فسر الإمام أحمد قوله " منه بدأ " أي هو المتكلم به وقال أحمد: كلام الله من الله ليس ببائن عنه. و " أيضا " فلو كان مخلوقا في غيره لم يكن كلامه؛ بل كان يكون كلاما لذلك المخلوق فيه وكذلك سائر ما وصف به نفسه من الإرادة والمحبة والمشيئة والرضى والغضب والمقت وغير ذلك من الأمور لو كان مخلوقا في غيره لم يكن الرب تعالى متصفا به بل كان يكون صفة لذلك المحل؛ فإن المعنى إذا قام بمحل كان صفة لذلك المحل ولم يكن صفة لغيره فيمتنع أن يكون المخلوق أو الخالق موصوفا بصفة موجودة قائمة بغيره؛ لأن ذلك فطري فما وصف به نفسه من الأفعال اللازمة يمتنع أن يوصف الموصوف بأمر لم يقم به. وهذا مبسوط في مواضع أخر.
ولم يقل السلف: إن النبي سمعه من الله تعالى كما يقول ذلك بعض المتأخرين قال الله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته} وفي الصحيحين عن {ابن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ علي القرآن قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت إلى هذه الآية {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} قال: حسبك فنظرت فإذا عيناه تذرفان من البكاء}.
والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل وهو الذي نزل عليه به وجبريل سمعه من الله تعالى كما نص على ذلك أحمد وغيره من الأئمة قال تعالى: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} وقال تعالى: {نزل به الروح الأمين} {على قلبك لتكون من المنذرين} {بلسان عربي مبين} وقال تعالى {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون} {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} فأخبر سبحانه أنه نزله روح القدس - وهو الروح الأمين وهو جبريل - من الله بالحق ولم يقل أحد من السلف: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه من الله وإنما قال ذلك بعض المتأخرين.
وقوله تعالى {إن علينا جمعه وقرآنه} {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} {ثم إن علينا بيانه} هو كقوله تعالى: {نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق} وقوله: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} ونحو ذلك مما يكون الرب فعله بملائكته. فإن لفظ (نحن هو للواحد المطاع الذي له أعوان يطيعونه فالرب تعالى خلق الملائكة وغيرها تطيعه الملائكة أعظم مما يطيع المخلوق أعوانه فهو سبحانه أحق باسم " نحن " و " فعلنا " ونحو ذلك من كل ما يستعمل. وفي الصحيحين عن {ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان يحرك شفتيه فقال ابن عباس: أنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما}.
وقال سعيد بن جبير: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله {لا تحرك به لسانك لتعجل به} {إن علينا جمعه وقرآنه} قال: جمعه لك في صدرك وتقرؤه {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} فإذا قرأه رسولنا وفي لفظ: فإذا قرأه جبريل فاستمع له وأنصت {ثم إن علينا بيانه} أي نقرؤه. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه ".
وقد بين الله تعالى أنواع تكليمه لعباده في قوله {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} فبين سبحانه أن التكليم تارة يكون وحيا وتارة من وراء حجاب كما كلم موسى وتارة يرسل رسولا فيوحي الرسول بإذن الله ما يشاء وقال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} فإذا أرسل الله تعالى رسولا كان ذلك مما يكلم به عباده فيتلوه عليهم وينبئهم به كما قال تعالى: {قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم} وإنما نبأهم بواسطة الرسول والرسول مبلغ به كما قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} وقال تعالى: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} وقال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} والرسول أمر أمته بالتبليغ عنه. ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار} وقال صلى الله عليه وسلم لما خطب المسلمين: {ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع} وقال صلى الله عليه وسلم {نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه}
وفي السنن عن جابر قال {كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي} وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق فلم يقل أحد منهم إنه قديم لم يقل واحدا من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من " الأئمة الأربعة " ولا غيرهم؛ بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون القرآن كلام الله ولما ظهر من قال إنه مخلوق قالوا ردا لكلامه: إنه غير مخلوق ولم يريدوا بذلك أنه مفترى كما ظنه بعض الناس فإن أحدا من المسلمين لم يقل إنه مفترى بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم وإنما قالوا إنه مخلوق خلقه الله في غيره فرد السلف هذا القول كما تواترت الآثار عنهم بذلك وصنفوا في ذلك مصنفات متعددة وقالوا: منه بدأ وإليه يعود.
وأول من عرف أنه قال مخلوق: الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان وأول من عرف أنه قال هو قديم عبد الله بن سعيد بن كلاب ثم افترق الذين شاركوه في هذا القول. فمنهم من قال: الكلام معنى واحد قائم بذات الرب ومعنى القرآن كله والتوراة والإنجيل وسائر كتب الله وكلامه هو ذلك المعنى الواحد الذي لا يتعدد ولا يتبعض والقرآن العربي لم يتكلم الله به بل هو مخلوق خلقه في غيره. وقال جمهور العقلاء: هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار فإنه من المعلوم بصريح العقل أن معنى " آية الكرسي " ليس معنى " آية الدين " ولا معنى {قل هو الله أحد} معنى {تبت يدا أبي لهب وتب} فكيف بمعاني كلام الله كله في الكتب المنزلة وخطابه لملائكته وحسابه لعباده يوم القيامة وغير ذلك من كلامه. ومنهم من قال: هو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته لم يزل ولا يزال موصوفا بها. وكلا الحزبين يقول: إن الله تعالى لا يتكلم بمشيئته وقدرته وإنه لم يزل ولا يزال يقول: يا نوح يا إبراهيم يا أيها المزمل يا أيها المدثر كما قد بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع ولم يقل أحد من السلف بواحد من القولين ولم يقل أحد من السلف: إن هذا القرآن عبارة عن كلام الله ولا حكاية له ولا قال أحد منهم إن لفظي بالقرآن قديم أو غير مخلوق فضلا عن أن يقول: إن صوتي به قديم أو غير مخلوق؛ بل كانوا يقولون بما دل عليه الكتاب والسنة من أن هذا القرآن كلام الله والناس يقرءونه بأصواتهم ويكتبونه بمدادهم وما بين اللوحين كلام الله وكلام الله غير مخلوق.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تسافروا
بالقرآن إلى أرض العدو} وقال تعالى: {بل هو قرآن مجيد} {في لوح محفوظ} والمداد الذي يكتب به القرآن مخلوق والصوت الذي يقرأ به هو صوت العبد والعبد وصوته وحركاته وسائر صفاته مخلوقة فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الباري والصوت الذي يقرأ به العبد صوت القارئ كما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} وقال النبي صلى الله عليه وسلم " زينوا القرآن بأصواتكم " فبين أن الأصوات التي يقرأ بها القرآن أصواتنا والقرآن كلام الله ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة: يحسنه الإنسان بصوته كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم {لو علمت إنك تسمع لحبرته لك تحبيرا}.
فكان ما قاله أحمد وغيره من أئمة السنة من أن الصوت صوت العبد موافقا للكتاب والسنة وقد قال تعالى: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} وقال تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} وقال تعالى: " {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} ففرق سبحانه بين المداد الذي يكتب به كلماته وبين كلماته فالبحر وغيره من المداد الذي يكتب به الكلمات مخلوق وكلمات الله غير مخلوقة.
وقال تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} فالأبحر إذا قدرت مدادا تنفد وكلمات الله لا تنفد؛ ولهذا قال أئمة السنة لم يزل الله متكلما كيف شاء وبما شاء كما ذكرت الآثار بهذه المعاني عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما.
هذا وقد أخبر سبحانه عن نفسه بالنداء في أكثر من عشرة مواضع فقال تعالى: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} وقال تعالى: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} وذكر سبحانه نداءه لموسى عليه السلام في سورة " طه " و " مريم " و " الطس الثلاث " وفي سورة " والنازعات " وأخبر أنه ناداه في وقت بعينه فقال تعالى {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} وقال تعالى: {هل أتاك حديث موسى} {إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى}
وقال تعالى: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا}واستفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة أنه سبحانه ينادي بصوت: نادى موسى وينادي عباده يوم القيامة بصوت ويتكلم بالوحي بصوت ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال: إن الله يتكلم بلا صوت أو بلا حرف ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو بحرف كما لم يقل أحد منهم إن الصوت الذي سمعه موسى قديم ولا إن ذلك النداء قديم ولا قال أحد منهم: إن هذه الأصوات المسموعة من القراء هي الصوت الذي تكلم الله به؛ بل الآثار مستفيضة عنهم بالفرق بين الصوت الذي يتكلم الله به وبين أصوات العباد. وكان أئمة السنة يعدون من أنكر تكلمه بصوت من الجهمية كما قال الإمام أحمد لما سئل عمن قال إن الله لا يتكلم بصوت فقال: هؤلاء جهمية إنما يدورون على التعطيل.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وقال أبو بكر الصديق لأصحاب مسيلمة الكذاب لما سمع قرآن مسيلمة " ويحكم أين يذهب بعقولكم؟ إن هذا كلاما لم يخرج من إل " أي من رب. وليس معنى قول السلف والأئمة: إنه منه خرج ومنه بدا. أنه فارق ذاته وحل بغيره فإن كلام المخلوق إذ تكلم به لا يفارق ذاته ويحل بغيره فكيف يكون كلام الله؟ قال تعالى: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} فقد أخبر أن الكلمة تخرج من أفواههم ومع هذا فلم تفارق ذاتهم.
و " أيضا " فالصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره لا صفة الخالق ولا صفة المخلوق والناس إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم بلغوه عنه كان الكلام الذي بلغوه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغوه بحركاتهم وأصواتهم فالقرآن أولى بذلك فالكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} وقال صلى الله عليه وسلم {زينوا القرآن بأصواتكم} ولكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره فيكون قد ابتدأ وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله كما يقولون: كلامه لموسى خرج من الشجرة فبين السلف والأئمة أن القرآن من الله بدأ وخرج وذكروا قوله {ولكن حق القول مني} فأخبر أن القول منه لا من غيره من المخلوقات. و " من " هي لابتداء الغاية فإن كان المجرور بها عينا يقوم بنفسه لم يكن صفة لله كقوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} وقوله في المسيح: {وروح منه} وكذلك ما يقوم بالأعيان كقوله: {وما بكم من نعمة فمن الله}.
وأما إذا كان المجرور بها صفة ولم يذكر لها محل كان صفة لله كقوله {ولكن حق القول مني}. وكذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن أن القرآن نزل منه وأنه نزل به جبريل منه ردا على هذا المبتدع المفتري وأمثاله ممن يقول: إنه لم ينزل منه قال تعالى: {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} وقال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} وروح القدس هو جبريل كما قال في الآية الأخرى {نزل به الروح الأمين} {على قلبك} وقال {من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} وقال هنا {نزله روح القدس من ربك} فبين أن جبريل نزله من الله لا من هواء ولا من لوح ولا غير ذلك وكذلك سائر آيات القرآن كقوله: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} وقوله {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} وقوله {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} وقوله {الم} {تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} وقوله {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}.
فقد بين في غير موضع أنه منزل من الله فمن قال: إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله مكذب لكتاب الله. متبع لغير سبيل المؤمنين. ألا ترى أن الله فرق بين ما نزل منه وما نزله من بعض المخلوفات كالمطر بأن قال: {أنزل من السماء ماء}؟ فذكر المطر في غير موضع وأخبر أنه نزله من السماء والقرآن أخبر أنه منزل منه.
وأخبر بتنزيل مطلق في مثل قوله {وأنزلنا الحديد} لأن الحديد ينزل من رءوس الجبال لا ينزل من السماء وكذلك الحيوان؛ فإن الذكر ينزل الماء في الإناث. فلم يقل فيه من السماء ولو كان جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ لكان اليهود أكرم على الله من أمة محمد لأنه قد ثبت بالنقل الصحيح أن الله كتب لموسى التوراة بيده وأنزلها مكتوبة.
فيكون بنو إسرائيل قد قرءوا الألواح التي كتبها الله وأما المسلمون فأخذوه عن محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد أخذه عن جبريل وجبريل عن اللوح فيكون بنو إسرائيل بمنزلة جبريل وتكون منزلة بني إسرائيل أرفع من منزلة محمد صلى الله عليه وسلم على قول هؤلاء الجهمية والله سبحانه جعل من فضائل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه أنزل عليهم كتابا لا يغسله الماء وأنه أنزله عليهم تلاوة لا كتابة وفرقه عليهم لأجل ذلك. فقال: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} وقال تعالى: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا}.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 327)
من صــ 101 الى صـ 115
(كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (7) كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون (8)
نفى سبحانه أن يكون لمشرك عهد ممن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم إلا قوما ذكرهم فإنه جعل لهم عهدا ما داموا مستقيمين لنا فعلم أن العهد لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيما ومعلوم أن مجاهرتنا بالشتيمة والوقيعة في ربنا ونبينا وكتابنا وديننا يقدح في الاستقامة كما تقدح مجاهرتنا بالمحاربة في العهد بل ذلك أشد علينا إن كنا مؤمنين فإنه يجب علينا أن نبذل دماءنا وأموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا ولا يجهر في ديارنا بشيء من أذى الله ورسوله فإذا لم يكونوا مستقيمين لنا بالقدح في أهون الأمرين كيف يكونون مستقيمين مع القدح في أعظمهما؟.
يوضح ذلك قوله تعالى: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة} أي كيف يكون لهم عهد ولو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرحم التي بينكم ولا العهد الذي بينكم وبينهم؟ فعلم أن من كانت حاله أنه إذا ظهر لم يرقب ما بيننا وبينه من العهد لم يكن له عهد من جاهرنا بالطعن في ديننا كان ذلك دليلا على أنه لو ظهر لم يرقب العهد الذي بيننا وبينه فإنه إذا كان مع وجود العهد والذلة يفعل هذا فكيف يكون مع العزة والقدرة؟ وهذا بخلاف من لم يظهر لنا مثل هذا الكلام فإنه يجوز أن يفي لنا بالعهد لو ظهر.
وهذه الآية وإن كانت في أهل الهدنة الذين يقيمون في دارهم فإن معناها ثابت في أهل الذمة المقيمين في دارنا بطريق الأولى.
(وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (12) ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين (13) قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم (15)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وهذه الآية تدل من وجوه:
أحدها: أن مجرد نكث الأيمان مقتض للمقاتلة وإنما ذكر الطعن في الدين وأفرده بالذكر تخصيصا له بالذكر وبيانا لأنه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال ولهذا يغلظ على الطاعن في الدين من العقوبة ما لا يغلظ على غيره من الناقضين كما سنذكره إن شاء الله تعالى أو يكون ذكره على سبيل التوضيح وبيان سبب القتال فان الطعن في الدين هو الذي يجب أن يكون داعيا إلى قتالهم لتكون كلمة الله هي العليا وأما مجرد نكث اليمين فقد يقاتل لأجله شجاعة وحمية ورياء أو يكون ذكر الطعن في الدين لأنه أوجب القتال في هذه الآية بقوله تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر} وبقوله تعالى:
{ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم} فيفيد ذلك أن من لم يصدر منه إلا مجرد نكث اليمين جاز أن يؤمن ويعاهد وأما من طعن في الدين فإنه يتعين قتاله وهذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين وإن أمسك عن غيره وإذا كان نقض العهد وحده موجبا للقتال وإن تجرد عن الطعن علم أن الطعن في الدين إما سبب آخر أو سبب مستلزم لنقض العهد فإنه لابد أن يكون له تأثير في وجوب المقاتلة وإلا كان ذكره ضائعا.
فإن قيل: هذا يفيد أن من نكث عهده وطعن في الدين يجب قتاله أما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الآية له بل مفهومها أنه وحده لا يوجب هذا الحكم لأن الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود إحدهما.
قلنا: لا ريب أنه لابد أن يكون لكل صفة تأثير في الحكم وإلا فالوصف العديم التأثير لا يجوز تعليق الحكم به كمن قال: من زنى وأكل جلد ثم قد يكون كل صفة مستقلة بالتأثير لو انفردت كما يقال: يقتل هذا لأنه مرتد زان وقد يكون مجموع الجزاء مرتبا على المجموع ولكل وصف تأثير في البعض كما قال: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} الآية وقد تكون تلك الصفات متلازمة كل منها لو فرض تجرده لكان مؤثرا على سبيل الاستقلال أو الاشتراك فيذكر إيضاحا وبيانا للموجب كما يقال: كفروا بالله وبرسوله وعصى الله ورسوله وقد يكون بعضها مستلزما للبعض من غير عكس كما قال: {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق} الآية وهذه الآية من أي الأقسام فرضت كان فيها دلالة لأن أقصى ما يقال أن نقض العهد هو المبيح للقتال والطعن في الدين مؤكد له وموجب له فنقول: إذا كان الطعن يغلظ قتال من ليس بيننا وبينه عهد ويوجبه فأن يوجب قتال من بيننا وبينه ذمة وهو ملتزم للصغار أولى وسيأتي تقرير ذلك على أن المعاهد له أن يظهر في داره ما شاء من أمر دينه الذي لا يؤذينا والذمي ليس له أن يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل وإن لم يؤذنا فحاله أشد وأهل مكة الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا معاهدين لا أهل ذمة فلو فرض أن مجرد طعنهم ليس نقضا للعهد لم يكن الذمي كذلك.
الوجه الثاني: أن الذمي إذا سب الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه وطعن في ديننا لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يعاقب على ذلك ويؤدب عليه فعلم أنه لم يعاهد عليه لأنا لو عاهدناه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته عليه وإذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم يطعن في ديننا فقد نكث في دينه من بعد عهده وطعن في ديننا فيجب قتله بنص الآية وهذه دلالة قوية حسنة لأن المنازع يسلم لنا أنه ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا وبينه لكن نقول: ليس كل ما منع منه نقض عهده كإظهار الخمر والخنزير ونحو ذلك فنقول:
قد وجد منه شيئان: ما منعه منه العهد وطعن في الدين بخلاف أولئك فإنه لم يوجد منهم إلا فعل ما هم ممنوعون منه بالعهد فقط والقرآن يوجب قتل من نكث يمينه من بعد عهده وطعن في الدين ولا يمكن أن يقال "لم ينكث" لأن النكث هو مخالفة العهد فمتى خالفوا شيئا مما صولحوا عليه فهو نكث مأخوذ من نكث الحبل وهو نقض قواه ونكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة كما يحصل بنقض جميع القوى ولكن قد بقى من قواه ما يستمسك الحبل به وقد يهن بالكلية وهذه المخالفة من المعاهد قد تبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيا وقد شعث العهد حتى تبيح عقوبتهم كما أن نقض بعض الشروط في البيع والنكاح ونحوهما قد يبطل البيع بالكلية كما لو وصفه بأنه فرس فظهر بعيرا وقد يبيح الفسخ كالإخلال بالرهن والضمين هذا عند من يفرق في المخالفة وأما من قال: "ينتقض العهد بجميع المخالفات" فالأمر ظاهر على قوله وعلى التقديرين قد اقتضى العقد أن لا يظهروا شيئا من عيب ديننا وأنهم متى أظهروا فقد نكثوا وطعنوا في الدين فيدخلون في عموم الآية لفظا ومعنى ومثل هذا العموم يبلغ درجة النص.
الوجه الثالث: أنه سماهم أئمة الكفر لطعنهم في الدين وأوقع الظاهر موقع المضمر لأن قوله {أئمة الكفر} إما أن يعنى به الذين نكثوا أو طعنوا أو بعضهم والثاني لا يجوز لأن الفعل الموجب للقتال صدر من جميعهم فلا يجوز تخصيص بعضهم بالجزاء إذا العلة يجب طردها إلا لمانع ولا مانع ولأنه علل ذلك ثانيا بأنهم لا أيمان لهم وذلك يشمل جميع الناكثين الطاعنين ولان النكث والطعن وصف مشتق مناسب لوجوب القتال وقد رتب عليه بحرف الفاء ترتيب الجزاء على شرطه وذلك نص في أن ذلك الفعل هو الموجب للثاني فثبت أنه عنى الجميع فيلزم أن الجميع أئمة كفر وإمام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه وإنما صار إماما في الكفر لأجل الطعن فإن مجرد النكث لا يوجب ذلك وهو مناسب لأن الطعن في الدين يعيبه ويذمه ويدعو إلى خلافه وهذا شأن الإمام فثبت أن كل طاعن في الدين فهو إمام في الكفر فإذا طعن الذمي في الدين فهو إمام في الكفر فيجب قتله لقوله تعالى:
{فقاتلوا أئمة الكفر} ولا يمين له لأنه عاهدنا على أن لا يظهر عيب الدين وخالف واليمين هنا المراد بها العهود لا القسم بالله فيما ذكره المفسرون وهو كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقاسمهم بالله عام الحديبية وإنما عاقدهم عقدا ونسخة الكتاب معروفة ليس فيها قسم وهذا لأن اليمين يقال: إنما سميت بذلك لأن المعاهدين يمد كل منهما يمينه إلى الآخر ثم غلبت حتى صار مجرد الكلام بالعهد يسمى يمينا ويقال: سميت يمينا لأن اليمين هي القوة والشدة كما قال الله تعالى: {لأخذنا منه باليمين} فلما كان الحلف معقودا مشددا سمي يمينا فاسم اليمين جامع للعقد الذي بين العبد وبين ربه وإن كان نذرا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "النذر حلفة" وقوله: "كفارة النذر كفارة اليمين" وقول جماعة من الصحابة للذي نذر نذر اللجاج والغضب: "كفر يمينك" وللعهد الذي بين المخلوقين ومنه قوله تعالى: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} والنهي عن نقض العهود وإن لم يكن فيها قسم وقال تعالى: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله} وإنما لفظ العهد "بايعناك على أن لا نفر" ليس فيه قسم وقد سماهم معاهدين لله وقال تعالى:
{واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} قالوا: معناه يتعاهدون ويتعاقدون لأن كل واحد من المعاهدين إنما عاهده بأمانة الله وكفالته وشهادته فثبت أن كل من طعن في ديننا بعد أن عاهدناه عهدا يقتضي أن لا يفعل ذلك فهو إمام في الكفر لا يمين له فيجب قتله بنص الآية وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الناكث الذي ليس بإمام وهو من خالف بفعل شيء مما صولحوا عليه من غير الطعن في الدين.
الوجه الرابع: أنه قال تعالى: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة} فجعل همهم بإخراج الرسول من المحضضات على قتالهم وما ذاك إلا لما فيه من الأذى وسبه أغلظ من الهم بإخراجه بدليل أنه صلى الله عليه وسلم عفا عام الفتح عن الذين هموا بإخراجه ولم يعف عمن سبه فالذمي إذا أظهر سبه فقد نكث عهده وفعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول وبدأ بالأذى فيجب قتاله.
الوجه الخامس: قوله تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم} أمر سبحانه بقتال الناكثين الطاعنين في الدين وضمن لنا إن فعلنا ذلك أن يعذبهم بأيدينا ويخزيهم وينصرنا عليهم ويشفي صدور المؤمنين الذين تأذوا من نقضهم وطعنهم وأن يذهب غيظ قلوبهم لأنه رتب ذلك على قتالهم ترتيب الجزاء على الشرط والتقدير: إن تقاتلوهم يكن هذا كله فدل على أن الناكث الطاعن مستحق هذا كله وإلا فالكفار يدالون علينا المرة وندال عليهم الأخرى وإن كانت العاقبة للمتقين وهذا تصديق ما جاء في الحديث:
"ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهم العدو" والتعذيب بأيدينا هو القتل فيكون الناكث الطاعن مستحقا للقتل والساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناكث طاعن كما تقدم فيستحق القتل وإنما ذكر سبحانه النصر عليهم وأنه يتوب من بعد ذلك على من يشاء لأن الكلام في قتال الطائفة الممتنعة فأما الواحد المستحق للقتل فلا ينقسم حتى يقال فيه "يعذبه الله ويتوب الله من بعد ذلك على من يشاء" على أن قوله {من يشاء} يجوز أن يكون عائدا إلى من لم يطعن بنفسه وإنما أقر الطاعن فسميت الفئة طاعنة لذلك وعند التمييز فبعضهم دون بعضهم مباشر ولا يلزم من التوبة على الردء التوبة على المباشر ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر عام الفتح دم الذين باشروا الهجاء ولم يهدر دم الذين سمعوه وأهدر دم بني بكر ولم يهدر دم الذين أعاروهم السلاح.
الوجه السادس: أن قوله تعالى: {ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم} دليل على أن شفاء الصدور من ألم النكث والطعن وذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك أمر مقصود للشارع مطلوب الحصول وأن ذلك يحصل إذا جاهدوا كما جاء في الحديث المرفوع:
" عليكم بالجهاد فإنه باب من أبواب الله يدفع الله به عن النفوس الهم والغم " ولا ريب أن من أظهر سب الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة وشتمه فإنه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفك دماء بعضهم وأخذ أموالهم فإن هذا يثير الغضب لله والحمية له ولرسوله وهذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظا أعظم منه بل المؤمن المسدد لا يغضب هذا الغضب إلا لله والشارع يطلب شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم وهذا إنما يحصل بقتل الساب لأوجه:
أحدها: أن تعزيره وتأديبه يذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحدا من المسلمين أو فعل نحو ذلك فلو أذهب غيظ قلوبهم إذا شتم الرسول لكان غيظهم من شتمه مثل غيظهم من شتم واحد منهم وهذا باطل.
الثاني: أن شتمه أعظم عندهم من أن يؤخذ بعض دمائهم ثم لو قتل واحدا منهم لم يشف صدورهم إلا قتله فأن لا تشفى صدورهم إلا بقتل الساب أولى وأحرى.
الثالث: أن الله تعالى جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء والأصل عدم سبب آخر يحصله فيجب أن يكون القتل والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا.
الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتحت مكة وأراد أن يشفي صدور خزاعة وهم القوم المؤمنين من بني بكر الذين قاتلوهم مكنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانه لسائر الناس فلو كان شفاء صدورهم وذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا وطعنوا لما فعل ذلك مع أمانه للناس.
فإن قيل: أهل الذمة قد أقررناهم على دينهم ومن دينهم استحلال سب النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قالوا ذلك لم يقولوا غير ما أقررناهم عليه وهذه نكتة المخالف.
قلنا: ومن دينهم استحلال قتال المسلمين وأخذ أموالهم ومحاربتهم بكل طريق ومع هذا فليس لهم أن يفعلوا ذلك بعد العهد ومتى فعلوه نقضوا العهد وذلك لأنا وإن كنا نقرهم على أن يعتقدوا ما يعتقدونه ويخفوا ما يخفونه فلم نقرهم على أن يظهروا ذلك ويتكلموا به بين المسلمين ونحن لا نقول بنقض عهد الساب حتى نسمعه يقول ذلك أو يشهد به المسلمون ومتى حصل ذلك كان قد أظهره وأعلنه.
وتحرير الجواب أن كلتا المقدمتين باطلة.
أما قوله "أقررناهم على دينهم" فيقال: لو أقررناهم على كل ما يدينون به لكانوا منزلة أهل ملتهم المحاربين ولو أقررناهم على كل ما يدينون به لم يعاقبوا على إظهار دينهم وإظهار الطعن في ديننا ولا خلاف أنهم يعاقبون على ذلك ولو أقررناهم على دينهم مطلقا لأقررناهم على هدم المساجد وإحراق المصاحف وقتل العلماء والصالحين فإن ما يدينون به مما يؤذي المسلمين كثيرة والخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ثم لا خلاف أنهم لا يقرون على شيء من ذلك وإنما أقررناهم كما قال غرفة بن الحارث على أن نخليهم يفعلون بينهم ما شاءوا مما لا يؤذي المسلمين ولا يضرهم ولا نعترض عليهم في أمور لا تظهر فإن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة وشرطنا عليهم أن لا يفعلوا شيئا يؤذينا ولا يضرنا سواء كانوا يستحلونه أو لا يستحلونه فمتى آذوا الله ورسوله فقد نقضوا العهد وشرطنا عليهم التزام حكم الإسلام وإن كانوا يرون أن ذلك لا يلزمهم في دينهم وشرطنا عليهم أداء الجزية وإن اعتقدوا أن أخذها منهم حرام وشرطنا عليهم إخفاء دينهم فلا يظهرون الأصوات بكتابهم ولا على جنائزهم ولا ضرب ناقوس وشرطنا عليهم أن لا يرتفعوا على المسلمين وأن يخالفوا بهيآتهم هيئة المسلمين على وجه يتميزون به ويكونون أذلاء في تميزهم إلى غير ذلك من الشروط التي يعتقدون أنها ذا تجب عليهم في دينهم.
فعلم أنا شرطنا عليهم ترك كثير مما يعتقدون دينا لهم إما مباحا أو واجبا وفعل كثير مما يعتقدونه ليس من دينهم فكيف يقال: أقررناهم على دينهم مطلقا.
وأما المقدمة الثانية فنقول: هب أنا أقررناهم على دينهم فقوله: "استحلال السب من دينهم" جوابه أن يقال: أهو من دينهم قبل العهد أو من دينهم وإن عاهدوا على تركه.
الأول مسلم لكن لا ينفع لأن هؤلاء قد عاهدوا فإن لم يكن هذا من دينهم في هذه الحال لم يكن لهم أن يفعلوه لأنه من دينهم في حال أخرى وهذا كما أن المسلم من دينه استحلال دمائهم وأموالهم وأذاهم بالهجاء والسب إذا لم نعاهدهم وليس من دينه استحلال ذلك إذا عاهدهم فليس لنا أن نؤذيهم وتقول: قد عاهدناكم على ديننا ومن ديننا استحلال أذاكم فإن المعاهدة التي بين المتحاربين تحرم على كل واحد منهما في دينه ما كان يستحله من ضرر الآخر وأذاه قبل العهد.
وأما الثاني فمنوع فإنه ليس من دينهم استحلال نقض العهد ولا مخالفة من عاهده في شيء مما عاهده بل من دين جميع أهل الأرض الوفاء بالعهد وإن لم يكن هذا معتقدهم فنحن إنما عاهدناهم على أن يدينوا بوجوب الوفاء بالعهد فإن لم يكن دينهم وجوب الوفاء به فلم نعاهدهم على دين يستحل صاحبه نقض العهد ولو عاهدناهم على هذا الدين لكنا قد عاهدناهم على أن يدينوا بنقض العهد فينقضوه ونحن موفون بالعهد وبطلان هذا واضح.
وإذا لم يكن فعل ما عوهدوا على تركه من دينهم فنحن قد عاهدناهم على أن يكفوا عن أذانا بألسنتهم وأيديهم وأن لا يظهروا شيئا من أذى الله ورسوله وأن يخفوا دينهم الذي هو باطل في حكم الله ورسوله وإذا عاهدوا على ترك هذا وإخفاء هذا كان فعله حراما عليهم في دينهم لأن ذلك غدر وخيانة وترك للوفاء بالعهد ومن دينهم أن ذلك حرام ولو أن مسلما عاهده قوم من الكفار طائعا غير مكره على أن يمسك عن ذكر صليبهم لوجب عليه في دينه أن يمسك ما دام العهد قائما.
فقول القائل: "من دينهم استحلال سب نبيا" باطل إذ ذلك مع العهد المقتضي لتركه حرام في دينهم كما يحرم عليهم في دينهم استحلال دمائنا وأموالنا لأجل العهد وهم يعتقدون عند أنفسهم أنهم إذا آذوا الله ورسوله بألستنهم أو ضروا المسلمين بعد العهد فقد فعلوا ما هو حرام في دينهم كما أن المسلم يعلم أنه إذا آذاهم بعد العهد فقد فعل ما هو حرام في دينه ويعلمون أن ذلك مخالفة للعهد وإن ظنوا أن لا عهد بيننا وبينهم وإنما هم مغلوبون تحت يد الإسلام فذلك أبعد لهم عن العصمة وأولى بالانتقام فإنه لا عاصم لهم منا إلا العهد فإن لم يعتقدوا الوفاء بالعهد فلا عاصم أصلا وهذا كله بين لمن تأمله يتبين به بعض فقه المسألة.
ومن الفقهاء من أجاب عن هذا بأنا أقررناهم على ما يعتقدونه ونحن إنما نقول بنقض العهد إذا سبوه بما لا يعتقدونه من القذف ونحوه وهذا التفصيل ليس بمرض وسيأتي إن شاء الله تحقيق ذلك.
فإن قيل: فهب أنهم صولحوا على أن لا يظهروا ذلك لكن مجرد إظهار دينهم كيف ينقض العهد؟ وهل ذلك إلا بمثابة ما لو أظهروا أصواتهم بكتابهم أو صليبهم أو أعيادهم؟ فإن ذلك موجب لتنكيلهم وتعزيرهم دون نقض العهد.
قلنا: وأي ناقض للعهد أعظم من أن يظهروا كلمة الكفر ويعلوها ويخرجوا عن حد الصغار ويطعنوا في ديننا ويؤذونا أذى هو أبلغ من قتل النفوس وأخذ الأموال.
وأما إظهار تلك الأشياء بعد شرط عمر المعروف ففيها وجهان عندنا: أحدهما: ينتقض العهد فلا يلزمنا والآخر: لا ينتقض العهد.
والفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن ظهور تلك الأشياء ليس فيه ظهور كلمة الكفر وعلوها وإنما فيه ظهور لدين المشركين وبين البابين فرق فإن المسلم لو تكلم بكلمة الكفر كفر ولو لم يفعل إلا مجرد مشاركة الكافر في هدية عوقب ولم يكفر وكان ذلك كإظهار المعاصي من المسلم يوجب عقوبته ولا يبطل إيمانه والمتكلم بكلمة الكفر يبطل إيمانه كذلك أهل العهد: إذا أظهروا الكفر ونحوه نقضوا أمانهم وإذا أظهروا زيهم عصوا ولم ينقضوا أمانهم.
وهذا جواب من يقول من أصحابنا وغيرهم: إنهم لو أظهروا التثليث ونحوه مما هو دينهم نقضوا العهد.
الجواب الثاني: أن ظهور تلك الأشياء ليس فيها ضرر عظيم على المسلمين ولا معرة في دينهم ولا طعن في ملتهم وإنما فيه أحد أمرين: إما اشتباه زيهم بزي المسلمين أو إظهار لمنكرات دينهم في دار الإسلام كإظهار الواحد من المسلمين لشرب الخمر ونحوه وأما سب الرسول والطعن في الدين ونحوه ذلك فهو مما يضر المسلمين ضررا يفوق قتل النفس وأخذ المال من بعض الوجوه فإنه لا أبلغ في إسفال كلمة الله ولا إذلال كتاب الله وإهانة كتاب الله من أن يظهر الكافر المعاهد السب والشتم لمن جاء بالكتاب.
ولأجل هذا الفرق فصل أصحابنا وأصحاب الشافعي الأمور المحرمة عليهم في العهد الذي بيننا وبينهم إلى ما يضر المسلمين في نفس أو مال أو دين وإلى ما لا يضر وجعلوا القسم الأول ينقض العهد حيث لا ينقضه القسم الثاني لأن مجرد العهد ومطلقه يوجب الإمتناع عما يضر المسلمين ويؤذيهم فحصوله تفويت لمقصود العقد فيفسخه كما لو فات مقصود البيع بتلف العوض قبل القبض أو ظهوره مستحقا ونحوه بخلاف غيره ولأن تلك المضرات يوجب جنسها عقوبة المسلم بالقتل فلأن يوجب عقوبة المعاهد بالقتل أولى وأحرى لأن كلاهما ملتزم إما بإيمانه أو بأمانة أن لا يفعلها ولأن تلك المضرات من جنس المحاربة والقتال وذلك لإبقاء العهد معه بخلاف المعاصي التي فيها مراغمة ومصارمة.
فإن قيل: فقد أقروا على ما هم عليه من الشرك الذي هو أعظم من سب الرسول عليه الصلاة والسلام فيكون إقرارهم على سب الرسول أولى بل قد أقروا على سب الله تعالى وذلك لأن النصارى يعتقدون التثليث ونحوه وهو شتم لله تعالى لما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد ".
وروى في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وكان معاذ ابن جبل يقول إذا رأى النصارى لا ترحموهم فلقد سب الله سبه ما سبه اياها أحد من البشر.
وقد قال الله تعالى {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا} الآية.
وقد أقر اليهود على مقالتهم في عيسى عليه السلام وهي من أبلغ القذف.
قلنا: الجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا السؤال فاسد الاعتبار فإن كون الشيء في نفسه أعظم إثما من غيره يظهر أثره في العقوبة عليه في الآخرة لا في الإقرار عليه في الدنيا ألا ترى أن أهل الذمة يقرون على الشرك ولا يقرون على الزنا ولا على السرقة ولا على قطع الطرق ولا على قذف المسلم ولا على محاربة المسلمين وهذه الأشياء دون الشرك بل سنة الله في خلقه كذلك فإنه عجل لقوم لوط العقوبة وفي الأرض مدائن مملوءة من الشرك لم يعاجلهم بالعقوبة لا سيما والمحتج بهذا الكلام يرى أن قتل الكفار إنما هو لمجرد المحاربة سواء كان كفره أصليا أو طارئا حتى أنه لا يرى قتل المرتد ويقول: الدنيا ليست دار الجزاء على الكفر وإنما الجزاء على الكفر في الآخرة وإنما يقاتل من يقاتل فقت لدفع أذاه.
ثم لا يجوز أن يقال: إذا أقررناهم على الكفر فلأن نقرهم على المحاربة التي هي دون الكفر بطريق الأولى وسبب ذلك أن ما كان من الذنوب يتعدى ضرره فاعله عجلت لصاحبه العقوبة في الدنيا تشريعا وتقديرا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " ما من ذنب أحرى أن تعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم " لأن تأخير عقوبته فساد لأهل الأرض بخلاف ما لا يتعدى ضرره فاعله فإنه قد تؤخر عقوبته وإن كان أعظم كالكفر ونحوه فإذا أقررناهم على الشرك أكثر ما فيه تأخير العقوبة عليه وذلك لا يستلزم تأخير عقوبة ما يضر بالمسلمين لأنه دونه كما قدمناه.
الوجه الثاني: أن يقال: لا خلاف أنهم إذا أقروا على ما هم عليه من الكفر غير مضارين للمسلمين لا يجوز أذاهم لا في دمائهم ولا في أبشارهم ولو أظهروا السب ونحوه عوقبوا على ذلك إما في الدماء أو في الأبشار.
ثم إنه لا يقال: إذا لم يعاقبوا بالعزير على الشرك لم يعاقبوا على السب الذي هو دونه وإذا كان هذا السؤال معترضا على الإجماع لم يجب جوابه كيف والمنازع قد سلم أنهم يعاقبون على السب فعلم أنه لم يقرهم عليه فلا يقبل منه السؤال.
والجواب عن هذه الشبهة مشترك فلا يجب علينا الانفراد به.
الوجه الثالث: أن الساب ينضم السب إلى شركه الذي عوهد عليه بخلاف المشرك الذي لم يسب ولا يلزم من الإقرار على ذنب مفرد الإقرار عليه مع ذنب آخر وإن كان دونه فإن اجتماع الذنبين يوجب جرما مغلظا لا يحصل حال الانفراد.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 328)
من صــ 116 الى صـ 130
الوجه الرابع: قوله: "ما هم عليه من الكفر أعظم من سب الرسول" ليس بجيد على الإطلاق وذلك لأن أهل الكتاب طائفتان:
أما اليهود فأصل كفرهم تكذيب الرسول وسبه أعظم من تكذيبه فليس لهم كفر أعظم من سب الرسول فإن جميع ما يكفرون به من الكفر بدين الإسلام وبعيسى وبما أخبر الله به من أمور الآخرة وغير ذلك متعلق بالرسول فسبه كفر بهذا كله لأن ذلك إنما علم من جهته وليس عند أهل الأرض في وقتنا هذا علم موروث يشهد عليه أنه من عند الله إلا العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم وما سوى ذلك مما يؤثر عن غيره من الأنبياء فقد اشتبه واختلط كثير منه أو أكثره والواجب فيما لا نعلم حقيقته منه أن لا يصدق ولا يكذب.
وأما النصارى فسبهم للرسول طعنا فيما جاء به من التوحيد وأنباء الغيب والشرائع وإنما ذنبه الأعظم عندهم أن قال: أن عيسى عبد الله ورسوله كما أن ذنبه الأعظم عند اليهود أن غير شريعة التوراة وإلا فالنصارى ليسوا محافظين على شريعة مورثة بل كل برهة من الدهر تبتدع لهم الأحبار شريعة من الدين لم يأذن الله بها ثم لا يرعونها حق رعايتها فسبهم له متضمن للطعن في التوحيد وللشرك وللتكذيب بالأنبياء والدين ومجرد شركهم ليس متضمنا لتكذيب جميع الأنبياء ورد جميع الدين فلا يقال: ما هم عليه من الشرك أعظم من سب الرسول بل سب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ما هم عليه من الشرك وزيادة.
وبالجملة فينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلولا الرسل لما عبد الله وحده لا شريك له ولما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى ولا كانت له شريعة في الأرض.
ولا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجهه اليقين فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل واستصغى بذلك واستأنس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر وقد اعترف عامة الرؤوس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية وإنما ينال به الظن والحسبان.
والقدر الذي يمكن العقل إداركه بنظره فإن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم نبهوا الناس عليه وذكروهم به ودعوهم إلى النظر فيه حتى فتحوا أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
والقدر الذي يعجز العقل عن إدراكه علموهم إياه وأنبأوهم به فالطعن فيهم طعن في توحيد الله وأسمائه وصفاته وكلامه ودينه وشرائعه وأنبيائه وثوابه وعقابه وعامة الأسباب التي بينه وبين خلقه بل يقال: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا في بنبوة أو أثر نبوة وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات ولا يستريبن العاقل في هذا الباب الذين درست النبوة فيهم مثل البراهمة والصابئة والمجوس ونحوهم فلا سفتهم وعامتهم قد أعرضوا عن الله وتوحيده وأقبلوا على عبادة الكواكب والنيران والأصنام وغير ذلك من الأوثان والطواغيت فلم يبق بأيديهم لا توحيد ولا غيره.
وليست أمة مستمسكة بالتوحيد إلا أتباع الرسل قال الله سبحانه: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} فأخبر أن دينه الذي يدعوا إليه المرسلون كبر على المشركين فما الناس إلا تابع لهم أو مشرك وهذا حق لا ريب فيه فعلم أن سب الرسل والطعن فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر وجماع جميع الضلالات وكل كفر ففرع منه كما أن تصديق الرسل أصل جميع شعب الإيمان وجماع مجموع أسباب الهدى.
الوجه الخامس: أن نقول: قد ثبت بالسنة ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بقتل من سبه وكان المسلمون يحرضون على ذلك مع الإمساك عمن هو مثل هذا الساب في الشرك أو هو أسوأ منه من محارب أو معاهد فلو كانت هذه الحجة مقبولة لتوجه أن يقال: إذا أمسكوا عن المشرك فالإمساك عن الساب أولى وإذا عوهد الذمي على كفره فمعاهدته على السب أولى وهذا لو قبل معارضة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل قياس عارض السنة فهو رد.
الوجه السادس: أن يقال: ما هم عليه من الشرك وإن كان سبا لله فهم لا يعتقدونه سبا وإنما يعتقدونه تمجيدا وتقديسا فليسوا قاصدين به قصد السب والاستهانة بخلاف سب الرسول فلا يلزم من إقرارهم على شيء لا يقصدون به الاستخفاف إقرارهم على ما يقصدون به الاستخفاف وهذا جواب من يقتلهم إذا أظهروا سب الرسول ولا يقتلهم إذا أظهروا ما يعتقدونه من دينهم.
الوجه السابع: أن إظهار سب الرسول طعن في دين المسلمين وإضرار بهم ومجرد التكلم بدينهم ليس فيه إضرار بالمسلمين فصار إظهار سب الرسول بمنزلة المحاربة يعاقبون عليها وإن كانت دون الشرك وهذا أيضا جواب هذا القائل.
الوجه الثامن: منع الحكم في الأصل المقيس عليه فإنا نقول: متى أظهروا كفرهم وأعلنوا به نقضوا العهد بخلاف مجرد رفع الصوت بكتابهم فإنه ليس كل ما فيه كفر ولسنا نفقه ما يقولون وإنما فيه إظهار شعار الكفر وفرق بين إظهار الكفر وبين إظهار شعار الكفر.
أو نقول: متى أظهروا الكفر الذي هو طعن في دين الله نقضوا به العهد بخلاف كفر لا يطعنون به في ديننا وهذا لأن العهد إنما اقتضى أن يقولوا ويفعلوا بينهم ما شاءوا مما لا يضر المسلمين فأما أن يظهروا كلمة الكفر أو أن يؤذوا المسلمين فلم يعاهدوا عليه البتة وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذين القولين والذين قبلهما.
قال كثير من فقهاء الحديث وأهل المدينة من أصحابنا وغيرهم: "لم نقرهم على أن يظهروا شيئا من ذلك ومتى أظهروا شيئا من ذلك نقضوا العهد".
قال أبو عبد الله في رواية حنبل: "كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا" وهذا مذهب أهل المدينة.
وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن فقال له: كذبت فقال: يقتل لأنه شتم.
ومن الناس من فرق بين ما يعتقدونه وما لا يعتقدونه ومن الناس من فرق بين ما يعتقدونه وإظهاره يضر بنا لأنه قدح في ديننا وبين ما يعتقدونه وإظهاره ليس بطعن في نفس ديننا وسيأتي إن شاء الله تعالى ذلك فإن فروع المسألة تظهر مأخذها.
وقد قدمنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال بمحضر من المهاجرين والأنصار للنصراني الذي قال إن الله لا يضل أحدا: إنا لم نعطك ما أعطيناك على أن تدخل علينا في ديننا فوالذي نفسي بيده لأن عدت لآخذن الذي فيه عيناك.
وجميع ما ذكرناه من الآيات والاعتبار يجئ أيضا في ذلك فإن الجهاد واجب حتى تكون كلمة الله هي العليا وحتى يكون الدين كله لله وحتى يظهر دين الله على الدين كله وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
والنهي عن إظهار المنكر واجب بحسب القدرة فإذا أظهروا كلمة الكفر وأعلنوها خرجوا عن العهد الذي عاهدونا عليه والصغار الذي التزموه ووجب علينا أن نجاهد الذي أظهروا كلمة الكفر وجهادهم بالسيف لأنهم كفار لا عهد لهم والله سبحانه أعلم.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
الطريق الثانية: قوله سبحانه: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} الآيات.
وقد قرأ ابن عامر والحسن وعطاء والضحاك والأصمعي وغيرهم عن أبي عمر (لا إيمان لهم) بكسر الهمزة وهي قراءة مشهورة.
وهذه الآية تدل على أنه لا يعصم دم الطاعن إيمان ولا يمين ثانية.
أما على قراءة الأكثرين فإن قوله {لا أيمان لهم} أي لا وفاء بالأيمان ومعلوم أنه إنما أراد لا وفاء في المستقبل بيمين أخرى إذ عدم اليمين في الماضي قد تحقق بقوله: {وإن نكثوا أيمانهم} فأفاد هذا أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يعقد له عهد ثان أبدا.
وأما على قراءة ابن عامر فقد علم أن الإمام في الكفر ليس له إيمان ولم يخرج هذا مخرج التعليل لقتالهم لأن قوله تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر} أبلغ في انتفاء الإيمان عنهم من قوله تعالى: (لا إيمان لهم) وأدل على علة الحكم ولكن يشبه والله أعلم أن يكون المقصود أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يوثق بما يظهره من الإيمان كما لم يوثق بما كان عقده من الأيمان لأن قوله تعالى: {لا إيمان} نكرة منفية بلا التي تنفي الجنس فتقتضي نفي الإيمان عنهم مطلقا فثبت أن الناكث الطاعن في الدين إمام في الكفر لا إيمان له من هؤلاء وأنه يجب قتله وإن أظهر الإيمان.
يؤيد ذلك أن كل كافر فإنه لا إيمان له في حال الكفر فكيف بأئمة الكفر؟ فتخصيص هؤلاء بسلب الإيمان عنهم لا بد أن يكون له موجب ولا موجب له إلا نفيه مطلقا عنهم.
والمعنى أن هؤلاء لا يرتجى إيمانهم فلا يستبقون وأنهم لو أظهروا إيمانا لم يكن صحيحا وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم" لأن الشيخ قد عسا في الكفر وكما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لأمراء الأجناد شرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص: "ستلقون أقواما محوفة رؤوسهم فاضربوا معاقد الشيطان منها بالسيوف فلأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم وذلك بأن الله تعالى قال: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} والله أصدق القائلين" فإنه لا يكاد يعلم أحدا من الناقضين للعهود الطاعنين في الدين أئمة الكفر حسن إسلامه بخلاف من لم ينقض العهد أو نقضه ولم يطعن في الدين أو طعن ولم ينقض عهدا فإن هؤلاء قد يكون لهم إيمان.
يبين ذلك أنه قال: {لعلهم ينتهون} أي عن النقض والطعن كما سنقرره وإنما يحصل الانتهاء إذا قوتلت الفئة الممتنعة حتى تغلب أو أخذ الواحد الذي ليس بممتنع فقتل لأنه متى استحيي بعد القدرة طمع أمثاله في الحياة فلا ينتهون.
ومما يوضح ذلك أن هذه الآية قد قيل: إنها نزلت في اليهود الذين كانوا قد غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود والأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداء من المشركين وهموا بمعاونة الكفار والمنافقين على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة فأخبر أنهم بدأوا بالغدر ونكث العهد فأمر بقتالهم.
ذكر ذلك القاضي أبو يعلى فعلى هذا يكون سبب نزول الآية مثل مسألتنا سواء.
وقد قيل: إنها نزلت في مشركي قريش ذكره جماعة وقالت طائفة من العلماء: وبراءة إنما نزلت بعد تبوك وبعد فتح مكة ولم يكن حينئذ بقي بمكة مشرك يقاتل فيكون المراد من أظهر الإسلام من الطلقاء ولم يبق قتله من الكفر إذا أظهروا النفاق.
ويؤيد هذا قراءة مجاهد والضحاك: {نكثوا إيمانهم} بكسر الهمزة فتكون دالة على أن من نكث عهده الذي عاهد عليه من الإسلام وطعن في الدين فإنه يقاتل وإنه لا إيمان له قال من نصر هذا لأنه قال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} ثم قال: {وإن نكثوا إيمانهم} فعلم أن هذا نكث بعد هذه التوبة لأنه قد تقدم الإخبار عن نكثهم الأول بقوله تعالى: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} وقوله تعالى: {كيف وإن يظهروا عليكم} الآية وقد تقدم أن الأيمان من العهود فعلى هذا تعم الآية من نكث عهد الإيمان ومن نكث عهد الأيمان أنه إذا طعن في الدين قوتل وأنه لا إيمان له حينئذ فتكون دالة على أن الطاعن في الدين بسب الرسول ونحوه من المسلمين وأهل الذمة لا إيمان له ولا يمين له فلا يحقن دمه بشيء بعد ذلك.
فإن قيل: قد قيل قوله تعالى: {لا إيمان لهم} أي لا أمان لهم مصدر آمنت الرجل أومنه إيمانا ضد أخفته كما قال تعالى: {وآمنهم من خوف}.
قيل: إن كان هذا القول صحيحا فهو حجة أيضا لأنه لم يقصد لا أمان لهم في الحال فقط للعلم بأنهم قد نقضوا العهد وإنما يقصد لا أمان لهم بحال في الزمان الحاضر والمستقبل وحينئذ فلا يجوز أن يؤمن هذا بحال بل يقتل بكل حال.
فإن قيل: إنما أمر في الآية بالمقاتلة لا بالقتل وقد قال بعدها: {ويتوب الله على من يشاء} فعلم أن التوبة منه مقبولة قيل لما تقدم ذكر طائفة ممتنعة أمر بالمقاتلة وأخبر سبحانه أنه يعذبهم بأيدي المؤمنين وينصر المؤمنين عليهم ثم بعد ذلك يتوب الله على من يشاء لأن ناقضي العهد إذا كانوا ممتنعين فمن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه الحدود ولذلك قال: {على من يشاء} وإنما يكون هذا في عدد تتعلق المشيئة بتوبة بعضهم.
يوضح ذلك أنه قال: {ويتوب الله} بالضم وهذا كلام مستأنف ليس داخلا في حيز جواب الأمر وذلك يدل على أن التوبة ليست مقصودة من قتالهم ولا هي حاصلة بقتالهم وإنما المقصود بقتالهم انتهاؤهم عن النكث والطعن والمضمون بقتالهم تعذيبهم وخزيهم والنصر عليهم وفي ذلك ما يدل على أن الحد لا يسقط عن الطاعن الناكث بإظهار التوبة لأنه لم يقتل ويقاتل لأجلها.
يؤيد هذا أنه قال: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله} إلى قوله:{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} ثم قال: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر} فذكر التوبة الموجبة للأخوة قبل أن يذكر نقض العهد والطعن في الدين وجعل للمعاهد ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يستقيم لنا فنستقيم له كما استقام فيكون مخلى سبيله لكن ليس أخا في الدين.
الحالة الثانية: أن يتوب من الكفر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة فيصير أخا في الدين ولهذا لم يقل هنا فخلوا سبيلهم كما قال في الآية قبلها لأن الكلام هناك في توبة المحارب وتوبته توجب تخلية سبيله وهنا الكلام في توبة المعاهد وقد كان سبيله مخلى وإنما توبته توجب أخوته في الدين قال سبحانه: {ونفصل الآيات لقوم يعلمون}.
وذلك أن المحارب إذا تاب وجب تخلية سبيله إذ حاجته إنما هي إلى ذلك وجاز أن يكون قد تاب خوف السيف فيكون مسلما لا مؤمنا فأخوته الإيمانية تتوقف على ظهور دلائل الإيمان كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} والمعاهد إذا تاب فلا ملجأ له إلى التوبة ظاهرا فإنا لم نكرهه على التوبة ولا يجوز إكراهه فتوبته دليل على أنه تاب طائعا فيكون مسلما مؤمنا والمؤمنون إخوة فيكون أخا.
الحالة الثالثة: أن ينكث يمينه بعد عهده ويطعن في ديننا فأمر بقتاله وبين أنه ليس له أيمان ولا إيمان والمقصود من قتاله أن ينتهي عن النقض والطعن لا عن الكفر فقط لأنه قد كان معاهدا مع الكفر ولم يكن قتاله جائزا فعلم أن الانتهاء من مثل هذا عن الكفر ليس هو المقصود بقتاله وإنما المقصود بقتاله انتهاؤه عن ما أضر به المسلمين من نقض العهد والطعن في الدين وذلك لا يحصل إلا بقتل الواحد الممكن وقتال الطائفة الممتنعة قتالا يعذبون به ويخزون وينصر المؤمنون عليهم إذ تخصيص التوبة بحال دليل على انتفائها في الحال الأخرى.
وذكره سبحانه التوبة بعد ذلك جملة مستقلة بعد أن أمر بما يوجب تعذيبهم وخزيهم وشفاء الصدور منهم دليل على أن توبة مثل هؤلاء لا بد معها من الانتقام منهم بما فعلوا بخلاف توبة الباقي على عهده فلو كان توبة المأخوذ بعد الأخذ تسقط القتل لكانت توبة خالية عن الانتقام وللزم أن مثل هؤلاء لا يعذبون ولا يخزون ولا تشفى الصدور منهم وهو خلاف ما أمر به في الآية وصار هؤلاء الذين نقضوا العهد وطعنوا في الدين كمن ارتد وسفك الدماء فإن كان واحدا فلا بد من قتله وإن عاد إلى الإسلام وإن كانوا ممتنعين قوتلوا فمن تاب بعد ذلك منهم لم يقتل والله سبحانه أعلم.
(أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين (19)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وعمارة المساجد إنما هي بالعبادة فيها وقصدها لذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} لأن الله يقول: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله}. والمقيم بالبيت أحق بمعنى العمارة من القاصد له ولهذا قيل: العمرة هي الزيارة لأن المعتمر لا بد أن يدخل من الحل وذلك هو الزيارة.
وأما الأولى فيقال لها عمارة ولفظ عمارة أحسن من لفظ عمرة وزيادة اللفظ يكون لزيادة المعنى. ولهذا ثبت في الصحيح أن {بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحجيج فقال علي: الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتم. فقال عمر: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قضيت الجمعة إن شاء الله دخلت عليه فسألته فأنزل الله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام} الآية}. وإذا كان كذلك فالمقيم في البيت طائفا فيه وعامرا له بالعبادة قد أتى بما هو أكمل من معنى المعتمر وأتى بالمقصود بالعمرة فلا يستحب له ترك ذلك بخروجه عن عمارة المسجد ليصير بعد ذلك عامرا له؛ لأنه استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
(الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون (20)
[فصل البرهان السابع عشر " الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم " والجواب عليه]
فصل
قال الرافضي: " البرهان السابع عشر: قوله تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله} الآيات [سورة التوبة: 20]. روى رزين بن معاوية في " الجمع بين الصحاح الستة " أنها نزلت في علي لما افتخر طلحة بن شيبة والعباس. وهذه لم تثبت لغيره من الصحابة، فيكون أفضل، فيكون هو الإمام ".
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل. ورزين قد ذكر في كتابه أشياء ليست في الصحاح.
الثاني: أن الذي في الصحيح ليس كما ذكره عن رزين، بل الذي في الصحيح ما رواه «النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن
أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله} الآية إلى آخرها» [سورة التوبة: 19] أخرجه مسلم.
وهذا الحديث يقتضي أن قول علي الذي فضل به الجهاد على السدانة والسقاية - أصح من قول من فضل السدانة والسقاية، وأن عليا كان أعلم بالحق في هذه المسألة ممن نازعه فيها. وهذا صحيح.
وعمر قد وافق ربه في عدة أمور، يقول شيئا وينزل القرآن بموافقته. «قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [سورة البقرة: 125]، وقال: إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن بالحجاب، فنزلت آية الحجاب. وقال: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات}، فنزلت كذلك». وأمثال ذلك. وهذا كله ثابت في الصحيح. وهذا أعظم من تصويب علي في مسألة واحدة.
وأما التفضيل بالإيمان والهجرة والجهاد، فهذا ثابت لجميع الصحابة الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا، فليس هاهنا فضيلة اختص بها علي، حتى يقال: إن هذا لم يثبت لغيره.
الثالث: أنه لو قدر أنه اختص بمزية فهذه ليست من خصائص الإمامة، ولا موجبة لأن يكون أفضل مطلقا. فإن الخضر لما علم ثلاث مسائل لم يعلمها موسى لم يكن أفضل من موسى مطلقا، والهدهد لما قال لسليمان: {أحطت بما لم تحط به} [سورة النمل: 22] لم يكن أعلم من سليمان مطلقا.
الرابع: أن عليا كان يعلم هذه المسألة، فمن أين يعلم أن غيره من الصحابة لم يعلمها؟ فدعوى اختصاصه بعلمها باطل، فبطل الاختصاص على التقديرين. بل من المعلوم بالتواتر أن جهاد أبي بكر بماله أعظم من جهاد علي، فإن أبا بكر كان موسرا، قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما نفعني مال كمال أبي بكر» وعلي كان فقيرا، وأبو بكر أعظم جهادا بنفسه، كما سنذكره - إن شاء الله تعالى -.
(ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون (23)
وقال: قد يستدل بقوله: {لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان} على أن الولد يكون مؤمنا بإيمان والده؛ لأنه لم يذكر الولد في استحبابه الكفر على الإيمان مع أنه أولى بالذكر وما ذاك إلا أن حكمه مخالف لحكم الأب والأخ.
وهو الفرق بين المحجور عليه لصغره وجنونه وبين المستقل كما استدل سفيان بن عيينة وغيره بقوله: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم} أن بيت الولد مندرج في بيوتكم؛ لأنه وماله لأبيه. ويستدل بقوله: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} على أن إسلام الوليد صحيح؛ لأنه جعله من جملة القائلين قول من يطلب الهجرة وطلب الهجرة لا يصح إلا بعد الإيمان وإذا كان له قول في ذلك معتبر كان أصلا في ذلك ولم يكن تابعا؛ بخلاف الطفل الذي لا تمييز له؛ فإنه تابع لا قول له.
(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)
فانظر إلى هذا الوعيد الشديد الذي قد توعد الله به من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله فعلم أنه يجب أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إلى المؤمن من الأهل والمال والمساكن والمتاجر والأصحاب والإخوان وإلا لم يكن مؤمنا حقا ومثل هذا ما في الصحيحين عن أنس قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} وهذا لفظ البخاري فأخبر أنه لا يجد أحد حلاوة الإيمان إلا بهذه المحبات الثلاث.
(أحدها أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما وهذا من أصول الإيمان المفروضة التي لا يكون العبد مؤمنا بدونها. (الثاني أن يحب العبد لا يحبه إلا لله وهذا من لوازم الأول. و (الثالث أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر. وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علامات صدقه في التوبة هذه الخصال محبة الله ورسوله ومحبة المؤمنين فيه وإن كانت متعلقة بالأعيان ليست من أفعالنا كالإرادة المتعلقة بأفعالنا فهي مستلزمة لذلك فإن من كان الله ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وماله لا بد أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة مثل إرادته نصر الله ورسوله ودينه والتقريب إلى الله ورسوله ومثل بغضه لمن يعادي الله ورسوله.
ومن هذا الباب ما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم في الصحاح من حديث ابن مسعود وأبي موسى وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المرء مع من أحب} وفي رواية {الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم} أي ولما يعمل بأعمالهم فقال:
{المرء مع من أحب} قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن يجعلني الله معهم وإن لم أعمل عملهم. وهذا الحديث حق فإن كون المحب مع المحبوب أمر فطري لا يكون غير ذلك وكونه معه هو على محبته إياه فإن كانت المحبة متوسطة أو قريبا من ذلك كان معه بحسب ذلك وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة للمحبوب في محابه إذا كان المحب قادرا عليها فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر ذلك وإن كانت موجودة.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 329)
من صــ 131 الى صـ 145
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وكذلك لفظ " الجزية " و " الدية " فإنها فعلة من جزى يجزي إذا قضى وأدى ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم {تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك} وهي في الأصل جزى جزية كما يقال: وعد عدة ووزن زنة. وكذلك لفظ " الدية " هو من ودى يدي دية كما يقال: وعد يعد عدة والمفعول يسمى باسم المصدر كثيرا فيسمى المؤدى دية والمجزي المقضي جزية كما يسمى الموعود وعدا في قوله: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} {قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين} {فلما رأوه زلفة} وإنما رأوا ما وعدوه من العذاب وكما يسمى مثل ذلك الإتاوة لأنه تؤتى أي: تعطى. وكذلك لفظ الضريبة لما يضرب على الناس. فهذه الألفاظ كلها ليس لها حد في اللغة ولكن يرجع إلى عادات الناس فإن كان الشرع قد حد لبعض حدا كان اتباعه واجبا.
ولهذا اختلف الفقهاء في الجزية: هل هي مقدرة بالشرع أو يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة؟. وكذلك الخراج والصحيح أنها ليست مقدرة بالشرع. {وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا} قضية في عين لم يجعل ذلك شرعا عاما لكل من تؤخذ منه الجزية إلى يوم القيامة؛ بدليل أنه صالح لأهل البحرين على حالم ولم يقدره هذا التقدير وكان ذلك جزية وكذلك صالح أهل نجران على أموال غير ذلك ولا مقدرة بذلك فعلم أن المرجع فيها إلى ما يراه ولي الأمر مصلحة وما يرضى به المعاهدون فيصير ذلك عليهم حقا يجزونه أي: يقصدونه ويؤدونه.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من النصارى صار من أمته له ما لهم وعليه ما عليهم. وكان له أجران: أجر على إيمانه بالمسيح وأجر على إيمانه بمحمد. ومن لم يؤمن به من الأمم فإن الله أمر بقتاله كما قال في كتابه: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.
فمن كان لا يؤمن بالله بل يسب الله ويقول: إنه ثالث ثلاثة وأنه صلب. ولا يؤمن برسله؛ بل يزعم أن الذي حمل وولد وكان يأكل ويشرب ويتغوط وينام: هو الله وابن الله. وأن الله أو ابنه حل فيه وتدرعه ويجحد ما جاء به محمد خاتم المرسلين ويحرف نصوص التوراة والإنجيل؛ فإن في الأناجيل الأربعة من التناقض والاختلاف بين ما أمر الله به وأوجبه ما فيها ولا يدين الحق. ودين الحق هو الإقرار بما أمر الله به وأوجبه من عبادته وطاعته ولا يحرم ما حرم الله ورسوله؛ من الدم والميتة ولحم الخنزير الذي ما زال حراما من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أباحه نبي قط؛ بل علماء النصارى يعلمون أنه محرم وما يمنع بعضهم من إظهار ذلك إلا الرغبة والرهبة. وبعضهم يمنعه العناد والعادة ونحو ذلك. ولا يؤمنون باليوم الآخر؛ لأن عامتهم وإن كانوا يقرون بقيامة الأبدان؛ لكنهم لا يقرون بما أخبر الله به من الأكل والشرب واللباس والنكاح والنعيم والعذاب في الجنة والنار؛ بل غاية ما يقرون به من النعيم السماع والشم. ومنهم متفلسفة ينكرون معاد الأجساد وأكثر علمائهم زنادقة وهم يضمرون ذلك ويسخرون بعوامهم؛ لا سيما بالنساء والمترهبين منهم: بضعف العقول. فمن هذا حاله فقد أمر الله رسوله بجهاده حتى يدخل في دين الله أو يؤدي الجزية وهذا دين محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} إلى قوله تعالى: {من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} فأمرنا بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية وهم صاغرون ولا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية ومعلوم أن إعطاء الجزية من حين بذلها والتزامها إلى حين تسليمها وإقباضها فإنهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء ووجب الكف عنهم إلى أن يقبضوناها فيتم الإعطاء فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولا وامتنعوا من تسليمها ثانيا لم يكونوا معطين للجزية لأن حقيقة الإعطاء لم توجد وإذا كان الصغار حالا لهم في جميع المدة فمن المعلوم أن من أظهر سب نبينا في وجوهنا وشتم ربنا على رؤوس الملإ منا وطعن في ديننا في مجامعنا فليس بصاغر لأن الصاغر الذليل الحقير وهذا فعل متعزز مراغم بل هذا
غاية ما يكون من الإذلال لنا والإهانة قال أهل اللغة: الصغار الذل والضيم يقال: صغر الرجل بالكسر يصغر بالفتح صغرا وصغرا والصاغر: الراضي بالضيم ولا يخفى على المتأمل أن إظهار السب والشتم لدين الأمة التي اكتسب شرف الدنيا والآخرة ليس فعل راض بالذل والهوان وهذا ظاهر لا خفاء به.
وإذا كان قتالهم واجبا علينا إلا أن يكونوا صاغرين وليسوا بصاغرين كان القتال مأمورا به وكل من أمرنا بقتاله من الكفار فإنه يقتل إذا قدرنا عليه.
وأيضا فإنا إذا كنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يجز أن نعقد لهم عهد الذمة بدونها ولو عقد لهم كان عقدا فاسدا فيبقون على الإباحة.
ولا يقال فيهم: فهم يحسبون أنهم معاهدون فتصير لهم شبهة أمان وشبهة الأمان كحقيقة فإن من تكلم بكلام يحسبه الكافر أمانا كان في حقه أمانا وإن لم يقصده المسلم.
لأنا نقول: لا يخفى عليهم أنا لم نرض بأن يكونوا تحت أيدينا مع إظهار شتم ديننا وسب نبينا وهم يدرون أنا لا نعاهد ذميا على مثل هذه الحال فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة دعوى كاذبة فلا يلتفت إليها.
وأيضا فإن الذين عاهدوهم أول مرة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمر وقد علمنا أنه يمتنع أن يعاهدهم عهدا خلاف ما أمر الله به في كتابه.
وأيضا فإنا سنذكر شروط عمر رضي الله عنه وأنها تضمنت أن من أظهر الطعن في ديننا حل دمه وماله.
(وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30)
سئل - رحمه الله -:
عن قوله تعالى {وقالت اليهود عزير ابن الله} كلهم قالوا ذلك أم بعضهم؟ {وقول النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم ما كنتم تعبدون؟ فيقولون العزير} الحديث. هل الخطاب عام أم لا؟.
فأجاب:
الحمد لله، المراد باليهود جنس اليهود كقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} لم يقل جميع الناس ولا قال: إن جميع الناس قد جمعوا لكم؛ بل المراد به الجنس. وهذا كما يقال الطائفة الفلانية تفعل كذا وأهل الفلاني يفعلون كذا وإذا قال بعضهم فسكت الباقون ولم ينكروا ذلك فيشتركون في إثم القول. والله أعلم.
[فصل: قوله في التوراة الذي قال لي أنت ابني وأنا اليوم ولدتك]
قالوا: نذكر رابعا، وقال في المزمور الثاني: (الذي قال لي: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك).
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا ليس فيه تسمية صفات الله - علمه وحياته - ابنا، ولا فيه ذكر الأقانيم الثلاثة، فليس فيه حجة لشيء مما تدعونه.
والثاني: أن هذا حجة عليهم، فإنه هو سمى داود ابنه، فعلم أن اسم الابن ليس مختصا بالمسيح عليه السلام، بل سمى غيره من عباده ابنا، فعلم أن اسم الابن ليس اسما لصفاته، بل هو اسم لمن رباه من عبيده.
وحينئذ فلا تكون تسمية المسيح ابنا لكون الرب أو صفته اتحدت به، بل كما سمى داود ابنا، وكما سمى إسرائيل ابنا فقال: (أنت ابني بكري).
وهذا في كتبهم، كما ذكر، (فإن كان ما في كتبهم قول الله فلا حجة فيه، لأنه أراد المربى، وإن لم يكن قول الله ورسله) فلا حجة فيه، لأن قول غير المعصوم ليس بحجة.
الثالث: أن قوله: (وأنا اليوم ولدتك) يدل على حدوث هذا الفعل، وعندهم تولد الكلمة التي يسمونها الابن من الأب قديم أزلي، كما قالوا في أمانتهم (وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر الذي به كان كل شيء).
فهذا الابن عندهم مولود من الأب قبل كل الدهور، وذاك ولد في يوم خاطبه بعد خلق داود فلم يكن في هذا المحدث دليل على وجود ذلك القديم.
الوجه الرابع: أنه إذا كان الأب في لغتهم هو الرب الذي يربي عبده، أعظم مما يربي الأب ابنه، كان معنى لفظ الولادة مما يناسب معنى هذه الأبوة، فيكون المعنى: اليوم جعلتك مرحوما مصطفى مختارا.
والنصارى قد يجعلون الخطاب الذي هو ضمير لغير المسيح، يراد به المسيح، فقد يقولون: المراد بهذا المسيح، وهذا باطل لا يدل اللفظ عليه، وبتقدير صحته، فهو يدل على أن المسيح هو الناسوت المخلوق، وهو المسمى بالابن، لقوله (وأنا اليوم ولدتك).
واللاهوت عندهم مولود من قبل الدهور، وحينئذ فإن كان المراد به يوم ولادته، فالمعنى خلقتك، وإن كان يوم اصطفاه، فالمراد اليوم اصطفيتك وأحببتك، كأنه قال: اليوم جعلتك ولدا وابنا، على لغتهم.
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)
وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل} قال ابن عباس وأصحابه: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق. وكذلك قال أهل السنة كأحمد بن حنبل وغيره كما سنذكره - إن شاء الله - وقد قال الله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}. وفي حديث {عدي بن حاتم - وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما - وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نصراني فسمعه يقرأ هذه الآية قال: فقلت له إنا لسنا نعبدهم؛ قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه قال: فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم} وكذلك قال أبو البختري: أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله؛ فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية. وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء؛ فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال لا أنهم صلوا لهم وصاموا لهم ودعوهم من دون الله فهذه عبادة للرجال وتلك عبادة للأموال وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله: {لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}.
فهذا من الظلم الذي يدخل في قوله: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون} {من دون الله}. فإن هؤلاء والذين أمروهم بهذا هم جميعا معذبون وقال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}. وإنما يخرج من هذا من عبد مع كراهته لأن يعبد ويطاع في معصية الله. فهم الذين سبقت لهم الحسنى كالمسيح والعزير وغيرهما فأولئك (مبعدون).
وأما من رضي بأن يعبد ويطاع في معصية الله فهو مستحق للوعيد ولو لم يأمر بذلك فكيف إذا أمر وكذلك من أمر غيره بأن يعبد غير الله وهذا من " أزواجهم " فإن " أزواجهم " قد يكونون رؤساء لهم وقد يكونون أتباعا وهم أزواج وأشباه لتشابههم في الدين، وسياق الآية يدل على ذلك فإنه سبحانه قال: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون} {من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم}.
ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا - حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين: (أحدهما): أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركا - وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم - فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله؛ مشركا مثل هؤلاء.
و (الثاني): أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتا لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب (*) كما ثبت في " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنما الطاعة في المعروف} وقال: {على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية}.
وقال: {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق}. وقال: {من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه}. ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسول لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع؛ فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه.
ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله لا سيما إن اتبع في ذلك هواه ونصره باللسان واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول؛ فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه. ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال وإن كان عاجزا عن إظهار الحق الذي يعلمه؛ فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق؛ لا يؤاخذ بما عجز عنه وهؤلاء كالنجاشي وغيره. وقد أنزل الله في هؤلاء آيات من كتابه كقوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم}. وقوله: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}.
وقوله: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}. وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد؛ فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق؛ فهذا من أهل الجاهلية. وإن كان متبوعه مصيبا؛ لم يكن عمله صالحا. وإن كان متبوعه مخطئا؛ كان آثما. كمن قال في القرآن برأيه؛ فإن أصاب فقد أخطأ وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار. وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة فإن ذلك لما أحب المال حبا منعه عن عبادة الله وطاعته صار عبدا له. وكذلك هؤلاء؛ فيكون فيه شرك أصغر ولهم من الوعيد بحسب ذلك. وفي الحديث: {إن يسير الرياء شرك}. وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير من الذنوب.
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33)
{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} بالحجة والبيان؛ وباليد واللسان؛ وهذا إلى يوم القيامة؛ لكن الجهاد المكي بالعلم والبيان؛ والجهاد المدني مع المكي باليد والحديد قال تعالى: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا} و " سورة الفرقان " مكية وإنما جاهدهم باللسان والبيان؛ ولكن يكف عن الباطل وإنما قد بين في المكية. {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}. وقال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}.
وقال تعالى: {الم} {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} إلى قوله: {ساء ما يحكمون} فبين سبحانه وتعالى: أنه أرسل رسله. والناس رجلان: رجل يقول: أنا مؤمن به مطيعه؛ فهذا لا بد أن يمتحن حتى يعلم صدقه من كذبه. ورجل مقيم على المعصية؛ فهذا قد عمل السيئات فلا يظن أن يسبقونا بل لا بد أن نأخذهم. وما لأحد من خروج عن هذين القسمين.
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (35)
وقد ثبت في " الصحيح " وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليها في نار جهنم فيجعل صفائح فيكوى بها جبينه وجنباه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار}. وفي حديث أبي ذر: {بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم فتوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل وتكوي الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم}. وهذا كما في القرآن ويدل على أنه بعد دخول النار فيكون هذا لمن دخل النار ممن فعل به ذلك أولا في الموقف.
فهذا الظالم لما منع الزكاة يحشر مع أشباهه وماله الذي صار عبدا له من دون الله فيعذب به وإن لم يكن هذا من أهل الشرك الأكبر الذين يخلدون في النار. ولهذا قال في آخر الحديث: {ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار}. فهذا بعد تعذيبه خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يدخل الجنة.
(إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (40)
{وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: {إن الله معنا} وقال تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} وقال تعالى: {إن الله مع الصابرين}. وكل من وافق الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر خالف فيه غيره فهو من الذين اتبعوه في ذلك؛ وله نصيب من قوله: {لا تحزن إن الله معنا} فإن المعية الإلهية المتضمنة للنصر هي لما جاء به إلى يوم القيامة؛ وهذا قد دل عليه القرآن وقد رأينا من ذلك وجربنا ما يطول وصفه.
__________
Q (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 59):
وقوله هنا (بتحريم الحلال وتحليل الحرام) قد أشار عدد من أهل العلم إلى أنها قد تكون تصحيفا من النساخ، والأظهر أن العبارة هي (بتحريم الحرام وتحليل الحلال).
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 330)
من صــ 146 الى صـ 160
[فصل رد الرافضي لكثير مما ورد في فضائل أبي بكر رضي الله عنه والرد عليه]
فصل.
قال الرافضي: " الثالث ما ورد فيه من الفضائل كآية الغار وقوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى} [سورة الليل: 17]، وقوله: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد} [سورة الفتح: 16] والداعي هو أبو بكر: وكان أنيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش يوم بدر، وأنفق على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم في الصلاة ".
قال: " والجواب أنه لا فضيلة له في الغار لجواز أن يستصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره.
وأيضا فإن الآية تدل على نقيصة لقوله: {لا تحزن} فإنه يدل على خوره وقلة صبره، وعدم يقينه بالله تعالى وعدم رضا بمساواته النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقضاء الله وقدره ; ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رذيلة.
وأيضا فإن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله شرك معه المؤمنين إلا في هذا الموضع ولا نقص أعظم منه.
وأما: {وسيجنبها الأتقى}، فإن المراد «أبو الدحداح، حيث اشترى نخلة شخص لأجل جاره، وقد عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صاحب النخلة نخلة في الجنة، فأبى فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها الجار؛ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عوضها له بستانا في الجنة».
وأما قوله تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد} [سورة الفتح: 16]، يريد سندعوكم إلى قوم، فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية. والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى بقوله: {قل لن تتبعونا} [سورة الفتح: 15] لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ثم قال: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون} [سورة الفتح: 16] يريد سندعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأس شديد، وقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوات كثيرة: كمؤتة وحنين، وتبوك، وغيرهما؛ فكان الداعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأيضا جاز أن يكون [علي] هو الداعي، حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين؛ وكان رجوعهم إلى طاعته [إسلاما] لقوله عليه الصلاة والسلام: «يا علي حربك حربي»، وحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر.
وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أنسه بالله تعالى مغنيا له عن كل أنيس؛ لكن لما عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمره
لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرات في غزواته. وأيما أفضل: القاعد عن القتال، أو المجاهد بنفسه في سبيل الله؟.
وأما إنفاقه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكذب ; لأنه لم يكن ذا مال، فإن أباه كان فقيرا في الغاية، وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان بمد كل يوم يقتات به؛ فلو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه. وكان أبو بكر في الجاهلية معلما للصبيان وفي الإسلام كان خياطا، ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة فقال: إني محتاج إلى القوت فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان قبل الهجرة غنيا بمال خديجة، ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش. وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر البتة شيء، ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن، كما نزل في علي: {هل أتى} [سورة الإنسان: 1].
ومن المعلوم أن النبي [- صلى الله عليه وسلم -] أشرف من الذين تصدق عليهم أمير المؤمنين، والمال الذي يدعون إنفاقه أكثر، فحيث لم ينزل فيه قرآن؛ دل على كذب النقل.
وأما تقديمه في الصلاة فخطأ؛ لأن بلالا لما أذن بالصلاة أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر، ولما أفاق النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع التكبير فقال: من يصلي بالناس؟ فقالوا: أبو بكر،
فقال: أخرجوني فخرج بين علي والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولى هو الصلاة ".
قال الرافضي: " فهذه حال أدلة القوم، فلينظر العاقل بعين الإنصاف وليقصد اتباع الحق دون اتباع الهوى، ويترك تقليد الآباء والأجداد؛ فقد نهى الله تعالى [في كتابه] عن ذلك ولا تلهيه الدنيا عن إيصال الحق [إلى] مستحقه، ولا
يمنع المستحق عن حقه، فهذا آخر ما أردنا إثباته في هذه المقدمة.
والجواب أن يقال: في هذا الكلام من الأكاذيب والبهت والفرية ما لا يعرف مثله لطائفة من طوائف المسلمين، ولا ريب أن الرافضة فيهم شبه قوي من اليهود؛ فإنهم قوم بهت يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وظهور فضائل شيخي الإسلام: أبي بكر وعمر أظهر بكثير عند كل عاقل من فضل غيرهما؛ فيريد هؤلاء الرافضة قلب الحقائق، ولهم نصيب من قوله تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه} [سورة الزمر: 32]، {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون} [سورة يونس: 17] ونحو هذه الآيات.
فإن القوم من أعظم الفرق تكذيبا بالحق وتصديقا بالكذب؛ وليس في الأمة من يماثلهم في ذلك.
أما قوله: " لا فضيلة في الغار ".
فالجواب: أن الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن لقوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] فأخبر الرسول [- صلى الله عليه وسلم -] أن الله معه ومع صاحبه كما قال لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46].
وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، قال «نظرت إلى إقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ".
وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق فلم يختلف في ذلك اثنان منهم، فهو مما دل القرآن على معناه يقول: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40].
والمعية في كتاب الله على وجهين: عامة وخاصة؛ فالعامة كقوله تعالى:
{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم} الآية [سورة الحديد: 4].
وقوله: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [سورة المجادلة: 7].
فهذه المعية عامة لكل متناجين، وكذلك الأولى عامة لجميع الخلق.
ولما أخبر سبحانه في المعية أنه رابع الثلاثة وسادس الخمسة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» "، فإنه لما كان معهما كان ثالثهما كما دل القرآن على معنى الحديث الصحيح. وإن كان هذه معية خاصة وتلك عامة.
وأما المعية الخاصة فكقوله تعالى لما قال لموسى وهارون: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46]، فهذا تخصيص لهما دون فرعون وقومه فهو مع موسى وهارون دون فرعون.
وكذلك لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " {لا تحزن إن الله معنا} " كان معناه: إن الله معنا دون المشركين الذين يعادونهما
ويطلبونهما كالذين كانوا فوق الغار ولو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصر ما تحت قدميه.
وكذلك قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128]، فهذا تخصيص لهم دون الفجار والظالمين وكذلك قوله تعالى: {إن الله مع الصابرين} [سورة البقرة: 153] تخصيص لهم دون الجازعين.
وكذلك قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي} الآية [سورة المائدة: 12]، وقال: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [سورة الأنفال: 12].
وفي ذكره سبحانه للمعية عامة تارة وخاصة أخرى: ما يدل على أنه ليس المراد بذلك أنه بذاته في كل مكان، أو أن وجوده عين وجود المخلوقات، ونحو ذلك من مقالات الجهمية الذين يقولون بالحلول العام والاتحاد العام أو الوحدة العامة ; لأنه على هذا القول لا يختص بقوم دون قوم ولا مكان دون مكان، بل هو في الحشوش على هذا القول [وأجواف البهائم]، كما هو فوق العرش [فإذا أخبر أنه مع قوم دون قوم كان هذا مناقضا لهذا المعنى ; لأنه على هذا القول لا يختص
بقوم دون قوم، ولا مكان دون مكان، بل هو في الحشوش على هذا القول كما هو فوق العرش].
والقرآن يدل على اختصاص المعية تارة وعمومها أخرى؛ فعلم أنه ليس المراد بلفظ " المعية " اختلاطه.
وفي هذا أيضا رد على من يدعي أن ظاهر القرآن هو الحلول؛ لكن يتعين تأويله على خلاف ظاهره، ويجعل ذلك أصلا يقيس عليه ما يتأوله من النصوص.
فيقال له: قولك إن القرآن يدل على ذلك خطأ كما أن قول قرينك الذي اعتقد هذا المدلول خطأ، وذلك لوجوه.
أحدها: أن لفظ (مع) في لغة العرب إنما تدل على المصاحبة والموافقة والاقتران، ولا تدل على أن الأول مختلط بالثاني في عامة موارد الاستعمال.
كقوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه} [سورة الفتح: 29] لم يرد أن ذواتهم مختلطة بذاته.
وقوله: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [سورة التوبة: 119].
وكذلك قوله: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} [سورة الأنفال: 75].
وكذلك قوله عن نوح: {وما آمن معه إلا قليل} [سورة هود: 40].
وقوله عن نوح أيضا: {فأنجيناه والذين معه في الفلك} الآية [سورة الأعراف: 64].
وقوله عن هود: {فأنجيناه والذين معه برحمة منا} [سورة الأعراف: 72].
وقول قوم شعيب: {لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا} [سورة الأعراف: 88].
وقوله: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين} الآية [سورة النساء: 146].
وقوله: {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [سورة الأنعام: 68].
وقوله: {ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم} [سورة المائدة: 53].
وقوله: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم} [سورة الحشر: 11].
وقوله عن نوح: {اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم} [سورة هود: 48].
وقوله: {وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} [سورة الأعراف: 47].
وقوله: {فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} [سورة التوبة: 83].
وقوله: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} [سورة التوبة: 87].
وقال: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} [سورة التوبة: 88].
ومثل هذا كثير في كلام الله تعالى وسائر الكلام العربي.
وإذا كان لفظ " مع " إذا استعملت في كون المخلوق مع المخلوق لم تدل على اختلاط ذاته بذاته؛ فهي أن لا تدل على ذلك في حق الخالق بطريق الأولى.
فدعوى ظهورها في ذلك باطل من وجهين: أحدهما: أن هذا ليس معناها في اللغة ولا اقترن بها في الاستعمال ما يدل على الظهور؛ فكان الظهور منتفيا من كل وجه.
الثاني: أنه إذا انتفى الظهور فيما هو أولى به فانتفاؤه فيما هو أبعد عنه أولى.
الثاني: أن القرآن قد جعل المعية خاصة أكثر مما جعلها عامة، ولو كان المراد اختلاط ذاته بالمخلوقات لكانت عامة لا تقبل التخصيص.
الثالث: أن سياق الكلام أوله وآخره يدل على معنى المعية، كما
قال تعالى في آية المجادلة: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [سورة المجادلة: 7] فافتتحها بالعلم، وختمها بالعلم فعلم أنه أراد عالم بهم لا يخفى عليه منهم خافية.
وهكذا فسرها السلف: الإمام أحمد ومن قبله من العلماء كابن عباس والضحاك وسفيان الثوري.
وفي آية الحديد قال: {ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} [سورة الحديد: 4] فختمها أيضا بالعلم وأخبر أنه مع استوائه على العرش يعلم هذا كله.
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأوعال: " «والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه» " فهناك أخبر بعموم العلم لكل نجوى.
وهنا أخبر أنه مع علوه على عرشه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج
منها، وهو مع العباد أينما كانوا: يعلم أحوالهم والله بما يعملون بصير.
وأما قوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128] فقد دل السياق على أن المقصود ليس مجرد علمه وقدرته، بل هو معهم في ذلك بتأييده ونصره، وأنه يجعل للمتقين مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون.
وكذلك قوله لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46] فإنه معهما بالتأييد والنصر والإعانة على فرعون وقومه كما إذا رأى الإنسان من يخاف فقال له من ينصره: " نحن معك " أي معاونوك وناصروك على عدوك.
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصديقه: " إن الله معنا " يدل على أنه موافق لهما بالمحبة والرضا فيما فعلاه وهو مؤيد لهما ومعين وناصر.
وهذا صريح في مشاركة الصديق للنبي في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق.
والمقصود هنا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " إن الله معنا هي معية الاختصاص التي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر على عدونا ويعيننا عليهم.
ومعلوم أن نصر الله نصر إكرام ومحبة، كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} [سورة غافر: 51] وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله، وكان متضمنا شهادة الرسول له بكمال الإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي بين الله فيها غناه عن الخلق فقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [سورة التوبة: 40].
ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر. وقال من أنكر صحبة أبي بكر فهو كافر لأنه كذب القرآن.
وقال طائفة من أهل العلم كأبي القاسم السهيلي وغيره: هذه المعية الخاصة لم تثبت لغير أبي بكر.
وكذلك قوله: " «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» "؛ بل ظهر اختصاصهما في اللفظ كما ظهر في المعنى فكان يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " محمد رسول الله؛ " فلما تولى أبو بكر بعده صاروا يقولون: " وخليفة رسول الله " فيضيفون الخليفة إلى رسول الله المضاف إلى الله، والمضاف إلى المضاف مضاف تحقيقا لقوله: " {إن الله معنا} "، «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، ثم لما تولى عمر بعده صاروا يقولون: " أمير المؤمنين " فانقطع الاختصاص الذي امتازه به أبو بكر عن سائر الصحابة.
ومما يبين هذا أن الصحبة فيها عموم وخصوص؛ فيقال: صحبه ساعة ويوما وجمعة وشهرا وسنة وصحبه عمره كله.
وقد قال تعالى: {والصاحب بالجنب} [سورة النساء: 36] قيل: هو الرفيق في السفر وقيل الزوجة وكلاهما تقل صحبته [وتكثر]، وقد سمى الله الزوجة صاحبة في قوله: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} [سورة الأنعام: 101].
ولهذا قال أحمد بن حنبل في " الرسالة " التي رواها عبدوس بن مالك
عنه: " من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة، أو شهرا، أو يوما، أو ساعة، أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه ".
وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرهم: يعدون في أصحابه من قلت صحبته ومن كثرت، وفي ذلك خلاف ضعيف.
والدليل على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " «يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون نعم فيفتح لهم». وهذا لفظ مسلم، وله في رواية أخرى: " «يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 331)
من صــ 161 الى صـ 175
ثم يبعث البعث الثاني، فيقولون: هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: نعم، ثم يكون البعث الرابع فيقال: هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به» ولفظ البخاري ثلاث مرات كالرواية الأولى؛ لكن لفظه: يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، وكذلك قال في الثانية والثالثة، وقال فيها كلها: (صحب)، واتفقت الروايات على ذكر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون الثلاثة وأما القرن الرابع فهو في بعضها؛ وذكر القرن الثالث ثابت في المتفق عليه من غير وجه.
كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «خير أمتي القرن الذين يلونني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» ".
وفي الصحيحين عن عمران أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " «إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم؛ قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون» " وفي رواية: " ويحلفون ولا يستحلفون " فقد شك عمران في القرن الرابع.
وقوله: " يشهدون ولا يستشهدون " حمله طائفة من العلماء على مطلق الشهادة حتى كرهوا أن يشهد الرجل بحق قبل أن يطلب منه المشهود له إذا علم الشهادة وجمعوا بذلك بين هذا وبين قوله: " «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» ".
وقال طائفة أخرى: إنما المراد ذمهم على الكذب، أي يشهدون
بالكذب كما ذمهم على الخيانة وترك الوفاء؛ فإن هذه [من] آيات النفاق التي ذكرناها في قوله: " «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» " أخرجاه في الصحيحين.
وأما الشهادة بالحق إذا أداها الشاهد لمن علم أنه محتاج إليها، ولم يسأله ذلك فقد قام بالقسط وأدى الواجب قبل أن يسأله، وهو أفضل ممن لا يؤديه إلا بالسؤال كمن له عند غيره أمانة، فأداها قبل أن يسأله أداءها حيث يحتاج إليها صاحبها وهذا أفضل من أن يحوج صاحبها إلى ذل السؤال، وهذا أظهر القولين.
وهذا يشبه اختلاف الفقهاء في الخصم إذا ادعى ولم يسأل الحاكم سؤال المدعى عليه هل يسأله الجواب؟ والصحيح أنه يسأله الجواب ولا يحتاج ذلك إلى سؤال المدعى، لأن دلالة الحال تغني عن السؤال.
ففي الحديث الأول: " «هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ "، ثم قال: " هل فيكم [من رأى] من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم» -؟ "، فدل على أن الرائي هو الصاحب، وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال: " هل فيكم من رأى من صحب [من صحب رسول الله؟] "، ثم يكون المراد بالصاحب الرائي.
وفي الرواية الثانية: " «هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ * ثم يقال في الثالثة: " هل فيكم من رأى [من رأى] أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم» -. *
ومعلوم إن كان الحكم لصاحب الصاحب معلقا بالرؤية؛ ففي الذي صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى والأحرى.
ولفظ البخاري قال فيها كلها: " صحب " وهذه الألفاظ إن كانت كلها من ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي نص في المسألة؛ وإن كان قد قال بعضها والراوي مثل أبي سعيد يروي اللفظ بالمعنى؛ فقد دل على أن معنى أحد اللفظين عندهم هو معنى الآخر، وهم أعلم بمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأيضا فإن كان لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - (رأى) فقد حصل المقصود وإن كان لفظه " صحب " في طبقة أو طبقات؛ فإن لم يرد به الرؤية لم يكن قد بين مراده؛ فإن الصحبة اسم جنس ليس لها حد في الشرع ولا في اللغة، والعرف فيها مختلف.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقيد الصحبة بقيد ولا قدرها بقدر؛ بل علق الحكم بمطلقها، ولا مطلق لها إلا الرؤية.
وأيضا فإنه يقال: صحبه ساعة وصحبه سنة وشهرا فتقع على القليل والكثير فإذا أطلقت من غير قيد لم يجز تقييدها بغير دليل؛ بل تحمل على المعنى المشترك بين سائر موارد الاستعمال.
ولا ريب أن مجرد رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يقال: قد صحبه ولكن إذا رآه على وجه الاتباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به، ولهذا لم يعتد برؤية من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار والمنافقين فإنهم لم يروه رؤية من قصده لأن يؤمن به، ويكون من أتباعه وأعوانه المصدقين له، فيما أخبر المطيعين له فيما أمر الموالين له المعادين لمن عاداه الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأموالهم وكل شيء.
وامتاز [أبو بكر] عن سائر المؤمنين بأن رآه وهذه حاله معه فكان صاحبا له بهذا الاعتبار.
ودليل ثان ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «وددت أني رأيت إخواني " قالوا: يا رسول الله أولسنا إخوانك قال: " بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني» ".
ومعلوم أن قوله: " إخواني " أراد به: إخواني الذين ليسوا بأصحابي، وأما أنتم فلكم مزية الصحبة، ثم قال: " «قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني» "؛ فجعل هذا حدا فاصلا بين إخوانه الذين ود أن يراهم وبين أصحابه؛ فدل على أن من آمن به ورآه، فهو من أصحابه لا من هؤلاء الإخوان الذين لم يرهم ولم يروه.
فإذا عرف أن الصحبة اسم جنس تعم قليل الصحبة وكثيرها، وأدناها أن يصحبه زمنا قليلا فمعلوم أن الصديق في ذروة سنام الصحبة، وأعلى مراتبها فإنه صحبه من حين بعثه الله إلى أن مات، وقد أجمع الناس على أنه أول من آمن به من الرجال الأحرار، كما أجمعوا على أن أول من آمن به من النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة، وتنازعوا في أول من نطق بالإسلام بعد خديجة، فإن كان أبو بكر أسلم قبل علي فقد ثبت أنه أسبق صحبة كما كان أسبق إيمانا، وإن كان علي أسلم قبله فلا ريب أن صحبة أبي بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت أكمل وأنفع له من صحبة علي ونحوه؛ فإنه شاركه في الدعوة فأسلم على يديه أكابر أهل الشورى، كعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن، وكان يدفع عنه من يؤذيه، ويخرج معه إلى القبائل ويعينه في الدعوة، وكان يشتري المعذبين في الله كبلال وعمار وغيرهما فإنه اشترى سبعة من المعذبين في الله، فكان أنفع الناس له في صحبته مطلقا.
ولا نزاع بين أهل العلم بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أن مصاحبة أبي بكر له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة [من وجوه]: أحدها: أنه كان أدوم اجتماعا به ليلا ونهارا وسفرا وحضرا كما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: " «لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمض علينا يوم إلا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتينا فيه طرفي النهار» ".
فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر يذهب إلى أبي بكر طرفي النهار، والإسلام إذا ذاك ضعيف والأعداء كثيرة، وهذا غاية الفضيلة والاختصاص في الصحبة.
وأيضا فكان أبو بكر يسمر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العشاء يتحدث معه في أمور المسلمين دون غيره من أصحابه.
وأيضا فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى وربما تكلم غيره، وربما لم يتكلم غيره فيعمل برأيه وحده فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه.
فالأول كما في الصحيحين أنه شاور أصحابه في أسارى بدر فتكلم أبو بكر فروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: «لما أسر الأسارى يوم بدر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر: " ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: هم بنو العم والعشيرة، فأرى أن تقبل منهم الفدية فتكون لنا قوة على الكفار فقال عمر: لا والله يا رسول الله ما أرى ما رأى أبو بكر؛ ولكن أن تمكننا فنضرب أعناقهم: تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه. وأشار ابن رواحة بتحريفهم فاختلف أصحابه، فمنهم من يقول: الرأي ما رأى أبو بكر ومنهم من يقول: الرأي ما رأى عمر، ومنهم من يقول: الرأي ما رأى ابن رواحة، قال: فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت». وذكر تمام الحديث.
وأما الثاني: ففي يوم الحديبية لما شاورهم على أن يغير على ذرية الذين أعانوا قريشا، أو يذهب إلى البيت؛ فمن صده قاتله، والحديث معروف عند أهل العلم أهل التفسير والمغازي والسير والفقه، والحديث رواه البخاري ورواه أحمد في مسنده.
حدثنا عبد الرزاق عن معمر، قال: قال الزهري: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل منهما صاحبه، قالا: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهدي وأشعره، وأحرم بعمرة وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش، وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي؛ فقال: إني قد تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش» "، قال أحمد: " وقال يحيى بن سعيد عن ابن المبارك ": " «قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" أشيروا علي: أترون أن أميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؛ فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين، وإن نجوا يكن عنقا قطعها الله، أو ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم يا نبي الله؛ إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فروحوا إذا» ". قال الزهري: «وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم» -، قال الزهري: حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ".
ومن هنا رواه البخاري من طريق ورواه في المغازي والحج.
وقال الزهري في حديث المسور الذي اتفق عليه أحمد والبخاري «حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش؛ فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس: حل حل فألحت فقالوا خلأت القصواء خلأت القصواء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، " ما خلأت [القصواء] وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل؛ ثم قال: " والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها "، ثم زجرها فوثبت، قال:
فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه وشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذا جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ونفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل تهامة» " وفي لفظ لأحمد: " مسلمهم ومشركهم " «فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين؛ فإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم؛ فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس؛ فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره ".
قال بديل: " سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا؛ فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا؛ فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال سمعته يقول: كذا وكذا فحدثهم بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام عروة بن مسعود، فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟، قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - له نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت قومك، هل سمعت أحدا من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أوباشا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك، ولفظ أحمد: " خلقاء أن يفروا ويدعوك " فقال [له] أبو بكر: - رضي الله عنه -: امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال:
من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، وجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة قائم على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه السيف وعليه المغفر؛ فكلما أهوى عروة بيده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب يده بنعل السيف، ويقول: أخر يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفع عروة رأسه فقال: من ذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة.
قال: أي غدر، أولست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، [ثم جاء فأسلم]، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء. ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعينيه؛ قال: فوالله ما تنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم [عنده] وما يحدون النظر إليه تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم [والله] لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي؛ والله إن رأيت ملكا عظيما قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم بنخامة إلا وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 332)
من صــ 176 الى صـ 190
وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها؛ فقال رجل من كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم -[وأصحابه] قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له " [فبعثت له] واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهذا أن يصد عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه، قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصد عن البيت؛ فقام رجل يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته؛ فلما أشرف عليهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" هذا مكرز بن حفص وهو رجل فاجر " فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما هو يكلمه جاء سهيل بن عمرو. قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قد سهل لكم من أمركم "، قال معمر عن الزهري في حديثه: فجاء سهيل، فقال له: هات اكتب بيننا وبينك كتابا، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الكاتب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل: أما الرحمن فما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اكتب باسمك اللهم "، ثم قال: " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله "؛ فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني؛ اكتب: محمد بن عبد الله ". قال الزهري: وذلك لقوله: " لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ".
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " على أن تخلوا بيننا وبين المسجد الحرام نطوف به "؛ فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذاك من العام المقبل فكتب، وقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا قال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين؛ فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي؛ قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنا لم نقض الكتاب بعد قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فأجزه لي " قال:
ما أنا مجيزه، قال: " بلى فافعل " قال: ما أنا بفاعل؛ قال مكرز: بلى قد أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معاشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت، وقد كان عذب عذابا شديدا في الله فقال عمر: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قال: قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: " إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري "؛ قلت: أولست كنت تحدثنا: أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: " فأخبرتك أنك آتيه العام؟ " قلت: لا، قال: " فإنك آتيه ومطوف به " قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر: أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله [إنه] على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا قال فإنك آتيه ومطوف به؛ قال عمر: فعملت لذلك أعمالا، قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: " قوموا فانحروا، ثم احلقوا " قال:
فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات؛ فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك، اخرج ولا تكلم أحدا منهم، * حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك [فيحلقك]، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك فنحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه *، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} إلى قوله: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [سورة الممتحنة: 10] فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك؛ فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية. ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة؛ فجاء أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة؛ فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه [منه]، فضرب به حتى برد، وفر الآخر حتى آتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رآه لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير - رضي الله عنه - فقال: يا نبي الله قد وفى بذمتك، فلقد رددتني إليهم، ثم أنجاني
الله منهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد " فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم؛ فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل - رضي الله عنه -؛ فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة؛ قال: فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحم إلا أرسل إليهم: فمن أتاه منهم فهو آمن، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم وأنزل الله عز وجل: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة} [سورة الفتح: 24] حتى بلغ: {حمية الجاهلية} [سورة الفتح: 26] وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا بـ " بسم الله الرحمن الرحيم " وحالوا بينهم وبين البيت» " رواه البخاري عن عبد الله بن محمد المسندي عن عبد الرازق ورواه أحمد عن عبد الرازق، وهو
أجل قدرا من المسندي شيخ البخاري؛ فما فيه من زيادة هي أثبت مما في البخاري.
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب، قال: «كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين يوم الحديبية؛ فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: لا تكتب رسول الله؛ لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: " امحه "، فقال: " ما أنا بالذي أمحوه " قال: فمحاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده، قال: وكان فيما اشترطوا عليه أن يدخلوا فيقيموا بها ثلاثا، ولا يدخلوا بسلاح إلا جلبان السلاح. قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: وما جلبان السلاح؟ قال: القراب وما فيه» ".
وفي الصحيحين عن أبي وائل قال: «قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم وفي لفظ اتهموا رأيكم على دينكم؛ لقد كنا [مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] يوم الحديبية؛ ولو نرى قتالا لقاتلنا وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين وجاء عمر، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل قال: " بلى "، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: " بلى "، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا؟، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؛ قال: " يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا "، قال: فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا، قال: فنزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح؛ فأرسل إلى عمر
فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله أوفتح هو؟ قال: " نعم» ".
وفي لفظ مسلم " فطابت نفسه ورجع ".
وفي لفظ لمسلم أيضا: " «أيها الناس اتهموا رأيكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو [أني] أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته» ".
وفي رواية: والله ورسوله أعلم: " والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا "، " ما
نسد منه خصما إلا انفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له " يعني يوم صفين.
وقال ذلك سهل يوم صفين لما خرجت الخوارج على علي حين أمر بمصالحة معاوية وأصحابه.
وهذه الأخبار الصحيحة هي باتفاق أهل العلم بالحديث في عمرة الحديبية تبين اختصاص أبي بكر [بمنزلة] من الله ورسوله لم يشركه فيها أحد من الصحابة: لا عمر ولا علي ولا غيرهما، وأنه لم يكن فيهم أعظم إيمانا وموافقة وطاعة لله ورسوله منه، ولا كان فيهم من يتكلم بالشورى قبله.
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصدر عن رأيه وحده في الأمور العظيمة وإنه [كان] يبدأ بالكلام بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - معاونة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما كان يفتي بحضرته وهو يقره على ذلك ولم يكن هذا لغيره.
فإنه لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - جاسوسه الخزاعي، وأخبره أن قريشا قد جمعوا له الأحابيش، وهي الجماعات المستجمعة من
قبائل، والتحبش: التجمع، وأنهم مقاتلوه وصادوه عن البيت، استشار أصحابه أهل المشورة مطلقا، هل يميل إلى ذراري الأحابيش؟ أو ينطلق إلى مكة فلما أشار عليه أبو بكر أن لا يبدأ أحدا بالقتال، فإنا لم نخرج إلا للعمرة لا للقتال؛ فإن منعنا أحد من البيت قاتلناه لصده لنا عما قصدنا لا مبتدئين له بقتال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " روحوا إذا "، ثم إنه [لما] تكلم عروة بن مسعود الثقفي وهو من سادات ثقيف وحلفاء قريش مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم، وأخذ يقول له عن أصحابه: " إنهم أشواب " أي: أخلاط وفي المسند أوباش يفرون عنك ويدعوك، قال له الصديق - رضي الله عنه -: امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه، فقال له عروة ولما يجاوبه عن هذه الكلمة: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، وكان الصديق قد أحسن إليه قبل ذلك فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة.
ولهذا قال: من قال من العلماء إن هذا يدل على جواز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة وليس من الفحش المنهي عنه.
كما في حديث أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " «من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا تكنوا» " رواه
أحمد فسمع أبي بن كعب رجلا يقول: يا فلان، فقال: اعضض أير أبيك، فقيل له في ذلك، فقال: بهذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم إنه لما صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشا كان ظاهر الصلح فيه غضاضة وضيم على المسلمين، وفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله وثقة بوعده له، وأن الله سينصره عليهم، واغتاظ من ذلك جمهور الناس وعز عليهم، حتى على مثل عمر وعلي وسهل بن حنيف؛ ولهذا كبر عليه علي - رضي الله عنه - لما مات تبيينا لفضله على غيره يعني سهل بن حنيف فعلي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمحو اسمه من الكتاب فلم يفعل حتى أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتاب ومحاه بيده.
وفي صحيح البخاري أنه قال لعلي: " امح رسول الله " قال: لا والله لا أمحوك أبدا؛ فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب، وليس يحسن يكتب فكتب: " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ".
وسهل بن حنيف يقول: " لو استطعت أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته "، وعمر يناظر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول: إذا كنا على الحق وعدونا على الباطل وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار وأنت رسول الله حقا فعلام نعطي الدنية في ديننا، ثم إنه رجع عن ذلك وعمل له أعمالا.
وأبو بكر أطوعهم لله ورسوله لم يصدر عنه مخالفة في شيء قط، بل لما ناظره عمر بعد مناظرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - أجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يسمع جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا من أبين الأمور دلالة على موافقته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومناسبته له واختصاصه به قولا وعملا وعلما وحالا؛ إذ كان قوله من جنس قوله وعمله من جنس عمله. وفي المواطن التي ظهر فيها تقدمه على غيره في ذلك؛ فأين مقامه من مقام غيره؟! هذا يناظره ليرده عن أمره؛ وهذا يأمره ليمحو اسمه فلا يمحوه، وهذا يقول: لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته، وهو يأمر الناس بالحلق والنحر فيتوقفون.
ولا ريب أن الذي حملهم على ذلك حب الله ورسوله، وبغض الكفار ومحبتهم أن يظهر الإيمان على الكفر، وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر. ورأوا أن قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم أحب إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها.
لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي، والشرع على الهوى؛ فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم: تقديم نصوصهم على الآراء وشرعهم على الأهواء، وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى * على الشرع؛ فمن نور الله قلبه فرأى ما في النص والشرع من الصلاح والخير، وإلا فعليه * الانقياد لنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه وليس له معارضته برأيه وهواه.
كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري " فبين أنه رسول الله، يفعل ما أمره به مرسله، لا يفعل من تلقاء نفسه وأخبر أنه يطيعه لا يعصيه كما يفعل المتبع لرأيه وهواه وأخبر أنه ناصره فهو على ثقة من نصر الله فلا يضره ما حصل؛ فإن في ضمن ذلك من المصلحة وعلو الدين ما ظهر بعد ذلك، وكان هذا فتحا مبينا في الحقيقة وإن كان فيه ما لم يعلم حسن ما فيه كثير من الناس، بل رأى ذلك ذلا وعجزا وغضاضة وضيما.
ولهذا تاب الذين عارضوا ذلك - رضي الله عنهم - كما في الحديث رجوع عمر، وكذلك في الحديث أن سهل بن حنيف اعترف بخطئه حيث قال: " والله ورسوله أعلم " وجعل رأيهم عبرة لمن بعدهم؛ فأمرهم أن يتهموا رأيهم على دينهم؛ فإن الرأي يكون خطأ، كما كان رأيهم يوم الحديبية خطأ، وكذلك على الذي لم يفعل ما أمره به، والذين لم يفعلوا ما أمروا به من الحلق والنحر حتى فعل هو ذلك قد تابوا من ذلك والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
والقصة كانت عظيمة بلغت منهم مبلغا عظيما لا تحمله عامة النفوس وإلا فهم خير الخلق، وأفضل الناس وأعظمهم علما وإيمانا وهم الذين بايعوا تحت الشجرة، وقد رضي [الله] عنهم وأثنى عليهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
والاعتبار في الفضائل بكمال النهاية لا بنقص البداية، وقد قص الله
علينا من توبة أنبيائه، وحسن عاقبتهم، وما آل إليه أمرهم من على الدرجات وكرامة الله لهم بعد أن جرت لهم أمور، ولا يجوز أن يظن بغضهم لأجلها؛ إذا كان الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية.
وهكذا السابقون الأولون من ظن بغضهم [لأجلها إذا كان الاعتبار بكمال النهاية] كما ذكر، فهو جاهل؛ لكن المطلوب أن الصديق أكمل القوم وأفضلهم وأسبقهم إلى الخيرات، وأنه لم يكن فيهم من يساويه.
وهذا أمر بين لا يشك فيه إلا من كان جاهلا بحالهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو كان صاحب هوى صده اتباع هواه عن معرفة الحق وإلا فمن كان له علم وعدل لم يكن عنده في ذلك شك، كما لم يكن عند أهل العلم والإيمان شك؛ بل كانوا مطبقين على تقديم الصديق وتفضيله على من سواه كما اتفق على ذلك علماء المسلمين وخيارهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وداود وأصحابه، والثوري وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والليث وأصحابه، وسائر العلماء الذين لهم في الأمة لسان صدق.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 333)
من صــ 191 الى صـ 205
ومن ظن أن مخالفة من خالف أمر الرسول يوم الحديبية - أو غيره - لم تكن من الذنوب التي تجب التوبة منها فهو غالط، كما قال من أخذ يعتذر
لمن خالف أمره عذرا يقصد به رفع الملام: بأنهم إنما تأخروا عن النحر والحلق ; لأنهم كانوا ينتظرون النسخ ونزول الوحي بخلاف ذلك.
وقول من يقول إنما تخلف من تخلف عن طاعته إما تعظيما لمرتبته أن يمحو اسمه، أو يقول: مراجعة من راجعه في مصالحة المشركين إنما كانت قصدا لظهور الإيمان على الكفر ونحو ذلك.
فيقال: الأمر الجازم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أراد به الإيجاب، موجب لطاعته باتفاق أهل الإيمان، وإنما نازع في الأمر المطلق بعض الناس لاحتمال أنه ليس بجازم أراد به الإيجاب، وأما مع ظهور الجزم والإيجاب فلم يسترب أحد في ذلك.
ومعلوم أن أمره بالنحر والحلق كان جازما وكان مقتضاه الفعل على الفور بدليل أنه ردده ثلاثا، فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، وروى أنه غضب وقال: مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يتبع.
وروي أنه قال ذلك لما أمرهم بالتحلل في حجة الوداع.
ومعلوم أن الأمر بالتحلل بهذه العمرة التي أحصروا فيها كان أوكد من الأمر بالتحلل في حج الوداع.
وأيضا فإنه كان محتاجا إلى محو اسمه من الكتاب ليتم الصلح؛ ولهذا محاه بيده، والأمر بذلك كان جازما. والمخالف لأمره إن كان متأولا فهو ظان أن هذا لا يجب، لما فيه من قلة احترام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لما فيه من انتظار العمرة وعدم إتمام ذلك الصلح. فحسب المتأول أن يكون مجتهدا مخطئا فإنه مع جزم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشكيه ممن لم يمتثل أمره وقوله: " ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر ولا أتبع " لا يمكن تسويغ المخالفة؛ لكن هذا مما تابوا منه كما تابوا من غيره.
فليس لأحد أن يثبت عصمة من ليس بمعصوم، فيقدح بذلك في أمر المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، كما فعل ذلك في توبة من تاب، وحصل له بالذنب نوع من العقاب فأخذ ينفي على الفعل ما يوجب الملام، والله قد لامه لوم المذنبين فيزيد تعظيم البشر فيقدح في رب العالمين.
ومن علم أن الاعتبار بكمال النهاية، وأن التوبة تنقل العبد إلى مرتبة أكمل مما كان عليه؛ علم أن ما فعله الله بعباده المؤمنين كان من أعظم نعم الله عليهم.
وأيضا ففي المواضع التي لا يكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكابر الصحابة إلا واحد كان يكون هو ذلك الواحد، مثل سفره في الهجرة ومقامه يوم بدر في العريش: لم يكن معه فيه إلا أبو بكر، ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبو بكر.
وهذا الاختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما من كان جاهلا أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو كذابا فذلك يخاطب خطاب مثله.
فقوله تعالى في القرآن: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} [سورة التوبة: 40] لا يختص بمصاحبته في الغار، بل هو صاحبه المطلق الذي كمل [في] الصحبة كمالا لم يشركه فيه غيره، فصار مختصا بالأكملية من الصحبة.
كما في الحديث رواه البخاري عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقه؛ فإنه لم يسؤني قط، أيها الناس إني راض عن عمر وعثمان وعلي وفلان وفلان» ".
فقد تبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[خصه] دون غيره مع أنه قد جعل غيره من أصحابه أيضا؛ لكن خصه بكمال الصحبة.
ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره.
ومن أراد أن يعرف فضائلهم ومنازلهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فليتدبر الأحاديث الصحيحة التى صححها أهل العلم بالحديث الذين كملت خبرتهم بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحبتهم له، وصدقهم في التبليغ عنه وصار هواهم تبعا لما جاء به، فليس لهم غرض إلا معرفة ما قاله، وتمييزه عما يخلط بذلك من كذب الكاذبين وغلط الغالطين.
كأصحاب الصحيح: مثل: البخاري، ومسلم، والإسماعيلي،
والبرقاني، وأبي نعيم، والدارقطني، ومثل صحيح ابن خزيمة وابن منده وأبي حاتم البستي والحاكم.
وما صححه أئمة أهل الحديث [الذين] هم أجل من هؤلاء، أو مثلهم من المتقدمين والمتأخرين، مثل: مالك وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، وابن المبارك، وأحمد، وابن معين وابن المديني، وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين، وخلائق لا يحصي عددهم إلا الله تعالى.
فإذا تدبر العاقل الأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم عرف الصدق من الكذب؛ فإن هؤلاء من أكمل الناس معرفة بذلك وأشدهم رغبة في التمييز بين الصدق والكذب وأعظمهم ذبا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم المهاجرون إلى سنته وحديثه والأنصار له في الدين يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس، وينفون عنه ما كذبه الكذابون، وغلط فيه الغالطون، ومن شركهم في علمهم علم ما قالوه، وعلم بعض قدرهم، وإلا فليسلم القوس إلى باريها، كما يسلم إلى الأطباء طبهم، وإلى النحاة نحوهم، وإلى الفقهاء فقههم، وإلى أهل الحساب حسابهم مع أن جميع هؤلاء قد يتفقون على خطأ في صناعتهم؛ إلا الفقهاء فيما يفتون به من الشرع، وأهل الحديث فيما يفتون به من النقل، فلا يجوز أن يتفقوا على التصديق بكذب، ولا على التكذيب بصدق؛ بل إجماعهم معصوم في التصديق والتكذيب بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أن إجماع الفقهاء معصوم في الإخبار عن الفعل بدخوله في أمره أو نهيه، أو تحليله أو تحريمه.
ومن تأمل هذا وجد فضائل الصديق التي في الصحاح كثيرة، وهي خصائص. مثل حديث المخالة، وحديث: إن الله معنا، وحديث إنه أحب الرجال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث الإتيان إليه بعده، وحديث كتابة العهد إليه بعده، وحديث تخصيصه بالتصديق ابتداء والصحبة، وتركه له، وهو قوله: " «فهل أنتم تاركو لي صاحبي» " وحديث دفعه عنه عقبة بن أبي معيط لما وضع الرداء في عنقه حتى خلصه أبو بكر؛ وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟! وحديث استخلافه في الصلاة وفي الحج، وصبره وثباته بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وانقياد الأمة [له]، وحديث الخصال التي اجتمعت فيه في يوم، وما اجتمعت في رجل إلا وجبت له الجنة وأمثال ذلك.
ثم له مناقب يشركه فيها عمر كشهادته بالإيمان له ولعمر، وحديث علي حيث يقول: «كثيرا ما كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " خرجت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر» " وحديث استقائه من القليب، وحديث البقرة التي يقول فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «أؤمن بها أنا وأبو بكر وعمر» " وأمثال ذلك.
وأما مناقب علي التي في الصحاح فأصحها قوله: " «يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» "، وقوله في غزوة تبوك: " «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» " ومنها دخوله في المباهلة وفي الكساء ومنها قوله: " «أنت مني وأنا منك» "، وليس في شيء من ذلك خصائص. وحديث: " «لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق» "، ومنها ما تقدم من حديث الشورى وإخبار عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو راض عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن.
فمجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث، ليس فيها ما يختص به ولأبي بكر في الصحاح نحو عشرين حديثا أكثرها خصائص.
وقول من قال: صح لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره؛ كذب لا يقوله أحمد ولا غيره من أئمة الحديث؛ لكن قد يقال: روي له ما لم يرو لغيره، لكن أكثر ذلك من نقل من علم كذبه أو خطؤه؛ ودليل واحد صحيح المقدمات سليم عن المعارضة خير من عشرين دليلا مقدماتها ضعيفة، بل باطلة، وهي معارضة بأصح منها يدل على نقيضها.
والمقصود هنا بيان اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يشركه مخلوق، لا في قدرها ولا في صفتها ولا في نفعها، فإنه لو أحصي الزمان الذي كان يجتمع فيه أبو بكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والزمان الذي كان يجتمع فيه عثمان أو علي أو غيرهما من الصحابة لوجد ما يختص به أبو بكر أضعاف ما اختص به واحد منهم لا أقول ضعفه.
وأما المشترك بينهم فلا يختص به واحد.
وأما كمال معرفته ومحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه له فهو
مبرز في ذلك على سائرهم تبريزا باينهم فيه مباينة لا تخفى على من كان له معرفة بأحوال القوم ومن لا معرفة له بذلك لم تقبل شهادته.
وأما نفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاونته له على الدين فكذلك.
فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة ومحامدها التي بها يستحق الصحابة أن يفضلوا بها على غيرهم لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها وصفتها وفائدتها ما لا يشركه فيه أحد.
ويدل على ذلك ما رواه البخاري «عن أبي الدرداء قال كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أقبل أبو بكر آخذا بطرق ثوبه حتى أبدي عن ركبتيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أما صاحبكم فقد غامر فسلم "، وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك، فقال: " يغفر الله لك يا أبا بكر " ثلاثا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر؟ قالوا: لا، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه وقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم. مرتين؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي ". مرتين. فما أوذي بعدها».
وفي رواية: «كانت بين أبي بكر وعمر محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه مغضبا فأتبعه أبو بكر يسأله أن يغفر له؛ فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه؛ فأقبل أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم» -. . الحديث. قال: وغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: " «إني قلت يا أيها الناس: إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت» ".
فهذا الحديث الصحيح فيه تخصيصه بالصحبة في قوله: " «فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟» " وبين فيه من أسباب ذلك: أن الله لما بعثه إلى الناس قال: " إني رسول الله إليكم جميعا "، قالوا: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت؛ فهذا يبين فيه أنه لم يكذبه قط، وأنه صدقه حين كذبه الناس طرا.
وهذا ظاهر في أنه صدقه قبل أن يصدقه أحد من الناس الذين بلغهم الرسالة وهذا حق فإنه أول ما بلغ الرسالة فآمن.
وهذا موافق لما رواه مسلم «عن عمرو بن عبسة، قلت: يا رسول الله من معك على هذا الأمر؟ قال: " حر وعبد " ومعه يومئذ أبو بكر وبلال».
وأما خديجة وعلي وزيد؛ فهؤلاء كانوا من عيال النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي بيته وخديجة عرض عليها أمره لما فجأه الوحي، وصدقته ابتداء قبل أن يؤمر بالتبليغ وذلك قبل أن يجب الإيمان به فإنه إنما يجب إذا بلغ الرسالة فأول من صدق به بعد وجوب الإيمان به أبو بكر من الرجال، فإنه لم يجب عليه أن يدعو عليا إلى الإيمان؛ لأن عليا كان صبيا، والقلم عنه مرفوع.
ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالإيمان وبلغه الرسالة قبل أن يأمر أبا بكر ويبلغه ولكنه كان في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمكن أنه آمن به لما سمعه يخبر خديجة وإن كان لم يبلغه؛ فإن ظاهر قوله: " «يا أيها الناس إني أتيت إليكم فقلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت» " كما في الصحيحين يدل على أن كل من بلغه الرسالة كذبه أولا إلا أبا بكر.
ومعلوم أن خديجة وعليا وزيدا كانوا في داره، وخديجة لم تكذبه فلم تكن داخلة فيمن بلغ.
وقوله في حديث «عمرو بن عبسة: قلت: يا رسول الله من معك على هذا الأمر؟ قال: " حر وعبد» ".
والذي في صحيح مسلم موافق لهذا، أي: اتبعه من المبلغين المدعوين، ثم ذكر قوله: " وواساني بنفسه وماله "، وهذه خاصة لم يشركه فيها أحد.
وقد ذكر هذا [النبي]- صلى الله عليه وسلم - في أحاديث المخالة التي هي متواترة عنه، كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر؛ فقال: " إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن من آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا؛ ولكن أخوة الإسلام. لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر» " وفي رواية للبخاري: " «لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته». * وفي رواية " إلا خلة الإسلام ". وفيه: " قال: فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه الله من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. وفي رواية: " وبين ما عنده فاختار ما عنده "، وفيه فقال: " «لا تبك إن آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته * لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر» ".
وروى البخاري من حديث ابن عباس قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: " «إنه ليس أحد من الناس آمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر» ".
وفي رواية: " «لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته، ولكن أخوة الإسلام أفضل» ".
وفي رواية: " ولكن أخي وصاحبي ".
ورواه البخاري عن ابن الزبير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: " «لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا * لاتخذته يعني أبا بكر».
ورواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «لو كنت متخذا خليلا * لاتخذت أبا بكر خليلا؛ ولكن أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا» ".
وفي رواية: " «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة؛ ولكن صاحبكم خليل الله» ".
وفي أخرى: " «ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا إن صاحبكم خليل الله» ".
فهذه النصوص كلها مما تبين اختصاص أبي بكر من فضائل الصحبة ومناقبها والقيام [بها] وبحقوقها بما لم يشركه فيه أحد حتى استوجب أن يكون خليله دون الخلق، لو كانت المخالة ممكنة.
وهذه النصوص صريحة بأنه أحب الخلق إليه وأفضلهم عنده كما صرح بذلك في حديث عمرو بن العاص «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل؛ قال: " فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة قلت: فمن الرجال؟ قال: " أبوها " قلت: ثم من؟ قال عمر: وعد رجالا» ". وفي رواية للبخاري: " قال: فسكت مخافة أن يجعلني آخرهم ".
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 334)
من صــ 205 الى صـ 220
[فصل مما يبين فضيلة أبي بكر في الغار أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال]
فصل.
ومما يبين من القرآن فضيلة أبي بكر في الغار أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [سورة التوبة: 40] أي: أخرجوه في هذه القلة من العدد لم يصحبه إلا الواحد؛ فإن الواحد أقل ما يوجد فإذا لم يصحبه إلا واحد دل على أنه في غاية القلة.
ثم قال: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40]؛ وهذا يدل على أن صاحبه كان مشفقا عليه محبا له ناصرا له حيث حزن، وإنما يحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه، وأما عدوه فلا يحزن إذا انعقد سبب هلاكه.
فلو كان أبو بكر مبغضا كما يقول المفترون لم يحزن ولم ينه عن الحزن، بل كان يضمر الفرح والسرور، ولا كان الرسول يقول له: " {لا تحزن إن الله معنا} ".
فإن قال المفتري: إنه خفي على الرسول حاله لما أظهر له الحزن، وكان في الباطن مبغضا.
قيل له فقد قال: " {إن الله معنا} "، فهذا إخبار بأن الله معهما [جميعا] بنصره، ولا يجوز للرسول أن يخبر بنصر الله لرسوله وللمؤمنين وأن الله معهم ويجعل ذلك في الباطن منافقا فإنه معصوم في خبره عن الله لا يقول عليه إلا الحق؛ وإن جاز أن يخفى عليه حال بعض الناس فلا يعلم أنه منافق كما قال: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} [سورة التوبة: 101] فلا يجوز أن يخبر عنهم بما يدل على إيمانهم.
ولهذا «لما جاءه المخلفون عام تبوك فجعلوا يحلفون ويعتذرون، وكان يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، لا يصدق أحدا منهم فلما جاء كعب وأخبره بحقيقة أمره قال: " أما هذا فقد صدق "، أو قال: " صدقكم» ".
وأيضا فإن سعد بن أبي وقاص لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " «أعطيت فلانا وفلانا، وتركت فلانا وهو مؤمن " قال: " أو مسلم " مرتين أو ثلاثا» فأنكر عليه إخباره بالإيمان، ولم يعلم منه إلا ظاهر الإسلام.
فكيف يشهد لأبي بكر بأن الله معهما وهو لا يعلم ذلك؟ والكلام بلا علم لا يجوز.
وأيضا فإن الله أخبر بهذا عن الرسول إخبار مقرر له، لا إخبار منكر له فعلم أن قوله: " {إن الله معنا} " من الخبر الصدق الذي أمر الله به ورضيه لا مما أنكره وعابه.
وأيضا فمعلوم أن أضعف الناس عقلا لا يخفى عليه حال من يصحبه في مثل هذا السفر الذي يعاديه فيه الملأ الذين هم بين أظهرهم، ويطلبون قتله، وأولياؤه هناك لا يستطيعون نصره؛ فكيف يصحب واحدا ممن يظهر له موالاته دون غيره، وقد أظهر له هذا حزنه، وهو مع ذلك عدو له في الباطن. والمصحوب يعتقد أنه وليه، وهذا لا يفعله إلا أحمق الناس وأجهلهم.
فقبح الله من نسب رسوله الذي هو أكمل الخلق عقلا وعلما وخبرة إلى مثل هذه الجهالة والغباوة.
ولقد بلغني عن ملك المغول خدابنده الذي صنف له هذا الرافضي كتابه هذا في الإمامة أن الرافضة لما صارت تقول له مثل هذا الكلام إن أبا بكر كان يبغض النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان عدوه، ويقولون مع هذا إنه صحبه في سفر الهجرة الذي هو أعظم الأسفار خوفا. قال كلمة تلزم عن قولهم الخبيث، وقد برأ الله رسوله منها، لكن ذكرها على من افترى الكذب الذي أوجب أن يقال في الرسول مثلها حيث قال: " كان قليل العقل ".
ولا ريب أن فعل ما قالته الرافضة فهو قليل العقل. وقد برأ الله رسوله وصديقه من كذبهم وتبين أن قولهم يستلزم القدح في الرسول.
[فصل مما يبين أن الصحبة فيها خصوص وعموم كالولاية والمحبة]
فصل.
ومما يبين أن الصحبة فيها خصوص وعموم، كالولاية والمحبة والإيمان وغير ذلك من الصفات التي يتفاضل فيها الناس في قدرها ونوعها وصفتها ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «لا تسبوا أحدا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» ". انفرد مسلم بذكر خالد وعبد الرحمن دون البخاري فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لخالد ونحوه: «لا تسبوا أصحابي» يعني عبد الرحمن بن عوف وأمثاله؛ لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون، وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان، فهؤلاء أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، وبعد مصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة ومنهم خالد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة وأمثالهم.
وهؤلاء أسبق من الذين تأخر إسلامهم إلى أن فتحت مكة وسموا الطلقاء مثل سهيل بن عمرو. والحارث بن هشام، وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم مع أنه قد يكون في هؤلاء من برز بعلمه على بعض من تقدمه كثيرا كالحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث وسهيل بن عمرو، وعلى بعض من أسلم قبلهم ممن أسلم قبل الفتح وقاتل وكما برز عمر بن الخطاب على أكثر الذين أسلموا قبله.
والمقصود هنا أنه نهي لمن صحبه آخرا يسب من صحبه أولا لامتيازهم عنهم في الصحبة بما لا يمكن أن يشركهم فيه حتى قال:" «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ".
فإذا كان هذا حال الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا، وهم من أصحابه التابعين للسابقين مع من أسلم من قبل الفتح وقاتل وهم أصحابه السابقون، فكيف يكون حال من ليس من أصحابه بحال مع أصحابه؟!.
وقوله: " «لا تسبوا أصحابي» " قد ثبت في الصحيحين من غير وجه، منها ما تقدم ومنها ما أخرجوه في الصحيح عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» " تقدم هذا الحديث فيما مضى 2/ 20 - 21. .
فصل.
[قول الرافضي يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه والرد عليه]
وأما قول الرافضي: " يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه ".
والجواب: أن هذا باطل من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها.
أحدها: أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته له ومحبته لا عداوته، فبطل هذا.
الثاني: أنه قد علم بالتواتر أن أبا بكر كان محبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به، من أعظم الخلق اختصاصا به، أعظم مما تواتر من شجاعة عنترة، ومن سخاء حاتم، ومن موالاة علي ومحبته له، ونحو ذلك من التواترات المعنوية فيها الأخبار الكثيرة على مقصود واحد.
والشك في محبة أبي بكر كالشك في غيره وأشد، ومن الرافضة من ينكر كون أبي بكر وعمر مدفونين في الحجرة النبوية، وبعض غلاتهم ينكر أن يكون هو صاحبه الذي كان معه في الغار. وليس هذا من بهتانهم ببعيد، فإن القوم قوم بهت يجحدون المعلوم ثبوته بالاضطرار، ويدعون ثبوت ما يعلم انتفاؤه بالاضطرار في العقليات والنقليات.
ولهذا قال من قال: لو قيل: من أجهل الناس؟ لقيل: الرافضة حتى فرضها بعض الفقهاء \ مسألة فقهية: فيما إذا أوصى لأجهل الناس؛ قال: هم الرافضة، لكن هذه الوصية باطلة؛ فإن الوصية باطلة، فإن الوصية والوقف لا يكونان معصية، بل على جهة لا تكون مذمومة في الشرع. والوقف والوصية لأجهل الناس فيه جعل الأجهلية والبدعية موجبة للاستحقاق، فهو كما لو أوصى لأكفر الناس، أو للكفار دون المسلمين بحيث يجعل الكفر شرطا في الاستحقاق، فإن هذا لا يصح.
وكون أبي بكر كان مواليا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من غيره؛ أمر علمه المسلمون والكفار والأبرار والفجار حتى أني أعرف طائفة من الزنادقة كانوا يقولون: إن دين الإسلام اتفق عليه في الباطن النبي - صلى
الله عليه وسلم - وأبو بكر وثالثهما عمر؛ لكن لم يكن عمر مطلعا على سرهما كله، كما وقعت دعوة الإسماعيلية الباطنية والقرامطة، فكان كل من كان أقرب إلى إمامهم [كان] أعلم بباطن الدعوة، وأكتم لباطنها من غيره.
ولهذا جعلوهم مراتب: فالزنادقة المنافقون لعلمهم بأن أبا بكر أعظم موالاة واختصاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من غيره، جعلوه ممن يطلع على باطن أمره ويكتمه عن غيره، ويعاونه على مقصوده بخلاف غيره.
فمن قال: إنه كان في الباطن عدوه، كان من أعظم أهل الأرض فرية، ثم إن قاتل هذا إذا قيل له مثل هذا في علي، وقيل [له] له زيادة في (م).: إنه كان في الباطن معاديا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنه كان عاجزا في ولاية الخلفاء الثلاثة عن إفساد ملته؛ فلما ذهب أكابر الصحابة وبقي هو؛ طلب حينئذ إفساد ملته وإهلاك أمته، ولهذا قتل من المسلمين خلقا كثيرا، وكان مراده إهلاك الباقين؛ لكن عجز؛ وإنه بسبب ذلك انتسب إليه الزنادقة المنافقون المبغضون للرسول كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية، فلا تجد عدوا للإسلام إلا وهو يستعين على ذلك بإظهار موالاة على استعانة لا تمكنه بإظهار موالاة أبي بكر وعمر.
فالشبهة في دعوى موالاة علي للرسول أعظم من الشبهة في دعوى معاداة أبي بكر وكلاهما باطل معلوم الفساد بالاضطرار؛ لكن الحجج الدالة على بطلان هذه الدعوى في أبي بكر أعظم من الحجج الدالة على بطلانها في حق علي؛ فإذا كانت الحجة على موالاة علي صحيحة، والحجة على معاداته باطلة، فالحجة على موالاة أبي بكر أولى بالصحة، والحجة على معاداته أولى بالبطلان.
الوجه الثالث: أن قوله: " استصحبه حذرا من أن يظهر أمره ".
كلام من هو من أجهل الناس بما وقع، فإن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروجه من مكة ظاهر عرفه أهل مكة، وأرسلوا الطلب، فإنه في الليلة التي خرج فيها عرفوا في صبيحتها أنه خرج، وانتشر ذلك وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدية فيه، وفي أبي بكر بذلوا الدية لمن يأتي بأبي بكر؛ فأي شيء كان يخاف؟ وكون المشركين بذلوا الدية لمن يأتي بأبي بكر دليل على أنهم كانوا يعلمون موالاته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان عدوهم في الباطن ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك.
الرابع: أنه إذا كان خرج ليلا، كان وقت الخروج لم يعلم به أحد، فما يصنع بأبي بكر واستصحابه معه؟.
فإن قيل: فلعله علم خروجه دون غيره؟.
قيل: أولا: قد كان يمكنه أن يخرج في وقت لا يشعر بخروجه كما، خرج
في وقت لم يشعر به المشركون، وكان يمكنه أن [لا] يعينه.
فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر استأذنه في الهجرة، فلم يأذن له حتى هاجر معه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمه بالهجرة في خلوة ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: «جاء أبو بكر إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا، فقال لعازب: ابعث ابنك معي يحمله إلى منزلي فحملته وخرج أبي معه ينتقد ثمنه؛ فقال أبي: يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم سرينا ليلتنا كلها، ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق، فلا يمر بنا فيه أحد حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه [النبي] النبي: - صلى الله عليه وسلم - في ظلها، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ظلها، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا فلقيته؛ فقلت: لمن. أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة - يريد مكة - لرجل من قريش سماه فعرفته فقلت له: أفي غنمك لبن؟ فقال: نعم، قلت: أفتحلب لي؟ قال: نعم فأخذ شاة؛ فقلت [له] انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى، فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن، قال: ومعي إداوة أرتوي فيها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها ويتوضأ، قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكرهت أن أوقظه من نومه فوافيته قد استيقظ فصببت على اللبن الماء حتى برد أسفله؛ فقلت: يا رسول الله اشرب من هذا اللبن، فشرب حتى رضيت، ثم قال: " ألم يأن للرحيل؟ " قلت:
بلى، فارتحلنا بعد ما زالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك، قال: ونحن في جلد من الأرض فقلت:يا رسول الله: أتينا، فقال: {لا تحزن إن الله معنا}، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتطمت فرسه إلى بطنها، فقال: إني قد علمت أنكما دعوتما علي، فادعوا الله لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتم ما هنا، ولا يلقى أحدا إلا رده، وقال: خذ سهما من كنانتي فإنك تمر بإبلي وغلماني، فخذ منها حاجتك فقال: " لا حاجة لي في إبلك " قال: فقدمنا المدينة، فتنازعوا أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب؛ أكرمهم بذلك "؛ فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: يا محمد، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله» ".
وروى البخاري «عن عائشة، قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار: بكرة وعشية؛ فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا إلى الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة. وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال:
أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فاعبد ربك ببلدك، فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم، ويحمل الكل ويقري الضيف،ويعين على نوائب الحق، فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره. ثم بدا لأبي بكر فابتنى بفناء داره مسجدا، وبرز فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن فتنقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، [وهم] يعجبون [منه] وينظرون إليه، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم؛ فقالوا: إنا كنا [قد] أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن بالصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإلا فإن أبى إلا أن يعلن ذلك، فسله أن يرد إليك جوارك؛ فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر؛ فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه؛ فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، قال أبو بكر:
إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله، ورسول الله يومئذ بمكة؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قد أريت دار هجرتكم: ذات نخل، بين لابتين - وهما الحرتان - فهاجر من هاجر إلى المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي " فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال " نعم " فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر - وهو الخبط أربعة أشهر، قال ابن شهاب:
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 335)
من صــ 221 الى صـ 235
قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها؛ فقال أبو بكر: فداه أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " أخرج من عندك " فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال: " فإني قد أذن لي في الخروج " قال أبو بكر: الصحابة يا رسول الله، قال: نعم، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بالثمن " قالت عائشة:
فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وأبو بكر] بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، ولا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة) من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من الليل، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وأبو بكر] رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت: الماهر بالهداية في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، فانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل وأخذ بهما طريق الساحل» " قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: " جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل: أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت [له]: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي، ثم خرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجة الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت فرسي، فخررت عنها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها:
أضرهم أرده فآخذ المائة ناقة أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت [فرسي]- وعصيت الأزلام - تقرب [بي] حتى [إذا] سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا؛ فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم ".
الوجه الخامس: أنه لما كان في الغار كان يأتيه بالأخبار عبد الله بن أبي بكر، وكان معهما عامر بن فهيرة كما تقدم ذلك، فكان يمكنه أن
يعلمهم بخبره.
السادس: أنه إذا كان كذلك، والعدو قد جاء إلى الغار، ومشوا فوقه، كان يمكنه حينئذ أن يخرج من الغار، وينذر العدو به، وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو؛ فمن يكون مبغضا لشخص طالبا لإهلاكه ينتهز الفرصة في مثل هذه الحال التي لا يظفر فيها عدو بعدوه إلا أخذه؛ فإنه وحده في الغار والعدو قد صاروا عند الغار، وليس لمن في الغار هناك من يدفع عنه، وأولئك هم العدو الظاهرون الغالبون المتسلطون بمكة، ليس بمكة من يخافونه إذا أخذوه؛ فإن كان أبو بكر معهم مباطنا لهم كان الداعي إلى أخذه تاما، والقدرة تامة، وإذا اجتمع القدرة التامة والداعي التام وجب وجود الفعل؛ فحيث لم يوجد دل على انتفاء الداعي، أو انتفاء القدرة، والقدرة موجودة؛ فعلم انتفاء الداعي وأن أبا بكر لم يكن له غرض في أذاه، كما يعلم ذلك جميع الناس إلا من أعمى الله قلبه.
ومن هؤلاء المفترين من يقول: إن أبا بكر كان يشير بإصبعه إلى العدو يدلهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلدغته حية فردها حتى كفت عنه الألم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: إن نكثت نكث يدك، وإنه نكث بعد ذلك، فمات منها، وهذا يظهر كذبه من وجوه نبهنا على بعضها.
ومنهم من قال: أظهر كعبه ليشعروا به، فلدغته الحية، وهذا من نمط الذي قبله.
[فصل قول الرافضي إن الآية تدل على نقص خور أبي بكر وقلة صبره وعدم يقينه وعدم رضاه والرد عليه]
فصل.
وأما قول الرافضي: " الآية تدل على نقصه، لقوله تعالى: {لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] فإنه يدل على خوره، وقلة صبره، وعدم يقينه وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره ".
فالجواب: أولا: أن هذا يناقض قولكم: " إنه استصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره " فإنه إذا كان عدوه، وكان مباطنا لعداه الذين يطلبونه، كان ينبغي أن يفرح ويسر ويطمئن إذا جاء العدو، وأيضا فالعدو قد جاءوا ومشوا فوق الغار فكان ينبغي أن ينذرهم به.
وأيضا فكان الذي يأتيه بأخبار قريش ابنه عبد الله، فكان يمكنه أن يأمر ابنه أن يخبر بهم قريشا.
وأيضا فغلامه عامر بن فهيرة هو الذي كان معه رواحلهما فكان يمكنه أن يقول لغلامه: أخبرهم به.
فكلامهم في هذا يبطل قولهم: إنه كان منافقا ويثبت أنه كان مؤمنا به.
واعلم أنه ليس في المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار، لأن أحدا لم يهاجر إلا باختياره، والكافر بمكة لم يكن يختار الهجرة، ومفارقة وطنه وأهله لنصر عدوه، وإنما يختارها الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} [سورة الحشر: 8].
وقوله: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [سورة الحج: 39، 40].
وأبو بكر أفضل هؤلاء كلهم.
وإذا كان هذا الكلام يستلزم إيمانه فمعلوم أن الرسول لا يختار لمصاحبته في سفر هجرته الذي هو أعظم الأسفار خوفا، وهو السفر الذي جعل مبدأ التاريخ لجلالة قدره في النفوس ولظهور أمره، فإن التاريخ لا يكون إلا بأمر ظاهر معلوم لعامة الناس لا يستصحب الرسول فيه من يختص بصحبته إلا وهو من أعظم الناس طمأنينة إليه ووثوقا به.
ويكفي هذا في فضائل الصديق، وتمييزه على غيره، وهذا من فضائل الصديق التي لم يشركه فيها غيره، ومما يدل على أنه أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده.
فصل.
وأما قوله: " إنه يدل على نقصه ".
فنقول: أولا: النقص نوعان نقص ينافي إيمانه، ونقص عمن هو أكمل منه.
فإن أراد الأول فهو باطل، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [سورة النحل: 127].
وقال للمؤمنين عامة: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون} [سورة آل عمران: 139].
وقال: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم} [سورة الحجر: 87، 88] فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع، ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان.
وإن أراد بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه، فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال أبي بكر، وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة ولكن ليس في هذا ما يدل على أن عليا أو عثمان أو عمر، أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال، ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال الصديق، بل المعروف من حالهم دائما وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقينا وصبرا، وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينا وطمأنينة وعند ما يتأذى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه.
هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته حتى أنه لما مات وموته كان أعظم المصائب التي تزلزل بها الإيمان، حتى ارتد أكثر الأعراب، واضطرب لها عمر الذي كان أقواهم إيمانا وأعظمهم يقينا كان مع هذا تثبيت الله تعالى للصديق بالقول الثابت أكمل وأتم من غيره، وكان في يقينه وطمأنينته وعلمه وغير ذلك أكمل من عمر وغيره فقال الصديق رضي الله عنه: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت.
ثم قرأ: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا} الآية [سورة آل عمران: 144].
وفي البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذلك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا.
ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، وقال: {إنك ميت وإنهم ميتون} [سورة الزمر: 30]، وقال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} [سورة آل عمران: 144] قال: فنشج الناس يبكون ".
وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا، يريد بذلك أن يكون آخرهم، فإن يك محمد قد مات، فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا
تهتدون به، وبه هدى الله محمدا، وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين، وإنه أولى المسلمين بأمورهم فقوموا فبايعوه، وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر.
وفي طريق آخر في البخاري: أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الذي هدى به رسوله فخذوا به تهتدوا، وإنما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم " ذكره البخاري في كتاب " الاعتصام بالسنة ".
وروى البخاري أيضا عن عائشة في هذه القصة قالت: " ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها، لقد خوف عمر الناس، وإن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك، ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق " الذي عليهم.
وأيضا فقصة يوم بدر في العريش ويوم الحديبية في طمأنينته وسكينته معروفة، برز بذلك على سائر الصحابة فكيف ينسب إلى الجزع؟!.
وأيضا فقيامه بقتال المرتدين ومانعي الزكاة، وتثبيت المؤمنين مع تجهيز أسامة، مما يبين أنه أعظم الناس طمأنينة ويقينا، وقد روي أنه قيل له قد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها، وبالبحار لغاضها، وما نراك ضعفت فقال: ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني - أو كما قال - قال: لا عليك يا أبا بكر، فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام.
ثم يقال: من شبه يقين أبي بكر وصبره بغيره من الصحابة: عمر أو عثمان أو علي فإنه يدل على جهله والسني لا ينازع في فضله على عمر وعثمان، ولكن الرافضي الذي ادعى أن عليا كان أكمل من الثلاثة في هذه الصفات دعواه بهت وكذب وفرية، فإن من تدبر سيرة عمر وعثمان علم أنهما كانا في الصبر والثبات وقلة الجزع في المصائب أكمل من علي، فعثمان حاصروه وطلبوا خلعه من الخلافة، أو قتله ولم يزالوا به حتى قتلوه، وهو يمنع الناس من مقاتلتهم إلى أن قتل شهيدا وما دافع عن نفسه فهل هذا إلا من أعظم الصبر على المصائب؟!.
ومعلوم أن عليا لم يكن صبره كصبر عثمان، بل كان يحصل له من إظهار التأذي من عسكره الذين يقاتلون معه، ومن العسكر الذين
يقاتلهم ما لم يكن يظهر مثله لا من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان مع كون الذين يقاتلونهم كانوا كفارا، وكان الذين معهم بالنسبة إلى عدوهم أقل من الذين مع علي بالنسبة إلى من يقاتله، فإن الكفار الذين قاتلهم أبو بكر وعمر وعثمان كانوا أضعاف المسلمين، ولم يكن جيش معاوية أكثر من جيش علي، بل كانوا أقل منه.
ومعلوم أن خوف الإمام من استيلاء الكفار على المسلمين أعظم من خوفه من استيلاء بعض المسلمين على بعض فكان ما يخافه الأئمة الثلاثة أعظم مما يخافه علي والمقتضي للخوف منهم أعظم ومع هذا فكانوا أكمل يقينا وصبرا مع أعدائهم ومحاربيهم من علي مع أعدائه ومحاربيه فكيف يقال إن يقين علي وصبره كان أعظم من يقين أبي بكر وصبره وهل هذا إلا من نوع السفسطة والمكابرة لما علم بالتواتر خلافه؟!.
[فصل قول الرافضي إن الآية تدل على خوره. . . والرد عليه]
فصل.
قول الرافضي: " إن الآية تدل على خوره وقلة صبره، وعدم يقينه بالله، وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره ".
فهذا كله كذب منه ظاهر، ليس في الآية ما يدل على هذا وذلك من وجهين:
أحدهما: أن النهي عن الشيء لا يدل على وقوعه، بل يدل على أنه ممنوع منه لئلا يقع فيما بعد كقوله تعالى: {ياأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} [سورة الأحزاب: 1]، فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم.
وكذلك قوله: {ولا تدع مع الله إلها آخر} [سورة القصص: 88]، (2 أو {لا تجعل مع الله إلها آخر} 2) [سورة الإسراء: 22] فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مشركا قط لا سيما بعد النبوة فالأمة متفقة على أنه معصوم من الشرك بعد النبوة، وقد نهي عن ذلك بعد النبوة ونظائره كثيرة فقوله لا تحزن لا يدل على أن الصديق كان قد حزن، لكن من الممكن في العقل أنه يحزن فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله.
الثاني: أنه بتقدير أن يكون حزن على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل فيذهب الإسلام، وكان يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " «أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك» " رواه أحمد في كتاب " مناقب الصحابة " فقال: حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة، قال: «لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم خرج معه أبو بكر فأخذ طريق ثور، قال: فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ قال: يا رسول الله أخاف أن تؤتى من خلفك فأتأخر، وأخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم، قال: فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر: يا رسول الله كما أنت حتى أقمه»، قال نافع: حدثني رجل عن ابن أبي مليكة «أن أبا بكر رأى جحرا في الغار فألقمها قدمه، وقال يا رسول الله إن كانت لسعة، أو لدغة كانت بي» ".
وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي صلى الله عليه وسلم لا بالمعنى الذي أراده الكاذب المفتري عليه أنه لم يرض بأن يموتا جميعا، بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش هو، بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 336)
من صــ 236 الى صـ 250
وهذا واجب على كل مؤمن والصديق أقوم المؤمنين بذلك قال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [سورة الأحزاب: 6] وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» ".
وحزنه على النبي صلى الله عليه وسلم يدل على كمال موالاته ومحبته، ونصحه له واحتراسه عليه وذبه عنه ودفع الأذى عنه، وهذا من أعظم الإيمان وإن كان مع ذلك يحصل له بالحزن نوع ضعف، فهذا يدل على أن الاتصاف بهذه الصفات مع عدم الحزن هو المأمور به، فإن مجرد الحزن لا فائدة فيه ولا يدل ذلك على أن هذا ذنب يذم به، فإن من المعلوم أن الحزن على الرسول أعظم من حزن الإنسان على ابنه، فإن محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان لابنه.
ومع هذا فقد أخبر الله عن يعقوب أنه حزن على ابنه يوسف وقال: {ياأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} الآية [سورة يوسف: 84 - 86]، فهذا إسرائيل نبي كريم قد حزن على ابنه هذا الحزن، ولم يكن هذا مما يسب عليه، فكيف يسب أبو بكر إذا حزن على النبي صلى الله عليه وسلم خوفا أن يقتل، وهو الذي علقت به سعادة الدنيا والآخرة؟!.
ثم إن هؤلاء الشيعة - وغيرهم - يحكون عن فاطمة من حزنها على النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يوصف، وأنها بنت بيت الأحزان، ولا يجعلون ذلك ذما لها مع أنه حزن على أمر فائت لا يعود وأبو بكر إنما حزن عليه في حياته خوف أن يقتل وهو حزن يتضمن الاحتراس، ولهذا لما مات لم يحزن هذا الحزن لأنه لا فائدة فيه فحزن أبي بكر بلا ريب أكمل من حزن فاطمة، فإن كان مذموما على حزنه، ففاطمة أولى بذلك وإلا فأبو بكر أحق بأن لا يذم على حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم من حزن غيره عليه بعد موته.
وإن قيل: أبو بكر إنما حزن على نفسه لا يقتله الكفار.
قيل: فهذا يناقض قولكم إنه كان عدوه، وكان استصحبه لئلا يظهر أمره.
وقيل: هذا باطل بما علم بالتواتر من حال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم وبما أوجبه الله على المؤمنين.
ثم يقال هب أن حزنه كان عليه، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أفيستحق أن يشتم على ذلك، ولو قدر أنه حزن خوفا أن يقتله عدوه لم يكن هذا مما يستحق به هذا السب.
ثم إن قدر أن ذلك ذنب فلم يصبر عنه، بل لما نهاه عنه انتهى فقد نهى الله تعالى الأنبياء عن أمور كثيرة انتهوا عنها، ولم يكونوا مذمومين بما فعلوه قبل النهي.
وأيضا فهؤلاء ينقلون عن علي وفاطمة من الجزع والحزن على فوت مال فدك وغيرها من الميراث ما يقتضي أن صاحبه إنما يحزن على فوت الدنيا وقد قال تعالى: {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [سورة الحديد: 23] فقد دعا الناس إلى أن لا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا، ومعلوم أن الحزن على الدنيا أولى بأن ينهى عنه من الحزن على الدين.
وإن قدر أنه حزن على الدنيا، فحزن الإنسان على نفسه خوفا أن يقتل أولى أن يعذر به من حزنه على مال لم يحصل له.
وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس يذكرون فيمن يوالونه من أخبار المدح، وفيمن يعادونه من أخبار الذم ما هو بالعكس أولى فلا تجدهم يذمون أبا بكر وأمثاله بأمر إلا ولو كان ذلك الأمر ذما لكان علي أولى بذلك، ولا يمدحون عليا بمدح يستحق أن يكون مدحا إلا وأبو بكر أولى بذلك فإنه أكمل في الممادح كلها، وأبرأ من المذام كلها: حقيقيها وخياليها.
[فصل قول الرافضي إن الآية تدل على قلة صبره والرد عليه]
فصل.
وأما قوله: " إنه يدل على قلة صبره ".
فباطل، بل ولا يدل على انعدام شيء من الصبر المأمور به، فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة، ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك.
كما قال صلى الله عليه وسلم: " «إن الله لا يؤاخذ على دمع العين، ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا - يعني اللسان - أو
يرحم» ".
وقوله: " إنه يدل على عدم يقينه بالله ".
كذب وبهت، فإن الأنبياء قد حزنوا، ولم يكن ذلك دليلا على عدم يقينهم بالله، كما ذكر الله عن يعقوب، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال: " «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» ".
وقد نهى الله عن الحزن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {ولا تحزن عليهم} [سورة النحل: 127].
وكذلك قوله: " يدل على الخور وعدم الرضا بقضاء الله وقدره ".
هو باطل، كما تقدم نظائره.
[كلام الرافضي على حزن أبي بكر رضي الله عنه والرد عليه]
فصل.
وقوله: " وإن كان الحزن طاعة استحال نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وإن كان معصية كان ما ادعوه فضيلة رذيلة ".
والجواب أولا: أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة، بل الفضيلة ما دل عليه قوله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} الآية [سورة التوبة: 40].
فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال واختص بصحبته، وكان له كمال الصحبة مطلقا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: " {إن الله معنا} "، وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطمأنينته، وكمال معونته للنبي صلى الله عليه وسلم وموالاته ففي هذه الحال من كمال إيمانه، وتقواه ما هو الفضيلة.
وكمال محبته ونصره للنبي صلى الله عليه وسلم هو الموجب لحزنه إن كان حزن مع أن القرآن لم يدل على أنه حزن كما تقدم.
ويقال: ثانيا: هذا بعينه موجود في قوله عز وجل لنبيه: {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [سورة النحل: 127]، وقوله: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم} [سورة الحجر: 88] ونحو ذلك، بل في قوله تعالى لموسى: {خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} [سورة طه: 21].
فيقال: إن كان الخوف طاعة فقد نهى عنه، وإن كان معصية فقد عصى.
ويقال: إنه أمر أن يطمئن ويثبت، لأن الخوف يحصل بغير اختيار العبد إذا لم يكن له ما يوجب الأمن فإذا حصل ما يوجب الأمن زال الخوف.
فقوله لموسى {ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} [سورة طه: 21] هو أمر مقرون بخبره بما يزيل الخوف.
وكذلك قوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} [سورة طه: 67، 68] هو نهي عن الخوف مقرون بما يوجب زواله.
* وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصديقه: " {لا تحزن إن الله معنا} نهي عن الحزن مقرون بما يوجب زواله * وهو قوله.
إن الله معنا وإذا حصل الخبر بما يوجب زوال الحزن والخوف زال وإلا فهو تهجم على الإنسان بغير اختياره.
وهكذا قول صاحب مدين لموسى لما قص عليه القصص: {لا تخف نجوت من القوم الظالمين} [سورة القصص: 25] وكذلك قوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [سورة آل عمران: 139] قرن النهي عن ذلك بما يزيله من إخباره أنهم هم الأعلون إن كانوا مؤمنين. وكذلك قوله: {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [سورة النحل: 127] مقرون بقوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128] وإخبارهم بأن الله معهم يوجب زوال الضيق من مكر عدوهم.
وقد قال لما أنزل الله الملائكة يوم بدر: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} [سورة آل عمران: 126].
ويقال: ثالثا: ليس في نهيه عن الحزن ما يدل على وجوده كما تقدم، بل قد ينهى عنه لئلا يوجد إذا وجد مقتضيه وحينئذ فلا يضرنا كونه معصية لو وجد فالنهي قد يكون نهي تسلية وتعزية وتثبيت، وإن لم يكن المنهي عنه معصية، بل قد يكون مما يحصل بغير اختيار المنهى وقد يكون الحزن من هذا الباب.
ولذلك قد ينهى الرجل عن إفراطه في الحب وإن كان الحب مما لا يملك وينهى عن الغشي والصعق والاختلاج وإن كان هذا يحصل بغير اختياره والنهي عن ذلك ليس لأن المنهي عنه معصية إذا حصل بغير اختياره، ولم يكن سببه محظورا.
فإن قيل فيكون قد نهي عما لا يمكن تركه.
قيل: المراد بذلك أنه مأمور بأن يأتي بالضد المنافي للحزن، وهو قادر على اكتسابه، فإن الإنسان قد يسترسل في أسباب الحزن والخوف وسقوط بدنه فإذا سعى في اكتساب ما يقويه ثبت قلبه وبدنه، وعلى
هذا فيكون النهي عن هذا أمرا بما يزيله وإن لم يكن معصية كما يؤمر الإنسان بدفع عدوه عنه، وبإزالة النجاسة ونحو ذلك مما يؤذيه وإن لم يكن حصل بذنب منه.
والحزن يؤذي القلب، فأمر بما يزيله كما يؤمر بما يزيل النجاسة، والحزن إنما حصل بطاعة، وهو محبة الرسول ونصحه، وليس هو بمعصية يذم عليه وإنما حصل بسبب الطاعة لضعف القلب الذي لا يذم المرء عليه وأمر باكتساب قوة تدفعه عنه ليثاب على ذلك.
ويقال: رابعا لو قدر أن الحزن كان معصية فهو فعله قبل أن ينهى عنه فلما نهي عنه لم يفعله، وما فعل قبل التحريم فلا إثم فيه كما كانوا قبل تحريم الخمر يشربونها ويقامرون فلما نهوا عنها انتهوا، ثم تابوا كما تقدم.
قال أبو محمد بن حزم: " وأما حزن أبي بكر رضي الله عنه فإنه قبل أن ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كان غاية الرضا لله فإنه كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان الله معه والله لا يكون قط مع العصاة بل عليهم، وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن، ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء، أو علم لم يأتوا بمثل هذا، إذ لو كان حزن أبي بكر عيبا عليه لكان ذلك على محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام عيبا، لأن الله تعالى قال لموسى: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} [سورة القصص: 35]، ثم قال عن السحرة لما قالوا:
{إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى} إلى قوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} [سورة طه: 67، 68]، فهذا موسى رسول الله وكليمه كان قد أخبره الله عز وجل بأن فرعون وملأه لا يصلون إليهما، وأنه هو الغالب، ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك فإيجاس موسى لم يكن إلا لنسيانه الوعد المتقدم، وحزن أبي بكر كان قبل أن ينهى عنه، وأما محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله قال:
{ومن كفر فلا يحزنك كفره} [سورة لقمان: 23] وقال تعالى: {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [سورة النحل: 127]، وقال: {فلا يحزنك قولهم} [سورة يس: 76]، {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [سورة فاطر: 8]، ووجدناه تعالى قد قال: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} [سورة الأنعام: 33] فقد أخبرنا أنه يعلم أن رسوله يحزنه الذي يقولون ونهاه عن ذلك، فيلزمهم في حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي أوردوا في حزن أبي بكر سواء ونعم إن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله قبل أن ينهاه الله كما كان حزن أبي بكر طاعة لله قبل أن ينهاه عنه، وما حزن أبو بكر
بعد ما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن، فكيف وقد يمكن أن أبا بكر لم يكن حزن يومئذ؟، لكن نهاه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون منه حزن، كما قال تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} [سورة الإنسان: 24].
[فصل الكلام على قوله تعالى لا تحزن إن الله معنا]
فصل.
قال شيخ الإسلام المصنف رحمه الله تعالى ورضي الله عنه: وقد زعم بعض الرافضة أن قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] لا يدل على إيمان أبي بكر، فإن الصحبة قد تكون من المؤمن والكافر.
كما قال تعالى: {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا - كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا - وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا - ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا} [سورة الكهف: 32، 35] إلى قوله:
{قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة} [سورة الكهف: 37] الآية.
فيقال: معلوم أن لفظ " الصاحب " في اللغة يتناول من صحب غيره ليس فيه دلالة بمجرد هذا اللفظ على أنه وليه، أو عدوه، أو مؤمن، أو كافر، إلا لما يقترن به.
وقد قال تعالى: {والصاحب بالجنب وابن السبيل} [سورة النساء: 36]، وهو يتناول الرفيق في السفر والزوجة، وليس فيه دلالة على إيمان، أو كفر.
وكذلك قوله تعالى: {والنجم إذا هوى - ما ضل صاحبكم وما غوى} [سورة النجم: 1، 2] وقوله: {وما صاحبكم بمجنون} [سورة التكوير: 22] المراد به محمد صلى الله عليه وسلم لكونه صحب البشر فإنه إذا كان قد صحبهم كان بينه وبينهم من المشاركة ما يمكنهم أن ينقلوا عنه ما جاءه من الوحي، وما يسمعون به كلامه ويفقهون معانيه بخلاف الملك الذي لم يصحبهم فإنه لا يمكنهم الأخذ عنه.
وأيضا قد تضمن ذلك أنه بشر من جنسهم، وأخص من ذلك أنه عربي بلسانهم كما قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه} [سورة التوبة: 128]، وقال: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [سورة إبراهيم: 4] فإنه إذا كان قد صحبهم كان قد تعلم لسانهم، وأمكنه
أن يخاطبهم بلسانهم، فيرسل رسولا بلسانهم ليتفقهوا عنه، فكان ذكر صحبته لهم هنا على اللطف بهم، والإحسان إليهم.
وهذا بخلاف إضافة الصحبة إليه كقوله تعالى: {لا تحزن إن الله معنا} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» "، وقوله: " «هل أنتم تاركي لي صاحبي»؟ " وأمثال ذلك.
فإن إضافة الصحبة إليه في خطابه وخطاب المسلمين تتضمن صحبة موالاة له، وذلك لا يكون إلا بالإيمان به فلا يطلق لفظ صاحبه على من صحبه في سفره وهو كافر به.
والقرآن يقول فيه: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] فأخبر الرسول أن الله معه ومع صاحبه، وهذه المعية تتضمن النصر والتأييد، وهو إنما ينصره على عدوه وكل كافر عدوه فيمتنع أن يكون الله مؤيدا له ولعدوه معا، ولو كان مع عدوه لكان ذلك مما يوجب الحزن، ويزيل السكينة فعلم أن لفظ صاحبه تضمن صحبة ولاية ومحبة وتستلزم الإيمان له وبه.
وأيضا فقوله: " {لا تحزن} " دليل على أنه وليه، وإنه حزن خوفا من عدوهما فقال له: {لا تحزن إن الله معنا}، ولو كان عدوه لكان لم يحزن إلا حيث يتمكن من قهره فلا يقال له: {لا تحزن إن الله معنا}، لأن كون الله مع نبيه مما يسر النبي، وكونه مع عدوه مما يسوءه فيمتنع أن يجمع بينهما لا سيما مع قوله: {لا تحزن}، ثم قوله: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [سورة التوبة: 40].
ونصره لا يكون بأن يقترن به عدوه وحده وإنما يكون باقتران وليه ونجاته من عدوه فكيف [لا] ينصر على الذين كفروا من يكونون قد لزموه، ولم يفارقوه ليلا ولا نهارا وهم معه في سفره؟.
وقوله: {ثاني اثنين} حال من الضمير في أخرجه، أي: أخرجوه في حال كونه نبيا ثاني اثنين، فهو موصوف بأنه أحد الاثنين فيكون الاثنان مخرجين جميعا فإنه يمتنع أن يخرج ثاني اثنين إلا مع الآخر فإنه لو أخرج دونه لم يكن قد أخرج ثاني اثنين فدل على أن الكفار أخرجوه ثاني اثنين فأخرجوه مصاحبا لقرينه في حال كونه معه فلزم أن يكونوا أخرجوهما.
وذلك هو الواقع، فإن الكفار أخرجوا المهاجرين كلهم كما قال تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا} [سورة الحشر: 8].
وقال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير - الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [سورة الحج: 39، 40].
وقال: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم} [سورة الممتحنة: 9].
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 337)
من صــ 251 الى صـ 265
وذلك أنهم منعوهم أن يقيموا بمكة مع الإيمان، وهم لا يمكنهم ترك الإيمان فقد أخرجوهم (* إذا كانوا مؤمنين وهذا يدل على أن الكفار أخرجوا صاحبه كما أخرجوه، والكفار إنما أخرجوا *) أعداءهم لا من كان كافرا منهم.
فهذا يدل على أن صحبته صحبة موالاة وموافقة على الإيمان لا صحبة مع الكفر.
وإذا قيل: هذا يدل على أنه كان مظهرا للموافقة، وقد كان يظهر الموافقة له من كان في الباطن منافقا، وقد يدخلون في لفظ الأصحاب في مثل قوله لما استؤذن في قتل بعض المنافقين قال: " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " فدل على أن هذا اللفظ قد كان الناس يدخلون فيه من هو منافق.
قيل: قد ذكرنا فيما تقدم أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق وينبغي أن يعرف أن المنافقين كانوا قليلين بالنسبة إلى المؤمنين، وأكثرهم انكشف حاله لما نزل فيهم القرآن وغير ذلك، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف كلا منهم بعينه فالذين باشروا ذلك كانوا يعرفونه.
والعلم بكون الرجل مؤمنا في الباطن، أو يهوديا، أو نصرانيا، أو مشركا أمر لا يخفى مع طول المباشرة فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه.
وقال تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} [سورة محمد: 30]، وقال: {ولتعرفنهم في لحن القول} [سورة محمد: 30]، فالمضمر للكفر لا بد أن يعرف في لحن القول، وأما بالسيما فقد يعرف وقد لا يعرف.
وقد قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [سورة الممتحنة: 10].
والصحابة المذكورون في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والذين يعظمهم المسلمون على الدين، كلهم كانوا مؤمنين به، ولم يعظم المسلمون ـ ولله الحمد ـ على الدين منافقا.
والإيمان يعلم من الرجل كما يعلم سائر أحوال قلبه من موالاته ومعاداته وفرحه وغضبه وجوعه وعطشه وغير ذلك، فإن هذه الأمور لها لوازم ظاهرة. والأمور الظاهرة تستلزم أمورا باطنة وهذا أمر يعرفه الناس فيمن جربوه وامتحنوه.
ونحن نعلم بالاضطرار أن ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبا سعيد الخدري وجابر، أو نحوهم كانوا مؤمنين بالرسول محبين له معظمين له ليسوا منافقين، فكيف لا يعلم ذلك في مثل الخلفاء الراشدين الذين أخبارهم وإيمانهم ومحبتهم ونصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد طبقت البلاد مشارقها ومغاربها؟!.
فهذا مما ينبغي أن يعرف، ولا يجعل وجود قوم منافقين موجبا للشك في إيمان هؤلاء الذين لهم في الأمة لسان صدق، بل نحن نعلم بالضرورة إيمان سعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود ومالك والشافعي وأحمد والفضيل والجنيد، ومن هو دون هؤلاء، فكيف لا يعلم إيمان الصحابة، ونحن نعلم إيمان كثير ممن باشرناه من الأصحاب؟!.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن العلم بصدق الصادق في أخباره (* إذا كان دعوى نبوة، أو غير ذلك، وكذب الكاذب *) مما يعلم بالاضطرار في مواضع كثيرة بأسباب كثيرة.
وإظهار الإسلام من هذا الباب؛ فإن الإنسان إما صادق وإما كاذب.
فهذا يقال أولا، ويقال ثانيا: وهو ما ذكره أحمد وغيره، ولا أعلم بين العلماء فيه نزاعا ـ: أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق أصلا، وذلك لأن المهاجرين إنما هاجروا باختيارهم لما آذاهم الكفار على الإيمان وهم بمكة لم يكن يؤمن أحدهم إلا باختياره، بل مع احتمال الأذى فلم يكن أحد يحتاج أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر لا سيما إذا هاجر إلى دار يكون فيها سلطان الرسول عليه ولكن لما ظهر الإسلام في قبائل الأنصار صار بعض من لم يؤمن بقلبه يحتاج إلى أن يظهر موافقة قومه، لأن المؤمنين صار لهم سلطان وعز ومنعة وصار معهم السيف يقتلون من كفر.
ويقال: ثالثا: عامة عقلاء بني آدم إذا عاشر أحدهم الآخر مدة يتبين له صداقته من عداوته فالرسول يصحب أبا بكر بمكة بضع عشرة سنة ولا يتبين له هل هو صديقه، أو عدوه وهو يجتمع معه في دار الخوف وهل هذا إلا قدح في الرسول؟.
ثم يقال: جميع الناس كانوا يعرفون أنه أعظم أوليائه من حين المبعث إلى الموت فإنه أول من آمن به من الرجال الأحرار، ودعا غيره إلى الإيمان به حتى آمنوا وبذل أمواله في تخليص من كان آمن به من المستضعفين مثل بلال وغيره، وكان يخرج معه إلى الموسم فيدعو القبائل إلى الإيمان به، ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم إلى بيته: إما غدوة وإما عشية، وقد آذاه الكفار على إيمانه حتى خرج من مكة فلقيه ابن الدغنة أمير من أمراء العرب سيد القارة، وقال: إلى أين؟ وقد تقدم حديثه: فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل؟ أن مثل هذا لا يفعله إلا من هو في غاية الموالاة والمحبة للرسول ولما جاء به؟! وأن موالاته ومحبته بلغت به إلى أن يعادي قومه، ويصبر على أذاهم وينفق أمواله على من يحتاج إليه من إخوانه المؤمنين؟!.
وكثير من الناس يكون مواليا لغيره، لكن لا يدخل معه في المحن والشدائد ومعاداة الناس وإظهار موافقته على ما يعاديه الناس عليه، فأما إذا أظهر اتباعه وموافقته على ما يعاديه عليه جمهور الناس، وقد صبر على أذى المعادين وبذل الأموال في موافقته من غير أن يكون هناك داع يدعو إلى ذلك من الدنيا ; لأنه لم يحصل له بموافقته في مكة شيء من الدنيا لا مال ولا رياسة ولا غير ذلك، بل لم يحصل له من الدنيا إلا ما هو أذى ومحنة وبلاء.
والإنسان قد يظهر موافقته للغير: إما لغرض يناله منه، أو لغرض آخر يناله بذلك مثل أن يقصد قتله أو الاحتيال عليه، وهذا كله كان منتفيا بمكة، فإن الذين كانوا يقصدون أذى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من أعظم الناس عداوة لأبي بكر لما آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بهم اتصال يدعو إلى ذلك ألبتة ولم يكونوا يحتاجون في مثل ذلك إلى أبي بكر، بل كانوا أقدر على ذلك، ولم يكن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى قط من أبى بكر مع خلوته به، واجتماعه به ليلا ونهارا وتمكنه مما يريد المخادع من إطعام سم، أو قتل، أو غير ذلك.
وأيضا فكان حفظ الله لرسوله وحمايته له يوجب أن يطلعه على ضميره السوء لو كان مضمرا له سوءا، وهو قد أطلعه الله على ما في نفس أبي عزة لما جاء مظهرا للإيمان بنية الفتك به، وكان ذلك في قعدة واحدة وكذلك أطلعه على ما في نفس الحجبي يوم حنين لما انهزم المسلمون، وهم بالسوأة، وأطلعه على ما في نفس عمير بن وهب لما جاء من مكة مظهرا للإسلام يريد الفتك به، وأطلعه الله على المنافقين في غزوة تبوك لما أرادوا أن يحلوا حزام ناقته.
وأبو بكر معه دائما ليلا ونهارا حضرا وسفرا في خلوته وظهوره ويوم بدر يكون معه وحده في العريش، ويكون في قلبه ضمير سوء والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ضمير ذلك قط، وأدنى من له نوع فطنة يعلم ذلك في أقل من هذا الاجتماع، فهل يظن ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وصديقه إلا من هو مع فرط جهله وكمال نقص عقله من أعظم الناس تنقصا للرسول وطعنا فيه وقدحا في معرفته؟!، فإن كان هذا الجاهل مع ذلك محبا للرسول فهو كما قيل: " عدو عاقل خير من صديق جاهل ".
ولا ريب أن كثيرا ممن يحب الرسول من بني هاشم وغيرهم، وقد تشيع قد تلقى من الرافضة ما هو من أعظم الأمور قدحا في الرسول، فإن أصل الرفض إنما أحدثه زنديق غرضه إبطال دين الإسلام، والقدح
في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد ذكر ذلك العلماء.
وكان عبد الله بن سبأ شيخ الرافضة لما أظهر الإسلام، أراد أن يفسد الإسلام بمكره وخبثه كما فعل بولص بدين النصارى فأظهر النسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في فتنة عثمان وقتله، ثم لما قدم على الكوفة أظهر الغلو في علي والنص عليه ليتمكن بذلك من أغراضه وبلغ ذلك عليا فطلب قتله فهرب منه إلى قرقيسيا وخبره معروف، وقد ذكره غير واحد من العلماء.
وإلا فمن له أدنى خبرة بدين الإسلام يعلم أن مذهب الرافضة مناقض له، ولهذا كانت الزنادقة الذين قصدهم إفساد الإسلام يأمرون بإظهار التشيع والدخول إلى مقاصدهم من باب الشيعة كما ذكر ذلك إمامهم صاحب " البلاغ الأكبر " و " الناموس الأعظم ".
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وقد اتفق جميع الباطنية وكل مصنف لكتاب ورسالة منهم في ترتيب الدعوة المضلة على أن من سبيل الداعي إلى دينهم ورجسهم المجانب لجميع أديان الرسل والشرائع أن يجيب الداعي إليه الناس بما يبين وما يظهر له من أحوالهم ومذاهبهم، وقالوا لكل داع لهم إلى ضلالتهم ما أنا حاك لألفاظهم وصيغة قولهم بغير زيادة ولا نقصان ليعلم بذلك كفرهم وعنادهم لسائر الرسل والملل فقالوا للداعي:
" يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما: أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك، واجعل المدخل عليه من جهة ظلم السلف وقتلهم الحسين وسبيهم نساءه وذريته والتبري من تيم وعدي ومن بني أمية وبني العباس، وأن تكون قائلا بالتشبيه والتجسيم والبدء والتناسخ والرجعة والغلو، وأن عليا إله يعلم الغيب مفوض إليه خلق العالم، وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم، فإنهم أسرع إلى إجابتك بهذا الناموس حتى تتمكن منهم مما تحتاج إليه أنت ومن بعدك، ممن تثق به من أصحابك فترقيهم إلى حقائق الأشياء حالا فحالا، ولا تجعل كما جعل المسيح ناموسه في زور موسى القول بالتوراة وحفظ السبت، ثم عجل وخرج عن الحد، وكان له ما كان يعني من قتلهم له بعد تكذيبهم إياه وردهم عليه وتفرقهم عنه فإذا آنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا أوقفته على مثالب علي وولده، وعرفته حقيقة الحق لمن هو وفيمن هو وباطل بطلان كل ما عليه أهل ملة محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل،ومن وجدته صابئا فأدخله مداخله بالأشانيع وتعظيم الكواكب، فإن ذلك ديننا وجل مذهبنا في أول أمرنا، وأمرهم من جهة الأشانيع يقرب عليك أمره جدا ومن وجدته مجوسيا اتفقت معه في الأصل في الدرجة الرابعة من تعظيم النار والنور والشمس والقمر واتل عليهم أمر السابق، وأنه نهر من الذي يعرفونه،
وثالثه المكنون من ظنه الجيد والظلمة المكتوبة فإنهم مع الصابئين أقرب الأمم إلينا، وأولاهم بنا لولا يسير صحفوه بجهلهم به "، قالوا: " وإن ظفرت بيهودي فادخل عليه من جهة انتظار المسيح، وأنه المهدي الذي ينتظره المسلمون بعينه، وعظم السبت عندهم وتقرب إليهم بذلك، وأعلمهم أنه مثل يدل على ممثول، وأن ممثوله يدل على السابع المنتظر يعنون محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأنه دوره، وأنه هو المسيح وهو المهدي وعند معرفته تكون الراحة من الأعمال، وترك التكليفات كما أمروا بالراحة يوم السبت، وأن راحة السبت هو دلالة على الراحة من التكليف والعبادات في دور السابع المنتظر، وتقرب من قلوبهم بالطعن على النصارى والمسلمين الجهال الحيارى الذين يزعمون أن عيسى لم يولد ولا أب له، وقو في نفوسهم أن يوسف النجار أبوه وأن مريم أمه، وأن يوسف النجار كان ينال منها ما ينال الرجال من النساء، وما شاكل ذلك فإنهم لن يلبثوا أن يتبعوك ".
قال: " وإن وجدت المدعى نصرانيا فادخل عليه بالطعن على اليهود والمسلمين جميعا، وصحة قولهم في الثالوث، وأن الأب والابن وروح القدس صحيح وعظم الصليب عندهم، وعرفهم تأويله.
وإن وجدته مثانيا، فإن المثانية تحرك الذي منه يعترف، فداخلهم بالممازجة في الباب السادس في الدرجة السادسة من حدود البلاغ التي يصفها من بعد، وامتزج بالنور وبالظلام، فإنك تملكهم بذلك، وإذا آنست من بعضهم رشدا فاكشف له الغطاء.
ومتى وقع إليك فيلسوف فقد علمت أن الفلاسفة هم العمدة لنا، وقد أجمعنا [نحن]، وهم على إبطال نواميس الأنبياء وعلى القول بقدم العالم لولا ما يخالفنا بعضهم من أن للعالم مدبرا لا يعرفونه، فإن وقع الاتفاق منهم على أنه لا مدبر للعالم فقد زالت الشبهة بيننا وبينهم.
وإذا وقع لك ثنوي منهم فبخ بخ، قد ظفرت يداك بمن يقل معه تعبك والمدخل عليه بإبطال التوحيد، والقول بالسابق والتالي ورتب له ذلك على ما هو مرسوم لك في أول درجة البلاغ وثانيه وثالثه.
وسنصف لك عنهم من بعد، واتخذ غليظ العهود، وتوكيد الأيمان وشدة المواثيق جنة لك وحصنا، ولا تهجم على مستجيبك بالأشياء الكبار التي يستبشعونها حتى ترقيهم إلى أعلى المراتب:
حالا فحالا، وتدرجهم درجة درجة على ما سنبينه من بعد، وقف بكل فريق حيث احتمالهم، فواحد لا تزيده على التشيع والائتمام بمحمد بن إسماعيل، وأنه حي، لا تجاوز به هذا الحد، لا سيما إن كان مثله ممن يكثر به وبموضع اسمه وأظهر له العفاف عن الدرهم والدينار، وخفف عليه وطأتك مرة بصلاة السبعين، وحذره الكذب والزنا واللواط وشرب النبيذ، وعليك في أمره بالرفق والمداراة له والتودد وتصبر له إن كان هواه متبعا لك تحظ عنده، ويكون لك عونا على دهرك، وعلى من لعله يعاديك من أهل الملل، ولا تأمن أن يتغير عليك بعض أصحابك ولا تخرجه عن عبادة إلهه، والتدين بشريعة محمد نبيه صلى الله عليه وسلم والقول بإمامة علي وبنيه إلى محمد بن إسماعيل، وأقم له دلائل الأسابيع فقط ودقه بالصوم والصلاة دقا وشدة الاجتهاد فإنك يومئذ إن أومأت إلى كريمته فضلا عن ماله لم يمنعك، وإن أدركته الوفاة فوض إليك ما خلفه، وورثك إياه ولم ير في العالم من هو أوثق منك، وآخر ترقيه إلى نسخ شريعة محمد، وأن السابع هو الخاتم للرسل، وأنه ينطق كما ينطقون ويأتي بأمر جديد، وأن محمدا صاحب الدور السادس وأن عليا لم يكن إماما، وإنما كان سوسا لمحمد وحسن القول فيه وإلا سياسية، فإن هذا باب كبير،
وعمل عظيم منه ترقى إلى ما هو أعظم منه، وأكبر منه ويعينك على زوال ما جاء به من قبلك، من وجوب زوال النبوات على المنهاج الذي هو عليه، وإياك أن ترتفع من هذا الباب إلا إلى من تقدر فيه النجابة، وآخر ترقيه من هذا إلى معرفة القرآن ومؤلفه وسببه وإياك أن تغتر بكثير ممن يبلغ معك إلى هذه المنزلة، فترقيه إلى غيرها ألا يغلطون المؤانسة والمدارسة، واستحكام الثقة به، فإن ذلك يكون لك عونا على تعطيل النبوات، والكتب التي يدعونها منزلة من عند الله، وآخر ترقيه إلى إعلامه أن القائم قد مات، وأنه يقوم روحانيا، وأن الخلق يرجعون إليه بصورة روحانية تفصل بين العباد بأمر الله عز وجل ويستصفي المؤمنين من الكافرين بصور روحانية، فإن ذلك يكون أيضا عونا لك عند إبلاغه إلى إبطال المعاد الذي يزعمونه والنشور من القبر.
وآخر ترقيه من هذا إلى إبطال أمر الملائكة في السماء والجن في الأرض، وأنه كان قبل آدم بشر كثير، وتقيم على ذلك الدلائل المرسومة في كتبنا، فإن ذلك مما يعينك وقت بلاغه على تسهيل التعطيل للوحي والإرسال إلى البشر بملائكة، والرجوع إلى الحق، والقول بقدم العالم.
وآخر ترقيه إلى أوائل درجة التوحيد، وتدخل عليه بما تضمنه كتابهم المترجم بكتاب " الدرس الشافي للنفس " من أنه لا إله ولا صفة ولا موصوف، فإن ذلك يعينك على القول بالإلهية لمستحقها عند البلاغ ".
وإلى ذلك يعنون بهذا أن كل داع منهم يترقى درجة درجة إلى أن يصير إماما ناطقا، ثم ينقلب إلها روحانيا على ما سنشرح قولهم فيه من بعد.
قالوا: " ومن بلغته إلى هذا المنزلة فعرفه حسب ما عرفناك من حقيقة أمر الإمام، وأن إسماعيل وأباه محمدا كانا من نوابه، ففي ذلك عون لك على إبطال إمامة علي وولده عند البلاغ والرجوع إلى القول بالحق "، ثم لا يزال كذلك شيئا فشيئا حتى يبلغ الغاية القصوى على تدريج يصفه عنهم فيما بعد.
قال القاضي: " فهذه وصيتهم جميعا للداعي إلى مذاهبهم وفيها أوضح دليل لكل عاقل على كفر القوم وإلحادهم، وتصريحهم بإبطال حدوث العالم ومحدثه وتكذيب ملائكته ورسله وجحد المعاد والثواب والعقاب وهذا هو الأصل لجميعهم وإنما يتمخرقون بذكر الأول، والثاني، والناطق والأساس، إلى غير ذلك ويخدعون به الضعفاء حتى إذا استجاب لهم مستجيب أخذوه بالقول بالدهر والتعطيل.
وسأصف من بعد من عظيم سبهم لجميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتجريدهم القول بالاتحاد، وأنه نهاية دعوتهم ما يعلم به كل قار له عظيم كفرهم وعنادهم للدين.
قلت: وهذا بين، فإن الملاحدة من الباطنية الإسماعيلية وغيرهم والغلاة النصيرية وغير النصيرية إنما يظهرون التشيع، وهم في الباطن أكفر من اليهود والنصارى، فدل ذلك على أن التشيع دهليز الكفر والنفاق.
والصديق رضي الله عنه هو الإمام في قتال المرتدين، وهؤلاء مرتدون، فالصديق وحزبه هم أعداؤه.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 338)
من صــ 266 الى صـ 280
والمقصود هنا أن الصحبة المذكورة في قوله: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] صحبة موالاة للمصحوب ومتابعة له لا صحبة نفاق كصحبة المسافر للمسافر، وهي من الصحبة التي يقصدها الصاحب لمحبة المصحوب كما هو معلوم عند جماهير الخلائق علما ضروريا بما تواتر عندهم من الأمور الكثيرة أن أبا بكر كان في الغاية من محبة النبي صلى الله عليه وسلم وموالاته والإيمان به أعظم مما يعلمون أن عليا كان مسلما، وأنه كان ابن عمه.
وقوله: " {إن الله معنا} " لم يكن لمجرد الصحبة الظاهرة التي ليس فيها
متابعة، فإن هذه تحصل للكافر إذا صحب المؤمن ليس الله معه، بل إنما كانت المعية للموافقة الباطنية والموالاة له والمتابعة.
ولهذا كل من كان متبعا للرسول كان الله معه بحسب هذا الاتباع، قال الله تعالى: {ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [سورة الأنفال: 64] أي: حسبك وحسب من اتبعك، فكل من اتبع الرسول من جميع المؤمنين فالله حسبه، وهذا معنى كون الله معه.
والكفاية المطلقة مع الاتباع المطلق، والناقصة مع الناقص، وإذا كان بعض المؤمنين به المتبعين له قد حصل له من يعاديه على ذلك فالله حسبه، وهو معه وله نصيب من معنى قوله: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}، فإن هذا قلبه موافق للرسول، وإن لم يكن صحبه ببدنه، والأصل في هذا القلب.
كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم " قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: " وهم بالمدينة حبسهم العذر» ".
فهؤلاء بقلوبهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغزاة، فلهم معنى صحبته في الغزاة، فالله معهم بحسب تلك الصحبة المعنوية.
ولو انفرد الرجل [في] بعض الأمصار والأعصار بحق جاء به الرسول ولم تنصره الناس عليه، فإن الله معه، وله نصيب من قوله: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40]، فإن نصر الرسول هو نصر دينه الذي جاء به حيث كان، ومتى كان، ومن وافقه فهو صاحبه عليه في المعنى، فإذا قام به ذلك الصاحب كما أمر الله، فإن الله مع ما جاء به الرسول، ومع ذلك القائم به.
وهذا المتبع له حسبه الله، وهو حسب الرسول كما قال تعالى: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [سورة الأنفال: 64].
[فصل قول الرافضي إن إنزال السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده يعني نقصه والرد عليه]
فصل.
وأما قول الرافضي: " إن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك معه المؤمنين إلا هذا الموضع، ولا نقص أعظم منه ".
فالجواب: أولا: أن هذا يوهم أنه ذكر ذلك في مواضع متعددة وليس كذلك، بل لم يذكر ذلك إلا في قصة حنين.
كما قال تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين - ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها} [سورة التوبة: 25، 26] فذكر إنزال السكينة على الرسول والمؤمنين بعد أن ذكر توليتهم مدبرين.
وقد ذكر إنزال السكينة على المؤمنين وليس معهم الرسول في قوله: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} [سورة الفتح: 1] إلى قوله: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} [سورة الفتح: 4] الآية، وقوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم} [سورة الفتح: 18].
ويقال: ثانيا: الناس قد تنازعوا في عود الضمير في قوله تعالى: {فأنزل الله سكينته عليه} [سورة التوبة: 40] فمنهم من قال: إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال: إنه عائد إلى أبي بكر لأنه أقرب المذكورين ولأنه كان محتاجا إلى إنزال السكينة، فأنزل السكينة عليه كما أنزلها على المؤمنين الذين بايعوه تحت الشجرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان مستغنيا عنها في هذه الحال لكمال طمأنينته بخلاف إنزالها يوم حنين، فإنه كان محتاجا إليها لانهزام جمهور أصحابه وإقبال العدو نحوه وسوقه ببغلته إلى العدو.
وعلى القول الأول يكون الضمير عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما عاد الضمير إليه في قوله: {وأيده بجنود لم تروها} [سورة التوبة: 40] ; ولأن سياق الكلام كان في ذكره، وإنما ذكر صاحبه ضمنا وتبعا.
لكن يقال: على هذا لما قال لصاحبه: {إن الله معنا} والنبي صلى الله عليه وسلم هو المتبوع المطاع، وأبو بكر تابع مطيع، وهو صاحبه والله معهما، فإذا حصل للمتبوع في هذه الحال سكينة وتأييد كان ذلك للتابع أيضا بحكم الحال فإنه صاحب تابع لازم، ولم يحتج أن يذكر هنا أبو بكر لكمال الملازمة والمصاحبة التي توجب مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في التأييد.
بخلاف حال المنهزمين يوم حنين، فإنه لو قال: فأنزل الله سكينته على رسوله وسكت لم يكن في الكلام ما يدل على نزول السكينة عليهم لكونهم بانهزامهم فارقوا الرسول، ولكونهم لم يثبت لهم من الصحبة المطلقة التي تدل على كمال الملازمة ما ثبت لأبي بكر.
وأبو بكر لما وصفه بالصحبه المطلقة الكاملة، ووصفها في أحق الأحوال أن يفارق الصاحب فيها صاحبه، وهو حال شدة الخوف، كان هذا دليلا بطريق الفحوى على أنه صاحبه وقت النصر والتأييد، فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد، فلأن يكون صاحبه في حال حصول النصر والتأييد أولى وأحرى فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليها.
وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أن ما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بإنزال الجنود التي لم يرها الناس لصاحبه المذكور فيها أعظم مما لسائر الناس وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه.
وهذا كما في قوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [سورة التوبة: 62]، فإن الضمير [في قوله: (أحق أن يرضوه)] إن عاد إلى الله، فإرضاؤه لا يكون إلا بإرضاء الرسول، وإن عاد إلى الرسول فإنه لا يكون (* إرضاؤه إلا بإرضاء الله، فلما كان إرضاؤهما لا يحصل أحدهما إلا مع الآخر، وهما يحصلان بشيء *) واحد، والمقصود بالقصد الأول إرضاء الله وإرضاء الرسول تابع، وحد الضمير في قوله: {أحق أن يرضوه}، وكذلك وحد الضمير في قوله: {فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها} ; لأن نزول ذلك على أحدهما يستلزم مشاركة الآخر له، إذ محال
أن ينزل ذلك على الصاحب دون المصحوب، أو على المصحوب دون الصاحب الملازم، فلما كان لا يحصل ذلك إلا مع الآخر وحد الضمير، وأعاده إلى الرسول فإنه هو المقصود والصاحب تابع له.
ولو قيل: فأنزل السكينة عليهما وأيدهما، لأوهم أن أبا بكر شريك في النبوة، كهارون مع موسى حيث قال: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا} الآية [سورة القصص: 35]، وقال: {ولقد مننا على موسى وهارون - ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم - ونصرناهم فكانوا هم الغالبين - وآتيناهما الكتاب المستبين - وهديناهما الصراط المستقيم} [سورة الصافات: 114 - 118]، فذكرهما أولا وقومهما فيما يشركونهما فيه.
كما قال: {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} [سورة الفتح: 26] إذ ليس في الكلام ما يقتضي حصول النجاة والنصر لقومهما إذا نصرا ونجيا، ثم فيما يختص بهما ذكرهما بلفظ التثنية إذا كانا شريكين في النبوة لم يفرد موسى كما أفرد الرب نفسه بقوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [سورة التوبة: 62]، وقوله: {أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} [سورة التوبة: 24].
فلو قيل: أنزل الله سكينته عليهما وأيدهما لأوهم الشركة، بل عاد الضمير إلى الرسول المتبوع، وتأييده تأييد لصاحبه التابع له الملازم بطريق الضرورة.
ولهذا لم ينصر النبي صلى الله عليه وسلم قط في موطن إلا كان أبو بكر رضي الله عنه أعظم المنصورين بعده، ولم يكن أحد من الصحابة أعظم يقينا وثباتا في المخاوف منه، ولهذا قيل: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح.
كما في السنن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «هل رأى أحد منكم رؤيا؟ " فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ثم وزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فاستاء لها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء» ".
وقال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه.
[فصل في مناقشة ابن المطهر على كلامه عن مثالب أبي بكر في زعمه]
قال الرافضي " وقد ذكر غيره منها أشياء كثيرة، ونحن نذكر منها شيئا يسيرا. منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتصم بالوحي، وإن لي شيطانا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني»، وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟ ".
والجواب: أن يقال: هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق - رضي الله عنه - وأدلها على أنه لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا، فلم يكن طالب رياسة، ولا كان ظالما، وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم: إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها، وإن زغت عنها فقوموني، كما قال أيضا: أيها الناس أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
والشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني آدم، فإنه ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن.
والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن " قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: " وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير ".
وفي الصحيح عنه قال: «لما مر به بعض الأنصار وهو يتحدث مع صفية ليلا، قال: " على رسلكما، إنها صفية بنت حيي " ثم قال: " إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئا، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» ".
ومقصود الصديق بذلك: إني لست معصوما كالرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا حق.
وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية؟ كلام جاهل بحقيقة الإمامة، فإن الإمام ليس هو ربا لرعيته حتى يستغني عنهم، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله. وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا، فلا بد له من إعانتهم، ولا بد لهم من إعانته، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق: إن سلك بهم الطريق اتبعوه، وإن أخطأ عن الطريق نبهوه وأرشدوه، وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه، لكن إذا كان أكملهم علما وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم.
وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلوا بصلاته، وإن سها سبحوا به فقوموه إذا زاغ.
وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه، وإن غلط قوموه.
والناس بعد الرسول لا يتعلمون الدين من الإمام، بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة.
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة، بل قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} الآية [سورة النساء: 59]، فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور، وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعا لطاعة الرسول.
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «إنما الطاعة في المعروف» "، وقال: " «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» "، وقال: " «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه» ".
وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟
وارد في كل متعاونين ومتشاركين يحتاج كل منهما إلى الآخر، حتى الشركاء في التجارات والصناعات، وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة، فإن المأمومين يحتاجون إليه، وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور، وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقومونه، ولو زاغ في الصلاة فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتبعوه فيها، ونظائره متعددة.
ثم يقال: استعانة علي برعيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر، وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم علي لرعيته وطاعتهم له، فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه، كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك.
وكانوا إذا أمرهم أطاعوه. وعلي - رضي الله عنه - لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يبعن، ثم رأى أن يبعن، فقال له قاضيه عبيدة السلماني: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة.
وكان يقول: اقضوا كما كنتم تقضون ; فإني أكره الخلاف، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي.
وكانت رعيته كثيرة المعصية له، وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي يخالفهم فيه، ثم يتبين له أن الصواب كان معهم، كما أشار عليه الحسن بأمور، مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة، وأن لا يخرج إلى الكوفة، وأن لا يقاتل بصفين، وأشار عليه أن لا يعزل معاوية، وغير ذلك من الأمور.
وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنتظم لعلي - رضي الله عنهم -، فإن كان هذا لكمال المتولي وكمال الرعية، كانوا هم ورعيتهم أفضل. وإن كان لكمال المتولي وحده، فهو أبلغ في فضلهم، وإن كان ذلك لفرط نقص رعية علي، كان رعية علي أنقص من رعية أبي بكر - رضي الله عنه - وعمر وعثمان.
ورعيته هم الذين قاتلوا معه، وأقروا بإمامته. ورعية الثلاثة كانوا مقرين بإمامتهم. فإذا كان المقرون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرين بإمامة علي، لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه.
وأيضا فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنتظم لعلي، فيلزم أن تكون رعية معاوية خيرا من رعية علي، ورعية معاوية شيعة عثمان، وفيهم النواصب المبغضون لعلي، فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي، فيلزم على كل تقدير: إما أن يكون الثلاثة أفضل من علي، وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي والروافض.
وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة ; فإنهم يدعون أن عليا أكمل من الثلاثة، وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة، فضلا عن أصحاب معاوية.
والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعلي، فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة - على رأيهم - أعظم اضطرابا وأقل انتظاما من الإمام الناقص والرعية الناقصة؟ بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم؟
ولم يكن في أصحاب علي من العلم والدين والشجاعة والكرم، إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة. فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين.
ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من علي، فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أولى وأحرى، فعلم أنهم شر وأنقص من غيرهم.
وهم يقولون: المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلفين والمصلحة لهم. فإذا علم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة، واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة، علم أن ما ذكروه من إثبات العصمة باطل.
وتبين حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة، وأن الصديق هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر من غيره.
(فصل آخر في فضائل الصديق - رضي الله عنه -)
قال شيخ الإسلام:
وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: " «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس وسادس، وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءنا بعد ما مضى من الليل ما شاء. قالت امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أوما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء: عرضوا عليهم العشاء فغلبوهم»، وذكر الحديث.
وفي رواية قال: " «كان أبي يتحدث إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، وفي سفر الهجرة لم يصحب غير أبي، ويوم بدر لم يبق معه في العريش غيره» ".
وقال: " «إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» ".
وهذا من أصح الأحاديث الصحيحة المستفيضة في الصحاح من وجوه كثيرة.
وفي الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: " «كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى من ركبتيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما صاحبكم فقد غامر فسلم» ".
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 339)
من صــ 281 الى صـ 295
وقال: " «إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، وإني أتيتك، فقال: " يغفر الله لك يا أبا بكر " ثلاثا، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فلم يجده، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، وغضب حتى أشفق أبو بكر، وقال: أنا كنت أظلم يا رسول الله، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ " فما أوذي بعدها». قال البخاري: سبق بالخير.
وقد تقدم ما في الصحيحين أن أبا سفيان يوم أحد لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ; لعلمه وعلم سائر الناس أن هؤلاء هم رءوس الإسلام، وأن قيامه بهم.
ولهذا لما سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه في مماته ".
فقال: " شفيتني يا مالك شفيتني يا مالك ".
وكثرة الاختصاص والصحبة، مع كمال المودة والائتلاف والمحبة، والمشاركة في العلم والدين تقتضي أنهما أحق بذلك من غيرهما، وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم.
أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنهما غيره حتى بينها لهم، لم يحفظ له قول يخالف فيه نصا، وهذا يدل على غاية البراعة والعلم، وأما غيره فحفظت له أقوال كثيرة خالفت النصوص لكون النصوص لم تبلغه.
والذي وجد لعمر من موافقته النصوص أكثر من موافقة علي، يعرف هذا من عرف مسائل العلم، وأقوال العلماء فيها، والأدلة الشرعية، ومراتبها، وذلك مثل عدة المتوفى عنها زوجها، فإن قول عمر فيها هو الذي وافق النص دون القول الآخر، وكذلك مسألة الحرام: قول عمر وغيره فيها هو الأشبه بالنصوص من القول الآخر الذي هو قول علي، وكذلك المخيرة التي خيرها زوجها، والمفوضة للمهر، ومسألة الخلية، والبرية، والبائن، والبتة، وكثير من مسائل الفقه.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» " ..
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «رأيت كأني أتيت بقدح لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظافري، ثم ناولت فضلي عمر "، قالوا: ما أولته يا رسول الله؟ قال: " العلم» ".
وفي الترمذي وغيره عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» " ولفظ الترمذي: " «لو كان بعدي نبي لكان عمر» " قال الترمذي: " حديث حسن ".
وأيضا فإن الصديق استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة، التي هي عمود الإسلام، وعلى إقامة المناسك قبل أن يحج النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى: " «أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» ".
«وأردفه بعلي، فقال: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور»، فأمر أبا بكر على علي، فكان ممن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمع ويطيع لأبي بكر.
وهذا بعد غزوة تبوك التي استخلف فيها عليا على المدينة.
وكتاب أبي بكر في الصدقات أصح الكتب وآخرها، ولهذا عمل به عامة الفقهاء، وغيره في كتابه ما هو متقدم منسوخ، فدل على أنه أعلم بالسنة الناسخة.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد، قال: كان أبو بكر أعلمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضا فالصحابة لم يتنازعوا في زمن أبي بكر في مسألة إلا فصلها، وارتفع النزاع، فلا يعلم بينهم في زمانه مسألة تنازعوا فيها إلا ارتفع النزاع بينهم بسببه، كتنازعهم في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ودفنه، وميراثه، وتجهيزه جيش أسامة، وقتال مانعي الزكاة، وغير ذلك من المسائل الكبار.
بل كان رضي الله عنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حقا، يعلمهم، ويقومهم، ويشجعهم، ويبين لهم من الأدلة ما تزول معه الشبهة، فلم يكونوا معه يختلفون.
وبعده فلم يبلغ علم أحد وكماله علم أبي بكر وكماله، فصاروا يتنازعون في بعض المسائل، كما تنازعوا في الجد والإخوة، وفي الحرام، والطلاق الثلاث، وفي متعة الحج، ونفقة المبتوتة وسكناها، وغير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر.
وكانوا يخالفون عمر وعثمان وعليا في كثير من أقوالهم، ولم يعرف أنهم خالفوا الصديق في شيء مما كان يفتي به ويقضي، وهذا يدل على غاية العلم،وقام رضي الله عنه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام الإسلام فلم يخل بشيء، بل أدخل الناس من الباب الذي خرجوا منه، مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم، وكثرة الخاذلين فكمل به من علمهم ودينهم ما لا يقاومه فيه أحد.
وكانوا يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انقطع هذا الاتصال اللفظي بموته.
قال أبو القاسم السهيلي: ظهر سر قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} (سورة التوبة: 40) في اللفظ والمعنى، فإنهم قالوا: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انقطع هذا بموته.
وأيضا فعلي تعلم من أبي بكر بعض السنة، وأبو بكر لم يتعلم من علي شيئا، ومما يبين هذا أن علماء الكوفة الذين صحبوا عمر وعليا، كعلقمة والأسود وشريح وغيرهم، كانوا يرجحون قول عمر على قول علي، وأما تابعو المدينة ومكة والبصرة فهذا عندهم أظهر وأشهر من أن يذكر، وإنما ظهر علم علي وفقهه في الكوفة بحسب مقامه فيها عندهم مدة خلافته، وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر وعمر لا في فقه ولا علم ولا دين، بل كل شيعته الذين قاتلوا معه كانوا مع سائر المسلمين متفقين على تقديم أبي بكر وعمر، إلا من كان ينكر عليه ويذمه، مع قلتهم وحقارتهم وخمولهم.
وهم ثلاث طوائف: طائفة غلت فيه، وادعت فيه الإلهية، وهؤلاء حرقهم بالنار.
وطائفة سبت أبا بكر رأسهم عبد الله بن سبأ، فطلب علي قتله حتى هرب منه إلى المدائن.
وطائفة كانت تفضله حتى قال: لا يبلغني عن أحد أنه فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري.
وقد روي عن علي من نحو ثمانين وجها أنه قال على منبر الكوفة: " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ".
وفي صحيح البخاري وغيره من رواية رجال همدان خاصته التي يقول فيهم:
ولو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلي بسلام أنه قال وقد سأله ابنه محمد ابن الحنفية: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: ثم عمر، قال: ثم أنت؟ قال: إنما أبوك رجل من المسلمين.
قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان الثوري،
حدثنا جامع بن شداد، حدثنا أبو يعلى منذر الثوري، عن محمد ابن الحنفية، قال: قلت لأبي: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني، أوما تعرف؟ فقلت: لا، فقال أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر ".
وهذا يقوله لابنه الذي لا يتقيه، ولخاصته، ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما، ويراه مفتريا. والمتواضع لا يجوز أن يتقدم بعقوبة من يفضله عليهما، يقول الحق، ولا يسميه مفتريا.
وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم، ورأس الفضائل العلم، قال تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [سورة الزمر: 9]، والدلائل على ذلك كثيرة، وكلام العلماء كثير في ذلك.
[فصل رد الرافضي لكثير مما ورد في فضائل أبي بكر رضي الله عنه والرد عليه]
فصل.
قال الرافضي: " الثالث ما ورد فيه من الفضائل كآية
الغار وقوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى} [سورة الليل: 17]، وقوله: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد} [سورة الفتح: 16] والداعي هو أبو بكر: وكان أنيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش يوم بدر، وأنفق على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم في الصلاة ".
قال: " والجواب أنه لا فضيلة له في الغار لجواز أن يستصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره.
وأيضا فإن الآية تدل على نقيضه لقوله: {لا تحزن} فإنه يدل على خوره وقلة صبره، وعدم يقينه بالله تعالى وعدم رضا بمساواته النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقضاء الله وقدره ; ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رذيلة.
وأيضا فإن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله
شرك معه المؤمنين إلا في هذا الموضع ولا نقص أعظم منه.
وأما: {وسيجنبها الأتقى}، فإن المراد "أبو الدحداح، حيث اشترى نخلة شخص لأجل جاره، وقد عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صاحب النخلة نخلة في الجنة، فأبى فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها الجار؛ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عوضها له بستانا في الجنة".
وأما قوله تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد} [سورة الفتح: 16]، [يريد سندعوكم إلى قوم]، فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية. والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى بقوله:
{قل لن تتبعونا} [سورة الفتح: 15] لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ثم قال: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون} [سورة الفتح: 16] يريد سندعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأس شديد، وقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوات كثيرة: كمؤتة وحنين، وتبوك، وغيرهما؛ فكان الداعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأيضا جاز أن يكون [علي] هو الداعي، حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين؛ وكان رجوعهم إلى طاعته [إسلاما] لقوله عليه الصلاة والسلام: "يا علي حربك حربي"، وحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر.
وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أنسه بالله تعالى مغنيا له عن كل أنيس؛ لكن لما عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمره
لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرات في غزواته. وأيما أفضل: القاعد عن القتال، أو المجاهد بنفسه في سبيل الله؟.
وأما إنفاقه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكذب ; لأنه لم يكن ذا مال، فإن أباه كان فقيرا في الغاية، وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان بمد كل يوم يقتات به؛ فلو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه. وكان أبو بكر في الجاهلية معلما للصبيان وفي الإسلام كان خياطا، ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة فقال: إني محتاج إلى القوت فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان قبل الهجرة غنيا بمال خديجة، ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش. وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر البتة شيء، ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن، كما نزل في علي: {هل أتى} [سورة الإنسان: 1].
ومن المعلوم أن النبي [- صلى الله عليه وسلم -] أشرف من الذين تصدق عليهم أمير المؤمنين، والمال الذي يدعون إنفاقه أكثر، فحيث لم ينزل فيه قرآن؛ دل على كذب النقل.
وأما تقديمه في الصلاة فخطأ؛ لأن بلالا لما أذن بالصلاة أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر، ولما أفاق النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع التكبير فقال: من يصلي بالناس؟ فقالوا: أبو بكر،
فقال: أخرجوني فخرج بين علي والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولى هو الصلاة ".
قال الرافضي: " فهذه حال أدلة القوم، فلينظر العاقل بعين الإنصاف وليقصد اتباع الحق دون اتباع الهوى، ويترك تقليد الآباء والأجداد؛ فقد نهى الله تعالى [في كتابه] عن ذلك ولا تلهيه الدنيا عن إيصال الحق [إلى] مستحقه، ولا
يمنع المستحق عن حقه، فهذا آخر ما أردنا إثباته في هذه المقدمة.
والجواب أن يقال: في هذا الكلام من الأكاذيب والبهت والفرية ما لا يعرف مثله لطائفة من طوائف المسلمين، ولا ريب أن الرافضة فيهم شبه قوي من اليهود؛ فإنهم قوم بهت يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وظهور فضائل شيخي الإسلام: أبي بكر وعمر أظهر بكثير عند كل عاقل من فضل غيرهما؛ فيريد هؤلاء الرافضة قلب الحقائق، ولهم نصيب من قوله تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه} [سورة الزمر: 32]، {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون} [سورة يونس: 17] ونحو هذه الآيات.
فإن القوم من أعظم الفرق تكذيبا بالحق وتصديقا بالكذب؛ وليس في الأمة من يماثلهم في ذلك.
أما قوله: " لا فضيلة في الغار ".
فالجواب: أن الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن لقوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] فأخبر الرسول [- صلى الله عليه وسلم -] أن الله معه ومع صاحبه كما قال لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46].
وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، قال "نظرت إلى إقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" ".
وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق فلم يختلف في ذلك اثنان منهم، فهو مما دل القرآن على معناه يقول: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40].
والمعية في كتاب الله على وجهين: عامة وخاصة؛ فالعامة كقوله تعالى:
{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم} الآية [سورة الحديد: 4].
وقوله: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [سورة المجادلة: 7].
فهذه المعية عامة لكل متناجين، وكذلك الأولى عامة لجميع الخلق.
ولما أخبر سبحانه في المعية أنه رابع الثلاثة وسادس الخمسة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" "، فإنه لما كان معهما كان ثالثهما كما دل القرآن على معنى الحديث الصحيح. وإن كان هذه معية خاصة وتلك عامة.
وأما المعية الخاصة فكقوله تعالى لما قال لموسى وهارون: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46]، فهذا تخصيص لهما دون فرعون وقومه فهو مع موسى وهارون دون فرعون.
وكذلك لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " {لا تحزن إن الله معنا} " كان معناه: إن الله معنا دون المشركين الذين يعادونهما
ويطلبونهما كالذين كانوا فوق الغار ولو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصر ما تحت قدميه.
وكذلك قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128]، فهذا تخصيص لهم دون الفجار والظالمين وكذلك قوله تعالى: {إن الله مع الصابرين} [سورة البقرة: 153] تخصيص لهم دون الجازعين.
وكذلك قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي} الآية [سورة المائدة: 12]، وقال: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [سورة الأنفال: 12].
وفي ذكره سبحانه للمعية عامة تارة وخاصة أخرى: ما يدل على أنه ليس المراد بذلك أنه بذاته في كل مكان، أو أن وجوده عين وجود المخلوقات، ونحو ذلك من مقالات الجهمية الذين يقولون بالحلول العام والاتحاد العام أو الوحدة العامة ; لأنه على هذا القول لا يختص بقوم دون قوم ولا مكان دون مكان، بل هو في الحشوش على هذا القول [وأجواف البهائم]، كما هو فوق العرش [فإذا أخبر أنه مع قوم دون قوم كان هذا مناقضا لهذا المعنى ; لأنه على هذا القول لا يختص
بقوم دون قوم، ولا مكان دون مكان، بل هو في الحشوش على هذا القول كما هو فوق العرش].
والقرآن يدل على اختصاص المعية تارة وعمومها أخرى؛ فعلم أنه ليس المراد بلفظ " المعية " اختلاطه.
وفي هذا أيضا رد على من يدعي أن ظاهر القرآن هو الحلول؛ لكن يتعين تأويله على خلاف ظاهره، ويجعل ذلك أصلا يقيس عليه ما يتأوله من النصوص.
فيقال له: قولك إن القرآن يدل على ذلك خطأ كما أن قول قرينك الذي اعتقد هذا المدلول خطأ، وذلك لوجوه.
أحدها: أن لفظ (مع) في لغة العرب إنما تدل على المصاحبة والموافقة والاقتران، ولا تدل على أن الأول مختلط بالثاني في عامة موارد الاستعمال.
كقوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه} [سورة الفتح: 29] لم يرد أن ذواتهم مختلطة بذاته.
وقوله: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [سورة التوبة: 119].
وكذلك قوله: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} [سورة الأنفال: 75].
وكذلك قوله عن نوح: {وما آمن معه إلا قليل} [سورة هود: 40].
وقوله عن نوح أيضا: {فأنجيناه والذين معه في الفلك} الآية [سورة الأعراف: 64].
وقوله عن هود: {فأنجيناه والذين معه برحمة منا} [سورة الأعراف: 72].
وقول قوم شعيب: {لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا} [سورة الأعراف: 88].
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 340)
من صــ 296 الى صـ 310
وقوله: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين} الآية [سورة النساء: 146].
وقوله: {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [سورة الأنعام: 68].
وقوله: {ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم} [سورة المائدة: 53].
وقوله: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم} [سورة الحشر: 11].
وقوله عن نوح: {اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم} [سورة هود: 48].
وقوله: {وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} [سورة الأعراف: 47].
وقوله: {فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} [سورة التوبة: 83].
وقوله: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} [سورة التوبة: 87].
وقال: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} [سورة التوبة: 88].
ومثل هذا كثير في كلام الله تعالى وسائر الكلام العربي.
وإذا كان لفظ " مع " إذا استعملت في كون المخلوق مع المخلوق لم تدل على اختلاط ذاته بذاته؛ فهي أن لا تدل على ذلك في حق الخالق بطريق الأولى.
فدعوى ظهورها في ذلك باطل من وجهين: أحدهما: أن هذا ليس معناها في اللغة ولا اقترن بها في الاستعمال ما يدل على الظهور؛ فكان الظهور منتفيا من كل وجه.
الثاني: أنه إذا انتفى الظهور فيما هو أولى به فانتفاؤه فيما هو أبعد عنه أولى.
الثاني: أن القرآن قد جعل المعية خاصة أكثر مما جعلها عامة، ولو كان المراد اختلاط ذاته بالمخلوقات لكانت عامة لا تقبل التخصيص.
الثالث: أن سياق الكلام أوله وآخره يدل على معنى المعية، كما
قال تعالى في آية المجادلة: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [سورة المجادلة: 7] فافتتحها بالعلم، وختمها بالعلم فعلم أنه أراد عالم بهم لا يخفى عليه منهم خافية.
وهكذا فسرها السلف: الإمام أحمد ومن قبله من العلماء كابن عباس والضحاك وسفيان الثوري.
وفي آية الحديد قال: {ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} [سورة الحديد: 4] فختمها أيضا بالعلم وأخبر أنه مع استوائه على العرش يعلم هذا كله.
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأوعال: " "والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه" " فهناك أخبر بعموم العلم لكل نجوى.
وهنا أخبر أنه مع علوه على عرشه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج
منها، وهو مع العباد أينما كانوا: يعلم أحوالهم والله بما يعملون بصير.
وأما قوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128] فقد دل السياق على أن المقصود ليس مجرد علمه وقدرته، بل هو معهم في ذلك بتأييده ونصره، وأنه يجعل للمتقين مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون.
وكذلك قوله لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46] فإنه معهما بالتأييد والنصر والإعانة على فرعون وقومه كما إذا رأى الإنسان من يخاف فقال له من ينصره: " نحن معك " أي معاونوك وناصروك على عدوك.
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصديقه: " إن الله معنا " يدل على أنه موافق لهما بالمحبة والرضا فيما فعلاه وهو مؤيد لهما ومعين وناصر.
وهذا صريح في مشاركة الصديق للنبي في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق.
والمقصود هنا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " إن الله معنا هي معية الاختصاص التي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر على عدونا ويعيننا عليهم.
ومعلوم أن نصر الله نصر إكرام ومحبة، كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} [سورة غافر: 51] وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله، وكان متضمنا شهادة الرسول له بكمال الإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي بين الله فيها غناه عن الخلق فقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [سورة التوبة: 40].
ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر. وقال من أنكر صحبة أبي بكر فهو كافر لأنه كذب القرآن.
وقال طائفة من أهل العلم كأبي القاسم السهيلي وغيره: هذه المعية الخاصة لم تثبت لغير أبي بكر.
وكذلك قوله: " "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" "؛ بل ظهر اختصاصهما في اللفظ كما ظهر في المعنى فكان يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " محمد رسول الله؛ " فلما تولى أبو بكر بعده صاروا يقولون: " وخليفة رسول الله " فيضيفون الخليفة إلى رسول الله المضاف إلى الله، والمضاف إلى المضاف مضاف تحقيقا لقوله: " {إن الله معنا} "، "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، ثم لما تولى عمر بعده صاروا يقولون: " أمير المؤمنين " فانقطع الاختصاص الذي امتازه به أبو بكر عن سائر الصحابة.
ومما يبين هذا أن الصحبة فيها عموم وخصوص؛ فيقال: صحبه ساعة ويوما وجمعة وشهرا وسنة وصحبه عمره كله.
وقد قال تعالى: {والصاحب بالجنب} [سورة النساء: 36] قيل: هو الرفيق في السفر وقيل الزوجة وكلاهما تقل صحبته [وتكثر]، وقد سمى الله الزوجة صاحبة في قوله: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} [سورة الأنعام: 101].
ولهذا قال أحمد بن حنبل في " الرسالة " التي رواها عبدوس بن مالك
عنه: " من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة، أو شهرا، أو يوما، أو ساعة، أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه ".
وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرهم: يعدون في أصحابه من قلت صحبته ومن كثرت، وفي ذلك خلاف ضعيف.
والدليل على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " "يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون نعم فيفتح لهم". وهذا لفظ مسلم.
(لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين (47)
فقد أخبر الله سبحانه أن فينا قوما سماعين للمنافقين يقبلون منهم كما قال: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} وإنما عداه باللام لأنه متضمن معنى القبول والطاعة كما قال الله على لسان عبده: " سمع الله لمن حمده " أي استجاب لمن حمده وكذلك {سماعون لهم} أي مطيعون لهم. فإذا كان في الصحابة قوم سماعون للمنافقين فكيف بغيرهم.
(ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (49)
وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في {الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم - وأظنه قال: هل لك في نساء بني الأصفر؟ - فقال يا رسول الله: إني رجل لا أصبر عن النساء؛ وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر. فائذن لي ولا تفتني}.
وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة؛ واستتر بجمل أحمر؛ وجاء فيه الحديث: {أن كلهم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر فأنزل الله تعالى فيه: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا}. يقول: إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء فلا يفتتن بهن فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك أو يواقعه فيأثم؛ فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها فإن لم يتمكن منها إما لتحريم الشارع وإما للعجز عنها يعذب قلبه وإن قدر عليها وفعل المحظور هلك. وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء. فهذا وجه قوله: {ولا تفتني} قال الله تعالى: {ألا في الفتنة سقطوا} يقول نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد: فتنة عظيمة قد سقط فيها فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؟ والله يقول: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}. فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة: فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده وتركه ما أمر الله به من الجهاد. فتدبر هذا؛ فإن هذا مقام خطر؛ فإن الناس هنا ثلاثة أقسام:
قسم يأمرون وينهون ويقاتلون؛ طلبا لإزالة الفتنة التي زعموا ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة؛ كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة. وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا وهم قد سقطوا في الفتنة وهذه الفتنة المذكورة في " سورة براءة " دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة؛ فإنها سبب نزول الآية.
وهذه حال كثير من المتدينين؛ يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا بجنس الشهوات؛ وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحظور. وهما متلازمان؛ وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعا أو تركهما جميعا: مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي؛ فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ونحو ذلك فلا بد أن يفعل شيئا من المحظورات. فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين. فإن كان المأمور أعظم أجرا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة؛ وإن كان ترك المحظور أعظم أجرا لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون دون ذلك؛ فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات؛ فهذا هذا. وتفصيل ذلك يطول.
وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي ولا بد أن يأمر وينهى حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها؛ إما بمعروف وإما بمنكر؛ كما قال تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء} فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته؛ والنهي طلب الترك وإرادته ولا بد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل نفسه ويقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك؛ فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته. وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض وإذا اجتمع اثنان فصاعدا فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر؛ ولهذا كان أقل الجماعة في الصلاة اثنين؛ كما قيل: الاثنان فما فوقهما جماعة؛ لكن لما كان ذلك اشتراكا في مجرد الصلاة حصل باثنين أحدهما إمام والآخر مأموم كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه: إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما؛ وليؤمكما أكبركما} وكانا متقاربين في القراءة.
وأما الأمور العادية ففي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أمروا عليهم أحدهم}. وإذا كان الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم: فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ويؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله؛ وإلا فلا بد أن يأمر وينهى. ويؤمر وينهى: إما بما يضاد ذلك؛ وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزل الله بالباطل الذي لم ينزله الله وإذا اتخذ ذلك دينا كان دينا مبتدعا. وهذا كما أن كل بشر فإنه متحرك بإرادته همام حارث فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملا صالحا لوجه الله وإلا كان عملا فاسدا أو لغير وجه الله وهو الباطل كما قال تعالى: {إن سعيكم لشتى}.
(قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون (52)
قال الله تعالى في كتابه: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} يعني: إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة فمن عاش من المجاهدين كان كريما له ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم {يعطى الشهيد ست خصال يغفر له بأول قطرة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويكسى حلة من الإيمان ويزوج ثنتين وسبعين من الحور العين ويوقى فتنة القبر ويؤمن من الفزع الأكبر} رواه أهل السنن. وقال صلى الله عليه وسلم {إن في الجنة لمائة درجة. ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله سبحانه وتعالى للمجاهدين في سبيله} فهذا ارتفاع خمسين ألف سنة في الجنة لأهل الجهاد. وقال صلى الله عليه وسلم {مثل المجاهد في سبيل الله مثل الصائم القائم القانت الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام} {وقال رجل: أخبرني بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعه. قال:أخبرني به؟ قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر وتقوم لا تفتر؟ قال: لا. قال: فذلك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله}.
وهذه الأحاديث في الصحيحين وغيرهما. وكذلك اتفق العلماء - فيما أعلم - على أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد. فهو أفضل من الحج وأفضل من الصوم التطوع وأفضل من الصلاة التطوع. والمرابطة في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة وبيت المقدس حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر عند الحجر الأسود. فقد اختار الرباط ليلة على العبادة في أفضل الليالي عند أفضل البقاع؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون بالمدينة دون مكة؛ لمعان منها أنهم كانوا مرابطين بالمدينة. فإن الرباط هو المقام بمكان يخيفه العدو ويخيف العدو فمن أقام فيه بنية دفع العدو فهو مرابط والأعمال بالنيات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل} رواه أهل السنن وصححوه. وفي صحيح مسلم " عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا أجري عليه عمله وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان} يعني منكرا ونكيرا. فهذا في الرباط فكيف الجهاد.
وقال صلى الله عليه وسلم {لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد أبدا} وقال {من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار}
فهذا في الغبار الذي يصيب الوجه والرجل فكيف بما هو أشق منه؛ كالثلج والبرد والوحل. ولهذا عاب الله عز وجل المنافقين الذين يتعللون بالعوائق كالحر والبرد. فقال سبحانه وتعالى: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} وهكذا الذين يقولون: لا تنفروا في البرد فيقال: نار جهنم أشد بردا. كما أخرجاه في الصحيحين من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {اشتكت النار إلى ربها فقالت: ربي أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر والبرد فهو من زمهرير جهنم} فالمؤمن يدفع بصبره على الحر والبرد في سبيل الله حر جهنم وبردها والمنافق يفر من حر الدنيا وبردها حتى يقع في حر جهنم وزمهريرها.
(وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون (54)
وقال {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}.
وفي " صحيح مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا} " وكانوا يخرجون مع النبي صلى الله عليه وسلم في المغازي كما خرج ابن أبي في غزوة بني المصطلق وقال فيها: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}. " وفي الصحيحين " عن {زيد بن أرقم قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيها شدة؛ فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله. وقال: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى عبد الله بن أبي؛ فسأله فاجتهد يمينه ما فعل وقالوا: كذب زيد يا رسول الله فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في {إذا جاءك المنافقون} فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رءوسهم.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام