-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 224)
من صــ 91 الى صـ 100
فهذه الكلمات من جنس خاتمة الوضوء. وخاتمة الوضوء: فيها التسبيح والتحميد والتوحيد والاستغفار. فالتسبيح والتحميد والتوحيد لله. فإنه لا يأتي بالحسنات إلا هو. والاستغفار من ذنوب النفس التي منها تأتي السيئات. وقد قرن الله في كتابه بين التوحيد والاستغفار في غير موضع كقوله {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} وفي قوله {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} وفي قوله {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه}. وفي حديث رواه ابن أبي عاصم وغيره {يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء.
فهم يذنبون ولا يستغفرون. لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}. و " لا إله إلا الله " تقتضي الإخلاص والتوكل. والإخلاص يقتضي الشكر. فهي أفضل الكلام. وهي أعلى شعب الإيمان. كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {الإيمان بضع وستون - أو بضع وسبعون - شعبة. أعلاها: قول لا إله إلا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان}. ف " لا إله إلا الله " هي قطب رحى الإيمان وإليها يرجع الأمر كله. والكتب المنزلة: مجموعة في قوله تعالى {إياك نعبد وإياك نستعين} وهي معنى " لا إله إلا الله " و " لا حول ولا قوة إلا بالله " هي من معنى " لا إله إلا الله " و " الحمد لله " في معناها و " سبحان الله والله أكبر " من معناها. لكن فيها تفصيل بعد إجمال.
فصل:
وقد ظن بعض المتأخرين: أن معنى قوله {فمن نفسك} أي أفمن نفسك؟ وأنه استفهام على سبيل الإنكار ومعنى كلامه: أن الحسنات والسيئات كلها من الله لا من نفسك. وهذا القول يباين معنى الآية. فإن الآية بينت أن السيئات من نفس الإنسان. أي بذنوبه. وهؤلاء يقولون: ليست السيئات من نفسه.
وممن ذكر ذلك: أبو بكر بن فورك. فإنه قال: معناه: أفمن نفسك؟ يدل عليه قول الشاعر:
ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا ... عدد الرمل والحصى والتراب
قلت: وإضمار الاستفهام - إذا دل عليه الكلام - لا يقتضي جواز إضماره في الخبر المخصوص من غير دلالة. فإن هذا يناقض المقصود. ويستلزم أن كل من أراد أن ينفي ما أخبر الله به يقدر أن ينفيه بأن يقدر في خبره استفهاما. ويجعله استفهام إنكار. وهذا من جهة العربية نظير ما زعمه بعضهم في قول إبراهيم عليه السلام " هذا ربي " أهذا ربي؟ قال ابن الأنباري: هذا القول شاذ. لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذا كان فارقا بين الإخبار والاستخبار. وهؤلاء استشهدوا بقوله {أفإن مت فهم الخالدون}. وهذا لا حجة فيه. لأنه قد تقدم الاستفهام في أول الجملة في الجملة الشرطية {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} فلم يحتج إلى ذكره ثانية. بل ذكره يفسد الكلام. ومثله قوله {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} وقوله {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} وقوله {أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم} وهذا من فصيح الكلام وبليغه. واستشهدوا بقوله:
لعمرك لا أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان؟
وقوله: كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا؟
تقديره: أكذبتك عينك؟ . وهذا لا حجة فيه. لأن قوله فيما بعد " أم بثمان " و " أم رأيت " يدل على الألف المحذوفة في البيت الأول. وأما الثاني: فإن كانت " أم " هي المتصلة فكذلك. وإن كانت هي المنفصلة. فالخبر على بابه. وهؤلاء مقصودهم: أن النفس لا تأثير لها في وجود السيئات.
وليست سببا فيها. بل قد يقولون: إن المعاصي علامة محضة على العقوبة لاقترانها بها. لا أنها سبب لها. وهذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وللعقل. والقرآن يبين في غير موضع: أن الله لم يهلك أحدا ولم يعذبه إلا بذنب. فقال هنا {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقال لهم في شأن أحد {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وقال تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} وقال تعالى في سورة الشورى أيضا {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور}.
وقال تعالى {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون} وقال تعالى {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون} {ذكرى وما كنا ظالمين} وقال تعالى {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} وقال تعالى {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} وقال تعالى {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} وقال تعالى {أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير} وقال تعالى في سورة القلم عن أهل الجنة الذين ضرب بهم المثل لما أهلكها بذلك العذاب {ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} وقال تعالى {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون}.
وقال تعالى عن أهل سبأ {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم} - إلى قوله - {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور} وقال تعالى {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} وقال تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وفي الحديث الصحيح الإلهي {يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا: فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك: فلا يلومن إلا نفسه}. وفي سيد الاستغفار {أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي} وقال تعالى {وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون}. والحمد لله وحده وصلى الله على عبد الله ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم. ورضي الله عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
سئل الشيخ الإمام العلامة أبو العباس أحمد ابن تيمية - رضي الله عنه -:
عن قول علي رضي الله عنه لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه ما معنى ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله، هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه وهو من أحسن الكلام وأبلغه وأتمه؛ فإن الرجاء يكون للخير والخوف يكون من الشر والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه كما قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} وقال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. فإن كثيرا من الناس يظن أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي.
ثم " المثبتة للقدر " يحتجون بقوله: {كل من عند الله} فيعارضهم قوله: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. و " نفاة القدر " يحتجون بهذه الثانية مع غلطهم في ذلك؛ فإن مذهبهم: أن العبد يخلق جميع أعماله ويعارضهم قوله: {كل من عند الله}. وإنما غلط كلا الفريقين؛ لما تقدم من ظنهم أن الحسنات والسيئات هي الطاعات والمعاصي وإنما الحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب كما في قوله تعالى {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} وقوله تعالى {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} وقوله تعالى {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} وقوله تعالى {وقهم السيئات} ونحو ذلك. وهذا كثير. وهذه الآية ذم الله بها المنافقين الذين ينكلون عما أمر الله به من الجهاد وغيره فإذا نالهم رزق ونصر وعافية قالوا: {هذا من عند الله} وإن نالهم فقر وذل ومرض قالوا: {هذه من عندك} - يا محمد - بسبب الدين الذي أمرتنا به كما قال قوم فرعون لموسى: وذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى:
{فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} وكما قال الكفار لرسل عيسى: {إنا تطيرنا بكم}. فالكفار والمنافقون إذا أصابتهم المصائب بذنوبهم تطيروا بالمؤمنين فبين الله سبحانه أن الحسنة من الله ينعم بها عليهم وأن السيئة إنما تصيبهم بذنوبهم ولهذا قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فأخبر أنه لا يعذب مستغفرا؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب فيندفع العذاب كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب} وقد قال تعالى: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله}. فبين أن من وحده واستغفره متعه متاعا حسنا إلى أجل مسمى ومن عمل بعد ذلك خيرا زاده من فضله وفي الحديث: {يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار. فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}.
ولهذا قال تعالى: {فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا فحقهم عند مجيء البأس التضرع وقال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} قال عمر بن عبد العزيز: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ولهذا قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم} {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}. فنهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان وأمرهم بخوفه وخوفه يوجب فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه والاستغفار من الذنوب وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء فلهذا قال علي رضي الله عنه لا يخافن عبد إلا ذنبه. وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه فليخف الله وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله كما في الأثر {يقول الله: أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشتغلوا بسب الملوك وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم}.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 225)
من صــ 101 الى صـ 110
وأما قوله: لا يرجون عبد إلا ربه. فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر ولا يأتي بالحسنات إلا الله ولا يذهب السيئات إلا الله {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} والرجاء مقرون بالتوكل فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة والتوكل لا يجوز إلا على الله كما قال تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} وقال: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} وقال تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} وقال تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} وقال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.
فهؤلاء قالوا: حسبنا الله أي كافينا الله في دفع البلاء وأولئك أمروا أن يقولوا: حسبنا في جلب النعماء فهو سبحانه كاف عبده في إزالة الشر وفي إنالة الخير أليس الله بكاف عبده ومن توكل على غير الله ورجاه خذل من جهته وحرم {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت}.
{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا} {كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا}. وقال الخليل: {فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون}. فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له كانت صفقته خاسرة قال الله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} وقال تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} وقال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} وقال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} كما قيل في تفسيرها كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه والراجي يكون راجيا تارة بعمل يعمله لمن يرجوه وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله فذاك نوع من العبادة له وهذا نوع من الاستعانة به وقد قال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقال: {فاعبده وتوكل عليه} وقال: {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب}.
ومما يوضح ذلك أن كل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله وكل شر ومصيبة تندفع عنه أو تكشف عنه فإنما يمنعها الله؛ وإنما يكشفها الله وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه فالله سبحانه هو خالق الأسباب كلها سواء كانت الأسباب حركة حي باختياره وقصده كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم أو حركة جماد بما جعل الله فيه من الطبع أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه ونحو ذلك فالله خالق ذلك كله فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فالرجاء يجب أن يكون كله للرب والتوكل عليه والدعاء له فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر ولو لم يشأ الناس وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن؛ وإن شاءه الناس. وهذا واجب لو كان شيء من الأسباب مستقلا بالمطلوب فإنه لو قدر مستقلا بالمطلوب - وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره - لكان الواجب أن لا يرجى إلا الله ولا يتوكل إلا عليه ولا يسأل إلا هو ولا يستعان إلا به ولا يستغاث إلا هو فله الحمد وإليه المشتكى وهو المستعان وهو المستغاث ولا حول ولا قوة إلا به فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلا بمطلوب بل لا بد من انضمام أسباب أخر إليه ولا بد أيضا من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود.
فكل سبب فله شريك وله ضد فإن لم يعاونه شريكه ولم يصرف عنه ضده لم يحصل سببه فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف المفسدات والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك فهو - مع أن الله يخلق فيه الإرادة والقوة والفعل - فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تعاونه على مطلوبه ولو كان ملكا مطاعا ولا بد أن يصرف عن الأسباب المعاونة ما يعارضها ويمانعها فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضي فليس في الوجود شيء واحد هو مقتضيا وإن سمي مقتضيا وسمي سائر ما يعينه شروطا فهذا نزاع لفظي. وحينئذ فيقال: لا بد من وجود المقتضي والشروط وانتفاء الموانع وإما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها فهذا باطل.
ومن عرف هذا حق المعرفة انفتح له باب توحيد الله وعلم أنه لا يستحق لأن يدعى غيره فضلا عن أن يعبد غيره ولا يتوكل على غيره ولا يرجى غيره وهذا مبرهن بالشرع والعقل ولا فرق في ذلك بين الأسباب العلوية والسفلية وأفعال الملائكة والأنبياء والمؤمنين وشفاعتهم وغير ذلك من الأسباب فإن من توكل في الشفاعة أو الدعاء على ملك أو نبي أو رجل صالح أو نحو ذلك قيل له: هذا أيضا سبب من الأسباب فهذا الشافع والداعي لا يفعل ذلك إلا بمشيئة الله وقدرته بل شفاعة أهل طاعته لا تكون إلا لمن يرضاه. كما قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}.
فليس أحد يشفع عنده إلا بإذنه الإذن القدري الكوني فإن شفاعته من جهة أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئته وقدرته فليس كالمخلوق الذي يشفع إليه شافع تكون شفاعته بغير حول المشفوع إليه وقوته بل هو سبحانه خالق شفاعة الشافع كسائر التحولات ولا حول ولا قوة إلا به.
(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)
[الرد على النصارى في دعواهم أن كلام الرسول متناقض]
وإن قالوا: كلامه متناقض ونحن نحتج بما يوافق قولنا، إذ مقصودنا بيان تناقضه.
قيل لهم عن هذا أجوبة:
أحدها: أنه في الكتب المتقدمة مما يظن أنه متعارض أضعاف ما في القرآن وأقرب إلى التناقض، فإذا كانت تلك الكتب متفقة لا تناقض فيها، وإنما يظن تناقضها من يجهل معانيها ومراد الرسل فيكون كما قيل:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
فكيف القرآن الذي هو أفضل الكتب؟
الثاني: أنهم متمسكون بالمتشابه في تلك الكتب، ومخالفون المحكم منها كما فعلوه بالقرآن وأبلغ.
الثالث: أنه إذا كان ما جاء به متناقضا لم يكن رسول الله، فإن ما جاء به من عند الله لا يكون مختلفا متناقضا، وإنما يتناقض ما جاء من عند غير الله، قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82].
فكل كتاب ليس من عند الله لا بد أن يكون فيه تناقض، وما كان من عند الله لا يتناقض، وحينئذ فإن كان متناقضا لم يجز لهم الاحتجاج بشيء منه ; فإنه ليس من عند الله، وإن لم يكن متناقضا ثبت أن ما فيه من عموم رسالته، وأنه رسول إليهم، فليس فيه شيء يناقضه، فإن ما جاء من عند الله لا يتناقض.
الرابع: أنا نبين أن ما فيه من عموم رسالته لا ينافي ما فيه من أنه أرسل إلى العرب، كما أن ما فيه من إنذار عشيرته الأقربين، وأمر قريش لا ينافي ما فيه من دعوة سائر العرب ; فإن تخصيص بعض العام بالذكر
إذا كان له سبب يقتضي التخصيص لم يدل على أن ما سوى المذكور مخالفة، وهذا الذي يسمى مفهوم المخالفة ودليل الخطاب.
والناس كلهم متفقون على أن التخصيص بالذكر متى كان له سبب يوجب الذكر غير الاختصاص بالحكم لم يكن للاسم اللقب مفهوم، بل ولا للصفة كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: 31].
فإنه نهاهم عن ذلك ; لأنه هو الذي كانوا يفعلونه، وقد حرم في موضع آخر قتل النفس بغير الحق، سواء كان ولدا، أو غيره، ولم يكن ذلك مناقضا لتخصيص الولد بالذكر.
الخامس: أنه في ذلك أسوة بالمسيح عليه السلام فإن المسيح خص أولا بالدعوة، ثم عم، كما قيل في الإنجيل: ما بعثت وأرسلت إلا لبني إسرائيل. وقال أيضا في الإنجيل: ما بعثت إلا لهذا الشعب الخبيث. ثم عم، فقال لتلامذته حين أرسلهم كما في الإنجيل: كما بعثني أبي أبعث بكم، فمن قبلكم فقد قبلني. وقال: أرسلني أبي، وأنا أرسلكم. وقال: كما أفعل أنا بكم، كذلك افعلوا أنتم بعباد الله فسيروا في البلاد، وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس، ولا يكون لأحدكم ثوبان، ولا يحمل معه فضة ولا ذهبا ولا عصا ولا حرابة ونحو ذلك مما هو في الأناجيل التي بين أيديهم من تخصيص الدعوة ثم تعميمها، وهو صادق في ذلك كله، فكيف يسوغ لهم إنكار ما في الإنجيل عن المسيح نظيره؟ ثم يقال في بيان الحال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، كما بعث المسيح وغيره، وإن كانت رسالته أكمل وأشمل كما نذكر في موضعه، فأمره بتبليغ رسالته بحسب الإمكان إلى طائفة بعد طائفة، وأمر بتبليغ الأقرب منه مكانا ونسبا، ثم بتبليغ طائفة بعد طائفة ; حتى تبلغ النذارة إلى جميع أهل الأرض، كما قال تعالى: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19].
أي من بلغه القرآن فكل من بلغه القرآن فقد أنذره محمد صلى الله عليه وسلم.
ونبين هنا أن النذارة ليست مختصة بمن شافههم بالخطاب، بل ينذرهم به وينذر من بلغهم القرآن، فأمره الله تبارك وتعالى أولا بإنذار عشيرته الأقربين وهو قريش، فقال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214].
ولما أنزل الله عليه هذه الآية انطلق صلى الله عليه وسلم إلى مكان عال فعلا عليه، ثم جعل ينادي: «يا بني عبد مناف إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه».
وهذه القصة رواها ابن عباس وأبو هريرة وعائشة وغيرهم في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن والمسانيد والتفسير.
قال ابن عباس: لما «نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]. ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار،فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها».
وقالت عائشة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]. «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، فقال: يا فاطمة بنت محمد، يا صفية عمة رسول الله، يا عباس عم رسول الله لا أملك لكم من الله شيئا».
وقال ابن إسحاق: «لما نزلت هذه الآية جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينادي: يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة حتى عدد الأفخاذ من قريش، ثم قال: إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله»، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 226)
من صــ 111 الى صـ 120
تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ - مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ - سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ - وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ - فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 1 - 5].
وَدَعَا قُرَيْشًا إِلَى اللَّهِ، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْزَلَ تَعَالَى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ - إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ - فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ - الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 - 4].
وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَمْرَ جَمِيعِ الْخَلْقِ بِعِبَادَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
وَقَوْلِهِ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وَقُرَيْشٌ هُمْ قَوْمُهُ الَّذِينَ كَذَّبَهُ جُمْهُورُهُمْ أَوَّلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66].
كما أن جمهور بني إسرائيل وهم قوم المسيح كذبوه أولا.
ثم أمره الله تعالى أن يدعو سائر العرب، فكان يخرج بنفسه ومعه أبو بكر صديقه إلى قبائل العرب قبيلة قبيلة، وكانت العرب لم تزل تحج البيت من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، فكان صلى الله عليه وسلم يأتيهم في منازلهم بمنى، وعكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فلا يجد أحدا إلا دعاه إلى الله، ويقول: «يا أيها الناس، إني رسول الله آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما يعبد من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني ; حتى أبين عن الله ما بعثني به، يا أيها الناس إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي فمن يمنعني أن أبلغ كلام ربي إلا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي، يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم بها العجم» فيقولون: يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك هذا لعجب.
وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن دعوته، ويظهر رسالته، ويدعو الخلق إليها، وهم يؤذونه ويجادلونه ويكلمونه، ويردون عليه بأقبح الرد، وهو صابر على أذاهم، ويقول: «اللهم لك الحمد لو شئت لم يكونوا هكذا».
فلما اشتد عليه أمر قريش خرج إلى الطائف وهي مدينة معروفة شرقي مكة بينهما نحو ليلتين ومعه زيد بن حارثة، ومكث بها عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه في منزله وكلمه ودعاه إلى التوحيد، فلم يجبه أحد منهم، وخافوه على أحداثهم، وأغروا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة إذا مشى حتى أن رجليه لتدميان، وزيد مولاه يقيه بنفسه حتى ألجئوا إلى ظل كرمة في حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة فرجع عنه ما كان تبعه من سفهائهم، فدعا، فقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
فلما رأى ابنا ربيعة ما صنع به رثيا له، وقالا لغلام لهما يقال له عداس - وكان نصرانيا -: خذ قطفا من عنب، ثم اجعله في طبق، ثم اذهب إلى ذلك الرجل يأكله، ففعل عداس وأقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، قال: بسم الله، ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه، ثم قال له: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ فقال عداس: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس:
وما يدريك ما يونس بن متى؟ والله لقد خرجت من نينوى، وما فيها عشرة يعرفون متى، من أين عرفت أنت متى وأنت أمي وفي أمة أمية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو أخي كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رجع عداس فقالا: ويلك يا عداس، مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه ورجليه، فقال: يا سيدي، ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد خبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة وهو محزون، إذ لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم يا رسول الله وقد فعلوا وفعلوا، فقال: يا زيد، إن الله عز وجل جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه.
ثم ذكر ابن إسحاق دخوله إلى مكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لقي من أهل مكة والطائف ما لقي ودعا بالدعاء المتقدم نزل عليه جبريل ومعه ملك الجبال - كما في صحيح البخاري - أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت، فإذا فيها جبريل فناداني: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم.
قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له».
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: «ادع الله على المشركين، فقال: إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة».
وفي الصحيحين: عن خباب بن الأرت، أنه قال: «لما اشتد البلاء علينا من المشركين أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر الله لنا؟ فقال: لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق رأسه حتى يجعل فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب، ما يصرفه عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله ولكنكم تستعجلون».
وذكر ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من قومه من الأذى والاستهزاء والإغراء وهو صابر محتسب، مظهر لأمر الله بتبليغ رسالته، لا تأخذه في الله لومة لائم، مواجه لقومه بما يكرهون من عيب دينهم وآلهتهم، وتضليل آبائهم، وتسفيه أحلامهم، وإظهار عداوته، وقتاله إياهم ما بلغ مبلغ القطع.
قال عكرمة، عن ابن عباس: «ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فلما حضر الموسم حج نفر من الأنصار، فانتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى فريق منهم، فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، وأخبرهم بالذي آتاه الله فأيقنوا واطمأنت قلوبهم إلى دعوته، وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من ذكرهم إياه بصفته، وما يدعوهم إليه فصدقوه وآمنوا به، وكان من أسباب الخير الذي ساق الله للأنصار إلى ما كانوا يسمعون من الأخبار في صفته، فلما رجعوا إلى قومهم جعلوا يدعونهم سرا، ويخبرونهم بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي بعثه الله به من النور والهدى والقرآن، فأسلموا حتى قل أن يوجد دار من دورهم إلا أسلم فيها ناس لا محالة».
وقد ذكر الله ذلك في القرآن، وأخبر أن أهل الكتاب كانوا يخبرون العرب به ويستفتحون به عليهم، فكان أهل الكتاب مقرين بنبوته مخبرين بها مبشرين بها قبل أن يبعث، فقال تعالى فيما يخاطب به أهل الكتاب:
{ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون - وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون - ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين - بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين - وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 87 - 91].
فقد أخبر تعالى أن أهل الكتاب كانوا يستفتحون على العرب بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث - أي يستنصرون به - وكانوا هم والعرب يقتتلون فيغلبهم العرب، فيقولون: سوف يبعث النبي الأمي من ولد إسماعيل فنتبعه ونقتلكم معه شر قتلة، وكانوا ينعتونه بنعوته.
وأخبارهم بذلك كثيرة متواترة، وكما قال تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} [البقرة: 89].
وأخبر بما كانت عليه اليهود من أنه كلما جاءهم رسول الله بما لا تهوى أنفسهم كذبوا بعضهم وقتلوا بعضهم، وأخبر أنهم باءوا بغضب على غضب ; فإنهم ما زالوا يفعلون ما يغضب الله عليهم، فإما أن يراد بالتثنية تأكيد غضب الله عليهم، وإما أن يراد به مرتان، والغضب الأول: تكذيبهم المسيح والإنجيل، والغصب الثاني: لمحمد والقرآن.
(فصل في أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى)
ونزيده تقريرا أن الله سبحانه يقول: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون} {قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} وقال تعالى: {الر تلك آيات الكتاب المبين} {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} فأخبر أنه أنزله ليعقلوه وأنه طلب تذكرهم. وقال أيضا: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}
فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكر فيه ولم يستثن من ذلك شيئا؛ بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه مثل قوله {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} وقوله {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}
ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفه ما لم يتدبر لما تدبر.
وقال علي رضي الله عنه لما قيل له: هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة. فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة والفهم أخص من العلم والحكم قال الله تعالى: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {رب مبلغ أوعى من سامع} وقال {بلغوا عني ولو آية}.
وأيضا فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن آيات الصفات وغيرها وفسروها بما يوافق دلالتها وبيانها ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول: لو أعلم أعلم بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته. وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وهو حبر الأمة وترجمان القرآن كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتا للصفات ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم ومثلهما في جلالته جلالة أصحاب زيد بن ثابت؛ لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به بل أخذوا عن غيره مثل عمر وابن عمر وابن عباس.
ولو كان معاني هذه الآيات منفيا أو مسكوتا عنه لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاما فيه. ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 227)
من صــ 121 الى صـ 130
وسئل شيخ الإسلام:
عن رجل سمع كتب الحديث والتفسير وإذا قرئ عليه " كتاب الحلية " لم يسمعه فقيل له: لم لا تسمع أخبار السلف؟ فقال: لا أسمع من كتاب أبي نعيم شيئا. فقيل: هو إمام ثقة شيخ المحدثين في وقته فلم لا تسمع ولا تثق بنقله؟ فقيل له: بيننا وبينك عالم الزمان وشيخ الإسلام ابن تيمية في حال أبي نعيم؟ فقال: أنا أسمع ما يقول شيخ الإسلام وأرجع إليه. فأرسل هذا السؤال من دمشق
فأجاب فيه الشيخ:
الحمد لله رب العالمين، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني صاحب كتاب " حلية الأولياء " " وتاريخ أصبهان " " والمستخرج على البخاري ومسلم " و " كتاب الطب " " وعمل اليوم والليلة " و " فضائل الصحابة " و " دلائل النبوة " و " صفة الجنة " و " محجة الواثقين " وغير ذلك من المصنفات: من أكبر حفاظ الحديث ومن أكثرهم تصنيفات وممن انتفع الناس بتصانيفه وهو أجل من أن يقال له: ثقة؛ فإن درجته فوق ذلك وكتابه " كتاب الحلية " من أجود الكتب المصنفة في أخبار الزهاد والمنقول فيه أصح من المنقول في رسالة القشيري ومصنفات أبي عبد الرحمن السلمي شيخه ومناقب الأبرار لابن خميس وغير ذلك؛ فإن أبا نعيم أعلم بالحديث وأكثر حديثا وأثبت رواية ونقلا من هؤلاء ولكن كتاب الزهد للإمام أحمد والزهد لابن المبارك وأمثالهما أصح نقلا من الحلية.
وهذه الكتب وغيرها لا بد فيها من أحاديث ضعيفة وحكايات ضعيفة بل باطلة وفي الحلية من ذلك قطع ولكن الذي في غيرها من هذه الكتب أكثر مما فيها؛ فإن في مصنفات أبي عبد الرحمن السلمي؛ ورسالة القشيري؛ ومناقب الأبرار؛ ونحو ذلك من الحكايات الباطلة بل ومن الأحاديث الباطلة: ما لا يوجد مثله في مصنفات أبي نعيم ولكن " صفوة الصفوة " لأبي الفرج ابن الجوزي نقلها من جنس نقل الحلية والغالب على الكتابين الصحة ومع هذا ففيهما أحاديث وحكايات باطلة وأما الزهد للإمام أحمد ونحوه فليس فيه من الأحاديث والحكايات الموضوعة مثل ما في هذه؛ فإنه لا يذكر في مصنفاته عمن هو معروف بالوضع بل قد يقع فيها ما هو ضعيف بسوء حفظ ناقله وكذلك الأحاديث المرفوعة ليس فيها ما يعرف أنه موضوع قصد الكذب فيه كما ليس ذلك في مسنده لكن فيه ما يعرف أنه غلط غلط فيه رواته ومثل هذا يوجد في غالب كتب الإسلام فلا يسلم كتاب من الغلط إلا القرآن.
وأجل ما يوجد في الصحة " كتاب البخاري " وما فيه متن يعرف أنه غلط على الصاحب لكن في بعض ألفاظ الحديث ما هو غلط وقد بين البخاري في نفس صحيحه ما بين غلط ذلك الراوي كما بين اختلاف الرواة في ثمن بعير جابر وفيه عن بعض الصحابة ما يقال: إنه غلط كما فيه عن ابن عباس: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم} والمشهور عند أكثر الناس أنه تزوجها حلالا. وفيه عن أسامة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في البيت}. وفيه عن بلال: أنه صلى فيه وهذا أصح عند العلماء.
وأما مسلم ففيه ألفاظ عرف أنها غلط كما فيه: {خلق الله التربة يوم السبت} وقد بين البخاري أن هذا غلط وأن هذا من كلام كعب وفيه أن {النبي صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف بثلاث ركعات في كل ركعة} والصواب: أنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة وفيه أن أبا سفيان سأله التزوج بأم حبيبة وهذا غلط. وهذا من أجل فنون العلم بالحديث يسمى: علم " علل الحديث " وأما كتاب حلية الأولياء فمن أجود مصنفات المتأخرين في أخبار الزهاد وفيه من الحكايات ما لم يكن به حاجة إليه والأحاديث المروية في أوائلها أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة.
وسئل:
عمن نسخ بيده صحيح البخاري ومسلم والقرآن وهو ناو كتابة الحديث وغيره وإذا نسخ لنفسه أو للبيع هل يؤجر؟ إلخ.
فأجاب: وأما كتب الحديث المعروفة: مثل البخاري ومسلم. فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن وما جمع بينهما: مثل الجمع بين الصحيحين للحميدي ولعبد الحق الإشبيلي وبعد ذلك كتب السنن: كسنن أبي داود؛ والنسائي؛ وجامع الترمذي؛ والمساند: كمسند الشافعي؛ ومسند الإمام أحمد. وموطأ مالك فيه الأحاديث والآثار وغير ذلك وهو من أجل الكتب حتى قال الشافعي:
ليس تحت أديم السماء بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك يعني بذلك ما صنف على طريقته؛ فإن المتقدمين كانوا يجمعون في الباب بين المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ولم تكن وضعت كتب الرأي التي تسمى " كتب الفقه " وبعد هذا جمع الحديث المسند في جمع الصحيح للبخاري ومسلم والكتب التي تحب ويؤجر الإنسان على كتابتها سواء كتبها لنفسه أو كتبها ليبيعها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: صانعه؛ والرامي به؛ والممد به} فالكتابة كذلك؛ لينتفع به أو لينفع به غيره. كلاهما يثاب عليه.
(من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا (85)
والشافع الذي يعين غيره فيصير معه شفعا بعد أن كان وترا؛ ولهذا فسرت " الشفاعة الحسنة " بإعانة المؤمنين على الجهاد و " الشفاعة السيئة " بإعانة الكفار على قتال المؤمنين كما ذكر ذلك ابن جرير وأبو سليمان. وفسرت " الشفاعة الحسنة " بشفاعة الإنسان للإنسان ليجتلب له نفعا أو يخلصه من بلاء كما قال الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد؛ فالشفاعة الحسنة إعانة على خير يحبه الله ورسوله؛ من نفع من يستحق النفع ودفع الضر عمن يستحق دفع الضرر عنه.
و " الشفاعة السيئة " إعانته على ما يكرهه الله ورسوله كالشفاعة التي فيها ظلم الإنسان أو منع الإحسان الذي يستحقه. وفسرت الشفاعة الحسنة بالدعاء للمؤمنين والسيئة بالدعاء عليهم، وفسرت الشفاعة الحسنة بالإصلاح بين اثنين وكل هذا صحيح. فالشافع زوج المشفوع له إذ المشفوع عنده من الخلق إما أن يعينه على بر وتقوى وإما أن يعينه على إثم وعدوان. وكان {النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة قال لأصحابه: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء}.
(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93)
ولم يذكر: (أبدا). وقد قيل: إن لفظ " التأبيد " لم يجئ إلا مع الكفر.
وسئل - رحمه الله -:
عن رجلين اختلفا في قتل النفس عمدا. فقال أحدهما: إن هذا ذنب لا يغفر وقال الآخر: إذا تاب تاب الله عليه؟
فأجاب:
أما حق المظلوم فإنه لا يسقط باستغفار الظالم القاتل؛ لا في قتل النفس؛ ولا في سائر مظالم العباد؛ فإن حق المظلوم لا يسقط بمجرد الاستغفار؛ لكن تقبل توبة القاتل وغيره من الظلمة؛ فيغفر الله له بالتوبة الحق الذي له.
وأما حقوق المظلومين فإن الله يوفيهم إياها: إما من حسنات الظالم وإما من عنده. والله أعلم.
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عن القاتل عمدا أو خطأ: هل يدفع الكفارة المذكورة في القرآن {فصيام شهرين متتابعين}؟ أو يطالب بدية القتل؟
فأجاب:
" قتل الخطأ " لا يجب فيه إلا الدية والكفارة ولا إثم فيه.
وأما القاتل عمدا فعليه الإثم فإذا عفى عنه أولياء المقتول أو أخذوا الدية: لم يسقط بذلك حق المقتول في الآخرة. وإذا قتلوه ففيه نزاع في مذهب أحمد. والأظهر أن لا يسقط؛ لكن القاتل إذا كثرت حسناته أخذ منه بعضها ما يرضى به المقتول أو يعوضه الله من عنده إذا تاب القاتل توبة نصوحا. وقاتل الخطأ تجب عليه الدية بنص القرآن واتفاق الأمة والدية تجب للمسلم والمعاهد كما قد دل عليه القرآن وهو قول السلف والأئمة؛ ولا يعرف فيه خلاف متقدم؛ لكن بعض متأخري الظاهرية زعم أنه الذي لا دية له.
وأما " القاتل عمدا " ففيه القود فإن اصطلحوا على الدية. جاز ذلك بالنص والإجماع فكانت الدية من مال القاتل؛ بخلاف الخطأ فإن ديته على عاقلته.
وأما " الكفارة " فجمهور العلماء يقولون: قتل العمد أعظم من أن يكفر كذلك قالوا في اليمين الغموس. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه كما اتفقوا كلهم على أن الزنى أعظم من أن يكفر؛ فإنما وجبت الكفارة بوطء المظاهر والوطء في رمضان. وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: بل تجب الكفارة في العمد واليمين الغموس. واتفقوا على أن الإثم لا يسقط بمجرد الكفارة.
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عن جماعة اشتركوا في قتل رجل وله ورثة صغار وكبار: فهل لأولاده الكبار أن يقتلوهم؛ أم لا؟ وإذا وافق ولي الصغار - الحاكم أو غيره - على القتل مع الكبار: فهل يقتلون أم لا؟
فأجاب:
إذا اشتركوا في قتله وجب القود على جميعهم باتفاق الأئمة الأربعة وللورثة أن يقتلوا ولهم أن يعفوا. فإذا اتفق الكبار من الورثة على قتلهم فلهم ذلك عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين. وكذا إذا وافق ولي الصغار الحاكم أو غيره على القتل مع الكبار فيقتلون.
وسئل - رحمه الله -:
عن الإنسان يقتل مؤمنا متعمدا أو خطأ وأخذ منه القصاص في الدنيا أولياء المقتول والسلطان: فهل عليه القصاص في الآخرة أم لا؟ وقد قال تعالى: {النفس بالنفس}.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما القاتل خطأ فلا يؤخذ منه قصاص؛ لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لكن الواجب في ذلك الكفارة ودية مسلمة إلى أهل القتيل إلا أن يصدقوا.
وأما " القاتل عمدا " إذا اقتص منه في الدنيا: فهل للمقتول أن يستوفي حقه في الآخرة؟ فيه قولان في مذهب أحمد وكذلك غيره فيما أظن من يقول: لا حق له عليه؛ لأن الذي عليه استوفي منه في الدنيا. ومنهم من يقول: بل عليه حق؛ فإن حقه لم يسقط بقتل الورثة كما لم يسقط حق الله بذلك؛ وكما لا يسقط حق المظلوم الذي غصب ماله وأعيد إلى ورثته؛ بل له أن يطالب الظالم بما حرمه من الانتفاع به في حياته. والله أعلم.
وسئل - رحمه الله -:
عن رجل قتل رجلا عمدا؛ وللمقتول بنت عمرها خمس سنين وزوجته حامل منه وأبناء عم: فهل يجوز أن يقتص منه قبل بلوغ البنت ووضع الحمل؛ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، ليس لسائر الورثة قبل وضع الحمل أن يقتصوا منه؛ إلا عند مالك فإن عنده للعصبة أن يقتصوا منه قبل ذلك. أما إن وضعت بنتا أو بنتين بحيث يكون لبني العم نصيب من التركة: كان للعصبة أن يقتصوا قبل بلوغ البنات عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية؛ ولم يجز لهن القصاص في المشهور عنه؛ وهو قول الشافعي. وهل لولي البنات كالحاكم أن يقوم مقامهن في الاستيفاء والصلح على مال؟ روايتان عن أحمد. " إحداهما " وهو قول جمهور العلماء جواز ذلك. و " الثانية " لا يجوز القصاص؛ كقول الشافعي؛ لكن إذا كانت البنات محاويج هل لوليهن المصالحة على مال لهن؟ فيه خلاف مشهور في مذهب الشافعي.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 228)
من صــ 131 الى صـ 140
(لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (95) درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما (96)
فالله تعالى نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز؛ ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز؛ بل يقال: دليل الخطاب يقتضي مساواته إياه. ولفظ الآية صريح. استثنى أولو الضرر من نفي المساواة فالاستثناء هنا هو من النفي وذلك يقتضي أن أولي الضرر قد يساوون القاعدين وإن لم يساووهم في الجميع ويوافقه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك: {إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم. قالوا: وهم بالمدينة. قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر} فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إلا العذر هو مثل من معهم في هذه الغزوة. ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته فكذلك القاعدون الذين لم يحبسهم إلا العذر. ومن هذا الباب ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
{إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم} فإنه إذا كان يعمل في الصحة والإقامة عملا ثم لم يتركه إلا لمرض أو سفر ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة لا لضعف النية وفتورها فكان له من الإرادة الجازمة التي لم يتخلف عنها الفعل إلا لضعف القدرة ما للعامل والمسافر وإن كان قادرا مع مشقة كذلك بعض المرض إلا أن القدرة الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة كما في قوله تعالى
{ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} وقوله: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا}ونحو ذلك ليس المعتبر في الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان بل لا بد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة بل أو مكافئة. ومن هذا الباب ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا} وقوله: {من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء} فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس وجهاد بالمال فإذا بذل هذا بدنه وهذا ماله مع وجود الإرادة الجازمة في كل منهما كان كل منهما مجاهدا بإرادته الجازمة ومبلغ قدرته وكذلك لا بد للغازي من خليفة في الأهل فإذا خلفه في أهله بخير فهو أيضا غاز وكذلك الصيام لا بد فيه من إمساك ولا بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم وإلا فالصائم الذي لا يستطيع العشاء لا يتمكن من الصوم. وكذلك قوله في الحديث الصحيح:
{إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجور بعض شيئا} وكذلك قوله في حديث أبي موسى: {الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين} أخرجاه. وذلك أن إعطاء الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به موفرا طيبة به نفسه لا يكون إلا مع الإرادة الجازمة الموافقة لإرادة الآمر وقد فعل مقدوره وهو الامتثال فكان أحد المتصدقين. ومن هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله علما ومالا فهو يعمل فيه بطاعة الله فقال رجل: لو أن لي مثل فلان لعملت بعمله فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهما في الأجر سواء} وقد رواه الترمذي مطولا وقال حديث حسن صحيح فهذا التساوي مع " الأجر والوزر " هو في حكاية حال من قال ذلك وكان صادقا فيه وعلم الله منه إرادة جازمة لا يتخلف عنها الفعل إلا لفوات القدرة؛ فلهذا استويا في الثواب والعقاب.
وليس هذه الحال تحصل لكل من قال: " لو أن لي ما لفلان لفعلت مثل ما يفعل " إلا إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة وإلا فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم لو اقترنت به القدرة لانفسخت عزيمته كعامة الخلق يعاهدون وينقضون وليس كل من عزم على شيء عزما جازما قبل القدرة عليه وعدم الصوارف عن الفعل تبقى تلك الإرادة عند القدرة المقارنة للصوارف كما قال تعالى: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} وكما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} وكما قال: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} {فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون}.
(وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا (101)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما قوله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فهنا علق القصر بسببين: الضرب في الأرض والخوف من فتنة الذين كفروا؛ لأن القصر المطلق يتناول قصر عددها وقصر عملها وأركانها.
مثل الإيماء بالركوع والسجود فهذا القصر إنما يشرع بالسببين كلاهما كل سبب له قصر. فالسفر يقتضي قصر العدد والخوف يقتضي قصر الأركان. ولو قيل: إن القصر المعلق هو قصر الأركان فإن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر لكان وجيها. ولهذا قال: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة}. فقد ظهر بهذا أن القصر لا يسوى بالجمع فإنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعته لأمته بل الإتمام في السفر أضعف من الجمع في السفر. فإن الجمع قد ثبت عنه أنه كان يفعله في السفر أحيانا وأما الإتمام فيه فلم ينقل عنه قط وكلاهما مختلف فيه بين الأئمة فإنهم مختلفون في جواز الإتمام: وفي " جواز الجمع متفقون على جواز القصر وجواز الإفراد. فلا يشبه بالسنة المتواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم عليه في أسفاره وقد اتفقت الأمة عليه، فلا يصار إلى أن ما فعله في سفره مرات متعددة متفق عليه وقد تنازعت فيه الأمة.
وقال - رحمه الله تعالى -:
وأما قوله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فإن نفي الجناح لبيان الحكم وإزالة الشبهة لا يمنع أن يكون القصر هو السنة. كما قال: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} نفى الجناح لأجل الشبهة التي عرضت لهم من الطواف بينهما؛ لأجل ما كانوا عليه في الجاهلية من كراهة بعضهم للطواف بينهما والطواف بينهما مأمور به باتفاق المسلمين وهو إما ركن وإما واجب وإما سنة مؤكدة. وهو سبحانه ذكر الخوف والسفر لأن القصر يتناول قصر العدد وقصر الأركان فالخوف يبيح قصر الأركان والسفر يبيح قصر العدد فإذا اجتمعا أبيح القصر بالوجهين وإن انفرد السفر أبيح أحد نوعي القصر والعلماء متنازعون في المسافر: هل فرضه الركعتان؟ ولا يحتاج قصره إلى نية؟ أم لا يقصر إلا بنية؟ على قولين:
(ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
فصل:
في قوله تعالى {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} فقوله: {يختانون أنفسهم} مثل قوله في سورة البقرة {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} قال ابن قتيبة وطائفة من المفسرين: معناه تخونون أنفسكم. زاد بعضهم: تظلمونها. فجعلوا الأنفس مفعول {تختانون} وجعلوا الإنسان قد خان نفسه أي ظلمها بالسرقة كما فعل ابن أبيرق - أو بجماع امرأته ليلة الصيام كما فعل بعض الصحابة - وهذا القول فيه نظر؛ فإن كل ذنب يذنبه الإنسان فقد ظلم فيه نفسه سواء فعله سرا أو علانية.
وإذا كان اختيان النفس هو ظلمها أو ارتكاب ما حرم عليها كان كل مذنب مختانا لنفسه وإن جهر بالذنوب وكان كفر الكافرين وقتالهم للأنبياء وللمؤمنين اختيانا لأنفسهم وكذلك قطع الطريق والمحاربة وكذلك الظلم الظاهر وكان ما فعله قوم نوح وهود وصالح وشعيب اختيانا لأنفسهم. ومعلوم أن هذا اللفظ لم يستعمل في هذه المعاني كلها وإنما استعمل في خاص من الذنوب مما يفعل سرا وحتى قال ابن عباس في قوله: {تختانون أنفسكم} عنى بذلك فعل عمر فإنه روي أنه {لما جاء الأنصاري فشكى أنه بات تلك الليلة ولم يتعش لما نام قبل العشاء وكان من نام قبل الأكل حرم عليه الأكل فيستمر صائما فأصبح يتقلب ظهرا لبطن فلما شكا حاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر: يا رسول الله إني أردت أهلي الليلة فقالت إنها قد نامت فظننتها لم تنم فواقعتها فأخبرتني أنها كانت قد نامت قالوا: فأنزل الله في عمر: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}.
وقد قيل: إن الجماع ليلة الصيام كانوا منهيين عنه مطلقا بخلاف الأكل فإنه كان مباحا قبل النوم. وقد روي {أن عمر جامع امرأته بعد العشاء قبل النوم وأنه لما فعل أخذ يلوم نفسه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعتذر إلى الله من نفسي هذه الخائنة إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما كنت جديرا بذلك يا عمر} وجاء طائفة من الصحابة فذكروا مثل ذلك فأنزل الله هذه الآية. فهذا فيه أن نفسه الخاطئة سولت له ذلك ودعته إليه وأنه أخذ يلومها بعد الفعل فالنفس هنا هي الخائنة الظالمة والإنسان تدعوه نفسه في السر إذا لم يره أحد إلى أفعال لا تدعو إليها علانية وعقله ينهاه عن تلك الأفعال ونفسه تغلبه عليها.
ولفظ الخيانة حيث استعمل لا يستعمل إلا فيما خفي عن المخون كالذي يخون أمانته فيخون من ائتمنه إذا كان لا يشاهده ولو شاهده لما خانه. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} وقال تعالى: {ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم} وقالت امرأة العزيز: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} وقال تعالى: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما قام: {أما فيكم رجل يقوم إلى هذا فيضرب عنقه؟ فقال له رجل: هلا أومضت إلي؟ فقال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين} قال تعالى: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما}{يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان} وفي حديث آخر {على كل خلق يطبع المؤمن إلا الخيانة والكذب} ومثل هذا كثير. وإذا كان كذلك فالإنسان كيف يخون نفسه. وهو لا يكتمها ما يقوله ويفعله سرا عنها؟ كما يخون من لا يشهده من الناس؟ كما يخون الله والرسول إذا لم يشاهده فلا يكون ممن يخاف الله بالغيب ولم خصت هذه الأفعال بأنها خيانة للنفس دون غيرها؟ فالأشبه - والله أعلم - أن يكون قوله: {تختانون أنفسكم} مثل قوله: {إلا من سفه نفسه}.
والبصريون يقولون في مثل هذا: إنه منصوب على أنه مفعول له ويخرجون قوله: {سفه} عن معناه في اللغة فإنه فعل لازم؛ فيحتاجون أن ينقلوه من اللزوم إلى التعدية بلا حجة. وأما الكوفيون - كالفراء وغيره ومن تبعهم - فعندهم أن هذا منصوب على التمييز وعندهم أن المميز قد يكون معرفة كما يكون نكرة وذكروا لذلك شواهد كثيرة من كلام العرب مثل قولهم: ألم فلان رأسه ووجع بطنه ورشد أمره. وكان الأصل سفهت نفسه ورشد أمره.
ومنه قولهم: غبن رأيه وبطرت نفسه فقوله تعالى: {بطرت معيشتها} من هذا الباب فالمعيشة نفسها بطرت فلما كان الفعل. . . (1) نصبه على التمييز قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس} فقوله: {سفه نفسه} معناه إلا من سفهت نفسه أي كانت سفيهة فلما أضاف الفعل إليه نصبها على التمييز كما في قوله: {واشتعل الرأس شيبا} ونحو ذلك. وهذا اختيار ابن قتيبة وغيره؛ لكن ذاك نكرة وهذا معرفة. وهذا الذي قاله الكوفيون أصح في اللغة والمعنى؛ فإن الإنسان هو السفيه نفسه: كما قال تعالى: {سيقول السفهاء من الناس} {ولا تؤتوا السفهاء} فكذلك قوله: {تختانون أنفسكم} أي تختان أنفسكم فالأنفس هي التي اختانت كما أنها هي السفيهة. وقال: اختانت ولم يقل خانت؛ لأن الافتعال فيه زيادة فعل على ما في مجرد الخيانة قال عكرمة: والمراد بالذين يختانون أنفسهم ابن أبيرق الذي سرق الطعام والقماش وجعل هو وقومه يقولون: إنما سرق فلان لرجل آخر.
__________
Q (1) بياض بالأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 229)
من صــ 141 الى صـ 150
فهؤلاء اجتهدوا في كتمان سرقة السارق ورمي غيره بالسرقة كما قال تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} فكانوا خائنين للصاحب والرسول وقد اكتسبوا الخيانة. وكذلك الذين كانوا يجامعون بالليل وهم يجتهدون في أن ذلك لا يظهر عنهم حين يفعلونه وإن أظهروه فيما بعد عند التوبة أما عند الفعل فكانوا يحتاجون من ستر ذلك وإخفائه ما لا يحتاج إليه الخائن وحده أو يكون قوله: {تختانون أنفسكم} أي يخون بعضكم بعضا كقوله: {فاقتلوا أنفسكم} وقوله:
{ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} وقوله: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} فإن السارق وأقواما خانوا إخوانهم المؤمنين. والمجامع إن كان جامع امرأته وهي لا تعلم أنه حرام فقد خانها والأول أشبه. والصيام مبناه على الأمانة فإن الصائم يمكنه الفطر ولا يدري به أحد فإذا أفطر سرا فقد خان أمانته والفطر بالجماع المستور خيانة كما أن أخذ المال سرا وإخبار الرسول والمظلوم ببراءة السقيم وسقم البريء خيانة فهذا كله خيانة والنفس هي التي خانت؛ فإنها تحب الشهوة والمال والرئاسة وخان واختان مثل كسب واكتسب فجعل الإنسان مختانا.
ثم بين أن نفسه هي التي تختان كما أنها هي التي تضر؛ لأن مبدأ ذلك من شهوتها ليس هو مما يأمر به العقل والرأي ومبدأ السفه منها لخفتها وطيشها والإنسان تأمره نفسه في السر بأمور ينهاها عنه العقل والدين فتكون نفسه اختانته وغلبته وهذا يوجد كثيرا في أمر الجماع والمال؛ ولهذا لا يؤتمن على ذلك أكثر الناس ويقصد بالائتمان من لا تدعوه نفسه إلى الخيانة في ذلك. قال سعيد بن المسيب: لو ائتمنت على بيت مال لأديت الأمانة ولو ائتمنت على امرأة سوداء لخفت أن لا أؤدي الأمانة فيها. وكذلك المال لا يؤتمن عليه أصحاب الأنفس الحريصة على أخذه كيف اتفق. وهذا كله مما يبين أن النفس تخون أمانتها وإن كان الرجل ابتداء لا يقصد الخيانة فتحمله على الخيانة بغير أمره وتغلبه على رأيه ولهذا يلوم المرء نفسه على ذلك ويذمها ويقول هذه النفس الفاعلة الصانعة؛ فإنها هي التي اختانت.
فصل:
ودل قوله: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} أنه لا يجوز الجدال عن الخائن ولا يجوز للإنسان أن يجادل عن نفسه إذا كانت خائنة: لها في السر أهواء وأفعال باطنة تخفى على الناس فلا يجوز المجادلة عنها قال تعالى: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} وقال تعالى: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} وقال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} وقد قال تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} {ولو ألقى معاذيره} فإنه يعتذر عن نفسه بأعذار ويجادل عنها وهو يبصرها بخلاف ذلك وقال تعالى: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} وقال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام}.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم} فهو يجادل عن نفسه بالباطل وفيه لدد: أي ميل واعوجاج عن الحق وهذا على نوعين: أحدهما أن تكون مجادلته وذبه عن نفسه مع الناس و " الثاني " فيما بينه وبين ربه بحيث يقيم أعذار نفسه ويظنها محقة وقصدها حسنا وهي خائنة ظالمة لها أهواء خفية قد كتمتها حتى لا يعرف بها الرجل حتى يرى وينظر قال شداد بن أوس: إن أخوف ما أخاف عليكم الشهوة الخفية قال أبو داود: هي حب الرياسة. وهذا من شأن النفس حتى إنه يوم القيامة يريد أن يدفع عن نفسه ويجادل الله بالباطل قال تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون}
{استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} وقال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} {انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}. وقد جاءت الأحاديث بأن الإنسان يجحد أعماله يوم القيامة حتى يشهد عليه سمعه وبصره وجوارحه. وقال تعالى: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون}.
ومن عادة المنافقين المجادلة عن أنفسهم بالكذب والأيمان الفاجرة وصفهم الله بذلك في غير موضع. {وفي قصة تبوك لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وجاء المنافقون يعتذرون إليه فجعل يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله فلما جاء كعب قال: والله يا رسول الله لو قعدت بين يدي ملك من ملوك الأرض لقدرت أن أخرج من سخطه: إني أوتيت جدلا؛ ولكن أخاف إن حدثتك حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي؛ ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت أقوى قط ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق يعني والباقي يكذبون ثم إنه هجره مدة ثم تاب الله عليه ببركة صدقه}.
فالاعتذار عن النفس بالباطل والجدال عنها لا يجوز؛ بل إن أذنب سرا بينه وبين الله اعترف لربه بذنبه وخضع له بقلبه وسأله مغفرته وتاب إليه فإنه غفور رحيم تواب وإن كانت السيئة ظاهرة تاب ظاهرا وإن أظهر جميلا وأبطن قبيحا تاب في الباطن من القبيح فمن أساء سرا أحسن سرا ومن أساء علانية أحسن علانية {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}.
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (115)
قال العلماء: من لم يكن متبعا سبيلهم كان متبعا غير سبيلهم فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه.
(فصل في أن الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وهذه " الآية " تدل على أن إجماع المؤمنين حجة من جهة أن مخالفتهم مستلزمة لمخالفة الرسول وأن كل ما أجمعوا عليه فلا بد أن يكون فيه نص عن الرسول؛ فكل مسألة يقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين؛ فإنها مما بين الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر كما يكفر مخالف النص البين. وأما إذا كان يظن الإجماع ولا يقطع به فهنا قد لا يقطع أيضا بأنها مما تبين فيه الهدى من جهة الرسول، ومخالف مثل هذا الإجماع قد لا يكفر؛ بل قد يكون ظن الإجماع خطأ. والصواب في خلاف هذا القول وهذا هو فصل الخطاب فيما يكفر به من مخالفة الإجماع وما لا يكفر. و " الإجماع " هل هو قطعي الدلالة أو ظني الدلالة؟.
فإن من الناس من يطلق الإثبات بهذا أو هذا، ومنهم من يطلق النفي لهذا ولهذا. والصواب التفصيل بين ما يقطع به من الإجماع ويعلم يقينا أنه ليس فيه منازع من المؤمنين أصلا؛ فهذا يجب القطع بأنه حق؛ وهذا لا بد أن يكون مما بين فيه الرسول الهدى؛ كما قد بسط هذا في موضع آخر. ومن جهة أنه إذا وصف الواجب بصفات متلازمة؛ دل على أن كل صفة من تلك الصفات متى ظهرت وجب اتباعها وهذا مثل {الصراط المستقيم} الذي أمرنا الله بسؤال هدايته؛ فإنه قد وصف بأنه الإسلام ووصف بأنه اتباع القرآن ووصف بأنه طاعة الله ورسوله ووصف بأنه طريق العبودية؛ ومعلوم أن كل اسم من هذه الأسماء يجب اتباع مسماه، ومسماها كلها واحد وإن تنوعت صفاته؛ فأي صفة ظهرت وجب اتباع مدلولها فإنه مدلول الأخرى. وكذلك أسماء الله تعالى وأسماء كتابه وأسماء رسوله هي مثل أسماء دينه.
وكذلك قوله تعالى. {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} قيل: حبل الله هو دين الإسلام وقيل: القرآن وقيل: عهده وقيل: طاعته وأمره وقيل جماعة المسلمين؛ وكل هذا حق. وكذلك إذا قلنا: الكتاب والسنة والإجماع فمدلول الثلاثة واحد فإن كل ما في الكتاب فالرسول صلى الله عليه وسلم موافق له والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة فليس في المؤمنين إلا من يوجب اتباع الكتاب وكذلك كل ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم فالقرآن يأمر باتباعه فيه والمؤمنون مجمعون على ذلك. وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه لا يكون إلا حقا موافقا لما في الكتاب والسنة؛ لكن المسلمون يتلقون دينهم كله عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فينزل عليه وحي القرآن ووحي آخر هو الحكمة كما قال صلى الله عليه وسلم {ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه}.
وقال حسان بن عطية: {كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن}. فليس كل ما جاءت به السنة يجب أن يكون مفسرا في القرآن؛ بخلاف ما يقوله أهل الإجماع؛ فإنه لا بد أن يدل عليه الكتاب والسنة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بينهم وبين الله في أمره ونهيه وتحليله وتحريمه؛ والمقصود ذكر الإيمان.
ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم {لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر}. وقوله: {آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار}. فإن من علم ما قامت به الأنصار من نصر الله ورسوله من أول الأمر وكان محبا لله ولرسوله؛ أحبهم قطعا فيكون حبه لهم علامة الإيمان الذي في قلبه ومن أبغضهم لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه. وكذلك من لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه الله ورسوله من الكفر والفسوق والعصيان؛ لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه فإن لم يكن مبغضا لشيء من المحرمات أصلا؛ لم يكن معه إيمان أصلا كما سنبينه إن شاء الله تعالى. وكذلك من لا يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه؛ لم يكن معه ما أوجبه الله عليه من الإيمان فحيث نفى الله الإيمان عن شخص؛ فلا يكون إلا لنقص ما يجب عليه من الإيمان ويكون من المعرضين للوعيد ليس من المستحقين للوعد المطلق.
(فصل آخر)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وقال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.
وكان عمر بن عبد العزيز يقول كلمات كان مالك يأثرها عنه كثيرا قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله ومعونة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها فمن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله تعالى ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
والشافعي رضي الله عنه لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع كما كان هو وغيره ومالك ذكر عن عمر ابن عبد العزيز والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين مستحق للوعيد كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مستحق للوعيد ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره.
وهنا للناس ثلاثة أقوال: قيل: اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرد مخالفة الرسول المذكورة في الآية. وقيل: بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم وقيل: بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم كما دلت عليه الآية لكن هذا لا يقتضي مفارقة الأول بل قد يكون مستلزما له فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو في نفس الأمر مشاق للرسول وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين وهذا كما في طاعة الله والرسول فإن طاعة الله واجبة وطاعة الرسول واجبة وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم وهما متلازمان فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أطاعني فقد أطاع الله؛ ومن أطاع أميري فقد أطاعني؛ ومن عصاني فقد عصى الله؛ ومن عصى أميري فقد عصاني} وقال: {إنما الطاعة في المعروف} يعني: إذا أمر أميري بالمعروف فطاعته من طاعتي وكل من عصى الله فقد عصى الرسول؛ فإن الرسول يأمر بما أمر الله به بل من أطاع رسولا واحدا فقد أطاع جميع الرسل ومن آمن بواحد منهم فقد آمن بالجميع ومن عصى واحدا منهم فقد عصى الجميع ومن كذب واحدا منهم فقد كذب الجميع؛ لأن كل رسول يصدق الآخر ويقول: إنه رسول صادق ويأمر بطاعته فمن كذب رسولا فقد كذب الذي صدقه ومن عصاه فقد عصى من أمر بطاعته. ولهذا كان دين الأنبياء واحدا كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد}.
وقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} وقال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين} {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}. ودين الأنبياء كلهم الإسلام كما أخبر الله بذلك في غير موضع.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 230)
من صــ 151 الى صـ 160
(فصل)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
والآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} ومن الناس من يقول: إنها لا تدل على مورد النزاع؛ فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين وهذا لا نزاع فيه؛ أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين وهي متابعة الرسول وهذا لا نزاع فيه؛ أو أن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة وهذا لا نزاع فيه؛ فهذا ونحوه قول من يقول: لا تدل على محل النزاع. وآخرون يقولون: بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقا وتكلفوا لذلك ما تكلفوه كما قد عرف من كلامهم ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية.
والقول الثالث الوسط: أنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا كما تقدم لكن لا ينفي تلازمهما كما ذكر في طاعة الله والرسول. وحينئذ نقول: الذم إما أن يكون لاحقا لمشاقة الرسول فقط؛ أو باتباع غير سبيلهم فقط؛ أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما بل بهما إذا اجتمعا؛ أو يلحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر؛ أو بكل منهما لكونه مستلزما للآخر.
والأولان باطلان؛ لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط كان ذكر الآخر ضائعا لا فائدة فيه وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعا؛ فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه؛ ولحوق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية؛ فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع. بقي القسم الآخر وهو أن كلا من الوصفين يقتضي الوعيد لأنه مستلزم للآخر كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام فيقال: من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار ومثله قوله: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا} فإن الكفر بكل من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره فمن كفر بالله كفر بالجميع ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل فكان كافرا بالله إذ كذب رسله وكتبه وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرا. وكذلك قوله: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} ذمهم على الوصفين وكل منهما مقتض للذم وهما متلازمان؛ ولهذا نهى عنهما جميعا في قوله:
{ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل؛ إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق. فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا؛ فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد فدل على أنه وصف مؤثر في الذم فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا والآية توجب ذم ذلك. وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول. قلنا: لأنهما متلازمان وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول فالمخالف لهم مخالف للرسول كما أن المخالف للرسول مخالف لله ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول؛ وهذا هو الصواب.
فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع. فيستدل به كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص وهو دليل ثان مع النص كالأمثال المضروبة في القرآن وكذلك الإجماع دليل آخر كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها؛ فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص.
وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة وليس كذلك بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش؛ فإن الأغلب كان عليهم التجارة وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم ينه عن ذلك والسنة: قوله وفعله وإقراره. فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة.
والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ ويعتمد عليه الفقهاء لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه واتجرا فيه وربحا وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش فقال له أحدهما: لو خسر المال كان علينا فكيف يكون لك الربح وعلينا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربا فجعله مضاربة وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والجزارة. وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص لكن كان النص عند غيرهم.
وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول مع قولهم بصحة القياس. ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع وكما يكون في المسألة نص خاص.
وقد استدل فيها بعضهم بعموم كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}
وقال ابن مسعود: سورة النساء القصرى نزلت بعد الطولى أي: بعد البقرة؛ وقوله: {أجلهن أن يضعن حملهن} يقتضي انحصار الأجل في ذلك فلو أوجب عليها أن تعد بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها وعلي وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين وجاء النص الخاص في قصة سبيعة الأسلمية بما يوافق قول ابن مسعود. وكذلك لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها: هل لها مهر المثل؟ أفتى ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل ثم رووا حديث بروع بنت واشق بما يوافق ذلك وقد خالفه علي وزيد وغيرهما فقالوا: لا مهر لها.
فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على إنه لا نص فيها؛ بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص أولئك احتجوا بنص كالمتوفى عنها الحامل وهؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها والآخرين قالوا: إنما يدخل في آية الحمل فقط وأن آية الشهور في غير الحامل كما أن آية القروء في غير الحامل. وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يمينا بقوله: {لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.
(ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الألم التي هي عذاب فإن ذلك يكفر الله به خطاياه كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه}..
وفي المسند {لما نزلت هذه الآية: {من يعمل سوءا يجز به} قال أبو بكر: يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا فقال: يا أبا بكر ألست تحزن ألست يصيبك الأذى} فإن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب، كما قال تعالى: {طبتم فادخلوها خالدين} وفي الحديث الصحيح: {أنهم إذا عبروا على الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة}.
(ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125)
قال المفسرون وأهل اللغة: معنى الآية: أخلص دينه وعمله لله وهو محسن في عمله.
وقال الفراء في قوله: {فقل أسلمت وجهي لله} [سورة آل عمران: 20] أخلصت عملي. وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى الله. وهو كما قالوا، كما قد ذكر توجيهه في موضع آخر.
وهذا المعنى يدور عليه القرآن ; فإن الله تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه، وعبادته فعل ما أمر، وترك ما حظر. والأول هو إخلاص الدين والعمل لله. والثاني هو الإحسان، وهو العمل الصالح. ولهذا كان عمر يقول في دعائه: " اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا ".
وهذا هو الخالص الصواب، كما قال الفضيل بن عياض في قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}.
قال أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل: حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هو أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغي به وجه الله، وأن يكون مطابقا للأمر.
وفي الحديث: " «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عليما بما يأمر به ; عليما بما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه» ". فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر، والحلم بعد الأمر ; فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم، وإن كان عالما ولم يكن رفيقا، كان كالطبيب الذي لا رفق فيه، فيغلظ على المريض فلا يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد.
وقد قال تعالى لموسى وهارون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [سورة طه: 44].
ثم إذا أمر ونهى فلا بد أن يؤذى في العادة، فعليه أن يصبر ويحلم. كما قال تعالى: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} [سورة: لقمان 17].
وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع، وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر. فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمره به. وهو يحب صلاح المأمور، أو إقامة الحجة عليه فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا. ثم إذا رد عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي.
وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة ; فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم، وإن كان جاهلا سيئ القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله. ويذموا من لم يذمه الله ورسوله. وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله.
وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم، ويقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا، وبلغة المغل: هذا بال، هذا باغ، لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله، ومعاداة الله ورسوله.
ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس. قال الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [سورة الأنفال: 39]، فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة.
وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:
فصل:
قال الله تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} فنفى أن يكون دين أحسن من هذا الدين وأنكر على من أثبت دينا أحسن منه؛ لأن هذا استفهام إنكار وهو إنكار نهي وذم لمن جعل دينا أحسن من هذا. قال قتادة والضحاك وغيرهما: إن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله تعالى منكم ونبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} الآية.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 231)
من صــ 161 الى صـ 170
وروى سفيان عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: لما نزلت هذه الآية: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء حتى نزلت {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} الآية. ونزلت فيهم أيضا {ومن أحسن دينا} الآية. وقد روي عن مجاهد قال قالت قريش: لا نبعث أو لا نحاسب وقال أهل الكتاب: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} فأنزل الله عز وجل: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} وهذا يقتضي أنها خطاب للكفار من الأميين وأهل الكتاب؛ لاعتقادهم أنهم لا يعذبون العذاب الدائم والأول أشهر في النقل وأظهر في الدليل؛ لأن السورة مدنية بالاتفاق فالخطاب فيها مع المؤمنين كسائر السور المدنية.
وأيضا: فإنه قد استفاض من وجوه متعددة أنه لما نزل قوله تعالى {من يعمل سوءا يجز به} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن مصائب الدنيا من الجزاء وبها يجزى المؤمن؛ فعلم أنهم مخاطبون بهذه الآية لا مجرد الكفار.
وأيضا قوله بعد هذا: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} الآية. وقوله: {ومن أحسن دينا}يدل على أن هناك تنازعا في تفضيل الأديان لا مجرد إنكار عقوبة بعد الموت.
وأيضا: فما قبلها وما بعدها خطاب مع المؤمنين وجواب لهم فكان المخاطب في هذه الآية هو المخاطب في بقية الآيات. فإن قيل: الآية نص في نفي دين أحسن من دين هذا المسلم لكن من أين أنه ليس دين مثله؟ فإن الأقسام ثلاثة: إما أن يكون ثم دين أحسن منه. أو دونه أو مثله وقد ثبت أنه لا أحسن منه فمن أين في الآية أنه لا دين مثله؟ ونظيرها قوله:
{ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} قيل: لو قلنا في هذا المقام: إن الآية لم تدل إلا على نفي الأحسن لم يضر هذا؛ فإن الخطاب له مقامات قد يكون الخطاب تارة بإثبات صلاح الدين إذا كان المخاطب يدعي أو يظن فساده ثم في مقام بأن يقع النزاع في التفاضل فيبين أن غيره ليس أفضل منه. ثم في مقام ثالث يبين أنه أفضل من غيره. وهكذا إذا تكلمنا في أمر الرسول ففي مقام نبين صدقه وصحة رسالته. وفي مقام بأن نبين أن غيره ليس أفضل منه وفي مقام ثالث نبين أنه سيد ولد
آدم؛ وذلك أن الكلام يتنوع بحسب حال المخاطب.
ثم نقول: يدل على أن هذا الدين أحسن وجوه:
" أحدها " أن هذه الصيغة وإن كانت في أصل اللغة لنفي الأفضل لدخول النفي على أفعل فإنه كثيرا ما يضمر بعرف الخطاب يفضل - المذكور المجرور بمن مفضلا عليه في الإثبات فإنك إذا قلت: هذا الدين أحسن من هذا كان المجرور بمن مفضلا عليه والأول مفضلا فإذا قلت لا أحسن من هذا أو من أحسن من هذا؟ أو ليس فيهم أفضل من هذا أو ما عندي أعلم من زيد أو ما في القوم أصدق من عمرو أو ما فيهم خير منه فإن هذا التأليف يدل على أنه أفضلهم وأعلمهم وخيرهم؛ بل قد صارت حقيقة عرفية في نفي فضل الداخل في أفعل وتفضيل المجرور على الباقين وأنها تقتضي نفي فضلهم وإثبات فضله عليهم وضمنت معنى الاستثناء كأنك قلت: ما فيهم أفضل إلا هذا أو ما فيهم المفضل إلا هذا كما أن (إن) إذا كفت بما النافية صارت متضمنة للنفي والإثبات.
وكذلك الاستثناء. وإن كان في الأصل للإخراج من الحكم فإنه صار حقيقة عرفية في مناقضة المستثنى منه فالاستثناء من النفي إثبات،ومن الإثبات نفي واللفظ يصير بالاستعمال له معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع. وكذلك يكون في الأسماء المفردة تارة ويكون في تركيب الكلام أخرى ويكون في الجمل المنقولة كالأمثال السائرة جملة فيتغير الاسم المفرد بعرف الاستعمال عما كان عليه في الأصل إما بالتعميم وإما بالتخصيص وإما بالتحويل؛ كلفظ الدابة والغائط والرأس. ويتغير التركيب بالاستعمال عما كان يقتضيه نظائره كما في زيادة حرف النفي في الجمل السلبية وزيادة النفي في كاد وبنقل الجملة عن معناها الأصلي إلى غيره كالجمل المتمثل بها كما في قولهم: " يداك أوكتا وفوك نفخ " و " عسى الغوير أبؤسا ".
" الوجه الثاني " أنه إذا كان لا دين أحسن من هذا فالغير إما أن يكون مثله أو دونه ولا يجوز أن يكون مثله؛ لأن الدين إذا ماثل الدين وساواه في جميع الوجوه كان هو إياه وإن تعدد الغير لكن النوع واحد فلا يجوز أن يقع التماثل والتساوي بين الدينين المختلفين فإن اختلافهما يمنع تماثلهما؛ إذ الاختلاف ضد التماثل فكيف يكونان مختلفين متماثلين؟ واختلافهما اختلاف تضاد لا تنوع؛ فإن أحد الدينين يعتقد فيه أمور على أنها حق واجب والآخر يقول إنها باطل محرم. فمن المحال استواء هذين الاعتقادين.
وكذلك الاقتصادان فإن هذا يقصد المعبود بأنواع من المقاصد والأعمال والآخر يقصده بما يضاد ذلك وينافيه وليس كذلك تنوع طرق المسلمين ومذاهبهم؛ فإن دينهم واحد كل منهم يعتقد ما يعتقده الآخر ويعبده بالدين الذي يعبده ويسوغ أحدهما للآخر أن يعمل بما تنازع فيه من الفروع فلم يختلفا؛ بل نقول أبلغ من هذا أن القدر الذي يتنازع فيه المسلمون من الفروع لا بد أن يكون أحدهما أحسن عند الله فإن هذا مذهب جمهور الفقهاء الموافقين لسلف الأمة على أن المصيب عند الله واحد في جميع المسائل فذاك الصواب هو أحسن عند الله وإن كان أحدهما يقر الآخر. فالإقرار عليه لا يمنع أن يكون مفضولا مرجوحا وإنما يمنع أن يكون محرما. وإذا كان هذا في دق الفروع فما الظن بما تنازعوا فيه من الأصول؟ فإنه لا خلاف بين المسلمين ولا بين العقلاء أن المصيب في نفس الأمر واحد وإنما تنازعوا في المخطئ هل يغفر له أو لا يغفر وهل يكون مصيبا بمعنى أداء الواجب؟ وسقوط اللوم لا بمعنى صحة الاعتقاد؟ فإن هذا لا يقوله عاقل: أن الاعتقادين المتناقضين من كل وجه يكون كل منهما صوابا.
فتلخيص الأمر أن هذا المقام إنما فيه تفضيل قول وعمل على قول وعمل فالأقوال والأعمال المختلفة لا بد فيها من تفضيل بعضها على بعض
عند جمهور الأمة؛ بل ومن قال بأن كل مجتهد مصيب قد لا ينازع أن أحدهما أحسن وأصوب ولا يدعي تماثلهما. وإن ادعاه فلم يدعه إلا في دق الفروع مع أن قوله ضعيف مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف. وأما الحل فلم يدع مدع تساوي الأقسام فيه وهذا بخلاف التنوع المحض مثل قراءة سورة وقراءة سورة أخرى وصدقة بنوع وصدقة بنوع آخر. فإن هذا قد يتماثل؛ لأن الدين واحد في ذلك من كل وجه وإنما كلامنا في الأديان المختلفة وليس هنا خلاف بحال.
وإذا ثبت أن الدينين المختلفين لا يمكن تماثلهما لم يحتج إلى نفي هذا في اللفظ لانتفائه بالعقل. وكذلك لما سمعوا قوله: {ولا تكن كصاحب الحوت} كان في هذا ما يخاف انتقاصهم إياه. هذا مع أن نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة شاهدة بتفضيل بعض النبيين على بعض وبعض الرسل على بعض قاضية لأولي العزم بالرجحان شاهدة بأن محمدا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأكرم الخلق على ربه؛ لكن تفضيل الدين الحق أمر لا بد من اعتقاده؛ ولهذا ذكره الله في الآية.
وأما تفضيل الأشخاص فقد لا يحتاج إليه في كل وقت فالدين الواجب لا بد من تفضيله؛ إذ الفضل يدخل في الوجوب وإذا وجب الدين به دون خلافه فلأن يجب اعتقاد فضله أولى. وأما الدين المستحب فقد لا يشرع اعتقاد فعله إلا في حق من شرع له فعل ذلك المستحب وإلا فمن الناس من يضره إذا سلك سبيلا من سبل السلام الإسلامية أن يرى غيره أفضل منها؛ لأنه يتشوف إلى الأفضل فلا يقدر عليه والمفضول يعرض عنه. وكما أنه ليس من مصلحته أن يعرف أفضل من طريقته إذا كان يترك طريقته ولا يسلك تلك فليس أيضا من الحق أن يعتقد أن طريقته أفضل من غيرها؛ بل مصلحته أن يسلك تلك الطريقة المفضية به إلى رحمة الله تعالى فإن بعض المتفقهة يدعون الرجل إلى ما هو أفضل من طريقته عندهم وقد يكونون مخطئين فلا سلك الأول ولا الثاني وبعض المتصوفة المريد يعتقد أن شيخه أكمل شيخ على وجه الأرض وطريقته أفضل الطرق.
وكلاهما انحراف؛ بل يؤمر كل رجل أن يأتي من طاعة الله ورسوله بما استطاعه ولا ينقل من طاعة الله ورسوله بطريقته وإن كان فيها نوع نقص أو خطأ ولا يبين له نقصها إلا إذا نقل إلى ما هو أفضل منها وإلا فقد ينفر قلبه عن الأولى بالكلية حتى يترك الحق الذي لا يجوز تركه ولا يتمسك بشيء آخر.
وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استقصاؤه وهو مبني على أربعة أصول: " أحدها " معرفة مراتب الحق والباطل والحسنات والسيئات والخير والشر؛ ليعرف خير الخيرين وشر الشرين. " الثاني " معرفة ما يجب من ذلك وما لا يجب وما يستحب من ذلك وما لا يستحب ". الثالث " معرفة شروط الوجوب والاستحباب من الإمكان والعجز وأن الوجوب والاستحباب قد يكون مشروطا بإمكان العلم والقدرة. " الرابع " معرفة أصناف المخاطبين وأعيانهم؛ ليؤمر كل شخص بما يصلحه أو بما هو الأصلح له من طاعة الله ورسوله وينهى عما ينفع نهيه عنه ولا يؤمر بخير يوقعه فيما هو شر من المنهي عنه مع الاستغناء عنه.
وهذا القدر الذي دلت عليه هذه الآية - من أن دين من أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم هو أحسن الأديان أمر متفق عليه بين المسلمين - معلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛بل من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. ولكن كتاب الله هو حاكم بين أهل الأرض فيما اختلفوا فيه ومبين وجه الحكم؛ فإنه بين بهذه الآية وجه التفضيل بقوله: {أسلم وجهه لله} وبقوله: {وهو محسن} فإن الأول بيان نيته وقصده ومعبوده وإلهه وقوله: {وهو محسن} فانتفى بالنص نفي ما هو أحسن منه وبالعقل ما هو مثله فثبت أنه أحسن الأديان.
" الوجه الثالث " أن النزاع كان بين الأمتين أي الدينين أفضل؟ فلم يقل لهما: إن الدينين سواء ولا نهوا عن تفضيل أحدهما؛ لكن حسمت مادة الفخر والخيلاء والغرور الذي يحصل من تفضيل أحد الدينين؛ فإن الإنسان إذا استشعر فضل نفسه أو فضل دينه يدعوه ذلك إلى الكبر والخيلاء والفخر؛ فقيل للجميع: {من يعمل سوءا يجز به} سواء كان دينه فاضلا أو مفضولا؛ فإن النهي عن السيئات والجزاء عليها واقع لا محالة، قال تعالى {والذاريات ذروا} إلى قوله: {لواقع}.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 232)
من صــ 171 الى صـ 180
فلما استشعر المؤمنون أنهم مجزيون على السيئات ولا يغني عنهم فضل دينهم وفسر لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الجزاء قد يكون في الدنيا بالمصائب بين بعد ذلك فساد دين الكفار من المشركين وأهل الكتاب بقوله: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى} الآية. فبين أن العمل الصالح إنما يقع الجزاء عليه في الآخرة مع الإيمان وإن كان قد يجزى به صاحبه في الدنيا بلا إيمان فوقع الرد على الكفار من جهة جزائهم بالسيئات ومن جهة أن حسناتهم لا يدخلون بها الجنة إلا مع الإيمان ثم بين بعد هذا فضل الدين الإسلامي الحنفي بقوله: {ومن أحسن دينا} فجاء الكلام في غاية الإحكام.
ومما يشبه هذا من بعض الوجوه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل بين الأنبياء التفضيل الذي فيه انتقاص المفضول والغض منه كما قال صلى الله عليه وسلم {لا تفضلوا بين الأنبياء} وقال: {لا تفضلوني على موسى} بيان لفضله وبهذين يتم الدين. فإذا كان الله هو المعبود وصاحبه قد أخلص له وانقاد وعمله فعل الحسنات فالعقل يعلم أنه لا يمكن أن يكون دين أحسن من هذا؛ بخلاف دين من عند غير الله وأسلم وجهه له أو زعم أنه يعبد الله لا بإسلام وجهه؛ بل يتكبر كاليهود ويشرك كالنصارى أو لم يكن محسنا بل فاعلا للسيئات دون الحسنات وهذا الحكم عدل محض وقياس وقسط دل القرآن العقلاء على وجه البرهان فيه.
وهكذا غالب ما بينه القرآن فإنه يبين الحق والصدق ويذكر أدلته وبراهينه؛ ليس يبينه بمجرد الإخبار عن الأمر كما قد يتوهمه كثير من المتكلمة والمتفلسفة أن دلالته سمعية خبرية وأنها واجبة لصدق المخبر؛ بل دلالته أيضا عقلية برهانية وهو مشتمل من الأدلة والبراهين على أحسنها وأتمها بأحسن بيان لمن كان له فهم وعقل؛ بحيث إذا أخذ ما في القرآن من ذلك وبين لمن لم يعلم أنه كلام الله أو لم يعلم صدق الرسول أو يظن فيه ظنا مجردا عن ما يجب من قبول قول المخبر كان فيه ما يبين صدقه وحقه ويبرهن عن صحته.
(فصل في معنى الخليل)
والخليل هو الذي تخللت محبة خليله قلبه، فلم يكن فيه مسلك لغيره كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
وقد قيل: إنه مأخوذ من الخليل، وهو الفقير، مشتق من الخلة بالفتح. كما قيل:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
والصواب أنه من الأول، وهو مستلزم للثاني فإن كمال حبه لله هو محبة عبودية وافتقار، ليست كمحبة الرب لعبده، فإنها محبة استغناء وإحسان.
ولهذا قال - تعالى -: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [سورة الإسراء: 111].
فالرب لا يوالي عبده من ذل، كما يوالي المخلوق لغيره، بل يواليه إحسانا إليه، والولي من الولاية، والولاية ضد العداوة. وأصل الولاية الحب، وأصل العداوة البغض، وإذا قيل: هو مأخوذ من الولي، وهو القرب. فهذا جزء معناه، فإن الولي يقرب إلى وليه، والعدو يبعد عن عدوه. ولما كانت الخلة تستلزم كمال المحبة واستيعاب القلب، لم يصلح للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخالل مخلوقا، بل قال: " «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» ".
(ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ... (127)
وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله -:
عن صغيرة دون البلوغ مات أبوها: هل يجوز للحاكم أو نائبه أن يزوجها أم لا؟ وهل يثبت لها الخيار إذا بلغت أم لا؟
فأجاب:
إذا بلغت تسع سنين فإنه يزوجها الأولياء - من العصبات والحاكم ونائبه - في ظاهر مذهب أحمد وهو مذهب أبي حنيفة وغيرهما كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} وأخرجا في الصحيحين عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله عز وجل: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} قالت؛ يا ابن أختي هذه اليتيمة في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها؛ فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها؛ فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن على سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن؛ فأنزل الله عز وجل: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن} الآية. قالت عائشة والذي ذكر الله أنه {يتلى عليكم في الكتاب} الآية الأولى التي قالها الله عز وجل؛ {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} قالت عائشة: وقول الله عز وجل في الآية الأخرى: {وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حيث تكون قليلة المال والحال. وفي لفظ آخر: إذا كانت ذات مال وجمال رغبوا في نكاحها في إكمال الصداق؛ وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال رغبوا عنها؛ وأخذوا غيرها من النساء.
قال: فكما يتركونها حتى يرغبوا عنها؛ فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها؛ إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها من الصداق. فهذا يبين أن الله أذن لهم أن يزوجوا اليتامى من النساء إذا فرضوا لهن صداق مثلهن؛ ولم يأذن لهم في تزويجهن بدون صداق المثل؛ لأنها ليست من أهل التبرع؛ ودلائل ذلك متعددة. ثم الجمهور الذين جوزوا إنكاحها لهم قولان: " أحدهما " وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين: أنها تزوج بدون إذنها؛ ولها الخيار إذا بلغت.
و " الثاني " وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره: أنها لا تزوج إلا بإذنها؛ ولا خيار لها إذا بلغت.
وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة كما روى أبو هريرة؛ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {تستأذن اليتيمة في نفسها؛ فإن سكتت فهو إذنها؛ وإن أبت فلا جواز عليها} رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي. وعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فقد أذنت؛ وإن أبت فلا جواز عليها}.
فهذه السنة نص في القول الثالث الذي هو أعدل الأقوال أنها تزوج؛ خلافا لمن قال: إنها لا تزوج حتى تبلغ فلا تصير " يتيمة ". والكتاب والسنة صريح في دخول اليتيمة قبل البلوغ في ذلك؛ إذ البالغة التي لها أمر في مالها يجوز لها أن ترضى بدون صداق المثل؛ ولأن ذلك مدلول اللفظ وحقيقته ولأن ما بعد البلوغ وإن سمي صاحبه يتيما مجازا فغايته أن يكون داخلا في العموم.
وأما أن يكون المراد باليتيمة البالغة دون التي لم تبلغ: فهذا لا يسوغ حمل اللفظ عليه بحال. والله أعلم.
(فصل: الظلم نوعان)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والظلم نوعان: تفريط في الحق وتعد للحد. فالأول ترك ما يجب للغير مثل ترك قضاء الديون وسائر الأمانات وغيرها من الأموال. والثاني الاعتداء عليه مثل القتل وأخذ المال وكلاهما ظلم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع} فجعل مجرد المطل الذي هو تأخير الأداء مع القدرة ظلما فكيف بالترك رأسا. وقد قال تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} إلى قوله: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط}. قالت عائشة رضي الله عنها هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيريد أن يتزوجها بدون أن يقسط لها في مهرها. فسمى الله تكميل المهر قسطا؛ وضده الظلم.
وهذا في الجملة ظاهر متفق عليه بين المسلمين: أن العدل قد يكون أداء واجب وقد يكون ترك محرم وقد يجمع الأمرين وأن الظلم أيضا قد يكون ترك واجب وقد يكون فعل محرم وقد يجمع الأمرين. فإذا عرف هذا؛ وقد عرف أن العدل والظلم يكون في حق نفس الإنسان ويكون في حقوق الناس - كما تقدم وقد كتبت فيما تقدم من " القواعد " وفي آخر " مسودة الفقه " كلاما كليا في أن جميع الحسنات تدخل في العدل وجميع السيئات تدخل في الظلم.
(ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ... (135)
يقال: لوى يلوي لسانه: فيخبر بالكذب. والإعراض: أن يكتم الحق؛ فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس. ومن مال مع صاحبه - سواء كان الحق له أو عليه - فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله والواجب على جميعهم أن يكونوا يدا واحدة مع المحق على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضي الله ورسوله لا بحسب الأهواء؛ فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد؛ ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه. فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده. وحينئذ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم؛ فإن الله تعالى يقول: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}. وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}.
(إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145)
وقد اتفق العلماء على أن اسم المسلمين في الظاهر يجري على المنافقين لأنهم استسلموا ظاهرا؛ وأتو بما أتوا به من الأعمال الظاهرة بالصلاة الظاهرة والزكاة الظاهرة والحج الظاهر والجهاد الظاهر كما كان النبي يجري عليهم أحكام الإسلام الظاهر واتفقوا على أنه من لم يكن معه شيء من الإيمان فهو كما قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وفيها قراءتان (درك ودرك قال أبو الحسين ابن فارس: الجنة درجات والنار دركات. قال الضحاك: الدرج: إذا كان بعضها فوق بعض.
والدرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض فصار المظهرون للإسلام بعضهم في أعلى درجة في الجنة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في الحديث الصحيح: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} وقوله: صلى الله عليه وسلم {وأرجو أن أكون} مثل قوله: {إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده} ولا ريب أنه أخشى الأمة لله وأعلمهم بحدوده. وكذلك قوله: {اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا}.
وقوله: {إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة} وأمثال هذه النصوص وكان يستدل به أحمد وغيره على الاستثناء في الإيمان كما نذكره في موضعه.
والمقصود أن خير المؤمنين في أعلى درجات الجنة والمنافقون في الدرك الأسفل من النار وإن كانوا في الدنيا مسلمين ظاهرا تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة؛ فمن كان فيه إيمان ونفاق يسمى مسلما إذ ليس هو دون المنافق المحض وإذا كان نفاقه أغلب لم يستحق اسم الإيمان بل اسم المنافق أحق به فإن ما فيه بياض وسواد وسواده أكثر من بياضه هو باسم الأسود أحق منه باسم الأبيض كما قال تعالى: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} وأما إذا كان إيمانه أغلب ومعه نفاق يستحق به الوعيد لم يكن أيضا من المؤمنين الموعودين بالجنة وهذا حجة لما ذكره محمد بن نصر عن أحمد ولم أره أنا فيما بلغني من كلام أحمد ولا ذكره الخلال ونحوه.
وقال محمد بن نصر: وحكى غير هؤلاء عن أحمد أنه قال: من أتى هذه الأربعة: الزنا والسرقة وشرب الخمر والنهبة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم ولا أسميه مؤمنا ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمنا ناقص الإيمان فإن صاحب هذا القول يقول: لما نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان نفيته عنه كما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة عنه بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر فما أتى بالإيمان الواجب ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك.
(لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148)
وقد نزلت فيمن ضاف قوما فلم يقروه، لأن قرى الضيف واجب، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فلما منعوه حقه كان له ذكر ذلك، وقد أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعاقبهم بمثل قراه في زرعهم ومالهم، وقال: " نصره واجب على كل مسلم " لأنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: " «انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قلت: يا رسول الله، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه» ".
وأما الحاجة فمثل استفتاء هند بنت عتبة، كما ثبت في الصحيح أنها «قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف. فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» " أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة، فلم ينكر عليها قولها، وهو من جنس قول المظلوم.
وأما النصيحة فمثل «قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت: خطبني أبو جهم ومعاوية. فقال: " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " وفي لفظ: " يضرب النساء "، " انكحي أسامة» " فلما استشارته حتى تتزوج ذكر ما تحتاج إليه.
وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله. والنصيحة مأمور بها ولو لم يشاوره ; فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " «الدين النصيحة، الدين النصيحة» " ثلاثا. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تعمد الكذب عليه، أو على من ينقل عنه العلم. وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية ; فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة، فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق.
وحكم المتكلم باجتهاده في العلم والدين حكم أمثاله من المجتهدين. ثم قد يكون مجتهدا مخطئا أو مصيبا، وقد يكون كل من الرجلين المختلفين باللسان أو اليد مجتهدا يعتقد الصواب معه، وقد يكونان جميعا مخطئين مغفورا لهما، كما ذكرنا نظير ذلك مما كان يجري بين الصحابة.
ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو ممن بعدهم، فإذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان، لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة.
لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أعظم حرمة، وأجل قدرا، وأنزه أعراضا. وقد ثبت من فضائلهم خصوصا وعموما ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثما من الكلام في غيرهم.
فإن قيل: فأنتم في هذا المقام تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم.
قيل: ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص المعينة ; فإنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن أنواعا كثيرة، كقوله: " «لعن الله الخمر وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها وآكل ثمنها» " و " «لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه» "، و " «لعن الله من غير منار الأرض» " وقال: " «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» ".
وقال: " «لعن الله من عمل عمل قوم لوط» " وقال: " «لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء» " وقال: " «من ادعى إلى غير أبيه،أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» ".
وقال الله تعالى في القرآن: {أن لعنة الله على الظالمين - الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا} [سورة الأعراف: 44 - 45].
فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم، تحذيرا من ذلك الفعل، وإخبارا بما يلحق أهله من الوعيد.
ثم المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب منها، والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج والنواصب الذي نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين فابتدعوا بدعة، وكفروا من لم يوافقهم عليها، فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة، الذين يعلمون أن الظلم محرم، وإن كانت عقوبة أحدهم في الآخرة لأجل التأويل قد تكون أخف، لكن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، ونهى عن قتال الأمراء الظلمة، وتواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة.
فقال: في الخوارج: " «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم» ".
وقال في بعضهم: " «يقتلون أهل الإيمان: ويدعون أهل الأوثان» ".
(إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والأنبياء كلهم دينهم واحد وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم وكذلك التكذيب والمعصية: لا يجوز أن يكذب نبي نبيا بل إن عرفه صدقه وإلا فهو يصدق بكل ما أنزل الله مطلقا وهو يأمر بطاعة من أمر الله بطاعته. ولهذا كان من صدق محمدا فقد صدق كل نبي؛ ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي ومن كذبه فقد كذب كل نبي؛ ومن عصاه فقد عصى كل نبي قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} {أولئك هم الكافرون حقا} وقال تعالى:
{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}. ومن كذب هؤلاء تكذيبا بجنس الرسالة فقد صرح بأنه يكذب الجميع؛ ولهذا يقول تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين}
ولم يرسل إليهم قبل نوح أحدا وقال تعالى: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم}. وكذلك من كان من الملاحدة والمتفلسفة طاعنا في جنس الرسل كما قدمنا بأن يزعم أنهم لم يعلموا الحق أو لم يبينوه فهو مكذب لجميع الرسل كالذين قال فيهم: {الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون} {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون} {في الحميم ثم في النار يسجرون} وقال تعالى: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين} {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} وقال تعالى عن الوليد: {إنه فكر وقدر} {فقتل كيف قدر} {ثم قتل كيف قدر} {ثم نظر} {ثم عبس وبسر} {ثم أدبر واستكبر} {فقال إن هذا إلا سحر يؤثر} {إن هذا إلا قول البشر}.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 233)
من صــ 186 الى صـ 200
وأهل الكتاب منهم من يؤمن بجنس الرسالة لكن يكذب بعض الرسل كالمسيح ومحمد فهؤلاء لما آمنوا ببعض وكفروا ببعض كانوا كافرين حقا وكثير من الفلاسفة والباطنية وكثير من أهل الكلام والتصوف لا يكذب الرسل تكذيبا صريحا ولا يؤمن بحقيقة النبوة والرسالة بل يقر بفضلهم في الجملة مع كونه يقول: إن غيرهم أعلم منهم؛ أو أنهم لم يبينوا الحق أو لبسوه؛ أو إن النبوة هي فيض يفيض على النفوس من العقل الفعال من جنس ما يراه النائم ولا يقر بملائكة مفضلين ولا بالجن ونحو ذلك فهؤلاء يقرون ببعض صفات الأنبياء دون بعض؛ وبما أوتوه دون بعض ولا يقرون بجميع ما أوتيه الأنبياء وهؤلاء قد يكون أحدهم شرا من اليهود والنصارى الذين أقروا بجميع صفات النبوة لكن كذبوا ببعض الأنبياء؛ فإن الذي أقر به هؤلاء مما جاءت به الأنبياء أعظم وأكثر؛ إذ كان هؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ويقرون بقيام القيامة ويقرون بأنه تجب عبادته وحده لا شريك له ويقرون بالشرائع المتفق عليها. وأولئك يكذبون بهذا وإنما يقرون ببعض شرع محمد صلى الله عليه وسلم.
ولهذا كان اليهود والنصارى أقل كفرا من الملاحدة الباطنية والمتفلسفة ونحوهم لكن من كان من اليهود والنصارى قد دخل مع هؤلاء فقد جمع نوعي الكفر؛ إذ لم يؤمن بجميع صفاتهم ولا بجميع أعيانهم وهؤلاء موجودون في دول الكفار كثيرا كما يوجد أيضا في المنتسبين إلى الإسلام من هؤلاء وهؤلاء إذ كانوا في دولة المسلمين. وأهل الكتاب كانوا منافقين فيهم من النفاق بحسب ما فيهم من الكفر والنفاق يتبعض والكفر يتبعض ويزيد وينقص كما أن الإيمان يتبعض ويزيد وينقص قال الله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} وقال: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} وقال: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} وقال: {وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا} وقال: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} وقال: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} وقال: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا}.
وكثير من المصنفين في الكلام لا يردون على أهل الكتاب إلا ما يقولون: إنه يعلم بالعقل مثل تثليث النصارى ومثل تكذيب محمد ولا يناظرونهم في غير هذا من أصول الدين وهذا تقصير منهم ومخالفة لطريقة القرآن؛ فإن الله يبين في القرآن ما خالفوا به الأنبياء ويذمهم على ذلك والقرآن مملوء من ذلك؛ إذ كان الكفر والإيمان يتعلق بالرسالة والنبوة فإذا تبين ما خالفوا فيه الأنبياء ظهر كفرهم.
وأولئك المتكلمون لما أصلوا لهم دينا بما أحدثوه من الكلام كالاستدلال بالأعراض على حدوث الأجسام ظنوا أن هذا هو أصول الدين ولو كان ما قالوه حقا لكان ذلك جزءا من الدين فكيف إذا كان باطلا؟ وقد ذكرت في الرد على النصارى من مخالفتهم للأنبياء كلهم مع مخالفتهم لصريح العقل ما يظهر به من كفرهم ما يظهر.
[فصل: الرد على النصارى في قولهم السنة الجديدة المختارة هي السنة التي تسلمناها من يدي الرسل الأطهار]
وأما قولكم: السنة الجديدة المختارة هي السنة التي تسلمناها من يدي الرسل الأطهار، على ما تسلموها هم من المسيح عليه السلام.
فيقال: لو كنتم على تلك السنة لم تغيروها، لم ينفعكم المقام عليها إذا كذبتم الرسول النبي الأمي الذي بعث إليكم وإلى سائر الخلق بسنة أخرى أكمل من السنن التي كانت قبله، كما لم ينفع اليهود، ولو تمسكوا بسنة التوراة، ولم يتبعوا سنة المسيح الذي أرسل إليهم، بل من كذب برسول واحد فهو كافر.
كما قال تعالى:
{إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} [النساء: 150].
فإنه، وإن كانت السنة التي جاء بها المسيح عليه السلام حقا، وكل من كان متبعا له فهو مؤمن مسلم من أولياء الله، من أهل الجنة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما قال تعالى:
{إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62].
وقال تعالى:
{كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} [الصف: 14].
فمن اتبع المسيح كان مؤمنا، ومن كفر به كان كافرا.
وقال تعالى:
{ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} [آل عمران: 55] (55) {فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين} [آل عمران: 56] (56) {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين} [آل عمران: 57].
لكن غيرتموها وبدلتموها قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، (فصرتم كفارا بتبديل شريعة المسيح، وتكذيب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم)، كما كفرت اليهود بتبديل شريعة التوراة، وتكذيب شريعة الإنجيل، ثم كفروا بتكذيب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى سائر رسل الله أجمعين.
فإن المسيح لم يسن لكم التثليث والقول بالأقانيم، ولا القول بأنه رب العالمين، ولا سن لكم استحلال الخنزير وغيره من المحرمات، ولا ترك الختان، ولا الصلاة إلى المشرق، ولا اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ولا الشرك واتخاذ التماثيل والصليب، ودعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والصالحين وغيرهم، وسؤالهم الحوائج، ولا الرهبانية، وغير ذلك من المنكرات التي أحدثتموها، ولم يسنها لكم المسيح، ولا ما أنتم عليه هي السنة التي تسلمتموها من رسل المسيح.
بل عامة ما أنتم عليه من السنن أمور محدثة مبتدعة بعد الحواريين، كصومكم خمسين يوما زمن الربيع، واتخاذكم عيدا يوم الخميس والجمعة والسبت، فإن هذا لم يسنه المسيح ولا أحد من الحواريين، وكذلك عيد الميلاد والغطاس، وغير ذلك من أعيادكم.
بل عيد الصليب إنما ابتدعته (هيلانة) الحرانية القندقانية أم قسطنطين، فأنتم تقولون: إنها هي التي أظهرت الصليب وصنعت لوقت ظهوره عيدا، وذلك بعد المسيح والحواريين بمدة طويلة زمن الملك قسطنطين بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة.
وفي ذلك الزمان أحدثتم الأمانة لنصوص الأنبياء في غير موضع، وأظهرتم استحلال الخنزير وعقوبة من لم يأكله، وابتدعتم في ذلك الزمان تعظيم الصليب، وغير ذلك من بدعكم، وكذلك كتب القوانين التي عندكم جعلتموها سنة وشريعة فيها شيء عن الأنبياء والحواريين، وكثير مما فيها ابتدعه من بعدهم لا ينقلونه لا عن المسيح ولا عن الحواريين، فكيف تدعون أنكم على السنة والشريعة التي كان عليها المسيح عليه السلام وهذا مما يعلم بالاضطرار والتواتر أنه كذب بين.
(وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (155)
و " الغلف ": جمع أغلف وهو ذو الغلاف الذي في غلاف مثل الأقلف كأنهم جعلوا المانع خلقة أي خلقت القلوب وعليها أغطية فقال الله تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم} و {طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}.
(وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)
[فصل: رد عقيدة النصارى في الصلب والفداء]
ومعلوم أن إبراهيم كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنب أبيه فكيف يؤاخذه بذنب آدم وهو أبوه الأبعد، هذا لو قدر أن آدم لم يتب فكيف وقد أخبر الله عنه بالتوبة؟ ثم يزعمون أن الصلب الذي هو من أعظم الذنوب والخطايا به خلص الله آدم وذريته من عذاب الجحيم وبه عاقب إبليس مع أن إبليس ما زال عاصيا لله مستحقا للعقاب من حين امتنع من السجود لآدم ووسوس لآدم إلى حين مبعث المسيح والرب قادر على عقوبته وبنو آدم لا عقوبة عليهم في ذنب أبيهم فمن كان قولهم مثل هذه الخرافات التي هي مضاحك العقلاء والتي لا تصلح أن تضاف إلى أجهل الملوك وأظلمهم فكيف يدعون مع هذا أنهم يصفون الله بالعدل ويجعلون من عدله أنه لا يأمر الإنسان بتعلم ما يقدر على تعلمه وفيه صلاح معاشه ومعاده ويجعلون مثل هذا موجبا لتكذيب كتابه ورسله والإصرار على تبديل الكتاب الأول وتكذيب الكتاب الآخر وعلى أنه يتضمن مخالفة موسى وعيسى وسائر الأنبياء والرسل؟.
والنصارى يقولون: إن المسيح الذي هو عندهم اللاهوت والناسوت جميعا إنما مكن الكفار من صلبه ليحتال بذلك على عقوبة إبليس قالوا: فأخفى نفسه عن إبليس لئلا يعلم ومكن أعداءه من أخذه وضربه والبصاق في وجهه ووضع الشوك على رأسه وصلبه وأظهر الجزع من الموت وصار يقول يا إلهي لم سلطت أعدائي علي ليختفي بذلك عن إبليس فلا يعرف إبليس أنه الله أو ابن الله ويريد إبليس أن يأخذ روحه إلى الجحيم كما أخذ أرواح نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين فيحتج عليه الرب حينئذ ويقول بماذا استحللت يا إبليس أن تأخذ روحي؟ فيقول له إبليس: بخطيئتك فيقول: ناسوتي لا خطيئة له كنواسيت الأنبياء، فإنه كان لهم خطايا استحقوا بها أن تؤخذ أرواحهم إلى جهنم وأنا لا خطيئة لي.
وقالوا فلما أقام الله الحجة على إبليس جاز للرب حينئذ أن يأخذ إبليس ويعاقبه ويخلص ذرية آدم من إذهابهم إلى الجحيم وهذا الكلام فيه من الباطل ونسبة الظلم إلى الله ما يطول وصفه فمن هذا قوله: فقد قدح في علم الرب وحكمته وعدله قدحا ما قدحه فيه أحد وذلك من وجوه.
أحدها: أن يقال إبليس إن كان أخذ الذرية بذنب أبيهم فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره وإن كان بخطاياهم فلم يأخذهم بذنب أبيهم وهم قالوا إنما أخذهم بذنب آدم.
الثاني: أن يقال من خلق بعد المسيح من الذرية كمن خلق قبله فكيف جاز أن يمكن إبليس من الذرية المتقدمين دون المتأخرين وكلهم بالنسبة إلى آدم سواء وهم أيضا يخطئون أعظم من خطايا الأنبياء المتقدمين فكيف جاز تمكين إبليس من عقوبة الأنبياء المتقدمين ولم يمكن من عقوبة الكفار والجبابرة الذين كانوا بعد المسيح؟.
الوجه الثالث: أن يقال أخذ إبليس لذرية آدم وإدخالهم جهنم إما أن يكون ظلما من إبليس وإما أن يكون عدلا، فإن كان عدلا فلا لوم على إبليس ولا يجوز أن يحتال عليه ليمتنع من العدل الذي يستحقه بل يجب تمكينه من المتأخرين والمتقدمين.
وإن كان ظلما فلم لا يمنعه الرب منه قبل المسيح؟.
فإن قيل لم يقدر فقد نسبوه إلى العجز وإن قيل قدر على دفع ظلم إبليس ولم يفعله فلا فرق بين دفعه في زمان دون زمان إن جاز ذلك جاز في كل زمان وإن امتنع امتنع في كل زمان.
الوجه الرابع: أن إبليس إن كان معذورا قبل المسيح فلا حاجة إلى عقوبته ولا ملام عليه وإن لم يكن معذورا استحق العقوبة ولا حاجة إلى أن يحتال عليه بحيلة تقام بها الحجة عليه.
الوجه الخامس: إنه بتقدير أنه لم يقم عليه الحجة قبل الصلب فلم يقم عليه حجة بالصلب، فإنه يمكنه أن يقول أنا ما علمت أن هذا الناسوت هو ناسوت الرب وأنت يا رب قد أذنت لي أن آخذ جميع ذرية آدم فأوديهم إلى الجحيم فهذا واحد منهم وما علمت أنك أو ابنك اتحد به ولو علمت ذلك لعظمته، فأنا معذور في ذلك فلا يجوز أن تظلمني.
الوجه السادس: أن نقول: أن إبليس يقول حينئذ يا رب فهذا الناسوت الواحد أخطأت في أخذ روحه لكن سائر بني آدم الذين بعده لي أن أحبس أرواحهم في جهنم كما حبست أرواح الذين كانوا قبل المسيح إما بذنب أبيهم وإما بخطاياهم أنفسهم وحينئذ، فإن كان ما يقوله النصارى حقا فلا حجة لله على إبليس.
الوجه السابع: أن يقال هب أن آدم أذنب وبنوه أذنبوا بتزيين الشيطان فعقوبة بني آدم على ذنوبهم هي إلى الله أو إلى إبليس؟ فهل يقول عاقل أن إبليس له أن يغوي بني آدم بتزيينه لهم ثم له أن يعاقبهم جميعا بغير إذن من الله في ذلك وهل هذا القول إلا من قول المجوس الثنوية الذين يقولون إن كل ما في العالم من الشر من الذنوب والعقاب وغير ذلك هو من فعل إبليس لم يفعل الله شيئا من ذلك ولا عاقب الله أحدا على ذنب.
ولا ريب أن هذا القول سرى إلى النصارى من المجوس لهذا لا ينقلون هذا القول في كتاب منزل ولا عن أحد من الحواريين ولهذا كان المانوية دينهم مركبا من دين النصارى والمجوس وكان رأسهم ماني نصرانيا مجوسيا فالنسب بين النصارى والمجوس بل وسائر المشركين نسب معروف.
الوجه الثامن: أن يقال إبليس عاقب بني آدم وأدخلهم جهنم بإذن الله أو بغير إذنه.
إن قالوا: بإذنه فلا ذنب له ولا يستحق أن يحتال عليه ليعاقب ويمتنع وإن كان بغير إذنه فهل جاز في عدل الله أن يمكنه من ذلك أم لم يجز، فإن جاز ذلك في زمان جاز في جميع الأزمنة وإن لم يجز في زمان لم يجز في جميع الأزمنة فلا فرق بين ما قبل المسيح وما بعده.
الوجه التاسع: أن يقال هل كان الله قادرا على منع إبليس وعقوبته بدون هذه الحيلة وكان ذلك عدلا منه لو فعله أم لا، فإن كان ذلك مقدورا له وهو عدل منه لم يحتج أن يحتال على إبليس ولا يصلب نفسه أو ابنه ثم إن كان هذا العدل واجبا عليه وجب منع إبليس وإن لم يكن واجبا جاز تمكينه في كل زمان فلا فرق بين زمان وزمان.
وإن قيل لم يكن قادرا على منع إبليس فهو تعجيز للرب عن منع إبليس وهذا من أعظم الكفر باتفاق أهل الملل من جنس قول الثنوية الذين يقولون لم يكن يقدر النور أن يمنع الظلمة من الشر ومن جنس قول ديمقراطيس والحنانين الذين يقولون لم يمكن واجب الوجود أن يمنع النفس من ملابسة الهيولي بل تعلقت النفس بها بغير اختياره.
الوجه العاشر: أن ما فعله به الكفار اليهود الذين صلبوه طاعة لله أو معصية، فإن كان طاعة لله استحق اليهود الذين صلبوه أن يثيبهم ويكرمهم على طاعته كما يثيب سائر المطيعين له والنصارى متفقون على أن أولئك من أعظم الناس إثما وهم من شر الخلق وهم يستحلون من دمهم ولعنتهم ما لا يستحلونه من غيرهم بل يبالغون في طلب اليهود وعقوبتهم في آخر صومهم الأيام التي تشبه أيام الصليب وإن كان أولئك اليهود عصاة لله فهل كان قادرا على منعهم من هذه المعصية أم لا، فإن لم يكن قادرا لم يكن قادرا على منع إبليس من ظلم الذرية في الزمن المستقبل وإن كان قادرا على منعهم من المعاصي ولم يمنعهم كان قادرا على منع إبليس بدون هذه الحيلة وإذا كان حسنا منه تمكينهم من هذه المعصية كان حسنا منه تمكين إبليس من ظلم الذرية في الماضي والمستقبل فلا حاجة إلى الحيلة عليه.
واعلم أن الوجوه الدالة على فساد دين النصارى كثيرة جدا وكلما تصور العاقل مذهبهم وتصور لوازمه تبين له فساده لكن المقصود هنا بيان تناقضهم في أنهم يقيمون عذر أنفسهم في ترك الإيمان بكتابه ورسوله ودينه لكونه سبحانه عدلا لا يأمر الناس بما يعجزون عنه وهو سبحانه لم يأمرهم إلا بما يقدرون عليه وقد نسبوا إليه من الظلم ما لم ينسبه إليه أحد من بني آدم يوضح هذا.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 234)
من صــ 201 الى صـ 215
الوجه الحادي عشر: وهو أنه إما أن يقال في الظلم بقول الجهمية المجبرة الذين يقولون يفعل ما يشاء بلا حكمة ولا سبب ولا مراعاة عدل وإما أن يقال بقول القدرية أنه يجب عليه العدل الذي يجب على المخلوقين وإما أن يقال هو عادل منزه عن الظلم، ولكن ليس عدله كعدل المخلوق فهذه أقوال الناس الثلاثة.
فإن قيل بالأول جاز أن يسلط إبليس على جميع الذرية بلا ذنب وأن يعاقبهم جميعا بلا ذنب ولا حاجة حينئذ إلى الحيلة على إبليس.
وإن قيل بالثاني: فمعلوم أن الواحد من الناس لو علم أن بعض مماليكه أمر غيره بذنب يكرهه السيد ففعله كان العدل منه أن يعاقب الآمر والمأمور جميعا.
وأما تسليطه للآمر على عقوبة المأمور فليس من العدل وكذلك تسليط الآمر الظالم على جميع ذرية المأمور الذين لم يذنبوا ذنب أبيهم ليس من العدل.
وإن قيل: بل هو استحق أن يستعبدهم لكون أبيهم أطاعه قيل: فحينئذ يستحق أن يأسر الأولين والآخرين فلا يجوز أن يمنع من حقه بالاحتيال عليه.
وإن قيل: إنما يستحق أخذهم خطاياهم قيل فله أن يأخذ الأولين والآخرين.
وإن قيل: هو لما طلب أخذ روح ناسوت المسيح منع بهذا الذنب قيل: هذا إن كان ذنبا فهو أخف ذنوبه، فإنه لم يعلم أنه ناسوت الإله وإذا استحق الرجل أن يسترق أولاد غيره فطلب رجلا ليسترقه لظنه أنه منهم ولم يكن منهم لم يكن هذا ذنبا يمنع استرقاق الباقين.
وإن قيل إن عدل الرب ليس كعدل المخلوقين بل من عدله أن لا ينقص أحدا من حسناته ولا يعاقبه إلا بذنبه لم يجز حينئذ أن يعاقب ذرية آدم بذنب أبيهم ولم يجز أن يعاقب الأنبياء الذين ليس لهم ذنب إلا ذنب تابوا منه بذنب غيرهم، فإن الأنبياء معصومون أن يقروا على ذنب فكل من مات منهم مات وليس له ذنب يستحق عليه العقوبة فكيف يعاقبون بعد الموت بذنب أبيهم إن قدر أنه مات مصرا على الذنب مع أن هذا تقدير باطل ولو قدر أن الأنبياء لهم خطايا يستحقون بها العقوبة بعد الموت وتسليط إبليس على عقوبتهم مع أن هذا تقدير باطل فمن بعد المسيح من غير الأنبياء أولى بذلك فكيف يجوز في العدل الذي يوجب التسوية بين المتماثلين عقوبة الأنبياء ومنع عقوبة من هو دونهم بل من هو من الكفار.
الوجه الثاني عشر: أن الرب إذا قصد بهذا دفع ظلم إبليس فهلا اتحد بناسوت بعض أولاد آدم ليحتال على إبليس فيمنعه من ظلم من تقدم، فإن المنع من الشر الكثير أولى من المنع من الشر القليل أتراه ما كان يعلم أن إبليس يعمل هذا الشر كله فهذا تجهيل له أو كان يعرف وعجز عن دفعه فهذا تعجيز له ثم ما الفرق بين زمان وزمان أم كان ترك منعه عدلا منه فهو عدل في كل زمان.
[فصل: الرد على النصارى في دعواهم بأن المسلمين يقولون أن التحريف وقع بعد مبعث النبي محمد]
فقال الحاكي عنهم: فقلت لهم: إن قال قائل: إن التبديل والتغيير يجوز أن يكون بعد هذا القول فقالوا: إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول وذلك أنا أيضا إذا احتججنا عليهم بمثل هذا القول وقلنا: إن الكتاب الذي في أيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا؟
قال الحاكي عنهم: فقلت لهم: هذا مما لا يجوز ولا يمكن أحدا أن يقوله، ولا يمكن أن يتغير منه إلى آخر الفصل وسيأتي بألفاظ بعد هذا.
والجواب أن هذا السائل النصراني الذي ذكر عن المسلمين سؤالا لا يقولونه وعن علماء النصارى جوابه هو وهم بنوا كلامهم على أصلين فاسدين.
أحدهما: أن الرسول ثبت ما معهم ونفى عن كتبهم التي بين أيديهم التهم والتبديل والتغيير لها ومقصودهم بذلك لا يتم إلا إذا نفى التبديل عن لفظها ومعناها وهذا مما يعلم كل عاقل أن الرسول لم ينفه عنها بل النقل المتواتر عنه بنقيض ذلك وهم أيضا وكل عاقل يعلم أن الكتب التي بأيديهم في تفسيرها من الاختلاف والاضطراب بين فرق النصارى وبين النصارى واليهود ما يوجب القطع بأن كثيرا من ذلك مبدل محرف وكذلك وقع في تغيير شرائع هذه الكتب، فإن الكتب تضمنت أصلين: الإخبار والأمر. والإيمان بها لا يتم إلا بتصديقها فيما أخبرت وإيجاب طاعتها فيما أوجبته.
وأهل الكتاب يكذبون بكثير مما أخبرت ولا يوجبون طاعتها في كثير مما أوجبته وأمرت به وكل فرقة منهم تشهد على الفرقة الأخرى بمثل ذلك.
والنصارى لهم سبع مجامع مشهورة عندهم وهم في كل مجمع يلعنون طائفة منهم كبيرة ويكفرونهم ويقولون عنهم أنهم كذبوا ببعض ما في تلك الكتب ولم يوجبوا طاعة بعض أمرها وتلك الطائفة تشهد على الأخرى بأنها كذبت ببعض ما فيها، ثم فرقهم الثلاثة المشهورة النسطورية والملكية واليعقوبية كل طائفة تكفر الأخرى وتلعنها وتشهد عليها أنها مكذبة ببعض ما في النبوات غير موجبة لطاعة بعض ما فيها بل اختلافهم في نفس التوحيد والرسالة فزعم كل فريق منهم أن المسيح جاء بما هم عليه والمسيح - عليه السلام - وجميع الرسل بريئون من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وبريئون ممن يقول على الله غير الحق أو يقول على الله ما لا يعلم وبريئون من كل قول باطل يقال على الله - عز وجل - وإن كان قائله مخطئا لم يتعمد الكذب.
وفي مقالات النصارى من هذه الأنواع ما يطول وصفه وقد بسط في غير هذا الموضع.
وإذا عرفت أن جميع الطوائف من المسلمين واليهود والنصارى يشهدون أنه قد وقع في هذه الكتب تحريف وتبديل في معانيها وتفاسيرها وشرائعها فهذا القدر كاف وهم من حين بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - صار كل من لم يؤمن به كافرا بخلاف حال النصارى قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان فيهم من هو متبع لدين المسيح والمسلمون وإن كان فيهم من حرف الدين وبدله فجمهورهم خالفوا هؤلاء فلا يزال فيهم طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم وخذلهم حتى تقوم الساعة بخلاف النصارى، فإنهم كفروا جميعهم ; كما كفرت اليهود بتكذيب المسيح.
والمسلمون يثبتون بالدلائل الكثيرة أنهم بدلوا معاني التوراة والإنجيل والزبور وغيرهم من نبوات الأنبياء وابتدعوا شرعا لم يأت به المسيح ولا غيره ولا يقول عاقل مثل زعمهم أن جميع بني آدم من الأنبياء والرسل وغيرهم كانوا في الجحيم في حبس الشيطان لأجل أن أباهم آدم أكل من الشجرة وأنهم إنما تخلصوا من ذلك لما صلب المسيح.
فإن هذا الكلام لو نقله ناقل عن بعض الأنبياء لقطعنا بكذبه عليهم فكيف وهذا الكلام ليس منقولا عندهم عن أحد من الأنبياء وإنما ينقلونه عمن ليس قوله حجة لازمة، فإن كثيرا من دينهم مأخوذ عن رؤوسهم الذين ليسوا بأنبياء.
فإذا قطعنا بكذب من ينقله عن الأنبياء فكيف إذا لم ينقله عنهم وذلك أن الأنبياء - عليهم السلام - يخبرون الناس بما تقصر عقولهم عن معرفته لا بما يعرفون أنه باطل ممتنع فيخبرونهم بمحيرات العقول لا محالات العقول وآدم - عليه السلام - وإن كان أكل من الشجرة فقد تاب الله عليه واجتباه وهداه.
قال - تعالى -: {وعصى آدم ربه فغوى - ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} [طه: 121 - 122] وقال - تعالى -: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37] وليس عند أهل الكتاب في كتبهم ما ينفي توبته وإنما قد يقول قائلهم إنا لا نعلم أنه تاب أو ليس عندنا توبته وعدم العلم بشيء ليس علما بعدمه وعدم وجود الشيء في كتاب من كتب الله لا ينفي أن يكون في كتاب آخر ففي التوراة ما ليس في الإنجيل وفيهما ما ليس في الزبور وفي الإنجيل والزبور ما ليس في التوراة وفي سائر النبوات ما لا يوجد في هذه الكتب والقرآن لو كان دون التوراة والإنجيل والزبور والنبوات أو كان مثلها لأمكن أن يكون فيه ما ليس فيها فكيف إذا كان أفضل وأشرف وفيه من العلم أعظم مما في التوراة والإنجيل وقد بين الله تعالى فضله عليهما في غير موضع كقوله - تعالى -: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه} [الزمر: 23]
وقال - تعالى -: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3] وقال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48] وسواء تاب آدم أو لم يتب فكيف يجوز أن يكون رسل الله الذين هم أفضل منه محبوسين في حبس الشيطان في جهنم بذنبه؟ وإبراهيم خليل الرحمن كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنبه فكيف يجعله في جهنم في حبس الشيطان بسبب ذنب أبيه الأقصى آدم؟ مع أنه كان نبيا ونوح - عليه السلام - قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده وأغرق الله أهل الأرض بدعوته وجعل ذريته هم الباقين فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان لأجل ذنب آدم؟.
وموسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما وأظهر على يديه من البراهين والآيات ما لم يظهر مثله على يدي المسيح وقتل نفسا لم يؤمر بقتلها فغفر الله له ذلك وله من المنزلة عند الله والكرامة ما لا يقدر قدره فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان.
ثم أي مناسبة بين الصلب الذي هو من أعظم الذنوب سواء صلبوا المسيح أو المشبه به وبين تخليص هؤلاء من الشيطان، فإن الشيطان إن فعل ذلك بالذرية كان ظالما معتديا والله - عز وجل - قادر على منعه من ظلمهم بل وعلى عقوبته إذا لم ينته عن ظلمهم.
فلماذا أخر منعه من ظلمهم إلى زمن المسيح؟ وهو سبحانه ولي المؤمنين وناصرهم ومؤيدهم وهم رسله الذين نصرهم على من عاداهم بل أهلك أعداءهم الذين هم جند الشيطان فكيف لا يمنع الشيطان بعد موتهم أن يظلمهم ويجعل أرواحهم في جهنم هذا إن قدر أن الشيطان كان قادرا على ذلك وكيف يجوز أن يجعل الشيطان بعد موت أنبيائه وأوليائه وسقوط التكليف عنهم واستحقاقهم كرامته وإحسانه وجنته بحكم وعده ومقتضى حكمته فجعله مسلطا على حبسهم في جهنم؟!.
وإن قالوا: الرب - عز وجل - ما كان يقدر على تخليصهم من الشيطان مع علمه بأنه ظالم معتد عليهم بعد الموت إلا بأن يحتال عليه بإخفاء نفسه ليتمكن الشيطان منه ; كما يزعمون فهذا مع ما فيه من الكفر العظيم وجعل الرب سبحانه عاجزا ; كما جعلوه أولا ظالما فيه من التناقض ما يقتضي عظيم جهلهم الذي جعلوا به الرب جاهلا، فإنهم يقولون أنه احتال على الشيطان ليأخذه بعدل ; كما احتال الشيطان على آدم بالحية فاختفى منه لئلا يعلم أنه ناسوت الإله وناسوت الإله لم يعمل خطيئة قط بخلاف غيره.
فلما أراد الشيطان أخذ روحه ليحبسه في جهنم كسائر من مضى وهو لم يعمل خطيئة استحق الشيطان أن يأخذه الرب ويخلص الذرية من حبسه.
وهذا تجهيل منهم للرب - سبحانه وتعالى - عما يقولون مع تعجيزه وتظليمه، فإنه إن كان هو سلط الشيطان على بني آدم كما يقولون. فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره إذ الجميع بني آدم، وأيضا فإذا قدر أن الناسوت يدفع الشيطان عن نفسه بحق، فإنهم يقولون أنه دخل الجحيم وأخرج منه ذرية آدم.
فيقال: إن كان تسلط الشيطان على حبسهم في الجحيم بحق لأجل ذنوبهم مع ذنب أبيهم لم يجز إخراجهم لأجل سلامة ناسوت المسيح من الذنب وإن كانوا مظلومين مع الشيطان وجب تخليصهم قبل صلب الناسوت ولم يجز تأخير ذلك فليس في مجرد سلامة المسيح من الذنوب ما يوجب سلامة غيره وإن قالوا إنه كان بدون تسلطه على صلبه عاجزا عن دفعه فهو مع تسلطه على صلبه أعجز وأعجز.
الأصل الثاني: الفاسد الذي بنوا عليه سؤالهم الذي جعلوه من جهة المسلمين وجوابهم ظنهم أن المسلمين يقولون: إن هذه الكتب حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة منها بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا مما لا يقوله المسلمون، ولكن قد يقول بعضهم: أنه حرف بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ بعض النسخ، فإن الجمهور الذين يقولون إن بعض ألفاظها حرفت منهم من يقول كان هذا قبل المبعث.
ومنهم من يقول كان بعده ومنهم من يثبت الأمرين أو يجوزهما، ولكن لا يقول: إنه حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة في مشارق الأرض ومغاربها، كما حكاه هذا الحاكي عنهم، ولكن علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب متفقون على وقوع التحريف في المعاني والتفسير.
وإن كانت كل طائفة تزعم أن الأخرى هي التي حرفت المعاني.
وأما ألفاظ الكتب فقد ذهبت طائفة من علماء المسلمين إلى أن ألفاظها لم تبدل ; كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب.
وذهب كثير من علماء المسلمين وأهل الكتاب إلى أنه بدل بعض ألفاظها.
وهذا مشهور عند كثير من علماء المسلمين وقاله أيضا كثير من علماء أهل الكتاب.
حتى في صلب المسيح ذهبت طائفة من النصارى إلى أنه إنما صلب الذي شبه بالمسيح ; كما أخبر به القرآن وإن الذين أخبروا بصلبه كانوا قد أخبروا بظاهر الأمر، فإنه لما ألقي شبهه على المصلوب ظنوا أنه هو المسيح أو تعمدوا الكذب، ثم هؤلاء منهم الذين يقولون: إن في ألفاظ الكتب ما هو مبدل.
وفيهم من يجعل المبدل من التوراة والإنجيل كثيرا منهما وربما جعل بعضهم المبدل أكثرهما لا سيما الإنجيل، فإن الطعن فيه أكثر وأظهر منه في التوراة.
ومن هؤلاء من يسرف حتى يقول: أنه لا حرمة لشيء منهما بل يجوز الاستنجاء بهما.
ومنهم من يقول الذي بدلت ألفاظه قليل منهما وهذا أظهر.
والتبديل في الإنجيل أظهر، بل كثير من الناس يقول هذه الأناجيل ليس فيها من كلام الله إلا القليل.
والإنجيل الذي هو كلام الله ليس هو هذه الأناجيل.
(وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (159)
[فصل: تكريم الإسلام للمسيح عبد الله ورسوله]
قالوا: ولما تقدم به القول لأنه غير لائق عند ذوي الألباب أن نهمل روح القدس وكلمة الله الذي شهد لهما في هذا الكتاب بالعظائم، فقال عن كلمة الله:
{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} [النساء: 159].
والجواب:
إن الله - تعالى - لم يبعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بإهمال ما يجب من حق المسيح - عليه السلام -، بل أمره بالإيمان بالمسيح وبما جاء به، كما أمره بالإيمان بموسى وبما جاء به وكما أمر المسيح بالإيمان بموسى وبما جاء به ولكنه أمر بإهمال ما ابتدع من الدين الذي لم يشرعه الله على لسان المسيح - عليه السلام -، وما نسخه الله من شرعه على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيهمل المبدل والمنسوخ كما أمر الله المسيح أن يهمل ما ابتدعته اليهود من الدين الذي لم يشرعه، وما نسخه من شرع موسى.
فكما أمر المسيح أن يهمل المبدل والمنسوخ من التوراة التي جاء بها موسى - عليه السلام -، ولم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق التوراة وموسى - عليه السلام -، فكذلك إذا أهمل المبدل والمنسوخ من دين أهل الإنجيل، لم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق الإنجيل والمسيح، بل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - يتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل، وأن لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون كما قال - تعالى -:
{قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136].
والنصارى كاليهود، آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فأيما هو اللائق عند أولي الألباب، أن نؤمن بجميع كتب الله ورسله، أو نؤمن ببعض ونكفر ببعض وأيما هو اللائق عند أولي الألباب أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، ونعبده بما شرعه على لسان رسوله، أو نبتدع من الشرك والعبادات المبتدعة ما لم ينزل به الله كتابا ولا بعث به رسولا ونضاهي المشركين عباد الأوثان؟
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 235)
من صــ 220 الى صـ 230
قال - تعالى -:
{وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30].
وقال - تعالى -:
{قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].
فالمسلمون لم يهملوا روح القدس، وكلمة الله، وقد قال - تعالى - عن كلمة الله:
{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159].
، بل هم الذين اتبعوا دينه ودين الرسل قبله فإن دين الأنبياء - عليهم السلام - جميعهم واحد كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد.
وقد قال - تعالى -:
{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13].
فدين المرسلين كلهم دين واحد، ويتنوع شرعهم ومناهجهم كتنوع شريعة الرسول الواحد، فإن دين المسيح هو دين موسى، وهو دين الخليل قبلهما، ودين محمد بعدهما، مع أن المسيح كان على شريعة التوراة ثم نسخ الله على لسانه ما نسخ منها وهو قبل النسخ وبعده دينه دين موسى ولم يهمل دين موسى.
كذلك المسلمون هم على دين المسيح وموسى وإبراهيم وسائر الرسل وهم الذين اتبعوا المسيح ولهذا جعلهم الله فوق النصارى إلى يوم القيامة.
والنصارى الذين بدلوا دين المسيح وكذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بريئون من دين المسيح والمسيح بريء منهم، كبراءة موسى ممن بدل وغير دينه وكذب المسيح.
والمسلمون أشد تعظيما للمسيح - عليه السلام - واتباعا له بالحق ممن بدل دينه وخالفه من النصارى، فإن المسلمين يصدقونه في كل ما أخبر به عن نفسه ولا يحرفون ما قاله عن مواضعه، ولا يفسرون كلامه بغير مراده، وكلام غيره من الأنبياء كما فعلت النصارى، فإنهم نقلوا عن المسيح أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس، وهذا إذا قاله المسيح فإنه يفسر بلغته وعادته في خطابه وعادة سائر الأنبياء، (وليس في كلام المسيح ولا في كلام سائر الأنبياء ولا كلام غيرهم أن كلمة الله) القائمة بذاته سبحانه و - تعالى - تسمى ابنا، ولا روح قدس، ولا تسمى صفته القديمة ابنا، ولا روح قدس، ولا يوجد قط في كلام الأنبياء اسم الابن واقعا إلا على مخلوق.
والمراد في تلك اللغة أنه مصطفى محبوب لله، كما ينقلونه أنه قال لإسرائيل: (أنت ابني بكري)، ولداود (أنت ابني وحبيبي)، وأن المسيح قال للحواريين (أبي وأبيكم)، فجعله أبا للجميع، وهم كلهم مخلوقون فيكون اسم الابن واقعا على المسيح الذي هو ناسوت مخلوق، فعمد هؤلاء الضلال فجعلوا اسم الابن واقعا على اللاهوت، قديم أزلي مولود غير مخلوق.
وزعموا أن الابن يراد به الابن بالوضع، وهو المخلوق، وهو الابن بالطبع، وهو القديم الأزلي المولود غير المخلوق، وهذا التفريق هم أحدثوه وابتدعوه ولا يوجد قط في كلام المسيح ولا غيره أنه سمى القديم الأزلي ابنا، ولا جعل له ابنا قديما مولودا غير مخلوق، ولا سمى شيئا من صفات الله قط ابنا.
وكذلك لفظ روح القدس موجود في غير موضع من كلام الأنبياء - عليهم السلام - لا يراد بهذا قط حياة الله ولا صفة قائمة به.
وإنما يراد به ما أيد الله به الأنبياء والأولياء، ويجعله في قلوبهم من هداه ونوره ووحيه وتأييده، ومما ينزل بذلك من الملائكة، وهذا الذي تسميه الأنبياء روح القدس لم يختص به المسيح، باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل قد أنزله على غيره من الأنبياء والصالحين كما هو موجود في كتبهم: إن روح القدس كانت في داود وغيره، وكانت أيضا عندهم في الحواريين.
وهكذا خاتم الرسل، كان يقول لحسان بن ثابت: «إن روح القدس معك ما دمت تدافع عن نبيه»، ويقول «اللهم أيده بروح القدس».
وقد قال الله - تعالى - عن عباده المؤمنين:
{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22].
فروح القدس لا اختصاص للمسيح - عليه السلام - بها، بل ما يفسر به اسم الابن واسم روح القدس، وغير ذلك مما وصف به المسيح فهو مشترك بينه وبين غيره من الرسل، وإذا فسروا الحلول بظهور نور الله وعلمه وهداه في الأنبياء فهذا حق وهو مشترك بين المسيح وغيره.
فأما نفس ذات الله فلم تحل في أحد من البشر.
والمسلمون مع شهادتهم للمسيح بأنه عبد الله ورسوله يقولون: إنه مؤيد منصور عصمه الله من أعدائه وطهره منهم، ولم يسلطهم عليه.
والنصارى يدعون أن اسم المسيح اسم اللاهوت والناسوت وأنه إله تام وإنسان تام، وهذا يمتنع شرعا وعقلا ثم يصفونه بالصفات المتناقضة، يصفونه بأن طائفة من أشرار اليهود وضعوا الشوك على رأسه وبصقوا في وجهه، وأهانوه وصلبوه وفعلوا به ما لا يفعل بأخس الناس، ويقولون مع هذا: إنه رب السماوات والأرض وما بينهما.
(فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (160)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وكذلك من قال من العلماء: إنه حرم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه. فجمهور العلماء على خلاف هذا القول كمالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه ولكن الخرقي وطائفة منهم وافقوا الشافعي على هذا القول وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء وما كان عليه الصحابة والتابعون أن التحليل والتحريم لا يتعلق باستطابة العرب ولا باستخباثهم؛ بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله؛ كالدم والميتة؛ والمنخنقة والموقوذة؛ والمتردية والنطيحة؛ وأكيلة السبع؛ وما أهل به لغير الله وكانوا - بل خيارهم - يكرهون أشياء لم يحرمها الله حتى لحم الضب كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه وقال: {لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه} وقال مع هذا: " إنه ليس بمحرم " وأكل على مائدته وهو ينظر وقال فيه: " لا آكله ولا أحرمه ". وقال جمهور العلماء: الطيبات التي أحلها الله ما كان نافعا لآكله في دينه والخبيث ما كان ضارا له في دينه. وأصل الدين العدل الذي بعث الله الرسل بإقامته فما أورث الأكل بغيا وظلما حرمه كما حرم كل ذي ناب من السباع. لأنها باغية عادية والغاذي شبيه بالمغتذي فإذا تولد اللحم منها صار في الإنسان خلق البغي والعدوان.
وكذلك الدم يجمع قوى النفس من الشهوة والغضب فإذا اغتذى منه زادت شهوته وغضبه على المعتدل ولهذا لم يحرم منه إلا المسفوح بخلاف القليل فإنه لا يضر. ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة؛ إذ كان أعظم الحيوان في أكل كل شيء لا يعاف شيئا والله لم يحرم على أمة محمد شيئا من الطيبات وإنما حرم ذلك على أهل الكتاب كما قال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وقال تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون}.
وأما المسلمون فلم يحرم عليهم إلا الخبائث كالدم المسفوح فأما غير المسفوح كالذي يكون في العروق فلم يحرمه بل ذكرت عائشة أنهم كانوا يضعون اللحم في القدر فيرون آثار الدم في القدر؛ ولهذا عفا جمهور الفقهاء عن الدم اليسير في البدن والثياب إذا كان غير مسفوح وإذا عفي عنه في الأكل ففي اللباس والحمل أولى أن يعفى عنه.
(إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق-:
وقد فرق سبحانه بين إيحائه إلى غير موسى وبين تكليمه لموسى في قوله تعالى {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} إلى قوله: {حجة بعد الرسل} فرق سبحانه بين تكليمه لموسى وبين إيحائه لغيره ووكد تكليمه لموسى بالمصدر وقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} إلى قوله: {بروح القدس} وقال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا} إلى آخر السورة. فقد بين سبحانه أنه لم يكن لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد الأوجه الثلاثة: إما وحيا وإما من وراء حجاب وإما أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء؛ فجعل الوحي غير التكليم والتكليم من وراء حجاب كان لموسى.
وقد أخبر في غير موضع أنه ناداه كما قال: {وناديناه من جانب الطور} الآية. وقال: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن} الآية. و " النداء " باتفاق أهل اللغة لا يكون إلا صوتا مسموعا فهذا مما اتفق عليه سلف المسلمين وجمهورهم. وأهل الكتاب يقولون: إن موسى ناداه ربه نداء سمعه بأذنه وناداه بصوت سمعه موسى والصوت لا يكون إلا كلاما والكلام لا يكون إلا حروفا منظومة وقد قال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} وقال: {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} وقال: {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}
فقد بين في غير موضع أن الكتاب والقرآن العربي منزل من الله. وهذا معنى قول السلف: منه بدأ قال أحمد بن حنبل رحمه الله منه بدأ أي هو المتكلم به فإن الذين قالوا إنه مخلوق قالوا خلقه في غيره فبدا من ذلك المخلوق فقال السلف: منه بدأ أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره فيكون كلاما لذلك المحل الذي خلقه فيه فإن الله تعالى إذا خلق صفة من الصفات في محل كانت الصفة صفة لذلك المحل ولم تكن صفة لرب العالمين فإذا خلق طعما أو لونا في محل كان ذلك المحل هو المتحرك المتلون به وكذلك إذا خلق حياة أو إرادة أو قدرة أو علما أو كلاما في محل كان ذلك المحل هو المريد القادر العالم المتكلم بذلك الكلام ولم يكن ذلك المعنى المخلوق في ذلك المحل صفة لرب العالمين وإنما يتصف الرب تعالى بما يقوم به من الصفات لا بما يخلقه في غيره من المخلوقات فهو الحي العليم القدير السميع البصير الرحيم المتكلم بالقرآن وغيره من الكلام بحياته وعلمه وقدرته وكلامه القائم به لا بما يخلقه في غيره من هذه المعاني.
ومن جعل كلامه مخلوقا لزمه أن يقول المخلوق هو القائل لموسى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} وهذا ممتنع لا يجوز أن يكون هذا كلاما إلا لرب العالمين وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن والتوراة وغير ذلك من الكتب بمعانيها وألفاظها المنتظمة من حروفها لم يكن شيء من ذلك مخلوقا؛ بل كان ذلك كلاما لرب العالمين. وقد قيل للإمام أحمد بن حنبل: إن فلانا يقول لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر فقال: هذا كفر. فأنكر على من قال إن الحروف مخلوقة؛ لأنه إذا كان جنس الحروف مخلوقا لزم أن يكون القرآن العربي والتوراة العبرية وغير ذلك مخلوقا وهذا باطل مخالف لقول السلف والأئمة مخالف للأدلة العقلية والسمعية كما قد بسط في غير هذا الموضع.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
ومن قال إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلا من وجوه: " منها " أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قد كتب التوراة لموسى بيده فبنو إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه هو سبحانه وتعالى فيه فإن كان محمد أخذه عن جبريل وجبريل عن الكتاب كان بنو إسرائيل أعلى من محمد بدرجة. وكذلك من قال إنه ألقى إلى جبريل المعاني وأن جبريل عبر عنها بالكلام العربي فقوله يستلزم أن يكون جبريل ألهمه إلهاما وهذا الإلهام يكون لآحاد المؤمنين.
كما قال تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} وقال: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} وقد أوحى إلى سائر النبيين فيكون هذا الوحي الذي يكون لآحاد الأنبياء والمؤمنين أعلى من أخذ محمد القرآن عن جبريل؛ لأن جبريل الذي علمه لمحمد هو بمنزلة الواحد من هؤلاء؛ ولهذا زعم ابن عربي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وقال: لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول. فجعل أخذه وأخذ الملك الذي جاء إلى الرسول من معدن واحد وادعى أن أخذه عن الله أعلى من أخذ الرسول للقرآن ومعلوم أن هذا من أعظم الكفر وأن هذا القول من جنسه.
وأيضا فالله تعالى يقول: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} إلى قوله: {وكلم الله موسى تكليما} ففضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم وهذا يدل على أمور: على أن الله يكلم عبده تكليما زائدا عن الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص فإن
لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلى عام وخاص فالتكليم هو المقسوم في قوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا} والتكليم المطلق هو قسيم الوحي الخاص ليس هو قسما منه وكذلك لفظ الوحي قد يكون عاما فيدخل فيه التكليم الخاص كما في قوله لموسى: {فاستمع لما يوحى} وقد يكون قسيم التكليم الخاص كما في سورة الشورى وهذا يبطل قول من يقول الكلام معنى واحد قائم بالذات فإنه حينئذ لا فرق بين التكليم الذي خص به موسى والوحي العام الذي يكون لآحاد العباد. ومثل هذا قوله في الآية الأخرى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} فإنه فرق بين الإيحاء وبين التكليم من وراء الحجاب وبين إرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء فدل على أن التكليم من وراء حجاب - كما كلم موسى - أمر غير الإيحاء.
وأيضا فقوله: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} وقوله: {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} وقوله: {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} وأمثال ذلك يدل على أنه منزل من الله لا من غيره. وكذلك قوله {بلغ ما أنزل إليك من ربك} فإنه يدل على إثبات أن ما أنزل إليه من ربه وأنه مبلغ مأمور بتبليغ ذلك.
وأيضا فهم يقولون: إنه معنى واحد فإن كان موسى سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله وإن سمع بعضه فقد تبعض وكلاهما ينقض قولهم؛ فإنهم يقولون: إنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض فإن كان ما يسمعه موسى والملائكة هو ذلك المعنى كله كان كل منهم علم جميع كلام الله وكلامه متضمن لجميع خبره وجميع أمره فيلزم أن يكون كل واحد ممن كلمه الله أو أنزل عليه شيئا من كلامه عالما بجميع أخبار الله وأوامره وهذا معلوم الفساد بالضرورة. وإن كان الواحد من هؤلاء إنما يسمع بعضه فقد تبعض كلامه وذلك يناقض قولهم.
وأيضا فقوله: {وكلم الله موسى تكليما} وقوله: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} وقوله: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} وقوله: {فلما أتاها نودي يا موسى} {إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى} {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} الآيات. دليل على تكليم سمعه موسى. والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة ومن قال إنه يسمع فهو مكابر ودليل على أنه ناداه والنداء لا يكون إلا صوتا مسموعا ولا يعقل في لغة العرب لفظ النداء بغير صوت مسموع لا حقيقة ولا مجازا.
وأيضا فقد قال تعالى: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين} وقوله: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} وقال: {هل أتاك حديث موسى} {إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى} وقال: {فلما أتاها نودي يا موسى} {إني أنا ربك} وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي ولم يناد قبل ذلك؛ ولما فيها من معنى الظرف كما في قوله: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} ومثل هذا قوله: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} فإنه وقت النداء بظرف محدود فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه.
ومثل هذا قوله تعالى {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} وقوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين فإن الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته؛ بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته. ثم من هؤلاء من قال إنه معنى واحد؛ لأن الحروف والأصوات متعاقبة يمتنع أن تكون قديمة.
ومنهم من قال: بل الحروف والأصوات قديمة الأعيان وأنها مترتبة في ذاتها متقاربة في وجودها لم تزل ولا تزال قائمة بذاته والنداء الذي سمعه موسى قديم أزلي لم يزل ولا يزال. ومنهم من قال: بل الحروف قديمة الأعيان بخلاف الأصوات وكل هؤلاء يقولون: إن التكليم والنداء ليس إلا مجرد خلق إدراك المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ولا تكليم؛ بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعا لما كان موجودا قبل سمعه بمنزلة جعل الأعمى بصيرا لما كان موجودا قبل رؤيته من غير إحداث شيء منفصل عن الأعمى.
فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي. ولهذا يقولون: إنه يسمع كلامه لخلقه يدل عن قول الناس إنه يكلم خلقه وهؤلاء يردون على الخلقية الذين يقولون القرآن مخلوق ويقولون عن أنفسهم إنهم أهل السنة الموافقون للسلف الذين قالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وليس قولهم قول السلف؛ لكن قولهم أقرب إلى قول السلف من وجه وقول الخلقية أقرب إلى قول السلف من وجه. أما كون قولهم أقرب فلأنهم يثبتون لله كلاما قائما بنفس الله وهذا قول السلف؛ بخلاف الخلقية الذين يقولون: ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره فإن قول هؤلاء مخالف لقول السلف.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 236)
من صــ 231 الى صـ 245
وأما كون قول الخلقية أقرب فلأنهم يقولون إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وهذا قول السلف وهؤلاء عندهم لا يقدر الله على شيء من كلامه وليس كلامه بمشيئته واختياره بل كلامه عندهم كحياته وهم يقولون: الكلام عندنا صفة ذات لا صفة فعل. والخلقية يقولون صفة فعل لا صفة ذات ومذهب السلف أنه صفة ذات وصفة فعل معا فكل منهما موافق للسلف من وجه دون وجه. واختلافهم في كلام الله تعالى شبيه اختلافهم في أفعاله تعالى ورضاه وغضبه وإرادته وكراهته وحبه وبغضه وفرحه وسخطه ونحو ذلك. فإن هؤلاء يقولون هذه كلها أمور مخلوقة بائنة عنه ترجع إلى الثواب والعقاب. والآخرون يقولون بل هذه كلها أمور قديمة الأعيان قائمة بذاته.
ثم منهم من يجعلها كلها تعود إلى إرادة واحدة بالعين متعلقة بجميع المخلوقات. ومنهم من يقول: بل هي صفات متعددة الأعيان لكن يقول: كل واحدة واحدة العين قديمة قبل وجود مقتضياتها كما قالوا مثل ذلك في الكلام والله تعالى يقول: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه} فأخبر أن أفعالهم أسخطته قال تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} أي أغضبونا. وقال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} إلى أمثال ذلك مما يبين أنه سخط على الكفار لما كفروا ورضي عن المؤمنين لما آمنوا.
[فصل: بيان معنى قوله وكلم الله موسى تكليما]
قالوا: وقال أيضا: {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164].
فيقال لهم: وأي حجة لكم في هذا، وإنما هو حجة عليكم، فإنه قد ثبت أن الله كلم موسى تكليما، وكلام الله الذي سمعه منه موسى عليه السلام، ليس هو المسيح فعلم أن المسيح ليس هو كلام الله، وعندهم هو كلمة الله، وهو علم الله، وهو الله.
ومعلوم أن كلام الله كثير كالتوراة والإنجيل والقرآن، وغير ذلك من كلامه، وليس المسيح شيئا من ذلك، والمسيح عندهم خالق، ولو كان المسيح نفس كلام الله لم يكن خالقا ولا معبودا، فإن كلام الله لم يخلق السماوات والأرض، ولا كلام الله هو الإله المعبود، بل كلامه كسائر صفاته مثل حياته وقدرته، ولا يقول أحد: يا علم الله اغفر لي، ولا يا كلام الله اغفر لي، وإنما يعبد ويدعى الإله الموصوف بالعلم، والقدرة، والكلام الذي كلم به موسى تكليما.
(ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وأما قوله - تعالى -: {ولا تقولوا ثلاثة} [النساء: 171] وقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73].
فقد فسروه بالتثليث المشهور عنهم المذكور في أمانتهم ومن الناس من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم قول اليعقوبية وقولهم ثالث ثلاثة هو قول النصارى الذين يقولون بالآب والابن والروح القدس وهم قد جعلوا الله فيها ثالث ثلاثة وسموا كل واحد من الثلاثة بالإله والرب وقد فسره طائفة بجعلهم عيسى وأمه إلهين يعبدان من دون الله.
قال السدي في قوله - تعالى -:
{لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73].
قال: قالت النصارى إن الله هو المسيح وأمه فذلك قوله: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] وقد قيل قول ثالث أغرب من ذلك عن أبي صخر قال {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] قال: هو قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا ضعيف وقد ذكر سعيد بن البطريق في أخبار النصارى أن منهم طائفة يقال لهم المريميون يقولون إن مريم إله وإن عيسى إله.
وأما الأول فمتوجه، فإن النصارى المتفقين على الأمانة كلهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة والله تعالى قد نهاهم عن أن يقولوا ذلك فقال - تعالى -: {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171] فذكر سبحانه في هذه الآية التثليث والاتحاد ونهاهم عنهما وبين أن المسيح إنما هو رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
وقال: {فآمنوا بالله ورسله} [النساء: 171] ثم قال {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171]لم يذكر هنا أمه. وقوله - تعالى -: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] قال: معمر عن قتادة وكلمته ألقاها إلى مريم هو قوله: كن فكان.
وكذلك قال: قتادة ليس الكلمة صار عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى.
وكذلك قال: الإمام أحمد في مصنفه الذي صنفه في كتابه في الرد على الجهمية وذكره عنه الخلال والقاضي أبو يعلى قال: أحمد ثم إن الجهم ادعى أمرا فقال: إنا وجدنا في كتاب الله آية تدل على أن القرآن مخلوق قلنا: أي آية قال: قول الله {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته} [النساء: 171] فقلنا: إن الله منعكم الفهم في القرآن عيسى - عليه السلام - تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن ; لأن عيسى يجري عليه نسمة ومولود وطفل وصبي وغلام يأكل ويشرب وهو يخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال عيسى؟ ولكن المعنى في قوله - جل ثناؤه - {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171] فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال: له كن فكان عيسى بـ كن وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان فالكن من الله قوله: وليس الكن مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته ; لأن الكلمة مخلوقة.
وقالت النصارى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة.
قال أحمد وأما قوله - جل ثناؤه - {وروح منه} [النساء: 171] يقول من أمره كان الروح فيه كقوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية: 13] يقول من أمره، وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقهم الله كما يقال: عبد الله وسماء الله، وفي نسخة روح يملكها الله خلقها الله.
وقال: الشعبي في قوله - تعالى -:
{وكلمته ألقاها إلى مريم} [النساء: 171] الكلمة حين قال: له كن فكان عيسى بـ " كن " وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان.
وقال: ليث عن مجاهد روح منه قال: رسول منه يريد مجاهد قوله: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] (17) {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] (18) {قال إنما أنا رسول ربك} [مريم: 19]
والمعنى أن عيسى خلق من الروح وهو جبريل روح القدس سمي روحا كما سمي كلمة ; لأنه خلق بالكلمة والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس ; لأنه كذلك في الكتب المتقدمة لكن ظنوا أن روح القدس هو صفة لله وجعلوها حياته وقدرته وهو رب، وهذا غلط منهم، فإنه لم يسم أحد من الأنبياء حياة الله ولا قدرته ولا شيئا من صفاته روح القدس، بل روح القدس في غير موضع من كلام الأنبياء - عليهم السلام - يراد بها ما ينزله الله على قلوب الأنبياء كالوحي والهدى والتأييد ويراد بها الملك وهكذا في تفسير ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه فلما سمع عيسى ذلك قال اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي وذكر تمام الحديث.
وقد قال - تعالى -: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91] وقال - تعالى -: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: 12] فهذا يوافق قوله - تعالى -: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] {قال إنما أنا رسول ربك} [مريم: 19].
[فصل: بيان المعنى الصحيح لروح الله]
قالوا: وقوله: على لسان أيوب الصديق روح الله خلقني وهو يعلمني.
فيقال هذا لا حجة فيه لأنكم ادعيتم أن الأنبياء سمت حياة الله روح القدس، وهذا لم يقل روح القدس، بل قال روح الله.
وروح الله يراد بها الملك الذي هو روح اصطفاه الله فأحبها، كما قال في القرآن:
{فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17] (17) {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [مريم: 18] (18) {قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} [مريم: 19].
فقد أخبر أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا، وتبين أنه رسوله.
فعلم أن المراد بالروح ملك، هو روح اصطفاها فأضافها إليه، كما يضاف إليه الأعيان التي خصها بخصائص يحبها.
كقوله: {ناقة الله وسقياها} [الشمس: 13].
وقوله: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} [الحج: 26].
وقوله: {عينا يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 6].
والمضاف إلى الله إن كان صفة لم تقم بمخلوق كالعلم والقدرة والكلام والحياة، كان صفة له، وإن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة لغيره، كالبيت والناقة والعبد والروح، كان مخلوقا مملوكا مضافا إلى خالقه ومالكه، ولكن الإضافة تقتضي اختصاص المضاف بصفات تميز بها عن غيره، حتى استحق الإضافة، كما اختصت الكعبة والناقة والعباد الصالحون بأن يقال فيهم (بيت الله) و (ناقة الله) و (عباد الله)، كذلك اختصت الروح المصطفاة بأن يقال لها روح الله.
بخلاف الأرواح الخبيثة كأرواح الشياطين والكفار، فإنها مخلوقة لله، ولا تضاف إليه إضافة الأرواح المقدسة، كما لا تضاف إليه الجمادات كما تضاف الكعبة، ولا نوق الناس، كما تضاف ناقة صالح التي كانت آية من آياته.
كما قال - تعالى -: {هذه ناقة الله لكم آية} [الأعراف: 73].
وإذا كان كذلك فهذا اللفظ إن كان ثابتا عن النبي وترجم ترجمة صحيحة، فقد يكون معناه أن الملك صورني في بطن أمي، وهو يعلمني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أو أنثى، فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقول ربك ما يشاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزاد على أمر ولا ينقص» رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري.
وقد يقال: من هذا قوله في الزبور في مزمور الخليقة: ترسل روحك فيخلقون، وفي المزمور أيضا هو قال: فكانوا وأمر فخلقوا فقد يضاف الخلق إلى الملك.
ومن هذا الباب قوله - تعالى -:
{أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله} [آل عمران: 49].
فأخبره أنه يخلق من الطين كهيئة الطير طيرا بإذن الله، وكذلك الملك يخلق النطفة في الرحم بإذن الله.
ولا يجوز أن يريد به أن حياة الله خلقتني وتعلمني، فإن الصفة لا تخلق ولا تعلم، إنما يخلق ويعلم الرب الموصوف الذي خلق الإنسان من علق، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، ولكن هو سبحانه يخلق بواسطة الملائكة، فإن الملائكة رسل الله في الخلق، فجاز أن يضاف الفعل إلى الوسائط تارة، وإلى الرب أخرى، وهذا موجود في الكتب الإلهية في غير موضع كما في القرآن:
{الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42].
وفي موضع آخر:
{حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} [الأنعام: 61].
وفي موضع ثالث:
{قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} [السجدة: 11].
والجميع حق، فإذا وجد لفظ له معنى في كلام بعض الأنبياء، ولم يوجد له معنى يخالف ذلك من كلامهم، كان حمله على ذلك المعنى أولى من حمله على معنى يخالف كلامهم، ولا يوجد في كلامهم أن حياة الله تسمى روحا، ولا أن صفات الله تخلق المخلوقات.
[فصل: بيان المعنى الصحيح لكلمة الله]
قالوا: وقوله: على لسان أشعيا النبي: (ييبس القتاد، ويجف العشب، وكلمته باقية إلى الأبد).
فيقال: إما أن يريد بكلمة الله علمه، أو كلمة معينة، أو تكون كلمة الله اسم جنس، وعلى التقديرات الثلاثة لا حجة لكم في ذلك، فإنه إن كان كلمة الله اسم جنس لكل ما تكلم الله به كما قال:
{وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} [التوبة: 40].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم: - «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»
ولهذا جمعها في قوله - تعالى -:
{وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115].
وفي قوله:
{قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف: 109].
فالمراد بذلك أن ما قاله الله فهو حق ثابت لا يبطل.
كما قال - تعالى -:
{وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف: 137].
يعني بتمامها نفاذ ما وعدهم به من النصر على فرعون، وإهلاكه، وإخراجهم إلى الشام.
وقال - تعالى -:
{وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115].
ومنه قوله:
{واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته} [الكهف: 27].
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 237)
من صــ 246 الى صـ 260
وقوله:
{سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} [الفتح: 15].
ومن هذا الباب قول المسيح السماء والأرض يزولان، وكلامي لا يزول، فإن أراد علم الله، فعلم الله باق سواء أراد به علمه القائم بذاته أو معلومه الذي أخبر ببقائه فلا حجة لكم فيه، وكذلك إن أراد كلمة معينة فإن المسيح عندكم ليس كلمة معينة من كلامه، بل هو عندكم هو الكلمة وهو الله الخالق وليس في هذا اللفظ ما يدل على أنه أراد بالكلمة المسيح والمسيح عندكم أزلي أبدي لا يوصف بالبقاء دون القدم ولو قدر أنه أراد بالكلمة المسيح فنحن لا ننكر أنه يسمى بالكلمة، لأنه قال له: كن فكان، كما سيأتي بيان ذلك، ويريد بذلك إما بقاؤه إلى أن ينزل إلى الأرض، وإما أن يريد بقاء ذكره والثناء عليه، ولسان صدق له إلى آخر الزمان.
ومما يوضح هذا وأنه ليس المراد به ما يدعونه، أنه قال: وكلمة الله باقية إلى الأبد فوصفها بالبقاء دون القدم.
وعندهم أن الكلمة المولودة من الأب قديمة أزلية لم تزل ولا تزال ومثل هذا لا يحتاج أن يوصف بالدوام والبقاء، بخلاف ما وعد به من النعيم والرحمة والثواب، فإنه يوصف بالبقاء والدوام كما في القرآن: {أكلها دائم} [الرعد: 35] وقوله: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} [ص: 54].
وفي الزبور: اعترفوا للرب، فإنه صالح، وإنه إلى الأبد رحمته.
[فصل: نقض دعواهم أن القرآن أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت]
قالوا: وقد جاء في هذا الكتاب الذي جاء به هذا الإنسان يقول:
{إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171]
. وهذا يوافق قولنا: إذ قد شهد أنه إنسان مثلنا، أي بالناسوت الذي أخذ من مريم، وكلمة الله وروحه المتحدة فيه، وحاشا أن تكون كلمة الله وروحه الخالقة مثلنا نحن المخلوقين، وأيضا قال في سورة النساء:
{وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157]
. فأشار بهذا القول إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله التي لم يدخل عليها ألم ولا عرض، وقال أيضا:
{ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} [آل عمران: 55]
. وقال في سورة المائدة عن عيسى أنه قال:
{وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117].
فأعنى بموته عن موت الناسوت الذي أخذ من مريم العذراء.
وقال أيضا في سورة النساء:
{وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه} [النساء: 157].
فأشار بهذا إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله الخالقة، وعلى هذا القياس نقول: إن المسيح صلب وتألم بناسوته، ولم يصلب ولا تألم بلاهوته.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال: دعواهم على محمد صلى الله عليه وسلم أنه أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت، كما يزعمه هؤلاء النصارى فيه، هو من الكذب الواضح المعلوم على محمد صلى الله عليه وسلم الذي يعلم من دينه بالاضطرار، كما يعلم من دينه تصديق المسيح عليه السلام وإثبات رسالته، فلو ادعى اليهود على محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان يكذب المسيح ويجحد رسالته، كان كدعوى النصارى عليه أنه كان يقول: إنه رب العالمين، وأن اللاهوت اتحد بالناسوت، ومحمد صلى الله عليه وسلم قد أخبر فيما بلغه عن الله عز وجل بكفر من قال ذلك، وبما يناقض ذلك في غير موضع كقوله تعالى:
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة: 17].
وقوله تعالى:
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار - لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم - أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم - ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون - قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم - قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 72 - 77]
. وقال تعالى:
{وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون - اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون - يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون - هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون - ياأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة: 30 - 34].
وقال تعالى:
{ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون - وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون - إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل - ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون - وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم - ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين - ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون - إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم - فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم} [الزخرف: 57 - 65]
وقال تعالى:
{وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب - ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 116 - 117]
فأخبر عن المسيح أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به، بقوله: أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكان عليهم شهيدا ما دام فيهم، وبعد وفاته كان الله هو الرقيب عليهم، فإذا كان بعضهم قد غلط في النقل عنه أو في تفسير كلامه، أو تعمد تغيير دينه لم يكن على المسيح عليه السلام من ذلك درك، وإنما هو رسول عليه البلاغ المبين.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن أول ما تكلم به المسيح أنه قال:
{قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا - وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا - وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا} [مريم: 30 - 32].
ثم طلب لنفسه السلام فقال:
{والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} [مريم: 33].
والنصارى يقولون: (علينا منه السلام) كما تقوله الغالية فيمن يدعون فيه الإلآهية كالنصيرية في علي، والحاكمية في الحاكم.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الله لم يذكر أن المسيح مات ولا قتل إنما قال:
{ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55]
وقال المسيح:
{فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} [المائدة: 117]
وقال تعالى:
{فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا - وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما - وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا - بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما - وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا - فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا - وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما} [النساء: 155 - 161].
فذم الله اليهود بأشياء منها: قولهم على مريم بهتانا عظيما ; حيث زعموا أنها بغي، ومنها: قولهم: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} [النساء: 157].
قال تعالى:
{وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157].
وأضاف هذا القول إليهم وذمهم عليه.
ولم يذكر النصارى ; لأن الذين تولوا صلب المصلوب المشبه به هم اليهود، ولم يكن أحد من النصارى شاهدا هذا معهم، بل كان الحواريون خائفين غائبين، فلم يشهد أحد منهم الصلب، وإنما شهده اليهود وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح، والذين نقلوا أن المسيح صلب من النصارى وغيرهم، إنما نقلوه عن أولئك اليهود وهم شرط من أعوان الظلمة، لم يكونوا خلقا كثيرا يمتنع تواطؤهم على الكذب.
قال تعالى:
{وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} [النساء: 157]. فنفى عنه القتل، ثم قال:
{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159].
وهذا عند أكثر العلماء معناه قبل موت المسيح، وقد قيل قبل موت اليهودي وهو ضعيف، كما قيل: أنه قبل موت محمد صلى الله عليه وسلم وهو أضعف، فإنه لو آمن به قبل الموت لنفعه إيمانه به، فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
وإن قيل: المراد به الإيمان الذي يكون بعد الغرغرة، لم يكن في هذا فائدة، فإن كل أحد بعد موته يؤمن بالغيب الذي كان يجحده فلا اختصاص للمسيح به، ولأنه قال قبل موته، ولم يقل بعد موته، ولأنه لا فرق بين إيمانه بالمسيح وبمحمد صلوات الله عليهما وسلامه واليهودي الذي يموت على اليهودية يموت كافرا بمحمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام ولأنه قال:
{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159]
وقوله: {ليؤمنن به} [النساء: 159]
فعل مقسم عليه، وهذا إنما يكون في المستقبل، فدل ذلك على أن هذا الإيمان بعد إخبار الله بهذا، ولو أريد به قبل موت الكتابي لقال: وإن من أهل الكتاب إلا من يؤمن به، لم يقل: {ليؤمنن به} [النساء: 159]
وأيضا فإنه قال " وإن من أهل الكتاب " وهذا يعم اليهود والنصارى فدل ذلك على أن جميع أهل الكتاب اليهود والنصارى يؤمنون بالمسيح قبل موت المسيح وذلك إذا نزل آمنت اليهود والنصارى بأنه رسول الله ليس كاذبا كما تقول اليهود ولا هو الله كما تقوله النصارى.
والمحافظة على هذا العموم أولى من أن يدعى أن كل كتابي ليؤمنن به قبل أن يموت الكتابي، فإن هذا يستلزم إيمان كل يهودي ونصراني، وهذا خلاف الواقع، وهو لما قال:
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
دل على أن المراد بإيمانهم قبل أن يموت هو، علم أنه أريد بالعموم عموم من كان موجودا حين نزوله ; أي لا يتخلف منهم أحد عن الإيمان به، لا إيمان من كان منهم ميتا.
وهذا كما يقال: إنه لا يبقى بلد إلا دخله الدجال إلا مكة والمدينة، أي من المدائن الموجودة حينئذ، وسبب إيمان أهل الكتاب به حينئذ ظاهر، فإنه يظهر لكل أحد أنه رسول مؤيد ليس بكذاب ولا هو رب العالمين.
فالله تعالى ذكر إيمانهم به إذا نزل إلى الأرض، فإنه تعالى لما ذكر رفعه إلى الله بقوله:
{إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55]
وهو ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ويموت حينئذ أخبر بإيمانهم به قبل موته، كما قال تعالى في آية أخرى:
{إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل - ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون - وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم - ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين - ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون - إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم - فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم} [الزخرف: 59 - 65].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، وإماما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية». " وقوله تعالى:
{وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا - بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 157 - 158].
بيان أن الله رفعه حيا وسلمه من القتل، وبين أنهم يؤمنون به قبل أن يموت.
وكذلك قوله:
ومطهرك من الذين كفروا.
ولو مات لم يكن فرق بينه وبين غيره.
ولفظ التوفي في لغة العرب معناه: الاستيفاء والقبض، وذلك ثلاثة أنواع: أحدها: توفي النوم، والثاني: توفي الموت، والثالث: توفي الروح والبدن جميعا، فإنه بذلك خرج عن حال أهل الأرض الذين يحتاجون إلى الأكل والشرب واللباس والنوم، ويخرج منهم الغائط والبول، والمسيح عليه السلام توفاه الله وهو في السماء الثانية إلى أن ينزل إلى الأرض، ليست حاله كحالة أهل الأرض في الأكل والشرب واللباس والنوم، والغائط والبول، ونحو ذلك.
الوجه الثالث: قولهم: إنه عني بموته عن موت الناسوت، كان ينبغي لهم أن يقولوا على أصلهم: عني بتوفيته عن توفي الناسوت، وسواء قيل موته أو توفيته فليس هو شيئا غير الناسوت، فليس هناك شيء غيره لم يتوف، والله تعالى قال:{إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55]
فالمتوفى هو المرفوع إلى الله، وقولهم: إن المرفوع هو اللاهوت، مخالف لنص القرآن، لو كان هناك موت فكيف إذا لم يكن، فإنهم جعلوا المرفوع غير المتوفى، والقرآن أخبر أن المرفوع هو المتوفى. وكذلك قوله في الآية الأخرى:
{وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه} [النساء: 157].
هو تكذيب لليهود في قولهم:
{إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} [النساء: 157].
واليهود لم يدعوا قتل لاهوت، ولا أثبتوا لله لاهوتا في المسيح، والله تعالى لم يذكر دعوى قتله عن النصارى حتى يقال: إن مقصودهم قتل الناسوت دون اللاهوت، بل عن اليهود الذين لا يثبتون إلا الناسوت.
وقد زعموا أنهم قتلوه، فقال تعالى:
{وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه} [النساء: 157].
فأثبت رفع الذي قالوا إنهم قتلوه، وإنما هو الناسوت، فعلم أنه هو الذي نفي عنه القتل. وهو الذي رفع، والنصارى معترفون برفع الناسوت، لكن يزعمون أنه صلب، وأقام في القبر إما يوما وإما ثلاثة أيام، ثم صعد إلى السماء، وقعد عن يمين الرب الناسوت مع اللاهوت.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 238)
من صــ 261 الى صـ 280
وقوله تعالى:
{وما قتلوه يقينا} [النساء: 157]
معناه: أن نفي قتله هو يقين لا ريب فيه، بخلاف الذين اختلفوا فإنهم في شك منه من قتله وغير قتله فليسوا مستيقنين أنه قتل ; إذ لا حجة معهم بذلك.
ولذلك كانت طائفة من النصارى يقولون: لم يصلب، فإن الذين صلبوا المصلوب هم اليهود، وكان قد اشتبه عليهم المسيح بغيره، كما دل عليه القرآن، وكذلك عند أهل الكتاب أنه اشتبه بغيره فلم يعرفوا من هو المسيح من أولئك حتى قال لهم بعض الناس: أنا أعرفه فعرفوه، وقول من قال: معنى الكلام ما قتلوه علما بل ظنا قول ضعيف.
الوجه الرابع: أنه قال - تعالى:
{إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [آل عمران: 55].
فلو كان المرفوع هو اللاهوت، لكان رب العالمين قال لنفسه أو لكلمته: " إني أرفعك إلي "، وكذلك قوله: بل رفعه الله إليه فالمسيح عندهم هو الله.
ومن المعلوم أنه يمتنع رفع نفسه إلى نفسه، وإذا قالوا: هو الكلمة فهم يقولون مع ذلك إنه الإله الخالق، لا يجعلونه بمنزلة التوراة والقرآن ونحوهما، مما هو من كلام الله الذي قال فيه:
{إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10]
بل عندهم هو الله الخالق الرازق رب العالمين، ورفع رب العالمين إلى رب العالمين ممتنع.
الوجه الخامس: قوله: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} [المائدة: 117] دليل على أنه بعد توفيته لم يكن الرقيب عليهم إلا الله دون المسيح، فإن قوله كنت أنت يدل على الحصر، كقوله: {إن كان هذا هو الحق} [الأنفال: 32] ونحو ذلك، فعلم أن المسيح بعد توفيته ليس رقيبا على أتباعه، بل الله هو الرقيب المطلع عليهم المحصي أعمالهم المجازي عليها، والمسيح ليس برقيب فلا يطلع على أعمالهم ولا يحصيها ولا يجازيهم بها.
سورة المائدة
وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:
فصل:
سورة المائدة أجمع سورة في القرآن لفروع الشرائع من التحليل والتحريم والأمر والنهي؛ ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {هي آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها} ولهذا افتتحت بقوله: {أوفوا بالعقود} والعقود هي العهود وذكر فيها من التحليل والتحريم والإيجاب ما لم يذكر في غيرها والآيات فيها متناسبة مثل قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}. وقد اشتهر في التفسير أن هذه الآية نزلت بسبب الذين أرادوا التبتل من الصحابة مثل عثمان بن مظعون والذين اجتمعوا معه. وفي الصحيحين {حديث أنس في الأربعة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم لا أفطر.
وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام. وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني} فيشبه والله أعلم أن يكون قوله: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} فيمن حرم الحلال على نفسه بقول أو عزم على تركه مثل الذي قال: لا أتزوج النساء ولا آكل اللحم وهي الرهبانية المبتدعة فإن الراهب لا ينكح ولا يذبح.
وقوله: {ولا تعتدوا} فيمن قال: أقوم لا أنام وقال أصوم لا أفطر؛ لأن الاعتداء مجاوزة الحد فهذا مجاوز للحد في العبادة المشروعة كالعدوان في الدعاء في قوله: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم {سيكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور} فالاعتداء في " العبادات وفي الورع " كالذين تحرجوا من أشياء ترخص فيها النبي صلى الله عليه وسلم وفي " الزهد " كالذين حرموا الطيبات وهذان القسمان ترك فقوله: " {ولا تعتدوا} " إما أن يكون مختصا بجانب الأفعال العبادية وإما أن يكون العدوان يشمل العدوان في العبادة والتحريم وهذان النوعان هما اللذان ذم الله المشركين بهما في غير موضع حيث عبدوا عبادة لم يأذن الله بها وحرموا ما لم يأذن الله به فقوله: {لا تحرموا} {ولا تعتدوا} يتناول القسمين.
والعدوان هنا كالعدوان في قوله: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} إما أن يكون أعم من الإثم وإما أن يكون نوعا آخر وإما أن يكون العدوان في مجاوزة حدود المأمورات واجبها ومستحبها ومجاوزة حد المباح وإما أن يكون في ذلك مجاوزة حد التحريم أيضا فإنها ثلاثة أمور: مأمور به ومنهي عنه ومباح. ثم ذكر بعد هذا قوله: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته} الآية ذكر هذا بعد النهي عن التحريم ليبين المخرج من تحريم الحلال إذا عقد عليه يمينا بالله أو يمينا أخرى وبهذا يستدل على أن تحريم الحلال يمين.
ثم ذكر بعد ذلك ما حرمه من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فبين به ما حرمه فإن نفي التحريم الشرعي يقع فيه طائفة من الإباحية كما يقع في تحريم الحلال طائفة من هؤلاء يكونون في حال اجتهادهم ورياضتهم تحريمية ثم إذا وصلوا بزعمهم صاروا إباحية وهاتان آفتان تقعان في المتعبدة والمتصوفة كثيرا وقرن بينهما حكم الأيمان فإن كلاهما يتعلق بالفم داخلا وخارجا كما يقرن الفقهاء بين كتاب الأيمان والأطعمة وفيه رخصة في كفارة الأيمان مطلقا خلافا لما شدد فيه طائفة من الفقهاء من جعل بعض الأيمان لا كفارة فيها فإن هذا التشديد مضاه للتحريم فيكون الرجل ممنوعا من فعل الواجب أو المباح بذلك التشديد وهذا كله رحمة من الله بنا دون غيرنا من الأمم التي حرم عليهم أشياء عقوبة لهم ولا كفارة في أيمانهم ولم يطهرهم من الرجس كما طهرنا فتدبر هذا فإنه نافع.
(ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (1)
وقال - رحمه الله -:
في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} قد قيل: إنها ما أمر الله به ورسوله. فإن هذه الآية كتبها النبي صلى الله عليه وسلم في أول الكتاب الذي كتبه لعمرو بن حزم لما بعثه عاملا على نجران وكتاب عمرو فيه الفرائض والديات والسنن الواجبة بالشرع. وقوله للمؤمنين: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا} وقد ذكر أهل التفسير أن سبب نزولها مبايعته للأنصار ليلة العقبة فكان النبي صلى الله عليه وسلم واثقهم على ما هو واجب بأمر الله من السمع له والطاعة وذكرهم الله ذلك الميثاق ليوفوا به مع أنه لم يوجب إلا ما كان واجبا بأمر الله. وهذه الآية أمرهم فيها بذكر نعمته عليهم وذكر ميثاقه. فذكر سببي الوجوب؛ لأن الوجوب الثابت بالشرع ثابت بإيجاب الربوبية وهي إنعامه عليهم؛ ولهذا جاء في الحديث: {أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه}. ولهذا كان عادة المصنفين في " أصول الدين " أول ما يذكرون أول نعمة أنعمها الله على عباده وأول ما وجب على عباده ويذكرون " مسألة وجوب شكر المنعم " هل وجب مع الشرع بالعقل أم لا ولهذا كانت طريقة القرآن تذكير العباد بآلاء الله عليهم فإن ذلك يقتضي شكرهم له وهو أداء الواجبات الشرعية.
وقوله: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا} الآية. إلى قوله: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية} والميثاق على ما هو واجب عليهم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل وتعزيرهم. وقد أخبر أنه بنقضهم ميثاقهم لعناهم وأقسى قلوبهم؛ لا بمجرد المعصية للأمر فكان في هذا أن عقوبة هذه الواجبات الموثقة بالعهود من جهة النقض أوكد. وقوله: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به} والأمر فيهم كذلك. وقوله تعالى {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} {فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} فإن كونه في الصالحين واجب والصدقة المفروضة واجبة وقد روي أنها هي المنذورة. وهذا نص في أنه يجب بالنذر ما كان واجبا بالشرع فإذا تركه عوقب لإخلاف الوعد الذي هو النذر فإن النذر وعد مؤكد هكذا نقل عن العرب وهذه الآية تسمى النذر وعدا.
وقوله: {لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل} ورده إلى أبيه كان واجبا عليهم بلا موثق. ومن الحرب المباحة دفع الظالم عن النفوس والأموال والأبضاع المعصومة. وإنما جاءت الرخصة في السلم والحرب خاصة لأن هذين الموطنين مبناهما على تأليف القلوب وتنفيرها فإذا تألفت فهي المسالمة وإذا تنافرت فهي المحاربة والتأليف والتنفير يحصل بالتوهمات كما يحصل بالحقائق؛ ولهذا يؤثر قول الشعر في التأليف والتنفير بحيث يحرك النفوس شهوة ونفرة تحريكا عظيما وإن لم يكن الكلام منطبقا على الحق؛ لكن لأجل تخييل أو تمثيل. فلما كانت المسالمة والمحاربة الشرعية يقوم فيها التوهم لما لا حقيقة له مقام توهم ما له حقيقة ولم يكن في المعارض إلا الإيهام بما لا حقيقة له والناطق لم يعن إلا الحق صار ذلك حقا وصدقا عند المتكلم وموهما للمستمع توهما يؤلفه تأليفا يحبه الله ورسوله أو ينفره تنفيرا يحبه الله ورسوله بمنزلة تأليفه وتنفيره بالأشعار التي فيها تخييل وتمثيل وبمنزلة الحكايات التي فيها الأمثال المضروبة. فإن الأمثال المنظومة والمنثورة إذا كانت حقا مطابقا فهي من الشعر الذي هو حكمة وإن كان فيها تشبيهات شديدة وتخييلات عظيمة أفادت تأليفا وتنفيرا.
(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2)
(فصل: هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة)
قال الشيخ - رحمه الله -:
وأما قوله: هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة؟ فهذه " المسألة " وإن كان الناس يتنازعون فيها؟ إما نزاعا كليا وإما حاليا. فحقيقة الأمر: أن " الخلطة " تارة تكون واجبة أو مستحبة والشخص الواحد قد يكون مأمورا بالمخالطة تارة وبالانفراد تارة. وجماع ذلك: أن " المخالطة " إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات: كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله.
وكذلك الاختلاط بهم في الحج وفي غزو الكفار والخوارج المارقين وإن كان أئمة ذلك فجارا وإن كان في تلك الجماعات فجار وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانا: إما لانتفاعه به وإما لنفعه له ونحو ذلك. ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه؛ إما في بيته، كما قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه، وإما في غير بيته. فاختيار المخالطة مطلقا خطأ واختيار الانفراد مطلقا خطأ.
وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا وما هو الأصلح له في كل حال فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم.
وكذلك " السبب وترك السبب ": فمن كان قادرا على السبب ولا يشغله عما هو أنفع له في دينه فهو مأمور به مع التوكل على الله وهذا خير له من أن يأخذ من الناس ولو جاءه بغير سؤال، وسبب مثل هذا عبادة الله، وهو مأمور أن يعبد الله ويتوكل عليه فإن تسبب بغير نية صالحة أو لم يتوكل على الله فهو غير مطيع في هذا وهذا، وهذه غير طريق الأنبياء والصحابة.
وأما من كان من الفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف فهذا إما أن يكون عاجزا عن الكسب أو قادرا عليه بتفويت ما هو فيه أطوع لله من الكسب ففعل ما هو فيه أطوع هو المشروع في حقه وهذا يتنوع بتنوع أحوال الناس.
وقد تقدم أن الأفضل يتنوع " تارة " بحسب أجناس العبادات كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء. و " تارة " يختلف باختلاف الأوقات كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة. و " تارة " باختلاف عمل الإنسان الظاهر كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالاتفاق وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف. و " تارة " باختلاف الأمكنة: كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة ونحوها، والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل.
و " تارة " باختلاف مرتبة جنس العبادة: فالجهاد للرجال أفضل من الحج وأما النساء فجهادهن الحج، والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها؛ بخلاف الأيمة فإنها مأمورة بطاعة أبويها. و " تارة " يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه: فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس ويتبعون أهواءهم. فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس ويأمرهم بمثل ذلك. والله بعث محمدا بالكتاب والحكمة وجعله رحمة للعباد وهديا لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له فعلى المسلم أن يكون ناصحا للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له.
وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية - كالصلاة والصيام - أفضل له والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا. فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ... (3)
وسئل - رحمه الله -:
عن " الغنم والبقر " ونحو ذلك إذا أصابه الموت وأتاه الإنسان هل يذكي شيئا منه وهو متيقن حياته حين ذبحه وأن بعض الدواب لم يتحرك منه جارحة حين ذكاته: فهل الحركة تدل على وجود الحياة وعدمها يدل على عدم الحياة أم لا؟ فإن غالب الناس يتحقق حياة الدابة عند ذبحها وإراقة دمها ولم تتحرك فيقول: إنها ميتة فيرميها؟ وهل الدم الأحمر الرقيق الجاري حين الذبح يدل على أن فيها حياة مستقرة والدم الأسود الجامد القليل دم الموت أم لا؟ وما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " {ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا}؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم}. وقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} عائد إلى ما تقدم: من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع: عند عامة العلماء؛ كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم فما أصابه قبل أن يموت أبيح. لكن تنازع العلماء فيما يذكى من ذلك. فمنهم من قال: ما تيقن موته لا يذكى كقول مالك ورواية عن أحمد. ومنهم من يقول: ما يعيش معظم اليوم ذكي. ومنهم من يقول: ما كانت فيه حياة مستقرة ذكي كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد. ثم من هؤلاء من يقول: الحياة المستقرة ما يزيد على حركة المذبوح.
ومنهم من يقول: ما يمكن أن يزيد على حياة المذبوح. والصحيح: أنه إذا كان حيا فذكي حل أكله ولا يعتبر في ذلك حركة مذبوح؛ فإن حركات المذبوح لا تنضبط؛ بل فيها ما يطول زمانه وتعظم حركته. وقد قال صلى الله عليه وسلم " {ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا} فمتى جرى الدم الذي يجري من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله. والناس يفرقون بين دم ما كان حيا ودم ما كان ميتا؛ فإن الميت يجمد دمه ويسود؛ ولهذا حرم الله الميتة؛ لاحتقان الرطوبات فيها؛ فإذا جرى منها الدم الذي يخرج من المذبوح الذي ذبح وهو حي حل أكله؛ وإن تيقن أنه يموت؛ فإن المقصود ذبح ما فيه حياة فهو حي وإن تيقن أنه يموت بعد ساعة. فعمر بن الخطاب رضي الله عنه تيقن أنه يموت وكان حيا جازت وصيته وصلاته وعهوده.
وقد أفتى غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم بأنها إذا مصعت بذنبها أو طرفت بعينها أو ركضت برجلها بعد الذبح؛ حلت؛ ولم يشرطوا أن تكون حركتها قبل ذلك أكثر من حركة المذبوح. وهذا قاله الصحابة لأن الحركة دليل على الحياة والدليل لا ينعكس فلا يلزم إذا لم يوجد هذا منها أن تكون ميتة؛ بل قد تكون حية وإن لم يوجد منها مثل ذلك. والإنسان قد يكون نائما فيذبح وهو نائم ولا يضطرب وكذلك المغمى عليه يذبح ولا يضطرب وكذلك الدابة قد تكون حية فتذبح ولا تضطرب لضعفها عن الحركة وإن كانت حية؛ ولكن خروج الدم الذي لا يخرج إلا من مذبوح وليس هو دم الميت دليل على الحياة. والله أعلم.
[فصل: ما ذبح على النصب]
وأيضا، فإنه سبحانه حرم ما ذبح على النصب، وهي كل ما ينصب ليعبد من دون الله تعالى.
وأما احتجاج أحمد على هذه المسألة بقوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] فحيث اشترطت التسمية في ذبيحة المسلم؛ هل تشترط في ذبيحة الكتابي؟ على روايتين: وإن كان الخلال هنا قد ذكر عدم الاشتراط، فاحتجاجه بهذه الآية يخرج على إحدى الروايتين. فلما تعارض العموم الحاظر، وهو قول الله تعالى: {وما أهل به لغير الله} [البقرة: 173] والعموم المبيح، وهو قوله:
{وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5] اختلف العلماء في ذلك.
والأشبه بالكتاب والسنة: ما دل عليه أكثر كلام أحمد من الحظر، وإن كان من متأخري أصحابنا من لم يذكر هذه الرواية بحال؛ وذلك لأن عموم قوله تعالى: {وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] عموم محفوظ لم تخص منه صورة، بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب، فإنه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته، ولأن غاية الكتابي: أن تكون ذكاته كالمسلم، والمسلم لو ذبح لغير الله، أو ذبح باسم غير الله لم يبح، وإن كان يكفر بذلك، فكذلك الذمي؛ لأن قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} [المائدة: 5] سواء، وهم وإن كانوا يستحلون هذا، ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه حل ولأنه قد تعارض دليلان، حاظر ومبيح، فالحاظر: أولى. ولأن الذبح لغير الله، وباسم غيره، قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام، فهو من الشرك الذي أحدثوه، فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم، منتف في هذا. والله أعلم.
فإن قيل: أما إذا سموا عليه غير الله بأن يقولوا: باسم المسيح ونحوه، فتحريمه ظاهر، أما إذا لم يسموا أحدا، ولكن قصدوا الذبح للمسيح،أو للكوكب ونحوها، فما وجه تحريمه؟
قيل: قد تقدمت الإشارة إلى ذلك. وهو أن الله سبحانه قد حرم ما ذبح على النصب، وذلك يقتضي تحريمه، وإن كان ذابحه كتابيا، لأنه لو كان التحريم لكونه وثنيا، لم يكن فرق بين ذبحه على النصب وغيرها، ولأنه لما أباح لنا طعام أهل الكتاب، دل على أن طعام المشركين حرام، فتخصيص ما ذبح على الوثن يقتضي فائدة جديدة.
وأيضا: فإنه ذكر تحريم ما ذبح على النصب، وما أهل به لغير الله؛ وقد دخل فيما أهل به لغير الله ما أهل به أهل الكتاب لغير الله فكذلك كل ما ذبح على النصب، فإذا ذبح الكتابي على ما قد نصبوه من التماثيل في الكنائس، فهو مذبوح على النصب، ومعلوم أن حكم ذلك لا يختلف بحضور الوثن وغيبته، فإنما حرم لأنه قصد بذبحه عبادة الوثن وتعظيمه، وهذه الأنصاب قد قيل: هي من الأصنام، وقيل: هي غير الأصنام.
قالوا: كان حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا، كان أهل الجاهلية يذبحون عليها، ويشرحون اللحم عليها، وكانوا يعظمون هذه الحجارة، ويعبدونها، ويذبحون عليها، وكانوا إذا شاءوا بدلوا هذه الحجارة بحجارة هي أعجب إليهم منها.
ويدل على ذلك قول أبي ذر في حديث إسلامه: "حتى صرت كالنصب الأحمر " يريد أنه كان يصير أحمر من تلوثه بالدم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 239)
من صــ 281 الى صـ 295
وفي قوله: {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] قولان:
أحدهما: أن نفس الذبح كان يكون عليها، كما ذكرناه، فيكون ذبحهم عليها تقربا إلى الأصنام، وهذا على قول من يجعلها غير الأصنام، فيكون الذبح عليها لأجل أن المذبوح عليها مذبوح للأصنام، أو مذبوح لها، وذلك يقتضي تحريم كل ما ذبح لغير الله، ولأن الذبح في البقعة لا تأثير له إلا من جهة الذبح لغير الله، كما كرهه النبي صلى الله عليه وسلم من الذبح في مواضع أصنام المشركين، وموضع أعيادهم، وإنما يكره المذبوح في البقعة المعينة؛ لكونها محل شرك، فإذا وقع الذبح حقيقة لغير الله؛ كانت حقيقة التحريم قد وجدت فيه.
والقول الثاني: أن الذبح على النصب، أي: لأجل النصب، كما قيل: أولم على زينب بخبز ولحم وأطعم فلان على ولده، وذبح فلان على ولده، ونحو ذلك، ومنه قوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185] وهذا ظاهر على قول من يجعل النصب نفس الأصنام، ولا منافاة بين كون الذبح لها، وبين كونها كانت تلوث بالدم، وعلى هذا القول فالدلالة ظاهرة.
واختلاف هذين القولين في قوله تعالى {على النصب} [المائدة: 3] نظير الاختلاف في قوله: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 34] وقوله تعالى {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 28].
فإنه قد قيل: المراد بذكر اسم الله عليها، إذا كانت حاضرة.
وقيل: بل يعم ذكره لأجلها في مغيبها وشهودها، بمنزلة قوله تعالى {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185].
وفي الحقيقة: مآل القولين إلى شيء واحد في قوله تعالى: {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] كما قد أومأنا إليه.
وفيها قول ثالث ضعيف: أن المعنى على اسم النصب. وهذا ضعيف؛ لأن هذا المعنى حاصل من قوله تعالى: {وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3] فيكون تكريرا. لكن اللفظ يحتمله، كما روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة عن سالم «عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة في لحم.
فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه». وفي رواية له: " وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: " الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض الكلأ، ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله؟! إنكارا لذلك وإعظاما له.
وأيضا فإن قوله تعالى: {وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3] ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقال: هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود:
فسواء لفظ به أو لم يلفظ. وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فكذلك الشرك بالصلاة لغيره والنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور. فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح، أو الزهرة؛ فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح والزهرة أو قصد به ذلك، أولى.
وهذا يبين لك ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله، ولم يحرم ما ذبح لغير الله، كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، بل لو قيل بالعكس لكان أوجه، فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله.
وعلى هذا: فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم وإن قال فيه: بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى والكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان.
[عودة إلى تفصيل القول فيما ذبح على النصب]
وروينا في تفسير مجاهد المشهور عنه الصحيح من رواية ابن أبي نجيح في قوله تعالى: {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] قال: " كانت حجارة حول الكعبة يذبح لها أهل الجاهلية، ويبدلونها إذا شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها ".
وروى ابن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن أشعث، عن الحسن، في قوله تعالى {وما ذبح على النصب} [المائدة: 3] قال: " هو بمنزلة ما ذبح لغير الله ".
وفي تفسير قتادة المشهور عنه: " وأما ما ذبح على النصب: فالنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها، فنهى الله عن ذلك ".
وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: " النصب أصنام كانوا يذبحون ويهلون عليها ".
فإن قيل: فقد نقل إسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم. قال: " لا بأس به ".
قيل: إنما قال أحمد ذلك؛ لأن المسلم إذا ذبحه سمى الله عليه، ولم يقصد ذبحه لغير الله، ولا يسمي غيره، بل يقصد ضد ما قصده صاحب الشاة، فتصير نية صاحب الشاة لا أثر لها، والذابح هو المؤثر في الذبح، بدليل أن المسلم لو وكل كتابيا في ذبيحة، فسمى عليها غير الله لم تبح.
ولهذا لما كان الذبح عبادة في نفسه كره علي -رضي الله عنه- وغير واحد من أهل العلم -منهم أحمد في إحدى الروايتين عنه- أن يوكل المسلم في ذبح نسيكته كتابيا؛ لأن نفس الذبح عبادة بدنية، مثل الصلاة، ولهذا تختص بمكان وزمان ونحو ذلك، بخلاف تفرقة اللحم، فإنه عبادة مالية، ولهذا اختلف العلماء في وجوب تخصيص أهل الحرم بلحوم الهدايا المذبوحة في الحرم، وإن كان الصحيح تخصيصهم بها، وهذا بخلاف الصدقة، فإنها عبادة مالية محضة، فلهذا قد لا يؤثر فيها نية الوكيل، على أن هذه المسألة منصوصة عن أحمد محتملة.
فهذا تمام الكلام في ذبائحهم لأعيادهم.
(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (3)
[فصل البرهان الثالث " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " والجواب عليه]
فصل
قال الرافضي: " البرهان الثالث: قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [سورة المائدة: 3] روى أبو نعيم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الناس إلى غدير خم، وأمر بإزالة ما تحت الشجر من الشوك، فقام فدعا
عليا، فأخذ بضبعيه فرفعهما، حتى نظر الناس إلى [بياض] إبطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [سورة المائدة: 3]. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي، وبالولاية لعلي من بعدي. ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» ".
والجواب من وجوه: أحدها: أن المستدل عليه بيان صحة الحديث.
ومجرد عزوه إلى رواية أبي نعيم لا تفيد الصحة باتفاق الناس: علماء السنة والشيعة ; فإن أبا نعيم روى كثيرا من الأحاديث التي هي ضعيفة، بل موضوعة باتفاق علماء أهل الحديث: السنة والشيعة. وهو وإن كان حافظا كثير الحديث واسع الرواية، لكن روى، كما عادة المحدثين أمثاله يروون جميع ما في الباب ; لأجل المعرفة بذلك، وإن كان لا يحتج من ذلك إلا ببعضه. والناس في مصنفاتهم: منهم من لا يروي عمن يعلم أنه يكذب، مثل مالك، وشعبة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل ; فإن هؤلاء لا يروون عن شخص ليس بثقة عندهم،
ولا يروون حديثا يعلمون أنه عن كذاب، فلا يروون أحاديث الكذابين الذين يعرفون بتعمد الكذب، لكن قد يتفق فيما يروونه ما يكون صاحبه أخطأ فيه.
وقد يروي الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما أحاديث تكون ضعيفة عندهم ; لاتهام رواتها بسوء الحفظ ونحو ذلك، ليعتبر بها ويستشهد بها، فإنه قد يكون لذلك الحديث ما يشهد له أنه محفوظ، وقد يكون له ما يشهد بأنه خطأ وقد يكون صاحبها كذبها في الباطن، ليس مشهورا بالكذب، بل يروي كثيرا من الصدق، فيروى حديثه.
وليس كل ما رواه الفاسق يكون كذبا، بل يجب التبين من خبره كما قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [سورة الحجرات: 6] فيروى لتنظر سائر الشواهد: هل تدل على الصدق أو الكذب؟.
وكثير من المصنفين يعز عليه تمييز ذلك على وجهه، بل يعجز عن ذلك، فيروي ما سمعه كما سمعه، والدرك على غيره لا عليه، وأهل العلم ينظرون في ذلك وفي رجاله وإسناده.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالموضوعات. وهذا يعرفه أهل العلم بالحديث، والمرجع إليهم في ذلك. ولذلك لا يوجد هذا في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها أهل العلم بالحديث.
الوجه الثالث: أنه قد ثبت في الصحاح والمساند والتفسير أن هذه الآية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، «وقال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها ; لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك [اليوم] عيدا. فقال له عمر: وأي آية هي؟ قال: قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [سورة المائدة: 3] فقال عمر: إني لأعلم أي يوم نزلت، وفي أي مكان نزلت. نزلت يوم عرفة بعرفة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفة». وهذا مستفيض من زيادة وجوه أخر. وهو منقول في كتب المسلمين: الصحاح والمساند والجوامع والسير والتفسير وغير ذلك.
وهذا اليوم كان قبل غدير خم بتسعة أيام، فإنه كان يوم الجمعة تاسع ذي الحجة، فكيف يقال: إنها نزلت يوم الغدير؟!.
الوجه الرابع: أن هذه الآية ليس فيها دلالة على علي ولا إمامته بوجه
من الوجوه، بل فيها إخبار الله بإكمال الدين وإتمام النعمة على المؤمنين، ورضا الإسلام دينا. فدعوى المدعي أن القرآن يدل على إمامته من هذا الوجه كذب ظاهر.
وإن قال: الحديث يدل على ذلك.
فيقال: الحديث إن كان صحيحا، فتكون الحجة من الحديث لا من الآية. وإن لم يكن صحيحا فلا حجة في هذا ولا في هذا.
فعلى التقديرين لا دلالة في الآية على ذلك. وهذا مما يبين به كذب الحديث، فإن نزول الآية لهذا السبب، وليس فيها ما يدل عليه أصلا، تناقض.
الوجه الخامس: أن هذا اللفظ، وهو قوله: " «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» " كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
وأما قوله: " «من كنت مولاه فعلي مولاه» " فلهم فيه قولان، وسنذكره - إن شاء الله - في موضعه.
الوجه السادس: أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مجاب، وهذا الدعاء ليس بمجاب، فعلم أنه ليس من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه من المعلوم أنه لما تولى كان الصحابة وسائر المسلمين ثلاثة أصناف: صنف قاتلوا معه، وصنف قاتلوه، وصنف قعدوا عن هذا وهذا. وأكثر السابقين الأولين كانوا من القعود. وقد قيل: إن بعض السابقين الأولين قاتلوه. وذكر ابن حزم أن عمار بن ياسر قتله أبو الغادية، وأن أبا الغادية
هذا من السابقين، ممن بايع تحت الشجرة. وأولئك جميعهم قد ثبت في الصحيحين أنه لا يدخل النار منهم أحد.
ففي صحيح مسلم وغيره عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ".
وفي الصحيح «أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال: يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار. فقال: " كذبت ; إنه شهد بدرا والحديبية» ".
وحاطب هذا هو الذي كاتب المشركين بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبسبب ذلك نزل: {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} [سورة الممتحنة: 1] الآية، وكان مسيئا إلى مماليكه، ولهذا قال مملوكه هذا القول، وكذبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: " إنه شهد بدرا والحديبية " وفي الصحيح: " «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ".
وهؤلاء فيهم ممن قاتل عليا، كطلحة والزبير، وإن كان قاتل عمار فيهم فهو أبلغ من غيره.
وكان الذين بايعوه تحت الشجرة نحو ألف وأربعمائة، وهم الذين فتح الله عليهم خيبر، كما وعدهم الله بذلك في سورة الفتح، وقسمها بينهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ثمانية عشر سهما ; لأنه كان فيهم مائتا فارس، فقسم للفارس ثلاثة أسهم: سهما له، وسهمين لفرسه، فصار لأهل الخيل ستمائة سهم، ولغيرهم ألف ومائتا سهم. هذا هو الذي ثبت في الأحاديث الصحيحة، وعليه أكثر أهل العلم، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقد ذهب طائفة إلى أنه أسهم للفارس سهمين، وأن الخيل كانت ثلاثمائة، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة.
وأما علي فلا ريب أنه قاتل معه طائفة من السابقين الأولين، كسهل بن حنيف، وعمار بن ياسر. لكن الذين لم يقاتلوا معه كانوا أفضل، فإن سعد بن أبي وقاص لم يقاتل معه، ولم يكن قد بقي من الصحابة بعد علي أفضل منه. وكذلك محمد بن مسلمة من الأنصار، وقد جاء في الحديث: " «أن الفتنة لا تضره» " فاعتزل. وهذا مما استدل به على أن القتال كان قتال فتنة بتأويل، لم يكن من الجهاد الواجب ولا المستحب.
وعلي - ومن معه - أولى بالحق من معاوية وأصحابه، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق» " فدل هذا الحديث على أن عليا أولى بالحق ممن قاتله ; فإنه هو الذي قتل الخوارج لما افترق المسلمون، فكان قوم معه وقوم عليه. ثم إن هؤلاء الذين قاتلوه لم يخذلوا، بل ما زالوا
منصورين يفتحون البلاد ويقتلون الكفار.
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة» " قال: " معاذ بن جبل: " وهم بالشام ".
وفي مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة» ". قال أحمد بن حنبل وغيره: " أهل الغرب هم أهل الشام ".
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 240)
من صــ 286 الى صـ 310
وهذا كما ذكروه ; فإن كل بلد له غرب وشرق، والاعتبار في لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بغرب مدينته، ومن الفرات هو غرب المدينة، فالبيرة ونحوها على سمت المدينة، كما أن حران والرقة وسميساط ونحوها على سمت مكة. ولهذا يقال: إن قبلة هؤلاء أعدل القبل، بمعنى أنك تجعل القطب الشمالي خلف ظهرك، فتكون مستقبل الكعبة، فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة إلى آخر الأرض، وأهل الشام أول هؤلاء.
والعسكر الذين قاتلوا مع معاوية ما خذلوا قط، بل ولا في قتال علي. فكيف يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " «اللهم اخذل من خذله وانصر من نصره» " [والذين قاتلوا معه لم ينصروا على هؤلاء، بل الشيعة الذين تزعمون أنهم مختصون بعلي ما زالوا مخذولين مقهورين لا ينصرون إلا مع غيرهم: إما مسلمين وإما كفار، وهم يدعون أنهم أنصاره]، فأين نصر الله لمن نصره؟! وهذا وغيره مما يبين كذب هذا الحديث.
(فصل في أن الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا والسيئات سبب للتحريم دينا وكونا)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
الوجه الثاني والعشرون: أن الحسنات سبب للتحليل دينا وكونا والسيئات سبب للتحريم دينا وكونا؛ فإن التحريم قد يكون حمية؛ وقد يكون عقوبة والإحلال قد يكون سعة؛ وقد يكون عقوبة وفتنة قال تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم} فأباح بهيمة الأنعام في حال كونهم غير محلي الصيد وهو اعتقاد تحريم ذلك واجتنابه. وقال: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} إلى قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} وقد ثبت أنها نزلت عشية عرفة في حجة الوداع فأكمل الله الدين بإيجابه لما أوجبه من الواجبات التي آخرها الحج وتحريمه للمحرمات المذكورة في هذه الآية هذا من جهة شرعه ومن جهة الفعل الذي هو تقويته وإعانته ونصره يئس الذين كفروا من ديننا وحج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الإسلام فلما أكملوا الدين قال عقب ذلك:
{يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين} إلى قوله: {اليوم أحل لكم الطيبات} فكان إحلاله الطيبات يوم أكمل الدين فأكمله تحريما وتحليلا لما أكملوه امتثالا. وقال: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية وهي بينة في الإصلاح والتقوى والإحسان موجبة لرفع الحرج وإن المؤمن العامل الصالحات المحسن لا حرج عليه ولا جناح فيما طعم فإن فيه عونا له وقوة على الإيمان والعمل الصالح والإحسان: ومن سواهم على الحرج والجناح؛ لأن النعم إنما خلقها الله ليستعان بها على الطاعة والآية مدنية وهي من آخر ما نزل من القرآن وقال تعالى عن إبراهيم:
{وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر} وقال: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} وقال: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}. وقال. {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم} {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}.
وأما الطرف الآخر فقال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل} وقال: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} إلى قوله: {ذلك جزيناهم ببغيهم} وقال تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت} إلى آخر الآيات.
وأما كون الإحلال والإعطاء فتنة فقوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} {لنفتنهم فيه} {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} {فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} الآيات {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} {يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم} إلى قوله: {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى}. ويختلف التحليل والتحريم باعتبار النية كما قال تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} وقال: {من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار}.
(والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
{والمحصنات من المؤمنات} الحرائر وعن ابن عباس: هن العفائف. فقد نقل عن ابن عباس تفسير {المحصنات} بالحرائر. وبالعفائف وهذا حق. فنقول مما يدل على ذلك قوله تعالى {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب} {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين}. "
المحصنات " قد قال أهل التفسير: هن العفائف. هكذا قال الشعبي والحسن والنخعي والضحاك والسدي. وعن ابن عباس: هن الحرائر ولفظ المحصنات إن أريد به " الحرائر " فالعفة داخلة في الإحصان بطريق الأولى؛ فإن أصل المحصنة هي العفيفة التي أحصن فرجها قال الله تعالى: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها} وقال تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} وهن العفائف قال حسان بن ثابت:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
ثم عادة العرب أن الحرة عندهم لا تعرف بالزنا؛ وإنما تعرف بالزنا الإماء ولهذا {لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم هند امرأة أبي سفيان على ألا تزني قالت: أوتزني الحرة} فهذا لم يكن معروفا عندهم. والحرة خلاف الأمة صارت في عرف العامة أن الحرة هي العفيفة؛ لأن الحرة التي ليست أمة كانت معروفة عندهم بالعفة وصار لفظ الإحصان يتناول الحرية مع العفة؛ لأن الإماء لم تكن عفائف وكذلك الإسلام هو ينهى عن الفحشاء والمنكر وكذلك المرأة المتزوجة زوجها يحصنها لأنها تستكفي به ولأنه يغار عليها.
فصار لفظ " الإحصان " يتناول: الإسلام والحرية والنكاح. وأصله إنما هو العفة؛ فإن العفيفة هي التي أحصن فرجها من غير صاحبها كالمحصن الذي يمتنع من غير أهله وإذا كان الله إنما أباح من المسلمين وأهل الكتاب نكاح المحصنات " والبغايا " لسن محصنات: فلم يبح الله نكاحهن. ومما يدل على ذلك قوله: {إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} والمسافح الزاني الذي يسفح ماءه مع هذه وهذه وكذلك المسافحة والمتخذة الخدن الذي تكون له صديقة يزني بها دون غيره فشرط في الحل أن يكون الرجل غير مسافح ولا متخذ خدن. فإذا كانت المرأة بغيا وتسافح هذا وهذا لم يكن زوجها محصنا لها عن غيره؛ إذ لو كان محصنا لها كانت محصنة وإذا كانت مسافحة لم تكن محصنة. والله إنما أباح النكاح إذا كان الرجال محصنين غير مسافحين وإذا شرط فيه ألا يزني بغيرها - فلا يسفح ماءه مع غيرها - كان أبلغ وأبلغ.
وقال أهل اللغة: " السفاح " الزنا. قال ابن قتيبة {محصنين} أي متزوجين {غير مسافحين} قال: وأصله من سفحت القربة إذا صببتها. فسمى " الزنا " سفاحا؛ لأنه يصب النطفة وتصب المرأة النطفة. وقال ابن فارس: " السفاح " صب الماء بلا عقد ولا نكاح فهي التي تسفح ماءها. وقال الزجاج: {محصنين} أي عاقدين التزوج.
وقال غيرهما: متعففين غير زانين وكذلك قال في النساء {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} ففي هاتين الآيتين اشترط أن يكون الرجال محصنين غير مسافحين بكسر الصاد. " والمحصن " هو الذي يحصن غيره؛ ليس هو المحصن بالفتح الذي يشترط في الحد. فلم يبح إلا تزوج من يكون محصنا للمرأة غير مسافح ومن تزوج ببغي مع بقائها على البغاء ولم يحصنها من غيره - بل هي كما كانت قبل النكاح تبغي مع غيره - فهو مسافح بها لا محصن لها. وهذا حرام بدلالة القرآن.
فإن قيل: إنما أراد بذلك أنك تبتغي بمالك النكاح لا تبتغي به السفاح فتعطيها المهر على أن تكون زوجتك ليس لغيرك فيها حق بخلاف ما إذا أعطيتها على أنها مسافحة لمن تريد وأنها صديقة لك تزني بك دون غيرك فهذا حرام؟ قيل: فإذا كان النكاح مقصوده أنها تكون له؛ لا لغيره وهي لم تتب من الزنا: لم تكن موفية بمقتضى العقد؟ فإن قيل: فإنه يحصنها بغير اختيارها فيسكنها حيث لا يمكنها الزنا؟ قيل:
أما إذا أحصنها بالقهر فليس هو بمثل الذي يمكنها من الخروج إلى الرجال ودخول الرجال إليها؛ لكن قد عرف بالعادات والتجارب أن المرأة إذا كانت لها إرادة في غير الزوج احتالت إلى ذلك بطرق كثيرة وتخفى على الزوج وربما أفسدت عقل الزوج بما تطعمه وربما سحرته أيضا وهذا كثير موجود: رجال أطعمهم نساؤهم وسحرتهم نساؤهم حتى يمكن المرأة أن تفعل ما شاءت؛ وقد يكون قصدها مع ذلك أن لا يذهب هو إلى غيرها؛ فهي تقصد منعه من الحلال أو من الحرام والحلال. وقد تقصد أن يمكنها أن تفعل ما شاءت فلا يبقى محصنا لها قواما عليها؛ بل تبقى هي الحاكمة عليه.
فإذا كان هذا موجودا فيمن تزوجت ولم تكن بغيا: فكيف بمن كانت بغيا؟ والحكايات في هذا الباب كثيرة. ويا ليتها مع التوبة يلزم منه دوام التوبة: فهذا إذا أبيح له نكاحها وقيل له: أحصنها واحتفظ أمكن ذلك. أما بدون التوبة فهذا متعذر أو متعسر.
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وقوله تعالى {ولا متخذي أخدان} حرم به أن يتخذ صديقة في السر تزني معه لا مع غيره وقد قال سبحانه في آية الإماء {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} فذكر في " الإماء " {محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان} وأما " الحرائر " فاشترط فيهن أن يكون الرجال محصنين غير مسافحين وذكر في المائدة {ولا متخذي أخدان}
لما ذكر نساء أهل الكتاب وفي النساء لم يذكر إلا غير مسافحين؛ وذلك أن الإماء كن معروفات بالزنا دون الحرائر فاشترط في نكاحهن أن يكن محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فدل ذلك أيضا على أن الأمة التي تبغي لا يجوز تزوجها إلا إذا تزوجها على أنها محصنة يحصنها زوجها فلا تسافح الرجال ولا تتخذ صديقا.
وهذا من أبين الأمور في تحريم نكاح الأمة الفاجرة مع ما تقدم. وقد روي عن ابن عباس {محصنات} عفائف غير زوان {ولا متخذات أخدان} يعني أخلاء: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي. وعنه رواية أخرى: " المسافحات " المعلنات بالزنا " والمتخذات أخدان " ذوات الخليل الواحد. قال بعض المفسرين: كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه ولا تزني مع غيره. فقد فسر ابن عباس هو وغيره من السلف المحصنات بالعفائف وهو كما قالوا وذكروا أن الزنا في الجاهلية كان نوعين: نوعا مشتركا ونوعا مختصا. والمشترك ما يظهر في العادة؛ بخلاف المختص فإنه مستتر في العادة. ولما حرم الله المختص وهو شبيه بالنكاح؛ فإن النكاح تختص فيه المرأة بالرجل: وجب الفرق بين النكاح الحلال والحرام من اتخاذ الأخدان؛ فإن هذه إذا كان يزني بها وحدها لم يعرف أنها لم يطأها غيره ولم يعرف أن الولد الذي تلده منه ولا يثبت لها خصائص النكاح.
فلهذا كان عمر بن الخطاب يضرب على " النكاح السر " فإن نكاح السر من جنس اتخاذ الأخدان شبيه به لا سيما إذا زوجت نفسها بلا ولي ولا شهود وكتما ذلك: فهذا مثل الذي يتخذ صديقة ليس بينهما فرق ظاهر معروف عند الناس يتميز به عن هذا فلا يشاء من يزني بأمرة صديقة له إلا قال: تزوجتها. ولا يشاء أحد أن يقول لمن تزوج في السر: إنه يزني بها إلا قال ذلك فلا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق مبين قال الله تعالى: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} وقال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} فإذا ظهر للناس أن هذه المرأة قد أحصنها تميزت عن المسافحات والمتخذات أخدانا وإذا كان يمكنها أن تذهب إلى الأجانب لم تتميز المحصنات كما أنه إذا كتم نكاحها فلم يعلم به أحد لم تتميز من المتخذات أخدانا.
(ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5)
(فصل: فيما يتناوله لفظ " الكفر " و " النفاق " إذا افترقا وإذا اجتمعا، ما يتناوله كل منهما - لفظ " المشركين " قد يقرن بأهل الكتاب فقط، وقد يقرن بالملل الخمس)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
ومن هذا الباب لفظ " الكفر " و " النفاق " فالكفر إذا ذكر مفردا في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون كقوله: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}. وقوله: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا}. وقوله: {لا يصلاها إلا الأشقى} {الذي كذب وتولى} وقوله: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} {قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} وقوله: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} {قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين}.
وقوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين}. وقوله: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} {قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} {وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} وقوله:
منفكين حتى تأتيهم البينة}. وقوله: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية}. وقوله تعالى {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ}. وليس أحد بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلا من الذين أوتوا الكتاب أو الأميين، وكل أمة لم تكن من الذين أوتوا الكتاب فهم من الأميين؛ كالأميين من العرب ومن الخزر والصقالبة والهند والسودان وغيرهم من الأمم الذين لا كتاب لهم فهؤلاء كلهم أميون، والرسول مبعوث إليهم كما بعث إلى الأميين من العرب.
وقوله: {وقل للذين أوتوا الكتاب} - وهو إنما يخاطب الموجودين في زمانه بعد النسخ والتبديل - يدل على أن من دان بدين اليهود والنصارى فهو من الذين أوتوا الكتاب لا يختص هذا اللفظ بمن كانوا متمسكين به قبل النسخ والتبديل ولا فرق بين أولادهم وأولاد غيرهم؛ فإن أولادهم إذا كانوا بعد النسخ والتبديل ممن أوتوا الكتاب فكذلك غيرهم إذا كانوا كلهم كفارا وقد جعلهم الذين أوتوا الكتاب بقوله: {وقل للذين أوتوا الكتاب} وهو لا يخاطب بذلك إلا من بلغته رسالته؛ لا من مات؛ فدل ذلك على أن قوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب} يتناول هؤلاء كلهم كما هو مذهب الجمهور من السلف والخلف وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته لم يختلف كلامه إلا في نصارى بني تغلب، وآخر الروايتين عنه: أنهم تباح نساؤهم وذبائحهم؛ كما هو قول جمهور الصحابة.
وقوله في " الرواية الأخرى ": لا تباح؛ متابعة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن لأجل النسب؛ بل لكونهم لم يدخلوا في دين أهل الكتاب إلا فيما يشتهونه من شرب الخمر ونحوه ولكن بعض التابعين ظن أن ذلك لأجل النسب كما نقل عن عطاء وقال به الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد وفرعوا على ذلك فروعا كمن كان أحد أبويه كتابيا والآخر ليس بكتابي ونحو ذلك حتى لا يوجد في طائفة من كتب أصحاب أحمد إلا هذا القول؛ وهو خطأ على مذهبه مخالف لنصوصه لم يعلق الحكم بالنسب في مثل هذا ألبتة كما قد بسط في موضعه. ولفظ " المشركين " يذكر مفردا في مثل قوله: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} وهل يتناول أهل الكتاب؟ فيه " قولان " مشهوران للسلف والخلف.
والذين قالوا: بأنها تعم؛ منهم من قال: هي محكمة كابن عمر والجمهور الذين يبيحون نكاح الكتابيات؛ كما ذكره الله في آية المائدة وهي متأخرة عن هذه. ومنهم من يقول: نسخ منها تحريم نكاح الكتابيات. ومنهم من يقول: بل هو مخصوص لم يرد باللفظ العام، وقد أنزل الله تعالى بعد صلح الحديبية قوله: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}. وهذا قد يقال: إنما نهى عن التمسك بالعصمة من كان متزوجا كافرة ولم يكونوا حينئذ متزوجين إلا بمشركة وثنية؛ فلم يدخل في ذلك الكتابيات.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 241)
من صــ 311 الى صـ 325
(ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6)
قال الشيخ الإمام العالم مفتي الأنام المجتهد الفقيه الإمام: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني - رحمه الله ورضي عنه -:
قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ... }.
هذا الخطاب يقتضي: أن كل قائم إلى الصلاة فإنه مأمور بما ذكر من الغسل. والمسح. وهو الوضوء. وذهبت طائفة: إلى أن هذا عام مخصوص.
وذهبت طائفة: إلى أنه يوجب الوضوء على كل من كان متوضئا وكلا القولين ضعيف. فأما الأولون: فإن منهم من قال: المراد بهذا: القائم من النوم وهذا معروف عن زيد بن أسلم ومن وافقه من أهل المدينة من أصحاب مالك وغيرهم. قالوا: الآية أوجبت الوضوء على النائم بهذا وعلى المتغوط بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} وعلى لامس النساء بقوله: {أو لامستم النساء} وهذا هو الحدث المعتاد. وهو الموجب للوضوء عندهم. ومن هؤلاء من قال: فيها تقديم وتأخير. تقديره: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. فيقال: أما تناولها للقائم من النوم المعتاد: فظاهر لفظها يتناوله.
وأما كونها مختصة به بحيث لا تتناول من كان مستيقظا وقام إلى الصلاة - فهذا ضعيف. بل هي متناولة لهذا لفظا ومعنى. وغالب الصلوات يقوم الناس إليها من يقظة: لا من نوم:
كالعصر والمغرب والعشاء. وكذلك الظهر في الشتاء؛ لكن الفجر يقومون إليها من نوم. وكذلك الظهر في القائلة. والآية تعم هذا كله. لكن قد يقال: إذا أمرت الآية القائم من النوم - لأجل الريح التي خرجت منه بغير اختياره - فأمرها للقائم الذي خرج منه الريح في اليقظة أولى وأحرى. فتكون - على هذا - دلالة الآية على اليقظان بطريق تنبيه الخطاب وفحواه.
وإن قيل: إن اللفظ عام يتناول هذا بطريق العموم اللفظي. فهذان قولان متوجهان. والآية على القولين عامة. وتعم أيضا القيام إلى النافلة بالليل والنهار والقيام إلى صلاة الجنازة كما سنبينه إن شاء الله. فمتى كانت عامة لهذا كله: فلا وجه لتخصيصها. وقالت طائفة: تقدير الكلام: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون أو قد أحدثتم. فإن المتوضئ ليس عليه وضوء. وكل هذا عن الشافعي رحمه الله. ويوجبه الشافعي في التيمم فإن ظاهر القرآن يقتضي وجوب الوضوء والتيمم على كل قائم يخالف هذا.
فإن كان قد قال هذا: كان له قولان. ومن المفسرين من يجعل هذا قول عامة الفقهاء من السلف والخلف؛ لاتفاقهم على الحكم. فيجعل اتفاقهم على هذا الحكم اتفاقا على الإضمار كما ذكر أبو الفرج بن الجوزي.
قال: وللعلماء في المراد بالآية قولان. أحدهما: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا فصار الحدث مضمرا في وجوب الوضوء. وهذا قول سعد بن أبي وقاص وأبي موسى وابن عباس رضي الله عنهم والفقهاء. قال: والثاني أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة محدثا كان أو غير محدث. وهذا مروي عن عكرمة وابن سيرين. ونقل عنهم: أن هذا الحكم غير منسوخ. ونقل عن جماعة من العلماء: أن ذلك كان واجبا بالسنة. وهو ما روى بريدة رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد. وقال: عمدا فعلته يا عمر}. قلت: أما الحكم - وهو أن من توضأ لصلاة صلى بذلك الوضوء صلاة أخرى - فهذا قول عامة السلف والخلف: والخلاف في ذلك شاذ. وقد علم بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يوجب الوضوء على من صلى ثم قام إلى صلاة أخرى فإنه قد ثبت بالتواتر {أنه صلى بالمسلمين يوم عرفة الظهر والعصر جميعا جمع بهم بين الصلاتين} وصلى خلفه ألوف مؤلفة لا يحصيهم إلا الله. ولما سلم من الظهر. صلى بهم العصر ولم يحدث وضوءا لا هو ولا أحد ولا أمر الناس بإحداث وضوء ولا نقل ذلك أحد وهذا يدل على أن التجديد لا يستحب مطلقا.
وهل يستحب التجديد لكل صلاة من الخمس؟ فيه نزاع. وفيه عن أحمد رحمه الله روايتان. وكذلك أيضا لما قدم مزدلفة: {صلى بهم المغرب والعشاء جمعا} من غير تجديد وضوء للعشاء. وهو في الموضعين قد قام هو وهم إلى صلاة بعد صلاة. وأقام لكل صلاة إقامة. وكذلك سائر أحاديث الجمع الثابتة في الصحيحين من حديث ابن عمر وابن عباس وأنس رضي الله عنهم. كلها تقتضي: أنه هو صلى الله عليه وسلم - والمسلمون خلفه - صلوا الثانية من المجموعتين بطهارة الأولى لم يحدثوا لها وضوءا.
وكذلك هو صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من حديث ابن عباس وعائشة وغيرهم {أنه كان يتوضأ لصلاة الليل. فيصلي به الفجر} مع أنه كان ينام حتى يغط. ويقول {تنام عيناي ولا ينام قلبي} فهذا أمر من أصح ما يكون أنه: كان ينام ثم يصلي بذلك الوضوء الذي توضأ للنافلة يصلي به الفريضة. فكيف يقال: إنه كان يتوضأ لكل صلاة؟. وقد ثبت عنه في الصحيح {أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر. ثم قدم عليه وفد عبد القيس. فاشتغل بهم عن الركعتين بعد الظهر حتى صلى العصر ولم يحدث وضوءا}.
وكان يصلي تارة الفريضة ثم النافلة. وتارة النافلة ثم الفريضة وتارة فريضة ثم فريضة. كل ذلك بوضوء واحد. وكذلك المسلمون صلوا خلفه في رمضان بالليل بوضوء واحد مرات متعددة. وكان المسلمون على عهده يتوضئون ثم يصلون ما لم يحدثوا كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. ولم ينقل عنه - لا بإسناد صحيح ولا ضعيف -: أنه أمرهم بالوضوء لكل صلاة.
فالقول باستحباب هذا يحتاج إلى دليل.
وأما القول بوجوبه: فمخالف للسنة المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولإجماع الصحابة.
والنقل عن علي رضي الله عنه بخلاف ذلك لا يثبت؛ بل الثابت عنه خلافه. وعلي رضي الله عنه أجل من أن يخفى عليه مثل هذا والكذب على علي كثير مشهور: أكثر منه على غيره. وأحمد بن حنبل رحمه الله - مع سعة علمه بآثار الصحابة والتابعين - أنكر أن يكون في هذا نزاع. وقال أحمد بن القاسم: سألت أحمد عمن صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد؟ فقال: لا بأس بذلك إذا لم ينتقض وضوءه.
ما ظننت أن أحدا أنكر هذا. وروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة. قلت: وكيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث} وهذا هو في الصلوات الخمس المفرقة. ولهذا استحب أحمد ذلك في أحد القولين مع أنه كان أحيانا يصلي صلوات بوضوء واحد. كما في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: {صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه. فقال له عمر: إني رأيتك صنعت شيئا لم تكن صنعته؟ قال: عمدا صنعته يا عمر}. والقرآن أيضا يدل على أنه لا يجب على المتوضئ أن يتوضأ مرة ثانية من وجوه: أحدها: أنه سبحانه قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} فقد أمر من جاء من الغائط ولم يجد الماء: أن يتيمم الصعيد الطيب. فدل على أن المجيء من الغائط يوجب التيمم. فلو كان الوضوء واجبا على من جاء من الغائط ومن لم يجئ فإن التيمم أولى بالوجوب. فإن كثيرا من الفقهاء يوجبون التيمم لكل صلاة. وعلى هذا فلا تأثير للمجيء من الغائط. فإنه إذا قام إلى الصلاة وجب الوضوء أو التيمم وإن لم يجئ من الغائط.
ولو جاء من الغائط ولم يقم إلى الصلاة: لا يجب عليه وضوء ولا تيمم فيكون ذكر المجيء من الغائط عبثا على قول هؤلاء. الوجه الثاني: أنه سبحانه خاطب المؤمنين. لأن الناس كلهم يكونون محدثين فإن البول والغائط أمر معتاد لهم وكل بني آدم محدث. والأصل فيهم: الحدث الأصغر. فإن أحدهم من حين كان طفلا قد اعتاد ذلك فلا يزال محدثا بخلاف الجنابة. فإنها إنما تعرض لهم عند البلوغ. والأصل فيهم: عدم الجنابة كما أن الأصل فيهم: عدم الطهارة الصغرى؛ فلهذا قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} ثم قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فأمرهم بالطهارة الصغرى مطلقا.
لأن الأصل: أنهم كلهم محدثون قبل أن يتوضئوا. ثم قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} وليس منهم جنب إلا من أجنب. فلهذا فرق سبحانه بين هذا وهذا. الثالث: أن يقال: الآية اقتضت وجوب الوضوء إذا قام المؤمن إلى الصلاة. فدل على أن القيام هو السبب الموجب للوضوء. وأنه إذا قام إلى الصلاة صار واجبا حينئذ وجوبا مضيقا. فإذا كان العبد قد توضأ قبل ذلك: فقد أدى هذا الواجب قبل تضييقه كما قال: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} فدل على أن النداء يوجب السعي إلى الجمعة. وحينئذ يتضيق وقته فلا يجوز أن يشتغل عنه ببيع ولا غيره. فإذا سعى إليها قبل النداء: فقد سابق إلى الخيرات وسعى قبل تضييق الوقت. فهل يقول عاقل: إن عليه أن يرجع إلى بيته ليسعى عند النداء؟. وكذلك الوضوء: إذا كان المسلم قد توضأ للظهر قبل الزوال أو للمغرب قبل غروب الشمس أو للفجر قبل طلوعه وهو إنما يقوم إلى الصلاة بعد الوقت. فمن قال: إن عليه أن يعيد الوضوء فهو بمنزلة من يقول: إن عليه أن يعيد السعي إذا أتى الجمعة قبل النداء. والمسلمون على عهد نبيهم كانوا يتوضئون للفجر وغيرها قبل الوقت وكذلك المغرب. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجلها ويصليها إذا توارت الشمس بالحجاب.
وكثير من أصحابه كانت بيوتهم بعيدة من المسجد. فهؤلاء لو لم يتوضئوا قبل المغرب: لما أدركوا معه أول الصلاة بل قد تفوتهم جميعا لبعد المواضع. وهو نفسه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتوضأ بعد الغروب ولا من حضر عنده في المسجد ولا كان يأمر أحدا بتجديد الوضوء بعد المغرب. وهذا كله معلوم مقطوع به. وما أعرف في هذا خلافا ثابتا عن الصحابة: أن من توضأ قبل الوقت عليه أن يعيد الوضوء بعد دخول الوقت. ولا يستحب أيضا لمثل هذا تجديد وضوء. وإنما تكلم الفقهاء فيمن صلى بالوضوء الأول: هل يستحب له التجديد؟ وأما من لم يصل به: فلا يستحب له إعادة الوضوء؛ بل تجديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما عليه المسلمون في حياته وبعده إلى هذا الوقت.
فقد تبين أن هذا قبل القيام قد أدى هذا الواجب قبل تضييقه كالساعي إلى الجمعة قبل النداء وكمن قضى الدين قبل حلوله؛ ولهذا قال الشافعي وغيره: إن الصبي إذا صلى ثم بلغ لم يعد الصلاة؛ لأنها تلك الصلاة بعينها سابق إليها قبل وقتها. وهو قول في مذهب أحمد وهذا القول أقوى من إيجاب الإعادة. ومن أوجبها قاسه على الحج وبينهما فرق. كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وهذا الذي ذكرناه في الوضوء: هو بعينه في التيمم. ولهذا كان قول العلماء: إن التيمم كالوضوء فهو طهور المسلم ما لم يجد الماء.
وإن تيمم قبل الوقت وتيمم للنافلة فيصلي به الفريضة وغيرها؛ كما هو قول ابن عباس. وهو مذهب كثير من العلماء: أبي حنيفة وغيره وهو أحد القولين عن أحمد. والقول الآخر - وهو التيمم لكل صلاة - هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد. وهو قول لم يثبت عن غيره من الصحابة كما قد بسط في موضعه. فالآية محكمة ولله الحمد. وهي على ما دلت عليه من أن كل قائم إلى الصلاة فهو مأمور بالوضوء. فإن كان قد توضأ قبل ذلك فقد أحسن وفعل الواجب قبل تضييقه وسارع إلى الخيرات كمن سعى إلى الجمعة قبل النداء. فقد تبين أن الآية ليس فيها إضمار ولا تخصيص ولا تدل على وجوب الوضوء مرتين. بل دلت على الحكم الثابت بالسنن المتواترة وهو الذي عليه جماعة المسلمين وهو وجوب الوضوء على المصلي. كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ فقال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط}
وفي صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول}. وهذا يوافق الآية الكريمة. فإنه يدل على أنه لا بد من الطهور ومن كان على وضوء فهو على طهور وإنما يحتاج إلى الوضوء من كان محدثا.
كما قال: {لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ} وهو إذا توضأ ثم أحدث: فقد دلت الآية على أمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة وإذا كان قد توضأ فقد فعل ما أمر به. كقوله: لا تصل إلا بوضوء. أو لا تصل حتى تتوضأ ونحو ذلك. مما بين أنه مأمور بالوضوء لجنس الصلاة الشامل لأنواعها وأعيانها. ليس مأمورا لكل نوع أو عين بوضوء غير وضوء الآخر. ولا في اللفظ ما يدل على ذلك. لكن هذا الوجه لا يدل على تقدم الوضوء على الجنس كمن أسلم فتوضأ قبل الزوال أو الغروب أو كمن أحدث فتوضأ قبل دخول الوقت. بخلاف الوجه الذي قبله. فإنه يتناول هذا كله.
فصل:
وقوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} يقتضي وجوب الوضوء على كل مصل مرة بعد مرة فهو يقتضي التكرار وهذا متفق عليه بين المسلمين في الطهارة. وقال دلت عليه السنة المتواترة بل هو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يأمرنا بالوضوء لصلاة واحدة. بل أمر بأن يتوضأ كلما صلى: ولو صلى صلاة بوضوء وأراد أن يصلي سائر الصلوات بغير وضوء: استتيب فإن تاب وإلا قتل. لكن المقصود هنا: دلالة الآية عليه وذلك من لفظ " الصلاة " فإن " الصلاة " هنا اسم جنس. ليس المراد صلاة واحدة. فقد أمر إذا قام إلى جنس الصلاة أن يتوضأ. والجنس يتناول جميع ما يصليه من الصلوات في جميع عمره.
فإن قيل: هذا يقتضي عموم الجنس فمن أين التكرار؟ فإذا قام إلى أي صلاة توضأ لكن من أين أنه إذا قام إليها يوما آخر يتوضأ؟ قيل: لأنه في هذا اليوم الثاني قائم إلى الصلاة. فهو مأمور بالوضوء إذا قام إلى مسمى الصلاة؛ فحيث وجد قيام إلى مسمى الصلاة فهو مأمور بالوضوء متى وجد ذلك. فعليه الوضوء. وهو كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} فالمراد: جنس الدلوك فهو مأمور بإقامة الصلاة له.
وكذلك قوله: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} فهو متناول لكل طلوع وغروب وليس المراد طلوعا واحدا فكأنه قال: قبل كل طلوع لها وقبل كل غروب. وأقم الصلاة عند كل دلوك وكل صلاة يقوم إليها متوضئا لها. وقد تنازع الناس في الأمر المطلق: هل يقتضي التكرار؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يقتضيه كقول طائفة منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل. وقيل: لا يقتضيه كقول كثير منهم أبو الخطاب. وقيل: إن كان معلقا بسبب اقتضى التكرار. وهذا هو المنصوص عن أحمد كآية الطهارة والصلاة.
فإن قيل: فهذا لا يتكرر في الطلاق والعتق المعلق. قيل: لأن عتق الشخص الواحد لا يتكرر. وكذلك الطلاق المعلق نفسه لا يتكرر. بل الطلقة الثانية حكمها غير حكم الأولى. وهو محدود بثلاث. ولكن إذا قال الناذر: لله علي إن رزقني الله ولدا أن أعتق عنه وإذا أعطاني مالا أن أزكيه أو أتصدق بعشره: تكرر. وبسط هذا له موضع آخر.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 242)
من صــ 326 الى صـ 340
فصل:
قوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} الآية.
هذا مما أشكل على بعض الناس. فقال طائفة من الناس: " أو " بمعنى الواو وجعلوا التقدير: وجاء أحد منكم من الغائط. ولامستم النساء. قالوا: لأن من مقتضى " أو " أن يكون كل من المرض والسفر موجبا للتيمم؛ كالغائط والملامسة. وهذا مخالف لمعنى الآية
فإن " أو " ضد الواو: والواو: للجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه.
وأما معنى: " أو " فلا يوجب الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه بل يقتضي إثبات أحدهما. لكن قد يكون ذلك مع إباحة الآخر كقوله: جالس الحسن أو ابن سيرين؛ وتعلم الفقه أو النحو؛ ومنه خصال الكفارة يخير بينها ولو فعل الجميع جاز. وقد يكون مع الحصر؛ يقال للمريض: كل هذا أو هذا. وكذلك في الخبر: هي لإثبات أحدهما إما مع عدم علم المخاطب. وهو الشك أو مع علمه وهو الإيهام كقوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} لكن المعنى الذي أراده: هو الأصح وهو أن خطابه بالتيمم: للمريض والمسافر وإن كان قد جاء من الغائط أو جامع. ولا ينبغي - على قولهم - أن يكون المراد: أن لا يباح التيمم إلا مع هذين. بل التقدير: بالاحتلام أو حدث بلا غائط فالتيمم هنا أولى وهو سبحانه لما أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء أمرهم إذا كانوا جنبا: أن يطهروا وفيهم المحدث بغير الغائط كالقائم من النوم والذي خرجت منه الريح. ومنهم الجنب بغير جماع بل باحتلام. فالآية عمت كل محدث وكل جنب. فقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} {فتيمموا} فأباح التيمم للمحدث والجنب إذا كان مريضا أو على سفر ولم يجد ماء. والتيمم رخصة. فقد يظن الظان: أنها لا تباح إلا مع خفيف الحدث والجنابة كالريح والاحتلام بخلاف الغائط والجماع. فإن التيمم مع ذلك والصلاة معه: مما تستعظمه النفوس وتهابه. فقد أنكر بعض كبار الصحابة تيمم الجنب مطلقا. وكثير من الناس يهاب الصلاة مع الحدث بالتيمم إذ كان جعل التراب طهورا كالماء: هو مما فضل الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته.
ومن لم يستحكم إيمانه: لا يستجيز ذلك. فبين الله سبحانه: أن التيمم مأمور به مع تغليظ الحدث بالغائط وتغليظ الجنابة بالجماع. والتقدير: وإن كنتم مرضى أو مسافرين أو كان - مع ذلك - جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. ليس المقصود: أن يجعل الغائط والجماع فيما ليس معه مرض أو سفر. فإنه إذا جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء وليسوا مرضى ولا مسافرين. فقد بين ذلك بقوله {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} وبقوله: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فدلت الآية على وجوب الوضوء والغسل على الصحيح والمقيم.
وأيضا فتخصيصه المجيء من الغائط والجماع: يجوز أن يكون لا يتيمم في هذه الحالة دون ما هو أخف من ذلك من خروج الريح ومن الاحتلام. فإن الريح كالنوم والاحتلام يكون في المنام. فهناك يحصل الحدث والجنابة والإنسان نائم. فإذا كان في تلك الحال يؤمر بالوضوء والغسل فإذا حصل ذلك وهو يقظان: فهو أولى بالوجوب. لأن النائم رفع عنه القلم بخلاف اليقظان. ولكن دلت الآية على أن الطهارة تجب وإن حصل الحدث والجنابة بغير اختياره كحدث النائم واحتلامه.
وإذا دلت على وجوب طهارة الماء في الحال فوجوبها مع الحدث الذي حصل باختياره أو يقظته: أولى. وهذا بخلاف التيمم. فإنه لا يلزم إذا أباح التيمم للمعذور الذي أحدث في النوم باحتلام أو ريح: أن يبيحه لمن أحدث باختياره فقال تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} ليبين جواز التيمم لهذين. وإن حصل حدثهما في اليقظة وبفعلهما وإن كان غليظا. ولو كانت " أو " بمعنى الواو: كان تقدير الكلام: أن التيمم لا يباح إلا بوجود الشرطين - المرض والسفر - مع المجيء من الغائط والاحتلام. فيلزم من هذا أن لا يباح مع الاحتلام ولا مع الحدث بلا غائط كحدث النائم ومن خرجت منه الريح.
فإن الحكم إذا علق بشرطين لم يثبت مع أحدهما. وهذا ليس مرادا قطعا بل هو ضد الحق؛ لأنه إذا أبيح مع الغائط الذي يحصل بالاختيار فمع الخفيف وعدم الاختيار أولى. فتبين أن معنى الآية: وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا. وإن كان مع ذلك قد جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء.
كما يقال: وإن كنت مريضا أو مسافرا. والتقدير: وإن كنتم أيها القائمون إلى الصلاة - وأنتم مرضى أو مسافرين - قد جئتم من الغائط أو لامستم النساء؛ ولهذا قال من قال: إنها خطاب للقائمين من النوم: إن التقدير إذا قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. فإنه سبحانه ذكر أولا فعلهم بقوله: {إذا قمتم} {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} الثلاثة أفعال. وقوله: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} حال لهم. أي كنتم على هذه الحال. كقوله: وإن كنتم على حال العجز عن استعمال الماء - إما لعدمه أو لخوف الضرر باستعماله - فتيمموا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم. أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. ولكن الذي رجحناه: أن قوله: {إذا قمتم} عام: إما لفظا ومعنى. وإما معنى.
وعلى هذا فالمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة فتوضئوا أو اغتسلوا إن كنتم جنبا وإن كنتم مرضى أو مسافرين أو فعلتم ما هو أبلغ في الحدث - جئتم من الغائط أو لامستم النساء - إذ التقدير: وإن كنتم مرضى أو مسافرين وقد قمتم إلى الصلاة أو فعلتم - مع القيام إلى الصلاة والمرض أو السفر - هذين الأمرين المجيء من الغائط والجماع. فيكون قد اجتمع قيامكم إلى الصلاة والمرض والسفر وأحد هذين. فالقيام موجب للطهارة والعذر مبيح وهذا القيام. فإذا قمتم وجب التيمم إن كان قياما مجردا. أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. ولكن من الناس من يعطف قوله {أو جاء} {أو لامستم} على قوله {إذا قمتم} والتقدير: وإذا قمتم أو جاء أو لامستم. وهذا مخالف لنظم الآية.
فإن نظمها يقتضي أن هذا داخل في جزاء الشرط. وقوله: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} فإن الذي قاله قريب من جهة المعنى. ولكن التقدير: وإن كنتم إذا قمتم إلى الصلاة مرضى أو على سفر أو كان مع ذلك: جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. فهو تقسيم من مفرد ومركب. يقول: إن كنتم مرضى أو على سفر قائمين إلى الصلاة فقط بالقيام من النوم أو القعود المعتاد. أو كنتم - مع هذا -: قد جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. فقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} خطاب لمن قيل لهم: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فالمعنى يا أيها القائم إلى الصلاة توضأ. وإن كنت جنبا فاغتسل.
وإن كنت مريضا أو مسافرا تيمم. أو كنت مع هذا وهذا مع قيامك إلى الصلاة وأنت محدث أو جنب. ومع مرضك وسفرك قد جئت من الغائط أو لامست النساء: فتيمم إن كنت معذورا. وإيضاح هذا: أنه من باب عطف الخاص على العام الذي يخص بالذكر لامتيازه. وتخصيصه يقتضي ذلك. ومثل هذا يقال: إنه داخل في العام ثم ذكر بخصوصه. ويقال: بل ذكره خاصا يمنع دخوله في العام. وهذا يجيء في العطف بأو وأما بالواو: فمثل قوله تعالى {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} وقوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم} الآية ومن هذا قوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} ونحو ذلك.
وأما في " أو " ففي مثل قوله تعالى {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} وقوله: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} وقوله: {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا} وقوله {فمن خاف من موص جنفا أو إثما} فإن الجنف هو الميل عن الحق وإن كان عامدا.
قال عامة المفسرين " الجنف " الخطأ و " الإثم " العمد. قال أبو سليمان الدمشقي: الجنف: الخروج عن الحق. وقد يسمى " المخطئ العامد " إلا أن المفسرين علقوا " الجنف " على المخطئ و " الإثم " على العامد. ومثله قوله: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} فإن " الكفور " هو الآثم أيضا. لكنه عطف خاص على عام. وقد قيل: هما وصفان لموصوف واحد وهو أبلغ. فإن عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كقوله: {الذي خلق فسوى} {والذي قدر فهدى} وقوله: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} وقوله: {قد أفلح المؤمنون} {الذين هم في صلاتهم خاشعون} {والذين هم عن اللغو معرضون} {والذين هم للزكاة فاعلون} {والذين هم لفروجهم حافظون} ونظائر هذا كثيرة. قال ابن زيد: الآثم المذنب الظالم والكفور.
هذا كله واحد. قال ابن عطية: هو مخير في أنه يعرف الذي ينبغي أن لا يطيعه بأي وصف كان من هذين؛ لأن كل واحد منهم فهو آثم وهو كفور ولم يكن للأمة من الكثرة بحيث يغلب الإثم على المعاصي. قال: واللفظ إنما يقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة أو كفور من المشركين. وقال أبو عبيدة وغيره: ليس فيها تخيير " أو " بمعنى الواو. وكذلك قال طائفة: منهم البغوي وابن الجوزي. وقال المهدوي: أي لا تطع من أثم أو كفر. ودخول " أو " يوجب أن لا تطيع كل واحد منهما على انفراده. ولو قال: ولا تطع منهما آثما أو كفورا لم يلزم النهي إلا في حال اجتماع الوصفين. وقد يقال: إن " الكفور " هو الجاحد للحق وإن كان مجتهدا مخطئا. فيكون هذا أعم من وجه وهذا أعم من وجه التمسك (1).
وقوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} من هذا الباب. فإنه خاطب المؤمنين. فقال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وهذا يتناول المحدثين كما تقدم. ثم قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} ثم قال " وإن كنتم - مع الحدث والجنابة - مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماء فتيمموا "وهذا يتناول كل محدث سواء كان قد جاء من الغائط أو لم يجئ كالمستيقظ من نومه. والمستيقظ إذا خرجت منه الريح. ويتناول كل جنب سواء كانت جنابته باحتلام أو جماع.
فقال " وإن كنتم محدثون - جنب مرضى أو على سفر - أو جاء أحد منكم من الغائط " وهذا نوع خاص من الحدث {أو لامستم النساء} وهذا نوع خاص من الجنابة. ثم قد يقال: " لفظ الجنب " يتناول النوعين وخص المجامع بالذكر وكذلك " القائم إلى الصلاة " يتناول من جاء من الغائط ومن أحدث بدون ذلك لكن خص الجائي بالذكر كما في قوله: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما} فالآثم هو المتعمد وتخصيصه بالذكر - وإن كان دخل - ليبين حكمه بخصوصه ولئلا يظن خروجه عن اللفظ العام. وإن كان لم يدخل فهو نوع آخر. والتقدير: إن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا. وهذا معنى الآية.
فصل:
وقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} ذكر الحدث الأصغر. فالمجيء من الغائط هو مجيء من الموضع الذي يقضي فيه الحاجة. وكانوا ينتابون الأماكن المنخفضة وهي الغائط. وهو كقولك: جاء من المرحاض. وجاء من الكنيف ونحو ذلك. هذا كله عبارة عمن جاء وقد قضى حاجته بالبول أو الغائط. والريح يخرج معهما. وقد تنازع الفقهاء: هل تنقض الريح لكونها تستصحب جزءا من الغائط. فلا يكون على هذا نوعا آخر؟ أو هي لا تستصحب جزءا من الغائط. بل هي نفسها تنقض. ونقضها متفق عليه بين المسلمين.
وقد دل عليه القرآن في قوله: {إذا قمتم} سواء كان أريد القيام من النوم أو مطلقا. فإن القيام من النوم: مراد على كل تقدير. وهو إنما نقض بخروج الريح. هذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف: أن النوم نفسه ليس بناقض ولكنه مظنة خروج الريح. وقد ذهبت طائفة إلى أن النوم نفسه ينقض ونقض الوضوء بقليله وكثيره. وهو قول ضعيف. وقد ثبت في الصحيحين {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينام حتى يغط ثم يقوم يصلي ولا يتوضأ ويقول: تنام عيناي ولا ينام قلبي}. فدل على أن قلبه الذي لم ينم كان يعرف به أنه لم يحدث ولو كان النوم نفسه كالبول والغائط والريح: لنقض كسائر النواقض.
وأيضا قد ثبت في الصحيحين " أن الصحابة كانوا ينتظرون الصلاة حتى تخفق رءوسهم. ثم يصلون ولا يتوضئون وهم في المسجد ينتظرون العشاء خلف النبي صلى الله عليه وسلم ". وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عن العشاء ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا. ثم رقدنا ثم استيقظنا. ثم خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: ليس أحد من أهل الأرض الليلة ينتظر الصلاة غيركم}.
ولمسلم عنه قال {مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة. فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل أو بعضه - ولا ندري أي شيء شغله من أهله أو غير ذلك - فقال حين خرج: إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة. ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى}. ولمسلم أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت {اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى. فقال: إنه لوقتها؛ لولا أن أشق على أمتي}. ففي هذه الأحاديث الصحيحة: أنهم ناموا وقال في بعضها " إنهم رقدوا ثم استيقظوا ثم رقدوا ثم استيقظوا " وكان الذين يصلون خلفه جماعة كثيرة وقد طال انتظارهم وناموا. ولم يستفصل أحدا لا سئل ولا سأل الناس: هل رأيتم رؤيا؟ أو هل مكن أحدكم مقعدته؟ أو هل كان أحدكم مستندا؟ وهل سقط شيء من أعضائه على الأرض؟ فلو كان الحكم يختلف لسألهم. وقد علم أنه في مثل هذا الانتظار بالليل - مع كثرة الجمع - يقع هذا كله. وقد كان يصلي خلفه النساء والصبيان. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: {اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بصلاة العشاء فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال عمر بن الخطاب: نام النساء والصبيان.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم. وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس}. وقد خرج البخاري هذا الحديث في " باب خروج النساء إلى المسجد بالليل والغلس " وفي " باب النوم قبل العشاء لمن غلب عليه النوم " وخرجه في " باب وضوء الصبيان وحضورهم الجماعة " وقال فيه {إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم}.
وهذا يبين أن قول عمر " نام النساء والصبيان " يعني والناس في المسجد ينتظرون الصلاة. وهذا يبين أن المنتظرين للصلاة كالذي ينتظر الجمعة إذا نام أي نوم كان لم ينتقض وضوءه. فإن النوم ليس بناقض. وإنما الناقض: الحدث فإذا نام النوم المعتاد الذي يختاره الناس في العادة - كنوم الليل والقائلة - فهذا يخرج منه الريح في العادة وهو لا يدري إذا خرجت فلما كانت الحكمة خفية لا نعلم بها: قام دليلها مقامها. وهذا هو النوم الذي يحصل هذا فيه في العادة.
وأما النوم الذي يشك فيه: هل حصل معه ريح أم لا؟ فلا ينقض الوضوء. لأن الطهارة ثابتة بيقين فلا تزول بالشك. وللناس في هذه المسألة أقوال متعددة ليس هذا موضع تفصيلها لكن هذا هو الذي يقوم عليه الدليل. وليس في الكتاب والسنة نص يوجب النقض بكل نوم. فإن قوله: {العين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء} قد روي في السنن من حديث علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما وقد ضعفه غير واحد. وبتقدير صحته: فإنما فيه {إذا نامت العينان استطلق الوكاء} وهذا يفهم منه: أن النوم المعتاد هو الذي يستطلق منه الوكاء. ثم نفس الاستطلاق لا ينقض. وإنما ينقض ما يخرج مع الاستطلاق. وقد يسترخي الإنسان حتى ينطلق الوكاء ولا ينتقض وضوءه. وإنما قوله في حديث صفوان بن عسال {أمرنا أن لا ننزع خفافنا إذا كنا سفرا - أو مسافرين - ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة. لكن من غائط أو بول أو نوم} فهذا ليس فيه ذكر نقض النوم. ولكن فيه: أن لابس الخفين لا ينزعهما ثلاثة أيام إلا من جنابة ولا ينزعهما من الغائط والبول والنوم فهو نهي عن نزعهما لهذه الأمور. وهو يتناول النوم الذي ينقض. ليس فيه: أن كل نوم ينقض الوضوء.
هذا إذا كان لفظ " النوم " من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فكيف إذا كان من كلام الراوي؟ وصاحب الشريعة قد يعلم أن الناس إذا كانوا قعودا أو قياما في الصلاة أو غيرها فينعس أحدهم وينام ولم يأمر أحدا بالوضوء في مثل هذا. أما الوضوء من النوم المعروف عند الناس: فهو الذي يترجح معه في العادة خروج الريح وأما ما كان قد يخرج معه الريح وقد لا يخرج: فلا ينقض على أصل الجمهور. الذين يقولون: إذا شك هل ينقض أو لا ينقض؟ أنه لا ينقض. بناء على يقين الطهارة.
فصل:
وهو سبحانه أمرنا بالطهارتين الصغرى والكبرى وبالتيمم عن كل منهما فقال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} فأمر بالوضوء. ثم قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فأمر بالتطهر من الجنابة كما قال في المحيض: {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} وقال في سورة النساء: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} وهذا يبين أن التطهر هو الاغتسال. والقرآن يدل على أنه لا يجب على الجنب إلا الاغتسال وأنه إذا اغتسل جاز له أن يقرب الصلاة. والمغتسل من الجنابة ليس عليه نية رفع الحدث الأصغر كما قال جمهور العلماء. والمشهور في مذهب أحمد: أن عليه نية رفع الحدث الأصغر وكذلك ليس عليه فعل الوضوء ولا ترتيب ولا موالاة عند الجمهور. وهو ظاهر مذهب أحمد. وقيل: لا يرتفع الحدث الأصغر إلا بهما. وقيل: لا يرتفع حتى يتوضأ. روي ذلك عن أحمد.
__________
Q (1) بياض في الأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 243)
من صــ 341 الى صـ 355
والقرآن يقتضي: أن الاغتسال كاف. وأنه ليس عليه بعد الغسل من الجنابة حدث آخر بل صار الأصغر جزءا من الأكبر. كما أن الواجب في الأصغر جزء من الواجب في الأكبر فإن الأكبر يتضمن غسل الأعضاء الأربعة. ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية واللواتي غسلن ابنته: {اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر.
وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها}. فجعل غسل مواضع الوضوء جزءا من الغسل لكنه يقدم كما تقدم الميامن. وكذلك الذين نقلوا صفة غسله كعائشة رضي الله عنها ذكرت {أنه كان يتوضأ ثم يفيض الماء على شعره ثم على سائر بدنه} ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين وكان لا يتوضأ بعد الغسل. فقد دل الكتاب والسنة على أن الجنب والحائض لا يغسلان أعضاء الوضوء ولا ينويان وضوءا بل يتطهران ويغتسلان كما أمر الله تعالى. وقوله: {فاطهروا} أراد به الاغتسال. فدل على أن قوله في الحيض {حتى يطهرن فإذا تطهرن} أراد به الاغتسال كما قاله الجمهور: مالك والشافعي وأحمد. وأن من قال: هو غسل الفرج. كما قاله داود فهو ضعيف.
فصل:
قال الله عز وجل: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا}. فقوله {فلم تجدوا ماء} يتعلق بقوله {على سفر} لا بالمرض. والمريض يتيمم وإن وجد الماء. والمسافر إنما يتيمم إذا لم يجد الماء. ذكر سبحانه وتعالى النوعين الغالبين: الذي يتضرر باستعمال الماء والذي لا يجده. وقوله {على سفر} يعم السفر الطويل والقصير كما قاله الجمهور. وقوله: {وإن كنتم مرضى} كقوله في آية الخوف: {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} وقوله في الإحرام: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه}
وفي الصيام {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} ولم يوقت الله تعالى وقتا في المرض. والذي عليه الجمهور: أنه لا يشترط فيه خوف الهلاك. بل من كان الوضوء يزيد مرضه أو يؤخر برأه يتيمم. وكذلك في الصيام والإحرام. ومن يتضرر بالماء لبرد فهو كالمريض عند الجمهور. لكن الله ذكر الضرر العام وهو المرض. بخلاف البرد. فإنه إنما يكون في بعض البلاد لبعض الناس الذين لا يقدرون على الماء الحار. وكذلك ذكر المسافر الذي لا يجد الماء ولم يذكر الحاضر. فإن عدمه في الحضر نادر. لكن قد يحبس الرجل وليس عنده إلا ما يكفيه لشربه. كما أن المسافر قد لا يكون معه إلا ما يكفيه لشربه وشرب دوابه. فهذا عند الجمهور عادم الماء فيتيمم.
فصل:
وقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء}. ذكر أعظم ما يوجب الوضوء وهو قضاء الحاجة. وأغلظ ما يوجب الغسل وهو ملامسة النساء. وأمر كلا منهما إذا كان مريضا أو مسافرا لا يجد الماء: أن يتيمم. وهذا هو مذهب جمهور الخلف والسلف. وقد ثبت تيمم الجنب في أحاديث صحاح وحسان كحديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما. وهو في الصحيحين. وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه وهو في البخاري. وحديث أبي ذر وعمرو بن العاص وصاحب الشجة رضي الله عنهم. وهو في السنن.
فهاتان آيتان من كتاب الله وخمسة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد عرفت مناظرة ابن مسعود في ذلك لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. ولهذا نظائر كثيرة عن الصحابة. إذا عرفتها تعرف دلالة الكتاب والسنة عن الرجل العظيم القدر تحقيقا لقوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ولا يرد هذا النزاع إلا إلى الله والرسول المعصوم المبلغ عن الله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. الذي هو الواسطة بين الله وبين عباده.
فصل:
ونذكر هذا على قوله: {أو لامستم النساء}.
المراد به: الجماع. كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من العرب. وهو يروى عن علي رضي الله عنه وغيره. وهو الصحيح في معنى الآية. وليس في نقض الوضوء من مس النساء لا كتاب ولا سنة. وقد كان المسلمون دائما يمسون نساءهم. وما نقل مسلم واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحدا بالوضوء من مس النساء. وقول من قال: إنه أراد ما دون الجماع وإنه ينقض الوضوء. فقد روي عن ابن عمر والحسن " باليد " وهو قول جماعة من السلف في المس بشهوة والوضوء منه حسن مستحب لإطفاء الشهوة كما يستحب الوضوء من الغضب لإطفائه.
وأما وجوبه: فلا.
وأما المس المجرد عن الشهوة: فما أعلم للنقض به أصلا عن السلف. وقوله تعالى {أو لامستم النساء} لم يذكر في القرآن الوضوء منه بل إنما ذكر التيمم بعد أن أمر المحدث القائم للصلاة: بالوضوء. وأمر الجنب بالاغتسال فذكر الطهارة بالصعيد الطيب ولا بد أن يبين النوعين. وقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط} بيان لتيمم هذا. وقوله: {أو لامستم النساء} لم يذكر واحدا منهما لبيان طهارة الماء. إذا كان قد عرف أصل هذا. فقوله {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وقوله: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فالآية ليس فيها إلا أن اللامس إذا لم يجد الماء يتيمم. فكيف يكون هذا من الحدث الأصغر؟ يأمر من مس المرأة أن يتيمم وهو لم يأمره أن يتوضأ. فكيف يأمر بالتيمم من لم يأمره بالوضوء؟ وهو إنما أمر بالتيمم من أمره بالوضوء والاغتسال. ونظير هذا يطول. ومن تدبر الآية قطع بأن هذا هو المراد.
فصل:
ودلت الآية على أن المسافر: يجامع أهله وإن لم يجد الماء ولا يكره له ذلك كما قاله الله في الآية. وكما دلت عليه الأحاديث. حديث أبي ذر وغيره.
فصل:
وقوله: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} دليل على أن التيمم مطهر كالماء سواء. وكذلك ثبت في صحيح السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين. فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير} رواه الترمذي وصححه ورواه أبو داود والنسائي. وفي الصحيح عنه: قال {جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا}. وهو - صلى الله عليه وسلم - جعل التراب طهورا في طهارة الحدث وطهارة الجنب. كما قال في حديث أبي سعيد {إذا أتى أحدكم المسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما فإن كان بهما أذى - أو خبث - فليدلكهما بالتراب.
فإن التراب لهما طهور} وقال في حديث أم سلمة {ذيل المرأة يطهره ما بعده}. فدل على أن التيمم مطهر يجعل صاحبه طاهرا كما يجعل الماء مستعمله في الطهارة طاهرا إن لم يكن جنبا ولا محدثا. فمن قال: إن المتيمم جنب أو محدث فقد خالف الكتاب والسنة. بل هو متطهر. وقوله في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه {أصليت بأصحابك وأنت جنب}؟ " استفهام. أي هل فعلت ذلك؟ فأخبره عمرو رضي الله عنه أنه لم يفعله بل تيمم لخوفه: أن يقتله البرد. فسكت عنه وضحك. ولم يقل شيئا.
فإن قيل: إن هذا إنكار عليه: أنه صلى مع الجنابة. فإنه يدل على أن الصلاة مع الجنابة لا تجوز. فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر ما هو منكر فلما أخبره: أنه صلى بالتيمم. دل على أنه لم يصل وهو جنب. فالحديث حجة على من احتج به وجعل المتيمم جنبا ومحدثا. والله يقول: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فلم يجز الله له الصلاة حتى يتطهر. والمتيمم قد تطهر بنص الكتاب والسنة. فكيف يكون جنبا غير متطهر؟ لكنها طهارة بدل. فإذا قدر على الماء بطلت هذه الطهارة وتطهر بالماء حينئذ. لأن البول المتقدم جعله محدثا.
والصعيد جعله مطهرا إلى أن يجد الماء. فإن وجد الماء فهو محدث بالسبب المتقدم لا أن الحدث كان مستمرا. ثم من قال: التيمم مبيح لا رافع فإن نزاعه لفظي. فإنه إن قال: إنه يبيح الصلاة مع الجنابة والحدث وإنه ليس بطهور فهو يخالف النصوص. والجنابة محرمة للصلاة. فيمتنع أن يجتمع المبيح والمحرم على سبيل التمام فإن ذلك يقتضي اجتماع الضدين. والمتيمم غير ممنوع من الصلاة. فالمنع ارتفع بالاتفاق وحكم الجنابة المنع. فإذا قيل بوجوده بدون مقتضاها - وهو المنع - فهذا نزاع لفظي.
فصل:
وفي الآية دلالة على أن المتخلي لا يجب عليه غسل فرجه بالماء إنما يجب الماء في طهارة الحدث بسبيله على أن إزالة النجو والخبث لا يتعين لها الماء فإنه على ذلك تدل النصوص؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر فيها تارة بالماء وتارة بغير الماء كما قد بسط في مواضع.
إذ المقصود هنا: التنبيه على ما دلت عليه الآية. فإن قوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} نص في أنه عند عدم الماء يصلي وإن تغوط. بلا غسل. وقد ثبت في السنة {أنه يكفيه ثلاثة أحجار} وأما مع العذر: فإنه قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وهذا يتناول كل قائم وهو يتناول من جاء من الغائط كما يتناول من خرجت منه الريح.
فلو كان غسل الفرجين بالماء واجبا على القائم إلى الصلاة: لكان واجبا كوجوب غسل الأعضاء الأربعة. والقرآن يدل على أنه لا يجب عليه إلا ما ذكره من الغسل والمسح وهو يدل على أن المتوضئ والمتيمم متطهر. والفرجان جاءت السنة بالاكتفاء فيهما بالاستجمار. وقوله تعالى {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} يدل على أن الاستنجاء مستحب يحبه الله لا أنه واجب. بل لما كان غير هؤلاء من المسلمين لا يستنجون بالماء - ولم يذمهم على ذلك بل أقرهم. ولكن خص هؤلاء بالمدح - دل على جواز ما فعله غير هؤلاء. وأن فعل هؤلاء أفضل وأنه مما فضل الله به الناس بعضهم على بعض.
باب الوضوء
سئل - رحمه الله -:
عن مسح الرأس في الوضوء: من العلماء من أوجب جميع الرأس ومنهم من أوجب ربع الرأس ومنهم من قال: بعض شعره يجزئ: فما ينبغي أن يكون الصحيح من ذلك؟ بينوا لنا ذلك.
فأجاب:
الحمد لله، اتفق الأئمة كلهم على أن السنة مسح جميع الرأس كما ثبت في الأحاديث الصحيحة والحسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الذين نقلوا وضوءه لم ينقل عنه أحد منهم أنه اقتصر على مسح بعض رأسه وما يذكره بعض الفقهاء - كالقدوري في أول مختصره وغيره - أنه توضأ ومسح على ناصيته: إنما هو بعض الحديث الذي في الصحيح من حديث المغيرة بن شعبة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ عام تبوك ومسح على ناصيته}. ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى جواز مسح بعض الرأس وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وقول في مذهب مالك وأحمد.
وذهب آخرون إلى وجوب مسح جميعه وهو المشهور من مذهب مالك وأحمد وهذا القول هو الصحيح فإن القرآن ليس فيه ما يدل على جواز مسح بعض الرأس فإن قوله تعالى {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} نظير قوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} لفظ المسح في الآيتين وحرف الباء في الآيتين: فإذا كانت آية التيمم لا تدل على مسح البعض مع أنه بدل عن الوضوء وهو مسح بالتراب لا يشرع فيه تكرار: فكيف تدل على ذلك آية الوضوء مع كون الوضوء هو الأصل والمسح فيه بالماء المشروع فيه التكرار؟ هذا لا يقوله من يعقل ما يقول.
ومن ظن أن من قال بإجزاء البعض لأن الباء للتبعيض أو دالة على القدر المشترك: فهو خطأ أخطأه على الأئمة وعلى اللغة وعلى دلالة القرآن. والباء للإلصاق وهي لا تدخل إلا لفائدة: فإذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه أفادت قدرا زائدا كما في قوله: {عينا يشرب بها عباد الله} فإنه لو قيل: يشرب منها لم تدل على الري فضمن يشرب معنى يروى فقيل: {يشرب بها} فأفاد ذلك أنه شرب يحصل معه الري. وباب تضمين الفعل معنى فعل آخر حتى يتعدى بتعديته - كقوله: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه}
وأما الذين أوجبوا الاستيعاب - كمالك وأحمد في المشهور من مذهبهما - فحجتهم ظاهر القرآن. وإذا سلم لهم منازعوهم وجوب الاستيعاب في مسح التيمم: كان في مسح الوضوء أولى وأحرى لفظا ومعنى ولا يقال: التيمم وجب فيه الاستيعاب لأنه بدل عن غسل الوجه واستيعابه واجب؛ لأن البدل إنما يقوم مقام المبدل في حكمه لا في وصفه؛ ولهذا المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين ولا يجب فيه الاستيعاب مع وجوبه في الرجلين وأيضا للسنة المستفيضة من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث المغيرة بن شعبة فعند أحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوز المسح على العمامة للأحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك وإذا مسح عنده بناصيته وكمل الباقي بعمامته أجزأه ذلك عنده بلا ريب.
وأما مالك فلا جواب له عن الحديث إلا أن يحمله على أنه كان معذورا لا يمكنه كشف الرأس فتيمم على العمامة للعذر. ومن فعل ما جاءت به السنة من المسح بناصيته وعمامته أجزأه مع العذر بلا نزاع وأجزأه بدون العذر عند الثلاثة ومسح الرأس مرة مرة يكفي بالاتفاق كما يكفي تطهير سائر الأعضاء مرة.
وتنازعوا في مسحه ثلاثا: هل يستحب؟ فمذهب الجمهور أنه لا يستحب كمالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 244)
من صــ 356 الى صـ 370
(فصل في أن غسل القدمين في الوضوء منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا متواترا)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
غسل القدمين في الوضوء منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا متواترا منقول عمله بذلك وأمره به كقوله في الحديث الصحيح من وجوه متعددة؛ كحديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعائشة: {ويل للأعقاب من النار} وفي بعض ألفاظه: {ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار}. فمن توضأ كما تتوضأ المبتدعة - فلم يغسل باطن قدميه ولا عقبه بل مسح ظهرهما - فالويل لعقبه وباطن قدميه من النار. وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين ونقل عنه المسح على القدمين في موضع الحاجة مثل أن يكون في قدميه نعلان يشق نزعهما.
وأما مسح القدمين مع ظهورهما جميعا فلم ينقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مخالف للكتاب والسنة. أما مخالفته للسنة فظاهر متواتر.
وأما مخالفته للقرآن فلأن قوله تعالى {وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} فيه قراءتان مشهورتان: النصب والخفض. فمن قرأ بالنصب فإنه معطوف على الوجه واليدين والمعنى: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم.
ومن قرأ بالخفض فليس معناه وامسحوا أرجلكم كما يظنه بعض الناس؛ لأوجه:
أحدها: أن الذين قرءوا ذلك من السلف قالوا: عاد الأمر إلى الغسل.
الثاني: أنه لو كان عطفا على الرءوس لكان المأمور به مسح الأرجل لا المسح بها والله إنما أمر في الوضوء والتيمم بالمسح بالعضو لا مسح العضو؛ فقال تعالى: {وامسحوا برءوسكم} وقال: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} ولم يقرأ القراء المعروفون في آية التيمم وأيديكم بالنصب كما قرءوا في آية الوضوء فلو كان عطفا لكان الموضعان سواء؛ وذلك أن قوله: {وامسحوا برءوسكم} وقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} يقتضي إلصاق الممسوح؛ لأن الباء للإلصاق وهذا يقتضي إيصال الماء والصعيد إلى أعضاء الطهارة. وإذا قيل: امسح رأسك ورجلك: لم يقتض إيصال الماء إلى العضو. وهذا يبين أن الباء حرف جاء لمعنى لا زائدة كما يظنه بعض الناس وهذا خلاف قوله:معاوي إننا بشر فاسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فإن الباء هنا مؤكدة فلو حذفت لم يختل المعنى والباء في آية الطهارة إذا حذفت اختل المعنى فلم يجز أن يكون العطف على محل المجرور بها بل على لفظ المجرور بها أو ما قبله.
الثالث: أنه لو كان عطفا على المحل لقرئ في آية التيمم فامسحوا بوجوهكم وامسحوا أيديكم: فكان في الآية ما يبين فساد مذهب الشارح بأنه قد دلت عليه فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه بالنصب؛ لأن اللفظين سواء فلما اتفقوا على الجر في آية التيمم مع إمكان العطف على المحل لو كان صوابا: علم أن العطف على اللفظ ولم يكن في آية التيمم منصوب معطوف على اللفظ كما في آية الوضوء.
الرابع: أنه قال: {وأرجلكم إلى الكعبين} ولم يقل: إلى الكعاب فلو قدر أن العطف على المحل كالقول الآخر؛ وأن التقدير أن في كل رجلين كعبين؛ وفي كل رجل كعب واحد: لقيل: إلى الكعب كما قيل: {إلى المرافق} لما كان في كل يد مرفق وحينئذ فالكعبان هما العظمات الناتئان في جانبي الساق؛ ليس هو معقد الشراك مجمع الساق والقدم كما يقوله من يرى المسح على الرجلين فإذا كان الله تبارك وتعالى إنما أمر بطهارة الرجلين إلى الكعبين الناتئين؛والماس ح يمسح إلى مجمع القدم والساق: علم أنه مخالف للقرآن.
الوجه الخامس: أن القراءتين كالآيتين والترتيب في الوضوء: إما واجب؛ وإما مستحب مؤكد الاستحباب فإذا فصل ممسوح بين مغسولين وقطع النظير عن النظير: دل ذلك على الترتيب المشروع في الوضوء.
الوجه السادس: أن السنة تفسر القرآن وتدل عليه وتعبر عنه وهي قد جاءت بالغسل. الوجه السابع: أن التيمم جعل بدلا عن الوضوء عند الحاجة؛ فحذف شطر أعضاء الوضوء وخفف الشطر الثاني؛ وذلك لأنه حذف ما كان ممسوحا ومسح ما كان مغسولا.
وأما القراءة الأخرى - وهي قراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض - فهي لا تخالف السنة المتواترة؛ إذ القراءتان كالآيتين والسنة الثابتة لا تخالف كتاب الله بل توافقه وتصدقه؛ ولكن تفسره وتبينه لمن قصر فهمه عن فهم القرآن؛ فإن القرآن فيه دلالات خفية تخفى على كثير من الناس وفيه مواضع ذكرت مجملة تفسرها السنة وتبينها.
والمسح اسم جنس يدل على إلصاق الممسوح به بالممسوح ولا يدل لفظه على جريانه لا بنفي ولا إثبات.
قال أبو زيد الأنصاري وغيره: العرب تقول: تمسحت للصلاة. فتسمي الوضوء كله مسحا ولكن من عادة العرب وغيرهم إذا كان الاسم عاما تحته نوعان: خصوا أحد نوعيه باسم خاص. وأبقوا الاسم العام للنوع الآخر كما في لفظ الدابة فإنه عام للإنسان وغيره من الدواب لكن للإنسان اسم يخصه فصاروا يطلقونه على غيره. وكذلك لفظ الحيوان؛ ولفظ ذوي الأرحام يتناول لكل ذي رحم؛ لكن للوارث بفرض أو تعصيب اسم يخصه. وكذلك لفظ المؤمن يتناول من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله؛ ومن آمن بالجبت والطاغوت: فصار لهذا النوع اسم يخصه وهو الكافر وأبقي اسم الإيمان مختصا بالأول.
وكذلك لفظ البشارة ونظائر ذلك كثيرة. ثم إنه مع القرينة تارة ومع الإطلاق أخرى يستعمل اللفظ العام في معنيين: كما إذا أوصى لذوي رحمه؛ فإنه يتناول أقاربه من مثل الرجال والنساء. فقوله تعالى في آية الوضوء: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم يقتضي إيجاب مسمى المسح بينهما وكل واحد من المسح الخاص الخالي عن الإسالة؛ والمسح الذي معه إسالة: يسمى مسحا؛ فاقتضت الآية القدر المشترك في الموضعين ولم يكن في لفظ الآية ما يمنع كون الرجل يكون المسح بها هو المسح الذي معه إسالة ودل على ذلك قوله: {إلى الكعبين} فأمر بمسحهما إلى الكعبين.
وأيضا فإن المسح الخاص هو إسالة الماء مع الغسل فهما نوعان: للمسح العام الذي هو إيصال الماء ومن لغتهم في مثل ذلك أن يكتفى بأحد اللفظين كقولهم:
علفتها تبنا وماء باردا
والماء سقي لا علف وقوله:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
والرمح لا يتقلد. ومنه قوله تعالى {يطوف عليهم ولدان مخلدون} {بأكواب وأباريق وكأس} إلى قوله: وحور عين فكذلك اكتفى بذكر أحد اللفظين وإن كان مراده الغسل ودل عليه قوله: {إلى الكعبين} والقراءة الأخرى مع السنة المتواترة. ومن يقول: يمسحان بلا إسالة: يمسحهما إلى الكعاب لا إلى الكعبين فهو مخالف لكل واحدة من القراءتين كما أنه مخالف للسنة المتواترة وليس معه لا ظاهر ولا باطن ولا سنة معروفة وإنما هو غلط في فهم القرآن وجهل بمعناه وبالسنة المتواترة. وذكر المسح بالرجل مما يشعر بأن الرجل يمسح بها بخلاف الوجه واليد فإنه لا يمسح بهما بحال ولهذا جاء في المسح على الخفين اللذين على الرجلين ما لم يجئ مثله في الوجه واليد ولكن دلت السنة مع دلالة القرآن على المسح بالرجلين. ومن مسح على الرجلين فهو مبتدع مخالف للسنة المتواترة وللقرآن ولا يجوز لأحد أن يعمل بذلك مع إمكان الغسل والرجل إذا كانت ظاهرة وجب غسلها وإذا كانت في الخف كان حكمها كما بينته السنة. كما في آية الفرائض فإن السنة بينت حال الوارث إذا كان عبدا أو كافرا أو قاتلا. ونظائره متعددة. والله سبحانه أعلم.
وسئل:
عن لمس النساء هل ينقض الوضوء أم لا؟.
فأجاب:
الحمد لله، أما نقض الوضوء بلمس النساء فللفقهاء فيه ثلاثة أقوال: طرفان ووسط. أضعفها: أنه ينقض اللمس وإن لم يكن لشهوة إذا كان الملموس مظنة للشهوة. وهو قول الشافعي؛ تمسكا بقوله تعالى: {أو لامستم النساء} وفي القراءة الأخرى: أو لمستم.
القول الثاني: أن اللمس لا ينقض بحال وإن كان لشهوة. كقول أبي حنيفة وغيره. وكلا القولين يذكر رواية عن أحمد؛ لكن ظاهر مذهبه كمذهب مالك والفقهاء السبعة: أن اللمس إن كان لشهوة نقض وإلا فلا. وليس في المسألة قول متوجه إلا هذا القول أو الذي قبله. فأما تعليق النقض بمجرد اللمس فهذا خلاف الأصول وخلاف إجماع الصحابة وخلاف الآثار. وليس مع قائله نص ولا قياس.
فإن كان اللمس في قوله تعالى {أو لمستم النساء} إذا أريد به اللمس باليد والقبلة ونحو ذلك - كما قاله ابن عمر وغيره -: فقد علم أنه حيث ذكر مثل ذلك في الكتاب والسنة فإنما يراد به ما كان لشهوة مثل قوله في آية الاعتكاف: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه بخلاف المباشرة لشهوة. وكذلك المحرم - الذي هو أشد - لو باشر المرأة لغير شهوة لم يحرم عليه ولم يجب عليه به دم. وكذلك قوله: {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} وقوله: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} فإنه لو مسها مسيسا خاليا من غير شهوة لم يجب به عدة ولا يستقر به مهر؛ ولا تنتشر به حرمة المصاهرة: باتفاق العلماء بخلاف ما لو مس المرأة لشهوة ولم يخل بها ولم يطأها: ففي استقرار المهر بذلك نزاع معروف بين العلماء في مذهب أحمد وغيره. فمن زعم أن قوله: {أو لمستم النساء} يتناول اللمس وإن لم يكن لشهوة فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن بل وعن لغة الناس في عرفهم فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجل والمرأة علم أنه الوطء بالفرج لا بالقدم.
وأيضا فإنه لا يقول: إن الحكم معلق بلمس النساء مطلقا؛ بل بصنف من النساء وهو ما كان مظنة الشهوة. فأما مس من لا يكون مظنة - كذوات المحارم والصغيرة - فلا ينقض بها. فقد ترك ما ادعاه من الظاهر واشترط شرطا لا أصل له بنص ولا قياس؛ فإن الأصول المنصوصة تفرق بين اللمس لشهوة واللمس لغير شهوة لا تفرق بين أن يكون الملموس مظنة الشهوة أو لا يكون وهذا هو المس المؤثر في العبادات كلها؛ كالإحرام والاعتكاف والصيام وغير ذلك وإذا كان هذا القول لا يدل عليه ظاهر اللفظ ولا القياس: لم يكن له أصل في الشرع.
وأما من علق النقض بالشهوة فالظاهر المعروف في مثل ذلك دليل له؛ وقياس أصول الشريعة دليل. ومن لم يجعل اللمس ناقضا بحال فإنه يجعل اللمس إنما أريد به الجماع؛ كما في قوله تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} ونظائره كثيرة. وفي السنن: أن النبي {قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ؛} لكن تكلم فيه.
وأيضا فمن المعلوم أن مس الناس نساءهم مما تعم به البلوى ولا يزال الرجل يمس امرأته؛ فلو كان هذا مما ينقض الوضوء لكان النبي بينه لأمته؛ ولكان مشهورا بين الصحابة ولم ينقل أحد أن أحدا من الصحابة كان يتوضأ بمجرد ملاقاة يده لامرأته أو غيرها ولا نقل أحد في ذلك حديثا عن النبي: فعلم أن ذلك قول باطل. والله أعلم.
وسئل:
عن مس النساء: هل ينقض الوضوء أم لا؟.
فأجاب:
فيه ثلاثة أقوال للفقهاء: أحدها: أنه لا ينقض بحال. كقول أبي حنيفة وغيره.
والثاني: أنه إن كان له شهوة نقض وإلا فلا. وهو قول مالك وغيره من أهل المدينة. والثالث: ينقض في الجملة وإن لم يكن بشهوة. وهو قول الشافعي وغيره. وعن أحمد بن حنبل ثلاث روايات كالأقوال الثلاثة لكن المشهور عنه قول مالك. والصحيح في المسألة أحد قولين؛ إما الأول وهو عدم النقض مطلقا؛ وإما القول الثاني وهو النقض إذا كان بشهوة.
وأما وجوب الوضوء من مجرد مس المرأة لغير شهوة فهو أضعف الأقوال ولا يعرف هذا القول عن أحد من الصحابة ولا روى أحد عن النبي أنه أمر المسلمين أن يتوضئوا من ذلك؛ مع أن هذا الأمر غالب لا يكاد يسلم فيه أحد في عموم الأحوال؛ فإن الرجل لا يزال يناول امرأته شيئا وتأخذه بيدها وأمثال ذلك مما يكثر ابتلاء الناس به فلو كان الوضوء من ذلك واجبا لكان النبي يأمر بذلك مرة بعد مرة ويشيع ذلك ولو فعل لنقل ذلك عنه ولو بأخبار الآحاد فلما لم ينقل عنه أحد من المسلمين أنه أمر أحدا من المسلمين بشيء من ذلك - مع عموم البلوى به - علم أن ذلك غير واجب وأيضا فلو أمرهم بذلك لكانوا ينقلونه ويأمرون به. ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه أمر بالوضوء من مجرد المس العاري عن شهوة بل تنازع الصحابة في قوله تعالى {أو لامستم النساء} فكان ابن عباس وطائفة يقولون: الجماع ويقولون: الله حيي كريم يكني بما يشاء عما شاء. وهذا أصح القولين. وقد تنازع عبد الله بن عمر والعرب وعطاء بن أبي رباح والموالي هل المراد به الجماع أو ما دونه؟ فقالت العرب: هو الجماع.
وقالت: الموالي هو ما دونه. وتحاكموا إلى ابن عباس فصوب العرب وخطأ الموالي. وكان ابن عمر يقول: قبلة الرجل امرأته ومسها بيده من الملامسة وهذا قول مالك وغيره من أهل المدينة. ومن الناس من يقول: إن هذا قول ابن عمر وابن مسعود؛ لكونهما كانا لا يريان التيمم للجنب؛ فيتأولان الآية على نقض الوضوء. ولكن قد صرح في الآية أن الجنب يتيمم. وقد ناظر أبو موسى ابن مسعود بالآية فلم يجبه ابن مسعود بشيء وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه: فعلم أن ذلك كان من عدم استحضاره لموجب الآية.
ومعلوم أن الصحابة الأكابر الذين أدركوا النبي لو كانوا يتوضؤون من مس نسائهم مطلقا؛ ولو كان النبي أمرهم بذلك: لكان هذا مما يعلمه بعض الصغار؛ كابن عمر وابن عباس وبعض التابعين فإذا لم ينقل ذلك صاحب ولا تابع: كان ذلك دليلا على أن ذلك لم يكن معروفا بينهم وإنما تكلم القوم في تفسير الآية والآية إن كان المراد بها الجماع فلا كلام وإن كان أريد بها ما هو أعم من الجماع فيقال: حيث ذكر الله تعالى في كتابه مس النساء ومباشرتهن ونحو ذلك: فلا يريد به إلا ما كان على وجه الشهوة واللذة وأما اللمس العاري عن ذلك فلا يعلق الله به حكما من الأحكام أصلا وهذا كقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} فنهى العاكف عن مباشرة النساء مع أن العلماء يعلمون أن المعتكف لو مس امرأته بغير شهوة لم يحرم ذلك عليه وقد ثبت في الصحيح عن النبي {: أنه كان يدني رأسه إلى عائشة رضي الله عنها فترجله وهو معتكف} ومعلوم أن ذلك مظنة مسه لها ومسها له.
وأيضا فالإحرام أشد من الاعتكاف ولو مسته المرأة لغير شهوة لم يأثم بذلك ولم يجب عليه دم. وهذا الوجه يستدل به من وجهين: من جهة ظاهر الخطاب؛ ومن جهة المعنى والاعتبار؛ فإن خطاب الله تعالى في القرآن بذكر اللمس والمس والمباشرة للنساء ونحو ذلك: لا يتناول ما تجرد عن شهوة أصلا ولم يتنازع المسلمون في شيء من ذلك إلا في آية الوضوء والنزاع فيها متأخر؛ فيكون ما أجمعوا عليه قاضيا على ما تنازع فيه متأخروهم.
وأما طريق الاعتبار فإن اللمس المجرد لم يعلق الله به شيئا من الأحكام ولا جعله موجبا لأمر ولا منهيا عنه في عبادة ولا اعتكاف ولا إحرام؛ ولا صلاة ولا صيام؛ ولا غير ذلك ولا جعله ينشر حرمة المصاهرة؛ ولا يثبت شيئا غير ذلك بل هذا في الشرع كما لو مس المرأة من وراء ثوبها ونحو ذلك من المس الذي لم يجعله الله سببا لإيجاب شيء ولا تحريم شيء.
وإذا كان كذلك كان إيجاب الوضوء بهذا مخالفا للأصول الشرعية المستقرة مخالفا للمنقول عن الصحابة وكان قولا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة؛ بل المعلوم من السنة مخالفته بل هذا أضعف ممن جعل المني نجسا فإن القول بنجاسة المني ضعيف فإذا كان النبي لم يأمر أحدا بغسل ما يصيب بدنه أو ثيابه من المني مع كثرة ما كان يصيب الناس من ذلك في حياته؛ وقد أمر الحائض أن تغسل ما أصاب ثوبها من الدم مع أن ذلك قليل بالنسبة لإصابة المني للرجال؛ ولو كان ذلك واجبا لبينه بل كان يغسل ويمسح تقذرا كما كانت عائشة رضي الله عنها تارة تغسله وتارة تفركه من ثوبه.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 245)
من صــ 371 الى صـ 385
وكان سعد بن أبي وقاص وابن عباس يقولان: أمطه عنك ولو بإذخرة فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق وكانت عمرة تغسله من ثوبه فإن كان في اعتقاده نجاسة المني فهذا نزاع بين الصحابة والسنة تفصل بينهم. فإذا كانت نجاسة المني ضعيفة في السنة لكون النبي لم يأمر بذلك لعموم البلوى به لكن هذا أضعف لكون الصحابة لم يحك أحد منهم مجرد اللمس العاري عن الشهوة ناقضا وإنما تنازعوا في اللمس المعتاد للشهوة كالقبلة والغمز باليد ونحو ذلك.
وأيضا فإيجاب الوضوء من جنس اللمس كمس النساء ومس الذكر إن لم يعلل بكونه مظنة تحريك الشهوة وإلا كان مخالفا للأصول فأما إذا علل بتحريك الشهوة كان مناسبا للأصول وهنا للفقهاء طريقان: أحدهما: قول من يقول: إن ذلك مظنة خروج الناقض فأقيمت المظنة مقام الحقيقة. وهذا قول ضعيف؛ فإن المظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفية وكانت المظنة تفضي إليها غالبا؛ وكلاهما معدوم؛ فإن الخارج لو خرج لعلم به الرجل.
وأيضا فإن مس الذكر لا يوجب خروج شيء في العادة أصلا؛ فإن المني إنما يخرج بالاستمناء وذلك يوجب الغسل والمذي يخرج عقيب تفكر ونظر ومس المرأة لا الذكر؛ فإذا كانوا لا يوجبون الوضوء بالنظر الذي هو أشد إفضاء إلى خروج المني: فبمس الذكر أولى.
والقول الثاني: أن يقال: اللمس سبب تحريك الشهوة كما في مس المرأة وتحريك الشهوة يتوضأ منه كما يتوضأ من الغضب وأكل لحم الإبل؛ لما في ذلك من أثر الشيطان الذي يطفأ بالوضوء؛ ولهذا قال طائفة من أصحاب أبي حنيفة: إنما يتوضأ إذا انتشر انتشارا شديدا. وكذلك قال طائفة من أصحاب مالك: يتوضأ إذا انتشر لكن هذا الوضوء من اللمس: هل هو واجب أو مستحب؟ فيه نزاع بين الفقهاء ليس هذا موضع ذكره؛ فإن مسألة الذكر لها موضع أخر. وإنما المقصود هنا مسألة مس النساء.
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عن قول النبي صلى الله عليه وسلم {إنكم تأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء} وهذه صفة المصلين فبم يعرف غيرهم من المكلفين التاركين والصبيان؟.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذا الحديث دليل على أنه إنما يعرف من كان أغر محجلا وهم الذين يتوضؤون للصلاة.
وأما الأطفال فهم تبع للرجل.
وأما من لم يتوضأ قط ولم يصل: فإنه دليل على أنه لا يعرف يوم القيامة.
فصل في قوله تعالى (فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
والتيمم في اللغة: هو القصد ومنه قوله تعالى {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} وقوله: {ولا آمين البيت الحرام} ومنه قول امرئ القيس:
تيممت الماء الذي دون ضارج ... يميل عليها الظل عرمضها طامي
لكن لما قال الله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} كان التيمم المأمور به: هو تيمم الصعيد الطيب للتمسح به فصار لفظ التيمم إذا أطلق في عرف الفقهاء انصرف إلى هذا التيمم الخاص وقد يراد بلفظ التيمم نفس مسح اليدين والوجه فسمي المقصود بالتيمم تيمما.
وهذا التيمم المأمور به في الآية هو من خصائص المسلمين ومما فضلهم الله به على غيرهم من الأمم ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة} وهذا لفظ البخاري.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون}.
ولمسلم أيضا عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فضلت على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء}. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت: وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم}. وقوله تعالى {فتيمموا صعيدا طيبا} نكرة في سياق الإثبات كقوله: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} وقوله: {فتحرير رقبة} وقوله: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} وقوله: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} وهذه تسمى مطلقة وهي تفيد العموم على سبيل البدل لا على سبيل الجمع فيدل ذلك على أنه يتيمم أي صعيد طيب اتفق.
والطيب هو الطاهر والتراب الذي ينبعث مراد من النص بالإجماع وفيما سواه نزاع سنذكره إن شاء الله تعالى.
وقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} قد اتفق القراء السبعة على قراءة أيديكم بالإسكان؛ بخلاف قوله في الوضوء: {وأرجلكم} فإن بعض السبعة قرءوا: {وأرجلكم} بالنصب قالوا: إنها معطوفة على المغسول تقديره: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم إلى الكعبين كذلك.
قال علي بن أبي طالب وغيره من السلف قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ علي الحسن والحسين: وأرجلكم إلى الكعبين بالخفض فسمع ذلك علي بن أبي طالب. وكان يقضي بين الناس فقال: وأرجلكم يعني بالنصب وقال هذا من المقدم المؤخر في الكلام. وكذلك ابن عباس قرأها بالنصب وقال عاد الأمر إلى الغسل ولا يجوز أن يكون ذلك عطفا على المحل كما يظنه بعض الناس كقول بعض الشعراء:
معاوي إننا بشر فاسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فإنما يسوغ في حرف التأكيد مثل المباني.
وأما حروف المعاني فلا يجوز ذلك فيها والباء هنا للإلصاق ليست للتوكيد ولهذا لم يقرأ القراء هنا وأيديكم كما قرءوا هناك وأرجلكم؛ لأنه لو قال: فامسحوا وجوهكم وأيديكم أو امسحوا بها لكان يكتفى بمجرد المسح من غير إيصال للطهور إلى الرأس وهو خلاف الإجماع فلما كانت الباء للإلصاق دل على أنه لا بد من إلصاق الممسوح به فدل ذلك على استعمال الطهور ولهذا كانت هذه الباء لا تدل على التبعيض عند أحد من السلف وأئمة العربية. ولا قال الشافعي إن التبعيض يستفاد من الباء؛ بل أنكر إمام الحرمين وغيره من أصحابه ذلك وحكموا كلام أئمة العربية في إنكار ذلك ولكن من قال بذلك استند إلى دلالة أخرى.
وقوله تعالى {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} دلت هذه الآية على أن التراب طهور كما صرحت بذلك السنة الصحيحة في قول النبي صلى الله عليه وسلم {وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا} وعن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير} رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي. والترمذي وهذا لفظه.
وقال: حديث حسن صحيح. وقد اتفق المسلمون على أنه إذا لم يجد الماء في السفر تيمم وصلى إلى أن يجد الماء فإذا وجد الماء فعليه استعماله وكذلك تيمم الجنب: ذهب الأئمة الأربعة وجماهير السلف والخلف إلى أنه يتيمم إذا عدم الماء في السفر إلى أن يجد الماء فإذا وجده كان عليه استعماله وقد روي عن عمر وابن مسعود إنكار تيمم الجنب وروي عنهما الرجوع عن ذلك وهو قول أكثر الصحابة: كعلي وعمار وابن عباس وأبي ذر وغيرهم. وقد دل عليه آيات من كتاب الله وخمسة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. منها: حديث عمار بن ياسر وعمران بن حصين كلاهما في الصحيحين ومنها: حديث أبي ذر الذي صححه الترمذي ومنها: حديث عمرو بن العاص وحديث الذي شج فأفتوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم {قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال} ففي الصحيح عن عمر أنه قال: {كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم قال: أصابتني جنابة: ولا ماء قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك} رواه البخاري ومسلم.
وفي الصحيحين عن عمار بن ياسر قال: {بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه} وهذا لفظ مسلم.
فصل:
وأما الصعيد: ففيه أقوال فقيل: يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض وإن لم يعلق بيده؛ كالزرنيخ والنور والجص وكالصخرة الملساء فأما ما لم يكن من جنسها كالمعادن فلا يجوز التيمم به. وهو قول أبي حنيفة. ومحمد يوافقه؛ لكن بشرط أن يكون معبرا لقوله: (منه. وقيل يجوز بالأرض وبما اتصل بها حتى بالشجر كما يجوز عنده وعند أبي حنيفة بالحجر والمدر وهو قول مالك وله في الثلج روايتان: إحداهما: يجوز التيمم به وهو قول الأوزاعي والثوري. وقيل يجوز بالتراب والرمل وهو أحد قولي أبي يوسف وأحمد في إحدى الروايتين وروي عنه أنه يجوز بالرمل عند عدم التراب. وقيل: لا يجوز إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد وهو قول أبي يوسف والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى.
وسئل:
هل يقوم التيمم مقام الوضوء فيما ذكر أم لا؟.
فأجاب:
يقوم التيمم مقام الطهارة بالماء. فما يبيحه الاغتسال والوضوء من الممنوعات يبيحه التيمم.
وسئل أيضا - رحمه الله -:
عن رجل قد أصابته جنابة وهو في بستان ولم يكن عنده إلا ماء بارد ويخاف الضرر على نفسه باستعماله والحمام بعيد منه؛ بحيث إذا وصل إلى الحمام واغتسل خرج الوقت. فهل إذا تيمم للجنابة وتوضأ وصلى في الوقت يلزمه إعادة؟ وهل يأثم بذلك؟ أو يأثم إذا تيمم؟. وهل التيمم يقوم مقام الماء؛ فيجوز له التيمم لنافلة ويصلي بها فريضة أو يصلي فريضتين في وقتين بتيمم واحد؟.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، يجب على كل مسلم أن يصلي الصلوات الخمس في مواقيتها وليس لأحد قط أن يؤخر الصلاة عن وقتها لا لعذر ولا لغير عذر. لكن العذر يبيح له شيئين: يبيح له ترك ما يعجز عنه ويبيح له الجمع بين الصلاتين. فما عجز عنه العبد من واجبات الصلاة سقط عنه. قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}. وقال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. {ولا نكلف نفسا إلا وسعها}. وقال - لما ذكر آية الطهارة -: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} الآية. وقد روي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.
وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم}. فالمريض يصلي على حسب حاله. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: {صل قائما. فإن لم تستطع فقاعدا. فإن لم تستطع فعلى جنب}. وسقط عنه ما يعجز عنه من قيام وقعود أو تكميل الركوع والسجود. ويفعل ما يقدر عليه. فإن قدر على الطهارة بالماء تطهر وإذا عجز عن ذلك لعدم الماء أو خوف الضرر باستعماله تيمم. وصلى ولا إعادة عليه لما يتركه من القيام والقعود باتفاق العلماء وكذلك لا إعادة إذا صلى بالتيمم باتفاقهم ولو كان في بدنه نجاسة لا يمكنه إزالتها صلى بها ولا إعادة عليه أيضا عند عامة العلماء. ولو لم يجد إلا ثوبا نجسا فقيل يصلي عريانا وقيل يصلي ويعيد وقيل يصلي في الثوب النجس ولا يعيد وهو أصح أقوال العلماء. وكذلك المسافر إذا لم يقدر على استعمال الماء صلى بالتيمم. وقيل: يعيد في الحضر وقيل: يعيد في السفر وقيل: لا إعادة عليه لا في الحضر ولا في السفر. وهو أصح أقوال العلماء.
فالصحيح من أقوالهم أنه لا إعادة على أحد فعل ما أمر به بحسب الاستطاعة وإنما يعيد من ترك واجبا يقدر عليه. مثل من تركه لنسيانه أو نومه. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك} وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من توضأ وترك لمعة لم يصبها الماء من قدمه يعيد الوضوء والصلاة. وما ترك لجهله بالواجب مثل من كان يصلي بلا طمأنينة ولا يعلم أنها واجبة فهذا قد اختلفوا فيه: هل عليه الإعادة بعد خروج الوقت أو لا؟ على قولين معروفين.
وهما قولان في مذهب أحمد وغيره والصحيح أن مثل هذا لا إعادة عليه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته: {اذهب فصل فإنك لم تصل - مرتين أو ثلاثا - فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا: فعلمني ما يجزيني في صلاتي} فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بالطمأنينة. ولم يأمره بإعادة ما مضى قبل ذلك الوقت مع قوله: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا: ولكن أمره أن يعيد تلك الصلاة؛ لأن وقتها باق. فهو مأمور بها أن يصليها في وقتها وأما ما خرج وقته من الصلاة فلم يأمره بإعادته مع كونه قد ترك بعض واجباته لأنه لم يكن يعرف وجوب ذلك عليه
. وكذلك لم يأمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يقضي ما تركه من الصلاة: لأجل الجنابة. لأنه لم يكن يعرف أنه يجوز الصلاة بالتيمم. وكذلك المستحاضة قالت له: إني أستحاض حيضة شديدة منكرة تمنعني الصوم والصلاة فأمرها أن تتوضأ لكل صلاة ولم يأمرها بقضاء ما تركته. وكذلك الذين أكلوا في رمضان حتى تبين لأحدهم الحبال البيض من الحبال السود أكلوا بعد طلوع الفجر ولم يأمرهم بالإعادة فهؤلاء كانوا جهالا بالوجوب فلم يأمرهم بقضاء ما تركوه في حال الجهل كما لا يؤمر الكافر بقضاء ما تركه في حال كفره وجاهليته؛ بخلاف من كان قد علم الوجوب وترك الواجب نسيانا. فهذا أمره به إذا ذكره. وأمر النائم من حين يستيقظ فإنه حين النوم لم يكن مأمورا بالصلاة فلهذا كان النائم إذا استيقظ قرب طلوع الشمس يتوضأ ويغتسل وإن طلعت الشمس عند جمهور العلماء: كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك بخلاف من كان مستيقظا والوقت واسع مثل الذي يكون نائما في بستان أو قرية والماء بارد يضره والحمام بعيد منه إن خرج إليه ذهب الوقت فإنه يتيمم ويصلي في الوقت ولا يؤخر الصلاة بعد خروج الوقت.
وكذلك لو كان في المصر وقد تعذر عليه دخول الحمام: إما لكونه لم يفتح أو لبعدها عنه أو لكونه ليس معه ما يعطي الحمامي أجرته ونحو ذلك فإنه يصلي بالتيمم لأن الصلاة بالتيمم فرض إذا عجز عن الماء لعدم أو لخوف الضرر باستعماله ولا إعادة على أحد من هؤلاء ففي كثير من الضرر لا إعادة عليه باتفاق المسلمين: كالمريض والمسافر. وبعض الضرر تنازع فيه العلماء. والصحيح أنه لا إعادة على أحد صلى بحسب استطاعته كما أمر.
فصل:
وأما التيمم لكل صلاة ولوقت كل صلاة ولا يصلي الفرض بالتيمم للنافلة؛ لأن التيمم طهارة ضرورية والحكم المقدر بالضرورة مقدر بقدرها. فلا يتيمم قبل الوقت ولا يبقى بعده. وهو مبيح للصلاة لا رافع للحدث؛ لأنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله من غير تجدد حدث فعلم أن الحدث كان باقيا وإنما أبيح للضرورة.
فلا يستبيح إلا ما نواه. فهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد. وقيل: بل التيمم يقوم مقام الماء مطلقا يستبيح به كما يستباح بالماء ويتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده. وإذا تيمم لنافلة صلى به الفريضة كما أنه إذا توضأ لنافلة صلى به الفريضة. وهذا قول كثير من أهل العلم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية. وقال أحمد: هذا هو القياس.
وهذا القول هو الصحيح وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار؛ فإن الله جعل التيمم مطهرا كما جعل الماء مطهرا. فقال تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} الآية. فأخبر تعالى أنه يريد أن يطهرنا بالتراب كما يطهرنا بالماء. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {فضلنا على الناس بخمس: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وأحلت لنا الغنائم ولم تحل لأحد قبلي.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 246)
من صــ 386 الى صـ 400
وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وفي لفظ فأيما رجل أدركته الصلاة من أمتي فعنده مسجده وطهوره وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة. وبعثت إلى الناس عامة}
وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم قال: {فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها لنا طهورا}. فقد بين صلى الله عليه وسلم أن الله جعل الأرض لأمته طهورا كما جعل الماء طهورا.
وعن أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجدته الماء فأمسسه بشرتك فإن ذلك خير} قال الترمذي حديث حسن صحيح.
فأخبر أن الله جعل الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين. فمن قال إن التراب لا يطهر من الحدث فقد خالف الكتاب والسنة. وإذا كان مطهرا من الحدث امتنع أن يكون الحدث باقيا مع أن الله طهر المسلمين بالتيمم من الحدث فالتيمم رافع للحدث مطهر لصاحبه لكن رفع موقت إلى أن يقدر على استعمال الماء فإنه بدل عن الماء فهو مطهر ما دام الماء متعذرا كما أن الملتقط يملك اللقطة ما دام لم يأته صاحبها وكان ملك صاحبها ملكا موقتا إلى ظهور المالك فإنه كان بدلا عن المالك فإذا جاء صاحبها خرجت عن ملك الملتقط إلى ملك صاحبها.
وما ثبت بنص أو إجماع لا يطلب له نظير يقاس به وإنما يطلب النظير لما لا نعلمه إلا بالقياس والاعتبار. فيحتاج أن نعتبره بنظير وأما ما شرعه الله ورسوله فعلينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نطلب لذلك نظيرا مع أن الاعتبار يوافق النص. كما قال أحمد القياس أن تجعل التراب كالماء. وعلى هذا القول الصحيح يتيمم قبل الوقت إن شاء ويصلي ما لم يحدث أو يقدر على استعمال الماء وإذا تيمم لنفل صلى به فريضة.
ويجمع بالتيمم الواحد بين فرضين ويقضي به الفائت. وأصحاب القول الآخر احتجوا بآثار منقولة عن بعض الصحابة وهي ضعيفة لا تثبت. ولا حجة في شيء منها ولو ثبتت. وقول القائل: إنها طهارة ضرورية فتقدر بقدر الحاجة. قيل له: نعم والإنسان محتاج أن لا يزال على طهارة فيتطهر قبل الوقت؛ فإنه محتاج إلى زيادة الثواب؛ ولهذا يصلي النافلة بالتيمم باتفاق المسلمين وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيمم لرد السلام في الحضر وقال: {إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر} فدل على أن التيمم يكون مستحبا تارة وواجبا أخرى. أي يتيمم في وقت لا يكون التيمم واجبا عليه أن يتيمم وإن كان شرطا للصلاة والتيمم قبل الوقت مستحب كما أن الوضوء قبل الوقت مستحب.
وأصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فوته كالجنازة وصلاة العيد وغيرهما مما يخاف فوته فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة كما أن صلاة التطوع بالتيمم خير من تفويته ولهذا يتيمم للتطوع من كان له ورد في الليل يصليه وقد أصابته جنابة والماء بارد يضره فإذا تيمم وصلى التطوع وقرأ القرآن بالتيمم كان خيرا من تفويت ذلك. فقول القائل: إنه حكم مقيد بالضرورة.
فيقدر بقدرها. إن أراد به أن لا يفعل إلا عند تعذر الماء فهو مسلم. وإن أراد به أنه لا يجوز التيمم إلا إذا كان التيمم واجبا فقد غلط. فإن هذا خلاف السنة وخلاف إجماع المسلمين بل يتيمم للواجب ويتيمم للمستحب كصلاة التطوع وقراءة القرآن المستحبة ومس المصحف المستحب. والله قد جعله طهورا للمسلمين عند عدم الماء فلا يجوز لأحد أن يضيق على المسلمين ما وسع الله عليهم وقد أراد رفع الحرج عن الأمة فليس لأحد أن يجعل فيه حرجا. كما فعله طائفة من الناس. أثبتوا فيه من الحرج ما هو معلوم. ولهذا كان الصواب أنه يجوز التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين ولا يجب فيه ترتيب؛ بل إذا مسح وجهه بباطن راحتيه أجزأ ذلك عن الوجه والراحتين ثم يمسح ظهور الكفين بعد ذلك فلا يحتاج أن يمسح راحتيه مرتين وعلى هذا دلت السنة. وبسط هذه المسائل في موضع آخر. والله أعلم.
فصل:
كل من جاز له الصلاة بالتيمم: من جنب أو محدث جاز له أن يقرأ القرآن خارج الصلاة ويمس المصحف ويصلي بالتيمم النافلة والفريضة ويرقي بالقرآن وغير ذلك.
فإن الصلاة أعظم من القراءة فمن صلى بالتيمم كانت قراءته بالتيمم أولى والقراءة خارج الصلاة أوسع منها في الصلاة فإن المحدث يقرؤه خارج الصلاة وكل ما يفعله بطهارة الماء في الوضوء والغسل يفعله بطهارة التيمم إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله. وإذا أمكن الجنب الوضوء دون الغسل فتوضأ وتيمم عن الغسل جاز وإن تيمم ولم يتوضأ ففيه قولان. قيل: يجزيه عن الغسل وهو قول مالك وأبي حنيفة. وقيل: لا يجزيه وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل. وإذا تيمم بالتراب الذي تحت حصير بيته جاز وكذلك إذا كان هناك غبار لاصق ببعض الأشياء وتيمم بذلك التراب اللاصق جاز.
وأما قراءة الجنب والحائض للقرآن فللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
قيل: يجوز لهذا ولهذا. وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد. وقيل: لا يجوز للجنب ويجوز للحائض. إما مطلقا أو إذا خافت النسيان. وهو مذهب مالك. وقول في مذهب أحمد وغيره. فإن قراءة الحائض القرآن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء غير الحديث المروي عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر {لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا} رواه أبو داود وغيره.
وهو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث. وإسماعيل بن عياش ما يرويه عن الحجازيين أحاديث ضعيفة؛ بخلاف روايته عن الشاميين ولم يرو هذا عن نافع أحد من الثقات ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن ينهاهن عن قراءة القرآن. كما لم يكن ينهاهن عن الذكر والدعاء بل أمر الحيض أن يخرجن يوم العيد فيكبرون بتكبير المسلمين. وأمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت: تلبي وهي حائض وكذلك بمزدلفة ومنى وغير ذلك من المشاعر.
وأما الجنب فلم يأمره أن يشهد العيد ولا يصلي ولا أن يقضي شيئا من المناسك: لأن الجنب يمكنه أن يتطهر فلا عذر له في ترك الطهارة بخلاف الحائض فإن حدثها قائم لا يمكنها مع ذلك التطهر. ولهذا ذكر العلماء ليس للجنب أن يقف بعرفة ومزدلفة ومنى حتى يطهر وإن كانت الطهارة ليست شرطا في ذلك. لكن المقصود أن الشارع أمر الحائض أمر إيجاب أو استحباب بذكر الله ودعائه مع كراهة ذلك للجنب. فعلم أن الحائض يرخص لها فيما لا يرخص للجنب فيه؛ لأجل العذر. وإن كانت عدتها أغلظ فكذلك قراءة القرآن لم ينهها الشارع عن ذلك.
وإن قيل: إنه نهى الجنب لأن الجنب يمكنه أن يتطهر ويقرأ بخلاف الحائض؛ تبقى حائضا أياما فيفوتها قراءة القرآن تفويت عبادة تحتاج إليها مع عجزها عن الطهارة وليست القراءة كالصلاة فإن الصلاة يشترط لها الطهارة مع الحدث الأكبر والأصغر والقراءة تجوز مع الحدث الأصغر بالنص واتفاق الأئمة. والصلاة يجب فيها استقبال القبلة واللباس واجتناب النجاسة والقراءة لا يجب فيها شيء من ذلك بل {كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجر عائشة رضي الله عنها وهي حائض} وهو حديث صحيح. وفي صحيح مسلم أيضا: {يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان} فتجوز القراءة قائما وقاعدا وماشيا ومضطجعا. وراكبا.
(ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
المقصود: أن كل خير فهو داخل في القسط والعدل وكل شر فهو داخل في الظلم. ولهذا كان العدل أمرا واجبا في كل شيء وعلى كل أحد والظلم محرما في كل شيء ولكل أحد فلا يحل ظلم أحد أصلا سواء كان مسلما أو كافرا أو كان ظالما بل الظلم إنما يباح أو يجب فيه العدل عليه أيضا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن}
أي: لا يحملنكم شنآن أي: بغض قوم - وهم الكفار - على عدم العدل؛ {قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} وقال تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وقال تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وقال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}. وقد دل على هذا قوله في الحديث: " {يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا} " فإن هذا خطاب لجميع العباد أن لا يظلم أحد أحدا وأمر العالم في الشريعة مبني على هذا وهو العدل في الدماء والأموال؛ والأبضاع والأنساب؛ والأعراض. ولهذا جاءت السنة بالقصاص في ذلك ومقابلة العادي بمثل فعله.
لكن المماثلة قد يكون علمها أو عملها متعذرا أو متعسرا؛ ولهذا يكون الواجب ما يكون أقرب إليها بحسب الإمكان ويقال: هذا أمثل؛ وهذا أشبه. وهذه الطريقة المثلى لما كان أمثل بما هو العدل والحق في نفس الأمر؛ إذ ذاك معجوز عنه ولهذا قال تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها}
فذكر أنه لم يكلف نفسا إلا وسعها حين أمر بتوفية الكيل والميزان بالقسط؛ لأن الكيل لا بد له أن يفضل أحد المكيلين على الآخر ولو بحبة أو حبات وكذلك التفاضل في الميزان قد يحصل بشيء يسير لا يمكن الاحتراز منه فقال تعالى: {لا نكلف نفسا إلا وسعها}.
ولهذا كان القصاص مشروعا إذا أمكن استيفاؤه من غير جنف كالاقتصاص في الجروح التي تنتهي إلى عظم.
وفي الأعضاء التي تنتهي إلى مفصل فإذا كان الجنف واقعا في الاستيفاء عدل إلى بدله وهو الدية؛ لأنه أشبه بالعدل من إتلاف زيادة في المقتص منه وهذه حجة من رأى من الفقهاء أنه لا قود إلا بالسيف في العنق قال: لأن القتل بغير السيف وفي غير العنق لا نعلم فيه المماثلة بل قد يكون التحريق والتغريق والتوسيط ونحو ذلك أشد إيلاما؛ لكن الذين قالوا: يفعل به مثل ما فعل قولهم أقرب إلى العدل؛ فإنه مع تحري التسوية بين الفعلين يكون العبد قد فعل ما يقدر عليه من العدل وما حصل من تفاوت الألم خارج عن قدرته.
(ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (14)
[فصل: رفض دعواهم وجوب التمسك بدينهم بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم]
قالوا وهذا وغيره أوجب لنا التمسك بديننا وأن لا نهمل ما معنا ولا نرفض مذهبنا ولا نتبع غير السيد المسيح كلمة الله وروحه وحوارييه الذين أرسلهم إلينا.
والجواب أنهم احتجوا بحجتين باطلتين:
إحداهما: أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يرسل إليهم بل إلى العرب وقد تبين أن الاحتجاج بها من أعظم الكذب والافتراء على محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يقل قط إني لم أرسل إلى أهل الكتاب ولا قال قط إني لم أرسل إلا إلى العرب بل نصوصه المتواترة عنه وأفعاله تبين أنه مرسل إلى جميع أهل الأرض أميهم وكتابيهم.
والحجة الثانية: قولهم: أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أثنى على دين النصارى بعد التبديل والنسخ وهي أيضا أعظم كذبا عليه من التي قبلها كيف يثني عليهم وهو يكفرهم في غير موضع من كتابه ويأمر بجهادهم وقتالهم ويذم المتخلفين عن جهادهم غاية الذم ويصف من لم ير طاعته في قتالهم بالنفاق والكفر ويذكر أنه يدخل جهنم وهذا كله يخبر به عن الله ويذكره تبليغا لرسالة ربه وإنما يضاف إليه ; لأنه بلغه وأداه لا لأنه أنشأه وابتدأه.
كما قال - تعالى -: {إنه لقول رسول كريم} [الحاقة: 40] (40) {وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون} [الحاقة: 41] (41) {ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون} [الحاقة: 42] (42) {تنزيل من رب العالمين} [الحاقة: 43] (43) {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} [الحاقة: 44] (44) {لأخذنا منه باليمين} [الحاقة: 45] (45) {ثم لقطعنا منه الوتين} [الحاقة: 46] (46) {فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 47] (47) {وإنه لتذكرة للمتقين} [الحاقة: 48] (48) {وإنا لنعلم أن منكم مكذبين} [الحاقة: 49] (49) {وإنه لحسرة على الكافرين} [الحاقة: 50] (50) {وإنه لحق اليقين} [الحاقة: 51] (51) {فسبح باسم ربك العظيم} [الحاقة: 52]
وأما ثناء الله ورسوله على المسيح وأمه وعلى من اتبعه وكان على دينه الذي لم يبدل فهذا حق وهو لا ينافي وجوب اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - على من بعث إليه فلو قدر أن شريعة المسيح لم تبدل وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أثنى على كل من اتبعها وقال مع ذلك إن الله أرسلني إليكم لم يكن ذلك متناقضا وإذا كفر من لم يؤمن به لم يناقض ذلك ثناؤه عليهم قبل أن يكذبوه.
فكيف وهو إنما مدح من اتبع دينا لم يبدل؟ وأما الذين بدلوا دين المسيح فلم يمدحهم بل ذمهم كما قال {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14] وقد قدمنا أن النصارى كفروا كما كفرت اليهود: كفروا بتبديلهم ما في الكتاب الأول وكفروا بتكذيبهم بالكتاب الثاني.
وأما من لم يبدل الكتاب أو أدرك محمدا - صلى الله عليه وسلم - فآمن به فهؤلاء مؤمنون ومما يبين ذلك أن تعظيم المسيح للتوراة واتباعه لها وعمله بشرائعها أعظم من تعظيم محمد - صلى الله عليه وسلم - للإنجيل ومع هذا فلم يكن ذلك مسقطا عن اليهود وجوب اتباعهم للمسيح فكيف يكون تعظيم محمد - صلى الله عليه وسلم - للإنجيل مسقطا عن النصارى وجوب اتباعه.
[فصل: بيان أن عامة دين النصارى ليس مأخوذا عن المسيح]
وهذا الذي قد ذكره هذا البترك " سعيد بن البطريق " المعظم عند النصارى، المحب لهم، المتعصب لهم في أخبارهم التي بين بها أحوالهم في دينهم، معظما لدينهم، مع ما في بعض الأخبار من زيادة فيها تحسين لما فعلوه، وكثير من الناس ينكر ذلك ويكذبه، مثل ما ذكره من ظهور الصليب، ومن مناظرة " أريوس " وغير ذلك، فإن كثيرا من الناس يخالفه فيما ذكر. ويذكر أن أمر ظهور الصليب كان بتدليس وتلبيس وحيلة ومكر. ويذكر أن " أريوس " لم يقل قط: إن المسيح خالق.
ولكن المقصود أنه إذا صدق هذا فيما ذكره، فإنه بين أن عامة الدين الذي عليه النصارى، ليس مأخوذا عن المسيح، بل هو مما ابتدعه طائفة منهم، وخالفهم في ذلك آخرون، وأنه كان بينهم من العداوة والاختلاف في إيمانهم وشرائعهم ما يصدق قوله تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14]
والنصارى يقرون بما ذكره هذا البترك، أن أول ملك أظهر دين النصارى هو " قسطنطين "، وذلك بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، وهو نصف الفترة التي بين المسيح ومحمد - صلى الله عليهما وسلم -، فإنها كانت ستمائة سنة أو ستمائة وعشرين.
وإذا كان النصارى مقرين بأن ما هم عليه من الإيمان صنعه طائفة منهم مع مخالفة آخرين لهم فيه ليس منقولا عن المسيح، وكذلك ما هم عليه من تحليل ما حرمه الله ورسوله، وكذلك قتال من خالف دينه وقتل من حرم الخنزير، مع أن شريعة الإنجيل تخالف هذا، وكذلك الختان، وكذلك تعظيم الصليب.
وقد ذكروا مستندهم في ذلك أن " قسطنطين " رأى صورة صليب كواكب.
ومعلوم أن هذا لا يصلح أن ينبني عليه شريعة، فإن مثل هذا يحصل للمشركين عباد الأصنام والكواكب ما هو أعظم منه، وبمثل هذا بدل دين الرسل وأشرك الناس بربهم، وعبدوا الأوثان، فإن الشيطان يخيل هذا وأعظم منه.
وكذلك الإزار الذي رآه من رآه، والصوت الذي سمعه، هل يجوز لعاقل أن يغير شرع الله الذي بعثت به رسله، بمثل هذا الصوت والخيال الذي يحصل للمشركين عباد الكواكب والأصنام ما هو أعظم منه؟ مع أن هذا الذي ذكروه عن " بطرس " رئيس الحواريين، ليس فيه تحليل كل ما حرم، بل قال: (ما طهره الله فلا تنجسه) وما نجسه الله في التوراة، فقد نجسه ولم يطهره، إلا أن ينسخه المسيح. والحواري لم يبح لهم الخنزير وسائر المحرمات إن كان قوله معصوما، كما يظنون.
والمسيح لم يحل كل ما حرمه الله في التوراة، وإنما أحل بعض ما حرم عليهم، ولهذا كان هذا من الأوصاف المؤثرة في قتال النصارى، كما قال تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]
وقد ذكر من لعن بعض طوائف النصارى لبعض في مجامعهم السبعة وغير مجامعهم ما يطول وصفه، ويصدق قوله تعالى: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} [المائدة: 14]
وحينئذ فقول هؤلاء: (من خالفنا لعناه) كلام لا فائدة فيه، فإن كل طائفة منهم لاعنة ملعونة.
فليس في لعنتهم لمن خالفهم إحقاق حق ولا إبطال باطل، وإنما يحق الحق بالبراهين والآيات التي جاءت بها الرسل، كما قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذينءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 213].
وقد تقدم ما ذكره " سعيد بن البطريق " من أخبارهم، أنه كان يأتي البترك العظيم منهم إلى كنيسة مبنية لصنم من الأصنام يعبده المشركون، فيحتال حتى يجعلهم يعبدون مكان الصنم مخلوقا أعظم منه، كملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء، كما كان بالإسكندرية للمشركين كنيسة فيها صنم اسمه " ميكائيل " فجعلها النصارى كنيسة باسم " ميكائيل الملك " وصاروا يعبدون الملك بعد أن كانوا يعبدون الصنم ويذبحون له.
وهذا نقل لهم من الشرك بمخلوق إلى الشرك بمخلوق أعلى منه، أولئك كانوا يبنون الهياكل ويجعلون فيها الأصنام بأسماء الكواكب، كالشمس والزهرة وغير ذلك.
فنقلهم المبتدعون من النصارى إلى عبادة بعض الملائكة، أو بعض الأنبياء ولهذا قال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون - ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} [آل عمران: 79 - 80].
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 247)
من صــ 401 الى صـ 415
وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا - أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} [الإسراء: 56 - 57].
وقد حصل بما ذكرناه الجواب عن قولهم: (وعلى هذا المثال نقول: في السيد المسيح طبيعتان: طبيعة لاهوتية التي هي طبيعة كلمة الله وروحه، وطبيعة ناسوتية التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به).
وعرف أن هذا قول من أقوال النصارى، وأن لهم أقوالا أخر تناقض هذا.
وكل فريق منهم يكفر الآخر، إذ كانوا ليسوا على مقالة تلقوها عن المسيح والحواريين، بل هي مقالات ابتدعها من ابتدعها منهم، فضلوا بها وأضلوا، كما قال تعالى: {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77]
فذكر سبحانه أنهم أضلوا من قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والنصارى أمة يلزمهم الضلال الذي أصله الجهل.
ولا يوجد قط من هو نصراني باطنا وظاهرا، إلا وهو ضال جاهل بمعبوده وبأصل دينه، لا يعرف من يعبد ولا بماذا يعبد، مع اجتهاد من يجتهد منهم في العبادة والزهد، ومكارم الأخلاق.
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)
الرد علي المسألة السادسة
ما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك، وقد كان حريصا علي هدي أمته؟.
فنقول: هذا السؤال مبني علي الأصل الفاسد المتقدم المركب من الإعراض عن الكتاب والسنة، وطلب الهدي في مقالات المختلفين المتقابلين في النفي والإثبات للعبارات المجملات المشتبهات، الذين قال الله فيهم {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: 19]، وقال تعالى {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19]، وقال تعالى {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53].
وقد تقدم التنبيه علي منشأ الضلال في هذا السؤال وأمثاله، وما في ذلك من العبارات المتشابهات المجملات المبتدعات، سواء كان المحدث هو اللفظ ودلالته، أو كان المحدث هو استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعني، كلفظ أصول الدين حيث أدخل فيه كل قوم من المسائل والدلائل ما ظنوه هم من أصول دينهم، وإن لم يكن من أصول الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما ذكرنا، وأنه إذا منع إطلاق هذه المجملات المحدثات في النفي والإثبات ووقع الاستفسار والتفصيل تبين سواء السبيل.
وبذلك يتبين أن الشارع عليه الصلاة والسلام نص علي كل ما يعصم من المهالك نصا قاطعا للعذر، وقال تعالى {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} [التوبة: 115]، وقال تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3]، وقال تعالى {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165]، وقال تعالى {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [النور: 54]،وقال {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9]، وقال تعالى {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما} [النساء: 66 - 68]، وقال تعالى {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} [المائدة: 15 - 16].
و «قال أبو ذر لقد توفي رسول الله صلي الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما».
وفي صحيح مسلم: «أن بعض المشركين قالوا لسلمان: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل».
و «قال صلى الله عليه وسلم تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» وقال
«ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم عنه» وقال «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه خيرا لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه شرا لهم».
وهذه الجملة يعلم تفصيلها بالبحث والنظر والتتبع والاستقراء، والطلب لعلم هذه المسائل في الكتاب والسنة، فمن طلب ذلك وجد في الكتاب والسنة من النصوص القاطعة للعذر في هذه المسائل ما فيه غاية الهدي والبيان والشفاء.
وذلك يكون بشيئين: أحدهما: معرفة معاني الكتاب والسنة.
والثاني: معرفة معاني الألفاظ التي ينطق بها هؤلاء المختلفون، حتى يحسن أن يطبق بين معاني التنزيل ومعاني أهل الخوض في أصول الدين، فحينئذ يتبين له أن الكتاب حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال تعالي {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213]، وقال تعالي {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10]، وقال {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا * ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} [النساء: 59 - 61].
ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات، وليس ذلك وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا قصور، أو تقصير في بيان الحق، ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة علي حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل، فيمنع من كلا الإطلاقين، بخلف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل، ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها: نفيا إثباتا، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل، فإذا تبين المعني أثبت حقه ونفي باطله، بخلاف كلام الله ورسوله، فإنه حق يجب قبوله، وإن لم يفهم معناه، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه.
وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون علي مفارقته، فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه، وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات، التي لا يجوز اتباعها، بل يتعين حملها علي ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه، أو الإعراض عنها وترك التدبر لها.
وهذان الصفتان يشبهان ما ذكره الله في قوله {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76) أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون (77) ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)} [البقرة: 75 - 79].
فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة علي ما أصله هو من البدع الباطلة، وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن، ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه، ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله لينال به دينا، وقال: إنه من عند الله، مثل أن يقول: هذا هو الشرع والدين، وهذا معني الكتاب والسنة، وهذا
قول السلف والأئمة، وهذا هو أصول الدين الذي يجب اعتقاده علي الأعيان أو الكفاية، ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله، وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة، كالرافضة والجهمية ونحوهم من أهل الأهواء والكلام، وفي أهل الأهواء تفصيلا، مثل كثير من المنتسبين إلي الفقهاء مع شعبة من حال الأهواء.
وهذه الأمور المذكورة في الجواب مبسوطة في موضع آخر.
نهاية الإجابة علي السؤال والله أعلم.
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير (17)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
فقد قال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] في الموضعين.
وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] وقال - تعالى -: {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} [النساء: 171].
وقال - تعالى -: {وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30].
والنصارى قالت الأقوال الثلاثة فذكر الله عنهم هذه الأقوال لكن من الناس من يظن أن هذا قول طائفة منهم وهذا قول طائفة منهم.
كما ذكره طائفة من المفسرين كابن جرير الطبري والثعلبي وغيرهما ثم تارة يحكون عن اليعقوبية أن عيسى هو الله
وعن النسطورية أنه ابن الله وعن المريوسية أنه ثالث ثلاثة وتارة يحكون عن النسطورية أنه ثالث ثلاثة وعن الملكية أنه الله ويفسرون قولهم: ثالث ثلاثة بالآب والابن وروح القدس.
والصواب أن هذه الأقوال جميعها قول طوائف النصارى المشهورة الملكية واليعقوبية والنسطورية، فإن هذه الطوائف كلها تقول بالأقانيم الثلاثة الآب والابن وروح القدس، فتقول إن الله ثالث ثلاثة وتقول عن المسيح أنه الله وتقول أنه ابن الله وهم متفقون على اتحاد اللاهوت والناسوت وأن المتحد هو الكلمة وهم متفقون على عقيدة إيمانهم التي تتضمن ذلك وهو قولهم: نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل خالق السماوات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق.
[إبطال دعوى النصارى إلهية المسيح عليه السلام]
وقولهم إنه إله بلاهوته ورسول بناسوته كلام باطل من وجوه.
منها أن الذي كان يكلم الناس إما أن يكون هو الله أو هو رسول الله، فإن كان هو الله بطل كونه رسول الله وإن كان رسول الله بطل كونه هو الله.
ولهذا لما كان الذي كلم موسى - عليه السلام - من الشجرة هو الله لم تنطق الكتب بأنه رسول الله، وهذا وارد بأي وجه فسروا الاتحاد، فإنه من المعلوم أن الناس كانوا يسمعون من المسيح كلاما بصوته المعروف وصوته لم يختلف ولا حاله عند الكلام تغيرت كما يختلف الإنسان وحاله عند الكلام إذا حل فيه الجني وإذا فارقه الجني، فإن الجني إذا تكلم على لسان المصروع ظهر الفرق بين ذلك المصروع وبين غيره من الناس بل اختلف حال المصروع وحال كلامه وسمع منه من الكلام ما يعلم يقينا أنه لا يعرفه وغاب عقله بحيث يظهر ذلك للحاضرين واختلف صوته ونغمته فكيف بمن يكون رب العالمين هو الحال فيه المتحد به المتكلم بكلامه.
فإنه لا بد أن يكون بين كلامه وصوته وكلام سائر البشر وصوتهم من الفرق أعظم من الفرق الذي بين المصروع وغير المصروع بما لا نسبة بينهما.
يبين هذا أن موسى لما سمع كلامه سمع صوتا خارقا للعادة مخالفا لما يعهد من الأصوات ورأى من الآيات الخارقة والعجائب ما يبين أن ذلك الذي سمعه لا يقدر على التكلم به إلا الله وأما المسيح فلم يكن بين كلامه وصوته مع طول عمره وكلام سائر الناس فرق يدل على أنه نبي فضلا عن أن يدل على أنه إله وإنما علم أنه نبي بأدلة منفصلة ولم يكن حاله يختلف مع أنهم يقولون: أن الاتحاد ملازم له من حين خلق ناسوته في بطن أمه مريم وإلى الأبد لا يفارق اللاهوت لذلك الناسوت أبدا وحينئذ فمن المعلوم أن خطابه للناس إن كان خطاب رب العالمين لم يكن هو رسوله وإن كان خطاب رسوله لم يكن ذلك صوت رب العالمين.
الوجه الثاني: أن خطابه خطاب رسول ونبي كما ثبت ذلك عنه في عامة المواضع.
الثالث: أن مصير الشيئين شيئا واحدا مع بقائهما على حالهما بدون الاستحالة، والاختلاط ممتنع في صريح العقل وإنما المعقول مع الاتحاد أن يستحيلا ويختلطا كالماء مع الخمر واللبن، فإنهما إذا صار شيئا واحدا استحالا واختلطا.
الرابع: أنه مع الاتحاد يصير الشيئان شيئا واحدا فيكون الإله هو الرسول، والرسول هو الإله؛ إذ هذا هو هذا، وإن كان الإله غير الرسول فهما شيئان ومهما مثلوا به قولهم كتشبيههم ذلك بالنار في الحديد والروح في البدن، فإنه يدل على فساد قولهم:، فإن الحديد متى طرق أو وضع في الماء كان ذلك مصيبا للنار وكذلك البدن إذا جاع أو صلب وتألم كان ذلك الألم مصيبا للروح فيلزم أن يكون رب العالمين قد أصابه ألم الجوع والعطش وكذلك الضرب والصلب على قولهم وهذا شر من قول اليهود: أنه فقير وأنه بخيل وأنه مسه اللغوب.
[فصل: المسلمون لم يصدقوا نبوة أحد من هؤلاء إلا مع نبوة محمد صلى الله عليه وسلم]
وإن كان مقصودهم الاحتجاج بذلك على المسلمين قيل لهم: أولا هذه حجة جدلية فما مستندكم فيما بينكم وبين الله في تصديق شخص وتكذيب آخر مع أن دلالة الصدق فيهما واحدة بل هي في الذي كذبتموه أظهر، فإن كانت حقا لزم تصديق من كذبتموه وفسد دينكم وإن كانت باطلة بطل استدلالكم بها على دينكم فثبت أنهم مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يستقيم لهم الاستدلال بكلام أحد من الأنبياء - عليهم السلام.
وقيل لهم ثانيا: المسلمون إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بما دلهم على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن محمد صادقا لم يعرفوا صدق هؤلاء فيبطل دليلكم وإن كان صادقا بطل دين النصارى فيبطل دليل صحته فثبت بطلان دليلهم على كل تقدير.
وقيل لهم ثالثا: المسلمون لم يصدقوا نبوة أحد من هؤلاء إلا مع نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن قيل أنهم عرفوا ذلك بطريق آخر، فإن الدليل الذي يدل على صدق واحد منهم يدل على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى فلا يمكنهم تصديق نبي مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم.
وقيل لهم رابعا: هم إنما يصدقون موسى وعيسى اللذين بشرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإن كانا قد بشرا به فثبتت نبوته وإن لم يكونا بشرا به فهم لا يؤمنون إلا بالمبشرين به وبالتوراة والإنجيل اللذين هو مكتوب فيهما.
فإن قدر عدم ذلك فهم لا يسلمون وجود موسى وعيسى وتوراة وإنجيل منزلين من الله ليس فيهما ذكره - صلى الله عليه وسلم.
وإن قالوا: نحن صدقنا هؤلاء الأنبياء بلا علم لنا بصدقهم وطريق يدل على صدقهم ; لأن هذا دين آبائنا وجدناهم يعظمون هؤلاء ويقولون هم أنبياء فاتبعنا آباءنا في ذلك من غير علم وهذا هو الواقع من أكثرهم قيل فإذا كان هذا قولكم في الأنبياء وفيما شهدوا به إن كانوا شهدوا فيلزم أن لا يكونوا عالمين به بل متبعين فيه لآبائهم بغير علم بطريق الأولى وبهذا يحصل المقصود وهو أن ما أنتم عليه من اعتقاد دين النصرانية لا علم لكم ولا دليل لكم على صحته بل أنتم فيه متبعون لآبائكم كاتباع اليهود والمشركين لآبائهم.
ولا ريب أن هذا حال النصارى ولهذا سماهم الله ضلالا في قوله: {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77]
وقال - تعالى -: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم} [الكهف: 4] وقال - تعالى -: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم} [النساء: 157] وقال - تعالى -: {وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} [الشورى: 14].
ولهذا كان النصارى معروفين بالجهل والضلال كما أن اليهود معروفون بالظلم والقسوة والعناد فتبين بما ذكرناه أنه لا يمكنهم مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - في كلمة واحدة الاحتجاج بقول واحد من الأنبياء على شيء من دينهم ولا دين غيرهم.
[فصل: نقض قولهم إن اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف ولهذا تجسمت كلمة الله الخالقة بعيسى]
قالوا: وأما تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا، أي الكلمة مع الناسوت، فإنه لم يخاطب الباري أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب، حسب ما جاء في هذا الكتاب بقوله:
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51].
وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف - روح القدس - وغيرها، فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف والكثائف، تظهر في غير كثيف كلا.
ولذلك ظهر في عيسى ابن مريم، إذ الإنسان أجل ما خلقه الله، ولهذا خاطب الخلق، وشاهدوا منه ما شاهدوا.
والجواب من طرق:
أحدها: أنه يقال: هذا الذي ذكروه، وادعوا أنه تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق، وولادتهما معا، أي الكلمة مع الناسوت، وهو الذي يعبر عنه باتحاد اللاهوت بالناسوت - هو أمر ممتنع في صريح العقل، وما علم أنه ممتنع في صريح العقل لم يجز أن يخبر به رسول، فإن الرسل إنما تخبر بما لا يعلم بالعقل أنه ممتنع، فأما ما يعلم بصريح العقل أنه ممتنع، فالرسل منزهون عن الإخبار عنه.
الطريق الثاني: أن الأخبار الإلهية صريحة بأن المسيح عبد الله ليس بخالق العالم، والنصارى يقولون: هو إله تام وإنسان تام.
الطريق الثالث: الكلام فيما ذكروه.
فأما الطريق الأول فمن وجوه:
أحدها: أن يقال: المتحد بالمسيح إما أن يكون هو الذات المتصفة بالكلام أو الكلام فقط، وإن شئت قلت: المتحد به، إما الكلام مع الذات، وإما الكلام بدون الذات، فإن كان المتحد به الكلام مع الذات كان المسيح هو الأب وهو الابن وهو روح القدس، وكان المسيح هو الأقانيم الثلاثة.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 248)
من صــ 416 الى صـ 430
وهذا باطل باتفاق النصارى، وسائر أهل الملل، وباتفاق الكتب الإلهية، وباطل بصريح العقل كما سنذكره إن شاء الله.
وإن كان المتحد به هو الكلمة فقط فالكلمة صفة، والصفة لا تقوم بغير موصوفها، والصفة ليست إلها خالقا، والمسيح عندهم إله خالق، فبطل قولهم على التقديرين، وإن قالوا: المتحد به الموصوف بالصفة فالموصوف هو الأب، والمسيح عندهم ليس هو الأب، وإن قالوا: الصفة فقط، فالصفة لا تفارق الموصوف ولا تقوم بغير الموصوف، والصفة لا تخلق ولا ترزق، وليست الإله، والصفة لا تقعد عن يمين الموصوف، والمسيح عندهم صعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه.
وأما كونه هو الأب فقط، وهو الذات المجردة عن الصفات، فهذا أشد استحالة، وليس فيهم من يقول بهذا.
الوجه الثاني: أن الذات المتحدة بناسوت المسيح مع ناسوت المسيح إن كانتا بعد الاتحاد ذاتين، وهما جوهران كما كانا قبل الاتحاد، فليس ذلك باتحاد.
وإن قيل: صارا جوهرا واحدا، كما يقول من يقول منهم: إنهما صارا كالنار مع الحديدة، أو اللبن مع الماء، فهذا يستلزم استحالة كل منهما، وانقلاب صفة كل منهما، بل حقيقته كما استحال الماء واللبن إذا اختلطا، والنار مع الحديدة، وحينئذ فيلزم أن يكون اللاهوت استحال وتبدلت صفته وحقيقته، والاستحالة لا تكون إلا بعدم شيء ووجود آخر، فيلزم عدم شيء من القديم الواجب الوجود بنفسه.
والقول الثاني: أنه متكلم حقيقة، لكن كلامه مخلوق، خلقه في غيره، وهو قول المعتزلة وغيرهم، والقول الآخر للجهمية.
وعلى هذين القولين، فليس لله كلام قائم به حتى يتحد بالمسيح، أو يحل به، والمخلوق عرض من الأعراض ليس بإله خالق، وكثير من أهل الكتاب: اليهود، والنصارى، من يقول بهذا وهذا.
وأما القول الأول، وهو قول سلف الأمة وأئمتها، وجمهورها، وقول كثير من سلف أهل الكتاب، وجمهورهم - فإما أن يقال: الكلام قديم النوع، بمعنى أنه لم يزل يتكلم بمشيئته، أو قديم العين، وإما أن يقال: ليس بقديم، بل هو حادث، والأول هو القول المعروف عن أئمة السنة والحديث.
وأما القائلون بقدم العين، فهم يقولون: الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته، لاعتقادهم أنه لا تحله الحوادث، وما كان بمشيئته وقدرته لا يكون إلا حادثا.
ولهم قولان: منهم من قال: القديم معنى واحد، أو خمسة معان، وذلك المعنى يكون أمرا ونهيا وخبرا، وهذه صفات له لا أقسام له، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة.
ومنهم من قال: هو حروف، أو حروف وأصوات قديمة الأعيان.
والقول الثالث: إنه متكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته، قالوا: وهو حادث، ويمتنع أن يكون قديما، لامتناع كون المقدور المراد قديما، وهذه الطوائف بنوا أقوالهم على أن ما لم يخل عن الحوادث، فهو حادث لامتناع وجود ما لا نهاية له عندهم، وإذا امتنع ذلك تعين أن يكون لنوع الحوادث ابتداء، كما للحادث المعنى ابتداء، وما لم يسبق الحوادث كان معه أو بعده، فيكون حادثا، فلهذا منع هؤلاء أن تكون كلمات الله لا نهاية لها في الأزل، وإن كان من هؤلاء من يقول بدوام وجودها في الأبد.
وأما القول بأن كلمات الله لا نهاية لها مع أنها قائمة بذاته، فهو القول المأثور عن أئمة السلف، وهو قول أكثر أهل الحديث، وكثير من أهل الكلام، ومن الفلاسفة، وهذه الأقوال قد بسط الكلام عليها في غير موضع.
والمقصود هنا أن قول النصارى باطل على كل قول من هذه الأقوال الأربعة، كما تقدم بيان بطلانه على ذينك القولين، فإنه - على قول الجمهور الذين يجعلون لله كلمات كثيرة - إما كلمات لا نهاية لها ولم تزل، وإما كلمات لها ابتداء، وإذا كان له كلمات كثيرة فالمسيح ليس هو الكلمات التي لا نهاية لها، وليس هو كلمات كثيرة، بل إنما خلق بكلمة من كلمات الله كما في الكتب الإلهية: القرآن والتوراة، إنه يخلق الأشياء بكلماته.
قال تعالى في قصة بشارة مريم بالمسيح:
{قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47].
وقال أيضا:
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59].
وقال: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون - ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [مريم: 34 - 35].
وقد أخبر الله في القرآن بخلقه للأشياء بكلماته في غير موضع، بقوله:
{إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82].
وفي التوراة: ليكن يوم الأحد، ليكن كذا ليكن كذا.
وأيضا فعلى قول هؤلاء وعلى قول من يجعل كلامه إما معنى واحدا، وإما خمسة معان، وإما حروف وأصوات هي شيء واحد؛ فكلهم يقولون: إن الكلام صفة قائمة بالموصوف لا يتصور أن يكون جوهرا قائما بنفسه، ولا يتصور أن يكون خالقا، ولا للكلام مشيئة، ولا هو جوهر آخر غير جوهر المتكلم، ولا يتحد بغير المتكلم، بل جمهورهم يقولون: إنه لا يحل أيضا بغير المتكلم.
ومن قال بالحلول منهم فلا يقول: إن الحال جوهر، ولا إله خالق، فتبين أن ما قاله النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس في كلام الله مع أن أكثر هذه الأقوال خطأ، ولما كان قول النصارى فساده أظهر للعقلاء كان الخطأ الذي في أكثر هذه الأقوال قد خفي على العقلاء الذين قالوها، ولم يخف عليهم فساد قول النصارى.
وأيضا فالذين قالوا بالحلول من الغلاة الذين يكفرهم المسلمون، كالذين يقولون بحلوله في بعض أهل البيت أو بعض المشايخ، هم وإن كانوا كفارا شاركوا النصارى في الحلول، ولكن لم يقولوا: إن الكلمة التي حلت هي الإله الخالق، فيتناقضون تناقضا ظاهرا، مثل ما في قول النصارى من التناقض البين ما ليس في قول هؤلاء، وإن كانوا في بعض الوجوه قولهم شر من قول النصارى.
الوجه الرابع: أن يقال: لو كان المسيح نفس كلمة الله فكلمة الله ليست هي الإله الخالق للسماوات والأرض، ولا هي تغفر الذنوب، وتجزي الناس بأعمالهم، سواء كانت كلمته صفة له أو مخلوقة له كسائر صفاته ومخلوقاته، فإن علم الله وقدرته وحياته لم تخلق العالم، ولا يقول أحد: يا علم الله اغفر لي، ويا قدرة الله توبي علي، ويا كلام الله ارحمني، ولا يقول: يا توراة الله أو يا إنجيله أو يا قرآنه اغفر لي وارحمني، وإنما يدعو الله سبحانه، وهو سبحانه متصف بصفات الكمال، فكيف والمسيح ليس هو نفس الكلام؟
فإن المسيح جوهر قائم بنفسه، والكلام صفة قائمة بالمتكلم، وليس هو نفس الرب المتكلم، فإن الرب المتكلم هو الذي يسمونه الأب، والمسيح ليس هو الأب عندهم، بل الابن، فضلوا في قولهم من جهات:
منها: جعل الأقانيم ثلاثة، وصفات الله لا تختص بثلاثة.
ومنها: جعل الصفة خالقة، والصفة لا تخلق.
ومنها: جعلهم المسيح نفس الكلمة، والمسيح خلق بالكلمة، فقيل له كن فكان كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفسير ذلك، وإنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر، لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات، يخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، وخلقوا من ماء الأبوين: الأب والأم.
والمسيح عليه السلام لم يخلق من ماء رجل، بل لما نفخ روح القدس في أمه حبلت به، وقال الله: كن فكان، ولهذا شبهه الله بآدم في قوله:
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59].
فإن آدم عليه السلام خلق من تراب وماء، فصار طينا، ثم أيبس الطين، ثم قال له: كن فكان، وهو حين نفخ الروح فيه صار بشرا تاما، لم يحتج بعد ذلك إلى ما احتاج إليه أولاده بعد نفخ الروح، فإن الجنين بعد نفخ الروح يكمل خلق جسده في بطن أمه، فيبقى في بطنها نحو خمسة أشهر، ثم يخرج طفلا يرتضع، ثم يكبر شيئا بعد شيء، وآدم عليه السلام حين خلق جسده قيل له كن فكان بشرا تاما بنفخ الروح فيه، ولكن لم يسم كلمة الله لأن جسده خلق من التراب والماء وبقي مدة طويلة يقال: أربعين سنة، فلم يكن خلق جسده إبداعيا في وقت واحد،، بل خلق شيئا فشيئا، وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة.
وأما المسيح عليه السلام فخلق جسده خلقا إبداعيا بنفس نفخ روح القدس في أمه، قيل له: كن فكان، فكان له من الاختصاص بكونه خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر، ومن الأمر المعتاد في لغة العرب وغيرهم أن الاسم العام إذا كان له نوعان خصت أحد النوعين باسم، وأبقت الاسم العام مختصا بالنوع، كلفظ الدابة والحيوان، فإنه عام في كل ما يدب، وكل حيوان، ثم لما كان للآدمي اسم يخصه بقي لفظ الحيوان يختص به البهيم، ولفظ الدابة يختص به الخيل أو هي والبغال والحمير ونحو ذلك، وكذلك لفظ الجائز والممكن، وذوي الأرحام، وأمثال ذلك، فلما كان لغير المسيح ما يختص به أبقي اسم الكلمة العامة مختصا بالمسيح.
الطريق الثاني: أن ما ذكروه حجة عليهم، فإن الله إذا لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب، فالمسيح عيسى ابن مريم يجب أن لا يكلمه إلا وحيا، أو من وراء حجاب، أو يرسل إليه رسولا.
وقوله تعالى:
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب} [الشورى: 51].
يعم كل بشر: المسيح وغيره.
وإذا امتنع أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب فامتناع أن يتحد به أو يحل فيه أولى وأحرى.
فإن ما اتحد به وحل فيه كلمة الله من غير حجاب بين اللاهوت والناسوت، وهم قد سلموا أن الله لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب.
الوجه الثالث: أن قوله.
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب} [الشورى: 51].
يقتضي أن يكون الحجاب حجابا يحجب البشر كما حجب موسى، فيقتضي ذلك أنهم لا يرونه في الدنيا وإن كلمهم، كما أنه كلم موسى ولم يره موسى، بل سأل الرؤية فقال:
{قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} [الأعراف: 143].
قيل: أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد في الدنيا، وعندهم في التوراة: إن الإنسان لا يمكنه أن يرى الله في الدنيا فيعيش،وكذلك قال عيسى لما سألوه عن رؤية الله فقال: إن الله لم يره أحد قط. وهذا معروف عندهم، وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون الحجاب الحاجب للبشر ليس هو من البشر، وهذا يبطل قول النصارى فإنهم يقولون: إن الرب احتجب بحجاب بشري، وهو الجسد الذي ولدته مريم، فاتخذه حجابا وكلم الناس من ورائه، والقرآن يدل على أن الحجاب ليس من البشر.
يبين هذا الوجه الرابع: وهو أن ذلك الجسد الذي ولدته مريم هو من جنس أجسام بني آدم، فإن جاز أن يتحد به، ويحل فيه، ويطيق الجسد البشري ذلك في الدنيا بما يجعله الله فيه من القوة، جاز أن يتحد بغيره من الأجسام بما يجعله فيها من القوة، وإذا جاز أن يتحد بها جاز أن يكلمها بغير حجاب بينه وبينها بطريق الأولى والأحرى، وهذا خلاف ما ذكروه وخلاف القرآن.
فتبين أن نفي الأنبياء لأن يراه المرء في الدنيا هو نفي لمماسته ببشر بطريق الأولى والأحرى، والناسوت المسيحي هو بشر فإذا لم يمكنه أن يرى الله فكيف يمكنه أن يتحد به، ويماسه ويصير هو وإياه كاللبن والماء، والنار والحديد، أو كالروح والبدن؟
الوجه الخامس: أنه من المعلوم أن رؤية الآدمي له أيسر من اتحاده به، وحلوله فيه، وأولى بالإمكان، فإذا كانت الرؤية في الدنيا قد نفاها الله، ومنعها على ألسن رسله: موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، فكيف يجوز اتصاله بالبشر واتحاده به؟
الوجه السادس: أنه لو كان حلوله في البشر مما هو ممكن وواقع، لم يكن لاختصاص واحد من البشر بذلك دون من قبله وبعده معنى، فإن القدرة شاملة، والمقتضى - وهو وجود الله وحاجة الخلق - موجودة، ولهذا لما كانت الرسالة ممكنة أرسل من البشر غير واحد، ولما كان سماع كلامه للبشر ممكنا سمع كلامه غير واحد، ورؤيته في الدنيا بالأبصار لم تقع لأحد باتفاق علماء المسلمين، لكن لهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - قولان، والذي عليه أكابر العلماء وجمهورهم أنه لم يره بعينه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
والخلة لما كانت ممكنة اتخذ إبراهيم خليلا، واتخذ محمدا أيضا خليلا كما في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله، يعني نفسه».
الوجه السابع: قولهم: وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف مثل الروح وغيرها - فكلمة الله التي بها خلقت الكثائف تظهر في غير كثيف كلا.
فيقال لهم: ظهور اللطائف في الكثائف كلام مجمل، فإن أردتم أن روح الإنسان تظهر في جسده، أو الجني يتكلم على لسان المصروع ونحو ذلك - فليس هذا مما نحن فيه، وإن أردتم أن الله تعالى نفسه يحل في البشر، فهذا محل النزاع، فأين الدليل عليه وأنتم لم تذكروا إلا ما يدل على نقيض ذلك؟
الوجه الثامن: أن هذا أمر لم يدل عليه عقل ولا نقل، ولا نطق نبي من الأنبياء بأن الله يحل في بشر، ولا ادعى صادق قط حلول الرب فيه، وإنما يدعي ذلك الكذابون، كالمسيح الدجال الذي يظهر في آخر الزمان، ويدعي الإلهية، فينزل الله تبارك وتعالى عيسى ابن مريم مسيح الهدى، فيقتل مسيح الهدى الذي ادعيت فيه الإلهية بالباطل المسيح الدجال الذي ادعى الإلهية بالباطل، ويبين أن البشر لا يحل فيه رب العالمين.
ولهذا لما أنذر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسيح الدجال، وقال: «ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال حتى نوح أنذر قومه به» وذكر النبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث دلائل ظاهرة تظهر لكل مسلم، تبين كذبه:
أحدها: قوله: مكتوب بين عينيه كافر، " ك ف ر " يقرؤه كل مؤمن: قارئ وغير قارئ الثاني: قوله: «واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت» فبين أن الله لا يراه أحد في الدنيا بعينيه، وكل بشر فإنه يرى في الدنيا بالعين، فعلم أن الله لا يتحد ببشر.
الثالث: قوله: إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، ودلائل نفي الربوبية عنه كثيرة.
لكن لما كان حلول اللاهوت في البشر واتخاذه به مذهبا ضل به طوائف كثيرون من بني آدم النصارى وغيرهم، وكان المسيح الدجال يأتي بخوارق عظيمة، والنصارى احتجوا على إلهية المسيح بمثل ذلك - ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من علامات كذبه أمورا ظاهرة لا يحتاج فيها إلى بيان موارد النزاع التي ضل فيها خلق كثير من الآدميين، فإن كثيرا من الناس، بل أكثرهم، تدهشهم الخوارق حتى يصدقوا صاحبها قبل النظر في إمكان دعواه، وإذا صدقوه صدقوا النصارى في دعوى إلهية المسيح، وصدقوا أيضا من ادعى الحلول والاتحاد في بعض المشايخ، أو بعض أهل البيت أو غيرهم من أهل الإفك والفجور.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 249)
من صــ 431 الى صـ 445
وبهذا يظهر الجواب عما يورده بعض أهل الكلام كالرازي على هذا الحديث حيث قالوا: دلائل كون الدجال ليس هو الله - ظاهرة، فكيف يحتج النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور»؟ وهذا السؤال يدل على جهل قائله بما يقع فيه بنو آدم من الضلال، وبالأدلة البينة التي تبين فساد الأقوال الباطلة، وإلا فإذا كان بنو إسرائيل في عهد موسى ظنوا أن العجل هو إله موسى، فقالوا: هذا إلهكم وإله موسى، وظنوا أن موسى نسيه.
والنصارى مع كثرتهم يقولون: إن المسيح هو الله. وفي المنتسبين إلى القبلة خلق كثير يقولون ذلك في كثير من المشايخ وأهل البيت، حتى إن كثيرا من أكابر شيوخ المعرفة والتصوف يجعلون هذا نهاية التحقيق والتوحيد، وهو أن يكون الموحد هو الموحد، وينشدون:
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
توحيد من يخبر عن نعته ... عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحد
فكيف يستبعد مع إظهار الدجال هذه الخوارق العظيمة أن يعتقد فيه أنه الله، وهو يقول: أنا الله، وقد اعتقد ذلك فيمن لم يظهر فيه مثل خوارقه من الكذابين وفيمن لم يقل: أنا الله، كالمسيح، وسائر الأنبياء والصالحين.
الوجه التاسع: قولهم: فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا، فيقال لهم: كلمة الله التي يدعون ظهورها في المسيح، أهي كلام الله الذي هو صفته، أو ذات الله المتكلمة أو مجموعها؟ فإن قلتم: الظاهر فيه نفس الكلام فهذا يراد به شيئان:
إن أريد به أن الله أنزل كلامه على المسيح، كما أنزله على غيره من الرسل، فهذا حق اتفق عليه أهل الإيمان، ونطق به القرآن.
وإن أريد به أن كلام الله فارق ذاته وحل في المسيح أو غيره، فهو باطل مع أن هذا لا ينفع النصارى، فإن المسيح عندهم إله خلق السماوات والأرض، وهو عندهم ابن آدم وخالق آدم، وابن مريم وخالق مريم، ابنها بناسوته وخالقها بلاهوته.
وإن أرادوا بظهور الكلمة ظهور ذات الله أو ظهور ذاته وكلامه في الكثيف الذي هو الإنسان، فهذا أيضا يراد به ظهور نوره في قلوب المؤمنين، كما قال تعالى:
{الله نور السماوات والأرض} [النور: 35] إلى قوله: {كوكب دري} [النور: 35] الآية.
وكما ظهر الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران، وكما تجلى لإبراهيم، كما ذكره في التوراة، فهذا لا يختص بالمسيح، بل هو لغيره كما هو له.
وإن أرادوا أن ذات الرب حلت في المسيح، أو في غيره فهذا محل النزاع، فأين دليلهم على إمكان ذلك ثم وقوعه؟ مع أن جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم يقولون: هذا غير واقع، بل هو ممتنع.
الوجه العاشر: قولهم: فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا - كلام باطل.
فإن ظهور ما يظهر من الأمور الإلهية إذا أمكن ظهوره فظهوره في اللطيف أولى من ظهوره في الكثيف، فإن الملائكة تنزل بالوحي على الأنبياء عليهم السلام، وتتلقى كلام الله من الله، وتنزل به على الأنبياء عليهم السلام، فيكون وصول كلام الله إلى ملائكة قبل وصوله إلى البشر وهم الوسائط كما قال تعالى:
{أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51]
والله تعالى أيد رسله من البشر حتى أطاقوا التلقي عن الملائكة، وكانت الملائكة تأتيهم أحيانا في غير الصورة البشرية، وأحيانا في الصورة البشرية، فكان ظهور الأمور الإلهية باللطائف ووصولها إليهم أولى منه بالكثائف، ولو جاز أن يتحد الرب سبحانه بحي من الأحياء، ويحل فيه، لكان حلوله في ملك من الملائكة واتحاده به أولى من حلوله واتحاده بواحد من البشر.
الوجه الحادي عشر: أن الناسوت المسيحي عندهم الذي اتحد به هو البدن والروح معا، فإن المسيح كان له بدن وروح، كما لسائر البشر، واتحد به عندهم اللاهوت، فهو عندهم اسم يقع على بدن وروح آدميين وعلى اللاهوت، وحينئذ فاللاهوت على رأيهم إنما اتحد في لطيف وهو الروح، وكثيف وهو البدن، لم يظهر في كثيف فقط، ولولا اللطيف الذي كان مع الكثيف، وهو الروح - لم يكن للكثيف فضيلة ولا شرف.
الوجه الثاني عشر: أنهم يشبهون اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن، كما شبهوا هنا ظهوره فيه بظهور الروح في البدن، وحينئذ فمن المعلوم أن ما يصيب البدن من الآلام تتألم به الروح، وما تتألم به الروح يتألم به البدن، فيلزمهم أن يكون الناسوت لما صلب وتألم وتوجع الوجع الشديد كان اللاهوت أيضا متألما متوجعا، وقد خاطبت بهذا بعض النصارى فقال لي: الروح بسيطة، أي لا يلحقها ألم، فقلت له: فما تقول في أرواح الكفار بعد الموت، أمنعمة أو معذبة؟ فقال: هي في العذاب، فقلت: فعلم أن الروح المفارقة تنعم وتعذب، فإذا شبهتم اللاهوت في الناسوت بالروح في البدن لزم أن تتألم إذا تألم الناسوت كما تتألم الروح إذا تألم البدن، فاعترف هو وغيره بلزوم ذلك.
الوجه الثالث عشر: أن قولهم: وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف - فكلمة الله لا تظهر إلا في كثيف كلا.
تركيب فاسد لا دلالة فيه، وإنما يدل إذا بينوا أن كل لطيف يظهر في كثيف، ولا يظهر في غيره حتى يقال: فلهذا ظهر الله في كثيف ولم يظهر في لطيف، وإلا فإذا قيل: إنه لا يحل لا في لطيف، ولا كثيف، أو قيل إنه يحل فيهما - بطل قولهم بوجوب حلوله في المسيح الكثيف دون اللطيف، وهم لم يؤلفوا الحجة تأليفا منتجا، ولا دلوا على مقدماتها بدليل، فلا أتوا بصورة الدليل، ولا مادته،، بل مغاليط لا تروج إلا على جاهل يقلدهم.
ولا يلزم من حلول الروح في البدن أن يحل كل شيء في البدن، بل هذه دعوى مجردة، فأرواح بني آدم تظهر في أبدانهم، ولا تظهر في أبدان البهائم، بل ولا في الجن، والملائكة تتصور في صورة الآدميين، وكذلك الجن، والإنسان لا يظهر في غير صورة الإنسان، فأي دليل من كلامهم على أن الرب يحل في الإنسان الكثيف، ولا يحل في اللطيف؟
والقوم شرعوا يحتجون على تجسيم كلمة الله الخالقة فقالوا: وأما تجسيم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا، أي الكلمة مع الناسوت، فإن الله لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب وليس فيما ذكروه قط دلالة لا قطعية ولا ظنية على تجسيم كلمة الله الخالقة وولادتها مع الناسوت.
الوجه الرابع عشر: أنهم قالوا: وأما تجسيم كلمة الله الخالقة، ثم قالوا: فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف، فتارة يجعلونها خالقة، وتارة يجعلونها مخلوقا بها، ومعلوم أن الخالق ليس هو المخلوق به، والمخلوق به ليس هو الخالق، فإن كانت الكلمة خالقة، فهي خلقت الأشياء، ولم تخلق الأشياء بها، وإن كانت الأشياء خلقت بها، فلم تخلق الأشياء، بل خلقت الأشياء بها، ولو قالوا: إن الأشياء خلقت بها بمعنى أن الله إذا أراد أمرا فإنما يقول له: كن فيكون، لكان هذا حقا، لكنهم يجعلونها خالقة، مع قولهم بما يناقض ذلك.
الوجه الخامس عشر: أن يقال لهم: إذا كان الله لم يخاطب بشرا إلا وحيا أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء - فتكليمه للبشر بالوحي ومن وراء حجاب، كما كلم موسى، وبإرسال ملك، كما أرسل الملائكة - إما أن يكون كافيا في حصول مراد الرب من الرسالة إلى عباده، أو ليس كافيا، بل لا بد من حلوله نفسه في بشر، فإن كان ذلك كافيا أمكن أن يكون المسيح مثل غيره فيوحي الله إليه أو يرسل إليه ملكا فيوحي بإذن الله ما يشاء، أو يكلمه من وراء حجاب كما كلم موسى، وحينئذ فلا حاجة به إلى اتحاده ببشر مخلوق، وإن كان التكلم ليس كافيا وجب أن يتحد بسائر الأنبياء، كما اتحد بالمسيح فيتحد بنوح وإبراهيم وموسى وداود وغيرهم، يبين هذا:
الوجه السادس عشر: وهو أنه من المعلوم أن الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح أفضل من عوام النصارى الذين كانوا بعد المسيح، وأفضل من اليهود الذين كذبوا المسيح فإذا كان الرب قد يفضل باتحاده في المسيح حتى كلم عباده بنفسه، فيتحد بالمسيح محتجبا ببدنه الكثيف، وكلم بنفسه اليهود المكذبين للمسيح وعوام النصارى، وسائر من كلمه المسيح، فكان أن يكلم من هم أفضل من هؤلاء من الأنبياء والصالحين بنفسه أولى وأحرى، مثل أن يتحد بإبراهيم الخليل، فيكلم إسحاق ويعقوب ولوطا محتجبا ببدن الخليل، أو يتحد بيعقوب فيكلم أولاده أو غيرهم محتجبا ببدن يعقوب أو يتحد بموسى بن عمران فيكلم هارون ويوشع بن نون وغيرهما محتجبا ببدن موسى، فإذا كان هو سبحانه لم يفعل ذلك، إما لامتناع ذلك، وإما لأن عزته وحكمته أعلى من ذلك مع عدم الحاجة إلى ذلك، علم أنه لا يفعل ذلك في المسيح بطريق الأولى والأحرى.
الوجه السابع عشر: أنه إذا أمكنه أن يتحد ببشر فاتحاده بملك من الملائكة أولى وأحرى، وحينئذ فقد كان اتحاده بجبريل الذي أرسله إلى الأنبياء أولى من اتحاده ببشر يخاطب اليهود، وعوام النصارى.
[فصل: تفنيد مراد النصارى بظهور الله في عيسى]
قالوا: ولذلك ظهر في عيسى ابن مريم، إذ الإنسان أجل ما خلقه الله، ولهذا خاطب الخلق، وشاهدوا منه ما شاهدوا.
فيقال: إن ادعيتم ظهوره في عيسى كما ظهر في إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، وكما يظهر في بيوته التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وذلك بظهور نوره ومعرفته، وذكر أسمائه وعبادته ونحو ذلك، من غير حلول ذاته في البشر ولا اتحاده به، فهذا أمر مشترك بين المسيح وغيره فلا اختصاص للمسيح بهذا، وهذا أيضا قد يسمى حلولا، وعندهم أن الله يحل في الصالحين، وهذا مذكور عندهم في بعض الكتب الإلهية، كما في كتبهم في المزمور الرابع من الزبور، يقول داود عليه السلام في مناجاته لربه:
وليفرح المتوكلون عليك إلى الأبد، ويبتهجون، وتحل فيهم ويفتخرون. فأخبر أنه يحل في الصالحين المذكورين، فعلم أن هذا لا اختصاص للمسيح به، وليس المراد بهذا - باتفاقهم واتفاق المسلمين - أن ذات الله نفسه تتحد بالبشر، ويصير اللاهوت والناسوت كالنار والحديد، والماء واللبن،ونحو ذلك مما يمثلون به الاتحاد،، بل هذا يراد به حلول الإيمان به ومعرفته، ومحبته وذكره وعبادته، ونوره وهداه.
وقد يعبر عن ذلك بحلول المثال العلمي، كما قال تعالى:
{وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [الزخرف: 84].
وقال تعالى:
{وهو الله في السماوات وفي الأرض} [الأنعام: 3].
{وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} [الروم: 27].
فهو سبحانه له المثل الأعلى في قلوب أهل السماوات وأهل الأرض.
ومن هذا الباب «ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه قال: يقول الله: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه»، فأخبر أن شفتيه تتحرك به أي باسمه، وكذلك قوله في الحديث الصحيح:
«عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول العبد: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟، فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده».
فقال: لوجدتني عنده ولم يقل: لوجدتني إياه، وهو عنده أي في قلبه، والذي في قلبه المثال العلمي.
«وقال تعالى: عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي»، ولم يقل لوجدتني قد أكلته.
وكذلك قوله في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: من «عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها».
وفي رواية: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته.
وهذا الحديث قد يحتج به القائلون بالحلول العام، أو الاتحاد العام أو وحدة الوجود، وقد يحتج به من يقول بالخاص من ذلك، كأشباه النصارى.
والحديث حجة على الفريقين، فإنه قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، فأثبت ثلاثة: وليا له، وعدوا يعادي وليه، وميز بين نفسه وبين وليه، وعدو وليه، فقال: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب»، ولكن دل ذلك على أن وليه الذي والاه فصار يحب ما يحب ويبغض ما يبغض، ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي، فيكون الرب مؤذنا بالحرب لمن عاداه، بأنه معاد لله.
ثم قال تعالى:
«وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه»، ففرق بين العبد المتقرب، والرب المتقرب إليه، ثم قال: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فبين أنه يحبه بعد تقربه بالنوافل والفرائض.
ثم قال: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وعند أهل الحلول والاتحاد العام أو الوحدة: هو صدره وبطنه وظهره ورأسه وشعره، وهو كل شيء، أو في كل شيء قبل التقرب وبعده، وعند الخاص وأهل الحلول صار هو، وهو كالنار والحديد والماء واللبن، لا يختص بذلك آلة الإدراك والفعل.
ثم قال تعالى:
«فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي»، وعلى قول هؤلاء - الرب هو الذي يسمع ويبصر ويبطش ويمشي، والرسول إنما قال: فبي، ثم قال: «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه»، فجعل العبد سائلا مستعيذا، والرب مسئولا مستعاذا به، وهذا يناقض الاتحاد، وقوله: فبي يسمع مثل قوله: ما تحركت بي شفتاه، يريد به المثال العلمي.
وقول الله: فيكون الله في قلبه أي معرفته ومحبته وهداه وموالاته، وهو المثل العلمي، فبذاك الذي في قلبه يسمع ويبصر ويبطش ويمشي.
والمخلوق إذا أحب المخلوق أو عظمه أو أطاعه يعبر عنه بمثل هذا، فيقول: أنت في قلبي وفي فؤادي، وما زلت بين عيني، ومنه قول القائل:
مثالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب
وقول الآخر:
ومن عجبي أني أحن إليهم ... وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
ومثل هذا كثير مع علم العقلاء أن نفس المحبوب المعظم هو في نفسه ليست ذاته في عين محبه ولا في قلبه، ولكن قد يشتبه هذا بهذا حتى يظن الغالطون أن نفس المحبوب المعبود في ذات المحب العابد.
ولذلك غلط بعض الفلاسفة حتى ظنوا أن ذات المعلوم المعقول يتحد بالعالم العاقل، فجعلوا المعقول والعقل والعاقل شيئا واحدا، ولم يميزوا بين حلول مثال المعلوم، وبين حلول ذاته، وهذا يكون لضعف العقل وقوة سلطان المحبة والمعرفة، فيغيب الإنسان بمعبوده عن عبادته، وبمحبوبه عن محبته، وبمشهوده عن شهادته، وبمعروفه عن معرفته، فيفنى من لم يكن عن شهود العبد، لا أنه نفسه يعدم ويفنى في من لم يزل في شهوده، ومن هذا المقام إذا غلط قد يقول مثل ما يحكى عن أبي يزيد البسطامي: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، وفي هذا تذكر حكاية، وهو أن شخصا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في ماء، فألقى المحب نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فلم وقعت أنت؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أني، فهذا العبد المحب لما استولى على قلبه سلطان المحبة صار قلبه مستغرقا في محبوبه، لا يشهد قلبه غير ما في قلبه وغاب عن شهود نفسه وأفعاله، فظن أنه هو نفس المحبوب، وهذا أهون من أن يظن أن ذات المحبوب نفسه.
فهذا الظن لاتحاد الذات أو لحلولها ظن غالط وقع فيه كثير من الناس، فالذين قالوا: إن المسيح أو غيره من البشر هو الله، أو إن الله حال فيه قد يكون غلطهم من هذا الجنس، لما سمعوا كلاما يقتضي أن الله في ذات الشخص، وجعلوا فعل هذا فعل هذا، ظنوا ذاك اتحاد الذات وحلولها.
وإنما المراد أن معرفة الله فيه، واتحاد المأمور به والمنهي عنه والموالي والمعادي، كقوله تعالى:
{إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [الفتح: 10].
وقوله:
{من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80].
وليس ذلك لأن الرسول هو الله، ولا لأن نفسه حال في الرسول،، بل لأن الرسول يأمر بما أمر الله به، وينهى عما ينهى الله عنه، ويحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله.
فمن بايعه على السمع والطاعة، فإنما بايع الله على السمع والطاعة، ومن أطاعه فإنما أطاع الله.
وكذلك المسيح وسائر الرسل؛ إنما يأمرون بما يأمر الله به، وينهون عما ينهى الله عنه ويوالون أولياء الله، ويعادون أعداء الله، فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن صدقهم فقبل منهم ما أخبروا به، فقد قبل عن الله، ومن والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم وحاربهم فقد عادى الله وحارب الله، ومن تصور هذه الأمور تبين له أن لفظ الحلول قد يعبر به عن معنى صحيح، وقد يعبر به عن معنى فاسد.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 250)
من صــ 446 الى صـ 460
وكذلك حلول كلامه في القلوب، ولذلك كره أحمد بن حنبل الكلام في لفظ حلول القرآن في القلوب، كما قد ذكر في غير هذا الموضع.
ومما يوضح هذا أن الشيء له وجود في نفسه هو، وله وجود في المعلوم والأذهان، ووجود في اللفظ واللسان، ووجود في الخط والبيان، ووجود عيني شخصي، وعلمي ولفظي، ورسمي، وذلك كالشمس مثلا فلها تحقق في نفسها، وهي الشمس التي في السماء، ثم يتصور بالقلب الشمس، ثم ينطق اللسان بلفظ الشمس، ويكتب بالقلم الشمس.
والمقصود بالكتابة مطابقة اللفظ، وباللفظ مطابقة العلم، وبالعلم مطابقة المعلوم، فإذا رأى الإنسان في كتاب خط الشمس، أو سمع قائلا يذكر قال: هذه الشمس قد جعلها الله سراجا وهاجا، وهذه الشمس تطلع من المشرق وتغرب في المغرب، فهو يشير إلى ما سمعه من اللفظ ورآه من الخط، وليس مراده نفس اللفظ والخط، فإن ذلك ليس هو الشمس التي تطلع وتغرب، وإنما مراده ما يقصد بالخط واللفظ ويراد بهما، وهو المدلول المطابق لهما، وكذلك قد يرى اسم الله مكتوبا في كتاب، ومعه اسم صنم، فيقول: آمنت بهذا، وكفرت بهذا، ومراده أنه مؤمن بالله كافر بالصنم، فيشير إلى اسمه المكتوب ومراده المسمى بهذا الاسم، وكذلك إذا سمع من يذكر أسماء الله الحسنى قال: هذا رب العالمين، ومراده: المسمى بتلك الأسماء، ومن هذا «قول أنس بن مالك: كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسطر: محمد رسول الله، محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر».
ومراده بهذه الأسماء الخط لهذا وهذا وهذا، لا اللفظ ولا المسمى.
ومما يشبه هذا ما يرى في المرآة أو الماء، مثل أن يرى الشمس أو غيرها في ماء أو مرآة، فيشار إلى المرئي فيقال: هذا الشمس، وهذا وجهي أو وجه فلان، وليس مراده أن نفس الشمس أو وجهه أو وجه فلان حل في الماء أو المرآة، ولكن لما كان المقصود بتلك الرؤية هو الشمس وهو الوجه - ذكره، ثم قد يقال: رآه رؤية مقيدة في الماء، أو المرآة، وقد يقال: رآه بواسطة الماء والمرآة، وقد يقال: رأى مثاله وخياله المحاكي له، ولكن المقصود بالرؤية هو نفسه، ومثل هذا كثير.
ومعلوم أن ما في القلوب من المثال العلمي المطابق للمعلوم أقرب إليه من اللفظ، واللفظ أقرب من الخط، فإذا كان قد يشار إلى اللفظ والخط، والمراد هو نفسه، وإن لم يكن الخط واللفظ هو ذاته، بل به ظهر وعرف، فلأن يشار إلى ما في القلب، ويراد به المعروف الذي ظهر للقلب وتجلى للقلب، وصار نوره في القلب - بطريق الأولى.
والعقلاء إنما تتوجه قلوبهم إلى المقصود المراد دون الوسائل، ويعبرون بعبارات تدل على ذلك لظهور مرادهم بها، كما يقولون لمن يعرف علم غيره، أو لمن يأمر بأمره، ويخبر بخبره، هذا فلان، فإذا كان مطلوبهم علم عالم أو طاعة أمير، فجاء نائبه القائم مقامه في ذلك، قالوا: هذا فلان، أي المطلوب منه هو مع هذا، فالاتحاد المقصود بهما يعبرون عن أحدهما بلفظ الآخر.
كما يقال: عكرمة هو ابن عباس، وأبو يوسف هو أبو حنيفة، ومن هذا الباب ما يذكر عن المسيح عليه السلام أنه قال: أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي.
«وقوله تعالى فيما حكاه عن رسوله: عبدي مرضت فلم تعدني، عبدي جعت فلم تطعمني»، ويشبهه قوله:
{إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [الفتح: 10].
فينبغي أن يعرف هذا النوع من الكلام، فإنه تنحل به إشكالات كثيرة، فإن هذا موجود في كلام الله ورسله وكلام المخلوقين، في عامة الطوائف مع ظهور المعنى ومعرفة المتكلم والمخاطب أنه ليس المراد أن ذات أحدهما اتحدت بذات الآخر.
، بل أبلغ من ذلك يطلق لفظ الحلول والاتحاد، ويراد به معنى صحيح، كما يقال فلان وفلان بينهما اتحاد، إذا كانا متفقين فيما يحبان ويبغضان، ويواليان ويعاديان، فلما اتحد مرادهما ومقصودهما صار يقال هما متحدان، وبينهما اتحاد، ولا يعني بذلك أن ذات هذا اتحدت بذات الآخر، كاتحاد النار والحديد، والماء واللبن، أو النفس والبدن، وكذلك لفظ الحلول، والسكنى، والتخلل وغير ذلك، كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
والمتخلل مسلك الروح منه هو محبته له وشعوره به، ونحو ذلك، لا نفس ذاته، وكذلك قول الآخر:
ساكن في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره
والساكن في القلب هو مثاله العلمي ومحبته ومعرفته، فتسكن في القلب معرفته ومحبته لا عين ذاته، وكذلك قول الآخر:
إذا سكن الغدير على صفاء ... وجنب أن يحركه النسيم
بدت فيه السماء بلا امتراء ... كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك قلوب أرباب التجلي ... يرى في صفوها الله العظيم
وقد يقال: فلان ما في قلبه إلا الله، وما عنده إلا الله، يراد بذلك: إلا ذكره ومعرفته ومحبته وخشيته وطاعته، وما يشبه ذلك، أي ليس في قلبه ما في قلب غيره من المخلوقين، بل ما في قلبه إلا الله وحده، ويقال: فلان ما عنده إلا فلان، إذا كان يلهج بذكره، ويفضله على غيره.
وهذا باب واسع، مع علم المتكلم والمستمع أن ذات فلان لم تحل في هذا، فضلا عن أن تتحد به، وهو كما يقال عن المرآة إذا لم تقابل إلا الشمس: ما فيها إلا الشمس، أي لم يظهر فيها غير الشمس.
وأيضا فلفظ الحلول يراد به حلول ذات الشيء تارة، وحلول معرفته ومحبته ومثاله العلمي تارة كما تقدم ذكره، وعندهم في النبوات أن الله حل في غير المسيح من الصالحين، وليس المراد به أن ذات الرب حلت فيه، بل يقال فلان ساكن في قلبي وحال في قلبي وهو في سري، وسويداء قلبي، ونحو ذلك، وإنما حل فيه مثاله العلمي، وإذا كان كذلك فمعلوم أن المكان إذا خلا ممن يعرف الله ويعبده لم يكن هناك ذكر الله ولا حلت فيه عبادته ومعرفته، فإذا صار في المكان من يعرف الله ويعبده ويذكره ظهر فيه ذكره والإيمان به وحل فيه الإيمان بالله وعبادته وذكره، وهو بيت الله عز وجل فيقال: إن الله فيه، وهو حال فيه.
كما يقال: إن الله في قلوب العارفين، وحال فيهم، والمراد به حلول معرفته والإيمان به ومحبته، ونحو ذلك، وقد تقدم شواهد ذلك، فإذا كان الرب في قلوب عباده المؤمنين، أي نوره ومعرفته، وعبر عن هذا بأنه حال فيهم وهم حالون في المسجد - قيل: إن الله في المسجد، وحال فيه، بهذا المعنى، كما يقال: الله في قلب فلان وفلان، ما عنده إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده».
ومما يزيد ذلك إيضاحا ما يراه النائم من بعض الأشخاص في منامه، فيخاطبه ويأمره وينهاه ويخبره بأمور كثيرة، وهو يقول: رأيت فلانا في منامي فقال لي: كذا، وقلت له: كذا، وفعل كذا، وفعلت كذا، ويذكر أنواعا من الأقوال والأفعال.
وقد يكون فيها علوم وحكم وآداب ينتفع بها غاية المنفعة، وقد يكون ذلك الشخص الذي رأى في المنام حيا، وهو لا يشعر بأن ذاك رآه في منامه فضلا عن أن يكون شاعرا بأنه قال أو فعل، وقد يقص الرائي عليه رؤياه، ويقول له الرائي: يا سيدي رأيتك في المنام فقلت لي: كذا، وأمرتني بكذا، ونهيتني عن كذا، والمرئي لا يعرف ذلك، ولا يشعر به، لأن المرئي الذي حل في قلب الرائي هو المثال العلمي المطابق للعيني، كما يرى الرائي في المرآة أو الماء الشخص الموجود في الخارج، فهو المقصود، وبعض المرئيين في المنام قد يدري بأنه رئي في المنام ويكاشف بذلك الرائي كما قد يكاشفه بأمور أخرى، لا لأنه نفسه حل فيه.
والرؤيا إذا كانت صادقة كان ذلك القول والعمل مناسبا لحال المرئي، مما هو عادته يقوله ويفعله بنفسه، فمثل للرائي مثاله قائلا له وفاعلا؛ ليعلم أنه نفسه يقوله ويفعله فينتفع بذلك الرائي، كما يحكى للإنسان قول غيره وعمله ليعرف بذلك نفس القول والعمل المحكي، فإن كثيرا من الأشياء لا يعرفه الناس أو أكثرهم إلا بالمثل المضروب له، إما في اليقظة وإما في المنام، مع العلم بأن عين هذا ليس عين هذا،ومن توهم أنه إذا رأى شخصا في منامه بأن ذاته نفسها حلت فيه دل على جهله؛ فإن المرئي كثيرا ما يكون حيا وهو لا يشعر بمن رآه، ذلك لا روحه تشعر ولا جسمه، فلا يتوهم أن ذات روحه تمثلت في صورته الجسمية للنائم، بل الممثل في نفس الرائي مثال مطابق له وجسمه وروحه حيث هما.
ثم الرؤيا قد تكون من الله، فتكون حقا، وقد تكون من الشيطان، كما ثبت تقسيمها إلى هذين في الأحاديث الصحيحة، والشيطان كما قد يتمثل في المنام بصورة شخص فقد يتمثل أيضا في اليقظة بصورة شخص يراه كثير من الناس، يضل بذلك من لم يكن من أهل العلم والإيمان، كما يجري لكثير من مشركي الهند وغيرهم إذا مات ميتهم يرونه قد جاء بعد ذلك وقضى ديونا، ورد ودائع وأخبرهم بأمور عن موتاهم، وإنما هو شيطان تصور في صورته، وقد يأتيهم في صورة من يعظمونه من الصالحين، ويقول: أنا فلان، وإنما هو شيطان.
وقد يقوم شيخ من الشيوخ، ويخلف موضعه شخصا في صورته يسمونه روحانية الشيخ ورفيقه، وهو جني تصور في صورته، وهذا يقع لكثير من الرهبان وغير الرهبان من المنتسبين إلى الإسلام، وقد يرى أحدهم في اليقظة من يقول له: أنا الخليل، أو أنا موسى، أو أنا المسيح، أو محمد، أو أنا فلان لبعض الصحابة، أو الحواريين، ويراه طائرا في الهواء، وإنما يكون ذلك من الشياطين، ولا تكون تلك الصورة مثل صورة ذلك الشخص.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي»، فرؤيته في المنام حق، وأما في اليقظة فلا يرى بالعين هو، ولا أحد من الموتى، مع أن كثيرا من الناس قد يرى في اليقظة من يظنه نبيا من الأنبياء، إما عند قبره وإما عند غير قبره.
وقد يرى القبر انشق، وخرج منه صورة إنسان، فيظن أن الميت نفسه خرج من قبره، أو أن روحه تجسدت وخرجت من القبر، وإنما ذلك جني تصور في صورته ليضل ذلك الرائي، فإن الروح ليست مما تكون تحت التراب وينشق عنها التراب، فإنها وإن كانت قد تتصل بالبدن، فلا يحتاج في ذلك إلى شق التراب، والبدن لم ينشق عنه التراب، وإنما ذلك تخييل من الشيطان، وقد جرى مثل هذا لكثير من المنتسبين إلى المسلمين، وأهل الكتاب والمشركين.
ويظن كثير من الناس أن هذا من كرامات عباد الله الصالحين، ويكون من إضلال الشياطين، كما قد بسط الكلام في هذا الباب في غير هذا الكتاب، مثل الفرقان بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان وغير ذلك.
[فصل: الرد على قولهم ظهر في عيسى حلول ذاته واتحاده بالمسيح أو غيره]
وإذا أردتم بقولكم: ظهر في عيسى حلول ذاته واتحاده بالمسيح أو غيره - فهذه دعوى مجردة من غير دليل متقدم ولا متأخر، وكون الإنسان أجل ما خلقه الله - لو كان مناسبا لحلوله فيه - أمر لا يختص به المسيح، بل قد قام الدليل على أن غير عيسى عليه السلام أفضل منه مثل إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وهذان اتخذهما الله خليلين، وليس فوق الخلة مرتبة، فلو كان يحل في أجل ما خلقه الله من الإنسان لكونه أجل مخلوقاته لحل في أجل هذا النوع، وهو الخليل، ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وليس معهم قط حجة على أن الجسد المأخوذ من مريم إذا لم يتحد باللاهوت على أصلهم - أنه أفضل من الخليل وموسى.
وإذا قالوا: إنه لم يعمل خطيئة، فيحيى بن زكريا لم يعمل خطيئة، ومن عمل خطيئة وتاب منها فقد يصير بالتوبة أفضل مما كان قبل الخطيئة، وأفضل ممن لم يعمل تلك الخطيئة، والخليل وموسى أفضل من يحيى الذي يسمونه يوحنا المعمداني.
وأما قولهم: ولهذا خاطب الخلق، فالذي خاطب الخلق هو عيسى ابن مريم، وإنما سمع الناس صوته لم يسمعوا غير صوته، والجني إذا حل في الإنسان وتكلم على لسانه يظهر للسامعين أن هذا الصوت ليس هو صوت الآدمي، ويتكلم بكلام يعلم الحاضرون أنه ليس كلام الآدمي.
والمسيح عليه السلام لم يكن يسمع منه إلا ما يسمع من مثله من الرسل، ولو كان المتكلم على لسان الناسوت هو جنيا أو ملكا لظهر ذلك، وعرف أنه ليس هو البشر، فكيف إذا كان المتكلم هو رب العالمين؟ فإن هذا لو كان حقا لظهر ظهورا أعظم من ظهور كلام الملك والجني على لسان البشر بكثير كثير.
وأما ما شاهدوه من معجزات المسيح عليه الصلاة والسلام، فقد شاهدوا من غيره ما هو مثلها وأعظم منها، وقد أحيا غيره الميت وأخبره بالغيوب أكثر منه، ومعجزات موسى أعظم من معجزاته أو أكثر، وظهور المعجزات على يديه يدل على نبوته ورسالته، كما دلت المعجزات على نبوة غيره، ورسالتهم، لا تدل على الإلهية.
والدجال لما ادعى الإلهية لم يكن ما يظهر على يديه من الخوارق دليلا عليها، لأن دعوى الإلهية ممتنعة، فلا يكون في ظهور العجائب ما يدل على الأمر الممتنع.
[فصل: الرد على تشبيه النصارى حلول كلمة الله في الناسوت بالكتابة في القرطاس]
قال سعيد بن البطريق: ومثلما أن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في قرطاس، فهي في القرطاس كلها حقا من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت، ولا يفارقها العقل الذي ولدها ; لأن العقل بالكلمة يعرف ; لأنها فيه، والكلمة كلها في العقل الذي ولدها، وكلها في نفسها، وكلها في القرطاس الذي التحمت به فكذلك كلمة الله كلها في الأب الذي ولدت منه، وكلها في نفسها وفي الروح، وكلها في الناسوت التي حلت فيها والتحمت به فيقال: هذا التمثيل حجة عليكم وعلى فساد قولكم، لا حجة لكم، وذلك يظهر بوجوه.
أحدها: أن يقال: إن كان حلول كلمة الله التي هي المسيح في الناسوت، مثل كتابة الكلام في القرطاس، فحينئذ يكون المسيح من جنس سائر كلام الله، كالتوراة وزبور داود والإنجيل والقرآن، وغير ذلك، فإن هذا كله كلام الله، وهو مكتوب في القراطيس باتفاق أهل الملل، بل الخلق كلهم متفقون على أن كلام كل متكلم يكتب في القراطيس، وقد قال تعالى في القرآن: {بل هو قرآن مجيد - في لوح محفوظ} [البروج: 21 - 22].
وقال تعالى: {إنه لقرآن كريم - في كتاب مكنون - لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 77 - 79]. وقال: {يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة} [البينة: 2] وقال: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} [عبس: 11] وقال تعالى: {والطور وكتاب مسطور في رق منشور} [الطور: 1]
وإذا كانت الكلمة التي هي المسيح عندكم هكذا، فمعلوم أن كلام الله المكتوب في القراطيس ليس هو إلها خالقا، وهو كلام كثير لا ينحصر في كلمة ولا كلمتين.
ولو قال قائل: يا كلام الله اغفر لي وارحمني، أو يا توراة،أو يا إنجيل، أو يا قرآن اغفر لي وارحمني، كان قد تكلم بباطل عند جميع أهل الملل والعقلاء.
وأنتم تقولون: المسيح إله خالق، وهو يدعى ويعبد، فكيف تشبهونه بكلام الله المكتوب في القراطيس؟
الثاني: أن الكلام المكتوب صفة للمتكلم، يقوم به ويكتب في القراطيس عند سلف أهل الملل وجماهيرهم.
وعند بعضهم، هو عرض مخلوق، يخلقه في غيره.
فالجميع متفقون على أن الكلام صفة تقوم بغيرها، ليس جوهرا قائما بنفسه.
والمسيح - عندكم - لاهوته جوهر قائم بنفسه، وهو إله حق من إله حق وهو - عندكم - إله تام وإنسان تام.
فكيف تجعلون الإله الذي هو عين قائمة بنفسها كالصفة التي لا تقوم إلا بغيرها؟
الثالث: قولكم: (إن كلمة الإنسان مولودة من عقله)، لو كان صحيحا فالتولد لا يكون إلا حادثا.
وأنتم تقولون: إن كلمة الله القديمة الأزلية متولدة منه قبل الدهور وتقولون - مع هذا -: هي إله.
وهذا كما أن بطلانه معلوم بصريح العقل، فهي بدعة وضلالة في الشرع، فإنه لم يسم أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله ابنا له، ولا قال: إن صفته متولدة منه. ولفظ الابن لا يوجد عندكم عن الأنبياء إلا اسما لناسوت مخلوق، لا لصفة الله القديمة، فقد بدلتم كلام الأنبياء بهذا الافتراء.
الرابع: قولكم: (مولودة من عقله)، إن أردتم (بعقله) العين القائمة بنفسها التي يسميها قلبا وروحا ونفسا، أو نفسا ناطقة، فتلك إنما تقوم بها المعاني، وأما الألفاظ فإنما تقوم بفمه ولسانه.
وإن أردتم (بعقله) مصدر عقل يعقل عقلا، فالمصدر عرض قائم بالعقل، وهو عرض من جنس العلم والكلمة والعمل الصالح.
وإن أردتم بالعقل الغريزة التي في الإنسان، فهو أيضا عرض.
الخامس: أن تسميتكم تكلم الإنسان بالمعنى أو اللفظ تولدا، أمر اخترعتموه لا يعرف عن نبي من الأنبياء، ولا أمة من الأمم، ولا في لغة من اللغات.
وإنما ابتدعتم هذا لتقولوا: إذا كان كلام الإنسان متولدا منه، فكلام الله متولد منه.
ولم ينطق أحد من الأنبياء بأن كلام الله تولد منه، ولا أنه ابنه، ولا أن علمه تولد منه، ولا أنه ابنه.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 251)
من صــ 461 الى صـ 475
السادس: قولكم: (إن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في القرطاس، فهي في القرطاس كلها حقا، من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت)، إلى قولكم: (الكلمة كلها في العقل الذي ولدها، وكلها في القرطاس الذي التحمت به) - مكابرة ظاهرة، معلومة الفساد بصريح العقل، فإن وجود الكلام في القلب واللسان، ليس هو عين وجوده مكتوبا في القرطاس، بل القائم بقلب المتكلم معان: طلب وخبر وعلم وإرادة، والقائم بنفسه حروف مؤلفة هي أصوات مقطعة، أو هي حدود أصوات مقطعة، وليس في قلب الإنسان ولا فمه مداد كالمداد الذي في القرطاس.
والكلام مكتوب في القرطاس باتفاق العقلاء، مع علمهم بأنه ليس في القرطاس علم وطلب وخبر قائم به، كما تقوم بقلوب المتكلم، ولا قام به أصوات مقطعة مؤلفة، ولا حروف كالأصوات القائمة بفم المتكلم، بل لفظ الحرف يقال على الحرف المكتوب: إما المداد المصور، وإما صورة المداد وشكله. ويقال على الحرف المنطوق: إما الصوت المقطع، وإما حد الصوت ومقطعه وصورته.
وكل عاقل يميز بحسه وعقله بين الصوت المسموع من المتكلم، وبين المداد المرئي بالبصر، ولا يقول عاقل: إن هذا هو هذا، ولا يقال: إن هذا وهذا هو نفس المعنى القائم بقلب المتكلم، فكيف تقولون: إن الكلمة في القرطاس كلها، وكلها في العقل الذي ولدها، وكلها في نفسها؟
السابع: أن حرف (في) التي يسميها النحاة ظرفا، يستعمل في كل موضع بالمعنى المناسب لذلك الموضع.
فإذا قيل: إن الطعم واللون والريح حال في الفاكهة، أو العلم والقدرة والكلام حال في المتكلم، فهذا معنى معقول.
وإذا قيل: إن هذا حال في داره، أو إن الماء حال في الظرف، فهذا معنى آخر.
فإن ذاك حلول صفة في موصوفها، وهذا حلول عين قائمة تسمى جسما وجوهرا في محلها. ومنه يقال لمكان القوم: المحلة، ويقال: فلان حل بالمكان الفلاني.
وإذا قيل: الشمس والقمر في الماء، أو في المرآة، أو وجه فلان في المرآة، أو كلام فلان في هذا القرطاس، فهذا له معنى يفهمه الناس، يعلمون أنه قد ظهرت الشمس والقمر والوجه في المرآة ورؤيت فيها، وأنه لم يحل بها ذات ذلك، وإنما حل فيها مثال شعاعي عند من يقول ذلك.
وكذلك الكلام إذا كتب في القرطاس، فالناس يعلمون أنه مكتوب فيه ومقروء فيه ومنظور فيه، ويقولون: نظرت في كلام فلان وقرأته، وتدبرته وفهمته ورأيته، ونحو ذلك، كما يقولون: رأيت وجهه في المرآة وتأملته ونحو ذلك.
وهم في ذلك كله صادقون يعلمون ما يقولون، ويعلمون أن نفس جرم الشمس والقمر والوجه لم يحل في المرآة، وأن نفس ما قام به من المعاني والأصوات لم تقم بالقرطاس، بل كانت المرآة واسطة في رؤية الوجه فهو المقصود بالرؤية، وكان القرطاس واسطة في معرفة الكلام، فهو المقصود بالرؤية، ويعلمون أن حاسة البصر باشرت ما في المرآة من الشعاع المنعكس، ولكن المقصود بالرؤية هو الشمس، وحاسة البصر باشرت ما في القرطاس من المداد المكتوب، ولكن المقصود بالرؤية هو الكلام المكتوب.
ويعلمون أن نفس المثال الذي في المرآة ليس هو الوجه، وأن نفس المداد المكتوب به ليس هو الكلام المكتوب، بل يفرقون بينهما، كما قال تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف: 109]
ففرق سبحانه بين الكلمات وبين المداد الذي يكتب به الكلمات.
فكيف يقال: إن هذا هو هذا، وإن الكلمة في القرطاس كلها، وهي في المتكلم كلها؟
الثامن: أن الكلام له معنى في المتكلم يعبر عنه بلفظه، واللفظ يكتب في القرطاس، فالمكتوب في القرطاس هو اللفظ المطابق للمعنى، لا يكتب المعنى بدون كتابة اللفظ الذي كتب بالخط ; ليعرف ما كتب.
فدعوى هؤلاء أن نفس المعنى الذي في القلب كله، هو في القرطاس كله - جعل لنفس المعنى هو الخط، وهذا باطل.
التاسع: أنه لا ريب أن كلام المتكلم يقال: إنه قائم به.
ويقال - مع ذلك -: إنه مكتوب في القرطاس، ويقال: هذا هو كلام فلان بعينه، وهذا هو ذاك، ونحو ذلك من العبارات التي تبين أن هذا المكتوب في القرطاس هو هذا الكلام الذي تكلم به المتكلم بعينه، لم يزد فيه ولم ينقص، لم يكتب كلام غيره.
ولا يريدون بذلك أن نفس الخط نفس الصوت، أو نفس المعنى، فإن هذا لا يقوله عاقل.
فإن قيل: ففي المسلمين من يقول: إن كلام الله القديم الأزلي، أو كلام الله الذي ليس بمخلوق، هو حال في الصدور والمصاحف من غير مفارقة.
ومن هؤلاء من يقول: إنه يسمع من الإنسان الصوت القديم، أو الصوت الذي ليس بمخلوق.
ومنهم من يقول: إن الحرف القديم أو الذي ليس بمخلوق، هو في القرطاس، وحكي عن بعضهم أنه يقول ذلك في المداد.
ومن هؤلاء من يقول: إن القديم حل في المصحف ونحو ذلك.
فتقول النصارى: نحن مثل هؤلاء.
قيل: الجواب من وجوه.
أحدها: أن المقصود بيان الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، والرد على من خالف ذلك من النصارى وغيرهم.
ونحن لا ننكر أن في المنتسبين إلى الإسلام طوائفا منهم منافقون ملحدون وزنادقة، ومنهم جهال ومبتدعة، ومنهم من يقول مثل قول النصارى، ومنهم من يقول شرا منه، فالرد على هؤلاء كلهم، والعصمة ثابتة لكتاب الله وسنة رسوله.
وما اجتمع عليه عباده المؤمنون. فهذا لا يكون إلا حقا، وما تنازع فيه المسلمون، ففيه حق وباطل.
الوجه الثاني: أن يقال: هؤلاء الذين قالوا في القرآن ما قالوه، ليس قولهم مثل قول النصارى.
فإن النصارى جعلوا لله ولدا قديما أزليا سموه كلمة، وقالوا: إنه إله يخلق ويرزق، وإنه اتحد بالمسيح، فجعلوا المسيح - الذي هو الكلمة عندهم - إلها يخلق ويرزق.
وليس في طوائف المسلمين المعروفة من يقول: إن كلام الله إله يخلق ويرزق.
ولكن محمد وغيره من الرسل - عليهم السلام - بلغوا إلى الخلق كلام الله الذي تكلم به.
فكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان على أن القرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلام الله، هو كلام الله الذي تكلم به، وأن الله أنزله وأرسل به ملائكته، ليس هو مخلوقا بائنا عنه خلقه في غيره.
ويقولون: إن هذا القرآن هو كلام الله الذي بلغه رسوله، والمسلمون يقرءونه، ويسمع من القارئ كلام الله، لكن يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم، ويسمعونه من القارئ الذي يقرؤه بصوت نفسه، فالكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ.
ويقولون: إن الله تكلم به وكلم به موسى، وإن موسى سمع نداء الله بأذنه، فكلمه الله بالصوت الذي سمعه موسى، كما بين ذلك في كتب الله القرآن والإنجيل والتوراة وغير ذلك.
فحدث بعد الصحابة وأكابر التابعين طائفة معطلة يقولون: إن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا، فقتل المسلمون مقدمهم " الجعد " وصار لهم مقدم يقال له " الجهم " فنسبت إليهم الجهمية، نفاة الأسماء والصفات.
تارة يقولون: إن الله لم يتكلم ولم يكلم موسى، وإنما أطلق ذلك مجازا.
وتارة يقولون: تكلم ويتكلم حقيقة، ولكن معنى ذلك أنه خلق كلاما في غيره، سمعه موسى، لا أنه نفسه قام به كلام، وهذا قول من يقوله من المعتزلة ونحوهم.
وزين هذا القول بعض ذوي الإمارة، فدعوا إليه مدة وأظهروه، وعاقبوا من خالفهم، ثم أطفئ ذلك، وأظهر ما كان عليه سلف الأمة، أن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله، تكلم هو به. منه بدا، ليس ببائن منه، وليس بمخلوق خلقه في غيره.
ولما أظهر الله هذا، والناس يتلون قول الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] صار بعض أهل الأهواء يقول: إنما سمع صوت القارئ، وصوته مخلوق، وهو كلام الله، فكلام الله مخلوق.
ولم يميز هذا بين أن يسمع الكلام من المتكلم به، كما سمعه موسى من الله بلا واسطة، وبين أن يسمع من المبلغ عنه.
ومعلوم أنه لو سمع كلام الأنبياء وغيرهم من المبلغين، لم يكن صوت المبلغ هو صوت المبلغ عنه، وإن كان الكلام كلام المبلغ عنه لا كلام المبلغ.
فكلام الله إذا سمع من المبلغين عنه، أولى أن يكون هو كلام الله لا كلام المبلغين، وإن بلغوه بأصواتهم.
فجاءت طائفة ثانية فقالوا: هذا المسموع ألفاظنا وأصواتنا، وكلامنا ليس هو كلام الله ; لأن هذا مخلوق، وكلام الله ليس بمخلوق.
وكان مقصود هؤلاء، تحقيق أن كلام الله غير مخلوق، فوقعوا في إنكار أن يكون هذا القرآن كلام الله، ولم يهتدوا إلى أنه - وإن كان كلام الله، فهو كلام الله مبلغا عنه - ليس هو كلامه مسموعا منه، ولا يلزم - إذا كانت أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة ليست هي كلام الله - أن يكون الكلام الذي يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم كلامهم، ويكون مخلوقا ليس هو كلام الله.
وهؤلاء الذين قالوا: ليس هذا كلام الله، منهم من قال: هو حكاية لكلام الله، وطردوا ذلك في كل من بلغ كلام غيره أن يكون ما بلغه حكاية لكلام المبلغ عنه لا كلامه.
وأهل الحكاية منهم من يقول: إن كلام الرب يتضمن حروفا مؤلفة، إما قائما بذاته على قول بعضهم، أو مخلوقة في غيره على قول بعضهم، والقائم بذاته معنى واحد.
ومن هؤلاء من قال: الحكاية تماثل المحكي عنه، فلا نقول: هو حكاية، بل هو عبارة عنه، والتقدير عندهم فأجره حتى يسمع كلام عبارته أو حكايته.
فجاءت طائفة ثالثة فقالت: بل قد ثبت أن هذا المسموع كلام الله، وكلام الله ليس بمخلوق، وهذا المسموع هو الصوت، فالصوت غير مخلوق.
ثم من هؤلاء من قال: إنه قديم، ومنهم من قال: ليس بقديم، ومنهم من قال: يسمع صوت الرب والعبد، ومنهم من قال: إنما يسمع صوت الرب.
ثم منهم من قال: إنه قديم، ومنهم من قال: إنما يسمعه من العبد.
وهؤلاء منهم من قال: إن صوت الرب حل في العباد، فضاهوا النصارى.
ومنهم من قال: بل نقول: ظهر فيه من غير حلول. ومنهم من يقول: لا يطلق لا هذا ولا هذا.
وكل هذه الأقوال محدثة مبتدعة، لم يقل شيئا منها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا إمام من أئمة المسلمين، كمالك والثوري،والأوزا عي، والليث بن سعد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن عيينة وغيرهم.
بل هؤلاء كلهم متفقون على أن القرآن منزل غير مخلوق، وأن الله أرسل به جبريل، فنزل به جبريل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فبلغه محمد إلى الناس فقرأه الناس بحركاتهم وأصواتهم، وليس شيء من أفعال العباد وأصواتهم قديما ولا غير مخلوق، ولكن كلام الله غير مخلوق، ولم يكن السلف يقولون: القرآن قديم.
ولما أحدث الجهمية وموافقوهم من المعتزلة وغيرهم أنه مخلوق بائن من الله، قال السلف والأئمة: إنه كلام الله غير مخلوق.
ولم يقل أحد من السلف: إن الله تكلم بغير قدرته ومشيئته، ولا أنه معنى واحد قائم بالذات، ولا أنه تكلم بالقرآن أو التوراة أو الإنجيل في الأزل بحرف وصوت قديم، فحدث بعد ذلك طائفة فقالوا: إنه قديم.
ثم منهم من قال: القديم هو معنى واحد قائم بالذات، هو معنى جميع كلام الله.
وذلك المعنى إن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، والأمر والنهي والخبر صفات له لا أنواع له.
ومن هؤلاء من قال: بل هو قديم، وهو حروف، أو حروف وأصوات أزلية قديمة، وأنها هي التوراة والإنجيل والقرآن.
فقال الناس لهؤلاء: خالفتم الشرع والعقل في قولكم: إنه قديم، وابتدعتم بدعة لم يسبقكم إليها أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وفررتم من محذور إلى محذور، كالمستجير من الرمضاء بالنار.
ثم قولكم: إنه معنى واحد - وهو مدلول جميع العبارات - مكابرة للعقل والشرع؛ فإنا نعلم - بالاضطرار - أنه ليس معنى آية الكرسي، هو معنى آية الدين، ولا معنى {تبت يدا أبي لهب} [المسد: 1] هو معنى سورة الإخلاص.
والتوراة إذا عربناها لم تصر هي القرآن العربي الذي جاء به محمد، وكذلك إذا ترجمنا القرآن بالعبرية، لم يكن هو توراة موسى.
وقول من قال منكم: إنه حروف، أو حروف وأصوات أزلية، ظاهر الفساد، فإن الحروف متعاقبة، فيسبق بعضها بعضا، والمسبوق بغيره لا يكون قديما لم يزل، والصوت المعين لا يبقى زمانين، فكيف يكون قديما أزليا؟
والسلف والأئمة لم يقل أحد منهم بقولكم، لكن قالوا: إن الله تكلم بالقرآن وغيره من الكتب المنزلة، وإن الله نادى موسى بصوت سمعه موسى بأذنه، كما دلت على ذلك النصوص.
ولم يقل أحد منهم: إن ذلك النداء الذي سمعه موسى قديم أزلي، ولكن قالوا: إن الله لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء ; لأن الكلام صفة كمال، لا صفة نقص، وإنما تكون صفة كمال إذا قام به، لا إذا كان مخلوقا بائنا عنه، فإن الموصوف - إلا بما قام به - لا يتصف بما هو بائن عنه، فلا يكون الموصوف حيا عالما قادرا متكلما رحيما مريدا بحياة قامت بغيره، ولا بعلم وقدرة قامت بغيره، ولا بكلام ورحمة وإرادة قامت بغيره.
والكلام بمشيئة المتكلم وقدرته أكمل ممن لا يكون بمشيئته وقدرته.
وأما كلام يقوم بذات المتكلم بلا مشيئته وقدرته، فإما أنه ممتنع أو هو صفة نقص، كما يدعى مثل ذلك في المصروع.
وإذا كان كمالا، فدوام الكمال له، وأنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال أكمل من كونه صار متكلما بعد أن لم يكن، لو قدر أن هذا ممكن، فكيف إذا كان ممتنعا؟
وكان أئمة السنة والجماعة كلما ابتدع في الدين بدعة، أنكروها ولم يقروها، ولهذا حفظ الله دين الإسلام، فلا يزال في أمة محمد طائفة هادية مهدية ظاهرة منصورة.
بخلاف أهل الكتاب، فإن النصارى ابتدعوا بدعا خالفوا بها المسيح، وقهروا من خالفهم ممن كان متمسكا بشرع المسيح حتى لم يبق حين بعث الله محمدا من هو متمسك بدين المسيح، إلا بقايا من أهل الكتاب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: («إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب»).
فلما أظهر قوم من الولاة أن القرآن مخلوق، ودعوا الناس إلى ذلك، ثبت الله أئمة السنة وجمهور الأمة، فلم يوافقوهم، وكان المشار إليه من الأئمة إذ ذاك أحمد بن حنبل.
ثم بقي ذلك القول المحدث ظاهرا نحو أربع عشرة سنة، وأئمة الأمة وجمهورها ينكرونه، حتى جاء من الولاة من منع من إظهاره والقول به، فصار مخفيا كغيره من البدع، وشاع عند العامة والخاصة أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
فأراد بعض الناس أن يجيب عن شبهة من قال: إن هذا الذي يقوم بنا مخلوق. فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، ولكن ألفاظنا به مخلوقة، وتلاوتنا له مخلوقة.
وربما قالوا: هذا الذي نقرؤه مخلوق، أو هذا ليس هو كلام الله فقصدوا معنى صحيحا، وهو كون صفات العباد وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة.
لكن غلطوا حيث أطلقوا القول، أو أفهموا الناس بأن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون مخلوق، ولم يهتدوا إلى أنا إذا أشرنا إلى كلام متكلم قد بلغ عنه، فقلنا مثلا لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله: («إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»): هذا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لقول الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
-: هذا كلام لبيد بن ربيعة، ونحو ذلك.
فإنا نشير إلى نفس الكلام معانيه ونظمه وحروفه، لا إلى ما يختص بالمبلغ من حركته وصوته، بل ولا صوت المبلغ عنه وفعله.
فإن كون الحي متحركا أو مصوتا قدر مشترك بين الناطق والأعجم، وليس هذا صفة له.
والكلام الذي يتميز به الناطق عن الأعجم، إنما يتميز بالمعاني القائمة به، وباللفظ المطابق لها من الحروف المنظومة بالأصوات المقطعة.
وهذا أمر يختص به المتكلم بالكلام، لا المبلغ عنه، فليس للمبلغ إلا تأدية ذلك.
ولهذا لو قال قائل لشعر لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فقال: هذا شعري أو كلامي لكونه أنشده بصوته، لكذبه الناس.
ولو قال: هذا الذي أقوله مثل شعر لبيد، لكذبه الناس وقالوا: بل هو شعره نفسه، ولكن أديته بصوتك.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 252)
من صــ 476 الى صـ 490
بخلاف ما إذا قال قائل قولا نظما أو نثرا، وقال آخر مثله، فإن الناس يقولون: هذا مثل قول فلان، كما قال تعالى: {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم} [البقرة: 118] وقال عن القرآن: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} [الإسراء: 88] ولهذا لو قال قارئ: أنا آتي بقرآن مثل قرآن محمد، وتلاه نفسه وقال: هذا مثله، لأنكر الناس ذلك وضحكوا منه وقالوا: هذا القرآن الذي جاء به هو، ليس هو كلام آخر مماثل له.
فإذا كان القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله الذي بلغه الرسول، لم يجز أن يقال: ليس هو بكلام الله، بل هو مثل له، أو حكاية عنه، أو عبارة.
وإذا كان معلوما إنما هو كلام الله، فقد تكلم الله به - سبحانه - لم يخلقه بائنا عنه، ولم يجز أن يقال لما هو كلامه: إنه مخلوق.
فإذا قيل عما يقرؤه المسلمون: إنه مخلوق، والمخلوق بائن عن الله، ليس هو كلامه، فقد جعل مخلوقا، ليس هو بكلام الله، فصار الأئمة يقولون: هذا كلام الله وهذا غير مخلوق، لا يشيرون بذلك إلى شيء من صفات المخلوق، بل إلى كلام الله الذي تكلم به وبلغه عنه رسوله.
والمبلغ إنما بلغه بصفات نفسه، والإشارة في مثل هذا يراد بها الكلام المبلغ، لا يراد بها ما به وقع التبليغ.
وقد يراد بهذا، الثاني، مع التقييد كما في مثل الاسم إذا قيل: عبدت الله ودعوت الله، فليس المراد أن المعبود المدعو، هو الاسم الذي هو اللفظ، بل المعبود المدعو هو المسمى باللفظ، فصار بعضهم يقول: الاسم هو غير المسمى، حتى قيل لبعضهم: أقول: دعوت الله، فقال: لا تقل هكذا، ولكن قل: دعوت المسمى بالله، وظن هذا الغالط أنك إذا قلت ذلك، فالمراد دعوت هذا اللفظ، ومثل هذا يرد عليه في اللفظ الثاني.
فما من شيء عبر عنه باسم، إلا والمراد بالاسم هو المسمى، فإن الأسماء لم تذكر إلا لبيان المسميات، لا أن الاسم نفسه هو ذات المسمى.
فمن قال: إن اللفظ والمعنى القائم بالقلب هو عين المسمى، فغلطه واضح.
ومن قال: إن المراد بالاسم في مثل قولك: دعوت الله، وعبدته،هو نفس اللفظ، فغلطه واضح، ولكن اشتبه على الطائفتين ما يراد بالاسم ونفس اللفظ.
كذلك أولئك اشتبه عليهم نفس كلام المتكلم المبلغ عنه الذي هو المقصود بلفظ المبلغ وكتابته بنفس صوت المبلغ ومداده.
والفرق بين هذا وهذا واضح عند عامة العقلاء.
وإذا كتب كاتب اسم الله في ورقة، ونطق باسم الله في خطابه، وقال قائل: أنا كافر بهذا ومؤمن بهذا، كان مفهوم كلامه أنه مؤمن أو كافر بالمسمى المراد باللفظ والخط، لا أنه يؤمن ويكفر بصوت أو مداد.
فكذلك من قال لما يسمعه من القراء ولما يكتب في المصاحف: إن هذا كلام الله.
أو قال لما يسمع من جميع المبلغين لكلام غيرهم، ولما يوجد في الكتب: هذا كلام زيد، فليس مرادهم ذلك الصوت والمداد، إنما هو المعنى واللفظ الذي بلغه زيد بصوته وكتب في القرطاس بالمداد.
فإذا قيل عن ذلك: إنه مخلوق، فقد قيل: إنه ليس كلام الله، ولم يتكلم به.
ومن قصد نفس الصوت أو المداد وقال: إنه مخلوق، فقد أصاب، كما أن من قصد نفس الصوت أو الخط وقال: ليس هذا هو كلام الله، بل هو مخلوق، فقد أصاب، لكن ينبغي أن يبين مراده بلفظ لا لبس فيه.
فلهذا كان الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره، ينكرون على من أطلق القول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق ويقولون: من قال: إنه مخلوق فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق، فهو مبتدع، ومن قال: إنه مخلوق هنا، فقد يقولون: ليس هو كلام الله، وهذا خلاف المتواتر عن الرسول، وخلاف ما يعلم بمثل ذلك بصريح المعقول.
فإن الناس يعلمون - بعقولهم - أن من بلغ كلام غيره فالكلام كلام المبلغ عنه الذي قاله مبتديا آمرا بأمره مخبرا بخبره، لا كلام من قاله مبلغا عنه مؤديا.
ولهذا «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في المواسم: (ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)» رواه أبو داود وغيره، عن جابر.
ولما أنزل الله تعالى: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} [الروم: 1]
قال بعض الكفار لأبي بكر الصديق: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ قال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله.
فلهذا اشتد به إنكار أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الإسلام، وبالغ قوم في الإنكار عليهم وقالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وأطلقوا عبارات تتضمن وتشعر أن يكون شيء من صفات العباد غير مخلوقة، فأنكر ذلك أحمد وغيره، كما أنكر ذلك ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، وغير هؤلاء من أئمة السنة، وبينوا أن الورق والمداد وأصوات العباد وأفعالهم مخلوقة، وأن كلام الله الذي يحفظه العباد ويقرءونه ويكتبونه غير مخلوق.
فكلام أئمة السنة والجماعة كثير في هذا الباب، متفق غير مختلف، وكله صواب.
ولكن قد يبين بعضهم في بعض الأوقات ما لا يبينه غيره لحاجته في ذلك.
فمن ابتلي بمن يقول: ليس هذا كلام الله كالإمام أحمد، كان كلامه في ذم من يقول: هذا مخلوق، أكثر من ذمه لمن يقول: لفظي مخلوق.
ومن ابتلي بمن يجعل بعض صفات العباد غير مخلوق، كالبخاري صاحب الصحيح، كان كلامه في ذم من يجعل ذلك غير مخلوق، أكثر، مع نص أحمد والبخاري وغيرهما، على خطأ الطائفتين.
(قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ... (25)
لما كان قادرا على التصرف في أخيه؛ لطاعته له جعل ذلك ملكا له.
(قال إنما يتقبل الله من المتقين (27)
وتقول المرجئة: قوله - تعالى -: {إنما يتقبل الله من المتقين} [سورة المائدة: 27] المراد به: من اتقى الشرك.
قالوا: وأما قولكم: المتقون الذين اتقوا الشرك. فهذا خلاف القرآن ; فإن الله - تعالى - قال: {إن المتقين في ظلال وعيون - وفواكه مما يشتهون} [سورة المرسلات: 41 - 42]، {إن المتقين في جنات ونهر} [سورة القمر: 54].
وقال: {الم - ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين - الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون - والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} [سورة البقرة: 1 - 4].
وقالت مريم: {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} [سورة مريم: 18]
ولم ترد به الشرك، بل أرادت التقي الذي يتقى فلا يقدم على الفجور.
وقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [سورة الطلاق: 1 - 2].
وقال تعالى: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم} [سورة الأنفال: 29].
وقال تعالى: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} [سورة يوسف: 90].
وقال تعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [سورة آل عمران: 186].
وقال - تعالى -: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} إلى قوله: {والله ولي المتقين} [سورة الجاثية: 18 - 19].
وقال: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا - يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم} [سورة الأحزاب: 70 - 71] فهم قد آمنوا واتقوا الشرك فلم يكن الذي أمرهم به بعد ذلك مجرد ترك الشرك.
وقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} [سورة آل عمران: 102].
أفيقول مسلم: إن قطاع الطريق الذين يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم اتقوا الله حق تقاته لكونهم لم يشركوا، وإن أهل الفواحش وشرب الخمر وظلم الناس اتقوا الله حق تقاته؟.
وقد قال السلف: ابن مسعود وغيره: كالحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل: " حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى ". وبعضهم يرويه عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي تفسير الوالبي عن ابن عباس قال: هو أن يجاهد العبد في الله حق جهاده، وأن لا تأخذه في الله لومة لائم، وأن يقوموا له بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
وقد قال - تعالى -: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون - وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} [سورة الأعراف: 201 - 202]، فمن كان الشيطان لا يزال يمده في الغي، وهو لا يتذكر ولا يبصر، كيف يكون من المتقين؟.
وقد قال - تعالى - في آية الطلاق: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [سورة الطلاق: 2 - 3]. وفي حديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «يا أبا ذر لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم» " وكان ابن عباس وغيره من الصحابة إذا تعدى الرجل حد الله في الطلاق يقولون له: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا وفرجا.
ومعلوم أنه ليس المراد بالتقوى هنا مجرد تقوى الشرك.
ومن أواخر ما نزل من القرآن. وقيل: إنها آخر آية نزلت قوله - تعالى -: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [سورة البقرة: 281]، فهل اتقاء ذلك هو مجرد ترك الشرك؟، وإن فعل كل ما حرم الله عليه، وترك كل ما أمر الله به؟ وقد قال طلق بن حبيب ومع هذا كان سعيد بن جبير ينسبه إلى الإرجاء قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وبالجملة فكون المتقين هم الأبرار الفاعلون للفرائض، المجتنبون للمحارم، هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف، والقرآن والأحاديث تقتضي ذلك.
(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33)
(فصل في سبب نزول الآية)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
قيل: سبب نزول هذه الآية العرنيون الذين ارتدوا وقتلوا وأخذوا المال.
وقيل: سببه ناس معاهدون نقضوا العهد وحاربوا. وقيل: المشركون؛ فقد قرن بالمرتدين المحاربين وناقضي العهد المحاربين وبالمشركين المحاربين.
وجمهور السلف والخلف على أنها تتناول قطاع الطريق من المسلمين والآية تتناول ذلك كله؛ ولهذا كان من تاب قبل القدرة عليه من جميع هؤلاء فإنه يسقط عنه حق الله تعالى.
(فصل في أحكام قطاع الطريق)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وقد روى الشافعي رحمه الله في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما - في قطاع الطريق -: " إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض ". وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي وأحمد وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله. ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة وإن كان لم يقتل: مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيها ويقطع من رأى قطعه مصلحة؛ وإن كان لم يأخذ المال مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال. كما أن منهم من يرى أنهم إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا.
والأول قول الأكثر. فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء. ذكره ابن المنذر ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول؛ بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة؛ فإن هذا دمه لأولياء المقتول إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية؛ لأنه قتله لغرض خاص.
وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس فضررهم عام؛ بمنزلة السراق فإن قتلهم حدا لله. وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل؛ لأنه قتل للفساد العام حدا كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم.
وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان ورده له فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة وأن الردة والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين. والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء. ولأن المباشر إنما تمكن من قتله بقوة الردء ومعونته. والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين.
وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراب كثيرا - فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة وأحمد وغيرهم. وهذا معنى قول الله تعالى: {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف}. تقطع اليد التي يبطش بها والرجل التي يمشي عليها وتحسم يده ورجله بالزيت المغلي ونحوه؛ لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه وكذلك تحسم يد السارق بالزيت. وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل؛ فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل ذكروا بذلك جرمه فارتدعوا؛ بخلاف القتل فإنه قد ينسى؛ وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله.
وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا ثم أغمدوه أو هربوا وتركوا الحراب فإنهم ينفون. فقيل: نفيهم تشريدهم فلا يتركون يأوون في بلد. وقيل: هو حبسهم. وقيل: هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك. والقتل المشروع: هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه لأن ذلك أروح أنواع القتل وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه. قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته} رواه مسلم وقال: {إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان}.
وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم وهو بعد القتل عند جمهور العلماء. ومنهم من قال: يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون. وقد جوز بعض العلماء قتلهم بغير السيف حتى قال: يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل.
فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد {قال عمران بن حصين رضي الله عنهما ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا إن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مثل ما فعلوا}. والترك أفضل كما قال الله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} {واصبر وما صبرك إلا بالله} قيل إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم {لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا} فأنزل الله هذه الآية - وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} وقوله: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية - فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بل نصبر " وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال:
{كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول: اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا}.
ولو شهروا السلاح في البنيان - لا في الصحراء - لأخذ المال فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس. وقال أكثرهم: إن حكمهم في البنيان والصحراء واحد. وهذا قول مالك - في المشهور عنه - والشافعي وأكثر أصحاب أحمد وبعض أصحاب أبي حنيفة؛ بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة؛ ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله والمسافر لا يكون معه - غالبا - إلا بعض ماله. وهذا هو الصواب؛ لا سيما هؤلاء المتحزبون الذين تسميهم العامة في الشام ومصر المنسر وكانوا يسمون ببغداد العيارين ولو حاربوا بالعصا والحجارة المقذوفة بالأيدي أو المقاليع ونحوها: فهم محاربون أيضا. وقد حكي عن بعض الفقهاء لا محاربة إلا بالمحدد. وحكى بعضهم الإجماع: على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقل.
وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن. فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين: أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع كما أن من قاتل المسلمين من الكفار بأي نوع كان من أنواع القتال فهو حربي ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو عصا فهو مجاهد في سبيل الله.
وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال؛ مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم. أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله وهذا يسمى القتل غيلة ويسميهم بعض العامة المعرجين فإذا كان لأخذ المال فهل هم كالمحاربين أو يجري عليهم حكم القود؟ فيه قولان للفقهاء.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السادس
الحلقة( 253)
من صــ 491 الى صـ 5ج
أحدهما: أنهم كالمحاربين لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة كلاهما لا يمكن الاحتراز منه؛ بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدري به. والثاني: أن المحارب هو المجاهر بالقتال؛ وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم. والأول أشبه بأصول الشريعة؛ بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدري به. واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان. وقاتل علي رضي الله عنهما هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم - على قولين في مذهب أحمد وغيره - لأن في قتله فسادا عاما.
فصل:
وهذا كله إذا قدر عليهم. فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم. ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا وإن أفضى إلى ذلك؛ سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا. ويقتلون في القتال كيفما أمكن: في العنق وغيره. ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم. فهذا قتال وذاك إقامة حد. وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام.
وسئل شيخ الإسلام تقي الدين:
عمن يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويعتقدون أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على إمامته وأن الصحابة ظلموه ومنعوه حقه وأنهم كفروا بذلك. فهل يجب قتالهم؟ ويكفرون بهذا الاعتقاد أم لا؟.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله. فلو قالوا: نصلي ولا نزكي أو نصلي الخمس ولا نصلي الجمعة ولا الجماعة أو نقوم بمباني الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر أو نتبع القرآن ولا نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نعمل بالأحاديث الثابتة عنه أو نعتقد أن اليهود والنصارى خير من جمهور المسلمين وأن أهل القبلة قد كفروا بالله ورسوله ولم يبق منهم مؤمن إلا طائفة قليلة أو قالوا: إنا لا نجاهد الكفار مع المسلمين أو غير ذلك من الأمور المخالفة لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وما عليه جماعة المسلمين. فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعها كما جاهد المسلمون مانعي الزكاة وجاهدوا الخوارج وأصنافهم وجاهدوا الخرمية والقرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف أهل الأهواء والبدع الخارجين عن شريعة الإسلام.
وذلك لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}. فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله. وقال تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} فلم يأمر بتخلية سبيلهم إلا بعد التوبة من جميع أنواع الكفر وبعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} فقد أخبر تعالى أن الطائفة الممتنعة إذا لم تنته عن الربا فقد حاربت الله ورسوله والربا آخر ما حرم الله في القرآن فما حرمه قبله أوكد. وقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض}.
فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول في طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله ومن عمل في الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى في الأرض فسادا؛ ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى أهل القبلة؛ حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين في الأرض فسادا. وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه ويقرون بالإيمان بالله ورسوله. فالذي يعتقد حل دماء المسلمين وأموالهم ويستحل قتالهم. أولى بأن يكون محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا من هؤلاء.
كما أن الكافر الحربي الذي يستحل دماء المسلمين وأموالهم ويرى جواز قتالهم: أولى بالمحاربة من الفاسق الذي يعتقد تحريم ذلك. وكذلك المبتدع الذي خرج عن بعض شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته واستحل دماء المسلمين المتمسكين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته وأموالهم: هو أولى بالمحاربة من الفاسق وإن اتخذ ذلك دينا يتقرب به إلى الله. كما أن اليهود والنصارى تتخذ محاربة المسلمين دينا تتقرب به إلى الله. ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التي يعتقد أصحابها أنها ذنوب. وبذلك مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمر بقتال الخوارج عن السنة وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم والصلاة خلفهم مع ذنوبهم وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته وأخبر عن ذي الخويصرة وأصحابه - مع عبادتهم وورعهم - أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. وقد قال تعالى في كتابه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.
فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه. ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة. وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين. ففي الصحيحين: عن أبي هريرة قال: " لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله}؟ فقال أبو بكر: ألم يقل إلا بحقها؟ فإن الزكاة من حقها. والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق ". فاتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أقوام يصلون ويصومون إذا امتنعوا عن بعض ما أوجبه الله عليهم من زكاة أموالهم. وهذا الاستنباط من صديق الأمة قد جاء مصرحا به.
ففي الصحيحين: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها} فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتالهم حتى يؤدوا هذه الواجبات. وهذا مطابق لكتاب الله. وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة وأخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه ذكرها مسلم في صحيحه وأخرج منها البخاري غير وجه. وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. قال صلى الله عليه وسلم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم. يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل}. وفي رواية {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وفي رواية: {شر قتلى تحت أديم السماء. خير قتلى من قتلوه}. وهؤلاء أول من قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم بحرورا لما خرجوا عن السنة والجماعة واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم؛ فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب وأغاروا على ماشية المسلمين.
فقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وخطب الناس وذكر الحديث وذكر أنهم قتلوا وأخذوا الأموال فاستحل قتالهم وفرح بقتلهم فرحا عظيما ولم يفعل في خلافته أمرا عاما كان أعظم عنده من قتال الخوارج. وهم كانوا يكفرون جمهور المسلمين حتى كفروا عثمان وعليا. وكانوا يعملون بالقرآن في زعمهم ولا يتبعون سنة رسول صلى الله عليه وسلم التي يظنون أنها تخالف القرآن. كما يفعله سائر أهل البدع - مع كثرة عبادتهم وورعهم. وقد ثبت عن علي في صحيح البخاري وغيره من نحو ثمانين وجها أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر.
وثبت عنه أنه حرق غالية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية. وروي عنه بأسانيد جيدة أنه قال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. وعنه أنه طلب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله فهرب منه. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر برجل فضله على أبي بكر أن يجلد لذلك. وقال عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عسل؛ لما ظن أنه من الخوارج: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك. فهذه سنة أمير المؤمنين علي وغيره قد أمر بعقوبة الشيعة: الأصناف الثلاثة وأخفهم المفضلة. فأمر هو وعمر بجلدهم.
والغالية يقتلون باتفاق المسلمين وهم الذين يعتقدون الإلهية والنبوة في علي وغيره مثل النصيرية والإسماعيلية الذين يقال لهم: بيت صاد وبيت سين ومن دخل فيهم من المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع أو ينكرون القيامة أو ينكرون ظواهر الشريعة: مثل الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت الحرام ويتأولون ذلك على معرفة أسرارهم وكتمان أسرارهم وزيارة شيوخهم. ويرون أن الخمر حلال لهم ونكاح ذوات المحارم حلال لهم. فإن جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى. فإن لم يظهر عن أحدهم ذلك كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفرا. فلا يجوز أن يقر بين المسلمين لا بجزية ولا ذمة ولا يحل نكاح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم؛ لأنهم مرتدون من شر المرتدين. فإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون كما قاتل الصديق والصحابة أصحاب مسيلمة الكذاب وإذا كانوا في قرى المسلمين فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة وألزموا بشرائع الإسلام التي تجب على المسلمين. وليس هذا مختصا بغالية الرافضة بل من غلا في أحد من المشايخ وقال:
إنه يرزقه أو يسقط عنه الصلاة أو أن شيخه أفضل من النبي أو أنه مستغن عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وإن له إلى الله طريقا غير شريعة النبي صلى الله عليه وسلم أو أن أحدا من المشايخ يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى. وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين وقتل الواحد المقدور عليه منهم.
وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة فقد روي عنهما - أعني عمر وعليا - قتلهما أيضا. والفقهاء وإن تنازعوا في قتل الواحد المقدور عليه من هؤلاء فلم يتنازعوا في وجوب قتلهم إذا كانوا ممتنعين. فإن القتال أوسع من القتل كما يقاتل الصائلون العداة والمعتدون البغاة وإن كان أحدهم إذا قدر عليه لم يعاقب إلا بما أمر الله ورسوله به. وهذه النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج قد أدخل فيها العلماء لفظا أو معنى من كان في معناهم من أهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين؛ بل بعض هؤلاء شر من الخوارج الحرورية؛ مثل الخرمية والقرامطة والنصيرية وكل من اعتقد في بشر أنه إله أو في غير الأنبياء أنه نبي وقاتل على ذلك المسلمين:
فهو شر من الخوارج الحرورية. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الخوارج الحرورية لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده؛ بل أولهم خرج في حياته. فذكرهم لقربهم من زمانه كما خص الله ورسوله أشياء بالذكر لوقوعها في ذلك الزمان مثل قوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق}. وقوله: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} ونحو ذلك. ومثل تعيين النبي صلى الله عليه وسلم قبائل من الأنصار وتخصيصه أسلم وغفار وجهينة وتميما وأسدا وغطفان وغيرهم بأحكام؛ لمعان قامت بهم وكل من وجدت فيه تلك المعاني ألحق بهم؛ لأن التخصيص بالذكر لم يكن لاختصاصهم بالحكم؛ بل لحاجة المخاطبين إذ ذاك إلى تعيينهم؛ هذا إذا لم تكن ألفاظه شاملة لهم. وهؤلاء الرافضة إن لم يكونوا شرا من الخوارج المنصوصين فليسوا دونهم؛ فإن أولئك إنما كفروا عثمان وعليا وأتباع عثمان وعلي فقط؛ دون من قعد عن القتال أو مات قبل ذلك. والرافضة كفرت أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وكفروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين.
فيكفرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة أو ترضى عنهم كما رضي الله عنهم أو يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم ولهذا يكفرون أعلام الملة: مثل سعيد بن المسيب وأبي مسلم الخولاني وأويس القرني وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي ومثل مالك والأوزاعي وأبي حنيفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وغير هؤلاء. ويستحلون دماء من خرج عنهم ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور كما يسميه المتفلسفة ونحوهم بذلك وكما تسميه المعتزلة مذهب الحشو والعامة وأهل الحديث.
ويرون في أهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق والجزيرة وسائر بلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم وأن المائعات التي عندهم من المياه والأدهان وغيرها نجسة ويرون أن كفرهم أغلظ من كفر اليهود والنصارى. لأن أولئك عندهم كفار أصليون وهؤلاء. مرتدون وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي. ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين فيعاونون التتار على الجمهور. وهم كانوا من أعظم الأسباب في خروج جنكيزخان ملك الكفار إلى بلاد الإسلام وفي قدوم هولاكو إلى بلاد العراق؛ وفي أخذ حلب ونهب الصالحية وغير ذلك بخبثهم ومكرهم؛ لما دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم. وبهذا السبب نهبوا عسكر المسلمين لما مر عليهم وقت انصرافه إلى مصر في النوبة الأولى.
وبهذا السبب يقطعون الطرقات على المسلمين. وبهذا السبب ظهر فيهم من معاونة التتار والإفرنج على المسلمين والكآبة الشديدة بانتصار الإسلام ما ظهر وكذلك لما فتح المسلمون الساحل - عكة وغيرها - ظهر فيهم من الانتصار للنصارى وتقديمهم على المسلمين ما قد سمعه الناس منهم. وكل هذا الذي وصفت بعض أمورهم وإلا فالأمر أعظم من ذلك.
وقد اتفق أهل العلم بالأحوال؛ أن أعظم السيوف التي سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها وأعظم الفساد الذي جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة: إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم. فهم أشد ضررا على الدين وأهله وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة. فليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أكثر كذبا ولا أكثر تصديقا للكذب وتكذيبا للصدق منهم وسيما النفاق فيهم أظهر منه في سائر الناس؛ وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم {آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان} وفي رواية: {أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر}.
وكل من جربهم يعرف اشتمالهم على هذه الخصال؛ ولهذا يستعملون التقية التي هي سيما المنافقين واليهود ويستعملونها مع المسلمين {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} ويحلفون ما قالوا وقد قالوا ويحلفون بالله ليرضوا المؤمنين والله ورسوله أحق أن يرضوه. وقد أشبهوا اليهود في أمور كثيرة لا سيما السامرة من اليهود؛ فإنهم أشبه بهم من سائر الأصناف: يشبهونهم في دعوى الإمامة في شخص أو بطن بعينه والتكذيب لكل من جاء بحق غيره يدعونه وفي اتباع الأهواء أو تحريف الكلم عن مواضعه وتأخير الفطر وصلاة المغرب وغير ذلك وتحريم ذبائح غيرهم. ويشبهون النصارى في الغلو في البشر والعبادات المبتدعة وفي الشرك وغير ذلك. وهم يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين وهذه شيم المنافقين.
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وقال تعالى: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون}. وليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة وهم لا يصلون جمعة ولا جماعة - والخوارج كانوا يصلون جمعة وجماعة - وهم لا يرون جهاد الكفار مع أئمة المسلمين ولا الصلاة خلفهم ولا طاعتهم في طاعة الله ولا تنفيذ شيء من أحكامهم؛ لاعتقادهم أن ذلك لا يسوغ إلا خلف إمام معصوم. ويرون أن المعصوم قد دخل في السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة. وهو إلى الآن لم يخرج ولا رآه أحد ولا علم أحدا دينا ولا حصل به فائدة بل مضرة. ومع هذا فالإيمان عندهم لا يصح إلا به ولا يكون مؤمنا إلا من آمن به ولا يدخل الجنة إلا أتباعه: مثل هؤلاء الجهال الضلال من سكان الجبال والبوادي أو من استحوذ عليهم بالباطل: مثل ابن العود ونحوه ممن قد كتب خطه مما ذكرناه.
من المخازي عنهم وصرح بما ذكرناه عنهم وبأكثر منه. وهم مع هذا الأمر يكفرون كل من آمن بأسماء الله وصفاته التي في الكتاب والسنة وكل من آمن بقدر الله وقضائه: فآمن بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وأنه خالق كل شيء. وأكثر محققيهم عندهم - يرون أن أبا بكر وعمر وأكثر المهاجرين والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل عائشة وحفصة وسائر أئمة المسلمين وعامتهم؛ ما آمنوا بالله طرفة عين قط؛ لأن الإيمان الذي يتعقبه الكفر عندهم يكون باطلا من أصله كما يقوله بعض علماء السنة. ومنهم من يرى أن فرج النبي صلى الله عليه وسلم الذي جامع به عائشة وحفصة لا بد أن تمسه النار ليطهر بذلك من وطء الكوافر على زعمهم؛ لأن وطء الكوافر حرام عندهم. ومع هذا يردون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة المتواترة عنه عند أهل العلم مثل أحاديث البخاري ومسلم ويرون أن شعر شعراء الرافضة: مثل الحميري وكوشيار الديلمي وعمارة اليمني خيرا من أحاديث البخاري ومسلم. وقد رأينا في كتبهم من الكذب والافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب في كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 254)
من صــ 6 الى صـ 20
وهم مع هذا يعطلون المساجد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فلا يقيمون فيها جمعة ولا جماعة ويبنون على القبور المكذوبة وغير المكذوبة مساجد يتخذونها مشاهد. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ المساجد على القبور ونهى أمته عن ذلك. وقال قبل أن يموت بخمس: {إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك}. ويرون أن حج هذه المشاهد المكذوبة وغير المكذوبة من أعظم العبادات حتى أن من مشايخهم من يفضلها على حج البيت الذي أمر الله به ورسوله. ووصف حالهم يطول. فبهذا يتبين أنهم شر من عامة أهل الأهواء وأحق بالقتال من الخوارج. وهذا هو السبب فيما شاع في العرف العام: أن أهل البدع هم الرافضة: فالعامة شاع عندها أن ضد السني هو الرافضي فقط لأنهم أظهر معاندة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرائع دينه من سائر أهل الأهواء.
وأيضا فالخوارج كانوا يتبعون القرآن بمقتضى فهمهم وهؤلاء إنما يتبعون الإمام المعصوم عندهم الذي لا وجود له. فمستند الخوارج خير من مستندهم.
وأيضا فالخوارج لم يكن منهم زنديق ولا غال وهؤلاء فيهم من الزنادقة والغالية من لا يحصيه إلا الله. وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق: عبد الله بن سبأ؛ فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية وطلب أن يفسد الإسلام كما فعل بولص النصراني الذي كان يهوديا في إفساد دين النصارى.
وأيضا فغالب أئمتهم زنادقة؛ إنما يظهرون الرفض. لأنه طريق إلى هدم الإسلام كما فعلته أئمة الملاحدة الذين خرجوا بأرض أذربيجان في زمن المعتصم مع بابك الخرمي وكانوا يسمون " الخرمية " و " المحمرة " " والقرامطة الباطنية " الذين خرجوا بأرض العراق وغيرها بعد ذلك وأخذوا الحجر الأسود وبقي معهم مدة. كأبي سعيد الجنابي وأتباعه. والذين خرجوا بأرض المغرب ثم جاوزوا إلى مصر وبنوا القاهرة وادعوا أنهم فاطميون مع اتفاق أهل العلم بالأنساب أنهم بريئون من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نسبهم متصل بالمجوس واليهود واتفاق أهل العلم بدين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أبعد عن دينه من اليهود والنصارى. بل الغالية الذين يعتقدون إلهية علي والأئمة. ومن أتباع هؤلاء الملاحدة أهل دور الدعوة: الذين كانوا بخراسان والشام واليمن وغير ذلك. وهؤلاء من أعظم من أعان التتار على المسلمين باليد واللسان: بالمؤازرة والولاية وغير ذلك؛ لمباينة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى؛ ولهذا كان ملك الكفار هولاكو " يقرر أصنامهم.
وأيضا فالخوارج كانوا من أصدق الناس وأوفاهم بالعهد وهؤلاء من أكذب الناس وأنقضهم للعهد.
وأما ذكر المستفتي أنهم يؤمنون بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهذا عين الكذب؛ بل كفروا مما جاء به بما لا يحصيه إلا الله: فتارة يكذبون بالنصوص الثابتة عنه. وتارة يكذبون بمعاني التنزيل. وما ذكرناه وما لم نذكره من مخازيهم يعلم كل أحد أنه مخالف لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن الله قد ذكر في كتابه من الثناء على الصحابة والرضوان عليهم والاستغفار لهم ما هم كافرون بحقيقته. وذكر في كتابه من الأمر بالجمعة والأمر بالجهاد وبطاعة أولي الأمر ما هم خارجون عنه. وذكر في كتابه من موالاة المؤمنين وموادتهم ومؤاخاتهم والإصلاح بينهم ما هم عنه خارجون. وذكر في كتابه من النهي عن موالاة الكفار وموادتهم ما هم خارجون عنه. وذكر في كتابه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وتحريم الغيبة والهمز واللمز: ما هم أعظم الناس استحلالا له. وذكر في كتابه من الأمر بالجماعة والائتلاف والنهي عن الفرقة والاختلاف ما هم أبعد الناس عنه.
وذكر في كتابه من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباع حكمه ما هم خارجون عنه. وذكر في كتابه من حقوق أزواجه ما هم براء منه. وذكر في كتابه من توحيده وإخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه. فإنهم مشركون كما جاء فيهم الحديث لأنهم أشد الناس تعظيما للمقابر التي اتخذت أوثانا من دون الله. وهذا باب يطول وصفه. وقد ذكر في كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به. وذكر في كتابه من قصص الأنبياء والنهي عن الاستغفار للمشركين ما هم كافرون به. وذكر في كتابه من أنه على كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء وأنه ما شاء الله لا قوة إلا بالله: ما هم كافرون به. ولا تحتمل الفتوى إلا الإشارة المختصرة.
ومعلوم قطعا أن إيمان الخوارج بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من إيمانهم. فإذا كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد قتلهم ونهب عسكره ما في عسكرهم من الكراع والسلاح والأموال فهؤلاء أولى أن يقاتلوا وتؤخذ أموالهم كما أخذ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أموال الخوارج. ومن اعتقد من المنتسبين إلى العلم أو غيره أن قتال هؤلاء بمنزلة قتال البغاة الخارجين على الإمام بتأويل سائغ كقتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأهل الجمل وصفين: فهو غالط جاهل بحقيقة شريعة الإسلام وتخصيصه هؤلاء الخارجين عنها. فإن هؤلاء لو ساسوا البلاد التي يغلبون عليها بشريعة الإسلام كانوا ملوكا كسائر الملوك؛ وإنما هم خارجون عن نفس شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته شرا من خروج الخوارج الحرورية وليس لهم تأويل سائغ؛ فإن التأويل السائغ هو الجائز الذي يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب كتأويل العلماء المتنازعين في موارد الاجتهاد.
وهؤلاء ليس لهم ذلك بالكتاب والسنة والإجماع ولكن لهم تأويل من جنس تأويل مانعي الزكاة والخوارج واليهود والنصارى. وتأويلهم شر تأويلات أهل الأهواء. ولكن هؤلاء المتفقهة لم يجدوا تحقيق هذه المسائل في مختصراتهم. وكثير من الأئمة المصنفين في الشريعة لم يذكروا في مصنفاتهم قتال الخارجين عن أصول الشريعة الاعتقادية والعملية كمانعي الزكاة والخوارج ونحوهم إلا من جنس قتال الخارجين على الإمام كأهل الجمل وصفين. وهذا غلط؛ بل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فرق بين الصنفين كما ذكر ذلك أكثر أئمة الفقه والسنة والحديث والتصوف والكلام وغيرهم.
وأيضا فقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يشملهم وغيرهم؛ مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم الله: {من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات: مات ميتة جاهلية ومن قتل تحت راية عمية؛ يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية: فليس مني ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني} فقد ذكر صلى الله عليه وسلم البغاة الخارجين عن طاعة السلطان وعن جماعة المسلمين وذكر أن أحدهم إذا مات مات ميتة جاهلية؛ فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يجعلون عليهم أئمة؛ بل كل طائفة تغالب الأخرى. ثم ذكر قتال أهل العصبية كالذين يقاتلون على الأنساب مثل قيس ويمن وذكر أن من قتل تحت هذه الرايات فليس من أمته ثم ذكر قتال العداة الصائلين والخوارج ونحوهم وذكر أن من فعل هذا فليس منه.
وهؤلاء جمعوا هذه الثلاثة الأوصاف وزادوا عليها. فإنهم خارجون عن الطاعة والجماعة: يقتلون المؤمن والمعاهد لا يرون لأحد من ولاة المسلمين طاعة سواء كان عدلا أو فاسقا؛ إلا لمن لا وجود له. وهم يقاتلون لعصبية شر من عصبية ذوي الأنساب: وهي العصبية للدين الفاسد؛ فإن في قلوبهم من الغل والغيظ على كبار المسلمين وصغارهم وصالحيهم وغير صالحيهم ما ليس في قلب أحد. وأعظم عبادتهم عندهم لعن المسلمين من أولياء الله: مستقدمهم ومستأخرهم. وأمثلهم عندهم الذي لا يلعن ولا يستغفر.
وأما خروجهم يقتلون المؤمن والمعاهد: فهذا أيضا حالهم؛ مع دعواهم أنهم هم المؤمنون وسائر الأمة كفار. وروى مسلم في صحيحه عن محمد بن شريح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنه ستكون هناة وهناة فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان وفي لفظ: فاقتلوه} وفي لفظ: {من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه}.
وهؤلاء أشد الناس حرصا على تفريق جماعة المسلمين؛ فإنهم لا يقرون لولي أمر بطاعة سواء كان عدلا أو فاسقا؛ ولا يطيعونه لا في طاعة ولا في غيرها؛ بل أعظم أصولهم عندهم التكفير واللعن والسب لخيار ولاة الأمور؛ كالخلفاء الراشدين والعلماء المسلمين ومشايخهم؛ لاعتقادهم أن كل من لم يؤمن بالإمام المعصوم الذي لا وجود له فما آمن بالله ورسوله. وإنما كان هؤلاء شرا من الخوارج الحرورية وغيرهم من أهل الأهواء لاشتمال مذاهبهم على شر مما اشتملت عليه مذاهب الخوارج؛ وذلك لأن الخوارج الحرورية كانوا أول أهل الأهواء خروجا عن السنة والجماعة؛ مع وجود بقية الخلفاء الراشدين وبقايا المهاجرين والأنصار وظهور العلم والإيمان والعدل في الأمة وإشراق نور النبوة وسلطان الحجة وسلطان القدرة؛ حيث أظهر الله دينه على الدين كله بالحجة والقدرة. وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلي ومن معهما من الأنواع التي فيها تأويل فلم يحتملوا ذلك وجعلوا موارد الاجتهاد. بل الحسنات ذنوبا وجعلوا الذنوب كفرا ولهذا لم يخرجوا في زمن أبي بكر وعمر لانتفاء تلك التأويلات وضعفهم.
ومعلوم أنه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة المخالفة أضعف فلهذا كانت البدعة الأولى أخف من الثانية والمستأخرة تتضمن من جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها. كما أن السنة كلما كان أصلها أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت أفضل. فالسنن ضد البدع فكل ما قرب منه صلى الله عليه وسلم مثل سيرة أبي بكر وعمر كان أفضل مما تأخر كسيرة عثمان وعلي والبدع بالضد كل ما بعد عنه كان شرا مما قرب منه وأقربها من زمنه الخوارج. فإن التكلم ببدعتهم ظهر في زمانه؛ ولكن لم يجتمعوا وتصير لهم قوة إلا في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
ثم ظهر في زمن علي التكلم بالرفض؛ لكن لم يجتمعوا ويصير لهم قوة إلا بعد مقتل الحسين رضي الله عنه بل لم يظهر اسم الرفض إلا حين خروج زيد بن علي بن الحسين بعد المائة الأولى لما أظهر الترحم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رفضته الرافضة فسموا " رافضة " واعتقدوا أن أبا جعفر هو الإمام المعصوم. واتبعه آخرون فسموا " زيدية " نسبة إليه. ثم في أواخر عصر الصحابة نبغ التكلم ببدعة القدرية والمرجئة فردها بقايا الصحابة؛ كابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد وواثلة بن الأسقع وغيرهم؛ ولم يصر لهم سلطان واجتماع حتى كثرت المعتزلة والمرجئة بعد ذلك. ثم في أواخر عصر التابعين ظهر التكلم ببدعة الجهمية نفاة الصفات ولم يكن لهم اجتماع وسلطان إلا بعد المائة الثانية في إمارة أبى العباس الملقب بالمأمون؛ فإنه أظهر التجهم وامتحن الناس عليه وعرب كتب الأعاجم: من الروم واليونانيين وغيرهم. وفي زمنه ظهرت " الخرمية ". وهم زنادقة منافقون يظهرون الإسلام وتفرعوا بعد ذلك إلى القرامطة والباطنية والإسماعيلية. وأكثر هؤلاء ينتحلون الرفض في الظاهر. وصارت الرافضة الإمامية في زمن بني بويه بعد المائة الثالثة فيهم عامة هذه الأهواء المضلة: فيهم الخروج والرفض والقدر والتجهم. وإذا تأمل العالم ما ناقضوه من نصوص الكتاب والسنة لم يجد أحدا يحصيه إلا الله. فهذا كله يبين أن فيهم ما في الخوارج الحرورية وزيادات.
وأيضا فإن الخوارج الحرورية كانوا ينتحلون اتباع القرآن بآرائهم ويدعون اتباع السنن التي يزعمون أنها تخالف القرآن. والرافضة تنتحل اتباع أهل البيت وتزعم أن فيهم المعصوم الذي لا يخفى عليه شيء من العلم ولا يخطئ. لا عمدا ولا سهوا ولا رشدا. واتباع القرآن واجب على الأمة؛ بل هو أصل الإيمان وهدى الله الذي بعث به رسوله وكذلك أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجب محبتهم " وموالاتهم ورعاية حقهم. وهذان الثقلان اللذان وصى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فروى مسلم في صحيحه عن {زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال: يا أيها الناس؛ إني تارك فيكم الثقلين} - وفي رواية {أحدهما أعظم من الآخر - كتاب الله فيه الهدى والنور} فرغب في كتاب الله " وفي رواية: {هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة وعترتي أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي}. فقيل لزيد بن أرقم: من أهل بيته؟ قال: أهل بيته من حرم الصدقة: آل العباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل. والنصوص الدالة على اتباع القرآن أعظم من أن تذكر هنا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه حسان أنه قال عن أهل بيته:
{والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي} وقد أمرنا الله بالصلاة على آل محمد وطهرهم من الصدقة التي هي أوساخ الناس وجعل لهم حقا في الخمس والفيء وقال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت في الصحيح: {إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم فأنا خيركم نفسا وخيركم نسبا}.
ولو ذكرنا ما روي في حقوق القرابة وحقوق الصحابة لطال الخطاب فإن دلائل هذا كثيرة من الكتاب والسنة. ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة وتبرءوا من الناصبة الذين يكفرون علي بن أبي طالب ويفسقونه وينتقصون بحرمة أهل البيت؛ مثل من كان يعاديهم على الملك أو يعرض عن حقوقهم الواجبة أو يغلو في تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق. وتبرءوا من الرافضة الذين يطعنون على الصحابة وجمهور المؤمنين؛ ويكفرون عامة صالحي أهل القبلة. وهم يعلمون أن هؤلاء أعظم ذنبا وضلالا من أولئك كما ذكرنا من أن هؤلاء الرافضة المحاربين شر من الخوارج وكل من الطائفتين انتحلت إحدى الثقلين؛ لكن القرآن أعظم. فلهذا كانت الخوارج أقل ضلالا من الروافض؛ مع أن كل واحدة من الطائفتين مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ومخالفة لصحابته وقرابته ومخالفون لسنة خلفائه الراشدين ولعترته أهل بيته.
وقد تنازع العلماء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في إجماع الخلفاء وفي إجماع العترة هل هو حجة يجب اتباعها؟ والصحيح أن كليهما حجة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ} وهذا حديث صحيح في السنن. وقال صلى الله عليه وسلم {إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض} رواه الترمذي وحسنه وفيه نظر. وكذلك إجماع أهل المدينة النبوية في زمن الخلفاء الراشدين هو بهذه المنزلة.
والمقصود هنا أن يتبين أن هؤلاء الطوائف المحاربين لجماعة المسلمين من الرافضة ونحوهم هم شر من الخوارج الذين نص النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم ورغب فيه. وهذا متفق عليه بين علماء الإسلام العارفين بحقيقته. ثم منهم من يرى أن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم شمل الجميع ومنهم من يرى أنهم دخلوا من باب التنبيه والفحوى أو من باب كونهم في معناهم. فإن الحديث روي بألفاظ متنوعة ففي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة}.
وفي صحيح مسلم: " عن زيد بن وهب أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج. فقال علي: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء. يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض}. والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم؛ فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس. فسيروا على اسم الله.
وذكر الحديث إلى آخره. وفي مسلم أيضا " عن عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي رضي الله عنه أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي قالوا: لا حكم إلا لله. فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم وأشار إلى حلقه من أبغض خلق الله إليه منهم رجل أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي. فلما قتلهم علي بن طالب قال: انظروا. فنطروا فلم يجدوا شيئا. فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثا - ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه ".
وهذه العلامة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي علامة أول من يخرج منهم ليسوا مخصوصين بأولئك القوم. فإنه قد أخبر في غير هذا الحديث أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال. وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر.
وأيضا فالصفات التي وصفها تعم غير ذلك العسكر؛ ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقا مثل ما في الصحيحين عن أبي سلمة وعطاء بن يسار: أنهما أتيا أبا سعيد فسألاه عن الحرورية: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها؟ قال: لا أدري؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يخرج في هذه الأمة - ولم يقل منها - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو حلوقهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه: فيتمارى في الفوقة هل علق بها شيء من الدم} اللفظ لمسلم. وفي الصحيحين أيضا عن أبي سعيد قال: {بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله ذو الخويصرة التميمي - وفي رواية أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم - فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل قال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضرب عنقه.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 255)
من صــ 21 الى صـ 35
قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء. قد سبق الفرث والدم}. وذكر ما في الحديث. فهؤلاء أصل ضلالهم: اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل وأنهم ضالون وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفرا. ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها.
فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. في كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية وفي الصحيحين في حديث أبي سعيد: {يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان؛ لئن أدركتهم لأقتلهم قتل عاد} وهذا نعت سائر الخارجين كالرافضة ونحوهم؛ فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين؛ لأن المرتد شر من غيره. وفي حديث أبي سعيد: أن {النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته: يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق. قال: هم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق} وهذه السيما سيما أولهم كما كان ذو الثدية؛ لأن هذا وصف لازم لهم.
وأخرجا في الصحيحين حديثهم من حديث سهل بن حنيف بهذا المعنى ورواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر ورواه مسلم من حديث أبي ذر ورافع بن عمرو وجابر بن عبد الله وغيرهم وروى النسائي {عن أبي برزة أنه قيل له: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج؟ قال: نعم.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني ورأيته بعيني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال فقسمه فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله؛ ولم يعط من وراءه شيئا. فقام رجل من ورائه فقال: يا محمد؛ ما عدلت في القسمة - رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان - فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال له: والله لا تجدون بعدي رجلا هو أعدل مني ثم قال: يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال.
فإذا لقيتموهم فاقتلوهم. هم شر الخلق والخليقة} وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن بعدي من أمتي - أو سيكون بعدي من أمتي - قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة}. قال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري أخا الحكم بن عمرو الغفاري قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر كذا وكذا؟ فذكرت له الحديث فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه المعاني موجودة في أولئك القوم الذين قتلهم علي رضي الله عنه وفي غيرهم. وإنما قولنا: إن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار أي قاتل جنس الكفار وإن كان الكفر أنواعا مختلفة.
وكذلك الشرك أنواع مختلفة وإن لم يكن الآلهة التي كانت العرب تعبدها هي التي تعبدها الهند والصين والترك؛ لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه. وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان في معنى أولئك ويجب قتالهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما وجب قتال أولئك. وإن كان الخروج عن الدين والإسلام أنواعا مختلفة وقد بينا أن خروج الرافضة ومروقهم أعظم بكثير.
فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج؛ كالحرورية والرافضة ونحوهم: فهذا فيه قولان للفقهاء هما روايتان عن الإمام أحمد. والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم؛ كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أينما لقيتموهم فاقتلوهم} وقال: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} وقال عمر لصبيغ بن عسل: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك. ولأن علي بن أبي طالب طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه. ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض. فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدة راجحة. ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجي ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام؛ ولهذا ترك علي قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقا كثيرا وكانوا داخلين في الطاعة والجماعة ظاهرا لم يحاربوا أهل الجماعة ولم يكن يتبين له أنهم هم.
وأما تكفيرهم وتخليدهم: ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران: وهما روايتان عن أحمد. والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا. وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع؛ لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه. فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له.
وقد بسطت هذه القاعدة في " قاعدة التكفير ". ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في اليم فوالله لأن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين مع شكه في قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة؛ فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة. وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك فيطلق أن هذا القول كفر ويكفر متى قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها؛ دون غيره. والله أعلم؟.
(فصل: قتل الذمي إذا وجب عليه القتل بسبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن أسلم)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما من قال: "إن الساب يقتل وإن تاب وأسلم وسواء كان كافرا أو مسلما" فقد تقدم دليله على أن المسلم يقتل بعد التوبة وأن الذمي يقتل وإن طلب العود إلى الذمة.
وأما قتل الذمي إذا وجب عليه القتل بالسب وإن أسلم بعد ذلك فلهم فيه طرق وهي دالة على تحتم قتل المسلم أيضا كما تدل على تحتم قتل الذمي:
الطريقة الأولى: قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} فوجه الدلالة أن هذا الساب المذكور من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا الداخلين في هذه الآية سواء كان مسلما أو معاهدا وكل من كان من المحاربين الداخلين في هذه الآية فإنه يقام عليه الحد إذا قدر عليه قبل التوبة سواء تاب بعد ذلك أو لم يتب فهذا الذمي أو المسلم إذا سب ثم أسلم بعد أن كل واحد قد قدر عليه قبل التوبة فيجب إقامة الحد عليه وحده القتل فيجب قتله سواء تاب أو لم يتب.
والدليل مبني على مقدمتين:
إحداهما: أنه داخل في هذه الآية.
والثانية: أن ذلك يوجب قتله إذا أخذ قبل التوبة.
أما المقدمة الثانية فظاهرة فإنا لم نعلم مخالفا في أن المحاربين إذا أخذوا قبل التوبة وجب إقامة الحد عليهم وإن تابوا بعد الأخذ وذلك بين في الآية فإن الله أخبر أن جزاءهم أحد هذه الحدود الأربعة إلا الذين تابوا قبل أن تقدروا عليهم فالتائب قبل القدرة ليس جزاؤه شيئا من ذلك وغيره هذه أحد هذه جزاؤه وجزاء أصحاب الحدود تجب إقامته على الآية لأن جزاء العقوبة إذا لم يكن حقا لآدمي حي بل كان حدا من حدود الله وجب استيفاؤه باتفاق
المسلمين وقد قال تعالى في آية السرقة: {فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا} فأمر بالقطع جزاء على ما كسباه فلو لم يكن الجزاء المشروع المحدود من العقوبات واجبا لم يعلل وجوب القطع به إذ العلة المطلوبة يجب أن تكون أبلغ من الحكم وأقوى منه والجزاء اسم للفعل واسم لما يجازى به ولهذا قرأ قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل} بالتنوين وبالإضافة وكذلك الثواب والعقاب وغيرهما فالقتل والقطع قد يسمى جزاء ونكالا وقد يقال فعل هذه ليجزيه وللجزاء.
ولهذا قال الأكثرون: إنه نصب على المفعول له والمعنى أن الله أمر بالقطع ليجزيهم ولينكل عن فعلهم.
وقد قيل: إنه نصب على المصدر لأن معنى "اقطعوا" اجزوهم ونكلوا.
وقيل: إنه على الحال أي فاقطعوهم مجزين منكلين هم وغيرهم أو جازين منكلين.
وبكل حال فالجزاء مأمور به أو مأمور لأجله فثبت أنه واجب الحصول شرعا وقد أخبر أن جزاء المحاربين أحد الحدود الأربعة فيجب تحصيلها إذ الجزاء هنا يتحد فيه معنى الفعل ومعنى المجزي به لأن القتل والقطع والصلب وهي أفعال وهي عين ما يجزي به وليست أجساما بمنزلة المثل من النعم.
يبين ذلك أن لفظ الآية خبر عن أحكام الله سبحانه التي يؤمر الإمام بفعلها ليست عن الحكم الذي يخير بين فعله وتركه إذا ليس لله أحكام في أهل ذنوب يخير الإمام بين فعلها وترك جميعها.
وأيضا فإنه قال: {ذلك لهم خزي في الدنيا} والخزي لا يحصل إلا بإقامة الحدود لا بتعطيلها.
وأيضا فإنه لو كان هذا الجزاء إلى الإمام له إقامته وتركه بحسب المصلحة لندب إلى العفو كما في قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} وقوله: {والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} وقوله: {ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا}.
وأيضا فالأدلة على وجوب إقامة الحدود على السلطان من السنة والإجماع ظاهرة ولم نعلم مخالفا في وجوب جزاء المحاربين ببعض ما ذكر الله في كتابه وإنما اختلفوا في هذه الحدود: هل يخير الإمام بينها بحسب المصلحة أو لكل جرم جزاء محدود شرعا؟ كما هو مشهور فلا حاجة إلى الإطناب في وجوب الجزاء لكن نقول: جزاء الساب القتل عينا بما تقدم من الدلائل الكثيرة ولا يخير الإمام فيه بين القتل والقطع بالإنفاء وإذا كان جزاؤه القتل من هذه الحدود وقد أخذ قبل التوبة وجب إقامة الحد عليه إذا كان من المحاربين بلا تردد.
فلنبين المقدمة الأولى وهي أن هذا من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا وذلك من وجوه:
أحدها: ما رويناه من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث قال: ثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وقوله {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله أن يقتل وإن شاء أن يصلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأما النفي فهو أن يهرب في الأرض فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما سلف منه ثم قال في موضع آخر وذكر هذه الآية من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله ثم قال: {أو ينفوا من الأرض} يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم}.
وكذلك روى محمد بن يزيد الواسطي عن جويبر عن الضحاك قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} قال: "كان ناس من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فقطعوا الميثاق وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله أن يقتل إن شاء أو يصلب أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأما النفي أن يهرب في الأرض ولا يقدر عليه فإن جاء تائبا داخلا في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما عمل".
وقال الضحاك: "أيما رجل مسلم قتل أو أصاب حدا أو مالا لمسلم فلحق بالمشركين فلا توبة له حتى يرجع فيضع يده في يد المسلمين فيقر بما أصاب قبل أن يهرب من دم أو غيره أقيم عليه أو أخذ منه".
ففي هذين الأثرين أنها نزلت في قوم معاهدين من أهل الكتاب لما نقضوا العهد وأفسدوا في الأرض وكذلك في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وإن كان لا يعتمد عليه إذا انفرد أنها نزلت في قوم موادعين وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على ألا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن أن يهاج ومن أتى المسلمين منهم فهو آمن أن يهاج ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن أن يهاج.
قال: "فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر ولم يكن هلال يومئذ شاهدا فنهدوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه جبريل بالقصة فيهم" فقد ذكر أنها نزلت في قوم معاهدين لكن من غير أهل الكتاب.
وروى عكرمة عن ابن عباس وهو قول الحسن أنها نزلت في المشركين ولعله أراد الذين نقضوا العهد كما قال هؤلاء فإن الكافر الأصلي لا ينطبق عليه حكم الآية.
والذي يحقق أن ناقض العهد بما يضر المسلمين داخل في هذه الآية من الأثر ما قدمناه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى برجل من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين بالشام حتى وقعت فتجللها فأمر به عمر فقتل وصلب فكان أول مصلوب في الإسلام وقال: "يا أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد عليه الصلاة والسلام ولا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له" وقد رواه عنه عوف بن مالك الأشجعي وغيره كما تقدم.
وروى عبد الملك بن حبيب بإسناده عن عياض بن عبد الله الأشعري قال: "مرت امرأة تسير على بغل فنخس بها علج فوقعت من البغل فبدا بعض عورتها فكتب بذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر: "أن اصلب العلج في ذلك المكان فإنا لم نعاهدهم على هذا إنما عاهدناهم على أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
وقد قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مجوسي فجر بمسلمة: "يقتل هذا قد نقض العهد وكذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد" قيل له: ترى عليه الصلب مع القتل؟ قال: "إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه".
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمر وأبو عبيدة وعوف بن مالك ومن كان في عصرهم من السابقين الأولين قد استحلوا قتل هذا وصلبه وبين عمر أنا لم نعاهدهم على مثل هذا الفساد وأن العهد انتقض بذلك فعلم أنهم تأولوا فيمن نقض العهد بمثل هذا أنه من محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا فاستحلوا لذلك قتله وصلبه وإلا فصلب مثله لا يجوز إلا لمن ذكره الله في كتابه.
وقد قال آخرون منهم ابن عمر وأنس بن مالك ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن جبير ومكحول وقتادة وغيرهم رضي الله عنهم: "إنها نزلت في العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم" وحديث العرنيين مشهور ولا منافاة بين الحديثين فإن سبب النزول قد يتعدد مع كون اللفظ عاما في مدلوله وكذلك كان عامة العلماء على أن الآية عامة في المسلم والمرتد والناقض كما قال الأوزاعي في هذه الآية: هذا حكم حكمه الله في هذه الأمة على من حارب مقيما على الإسلام أو مرتدا عنه وفيمن حارب من أهل الذمة.
وقد جاءت آثار صحيحة عن علي وأبي موسى وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم تقتضي أن حكم هذه الآية ثابت فيمن حارب المسلمين بقطع الطريق ونحوه مقيما على إسلامه لهذا يستدل جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على حد قطع الطريق بهذه الآية.
والمقصود هنا أن هذا الناقض للعهد والمرتد عن الإسلام بما فيه الضرر داخل فيها كما ذكرنا دلائله عن الصحابة والتابعين وإن كان يدخل فيها بعض
من هو على الإسلام وهذا الساب ناقض للعهد بما فيه ضرر على المسلمين ومرتد بما فيه ضرر على المسلمين فيدخل في الآية.
ومما يدل على أنه قد عنى بها ناقضو العهد في الجملة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفى بني قينقاع والنضير لما نقضوا العهد إلى أرض الحرب وقتل بني قريظة وبعض أهل خيبر لما نقضوا العهد والصحابة قتلوا وصلبوا بعض من فعل ما ينقض العهد من الأمور المضرة فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أصناف ناقض العهد كحكم الله في هذه الآية مع صلاحه لأن يكون امتثالا لأمر الله فيها دليل على أنهم مرادون منها.
الوجه الثاني: أن ناقض العهد والمرتد المؤذي لا ريب أنه محارب لله ورسوله فإن حقيقة نقض العهد محاربة المسلمين ومحاربة المسلمين محاربة لله ورسوله وهو أولى بهذا الاسم من قاطع الطريق ونحوه لأن ذلك مسلم لكن لما حارب المسلمين على الدنيا كان محاربا لله ورسوله فالذي يحاربهم على الدين أولى أن يكون محاربا لله ورسوله ثم لا يخلو إما أن لا يكون محاربا لله ورسوله حتى يقاتلهم ويمتنع عنهم أو يكون محاربا إذا فعل ما يضرهم مما فيه نقض العهد وإن لم يقاتلهم والأول لا يصح لما قدمناه من أن هذا قد نقض العهد وصار من المحاربين ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أيما معاهد تعاطى سب الأنبياء فهو محارب غادر.
وعمر وسائر الصحابة قد جعلوا الذمي الذي تجلل المسلمة بعد أن نخس بها الدابة محاربا بمجرد ذلك حتى حكموا فيه بالقتل والصلب فعلم أنه لا يشترط في المحاربة المقاتلة بل كل ما نقض العهد عندهم من الأقوال والأفعال المضرة فهو محارب داخل في هذه الآية.
فإن قيل: فيلزم من هذا أن يكون كل من نقض العهد بما فيه ضرر يقتل إذا أسلم بعد القدرة عليه.
قيل: وكذلك نقول وعليه يدل ما ذكرناه في سبب نزولها فإنها إذا نزلت فيمن نقض العهد بالفساد وقد قيل فيها: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} علم أن التائب بعد القدرة مبقى على حكم الآية.
الوجه الثالث: أن كل ناقض للعهد فقد حارب الله ورسوله ولولا ذلك لم يجز قتله ثم لا يخلوا إما أن يقتصر على نقض العهد بأن يلحق بدار الحرب أو يضم إلى ذلك فسادا فإن كان الأول فقد حارب الله ورسوله فقط فهذا لم يدخل في الآية وإن كان الثاني فقد حارب وسعى في الأرض فسادا مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يغصب مسلمة على نفسها أو يظهر الطعن في كتاب الله ورسوله ودينه أو يفتن مسلما عن دينه فإن هذا قد حارب الله ورسوله بنقضه العهد وسعى في الأرض فسادا بفعله ما يفسد على المسلمين إما دينهم أو دنياهم وهذا قد دخل في الآية فيجب أن يقتل أو يقتل ويصلب أو ينفى من الأرض حتى يلحق بأرض الحرب إن لم يقدر عليه أو تقطع يده ورجله إن كان قد قطع الطرق وأخذ المال ولا يسقط عنه ذلك إلا أن يتوب من قبل أن يقدر عليه وهو المطلوب.
الوجه الرابع: أن هذا الساب محارب الله ورسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية وذلك لأنه عدو لله ولرسوله ومن عادى الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سبه: "من يكفنني عدوي؟ " وقد تقدم ذكر ذلك من غير وجه إذا كان عدوا له فهو محارب
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة".
وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة" فإذا كان من عادى واحدا من الأولياء قد بارز الله بالمحاربة فكيف من عادى صفوة الله من أوليائه؟ فإنه يكون أشد مبارزة له بالمحاربة وإذا كان محاربا لله لأجل عداوته للرسول فهو محارب للرسول بطريق الأولى فثبت أن الساب للرسول محارب لله ورسوله.
فإن قيل: فلو سب واحدا من أولياء الله غير الأنبياء فقد بارز الله بالمحاربة فإنه إذا سبه فقد عاداه كما ذكرتم وإذا عاداه فقد بارز الله بالمحاربة كما نصه الحديث الصحيح ومع هذا لا يدخل في المحاربة المذكورة في الآية فقد انتقض الدليل وذلك يوجب صرف المحاربة إلى المحاربة باليد.
قيل: هذا باطل من وجوه:
أحدها: أن ليس كل من سب غير الأنبياء يكون قد عاداهم إذ لا دليل يدل على ذلك وقد قال الله سبحانه وتعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} بعد أن أطلق أنه من آذى الله ورسوله فقد لعنه الله في الدنيا والآخرة فعلم أن المؤمن قد يؤذى بما اكتسب ويكون أذاه بحق كإقامة الحدود والانتصار في الشتمة ونحو ذلك مع كونه وليا لله وإذا كان واجبا في بعض الأحيان أو جائزا لم يكن مؤذيه في تلك الحال عدوا له لأن المؤمن يجب عليه أن يوالي المؤمن ولا يعاديه وإن عاقبه
عقوبة شرعية كما قال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} وقال تعالى: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا}.
الثاني: أن من سب غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يكون مع السب مواليه من وجه آخر فإن سباب المسلم إذا لم يكن بحق كان فسوقا والفاسق لا يعادي المؤمنين بل يواليهم ويعتقد مع السب للمؤمن أنه تجب موالاته من وجه آخر أما سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينافي اعتقاد نبوته ويستلزم البراءة منه والمعاداة له لأن اعتقاد عدم نبوته وهو يقول "إنه نبي" يوجب أن يعامل معاملة المتنبيين وذلك يوجب أبلغ العداوات له.
الثالث: لو فرض أن سب غير النبي صلى الله عليه وسلم عداوة له لكن ليس أحد بعينه يشهد له أنه ولي لله شهادة توجب أن ترتب عليها الأحكام المبيحة للدماء بخلاف الشهادة للنبي بالولاية فإنها بعينه نعم لما كان الصحابة قد يشهد لبعضهم بالولاية خرج في قتل سابهم خلاف مشهور ربما نبينه أن شاء الله تعالى عليه.
الرابع: أنه لو فرض أنه عادى وليا علم أنه ولي فإنما يدل على أنه بارز الله بالمحاربة وليس فيه ذكر محاربة الله ورسوله والجزاء المذكور في الآية إنما هو لمن حارب الله ورسوله ومن سب الرسول فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه وقد حارب الله أيضا كما دل عليه الحديث فيكون محاربا لله ورسوله ومحاربة الله ورسوله أخص من محاربة الله والحكم المعلق بالأخص لا يدل على أنه معلق بالأعم وذلك أن محاربة الرسول تقتضي مشاقته على ما جاء به من الرسالة وليس في معاداة ولي بعينه مشاقة في الرسالة بخلاف الطعن في الرسول.
الخامس: أن الجزاء في الآية لمن حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا والطاعن في الرسول قد حارب الله ورسوله كما تقدم وقد سعى في الأرض فسادا كما سيأتي وهذا الساب للولي وإن كان قد حارب الله فلم يسع في الأرض فسادا لأن السعي في الأرض فسادا إنما يكون بإفساد عام لدين الناس أو دنياهم وهذا إنما يتحقق في الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لا يجب على الناس الإيمان بولاية الولي ويجب عليهم الإيمان بنبوة النبي.
السادس: أن ساب الولي لو فرض أنه محارب لله ورسوله فخروجه من اللفظ العام لدليل أوجبه لا يوجب أن يخرج هذا الساب للرسول لأن الفرق بين العداوتين ظاهر والقول العام إذا خصت منه صورة لم تخص منه صورة أخرى لا تساويها إلا بدليل آخر.
السابع: أن حمله على المحاربة باليد متعذر أيضا في حق الولي لأن من عاداه بيده لم يوجب ذلك أن يدخل في حكم الآية على الإطلاق مثل أن يضربه ونحو ذلك فلا فرق إذا في حقه بين المعاداة باليد واللسان بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا فرق بين أن يعاديه بيد أو لسان فإنه يمكن دخوله في الآية وذلك مقرر الاستدلال كما تقدم.
وإذا ثبت أن هذا الساب محارب لله ورسوله فهو أيضا ساع في الأرض فسادا لأن الفساد نوعان: فساد الدنيا من الدماء والأموال والفروج وفساد الدين والذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقع في عرضه يسعى ليفسد على الناس دينهم ثم بواسطة ذلك يفسد عليهم دنياهم وسواء فرضنا أنه أفسد على أحد دينه أو لم يفسد لأنه سبحانه وتعالى إنما قال: {ويسعون في الأرض فسادا} قيل أنه نصب على المفعول له أي ويسعون في الأرض للفساد وكما قال: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل
والله لا يحب الفساد} والسعي هو العمل والفعل فمن سعى ليفسد أمر الدين فقد سعى في الأرض فسادا وإن خاب سعيه وقيل: إنه نصب على المصدر أو على الحال تقديره سعى في الأرض مفسدا كقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أو كما يقال: جلس قعودا وهذا يقال لكل من عمل عملا يوجب الفساد وإن لم يؤثر لعدم قبول الناس له وتمكينهم إياه بمنزلة قاطع الطريق إذا لم يقتل أحدا ولم يأخذ مالا على أن هذا العمل لا يخلو من فساد في النفوس قط إذا لم يقم عليه الحد.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 256)
من صــ 36 الى صـ 50
وأيضا فإنه لا ريب أن الطعن في الدين وتقبيح حال الرسول في أعين الناس وتنفيرهم عنه من أعظم الفساد كما أن الدعاء إلى تعزيره وتوقيره من أعظم الصلاح والفساد ضد الصلاح فكما أن كل قول أو عمل يحبه الله فهو من الصلاح فكل قول أو عمل يبغضه الله فهو من الفساد قال سبحانه وتعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} يعني الكفر والمعصية بعد الإيمان والطاعة ولكن الفساد نوعان: لازم وهو مصدر فسد يفسد فسادا ومتعد وهو اسم مصدر أفسد يفسد إفسادا كما قال تعالى: {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وهذا هو المراد هنا لأنه قال: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} وهذا إنما يقال لمن أفسد غيره لأنه لو كان الفساد في نفسه فقط لم يقل سعى في الأرض فسادا وإنما يقال في الأرض لما انفصل عن الإنسان كما قال سبحانه وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب}
وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِم} وقال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ}.
وأيضا فإن الساب ونحوه انتهك حرمة الرسول ونقص قدره وآذى الله ورسوله وعباده المؤمنين وأجرأ النفوس الكافرة والمنافقة على اصطلام أمر الإسلام وطلب إذلال النفوس المؤمنة وإزالة عز الدين وإسفال كلمة الله وهذا من أبلغ السعي فسادا.
ويؤيد ذلك أن عامة ما ذكر في القرآن من السعي في الأرض فسادا والإفساد في الأرض فإنه قد عنى به إفساد الدين فثبت أن هذا الساب محارب لله ورسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية.
الوجه الخامس: أن المحاربة نوعان: محاربة باليد ومحاربة باللسان والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد كما تقدم تقريره في المسألة الأولى ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتل من كان يحاربه باللسان مع استبقائه بعض من حاربه باليد خصوصا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته فإنها إنما تمكن باللسان وكذلك الإفساد قد يكون باليد وقد يكون باللسان وما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد فثبت أن محاربة الله ورسوله باللسان أشد والسعي في الأرض لفساد الدين باللسان أوكد فهذا الساب لله ورسوله أولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق.
الوجه السادس: أن المحاربة خلاف المسألة والمسألة: أن يسلم كل من المتسالمين من أذى الآخر فمن لم تسلم من يده أو لسانه فليس بمسالم لك بل هو محارب
ومعلوم أن محاربة الله ورسوله هي المغالبة على خلاف ما أمر الله ورسوله إذ المحاربة لذات الله ورسوله محال فمن سب الله ورسوله لم يسالم الله ورسوله لأن الرسول لم يسلم منه بل طعنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم مغالبة لله ورسوله على خلاف ما أمر الله به على لسان رسوله وقد أفسد في الأرض كما تقدم فيدخل في الآية.
وقد تقدم في المسألة الأولى أن هذا الساب محاد لله ورسوله مشاق لله تعالى ورسوله وكل من شاق الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله لأن المحاربة والمشاقة سواء فإن الحرب هو الشق ومنه سمي المحارب محاربا وأما كونه مفسدا في الأرض فظاهر.
واعلم أن كل ما دل على أن السب نقض للعهد فقد دلل على أنه محاربة لله ورسوله لأن حقيقة نقض العهد أن يعود الذمي محاربا فلو لم يكن بالسب يعود محاربا لما كان ناقضا للعهد وقد قدمنا في ذلك من الكلام ما لا يليق إعادته لما فيه من الإطالة فليراجع ما مضى في هذا الموضوع فبقى أنه سعى في الأرض فسادا وهذا أوضح من أن يحتاج إلى دليل فإن إظهار كلمة الكفر والطعن في المرسلين والقدح في كتاب الله ودينه ورسله وكل سبب بينه وبين خلقه لا يكون شيء أشد منه فسادا وعامة الآي في كتاب الله التي تنهى عن الإفساد في الأرض فإن من أكثر المراد بها الطعن في الأنبياء كقوله سبحانه عن المنافقين الذين يخادعون الله والذين آمنوا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} وإنما كان إفسادهم نفاقهم وكفرهم وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}
وقوله: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} وإذا كان هذا محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا تناولته الآية وشملته.
ومما يقرر الدلالة من الآية أن الناس فيها قسمان: منهم من يجعلها مخصوصة بالكفار من مرتد وناقض عهد ونحوها ومنهم من يجعلها عامة في المسلم المقيم على إسلامه وفي غيره ولا أعلم أحدا خصها بالمسلم المقيم على إسلامه فتخصيصها به خلاف الإجماع ثم الذين قالوا إنها عامة قال كثير منهم قتادة وغيره: قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} "هذا لأهل الشرك خاصة فمن أصاب من المشركين شيئا من المسلمين وهو لهم حرب فأخذ مالا أو أصاب دما ثم تاب من قبل أن يقدر عليه أهدر عنه ما مضى" لكن المسلم المقيم على إسلامه محاربته إنما هي باليد لأن لسانه موافق مسالم للمسلمين غير محارب أما المرتد والناقض للعهد فمحاربته تارة باليد وباللسان أخرى ومن زعم أن اللسان لا تقع به محاربة فالأدلة المتقدمة في أول المسألة مع ما ذكرناه هنا تدل على أنه محاربة على أن الكلام في هذا المقام إنما هو بعد أن تقرر أن السب محاربة ونقض للعهد.
واعلم أن هذه الآية آية جامعة لأنواع من المفسدين والدلالة منها ظاهرة قوية لمن تأملها لا أعلم شيئا يدفعها.
فإن قيل: مما يدل على أن المحاربة هنا باليد فقط أنه قال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وإنما يكون هذا فيمن يكون ممتنعا والشاتم ليس ممتنعا.
قيل: الجواب من وجوه:
أحدها: أن المستثنى إذا كان ممتنعا لم يلزم أن يكون المستبقى ممتنعا لجواز أن تكون الآية تعم كل محارب بيد أو لسان ثم استثنى منهم
الممتنع إذا تاب قبل القدرة فيبقى المقدور عليه مطلقا والممتنع إذا تاب بعد القدرة.
الثاني: أن كل من جاء تائبا قبل أخذه فقد تاب قبل القدرة عليه.
سئل عطاء عن الرجل يجيء بالسرقة تائبا قال: ليس عليه قطع وقرأ: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وكل من لم يؤخذ فهو ممتنع لا سيما إذا لم يؤخذ ولم تقم عليه حجة وذلك لأن الرجل وإن كان مقيما فيمكنه الاستخفاء والهرب كما يمكن المصحر فليس كل من فعل جرما كان مقدورا عليه بل يكون طلب المصحر أسهل من طلب المقيم إذا كان لا يواريه في الصحراء خمر ولا غابة بخلاف المقيم في المصر وقد يكون المقيم له من يمنعه من إقامة الحد عليه فكل من تاب قبل أن يؤخذ ويرفع إلى السلطان فقد تاب قبل القدرة عليه.
وأيضا فإذا تاب قبل أن يعلم به ويثبت الحد عليه فإن جاء بنفسه فقد تاب قبل القدرة عليه لأن قيام البينة وهو في أيدينا قدرة عليه فإذا تاب قبل هذين فقد تاب قبل القدرة عليه قطعا.
الثالث: أن المحارب باللسان كالمحارب باليد قد يكون ممتنعا وقد يكون المحارب باليد مستضعفا بين قوم كثيرين وكما أن الذي يخاطر بنفسه بقتال قوم كثيرين قليل فكذلك الذي يظهر الشتم ونحوه من الضرر بين قوم كثيرين قليل وإن الغالب أن القاطع بسيفه إنما يخرج على من يستضعفه فكذلك الذي يظهر الشتم ونحوه من الساب ونحوه إنما يفعل ذلك في الغالب مستخفيا مع من لا يتمكن من أخذه ورفعه إلى السلطان والشهادة عليه.
ومما يقرر الدلالة الاستدلال بالآية من وجهين آخرين:
أحدهما: أنها قد نزلت في قوم ممن كفر وحارب بعد سلمه باتفاق الناس فيما علمناه وإن كانت نزلت أيضا فيمن حارب وهو مقيم على إسلامه فالذمي إذا حارب إما بأن يقطع الطريق على المسلمين أو يستكره مسلمة على نفسها ونحو ذلك يصير به محاربا وعلى هذا إذا تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه القتل الواجب عليه وإن كان هذا قد اختلف فيه فإن العمدة على الحجة فالساب للرسول أولى ولا يجوز أن يخص بمن قاتل لأخذ المال فإن الصحابة جعلوه محاربا بدون ذلك وكذلك سبب النزول الذي ذكرناه ليس فيه أنهم قتلوا أحدا لأخذ مال ولو كانوا قتلوا أحدا لم يسقط القود عن قاتله إذا تاب قبل القدرة وكان قد قتله وله عهد كما لو قتله وهو مسلم.
وأيضا فقطع الطرق إما أن يكون نقضا للعهد أو يقام عليه ما يقام على المسلم مع بقاء العهد فإن كان الأول فلا فرق بين قطع الطريق وغيره من الأمور التي تضر المسلمين وحينئذ فمن نقض العهد بها لم يسقط حده وهو القتل إذا تاب بعد القدرة وإن كان الثاني لم ينتقض عهد الذمي بقطع الطريق وقد تقدم الدليل على فساده ثم إن الكلام هنا إنما هو تفريع عليه فلا يصح المنع بعد التسليم.
الثاني: أن الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القدرة وبعدها لأن الحدود إذا رفعت إلى السلطان وجبت ولم يمكن العفو عنها ولا الشفاعة فيها بخلاف ما قبل الرفع ولأن التوبة قبل القدرة عليه توبة اختيار والتوبة بعد القدرة توبة إكراه واضطرار بمنزلة توبة فرعون حين أدركه الغرق وتوبة الأمم المكذبة لما جاءها البأس وتوبة من حضره الموت فقال: إني تبت الآن فلم يعلم صحتها حتى يسقط الحد الواجب ولأن قبول التوبة بعد القدرة لو أسقطت الحد لتعطلت الحدود وانبثق سد الفساد فإن كل مفسد يتمكن إذا أخذ أن يتوب بخلاف التوبة قبل القدرة فإنها تقطع دابر الشر من غير فساد فهذه معان مناسبة قد شهد لها الشارع بالاعتبار في غير هذا الأصل فتكون أوصافا مؤثرة أو ملائمة فيعلل الحكم بها وهي بعينها موجودة في الساب فيجب أن لا يسقط القتل عنه بالتوبة بعد الأخذ لأن إسلامه توبة منه وكذلك توبة كل كافر قال سبحانه وتعالى:
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} في موضعين والحد قد وجب بالرفع وهذه توبة إكراه أو اضطرار وفي قبولها تعطيل للحد ولا ينتقض هذا علينا بتوبة الحربي الأصلي فإنه لم يدخل في هذه الآية ولأنه إذا تاب بعد الأسر لم يخل سبيله بل يسترق ويستعبد وهو إحدى العقوبتين اللتين كان يعاقب بإحداهما قبل الإسلام والساب لم يكن عليه إلا عقوبة واحدة فلم يسقط كقاطع الطريق والمرتد المجرد لم يسع في الأرض فسادا فلم يدخل في الآية ولا يرد نقضا من جهة المعنى لأنا إنما نعرضه للسيف ليعود إلى الإسلام وإنما نقتله لمقامه على تبديل الدين فإذا أظهر الإعادة إليه حصل المقصود الذي يمكننا تحصيله وزال المحذور الذي يمكننا إزالته وإنما تعطيل هذا الحد أن يترك على ردته غير مرفوع إلى الإمام ولم يقدح كونه مكرها بحق في غرضنا لأنا إنما طلبنا منه أن يعود إلى الإسلام طوعا أو كرها كما لو قاتلناه على الصلاة أو الزكاة فبذلها طوعا أو كرها حصل مقصودنا والساب ونحوه من المؤذين إنما نقتلهم لما فعلوه من الأذى والضرر لا لمجرد كفرهم فإنا قد أعطيناهم العهد على كفرهم فإذا أسلم بعد الأخذ زال الكفر الذي لم يعاقب عليه بمجرده.
وأما الأذى والضرر فهو إفساد في الأرض قد مضى منه كالإفساد بقطع الطريق لم يزل إلا بتوبة اضطرار لم تطلب منه ولم يقتل ليفعلها بل قوتل أو لا ليبذل واحدا من الإسلام أو إعطاء الجزية طوعا أو كرها فبذل الجزية كرها على أنه لا يضر المسلمين فضرهم فاستحق أن يقتل فإذا تاب بعد القدرة عليه وأسلم كانت توبة محارب مفسد مقدور عليه.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
(فَصْلٌ)
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
ابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ إلَى اللَّهِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ تَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدِ وَاتِّبَاعِهِ. وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ فِي مَشْهَدِهِ وَمَغِيبِهِ لَا يُسْقِطُ التَّوَسُّلَ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَلَا بِعُذْرِ مِنْ الْأَعْذَارِ. وَلَا طَرِيقَ إلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَالنَّجَاةِ مِنْ هَوَانِهِ وَعَذَابِهِ إلَّا التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفِيعُ الْخَلَائِقِ صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون فَهُوَ أَعْظَمُ الشُّفَعَاءِ قَدْرًا وَأَعْلَاهُمْ جَاهًا عِنْدَ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} وَقَالَ عَنْ الْمَسِيحِ {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.
وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ جَاهًا مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِين َ؛ لَكِنْ شَفَاعَتُهُ وَدُعَاؤُهُ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ شَفَعَ لَهُ الرَّسُولُ وَدَعَا لَهُ فَمَنْ دَعَا لَهُ الرَّسُولُ وَشَفَعَ لَهُ تَوَسَّلَ إلَى اللَّهِ بِشَفَاعَتِهِ وَدُعَائِهِ كَمَا كَانَ أَصْحَابُهُ يَتَوَسَّلُونَ إلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَكَمَا يَتَوَسَّلُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
وَلَفْظُ (التَّوَسُّلِ) فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْتَعْلِمُونَ هُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَالتَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ يَنْفَعُ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ وَأَمَّا بِدُونِ الْإِيمَانِ بِهِ فَالْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُو نَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فِي الْآخِرَةِ.
ولهذا نهي عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار ونهي عن الاستغفار للمنافقين وقيل له: {سواء عليهم أأستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} ولكن الكفار يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان قال تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر}. فإذا كان في الكفار من خف كفره بسبب نصرته ومعونته فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه لا في إسقاط العذاب بالكلية كما في صحيح مسلم عن {العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت يا رسول الله فهل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} وفي لفظ {: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك؟ قال نعم وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح} وفيه {عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منهما دماغه} وقال {إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه}. وكذلك ينفع دعاؤه لهم بأن لا يعجل عليهم العذاب في الدنيا كما كان صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ". وروي أنه دعا بذلك أن اغفر لهم فلا تعجل عليهم العذاب في الدنيا؛ قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى}.
ولهذا نهي عن الاستغفار لعمه وأبيه وغيرهما من الكفار ونهي عن الاستغفار للمنافقين وقيل له: {سواء عليهم أأستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} ولكن الكفار يتفاضلون في الكفر كما يتفاضل أهل الإيمان في الإيمان قال تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر}. فإذا كان في الكفار من خف كفره بسبب نصرته ومعونته فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه لا في إسقاط العذاب بالكلية كما في صحيح مسلم عن {العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت يا رسول الله فهل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} وفي لفظ {: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل نفعه ذلك؟ قال نعم وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح} وفيه {عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منهما دماغه} وقال {إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه}.
وكذلك ينفع دعاؤه لهم بأن لا يعجل عليهم العذاب في الدنيا كما كان صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يقول " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ". وروي أنه دعا بذلك أن اغفر لهم فلا تعجل عليهم العذاب في الدنيا؛ قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى}.
وأيضا فقد يدعو لبعض الكفار بأن يهديه الله أو يرزقه فيهديه أو يرزقه كما دعا لأم أبي هريرة حتى هداها الله وكما دعا لدوس فقال {اللهم اهد دوسا وأت بهم} فهداهم الله وكما روى أبو داود أنه استسقى لبعض المشركين لما طلبوا منه أن يستسقي لهم فاستسقى لهم وكان ذلك إحسانا منه إليهم يتألف به قلوبهم كما كان يتألفهم بغير ذلك. وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاها عند الله لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه ولا شفاعة أعظم من شفاعته. لكن دعاء الأنبياء وشفاعتهم ليس بمنزلة الإيمان بهم وطاعتهم فإن الإيمان بهم وطاعتهم يوجب سعادة الآخرة والنجاة من العذاب مطلقا وعاما فكل من مات مؤمنا بالله ورسوله مطيعا لله ورسوله كان من أهل السعادة قطعا ومن مات كافرا بما جاء به الرسول كان من أهل النار قطعا.
(فصل في المراد بالتوسل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
ولفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور.
يراد به أمران متفق عليهما بين المسلمين: أحدهما هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته. والثاني دعاؤه وشفاعته وهذا أيضا نافع يتوسل به من دعا له وشفع فيه باتفاق المسلمين. ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا. ولكن التوسل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدين وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام للخاصة والعامة فمن أنكر هذا المعنى فكفره ظاهر للخاصة والعامة.
وأما دعاؤه وشفاعته وانتفاع المسلمين بذلك فمن أنكره فهو أيضا كافر لكن هذا أخفى من الأول فمن أنكره عن جهل عرف ذلك؛ فإن أصر على إنكاره فهو مرتد. أما دعاؤه وشفاعته في الدنيا فلم ينكره أحد من أهل القبلة. وأما الشفاعة يوم القيامة فمذهب أهل السنة والجماعة - وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم - أن له شفاعات يوم القيامة خاصة وعامة وأنه يشفع فيمن يأذن الله له أن يشفع فيه من أمته من أهل الكبائر. ولا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون؛ دون أهل الشرك ولو كان المشرك محبا له معظما له لم تنقذه شفاعته من النار وإنما ينجيه من النار التوحيد والإيمان به ولهذا لما كان أبو طالب وغيره يحبونه ولم يقروا بالتوحيد الذي جاء به لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته ولا بغيرها. وفي صحيح البخاري عن {أبي هريرة أنه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة فقال أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه}. وعنه في صحيح مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا} وفي السنن عن عوف بن مالك قال: {قال رسول الله أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا} وفي لفظ قال {ومن لقي الله لا يشرك به شيئا فهو في شفاعتي}.
وهذا الأصل وهو التوحيد هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا غيره وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب كما قال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} وقد ذكر الله عز وجل عن كل من الرسل أنه افتتح دعوته بأن قال لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}
وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري. ومن تشبه بقوم فهو منهم}
والمشركون من قريش وغيرهم - الذين أخبر القرآن بشركهم واستحل النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم وسبى حريمهم وأوجب لهم النار - كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض كما قال: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} وقال: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون} وقال: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون} {سيقولون لله قل أفلا تذكرون} {قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم} {سيقولون لله قل أفلا تتقون} {قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون} {سيقولون لله قل فأنى تسحرون} {بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون}
{ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون}. وكان المشركون الذين جعلوا معه آلهة أخرى مقرين بأن آلهتهم مخلوقة ولكنهم كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بعبادتهم إليه كما قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون}
وقال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين} {ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وقال تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون} {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين} {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين} {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}.
بين سبحانه بالمثل الذي ضربه لهم أنه لا ينبغي أن يجعل مملوكه شريكه فقال: {هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء} يخاف أحدكم مملوكه كما يخاف بعضكم بعضا فإذا كان أحدكم لا يرضى أن يكون مملوكه شريكه فكيف ترضونه لأنفسكم؟. وهذا كما كانوا يقولون: له بنات فقال تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون} وقد قال تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم} {يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم}.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 257)
من صــ 51 الى صـ 65
والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح. وقوم إبراهيم: فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين. ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم. وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر. وكل من هؤلاء يعبدون الجن فإن الشياطين قد تخاطبهم وتعينهم على أشياء وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة وإن كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن فإن الجن هم الذين يعينونهم ويرضون بشركهم قال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} {قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون}.
والملائكة لا تعينهم على الشرك لا في المحيا ولا في الممات ولا يرضون بذلك ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم أنا المسيح أنا محمد أنا الخضر أنا أبو بكر أنا عمر أنا عثمان أنا علي أنا الشيخ فلان. وقد يقول بعضهم عن بعض: هذا هو النبي فلان أو هذا هو الخضر ويكون أولئك كلهم جنا يشهد بعضهم لبعض. والجن كالإنس فمنهم الكافر ومنهم الفاسق ومنهم العاصي وفيهم العابد الجاهل فمنهم من يحب شيخا فيتزيا في صورته ويقول: أنا فلان. ويكون ذلك في برية ومكان قفر فيطعم ذلك الشخص طعاما ويسقيه شرابا أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة فيظن ذلك الرجل أن نفس الشيخ الميت أو الحي فعل ذلك وقد يقول: هذا سر الشيخ وهذه رقيقته وهذه حقيقته أو هذا ملك جاء على صورته. وإنما يكون ذلك جنيا فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك والإثم والعدوان.
وقد قال الله تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله كما أن الذين يعبدونهم عباد الله وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين. والمشركون من هؤلاء قد يقولون: إنا نستشفع بهم أي نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا فإذا صورنا تمثاله - والتماثيل إما مجسدة وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى في كنائسهم - قالوا: فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها وسيرهم ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله. فيقول أحدهم:
يا سيدي فلان أو يا سيدي جرجس أو بطرس أو يا ستي الحنونة مريم أو يا سيدي الخليل أو موسى بن عمران أو غير ذلك اشفع لي إلى ربك. وقد يخاطبون الميت عند قبره: سل لي ربك. أو يخاطبون الحي وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضرا حيا وينشدون قصائد يقول أحدهم فيها: يا سيدي فلان أنا في حسبك أنا في جوارك اشفع لي إلى الله سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة أشكو إليك كذا وكذا فسل الله أن يكشف هذه الكربة. أو يقول أحدهم: سل الله أن يغفر لي. ومنهم من يتأول قوله تعالى {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين فإن أحدا منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئا ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء وحكوا حكاية مكذوبة على مالك رضي الله عنه سيأتي ذكرها وبسط الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم وخطاب تماثيلهم هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين من غير أهل الكتاب وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى. قال الله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}.
فإن دعاء الملائكة والأنبياء بعد موتهم وفي مغيبهم وسؤالهم والاستغاثة بهم والاستشفاع بهم في هذه الحال ونصب تماثيلهم - بمعنى طلب الشفاعة منهم - هو من الدين الذي لم يشرعه الله ولا ابتعث به رسولا ولا أنزل به كتابا وليس هو واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين وإن كان ذلك مما يفعله كثير من الناس ممن له عبادة وزهد ويذكرون فيه حكايات ومنامات فهذا كله من الشيطان. وفيهم من ينظم القصائد في دعاء الميت والاستشفاع به والاستغاثة أو يذكر ذلك في ضمن مديح الأنبياء والصالحين فهذا كله ليس بمشروع ولا واجب ولا مستحب باتفاق أئمة المسلمين ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة؛ وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين فإن الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب.
وكثير من الناس يذكرون في هذه الأنواع من الشرك منافع ومصالح ويحتجون عليها بحجج من جهة الرأي أو الذوق أو من جهة التقليد والمنامات ونحو ذلك. وجواب هؤلاء من طريقين: أحدهما الاحتجاج بالنص والإجماع. والثاني القياس والذوق والاعتبار ببيان ما في ذلك من الفساد فإن فساد ذلك راجح على ما يظن فيه من المصلحة. أما الأول فيقال: قد علم بالاضطرار والتواتر من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة وأئمتها أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب. وعلم أنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين ولا يستشفعوا بهم لا بعد مماتهم ولا في مغيبهم فلا يقول أحد: يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا.
وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله يا رسول الله ادع الله لي سل الله لي استغفر الله لي سل الله لي أن يغفر لي أو يهديني أو ينصرني أو يعافيني ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي أو أشكو إليك فلانا الذي ظلمني ولا يقول: أنا نزيلك أنا ضيفك أنا جارك أو أنت تجير من يستجير أو أنت خير معاذ يستعاذ به.
(فصل)
ثم قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب إليه من الواجبات والمستحبات فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا. فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك.
والثاني لفظ " الوسيلة " في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم {سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} وقوله {من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد حلت له الشفاعة}.
فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله وهو يرجو أن يكون ذلك العبد وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول وأخبر أن من سأل له هذه الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة لأن الجزاء من جنس العمل فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم فإن الشفاعة نوع من الدعاء كما قال إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا.
وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح. وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة.
فأما المعنيان الأولان - الصحيحان باتفاق العلماء: - فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته. والثاني دعاؤه وشفاعته كما تقدم: فهذان جائزان بإجماع المسلمين ومن هذا قول عمر بن الخطاب: " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا أي بدعائه وشفاعته وقوله تعالى {وابتغوا إليه الوسيلة} أي القربة إليه بطاعته؛ وطاعة رسوله طاعته قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}. فهذا التوسل الأول هو أصل الدين وهذا لا ينكره أحد من المسلمين.
وأما التوسل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر - فإنه توسل بدعائه لا بذاته؛ ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس: علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته؛ بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائما.
فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان: - (أحدها التوسل بطاعته فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.
و (الثاني التوسل بدعائه وشفاعته وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.
و (الثالث التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته لا عند قبره ولا غير قبره ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عمن ليس قوله حجة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
(فصل: وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يجوز)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يجوز أن يكون وسيلة فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بالإيمان بالمتوسل به ولا بطاعته فبأي شيء يتوسل؟.
والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عنده وهذا جائز. وإما أن يقسم عليه كما يقول بحياة ولدك فلان وبتربة أبيك فلان وبحرمة شيخك فلان ونحو ذلك والإقسام على الله تعالى بالمخلوقين لا يجوز ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق. وإما أن يسأل بسبب يقتضي المطلوب كما قال الله تعالى. {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} وسيأتي بيان ذلك.
وقد تبين أن الإقسام على الله سبحانه بغيره لا يجوز ولا يجوز أن يقسم بمخلوق أصلا وأما التوسل إليه بشفاعة المأذون لهم في الشفاعة فجائز والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما طلب الصحابة منه الاستسقاء وقوله " أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة " أي بدعائه وشفاعته لي ولهذا تمام الحديث " اللهم فشفعه في ". فالذي في الحديث متفق على جوازه وليس هو مما نحن فيه وقد قال تعالى {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}. فعلى قراءة الجمهور بالنصب: إنما يسألون بالله وحده لا بالرحم وتساؤلهم بالله تعالى يتضمن إقسام بعضهم على بعض بالله وتعاهدهم بالله.
وأما على قراءة الخفض فقد قال طائفة من السلف: هو قولهم أسألك بالله وبالرحم وهذا إخبار عن سؤالهم وقد يقال إنه ليس بدليل على جوازه فإن كان دليلا على جوازه فمعنى قوله أسألك بالرحم ليس إقساما بالرحم - والقسم هنا لا يسوغ - لكن بسبب الرحم أي لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقا كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة وكسؤالنا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته. ومن هذا الباب ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن ابن أخيه عبد الله بن جعفر كان إذا سأله بحق جعفر أعطاه وليس هذا من باب الإقسام؛ فإن الإقسام بغير جعفر أعظم بل من باب حق الرحم لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر وجعفر حقه على علي.
ومن هذا الباب: الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم {في دعاء الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك. أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت}. وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف فإن كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو من هذا الباب لوجهين: - (أحدهما) لأن فيه السؤال لله تعالى بحق السائلين وبحق الماشين في طاعته وحق السائلين أن يجيبهم وحق الماشين أن يثيبهم وهذا حق أوجبه الله تعالى وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق تعالى شيئا. ومنه قوله تعالى {كتب ربكم على نفسه الرحمة} وقوله تعالى {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} وقوله تعالى {وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله}.
وفي الصحيح في حديث معاذ {حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم}. وفي الصحيح عن أبي ذر {عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما. فلا تظالموا}. وإذا كان حق السائلين والعابدين له هو الإجابة والإثابة؛ بذلك فذاك سؤال لله بأفعاله؛ كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم {أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك} فالاستعاذة بمعافاته التي هي فعله كالسؤال بإثابته التي هي فعله.
وروى الطبراني في (كتاب الدعاء {عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول: يا عبدي إنما هي أربع: واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين خلقي؛ فالتي لي أن تعبدني لا تشرك بي شيئا والتي هي لك أجزيك بها أحوج ما تكون إليه والتي بيني وبينك منك الدعاء ومني الإجابة والتي بينك وبين خلقي فأت إلى الناس ما تحب أن يأتوه إليك}.
وتقسيمه في الحديث إلى قوله: واحدة لي وواحدة لك هو مثل تقسيمه في حديث الفاتحة حيث يقول الله تعالى: {قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل}. والعبد يعود عليه نفع النصفين والله تعالى يحب النصفين؛ لكن هو سبحانه يحب أن يعبد؛ وما يعطيه العبد من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك فإنما يحبه لكونه طريقا إلى عبادته والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولا؛ وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة والهداية إلى الصراط المستقيم؛ وبذلك يصل إلى العبادة إلى غير ذلك مما يطول الكلام فيما يتعلق بذلك وليس هذا موضعه وإن كنا خرجنا عن المراد.
(الوجه الثاني) أن الدعاء له سبحانه وتعالى والعمل له سبب لحصول مقصود العبد فهو كالتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين من أمته وقد تقدم أن الدعاء بالنبي صلى الله عليه وسلم والصالح إما أن يكون إقساما به أو سببا به فإن كان قوله " بحق السائلين عليك " إقساما فلا يقسم على الله إلا به وإن كان سببا فهو سبب بما جعله هو سبحانه سببا وهو دعاؤه وعبادته. فهذا كله يشبه بعضه بعضا وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق من غير دعاء منه ولا عمل صالح منا.
وإذا قال السائل: أسألك بحق الملائكة أو بحق الأنبياء وحق الصالحين؛ ولا يقول لغيره أقسمت عليك بحق هؤلاء - فإذا لم يجز له أن يحلف به ولا يقسم على مخلوق به فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لا يقسم به وإنما يتسبب به فليس في مجرد ذوات هؤلاء سبب يوجب تحصيل مقصوده ولكن لا بد من سبب منه كالإيمان بالملائكة والأنبياء أو منهم كدعائهم. ولكن كثيرا من الناس تعودوا كما تعودوا الحلف بهم حتى يقول أحدهم: وحقك على الله وحق هذه الشيبة على الله.
وإذا قال القائل: أسألك بحق فلان أو بجاهه: أي أسألك بإيماني به ومحبتي له وهذا من أعظم الوسائل. قيل: من قصد هذا المعنى فهو معنى صحيح لكن ليس هذا مقصود عامة هؤلاء فمن قال: أسألك بإيماني بك وبرسولك ونحو ذلك أو بإيماني برسولك ومحبتي له ونحو ذلك فقد أحسن في ذلك كما قال تعالى في دعاء المؤمنين: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار} وقال تعالى: {الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار} وقال تعالى: {إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين} وقال تعالى: {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين}. وكان ابن مسعود يقول: اللهم أمرتني فأطعت ودعوتني فأجبت وهذا سحر فاغفر لي.
ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر فأووا إلى الغار وانطبقت عليهم الصخرة ثم دعوا الله سبحانه بأعمالهم الصالحة ففرج عنهم وهو ما ثبت في الصحيحين. وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا خالد بن خراش العجلاني وإسماعيل بن إبراهيم قالا حدثنا صالح المري عن ثابت عن أنس قال: دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ثقيل فلم نبرح حتى قبض فبسطنا عليه ثوبه وله أم عجوز كبيرة عند رأسه فالتفت إليها بعضنا وقال: يا هذه احتسبي مصيبتك عند الله. قالت: وما ذاك مات ابني؟ قلنا: نعم. قالت: أحق ما تقولون؟ قلنا: نعم. فمدت يديها إلى الله فقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعقبني عند كل شدة فرجا فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم. قال: فكشفت الثوب عن وجهه فما برحنا حتى طعمنا معه.
وروي في كتاب الحلية لأبي نعيم {أن داود قال: بحق آبائي عليك إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فأوحى الله تعالى إليه: يا داود وأي حق لآبائك علي؟} وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فالإسرائيليات يعتضد بها ولا يعتمد عليها.
وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه.
وأما المخلوق الغائب والميت فلا يطلب منه شيء.
يحقق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه به لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته؛ ودعاؤه وشفاعته صلى الله عليه وسلم من أعظم الوسائل عند الله عز وجل.
وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى ويقسم عليه بذاته والله تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات بل لا يقسم بها بحال فلا يقال أقسمت عليك يا رب بملائكتك ولا بكعبتك ولا بعبادك الصالحين كما لا يجوز أن يقسم الرجل بهذه الأشياء بل إنما يقسم بالله تعالى بأسمائه وصفاته ولهذا كانت السنة أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته فيقول {أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك}. الحديث كما جاءت به السنة.
وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين الإسلام: وكذلك قوله " اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وبكلماتك التامات ".
مع أن هذا الدعاء الثالث في جواز الدعاء به قولان للعلماء قال الشيخ أبو الحسن القدوري في كتابه المسمى بشرح الكرخي: قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول " بمعاقد العز من عرشك " أو " بحق خلقك ". وهو قول أبي يوسف قال أبو يوسف: " معقد العز من عرشه " هو الله فلا أكره هذا وأكره أن يقول: " بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام " قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق فلا يجوز - يعني وفاقا - وهذا من أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما يقتضي المنع أن يسأل الله بغيره.
فإن قيل: الرب سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته وليس لنا أن نقسم عليه إلا به. فهلا قيل: يجوز أن يقسم عليه بمخلوقاته وأن لا يقسم على مخلوق إلا بالخالق تعالى؟ قيل لأن إقسامه بمخلوقاته من باب مدحه والثناء عليه وذكر آياته وإقسامنا نحن بذلك شرك إذا أقسمنا به لحض غيرنا أو لمنعه أو تصديق خبر أو تكذيبه. ومن قال لغيره: أسألك بكذا. فإما أن يكون مقسما فهذا لا يجوز بغير الله تعالى والكفارة في هذا على المقسم لا على المقسم عليه كما صرح بذلك أئمة الفقهاء. وإن لم يكن مقسما فهو من باب السؤال فهذا لا كفارة فيه على واحد منهما. فتبين أن السائل لله بخلقه إما أن يكون حالفا بمخلوق وذلك لا يجوز. وإما أن يكون سائلا به وقد تقدم تفصيل ذلك. وإذا قال " بالله أفعل كذا "
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 258)
من صــ 66 الى صـ 80
فلا كفارة فيه على واحد منهما وإذا قال: " أقسمت عليك بالله لتفعلن أو " والله لتفعلن " فلم يبر قسمه لزمت الكفارة الحالف. والذي يدعو بصيغة السؤال فهو من باب السؤال به وأما إذا أقسم على الله تعالى مثل أن يقول: أقسمت عليك يا رب لتفعلن كذا كما كان يفعل البراء بن مالك وغيره من السلف فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره} وفي الصحيح {أنه قال لما قال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أنس كتاب الله القصاص فعفا القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} وهذا من باب الحلف بالله لتفعلن هذا الأمر فهو إقسام عليه تعالى به وليس إقساما عليه بمخلوق. وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه وأنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وقد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم {إذا كانت لكم حاجة فاسألوا الله بجاهي} حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتب الحديث وإنما المشروع الصلاة عليه في دعاء. ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الصلاة عليه لم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به كما لم يذكر أحد من العلماء دعاء غير الله والاستعانة المطلقة بغيره في حال من الأحوال؛ وإن كان بينهما فرق؛ فإن دعاء غير الله كفر ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين - لا الأنبياء ولا غيرهم - عن أحد من السلف وأئمة العلم وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين بخلاف قولهم: أسألك بجاه نبينا أو بحقه فإن هذا مما نقل عن بعض المتقدمين فعله ولم يكن مشهورا بينهم ولا فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بل السنة تدل على النهي عنه كما نقل ذلك عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما.
ورأيت في فتاوي الفقيه أبي محمد بن عبد السلام قال: لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم إن صح حديث الأعمى: فلم يعرف صحته - ثم رأيت عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما من العلماء أنهم قالوا: لا يجوز الإقسام على الله بأحد من الأنبياء ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي صلى الله عليه وسلم لكن قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به - وقد تقدم أن هذا الحديث لا يدل إلا على التوسل بدعائه ليس من باب الإقسام بالمخلوق على الله تعالى ولا من باب السؤال بذات الرسول كما تقدم. والذين يتوسلون بذاته لقبول الدعاء عدلوا عما أمروا به وشرع لهم - وهو من أنفع الأمور لهم - إلى ما ليس كذلك فإن الصلاة عليه من أعظم الوسائل التي بها يستجاب الدعاء وقد أمر الله بها. والصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}.
وفي الصحيح عنه أنه قال. {من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا} وعن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه ثم يصلي على النبي ثم يدعو بعده بما شاء} رواه أحمد وأبو داود - وهذا لفظه - والترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث صحيح.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول؛ ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو؛ فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة}.
وفي سنن أبي داود والنسائي عنه {أن رجلا قال: يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل كما يقولون فإذا انتهيت سل تعطه} وفي المسند عن جابر بن عبد الله قال " من قال حين ينادي المنادي: اللهم رب هذه الدعوة القائمة والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه رضاء لا سخط بعده استجاب الله له دعوته؟. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة} رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن.
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء قلما ترد على داع دعوته: عند حصول النداء والصف في سبيل الله} رواه أبو داود. وفي المسند والترمذي وغيرهما عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة. جاء الموت بما فيه}.
{قال أبي: قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال ما شئت قلت؛ الربع؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت: النصف. قال؟ ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت: الثلثين؟ قال ما شئت وإن زدت فهو خير لك قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك وفي لفظ إذا تكفى همك ويغفر ذنبك}. وقول السائل: أجعل لك من صلاتي؟ يعني من دعائي؛ فإن الصلاة في اللغة هي الدعاء قال تعالى: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم {اللهم صل على آل أبي أوفى} {وقالت: امرأة: صل علي يا رسول الله وعلى زوجي فقال صلى الله عليك وعلى زوجك}. فيكون مقصود السائل أي يا رسول الله إن لي دعاء أدعو به أستجلب به الخير وأستدفع به الشر فكم أجعل لك من الدعاء قال: " ما شئت " فلما انتهى إلى قوله: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال {إذا تكفى همك ويغفر ذنبك}. وفي الرواية الأخرى {إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك}. وهذا غاية ما يدعو به الإنسان من جلب الخيرات ودفع المضرات؛ فإن الدعاء فيه تحصيل المطلوب واندفاع المرهوب كما بسط ذلك في مواضعه.
وقد ذكر علماء الإسلام وأئمة الدين الأدعية الشرعية وأعرضوا عن الأدعية البدعية فينبغي اتباع ذلك. والمراتب في هذا الباب ثلاث: - إحداها أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم فيقول: يا سيدي فلان أغثني أو أنا أستجير بك أو أستغيث بك أو انصرني على عدوي.
ونحو ذلك فهذا هو الشرك بالله. والمستغيث بالمخلوقات قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به؛ وإنما هو شيطان دخله وأغواه لما أشرك بالله كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك ومثل هذا واقع كثيرا في زماننا وغيره وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري وقضى حوائجهم فظنوا أن ذلك من بركة الاستغاثة بي أو بغيري وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون الماضية كما ثبت ذلك فهذا أشرك بالله نعوذ بالله من ذلك وأعظم من ذلك أن يقول:
اغفر لي وتب علي كما يفعله طائفة من الجهال المشركين. وأعظم من ذلك أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاة أفضل من استقبال القبلة حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص والكعبة قبلة العوام. وأعظم من ذلك أن يرى السفر إليه من جنس الحج حتى يقول إن السفر إليه مرات يعدل حجة وغلاتهم يقولون: الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة. ونحو ذلك فهذا شرك بهم وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه.
الثانية أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي أو ادع لنا ربك أو اسأل الله لنا كما تقول النصارى لمريم وغيرها فهذا أيضا لا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة؛ وإن كان السلام على أهل القبور جائزا ومخاطبتهم جائزة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم {السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. يغفر الله لنا ولكم نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم}. وروى أبو عمر بن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام}.
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام} لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات لا دعاء ولا غيره. وفي موطأ مالك أن ابن عمر كان يقول: " السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت " ثم ينصرف.
وعن عبد الله بن دينار قال: رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو لأبي بكر وعمر. وكذلك أنس بن مالك وغيره نقل عنهم أنهم كانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى لا يدعون مستقبلي الحجرة وإن كان قد وقع في بعض ذلك طوائف من الفقهاء والصوفية والعامة من لا اعتبار بهم فلم يذهب إلى ذلك إمام متبع في قوله ولا من له في الأمة لسان صدق عام.
ومذهب الأئمة الأربعة - مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد - وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة. واختلفوا في وقت السلام عليه فقال الثلاثة - مالك والشافعي وأحمد -: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه وقال أبو حنيفة: لا يستقبل الحجرة وقت السلام كما لا يستقبلها وقت الدعاء باتفاقهم. ثم في مذهبه قولان:
قيل يستدبر الحجرة وقيل يجعلها عن يساره. فهذا نزاعهم في وقت السلام وأما في وقت الدعاء فلم يتنازعوا في أنه إنما يستقبل القبلة لا الحجرة. والحكاية التي تذكر عن مالك أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة فأمره بذلك وقال: " هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم "
: كذب على مالك ليس لها إسناد معروف وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره مثل ما ذكروا عنه أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلي الحجرة يدعون لأنفسهم فأنكر مالك ذلك وذكر أنه من البدع التي لم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان وقال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعا لكانوا هم أعلم بذلك وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم والداعي يدعو الله وحده.
وقد نهي عن استقبال الحجرة عند دعائه لله تعالى كما نهي عن استقبال الحجرة عند الصلاة لله تعالى كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها}. فلا يجوز أن يصلي إلى شيء من القبور لا قبور الأنبياء ولا غيرهم لهذا الحديث الصحيح.
ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر بل هذا من البدع المحدثة وكذلك قصد شيء من القبور لا سيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء فإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى فدعاء الميت نفسه أولى أن لا يجوز كما أنه لا يجوز أن يصلي مستقبله فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى. فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئا: لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك ولا يجوز أن يشكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين؛ ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته فإن ذلك في حياته لا يفضي إلى الشرك وهذا يفضي إلى الشرك لأنه في حياته مكلف أن يجيب سؤال من سأله لما له في ذلك من الأجر والثواب وبعد الموت ليس مكلفا بل ما يفعله من ذكر لله تعالى ودعاء ونحو ذلك - كما أن موسى يصلي في قبره؛ وكما صلى الأنبياء خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ببيت المقدس وتسبيح أهل الجنة والملائكة - فهم يمتعون بذلك وهم يفعلون ذلك بحسب ما يسره الله لهم ويقدره لهم ليس هو من باب التكليف الذي يمتحن به العباد.
وحينئذ. فسؤال السائل للميت لا يؤثر في ذلك شيئا؛ بل ما جعله الله فاعلا له هو يفعله وإن لم يسأله العبد؛ كما يفعل الملائكة ما يؤمرون به وهم إنما يطيعون أمر ربهم لا يطيعون أمر مخلوق؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} فهم لا يعملون إلا بأمره سبحانه وتعالى. ولا يلزم من جواز الشيء في حياته جوازه بعد موته؛ فإن بيته كانت الصلاة فيه مشروعة وكان يجوز أن يجعل مسجدا.
ولما دفن فيه حرم أن يتخذ مسجدا؛ كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال {: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} يحذر ما فعلوا. ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا. وفي صحيح مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال {إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك}. وقد كان صلى الله عليه وسلم في حياته يصلي خلفه وذلك من أفضل الأعمال ولا يجوز بعد موته أن يصلي الرجل خلف قبره وكذلك في حياته يطلب منه أن يأمر وأن يفتي وأن يقضي ولا يجوز أن يطلب ذلك منه بعد موته. وأمثال ذلك كثير.
(فصل)
ثم قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وبين الخالق تعالى والمخلوق من الفروق ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة.
منها أن الرب تعالى غني بنفسه عما سواه ويمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه. والملوك وسادة العبيد محتاجون إلى غيرهم حاجة ضرورية.
ومنها أن الرب تعالى وإن كان يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التائبين فهو الذي يخلق ذلك وييسره فلم يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته. وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقرون بأن الله هو المنعم على عباده بالإيمان بخلاف القدرية. والمخلوق قد يحصل له ما يحبه بفعل غيره.
ومنها أن الرب تعالى أمر العباد بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم ولا ينهاهم عما نهاهم عنه بخلا عليهم بل أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم. بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه وينهاه عما ينهاه بخلا عليه. وهذا أيضا ظاهر على مذهب السلف وأهل السنة الذين يثبتون حكمته ورحمته ويقولون: إنه لم يأمر العباد إلا بخير ينفعهم ولم ينههم إلا عن شر يضرهم؛ بخلاف المجبرة الذين يقولون: إنه قد يأمرهم بما يضرهم وينهاهم عما ينفعهم.
و (منها أنه سبحانه هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وهو المنعم بالقدرة والحواس وغير ذلك مما به يحصل العلم والعمل الصالح وهو الهادي لعباده فلا حول ولا قوة إلا به. ولهذا قال أهل الجنة: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق} وليس يقدر المخلوق على شيء من ذلك.
و (منها أن نعمه على عباده أعظم من أن تحصى فلو قدر أن العبادة جزاء النعمة لم تقم العبادة بشكر قليل منها فكيف والعبادة من نعمته أيضا.
و (منها أن العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته فلن يدخل أحد الجنة بعمله وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة الله لها: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} وقوله صلى الله عليه وسلم {لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله} لا يناقض قوله تعالى {جزاء بما كانوا يعملون}. فإن المنفي نفي بباء المقابلة والمعاوضة كما يقال بعت هذا بهذا وما أثبت أثبت بباء السبب فالعمل لا يقابل الجزاء وإن كان سببا للجزاء ولهذا من ظن أنه قام بما يجب عليه وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى وعفوه فهو ضال كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن يدخل أحد الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل وروي بمغفرته}.
ومن هذا أيضا الحديث الذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم. ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم} الحديث.
ومن قال: بل للمخلوق على الله حق فهو صحيح إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه فإن الله صادق لا يخلف الميعاد وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته وهذا المستحق لهذا الحق إذا سأل الله تعالى به يسأل الله تعالى إنجاز وعده أو يسأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات كالأعمال الصالحة فهذا مناسب وأما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص فهو كما لو سأله بجاه ذلك الشخص وذلك سؤال بأمر أجنبي عن هذا السائل لم يسأله بسبب يناسب إجابة دعائه.
وأما سؤال الله بأسمائه وصفاته التي تقتضي ما يفعله بالعباد من الهدى والرزق والنصر. فهذا أعظم ما يسأل الله تعالى به.
(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)
فصل:
وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة عليه أو بالإقرار تأخيره؛ لا بحبس ولا مال يفتدي به ولا غيره؛ بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها؛ فإن إقامة الحد من العبادات كالجهاد في سبيل الله. فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده؛ فيكون الوالي شديدا في إقامة الحد؛
لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله. ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات؛ لإشفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق؛ بمنزلة الوالد إذا أدب ولده؛ فإنه لو كف عن تأديب ولده - كما تشير به الأم رقة ورأفة - لفسد الولد وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا لحاله؛ مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك؛ بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة. فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها فإنه متى كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم وابتغى بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره: ألان الله له القلوب وتيسرت له أسباب الخير وكفاه العقوبة البشرية وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد.
وأما إذا كان غرضه العلو عليهم وإقامة رياسته ليعظموه أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال انعكس عليه مقصوده. ويروى أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ساسهم سياسة صالحة فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب فسأل أهل المدينة عن عمر. كيف هيبته فيكم؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه. قال: كيف محبتكم له؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا قال: فكيف أدبه فيكم؟ قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة قال: هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه هذا أمر من السماء. وإذا قطعت يده حسمت ويستحب أن تعلق في عنقه.
فإن سرق ثانيا: قطعت رجله اليسرى. فإن سرق ثالثا ورابعا: ففيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء أحدهما: تقطع أربعته في الثالثة والرابعة وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين. والثاني أنه يحبس وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين وأحمد في روايته الأخرى.
وإنما تقطع يده إذا سرق نصابا وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحديث وغيرهم كمالك والشافعي وأحمد ومنهم من يقول: دينار أو عشرة دراهم. فمن سرق ذلك قطع بالاتفاق وفي الصحيحين {عن ابن عمر رضي الله عنهما. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم} وفي لفظ لمسلم {قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم} والمجن الترس. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا} وفي رواية لمسلم: {لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا}.
وفي رواية للبخاري قال: {اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك} وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثني عشر درهما. ولا يكون السارق سارقا حتى يأخذ المال من حرز.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 259)
من صــ 81 الى صـ 95
فأما المال الضائع من صاحبه والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حائط والماشية التي لا راعي عندها ونحو ذلك فلا قطع فيه لكن يعزر الآخذ ويضاعف عليه الغرم كما جاء به الحديث. وقد اختلف أهل العلم في التضعيف وممن قال به أحمد وغيره قال رافع بن خديج: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا قطع في ثمر ولا كثر} والكثر جمار النخل. رواه أهل السنن وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: {سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله جئت أسألك عن الضالة من الإبل قال: معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها.
قال: فالضالة من الغنم؟ قال: لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها: قال: فالحريسة التي تؤخذ من مراتعها؟ قال: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال. وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن.
قال: يا رسول الله: فالثمار وما أخذ منها من أكمامها قال: من أخذ منها بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال}.
رواه أهل السنن. لكن هذا سياق النسائي. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم {ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع} فالمنتهب الذي ينهب الشيء والناس ينظرون والمختلس الذي يجتذب الشيء فيعلم به قبل أخذه وأما الطرار وهو البطاط الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها فإنه يقطع على الصحيح.
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته؛ فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال وطمعت الفساق. وإن وكله إلى غيره ممن هو تحت يده غلب على ظنه أنه يظلم فيها أو يتحقق أنه لا يفي بالمقصود في ذلك؟ وإن أقدم وسأل أو أمسك المتهومين وعاقبهم خاف الله تعالى في إقدامه على أمر مشكوك فيه؟ وهو يسأل ضابطا في هذه الصورة وفي أمر قاطع الطريق؟
فأجاب:
أما التهم في السرقة وقطع الطريق ونحو ذلك فليس له أن يفوضها إلى من يغلب على ظنه أنه يظلم فيها مع إمكان أن يقيم فيها من العدول ما يقدر عليه وذلك أن الناس في التهم " ثلاثة أصناف ". " صنف " معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم. فهذا لا يحبس ولا يضرب؛ بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء؛ بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم.
و " الثاني " من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور. فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله. وقد قيل: يحبس شهرا. وقيل: يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر. والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره {أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة} وقد نص على ذلك الأئمة وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه مدع فإنه يحضر مجلس ولي الأمر الحاكم بينهما وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره ثم إذا سأل عنه ووجد بارا أطلق.
وإن وجد فاجرا كان من " الصنف الثالث " وهو الفاجر الذي قد عرف منه السرقة قبل ذلك أو عرف بأسباب السرقة: مثل أن يكون معروفا بالقمار والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال وليس له مال ونحو ذلك فهذا لوث في التهمة؛ ولهذا قالت طائفة من العلماء إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالي والقاضي - كما قال أشهب صاحب مالك وغيره - حتى يقر بالمال. وقالت طائفة. يضربه الوالي؛ دون القاضي كما قال ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كما ذكره القاضيان الماوردي والقاضي أبو يعلى في كتابيهما في الأحكام السلطانية وهو قول طائفة من المالكية كما ذكره الطرسوسي وغيره. ثم المتولي له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره المعروف فيكون تعزيرا وتقريرا. وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهومين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق؛ " بل قد أنزل على نبيه في قصة كانت تهمة في سرقة قوله تعالى
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} {واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما} {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا} {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا} إلى آخر الآيات وكان سبب ذلك أن قوما يقال لهم بنو أبيرق سرقوا لبعض الأنصار طعاما ودرعين فجاء صاحب المال يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قوم يزكون المتهمين بالباطل؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم ظن صدق المزكين فلام صاحب المال: فأنزل الله هذه الآية "
ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب المال: أقم البينة؛ ولا حلف المتهمين؛ لأن أولئك المتهمين كانوا معروفين بالشر وظهرت الريبة عليهم. وهكذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة في الدماء إذا كان هناك لوث يغلب على الظن صدق المدعين؛ فإن هذه الأمور من الحدود في المصالح العامة؛ ليست من الحقوق الخاصة فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء فيقتل الرجل عدوه خفية ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة؛ واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم {لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم؛ ولكن اليمين على المدعى عليه} هذا فيما لا يمكن من المدعي حجة غير الدعوى فإنه لا يعطى بها شيئا ولكن يحلف المدعى عليه. فأما إذا أقام شاهدا بالمال فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم في المال بشاهد ويمين وهو قول فقهاء الحجاز وأهل الحديث كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم وإذا كان في دعوى الدم لوث فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمدعين: {أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم؟}
كذلك أمر " قطاع الطريق " وأمر " اللصوص " وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة؛ فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء ولا يزجرهم أن يحلف كل منهم؛ ولهذا اتفق الفقهاء على أن قاطع الطريق لأخذ المال يقتل حتما وقتله حد لله؛ وليس قتله مفوضا إلى أولياء المقتول. قالوا؛ لأن هذا لم يقتله لغرض خاص معه؛ إنما قتله لأجل المال فلا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره فقتله مصلحة عامة. فعلى الإمام أن يقيم ذلك.
وكذلك " السارق " ليس غرضه في مال معين وإنما غرضه أخذ مال هذا ومال هذا كذلك كان قطعه حقا واجبا لله ليس لرب المال؛ بل رب المال يأخذ ماله وتقطع يد السارق حتى لو قال صاحب المال: أنا أعطيه مالي لم يسقط عنه القطع كما {قال صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم أنا أهبه ردائي فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهلا فعلت قبل أن تأتي به} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال} {وقال للزبير بن العوام إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع}.
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عن تاجر نصب عليه جماعة؛ وأخذوا مبلغا فحملهم لولي الأمر؛ وعاقبهم حتى أقروا بالمال وهم محبوسون على المال ولم يعطوه شيئا وهم مصرون على أنهم لا يعطونه شيئا؟
فأجاب:
الحمد لله، هؤلاء من كان المال بيده وامتنع من إعطائه فإنه يضرب حتى يؤدي المال الذي بيده لغيره. ومن كان قد غيب المال وجحد موضعه فإنه يضرب حتى يدل على موضعه. ومن كان متهما لا يعرف هل معه من المال شيء أم لا؛ فإنه يجوز ضربه معاقبة له على ما فعل من الكذب والظلم. ويقرر مع ذلك على المال أين هو. ويطلب منه إحضاره. والله أعلم.
[فصل من كلام الرافضي قوله في مسألة القدر عند أهل السنة يلزم تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي]
(فصل)
قال الرافضي: " ومنها أنه يلزم تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي، فإن الزنا إذا كان واقعا بإرادة الله تعالى، والسرقة إذا صدرت عن الله، وإرادته هي المؤثرة لم يجز للسلطان المؤاخذة عليها ; لأنه يصد السارق عن مراد الله، ويبعثه على ما يكرهه الله. ولو صد الواحد منا غيره عن مراده، وحمله على ما يكرهه، استحق منه اللوم. ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين ; لأن المعصية مرادة لله، والزجر عنها مراد له أيضا ".
فيقال: فيما قدمناه ما يبين الجواب عن هذا، لكن نوضح جواب هذا إن شاء الله تعالى من وجوه:
أحدها: أن الذي قدره وقضاه من ذلك هو ما وقع، دون ما لم يكن بعد.
وما وقع لا يقدر أحد أن يرده، وإنما يرد بالحدود والزواجر ما لم يقع بعد، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فقوله: " لأنه يصد السارق عن مراد الله " كذب منه ; لأنه إنما يصده عما لم يقع بعد وما لم يقع لم يرده الله. ولهذا لو حلف: ليسرقن هذا المال إن شاء الله، ولم يسرقه لم يحنث باتفاق المسلمين ; لأن الله لم يشأ سرقته.
ولكن القدرية عندهم الإرادة لا تكون إلا بمعنى الأمر فيزعمون أن السرقة إذا كانت مرادة كانت مأمورا بها.
وقد أجمع المسلمون، وعلم بالاضطرار من دينهم، أن الله لم يأمر بالسرقة. ومن قال: إن ما وقع منها مراد، يقول: إنه مراد غير مأمور به، فلا يقول أنه مأمور به إلا كافر. لكن هذا قد يقال للمباحية المحتجين بالقدر على المعاصي، فإن منهم من لا يرى أن يعارض الإنسان فيما يظنه مقدرا عليه من المعاصي، ومنهم من يرى أن يعاونه على ذلك معاونة، لما ظن أنه مراد، وهذا الفعل - وإن كان محرما ومعصية - فهم لم يصدوا عن مراد الله. فتبين أن الصد عن مراد الله ليس واقعا على كل تقدير.
الوجه الثاني: أن يقال: قد تقدم أن تناهي الناس عن المعاصي، والقبائح، والظلم، ودفع الظالم، وأخذ حق المظلوم منه، ورد احتجاج من احتج على ذلك بالقدر أمر مستقر في فطر جميع الناس وعقولهم مع إقرار جماهيرهم بالقدر، وأنه لا يمكن صلاح حالهم ولا بقاؤهم في الدنيا إذا مكنوا كل أحد أن يفعل ما يشاء من مفاسدهم ويحتج بالقدر، وقد بينا أن المحتجين بالقدر على المعاصي إذا طردوا قولهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وهم شر من المكذبين بالقدر.
الوجه الثالث أن الأمور المقدورة بالاتفاق إذا كان فيها فساد يحسن ردها وإزالتها بعد وقوعها، كالمرض ونحوه فإنه من فعل الله بالاتفاق مراد لله، ومع هذا يحسن من الإنسان أن يمنع وجوده بالاحتماء واجتناب أسبابه، ويحسن منه السعي في إزالته بعد حصوله، وفي هذا إزالة مراد الله.
وإن قيل: إن قطع السارق يمنع مراد الله كان شرب الدواء لزوال المرض مانعا لمراد الله، وكذلك دفع السيل الآتي من صبب، والنار التي تريد أن تحرق الدور، وإقامة الجدار الذي يريد أن ينقض، كما أقام الخضر ذلك الجدار. وكذلك إزالة الجوع الحاصل بالأكل وإزالة البرد الحاصل بالاستدفاء، وإزالة الحر بالظل.
وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: " هي من قدر الله» ". .
فبين صلى الله عليه وسلم أنه يرد قدر الله بقدر الله إما دفعا وإما رفعا، إما دفعا لما انعقد سبب لوجوده، وإما رفعا لما وجد كرفع المرض ودفعه، ومن هذا قوله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [سورة الرعد 11 قيل: معقبات من أمر الله يحفظونه وقيل: يحفظونه من أمر الله الذي ورد ولم يحصل يحفظونه أن يصل إليه وحفظهم بأمر الله.
الوجه الرابع قوله: ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين ; لأن المعصية مرادة لله، والزجر عنها مراد الله. كلام ساقط فإن النقيضين ما لا يجتمعان ولا يرتفعان، أو ما لا يجتمعان وهما المتضادان.
والزجر ليس عما وقع وأريد، بل هو عقوبة على الماضي وزجر عن المستقبل، والزجر الواقع بإرادته إن حصل مقصوده لم يحصل المزجور عنه فلم يرده فيكون المراد الزجر فقط، وإن لم يحصل مقصوده لم يكن زجرا تاما بل يكون المراد فعل هذا الزاجر وفعل ذاك، كما يراد ضرب هذا لهذا بهذا السيف وحياة هذا، وكما يراد المرض المخوف الذي قد يكون سببا للموت، ويراد معه الحياة.
فإرادة السبب ليست موجبة لإرادة المسبب، إلا إذا كان السبب تاما موجبا. والزجر سبب للانزجار والامتناع كسائر الأسباب، كما أن المرض المخوف سبب للموت، وكما أن الأمر بالفعل والترغيب فيه سبب لوقوعه، ثم قد يقع المسبب وقد لا يقع، فإن وقع كانا مرادين، وإلا كان المراد ما وقع خاصة.
الوجه الخامس أنه قد تقدم أن الإرادة نوعان: نوع بمعنى المشيئة لما خلق، فهذا متناول لكل حادث دون ما لا يحدث، ونوع بمعنى المحبة لما أمر به فهذا إنما يتعلق بالطاعات، وإذا كان كذلك فما وقع من المعاصي فهو مراد بالمعنى الأول، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما وقع فقد شاء كونه، والزجر عنها مراد بالمعنى الثاني فإنه يحب النهي عن المنكر ويرضاه ويثيب فاعله، بخلاف المنكر نفسه فإنه لا يحبه ولا يرضاه ولا يثيب فاعله، ثم الزجر إنما يكون عما لم يقع، والعقوبة تكون على ما وقع، فإذا وقعت سرقة بالقضاء والقدر وقد أمر الله سبحانه بإقامة الحد فيها فإقامة الحد مأمور به يحبه ويرضاه ويريده إرادة أمر لا إرادة خلق، فإن أعان عليه كان قد أراده خلقا، وكان حينئذ إقامة الحد مرادة شرعا وقدرا، خلقا وأمرا، قد شاءها وأحبها.
وإن لم يقع كان ما وقع من المعصية قد شاءه خلقا ولم يرده ولم يحبه شرعا.
ويذكر أن رجلا سرق فقال لعمر: سرقت بقضاء الله وقدره، فقال له: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره.
وهكذا يقال لمن تعدى حدود الله وأعان العباد على عقوبته الشرعية كما يعين المسلمين على جهاد الكفار: إن الجميع واقع بقضاء الله وقدره لكن ما أمر به يحبه ويرضاه ويريده شرعا ودينا كما شاءه خلقا وكونا بخلاف ما نهى عنه.
(سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ... (41)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
قوله: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} قيل: اللام لام كي أي يسمعون ليكذبوا ويسمعون لينقلوا إلى قوم آخرين لم يأتوك فيكونون كذابين ونمامين جواسيس والصواب أنها لام التعدية مثل قوله: {سمع الله لمن حمده} فالسماع مضمن معنى القبول أي قابلون للكذب ويسمعون من قوم آخرين لم يأتوك ويطيعونهم فيكون ذما لهم على قبول الخبر الكاذب وعلى طاعة غيره من الكفار والمنافقين مثل قوله: {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} أي هم يطلبون أن يفتنوكم وفيكم من يسمع منهم فيكون قد ذمهم على اتباع الباطل في نوعي الكلام خبره وإنشائه فإن باطل الخبر الكذب وباطل الإنشاء طاعة غير الرسل وهذا بعيد.
ثم قال: {سماعون للكذب أكالون للسحت} فذكر أنهم في غذائي الجسد والقلب يغتذون الحرام بخلاف من يأكل الحلال ولا يقبل إلا الصدق وفيه ذم لمن يروج عليه الكذب ويقبله أو يؤثره لموافقته هواه ويدخل فيه قبول المذاهب الفاسدة؛ لأنها كذب لا سيما إذا اقترن بذلك قبولها لأجل العوض عليها سواء كان العوض من ذي سلطان أو وقف أو فتوح أو هدية أو أجرة أو غير ذلك وهو شبيه بقوله: {إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله}. . . (1) أهل البدع وأهل الفجور الذين يصدقون بما كذب به على الله ورسوله وأحكامه والذين يطيعون الخلق في معصية الخالق.
ومثله: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} فإنما تنزلت بالسمع الذي يخلط فيه بكلمة الصدق ألف كلمة من الكذب على من هو كذاب فاجر فيكون سماعا للكذب من مسترقة السمع. ثم قال في السورة:
{لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت} فقول الإثم وسماع الكذب وأكل السحت أعمال متلازمة في العادة وللحكام منها خصوص فإن الحاكم إذا ارتشى سمع الشهادة المزورة والدعوى الفاجرة فصار سماعا للكذب أكالا للسحت قائلا للإثم. ولهذا خير نبيه صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم وبين تركه؛ لأنه ليس قصدهم قبول الحق وسماعه مطلقا؛ بل يسمعون ما وافق أهواءهم وإن كان كذبا وكذلك العلماء الذين يتقولون الروايات المكذوبة.
__________
Q (1) بياض بالأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 260)
من صــ 96 الى صـ 110
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
قال تعالى: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} يقول: هم يستجيبون {لقوم آخرين} وأولئك {لم يأتوك} وأولئك {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} يقولون لهؤلاء الذين أتوك: {إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا} كما ذكروا في سبب نزول الآية: أنهم قالوا في حد الزنا وفي القتل: اذهبوا إلى هذا النبي الأمي فإن حكم لكم بما تريدونه فاقبلوه وإن حكم بغيره فأنتم قد تركتم حكم التوراة أفلا تتركون حكمه. فهذا هو استماع المتحاكمين من أولئك الذين لم يأتوه؛ ولو كانوا بمنزلة الجاسوس لم يخص ذلك بالسماع؛ بل يرون ويسمعون وإن كانوا قد ينقلون إلى شياطينهم ما رأوه وسمعوه؛ لكن هذا من توابع كونهم يستجيبون لهم ويوالونهم. يبين ذلك أنه قال:
{لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} أي: لأسرعوا بينكم يطلبون الفتنة بينكم ثم قال: وفيكم مستجيبون لهم إذا أوضعوا خلالكم؛ ولو كان المعنى وفيكم من تجسس لهم: لم يكن مناسبا؛ وإنما المقصود: أنهم إذا أوضعوا بينكم يطلبون الفتنة وفيكم من يسمع منهم: حصل الشر.
وأما الجس فلم يكونوا يحتاجون إليه فإنهم بين المؤمنين وهم يوضعون خلالهم. مما يبين ذلك أنه قال: {سماعون للكذب أكالون للسحت} فذكر ما يدخل في آذانهم وقلوبهم من الكلام وما يدخل في أفواههم وبطونهم من الطعام: غذاء الجسوم وغذاء القلوب فإنهما غذاءان خبيثان: الكذب والسحت وهكذا من يأكل السحت من البرطيل ونحوه: يسمع الكذب كشهادة الزور؛ ولهذا قال: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت}. فلما كان هؤلاء: يستجيبون لغير الرسول كما يستجيبون له إذا وافق آراءهم وأهواءهم لم يجب عليه الحكم بينهم فإنهم متخيرون بين القبول منه والقبول ممن يخالفه. فكان هو متخيرا في الحكم بينهم والإعراض عنهم. وإنما يجب عليه الحكم بين من لا بد له منه من المؤمنين.
وإذا ظهر المعنى تبين فصل الخطاب في وجوب الحكم بين المعاهدين من أهل الحرب: كالمستأمن والمهادن والذمي؛ فإن فيه نزاعا مشهورا بين العلماء. قيل: ليس بواجب؛ للتخير. وقيل: بل هو واجب والتخيير منسوخ بقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}. قال الأولون: أما الأمر هنا أن يحكم بما أنزل الله إذا حكم: فهو أمر بصفة الحكم؛ لا بأصله كقوله: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} وقوله: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.
وهذا أصوب؛ فإن النسخ لا يكون بمحتمل. فكيف بمرجوح. وقيل: يجب في مظالم العباد؛ دون غيرها. والخلاف في ذلك مشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره من الأئمة. وحقيقة الآية: إن كان مستجيبا لقوم آخرين لم يأتوه لم يجب عليه الحكم بينهم كالمعاهد: من المستأمن وغيره الذي يرجع إلى أمرائه وعلمائه في دارهم وكالذمي الذي إن حكم له بما يوافق غرضه وإلا رجع إلى أكابرهم وعلمائهم فيكون متخيرا بين الطاعة لحكم الله ورسوله وبين الإعراض عنه.
وأما من لم يكن إلا مطيعا لحكم الله ورسوله ليس عنه مندوحة كالمظلوم الذي يطلب نصره من ظالمه وليس له من ينصره من أهل دينه. فهذا: ليس في الآية تخيير. وإذا كان عقد الذمة قد أوجب نصره من أهل الحرب فنصره ممن يظلمه من أهل الذمة أولى أن يوجب ذلك.
وكذلك لو كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم: من المنافقين الذين يتخيرون بين القبول من الكتاب والسنة وبين ترك ذلك لم يجب عليه الحكم بينهم. وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هذا الباب: من لا يكون قصده في استفتائه وحكومته الحق بل غرضه من يوافقه على هواه كائنا من كان سواء كان صحيحا أو باطلا. فهذا سماع لغير ما بعث الله به رسوله؛ فإن الله إنما بعث رسوله بالهدى ودين الحق فليس على خلفاء رسول الله أن يفتوه ويحكموا له كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين لم يستجيبوا لله ورسوله.
[فصل: وقوع التبديل في ألفاظ التوراة والإنجيل وانقطاع سندهما]
ومن حجة الجمهور الذين يمنعون أن تكون جميع ألفاظ هذه الكتب المتقدمة الموجودة عند أهل الكتاب منزلة من عند الله لم يقع فيها تبديل، ويقولون أنه وقع التبديل في بعض ألفاظها ويقولون أنه لم يعلم أن ألفاظها منزلة من عند الله فلا يجوز أن يحتج بما فيها من الألفاظ في معارضة ما علم ثبوته أنهم قالوا: التوراة والإنجيل الموجودة اليوم بيد أهل الكتاب لم تتواتر عن موسى وعيسى - عليهما السلام - أما التوراة، فإن نقلها انقطع لما خرب بيت المقدس أولا، وأجلى منه بنو إسرائيل، ثم ذكروا أن الذي أملاها عليهم بعد ذلك شخص واحد يقال له عزرا وزعموا أنه نبي.
ومن الناس من يقول أنه لم يكن نبيا وأنها قوبلت بنسخة وجدت عتيقة.
وقد قيل أنه أحضرت نسخة كانت بالمغرب وهذا كله لا يوجب تواتر جميع ألفاظها ولا يمنع وقوع الغلط في بعضها ; كما يجري مثل ذلك في الكتب التي يلي نسخها ومقابلتها وحفظها القليل الاثنان والثلاثة.
وأما الإنجيل الذي بأيديهم فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح - عليه السلام - ولا أملاه على من كتبه وإنما أملوه بعد رفع المسيح متى ويوحنا وكانا قد صحبا المسيح ولم يحفظه خلق كثير يبلغون عدد التواتر، ومرقس ولوقا وهما لم يريا المسيح - عليه السلام - وقد ذكر هؤلاء أنهم ذكروا بعض ما قاله المسيح وبعض أخباره وأنهم لم يستوعبوا ذكر أقواله وأفعاله.
ونقل اثنين وثلاثة وأربعة يجوز عليه الغلط لا سيما وقد غلطوا في المسيح نفسه حتى اشتبه عليهم بالمصلوب، ولكن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله مثل عيسى ابن مريم وموسى - عليهما السلام - وأنهم معصومون وأنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل وأن لهم معجزات وقالوا لهم هذه التوراة وهذا الإنجيل ويقرون مع هذا بأنهم ليسوا بأنبياء فإذا لم يكونوا أنبياء فمن ليس بنبي ليس بمعصوم من الخطأ ولو كان من أعظم أولياء الله ولو كان له خوارق عادات فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من أفاضل الصحابة عند المسلمين أفضل من الحواريين ولا معصوم عندهم إلا من كان نبيا.
ودعوى أنهم رسل الله مع كونهم ليسوا بأنبياء تناقض، وكونهم رسل الله هو مبني على كون المسيح هو الله، فإنهم رسل المسيح وهذا الأصل باطل، ولكن في طريق المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن نمنعهم في هذا المقام ونطالبهم بالدليل على أنهم رسل الله وليس لهم على ذلك دليل، فإنه لا يثبت أنهم رسل الله إن لم يثبت أن المسيح هو الله وإثباتهم أن المسيح هو الله إما أن يكون بالعقل أو بالسمع. والعقل لا يثبت ذلك بل يحيله وهم لا يدعون ثبوت ذلك بالعقل.
بل غاية ما يدعون إثبات إمكانه بالعقل لا إثبات وجوده مع أن ذلك أيضا باطل وإنما يدعون ثبوت وجوده بالسمع وهو ما ينقلونه عن الأنبياء من ألفاظ يدعون ثبوتها عن الأنبياء، ودلالتها على أن المسيح هو الله كسائر من يحتج بالحجة السمعية، فإن عامة بيان صحة الإسناد دون بيان دلالة المتن وكلا المقدمتين باطلة.
ولكن يقال لهم في هذا المقام أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله معصومون ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله فصار ذلك دورا ممتنعا.
فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله فصار ثبوت الإلهية متوقفا على ثبوت إلهيته، وثبوت كونهم رسل الله متوقفا على كونهم رسل الله فصار ذلك دورا ممتنعا.
قد يدعون عصمة الحواريين وعصمة أهل المجامع بعد الحواريين كأهل المجمع الأول الذي كان بحضرة قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر ووضعوا لهم الأمانة التي هي عقيدة النصارى التي لا يصح لهم قربان إلا بها فيزعمون أن الحواريين أو هؤلاء جرت على أيديهم خوارق وقد يذكرون أن منهم من جرى إحياء الموتى على يديه وهذا إذا كان صحيحا مع أن صاحبه لم يذكر أنه نبي لا يدل على عصمته، فإن أولياء الله من الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان وسائر أولياء الله من هذه الأمة وغيرها لهم من خوارق العادات ما يطول وصفه وليس فيهم معصوم يجب قبول كل ما يقول بل يجوز الغلط على كل واحد منهم، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الأنبياء - عليهم السلام -.
ولهذا أوجب الله الإيمان بما أوتيه الأنبياء ولم يجب الإيمان بكل ما يقوله كل ولي لله.
قال - تعالى -: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم} [البقرة: 136] وقال - تعالى -: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177] ولهذا وجب الإيمان بالأنبياء جميعهم وما أوتوه كلهم.
ومن كذب نبيا واحدا تعلم نبوته فهو كافر باتفاق المسلمين ومن سبه وجب قتله كذلك بخلاف من ليس بنبي، فإنه لا يكفر أحد بمخالفته ولا يقتل بمجرد سبه إلا أن يقترن بالسب ما يكون مبيحا للدم.
والذي عليه سلف الأمة كالصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين وجماهير المسلمين أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر وليس بعد الأنبياء أفضل منهما، وهذه الأمة أفضل الأمم وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قد كان قبلكم في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» والمحدث الملهم المخاطب.
وكان عمر قد جعل الله الحق على قلبه ولسانه وما كان يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان ; كما يقول وكانت السكينة تنطق على لسانه ومع هذا فلم يكن لا هو ولا غيره ممن ليس بنبي معصوما من الغلط ولا يجب على المسلم قبول ما يقوله: إن لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا كان يجوز له العمل بما يلقى في قلبه إن لم يعرضه على الكتاب والسنة، فإن وافق ذلك قبله وإن خالف ذلك رده.
وعند المسلمين أنه ليس في أتباع المسيح - عليه السلام - مثل أبي بكر وعمر - رضوان الله عليهما - فإذا قالوا عن الحواريين: أنهم ليسوا معصومين فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من الحواريين، كما أنهم إذا قالوا: عن المسيح أنه عبد مخلوق ليس بإله فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من المسيح كمحمد وإبراهيم - عليهما أفضل الصلاة والسلام -.
وفي الملاحدة المنتسبين إلى الأمة من فيه بدع من الغلو يشبه غلو النصارى كمن يدعي الإلهية من الإسماعيلية كبني عبيد القداح كالحاكم وغيره ويدعي الإلهية في علي بن أبي طالب أو غيره كدعوى النصيرية وهؤلاء كفار عند المسلمين.
وكذلك من يدعي الإلهية في بعض المشايخ كغلاة العدوية والحلاجية واليونسية وغيرهم وكذلك من يدعي عصمة بني عبيد أو عصمة الإثني عشر أو عصمة بعض المشايخ.
فإن النصارى يدعون عصمة الحواريين الإثني عشر وهؤلاء يدعون عصمة الأئمة الإثني عشر.
وهؤلاء يسندون أصل دينهم إلى قول الحواريين المعصومين عندهم ويقولون أنهم معصومون في النقل عن المسيح وفي الفتيا وإن ما قالوه فقد قاله المسيح - عليه الصلاة والسلام -.
وهؤلاء يقولون عن أولئك أنهم معصومون في النقل والفتيا وإن ما قالوه فقد قاله الرسول - عليه الصلاة والسلام - وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أنه ليس مع النصارى نقل متواتر عن المسيح بألفاظ هذه الأناجيل ولا نقل لا متواتر ولا آحاد بأكثر ما هم عليه من الشرائع ولا عندهم ولا عند اليهود نقل متواتر بألفاظ التوراة ونبوات الأنبياء كما عند المسلمين نقل متواتر بالقرآن وبالشرائع الظاهرة المعروفة للعامة والخاصة وهذا مثل الأمانة التي هي أصل دينهم وصلاتهم إلى المشرق وإحلال الخنزير وترك الختان وتعظيم الصليب واتخاد الصور في الكنائس وغير ذلك من شرائعهم ليست منقولة عن المسيح ولا لها ذكر في الأناجيل التي ينقلونها عنه وهم متفقون على أن الأمانة التي جعلوها أصل دينهم وأساس اعتقادهم ليست ألفاظها موجودة في الأناجيل ولا هي مأثورة عن الحواريين وهم متفقون على أن الذين وضعوها أهل المجمع الأول الذين كانوا عند قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر وخالفوا عبد الله بن أريوس الذي جعل المسيح عبدا لله كما يقول المسلمون ووضعوا هذه الأمانة.
وهذا المجمع كان بعد المسيح بمدة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة وبسط هذا له موضع آخر وإنما المقصود هنا الجواب عن قولهم: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ثبت ما معهم وأنه نفى عن إنجيلهم وكتبهم التي بأيديهم التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.
وقد تبين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يصدق شيئا من دينهم المبدل والمنسوخ، ولكن صدق الأنبياء قبله وما جاءوا به وأثنى على من اتبعهم لا على من خالفهم أو كذب نبيا من الأنبياء. وإن كفر النصارى من جنس كفر اليهود، فإن اليهود بدلوا معاني الكتاب الأول وكذبوا بالكتاب الثاني: وهو الإنجيل وكذلك النصارى بدلوا معاني الكتاب الأول التوراة والإنجيل وكذبوا بالكتاب الثاني: وهو القرآن وأنهم ادعوا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - صدق بجميع ألفاظ الكتب التي عندهم.
فجمهور المسلمين يمنعون هذا ويقولون إن بعض ألفاظها بدل ; كما قد بدل كثير من معانيها، ومن المسلمين من يقول: التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها وهذا القول يقر به عامة اليهود والنصارى.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 261)
من صــ 111 الى صـ 125
وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ لَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا كَفَّرَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتُهُ مِثْلِ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ وَتَغْيِيرِ شَرِيعَةِ الْمَسِيحِ وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ فِي الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ مَا يَدُلُّ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا عَلَى الْأَمَانَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ دِينِهِمْ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ وَلَا فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ شَرَائِعِهِمْ كالصلاة إلى الشرق واستحلال المحرمات من الخنزير والميتة ونحو ذلك، كما قد بسط في موضع آخر.
ويقال لهم: أين ما معكم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - مما يدل على أن ألفاظ الكتب التي بأيديكم لم يغير فيها شيء ومعلوم أن المسلمين وغيرهم إذا اختلفوا لم يكن قول فريق حجة على الفريق الآخر.
فإذا كان المسلمون قد اختلفوا في تبديل بعض ألفاظ الكتب المتقدمة لم يكن قول فريق حجة على الأخرى ولا يجوز لأحد من المسلمين ولا منكم أن يضيف إلى الرسول قولا إلا بدليل.
فأين في القرآن والسنة الثابتة عن محمد - صلى الله عليه وسلم - أن جميع ما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل والزبور ونبوات الأنبياء لم تبدل بشيء من ألفاظها حتى يقولوا: إن محمدا نفى عن كتبهم ذلك؟.
وهؤلاء بنوا كلامهم على أن ألفاظ كتبهم تدل على صحة دينهم الذي هم عليه بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعد تكذيبهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم يبدل شيء من ألفاظها.
وقد تبين فساد ذلك من وجوه متعددة.
ثم زعموا أن المسلمين يدعون أن ألفاظ هذه الكتب حرفت كلها بجميع لغاتها بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا القول لم يقله أحد من المسلمين فيما أعلم وظنوا أنهم بالجواب عن هذا يكونون قد أجابوا المسلمين.
(فصل)
(سئل شيخ الإسلام عن كتاب ظهر بين الناس فيه أباطيل تخالف ما في كتاب الله)
ما تقول السادة العلماء - أئمة الدين وهداة المسلمين -:
في كتاب بين أظهر الناس زعم مصنفه أنه وضعه وأخرجه للناس بإذن النبي صلى الله عليه وسلم في منام زعم أنه رآه؛ وأكثر كتابه ضد لما أنزله الله من كتبه المنزلة وعكس وضد عن أقوال أنبيائه المرسلة؛ فمما قال فيه: إن آدم عليه السلام إنما سمي إنسانا لأنه للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر. وقال في موضع آخر: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه. وقال في قوم نوح عليه السلام إنهم لو تركوا عبادتهم لود وسواع ويغوث ويعوق ونسر: لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء. ثم قال: فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله. فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة: كالأعضاء في الصورة المحسوسة. ثم قال في قوم هود عليه السلام بأنهم حصلوا في عين القرب فزال البعد فزال مسمى جهنم في حقهم ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق مما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة فإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها وكانوا على صراط الرب المستقيم.
ثم إنه أنكر فيه حكم الوعيد في حق كل من حقت عليه كلمة العذاب من سائر العبيد فهل يكفر من يصدقه في ذلك أم لا؟ أو يرضى به منه أم لا؟ وهل يأثم سامعه إذا كان عاقلا بالغا ولم ينكره بلسانه أو بقلبه أم لا؟ أفتونا بالوضوح والبيان كما أخذ الميثاق للتبيان فقد أضر الإهمال بالضعفاء والجهال والله المستعان وعليه الاتكال أن يعجل بالملحدين النكال؛ لصلاح الحال وحسم مادة الضلال.
فأجاب:الحمد لله، هذه الكلمات المذكورة المنكورة: كل كلمة منها هي من الكفر الذي لا نزاع فيه بين أهل الملل من المسلمين؛ واليهود والنصارى؛ فضلا عن كونه كفرا في شريعة الإسلام. فإن قول القائل: إن آدم للحق تعالى بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر: يقتضي أن آدم جزء من الحق تعالى وتقدس وبعض منه وأنه أفضل أجزائه وأبعاضه؛ وهذا هو حقيقة مذهب هؤلاء القوم وهو معروف من أقوالهم. الكلمة الثانية: توافق ذلك وهو قوله: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه. ولهذا قال في تمام ذلك: فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة {فانظر ماذا ترى} {يا أبت افعل ما تؤمر} والولد عين أبيه فما رأى يذبح سوى نفسه ففديناه بذبح عظيم فظهر بصورة كبش: من ظهر بصورة إنسان وظهر بصورة؛ لا بحكم ولد من هو عين الوالد {وخلق منها زوجها} فما نكح سوى نفسه.
وقال في موضع: وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال: إن العالم صورته وهويته. وقال: ومن أسمائه الحسنى العلي على من وما ثم إلا هو وعن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات. فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو. إلى أن قال: فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم من ينطق عنه سواه فهو ظاهر لنفسه باطن عنه - وهو المسمى أبو سعيد الخراز - وغير ذلك من أسماء المحدثات. إلى أن قال: فالعلي لنفسه: هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة. وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات؟ وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي من أولها إلى آخرها صفات له كما هي صفات المحدثات حق للحق وأمثال هذا الكلام. فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو فصوص الحكم وأمثاله مثل صاحبه القونوي والتلمساني وابن سبعين والششتري وابن الفارض وأتباعهم؛ مذهبهم الذي هم عليه: أن الوجود واحد؛ ويسمون أهل وحدة الوجود ويدعون التحقيق والعرفان وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات فكل ما يتصف به المخلوقات من حسن وقبيح ومدح وذم إنما المتصف به عندهم: عين الخالق وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها أصلا؛ بل عندهم ما ثم غير أصلا للخالق ولا سواه. ومن كلماتهم: ليس إلا الله. فعباد الأصنام لم يعبدوا غيره عندهم لأنه ما عندهم له غير؛ ولهذا جعلوا قوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} بمعنى قدر ربك أن لا تعبدوا إلا إياه؛ إذ ليس عندهم غير له تتصور عبادته فكل عابد صنم إنما عبد الله. ولهذا جعل صاحب هذا الكتاب: عباد العجل مصيبين وذكر أن موسى أنكر على هارون إنكاره عليهم عبادة العجل. وقال: كان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل؛ لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبدوا إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع؛ فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتباعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء.
ولهذا يجعلون فرعون من كبار العارفين المحققين وأنه كان مصيبا في دعواه الربوبية. كما قال في هذا الكتاب: ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت وأنه جار في العرف الناموسي لذلك. قال: {أنا ربكم الأعلى}أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما: فأنا الأعلى منهم؛ بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيهم. ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله: لم ينكروه؛ بل أقروا له بذلك وقالوا له: {فاقض ما أنت قاض} فالدولة لك فصح قول فرعون: {أنا ربكم الأعلى} وأنه كان عين الحق. ويكفيك معرفة بكفرهم: أن من أخف أقوالهم أن فرعون مات مؤمنا؛ بريا من الذنوب كما قال: وكان موسى قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق فقبضه طاهرا مطهرا ليس فيه شيء من الخبث لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام والإسلام يجب ما قبله. وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى: أن فرعون من أكفر الخلق بالله؛ بل لم يقص الله في القرآن قصة كافر باسمه الخاص أعظم من قصة فرعون ولا ذكر عن أحد من الكفار من كفره وطغيانه وعلوه: أعظم مما ذكر عن فرعون.
وأخبر عنه وعن قومه أنهم يدخلون أشد العذاب فإن لفظ آل فرعون: كلفظ آل إبراهيم وآل لوط وآل داود وآل أبي أوفى؛ يدخل فيها المضاف باتفاق الناس فإذا جاءوا إلى أعظم عدو لله من الإنس أو من هو من أعظم أعدائه: فجعلوه مصيبا محقا فيما كفره به الله: علم أن ما قالوه أعظم من كفر اليهود والنصارى فكيف بسائر مقالاتهم؟.
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها: على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته. والسلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه في كل مكان وكان مما أنكروه عليهم: أنه كيف يكون في البطون والحشوش والأخلية؟ تعالى الله عن ذلك. فكيف بمن يجعله نفس وجود البطون والحشوش والأخلية والنجاسات والأقذار؟. واتفق سلف الأمة وأئمتها: أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته. ولا في أفعاله وقال: من قال من الأئمة من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها. وأين المشبهة المجسمة من هؤلاء؟ فإن هؤلاء غاية كفرهم: أن يجعلوه مثل المخلوقات. لكن يقولون: هو قديم وهي محدثة وهؤلاء جعلوه عين المخلوقات وجعلوه نفس الأجسام المصنوعات ووصفوه بجميع النقائص والآفات التي يوصف بهما كل كافر وكل فاجر وكل شيطان وكل سبع وكل حية من الحيات فتعالى الله عن إفكهم وضلالهم وسبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. والله تعالى ينتقم لنفسه ولدينه ولكتابه ولرسوله ولعباده المؤمنين منهم.
وهؤلاء يقولون: إن النصارى إنما كفروا لتخصيصهم؛ حيث قالوا: {إن الله هو المسيح} فكلما قالته النصارى في المسيح: يقولونه في الله وكفر النصارى جزء من كفر هؤلاء. ولما قرءوا هذا الكتاب المذكور على أفضل متأخريهم؛ قال له قائل: هذا الكتاب يخالف القرآن. فقال: القرآن كله شرك. وإنما التوحيد في كلامنا هذا: يعني أن القرآن يفرق بين الرب والعبد وحقيقة التوحيد عندهم أن الرب هو العبد؛ فقال له القائل: فأي فرق بين زوجتي وبنتي إذا؟ قال: لا فرق لكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم. وهؤلاء إذا قيل في مقالتهم إنها كفر: لم يفهم هذا اللفظ حالها فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة بل كفر كل كافر جزء من كفرهم؛ ولهذا قيل لرئيسهم أنت نصيري. فقال: نصير جزء مني وكان عبد الله بن المبارك يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وهؤلاء شر من أولئك الجهمية فإن أولئك كان غايتهم القول بأن الله في كل مكان وهؤلاء قولهم أنه وجود كل مكان؛ ما عندهم موجودان؛ أحدهما حال والآخر محل. ولهذا قالوا: إن آدم من الله بمنزلة إنسان العين من العين وقد علم المسلمون واليهود والنصارى؛بالاضط رار من دين المرسلين: أن من قال عن أحد من البشر إنه جزء من الله فإنه كافر في جميع الملل إذ النصارى لم تقل هذا
- وإن كان قولها من أعظم الكفر - لم يقل أحد إن عين المخلوقات هي جزء الخالق ولا أن الخالق هو المخلوق ولا الحق المنزه هو الخلق المشبه.
وكذلك قوله: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الحق: بقدر ما تركوا منها: هو من الكفر المعلوم بالاضطرار من جميع الملل فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا عن عبادة الأصنام وكفروا من يفعل ذلك وأن المؤمن لا يكون مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام وكل معبود سوى الله كما قال الله تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده}. وقال الخليل: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} {أنتم وآباؤكم الأقدمون} {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} وقال الخليل: {لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون} {إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} وقال الخليل - وهو إمام الحنفاء الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب واتفق أهل الملل على تعظيمه لقوله - {يا قوم إني بريء مما تشركون} {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}. وهذا أكثر وأظهر عند أهل الملل من. اليهود والنصارى - فضلا عن المسلمين -
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 262)
من صــ 126 الى صـ 140
مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِنَصِّ خَاصٍّ فَمَنْ قَالَ: إنَّ عُبَّادَ الأصنام لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء فهو أكفر من اليهود والنصارى ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى؛ فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام فكيف من يجعل تارك عبادة الأصنام جاهلا من الحق بقدر ما ترك منها؟ مع قوله: فإن العالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود بل هو أعظم من كفر عباد الأصنام؛ فإن أولئك اتخذوهم شفعاء ووسائط كما قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}. وقال الله تعالى: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون}. وكانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالق الأصنام كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} وقال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. قال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله ثم يعبدون غيره وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك؛ ولهذا قال تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم}. وهؤلاء أعظم كفرا من جهة أن هؤلاء جعلوا عابد الأصنام عابدا لله لا عابدا لغيره وأن الأصنام من الله؛ بمنزلة أعضاء الإنسان من الإنسان وبمنزلة قوى النفس من النفس؛ وعباد الأصنام: اعترفوا بأنها غيره وأنها مخلوقة ومن جهة أن عباد الأصنام من العرب: كانوا مقرين بأن للسموات والأرض ربا غيرهما خلقهما وهؤلاء ليس عندهم للسموات والأرض وسائر المخلوقات رب مغاير للسموات والأرض وسائر المخلوقات بل المخلوق هو الخالق.
ولهذا جعل قوم عاد وغيرهم من الكفار على صراط مستقيم وجعلهم في عين القرب وجعل أهل النار يتمتعون في النار كما يتمتع أهل الجنة في الجنة. وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن قوم عاد وثمود وفرعون وقومه وسائر من قص الله قصته من الكفار أعداء الله وأنهم معذبون في الآخرة وأن الله لعنهم وغضب عليهم فمن أثنى عليهم وجعلهم من المقربين ومن أهل النعيم: فهو أكفر من اليهود والنصارى من هذا الوجه. وهذه الفتوى لا تحتمل بسط كلام هؤلاء وبيان كفرهم وإلحادهم فإنهم من جنس القرامطة الباطنية والإسماعيلية الذين كانوا أكفر من اليهود والنصارى وأن قولهم يتضمن الكفر بجميع الكتب والرسل كما قال الشيخ إبراهيم الجعبري لما اجتمع بابن عربي - صاحب هذا الكتاب - فقال: رأيته شيخا نجسا يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله.
وقال الفقيه أبو محمد بن عبد السلام - لما قدم القاهرة وسألوه عنه - قال: هو شيخ سوء كذاب مقبوح يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا فقوله: يقول بقدم العالم؛ لأن هذا قوله وهذا كفر معروف فكفره الفقيه أبو محمد بذلك ولم يكن بعد ظهر من قوله: إن العالم هو الله وإن العالم صورة الله وهوية الله فإن هذا أعظم من كفر القائلين بقدم العالم الذين يثبتون واجب الوجود ويقولون إنه صدر عنه الوجود الممكن. وقال عنه من عاينه من الشيوخ: إنه كان كذابا مفتريا وفي كتبه - مثل الفتوحات المكية وأمثالها - من الأكاذيب ما لا يخفى على لبيب - هذا وهو أقرب إلى الإسلام من ابن سبعين ومن القونوي والتلمساني وأمثاله من أتباعه فإذا كان الأقرب بهذا الكفر - الذي هو أعظم من كفر اليهود والنصارى - فكيف بالذين هم أبعد عن الإسلام؟ ولم أصف عشر ما يذكرونه من الكفر. ولكن هؤلاء التبس أمرهم على من لم يعرف حالهم كما التبس أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون وانتسبوا إلى التشيع فصار المتبعون مائلين إليهم غير عالمين بباطن كفرهم. ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين: إما زنديقا منافقا؛ وإما جاهلا ضالا.
وهكذا هؤلاء الاتحادية: فرءوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم ولا تقبل توبة زنديقا منافقا؛ وإما جاهلا ضالا. وهكذا هؤلاء الاتحادية: فرءوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة فإنه من أعظم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام ويبطنون أعظم الكفر وهم الذين يفهمون قولهم ومخالفتهم لدين المسلمين ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذب عنهم أو أثنى عليهم أو عظم كتبهم أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم أو كره الكلام فيهم أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو أو من قال إنه صنف هذا الكتاب وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق؛ بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات؛ لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء وهم يسعون في الأرض فسادا ويصدون عن سبيل الله. فضررهم في الدين: أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم ويترك دينهم كقطاع الطريق وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال ويبقون لهم دينهم ولا يستهين بهم من لم يعرفهم فضلالهم وإضلالهم: أعظم من أن يوصف وهم أشبه الناس بالقرامطة الباطنية. ولهذا هم يريدون دولة التتار ويختارون انتصارهم على المسلمين إلا من كان عاميا من شيعهم وأتباعهم فإنه لا يكون عارفا بحقيقة أمرهم. ولهذا يقرون اليهود والنصارى على ما هم عليه ويجعلونهم على حق كما يجعلون عباد الأصنام على حق وكل واحدة من هذه من أعظم الكفر ومن
كان محسنا للظن بهم - وادعى أنه لم يعرف حالهم - عرف حالهم فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلا ألحق بهم وجعل منهم. وأما من قال لكلامهم تأويل يوافق الشريعة؛ فإنه من رءوسهم وأئمتهم؛ فإنه إن كان ذكيا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا فهو أكفر من النصارى فمن لم يكفر هؤلاء وجعل لكلامهم تأويلا كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتحاد أبعد. والله أعلم.
(وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (43)
[فصل: دعوة أهل الكتاب إلى الحكم بما في كتبهم من الألفاظ الصحيحة]
والصحيح أن هذه التوراة الذي بأيدي أهل الكتاب فيها ما هو حكم الله وإن كان قد بدل وغير بعض ألفاظهما كقوله - تعالى -: {ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم} [المائدة: 41]
إلى قوله: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} [المائدة: 43] فعلم أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس وبعد مجيء بختنصر وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فيها حكم الله.
والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن قيل: أنه غير بعض ألفاظها بعد مبعثه فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك، فإن هذا غير معلوم لنا وهو أيضا متعذر بل يمكن تغيير كثير من النسخ وإشاعة ذلك عند الأتباع حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غير بعد ذلك ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب إنما تختلف في اليسير من ألفاظها فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ بعد مبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممكن لا يمكن أحد أن يجزم بنفيه ولا يقدر أحد من اليهود والنصارى أن يشهد بأن كل نسخة في العالم بالكتابين متفقة الألفاظ إذ هذا لا سبيل لأحد إلى علمه، والاختلاف اليسير في ألفاظ هذه الكتب موجود في الكثير من النسخ، كما قد تختلف نسخ بعض كتب الحديث أو تبدل بعض ألفاظ بعض النسخ، وهذا خلاف القرآن المجيد الذي حفظت ألفاظه في الصدور بالنقل المتواتر لا يحتاج أن يحفظ في كتاب ; كما قال - تعالى -: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] وذلك أن اليهود قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عهده وبعده منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها وعندهم نسخ كثيرة من التوراة.
وكذلك النصارى عندهم نسخ كثيرة من التوراة ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها ولو كان ذلك ممكنا لكان هذا من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وكذلك في الإنجيل قال - تعالى -: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47] فعلم أن في هذا الإنجيل حكما أنزله الله تعالى لكن الحكم هو من باب الأمر والنهي وذلك لا يمنع أن يكون التغيير في باب الأخبار وهو الذي وقع فيه التبديل لفظا وأما الأحكام التي في التوراة فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها.
وقد ذكر طائفة من العلماء أن قوله - تعالى -: في الإنجيل {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47] هو خطاب لمن كان على دين المسيح قبل النسخ والتبديل لا الموجودين بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا القول يناسب مناسبة ظاهرة لقراءة من قرأ " وليحكم أهل الإنجيل " بكسر اللام كقراءة حمزة فإن هذه لام كي، فإنه تعالى قال {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين - وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 46 - 47]
فإذا قرئ " وليحكم " كان المعنى وآتيناه الإنجيل لكذا وكذا وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذا يوجب الحكم بما أنزل الله في الإنجيل الحق لا يدل على أن الإنجيل الموجود في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو ذلك الإنجيل.
وأما قراءة الجمهور {وليحكم أهل الإنجيل} [المائدة: 47] فهو أمر بذلك، فمن العلماء من قال: هو أمر لمن كان الإنجيل الحق موجودا عندهم أن يحكموا بما أنزل الله فيه وعلى هذا يكون قوله - تعالى -: " وليحكم " أمر لهم قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال: آخرون لا حاجة إلى هذا التكلف، فإن القول في الإنجيل كالقول في التوراة وقد قال - تعالى -:{ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم - سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين - وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين - إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون - وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون - وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل} [المائدة: 41 - 46] فهذا قد صرح بأن أولئك الذين تحاكموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود عندهم التوراة فيها حكم الله، ثم تولوا عن حكم الله وقال: بعد ذلك {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47] وهذه لام الأمر وهو أمر من الله أنزله على لسان محمد وأمر من مات قبل هذا الخطاب ممتنع وإنما يكون الأمر أمرا لمن آمن به من بعد خطاب الله لعباده بالأمر فعلم أنه أمر لمن كان موجودا حينئذ أن يحكموا بما أنزل الله في الإنجيل، والله أنزل في الإنجيل الأمر باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما أمر به في التوراة فليحكموا بما أنزل الله في الإنجيل مما لم ينسخه محمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما أمر أهل التوراة أن يحكموا بما أنزله مما لم ينسخه المسيح وما نسخه فقد أمروا فيها باتباع المسيح وقد أمروا في الإنجيل باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن حكم من أهل الكتاب بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بما أنزل الله في التوراة والإنجيل لم يحكم بما يخالف حكم محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ كانوا مأمورين في التوراة والإنجيل باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما قال - تعالى -: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] وقال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} [المائدة: 48].
فجعل القرآن مهيمنا. والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل ولهذا قال {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [المائدة: 48] وقد ثبت في الصحاح والسنن والمساند هذا. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: «إن اليهود جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال: لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تجدون في التوراة في شأن الرجم قالوا: نفضحهم ويجلدون فقال: عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا: صدق يا محمد فأمر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجما».
وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال: «أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق حتى جاء يهود فقال: ما تجدون في التوراة على من زنى قالوا: نسود وجوههما ويطاف بهما قال: {فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93] قال: فجاءوا بها فقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها فقال عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم قالوا: صدق فيها آية الرجم، ولكننا نتكاتمه بيننا وأن أحبارنا أحدثوا التحميم والتجبية فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجمهما فرجما».
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 263)
من صــ 141 الى صـ 155
وأخرج مسلم عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: «مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم فدعى رجلا من علمائهم فقال: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم، فأنزل الله تعالى {ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم} [المائدة: 41] إلى قوله: فأولئك هم الكافرون إلى الظالمون إلى الفاسقون قال: هي في الكفار كلها».
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: «رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا من أسلم ورجلا من اليهود».
وأما السنن ففي سنن أبي داود عن زيد بن أسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: «أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا: يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بينهم فوضعوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسادة فجلس عليها، ثم قال: ائتوني التوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال: آمنت بك وبمن أنزلك، ثم قال: ائتوني بأعلمكم فأتي بشاب، ثم ذكر قصة الرجم».
وأخرج أيضا أبو داود وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «زنى رجل من اليهود بامرأة فقال: بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله فقلنا: نبي من أنبيائك قالوا: فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟.
قالوا نحممه ونجبيه ونجلده والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل أقفيتهما، ويطاف بهما قال: وسكت شاب منهم فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ساكتا أنشده فقال: اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجم فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - فما أول ما ارتخصتم أمر الله قال: زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم قال: النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما».
قال الزهري فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا} [المائدة: 44] فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم.
وأيضا فقد تحاكموا إليه في القود الذي كان بين بني قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل بعض إحدى القبيلتين قتيلا من الأخرى فيقتلونه ولم يضعفوا الدية وإذا قتل من القبيلة الشريفة قتلوا به وأضعفوا الدية.
قال أبو داود سليمان بن الأشعث في سننه حدثنا محمد بن العلاء حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي مائة وسق من تمر».
فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - «قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله فقالوا: بيننا وبينكم محمد فأتوه فنزلت {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة: 42]» والقسط النفس بالنفس، ثم نزلت {أفحكم الجاهلية يبغون} [المائدة: 50] قال: أبو داود قريظة والنضير من ولد هارون.
وبسط هذا له موضع آخر وعلى كل قول، فقد أخبر الله - عز وجل - أن في التوراة الموجودة بعد المسيح - عليه السلام - حكم الله وأن أهل الكتاب اليهود تركوا حكم الله الذي في التوراة مع كفرهم بالمسيح وهذا ذم من الله لهم على ما تركوه من حكمه الذي جاء به الكتاب الأول ولم ينسخه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الثاني:.
وهذا من التبديل الثاني: الذي ذموا عليه ودل ذلك على أن في التوراة الموجودة بعد مبعث المسيح حكما أنزله الله أمروا أن يحكموا به وهكذا يمكن أن يقال في الإنجيل.
ومعلوم أن الحكم الذي أمروا أن يحكموا به من أحكام التوراة ولم ينسخه الإنجيل ولا القرآن، فكذلك ما أمروا أن يحكموا به من أحكام الإنجيل هو مما لم ينسخه القرآن وذلك أن الدين الجامع أن يعبد الله وحده ويأمر بما أمر الله به ويحكم بما أنزله الله في أي كتاب أنزله ولم ينسخه، فإنه يحكم به.
ولهذا كان مذهب جماهير السلف والأئمة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ومن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم بما أنزل الله، كما أن الله أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يحكموا بما أنزل الله في القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ فهكذا القول في جنس الكتب المنزلة.
قال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون - وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون - أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون - ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين - فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين - ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين - ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم - إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 48 - 56].
فقد أمر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بما أنزل الله إليه وحذره اتباع أهوائهم وبين أن المخالف لحكمه هو حكم الجاهلية حيث قال - تعالى -: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة: 50] وأخبره تعالى أنه جعل لكل من أهل التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاجا، وأمره تعالى بالحكم بما أنزل الله أمر عام لأهل التوراة والإنجيل والقرآن ليس لأحد في وقت من الأوقات أن يحكم بغير ما أنزل الله والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة وإن تنوعوا في الشرعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ فهو شبيه بتنوع حال الكتاب الواحد، فإن المسلمين كانوا أولا مأمورين بالصلاة لبيت المقدس، ثم أمروا أن يصلوا إلى المسجد الحرام وفي كلا الأمرين إنما اتبعوا ما أنزل الله - عز وجل -.
وكذلك موسى - عليه السلام - كان مأمورا بالسبت محرما عليه ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزله الله - عز وجل - والمسيح أحل بعض ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزل الله - عز وجل - فليس في أمر الله لأهل التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ ; كما أنه ليس في أمر أهل القرآن أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ، بل إذا كان ناسخ ومنسوخ فالذي أنزل الله هو الحكم بالناسخ دون المنسوخ فمن حكم بالمنسوخ فقد حكم بغير ما أنزل الله - عز وجل - ومما يوضح هذا قوله - تعالى -: {قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين} [المائدة: 68] فإن هذا يبين أن هذا أمر لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لأهل الكتاب الذي بعث إليهم أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم فدل ذلك على أنهم عندهم ما يعلم أنه منزل من الله وأنهم مأمورون بإقامته إذ كان ذلك مما قرره محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم ينسخه ومعلوم أن كل ما أمر الله به على لسان نبي ولم ينسخه النبي - صلى الله عليه وسلم - الثاني بل أقره كان الله آمرا به على لسان نبي بعد نبي ولم يكن في بعثة الثاني ما يسقط وجوب اتباع ما أمر به النبي الأول وقرره النبي الثاني.
ولا يجوز أن يقال إن الله ينسخ بالكتاب الثاني جميع ما شرعه بالكتاب الأول وإنما المنسوخ قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والشرائع.
وأيضا ففي التوراة والإنجيل ما دل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا حكم أهل التوراة والإنجيل بما أنزل الله فيهما حكموا بما أوجب عليهم اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا يدل على أن في التوراة والإنجيل ما يعلمون أن الله أنزله إذ لا يؤمرون أن يحكموا بما أنزل الله ولا يعلمون ما أنزل الله، والحكم إنما يكون في الأمر والنهي والعلم ببعض معاني الكتب لا ينافي عدم العلم ببعضها وهذا متفق عليه في المعاني، فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وأنه أرسل إلى الخلق رسلا من البشر وأنه أوجب العدل وحرم الظلم والفواحش والشرك وأمثال ذلك من الشرائع الكلية وأن فيها الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب بل هم متفقون على الإيمان باليوم الآخر وقد تنازعوا في بعض معانيها واختلفوا في تفسير ذلك ; كما اختلفت اليهود والنصارى في المسيح المبشر به النبوات، هل هو المسيح ابن مريم - عليه السلام - أو مسيح آخر ينتظر والمسلمون يعلمون أن الصواب في هذا مع النصارى لكن لا يوافقونهم على ما أحدثوا فيه من الإفك والشرك.
وكذلك يقال إذا بدل قليل من ألفاظها الخبرية لم يمنع ذلك أن يكون أكثر ألفاظها لم يبدل لا سيما إذا كان في نفس الكتاب ما يدل على المبدل وقد يقال أن ما بدل من ألفاظ التوراة والإنجيل ففي نفس التوراة والإنجيل ما يدل على تبديله فبهذا يحصل الجواب عن شبهة من يقول أنه لم يبدل شيء من ألفاظها، فإنهم يقولون إذا كان التبديل قد وقع في ألفاظ التوراة والإنجيل قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم الحق من الباطل، فسقط الاحتجاج بهما ووجوب العمل بهما على أهل الكتاب فلا يذمون حينئذ على ترك اتباعهما.
والقرآن قد ذمهم على ترك الحكم بما فيهما واستشهد بهما في مواضع.
وجواب ذلك أن ما وقع من التبديل قليل والأكثر لم يبدل والذي لم يبدل فيه ألفاظ صريحة تبين بها المقصود من غلط ما خالفها ولها شواهد ونظائر متعددة يصدق بعضها بعضا بخلاف المبدل، فإنه ألفاظ قليلة، وسائر نصوص الكتب يناقضها، وصار هذا بمنزلة كتب الحديث المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه إذا وقع في سنن أبي داود والترمذي أو غيرهما أحاديث قليلة ضعيفة كان في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يبين ضعف تلك.
بل وكذلك صحيح مسلم فيه ألفاظ قليلة غلط، وفي نفس الأحاديث الصحيحة مع القرآن ما يبين غلطها، مثل ما روي أن الله خلق التربة يوم السبت وجعل خلق المخلوقات في الأيام السبعة، فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري وغيرهم أنه غلط، وأنه ليس في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار ; كما قد بسط في موضعه، والقرآن يدل على غلط هذا، ويبين أن الخلق في ستة أيام، وثبت في الصحيح أن آخر الخلق كان يوم الجمعة فيكون أول الخلق يوم الأحد.
وكذلك ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم -، «صلى الكسوف بركوعين أو ثلاثة».
فإن الثابت المتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو وغيرهم أنه صلى كل ركعة بركوعين ولهذا لم يخرج البخاري إلا ذلك، وضعف الشافعي والبخاري وأحمد في أحد الروايتين عنه وغيرهم حديث الثلاث والأربع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى الكسوف مرة واحدة وفي حديث الثلاث والأربع أنه صلاها يوم مات إبراهيم ابنه، وأحاديث الركوعين كانت ذلك اليوم فمثل هذا الغلط إذا وقع كان في نفس الأحاديث الصحيحة ما يبين أنه غلط، والبخاري إذا روى الحديث بطرق في بعضها غلط في بعض الألفاظ ذكر معه الطرق التي تبين ذلك الغلط ; كما قد بسطنا الكلام على ذلك في موضعه.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 264)
من صــ 156 الى صـ 170
فكذلك إذا قيل أنه وقع تبديل في بعض ألفاظ الكتب المتقدمة كان في الكتب ما يبين لك الغلط وقد قدمنا أن المسلمين لا يدعون أن كل نسخة في العالم من زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - بكل لسان من التوراة والإنجيل والزبور بدلت ألفاظها، فإن هذا لا أعرف أحدا من السلف قاله وإن كان من المتأخرين من قد يقول ذلك، كما في بعض المتأخرين من يجوز الاستنجاء بكل ما في العالم من نسخ التوراة والإنجيل فليست هذه الأقوال ونحوها من أقوال سلف الأمة وأئمتها وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال: يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها فعلق الأمر على ما يمتنع العلم به ولم يجزم عمر - رضي الله عنه - بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها.
والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما ما أنزله الله - عز وجل - والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر ولا حاجة بنا إلى ذكره ولا علم لنا بذلك ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد، فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختباره وامتحانه وإنما يعلم مثل هذا بالوحي وإلا فلا يمكن أحدا من البشر أن يقابل كل نسخة موجودة في العالم بكل نسخة من جميع الألسنة بالكتب الأربعة والعشرين وقد رأيناها مختلفة في الألفاظ اختلافا بينا، والتوراة هي أصح الكتب وأشهرها عند اليهود والنصارى ومع هذا فنسخة السامرة مخالفة لنسخة اليهود والنصارى حتى في نفس الكلمات العشر ذكر في نسخة السامرة منها من أمر استقبال الطور ما ليس في نسخة اليهود والنصارى وهذا مما يبين أن التبديل وقع في كثير من نسخ هذه الكتب، فإن عند السامرة نسخا متعددة.
وكذلك رأينا في الزبور نسخا متعددة تخالف بعضها بعضا مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني يقطع من رآها أن كثيرا منها كذب على زبور داود - عليه السلام - وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة.
فإن قيل فإذا كانت الكتب المتقدمة منسوخة فلماذا ذم أهل الكتاب على ترك الحكم بما أنزل الله منها؟ قيل: النسخ لم يقع إلا في قليل من الشرائع وإلا فالإخبار عن الله وعن اليوم الآخر وغير ذلك لا نسخ فيه.
وكذلك الدين الجامع والشرائع الكلية لا نسخ فيها وهو سبحانه ذمهم على ترك اتباع الكتاب الأول ; لأن أهل الكتاب كفروا من وجهين من جهة تبديلهم الكتاب الأول، وترك الإيمان والعمل ببعضه، ومن جهة تكذيبهم بالكتاب الثاني: وهو القرآن، كما قال - تعالى -: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 91] فبين أنهم كفروا قبل مبعثه بما أنزل عليهم وقتلوا الأنبياء كما كفروا حين مبعثه بما أنزل عليه وقال - تعالى -: {الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين} [آل عمران: 183] وقال - تعالى -: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} [آل عمران: 184] وقال - تعالى -: {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون - قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 48 - 49] وإذا كان الأمر كذلك فهو سبحانه يذمهم على ترك اتباع ما أنزله في التوراة والإنجيل وعلى ترك اتباع ما أنزله في القرآن ويبين كفرهم بالكتاب الأول وبالكتاب الثاني: وليس في شيء من ذلك أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ من الكتاب الأول ; كما ليس فيه أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ في الكتاب الثاني.
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وإذا كان من قول السلف: إن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق فكذلك في قولهم: إنه يكون فيه إيمان وكفر ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة؛ كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قالوا: كفروا كفرا لا ينقل عن الملة وقد اتبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة.
عن ابن طاووس عن أبيه قال: قلت لابن عباس: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} فهو كافر. قال: هو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله.
عن عطاء قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.
قال محمد بن نصر: قالوا: وقد صدق عطاء قد يسمى الكافر ظالما ويسمى العاصي من المسلمين ظالما فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لا ينقل. قال الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وقال: {إن الشرك لظلم عظيم} وذكر حديث ابن مسعود المتفق عليه قال: {لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بذلك. ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما هو الشرك}.
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه فدخل ذات يوم فقرأ فأتى على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} إلى آخر الآية فانتعل وأخذ رداءه ثم أتى إلى أبي بن كعب فقال: يا أبا المنذر أتيت قبل على هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} وقد نرى أنا نظلم ونفعل. فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا ليس بذلك يقول الله: {إن الشرك لظلم عظيم} إنما ذلك الشرك.
قال محمد بن نصر: وكذلك " الفسق فسقان ": فسق ينقل عن الملة وفسق لا ينقل عن الملة فيسمى الكافر فاسقا والفاسق من المسلمين فاسقا ذكر الله إبليس فقال: {ففسق عن أمر ربه} وكان ذلك الفسق منه كفرا وقال الله تعالى: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} يريد الكفار دل على ذلك قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} وسمي الفاسق من المسلمين فاسقا ولم يخرجه من الإسلام. قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} وقال تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} فقالت العلماء في تفسير الفسوق هاهنا: هي المعاصي. قالوا: فلما كان الظلم ظلمين والفسق فسقين كذلك الكفر كفران:(أحدهما ينقل عن الملة) و (الآخر لا ينقل عن الملة) وكذلك الشرك " شركان ": شرك في التوحيد ينقل عن الملة وشرك في العمل لا ينقل عن الملة وهو الرياء قال تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} يريد بذلك المراءاة بالأعمال الصالحة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم {الطيرة شرك}.
قال محمد بن نصر: فهذان مذهبان هما في الجملة محكيان عن أحمد بن حنبل في موافقيه من أصحاب الحديث حكى الشالنجي إسماعيل بن سعيد أنه سأل أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصيام هل يكون مصرا من كانت هذه حاله؟ قال: هو مصر مثل قوله: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن}. يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام ومن نحو قوله: {لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن} ومن نحو قول ابن عباس في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فقلت له: ما هذا الكفر؟ فقال: كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض وكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. وقال ابن أبي شيبة: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} لا يكون مستكمل الإيمان يكون ناقصا من إيمانه قال: وسألت أحمد بن حنبل عن " الإسلام والإيمان " فقال: الإيمان قول وعمل والإسلام إقرار. قال: وبه قال أبو خيثمة وقال ابن أبي شيبة لا يكون الإسلام إلا بإيمان ولا إيمان إلا بإسلام.
(وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)
[فصل: الرد عليهم في زعمهم أن الإسلام عظم إنجيلهم الذي بين أيديهم]
فصل
قالوا وأما تعظيمه لإنجيلنا وكتبنا التي بأيدينا فيقول: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه} [المائدة: 48] وقال: في سورة آل عمران: {الم - الله لا إله إلا هو الحي القيوم - نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل - من قبل هدى للناس} [آل عمران: 1 - 4]. وقال: في سورة البقرة {الم - ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين - الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون - والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون - أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 1 - 5]. فأعني بالكتاب الإنجيل والذين يؤمنون بالغيب نحن النصارى الذين آمنا بالمسيح وما رأيناه، ثم اتبع بالقول {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة: 4] فأعني بهم المسلمين الذين آمنوا بما آتى به وما أتى من قبله وقال: في سورة المائدة {وموعظة للمتقين - وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 46 - 47] وقال في سورة آل عمران: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} [آل عمران: 184] فأعني أيضا بالكتاب المنير الذي هو الإنجيل المقدس.
وقال: أيضا: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} [يونس: 94].
فثبت بهذا ما معنا ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.
والجواب: بعد أن تعرف أن لفظ الآية الأولى من سورة المائدة {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48]. أن يقال: أما تصديق خاتم الرسل محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل الله قبله من الكتب ولمن جاء قبله من الأنبياء فهذا معلوم بالاضطرار من دينه متواترا تواترا ظاهرا كتواتر إرساله إلى الخلق كلهم وهذا من أصول الإيمان.
قال - تعالى -: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون - فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 136 - 137] وقال - تعالى -: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون - ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 84 - 85]
وقال: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} [البقرة: 177]
وقال - تعالى -: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 285 - 286] وتصديقه للتوراة والإنجيل مذكور في مواضع من القرآن وقد قال {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48].
وقال - تعالى -: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني} [الزمر: 23] وقال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3] فبين أنه أنزل هذا القرآن مهيمنا على ما بين يديه من الكتب والمهيمن الشاهد المؤتمن الحاكم يشهد بما فيها من الحق وينفي ما حرف فيها ويحكم بإقرار ما أقره الله من أحكامها وينسخ ما نسخه الله منها وهو مؤتمن في ذلك عليها وأخبر أنه أحسن الحديث وأحسن القصص وهذا يتضمن أنه كل من كان متمسكا بالتوراة قبل النسخ من غير تبديل شيء من أحكامها، فإنه من أهل الإيمان والهدى وكذلك من كان متمسكا بالإنجيل من غير تبديل شيء من أحكامه قبل النسخ فهو من أهل الإيمان والهدى وليس في ذلك مدح لمن تمسك بشرع مبدل فضلا عمن تمسك بشرع منسوخ ولم يؤمن بما أرسل الله إليه من الرسل وما أنزل إليه من الكتب بل قد بين كفر اليهود والنصارى بتبديل الكتاب الأول وبترك الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في غير موضع.
وأما تأويلهم قوله: {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] أنه الإنجيل و {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3]عنى بهم النصارى فهو من تحريف الكلم عن مواضعه وتبديل كلام الله ; كما فعلوه في قوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا} [آل عمران: 85] وفي قوله: بإذني أي باللاهوت وفي قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6].
وفي غير ذلك مما ذكروه وتأولوه من القرآن على غير المعنى الذي أراد الله به وهذا مما يؤيد أنهم فعلوا كذلك بالتوراة والإنجيل، فإنه إذا كان القرآن الذي قد عرف تفسيره والمراد به العام والخاص ونقل ذلك عن الرسول نقلا متواترا حتى عرف معناه علما يقينا اضطراريا فيبدلون معناه ويحرفون الكلم عن مواضعه فماذا يصنعون بالتوراة والإنجيل ولم ينقل لفظ ذلك ومعناه ; كما نقل القرآن وليس في أهل تلك الكتب من يذب عن لفظها ومعناها ; كما يذب المسلمون عن لفظ القرآن ومعناه؟.
وهؤلاء غرهم قوله: {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] فظنوا أن لفظ ذلك لما كان يشار بها إلى الغائب أشير بها إلى الإنجيل.
فيقال: لهم هذا كقوله: {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم} [آل عمران: 58] وأشار بذلك إلى ما تلاه قبل هذه الآية، وقوله: {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم} [الممتحنة: 10]
وقوله: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} [الطلاق: 2] ومثله قوله - تعالى -: بعد أن ذكر خبر يوسف الصديق {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} [يوسف: 102] وقال أيضا: لما ذكر خبر مريم: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم} [آل عمران: 44] ; كما قال: لما ذكر آيات يخبر فيها عن نوح {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك} [هود: 49] وقال: {الر - تلك آيات الكتاب المبين - إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف: 1 - 2] وتلك في المؤنث مثل ذلك في المذكر ومع هذا فأشار إلى القرآن ومنه قوله: {الر - تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} [الحجر: 1] وقوله: {طس - تلك آيات القرآن وكتاب مبين} [النمل: 1] ومنه قوله: {طسم - تلك آيات الكتاب المبين} [القصص: 1 - 2] ومنه قوله: {حم - عسق - كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} [الشورى: 1 - 3] وقوله: {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا} [الشورى: 7] وقوله: {المر - تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق} [الرعد: 1] الآية.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 265)
من صــ 171 الى صـ 185
ومثل هذا كثير وذلك أنه لما أنزل قوله: {ذلك الكتاب - تلك آيات الكتاب} [يونس: 2 - 1] ونحو ذلك لم يكن الكتاب المشار إليه قد أنزل تلك الساعة وإنما كان قد أنزل قبل ذلك فصار كالغائب الذي يشار إليه ; كما يشار إلى الغائب وهو باعتبار حضوره عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يشار إليه ; كما يشار إلى الحاضر ; كما قال - تعالى -: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} [الأنبياء: 50]
ولهذا قال: غير واحد من السلف ذلك الكتاب أي هذا الكتاب يقولون المراد هذا الكتاب وإن كانت الإشارة تكون تارة إشارة غائب وتارة إشارة حاضر وقد قال {هدى للمتقين - الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 2 - 3] وقد وصف النصارى بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وأنهم كافرون ظالمون فكيف يجعلهم المتقين الذين يؤمنون بالغيب.
قال - تعالى -: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29].
وأول التقوى تقوى الشرك وقد وصف النصارى بالشرك في قوله:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] وقال - تعالى -: لما ذكر المسيح {فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم - أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} [مريم: 37 - 38] وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 72] وقوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] ونهى عن موالاتهم فقال {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة: 51] وقد أخبر أن الله ولي المتقين فقال {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون - إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين} [الجاثية: 18 - 19]
فلو كانوا من المتقين فضلا عن أن يكونوا هم المتقين لكان الله وليهم ولكانت موالاتهم واجبة على المؤمنين وهو قد نهى عن موالاتهم وجعل من يتولاهم ظالما وجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكفار بعضهم أولياء بعض ولهذا لما قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين الكافرين.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم».
واتفق المسلمون على أن اليهودي والنصراني لا يرث مسلما ولو كان ابنه وأباه ; لأن الله قطع الموالاة بينهما وقد قال - تعالى -: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22] وأيضا فإنه قال - تعالى -: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} [البقرة: 3]
وهي الصلاة التي أمر بها في قوله: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء: 78] وقد قال: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» والنصارى يصلون بغير طهور.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهم لا يقرؤونها. والصلاة التي فرضها وأثنى عليها مشتملة على استقبال الكعبة وعلى ركوع وسجدتين في كل ركعة وغير ذلك مما لا يفعله النصارى فكيف يمدحهم بإقامة الصلاة وهم لا يقيمون الصلاة التي أمر بإقامتها.
ثم لو قال اليهودي المراد بقوله: {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] التوراة وبالمتقين اليهود لكان هذا مع بطلانه أقرب من قول القائل أن المراد بالكتاب الإنجيل ; لأن التوراة أحق بذلك من الإنجيل، فإنها الأصل والله تعالى يقرن بينها وبين القرآن في غير موضع كقوله: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة} [هود: 17] وقوله - تعالى -: {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [الأحقاف: 10].
وقد قالت الجن لما سمعت القرآن {قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم} [الأحقاف: 30] وقال: النجاشي لما سمع القرآن إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة وكذلك ورقة بن نوفل قال: هذا هو الناموس الذي كان ينزل على موسى بن عمران.
وقال - تعالى -: قالوا: {لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا} [القصص: 48] أي: التوراة والقرآن. وقالوا ساحران تظاهرا أي موسى ومحمد وقالوا إنا بكل كافرون.
قال الله: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} [القصص: 49] فقد بين أنه لم يأت من عند الله كتاب أهدى من التوراة والقرآن.
وقال - تعالى -: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون - وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون} [الأنعام: 91 - 92].
وأما قوله - تعالى -: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة: 4] فهي صفة ثانية للذين يؤمنون بالغيب مجملا، ثم وصفهم بإيمان مفصل بما أنزل إليك وما أنزل من قبله. والعطف بالواو يكون لتغاير الذوات ويكون لتغاير الصفات كقوله - تعالى -: {سبح اسم ربك الأعلى - الذي خلق فسوى - والذي قدر فهدى - والذي أخرج المرعى - فجعله غثاء أحوى} [الأعلى: 1 - 5] والذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى وهو الذي أخرج المرعى وكذلك قوله - تعالى -: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم - الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون - والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون - والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} [الزخرف: 9 - 12] ومثله قوله: {قد أفلح المؤمنون - الذين هم في صلاتهم خاشعون - والذين هم عن اللغو معرضون - والذين هم للزكاة فاعلون - والذين هم لفروجهم حافظون - إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين - فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون - والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون - والذين هم على صلواتهم يحافظون - أولئك هم الوارثون - الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} [المؤمنون: 1 - 11].
فهم صنف واحد وصفهم بهذه الصفات بحرف الواو وكذلك في قوله: {إن الإنسان خلق هلوعا - إذا مسه الشر جزوعا - وإذا مسه الخير منوعا - إلا المصلين - الذين هم على صلاتهم دائمون - والذين في أموالهم حق معلوم - للسائل والمحروم - والذين يصدقون بيوم الدين - والذين هم من عذاب ربهم مشفقون - إن عذاب ربهم غير مأمون - والذين هم لفروجهم حافظون - إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين - فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون - والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون - والذين هم بشهاداتهم قائمون - والذين هم على صلاتهم يحافظون - أولئك في جنات مكرمون} [المعارج: 19 - 35].
وقد فسر قبل قوله: يؤمنون بالغيب صفة المؤمنين من غير أهل الكتاب كمشركي العرب، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك صفة من آمن به من أهل الكتاب.
وعلى هذا القول: هؤلاء غير هؤلاء، لكن هذا ضعيف، فإنه لا بد في المؤمنين من غير أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله ولا بد في مؤمن أهل الكتاب أن يؤمن بالغيب. فكل من الإيمانين واجب على كل واحد ولا يكون أحد على هدى من ربه مفلحا إلا بهذا وهذا.
وأما قول النصارى نحن الذين آمنا بالسيد المسيح وما رأيناه فهكذا اليهود آمنوا بموسى - عليه السلام - وما رأوه والمسلمون آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما رأوه بل المسلمون آمنوا بموسى وعيسى وسائر النبيين وما رأوهم بخلاف اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. ثم الغيب ليس المراد به صورة النبي - عليه السلام -، فإن صورة النبي ليست من الغيب، فإن الناس يرونها وليس في رؤيتها ما يوجب إيمانا ولا كفرا، ولكن الغيب ما غاب عن مشاهدة الخلق وهو ما أخبرت به الأنبياء من الغيب فيدخل فيه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وهو الإيمان بأنهم رسل الله، وسواء رؤيت أبدانهم أو لم تر فقد يراهم من لم يؤمن برسالتهم وقد يؤمن برسالتهم من لم يرهم.
والمقصود الإيمان برسالتهم لا بنفس صورهم حتى يقول القائل آمنا بنبي ولم نره وقد يعلم من دلائل نبوته وأعلام رسالته من لم يره أكثر مما يعلمها من رآه.
فصل
وأما قوله: في سورة المائدة {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين - وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 46 - 47] فهذا ثناء منه على المسيح والإنجيل وأمر للنصارى بالحكم بما أنزل فيه ; كما أثنى على موسى والتوراة بأعظم مما عظم به المسيح والإنجيل فقال تعالى: {ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} [المائدة: 41] أي: قائلون للكذب مصدقون مستجيبون مطيعون لقوم آخرين لم يأتوك فهم مصدقون للكذب مطيعون لمن يخالفك وأنت رسول الله.
فكل من تصديق الكذب والطاعة لمن خالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الذنوب.
ولفظ السميع يراد به الإحساس بالصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به قبوله فيقال: فلان سمع ما يقول فلان أي يصدقه أو يطيعه ويقبل منه.
فقوله: سماعون للكذب أي مصدقون به وإلا مجرد سماع صوت الكاذب وفهم كلامه ليس مذموما على الإطلاق.
وكذلك سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي مستجيبون لهم مطيعون ; كما قال: في حق المنافقين وفيكم سماعون لهم أي مستجيبون مطيعون لهم ومن قال: إن المراد به الجاسوس فهو غالط كغلط من قال: سماعون لهم هم الجواسيس، فإن الجاسوس إنما ينقل خبر القوم إلى من لا يعرفه، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ما يذكره ويأمر به ويفعله يراه ويسمعه كل من بالمدينة مؤمنهم ومنافقهم ولم يكن يقصد أن يكتم يهود المدينة ما يقوله ويفعله خلاف من كان يأتيه من اليهود وهم يصدقون الكذب ويطيعون لليهود الآخرين الذين لم يأتوه والله نهى نبيه أن يحزنه المسارعون في الكفر من هاتين الطائفتين المنافقتين الذين أظهروا الإيمان به ولم تؤمن قلوبهم ومن أهل الكتاب الذين يطلبون أن يحكم بينهم وليس مقصودهم أن يطيعوه ويتبعوا حكمه بل إن حكم بما يهوونه قبلوه وإن حكم بخلاف ذلك لم يقبلوه لكونهم مطيعين لقوم آخرين لم يأتوه.
قال - تعالى -: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين} [المائدة: 41] أي لم يأتك أولئك القوم الآخرون يقولون أي يقول السماعون {إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [المائدة: 41] والحكم يفتقر إلى الصدق والعدل فلا بد أن يكون الشاهد صادقا والحاكم عادلا وهؤلاء يصدقون الكاذبين من الشهود ويتبعون حكم المخالفين للرسل الذين يحكمون بغير ما أنزل الله وإذا لم يكن قصدهم اتباع الصدق والعدل فليس عليك أن تحكم بينهم بل إن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فلا تحكم.
ولكن إذا حكمت فلا تحكم إلا بما أنزل الله إليك إذ هو العدل.
قال - تعالى -: {سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} [المائدة: 42]، ثم قال {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين - إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون - وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة: 43 - 45] فهذا ثناؤه على التوراة وإخباره أن فيها حكم الله وأنه أنزل التوراة وفيها {هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] وقال: عقب ذكرها {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44]
وهذا أعظم مما ذكره في الإنجيل، فإنه قال: في الإنجيل {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور} [المائدة: 46] وقال فيه: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة: 47] وقال: في التوراة {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] وقال: عقب ذكرها {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] فهو سبحانه مع إخباره بإنزال الكتابين يصف التوراة بأعظم مما يصف به الإنجيل.
كما قال - تعالى -: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] وإذا كان ما ذكره من مدح موسى والتوراة لم يوجب ذلك مدح اليهود الذين كذبوا المسيح ومحمدا - صلى الله عليه وسلم -وليس فيه ثناء على دين اليهود المبدل المنسوخ باتفاق المسلمين والنصارى، فكذلك أيضا ما ذكره من مدح المسيح والإنجيل ليس فيه مدح النصارى الذين كذبوا محمدا وبدلوا أحكام التوراة والإنجيل واتبعوا المبدل المنسوخ، واليهود توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح للنصارى، والنصارى توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح لليهود بعد النسخ والتبديل. فعلم اتفاق أهل الملل كلها: المسلمون واليهود والنصارى على أنه ليس فيما ذكر في القرآن من ذكر التوراة والإنجيل وموسى وعيسى مدح لأهل الكتاب الذين كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولا مدح لدينهم المبدل قبل مبعثه فليس في ذلك مدح لمن تمسك بدين مبدل ولا بدين منسوخ، فكيف بمن تمسك بدين مبدل منسوخ.
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)
[فصل: رفض دعواهم أن القرآن صدق كتبهم التي بين أيديهم]
قالوا فثبت بهذا ما معنا نعم، ونفى عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.
فيقال: كلامكم الذي تحتجون به في هذا الموضع وغيره إما أن يكون باطلا محضا وإما أن يكون مما لبستم فيه الحق بالباطل، فإن قولكم بتصديقه إياها إن أردتم أنه صدق التوراة والإنجيل والزبور التي أنزلها الله على أنبيائه فهذا لا ريب فيه، فإن هذا مذكور في القرآن في غير موضع وقد أوجب على عباده أن يؤمنوا بكل كتاب أنزله وكل نبي من الأنبياء مع إخباره أنه أنزل هذه الكتب قبل القرآن وأنزل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 266)
من صــ 186 الى صـ 200
وقال - تعالى -: {الم - الله لا إله إلا هو الحي القيوم - نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل - من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان} [آل عمران: 1 - 4] وقال - تعالى -: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48]
وقال - تعالى -: {ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت} [النساء: 47] وقال: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48] وقال: {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير} [فاطر: 31] وقال: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} [البقرة: 101] وقال - تعالى -: {آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم} [النساء: 47] وقد أوجب على عباده أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله وحكم بكفر من آمن ببعض وكفر ببعض، فقال تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون - فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة: 136 - 137] وقال - تعالى -: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} [البقرة: 285]
وقال - تعالى -: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا - أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا - والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما} [النساء: 150 - 152] فذم المفرق بينهم بأن يؤمن ببعض دون بعض وبين أنه فضل بعضهم على بعض فقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253]
فبين أنه فضل بعضهم على بعض وقال - تعالى -: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء: 55] وقد اتفق المسلمون على ما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام وهو أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وبجميع ما أنزله الله من الكتب فمن كفر بنبي واحد تعلم نبوته مثل إبراهيم ولوط وموسى وداود وسليمان ويونس وعيسى فهو كافر عند جميع المسلمين حكمه حكم الكفار وإن كان مرتدا استتيب، فإن تاب وإلا قتل.
ومن سب نبيا واحدا من الأنبياء قتل أيضا باتفاق المسلمين وما علم المسلمون أن نبيا من الأنبياء أخبر به فعليهم التصديق به ; كما يصدقون بما أخبر به محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم يعلمون أن أخبار الأنبياء لا تتناقض ولا تختلف وما لم يعلموا أن النبي أخبر به فهو كما لم يعلموا أن محمدا أخبر به صلى الله عليهم أجمعين، ولكن لا يكذبون إلا بما علموا أنه كذب ; كما لا يجوز أن يصدقوا إلا بما علموا أنه صدق وما لم يعلموا أنه كذب ولا صدق لم يصدقوا به ولم يكذبوا به ; كما أمرهم نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وبهذا أمرهم المسيح - عليه السلام - فقال: الأمور ثلاثة أمر تبين رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه.
فصل
وإن أرادوا بتصديقه كتبهم أنه صدق ما هم عليه من العقائد والشرائع التي ابتدعوها بغير إذن من الله وخالفوا بها ما تقدمه من شرائع المسلمين أو خالفوا بها الشرع الذي بعث به مثل القول بالتثليث والأقانيم والقول بالحلول والاتحاد بين اللاهوت والناسوت وقولهم: أن المسيح هو الله وابن الله وما هم عليه من إنكار ما يجب الإيمان به من الإيمان بالله واليوم الآخر ومن تحليل ما حرمه الله ورسله كالخنزير وغيره وبين أنهم لا يدينون بدين الحق الذي أنزل به كتابه وأرسل به رسوله بل بدين مبتدع ابتدعه لهم أكابرهم ; كما قال - تعالى -: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم} [التوبة: 31]
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لعدي بن حاتم وكان نصرانيا لما جاءه ليؤمن به وقد آمن به عدي وكان من خيار الصحابة فسمعه يقرأ هذه الآية {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] قال: عدي قلت يا رسول الله ما عبدوهم.
قال «أنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم».
فإن أرادوا بتصديقهم في هذه الأمور أو أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - صدق ما عندهم مما لم يأت به الأنبياء عن الله فقد كذبوا على محمد - صلى الله عليه وسلم - كذبا ظاهرا معلوما بالاضطرار من دينه وإنما صدق ما جاءت به الأنبياء قبله.
وأما ما أحدثوه وابتدعوه فلم يصدقوه ; كما أنه لم يشرع لهم أن يستمروا على ما هم عليه من الشرع الأول ولو لم يكن مبدلا بل دعاهم وجميع الإنس والجن إلى الإيمان به وبما جاء به واتباع ما بعث به من الكتاب والحكمة وحكم بكفر كل من لم يتبع كتابه المنزل عليه وأوجب مع خلودهم في عذاب الآخرة جهادهم في الدنيا حتى يكون الدين كله لله وحتى تكون كلمة الله هي العليا.
وقد دعا أهل الكتاب من اليهود والنصارى عموما، ثم كلا من الطائفتين خصوصا في غير موضع مع دعائه الناس كلهم أهل الكتاب وغيرهم كقوله - تعالى -:{ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون - الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون - قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 156 - 158] وقال - تعالى -: يخاطب النصارى {ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا - لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا - فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} [النساء: 171 - 173]
وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] وقال - تعالى -: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14] أخبر سبحانه أن النصارى تركوا حظا مما ذكرهم به وبسبب ذلك أغرى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فعلم أنه سبحانه بين أنهم تركوا بعض ما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء واستحقوا لذلك أن يغري بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
وقال - تعالى -: {قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77] فنهاهم عن الغلو في دينهم وعن اتباع أهواء الذين ابتدعوا بدعا غيروا بها شرع المسيح فضلوا من قبل هؤلاء الأتباع وأضلوا كثيرا من هؤلاء الأتباع وغيرهم وضلوا عن سواء السبيل وهو وسط السبيل بين الضلال وقيده بعد أن أطلقه وأجمله.
وقال - تعالى -: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29] وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتالهم بنفسه عام تبوك واستنفر لقتالهم جميع المؤمنين ولم يأذن لأحد من القادرين على الغزو في التخلف ومن تخلف لأنه لم ير قتالهم واجبا كان كافرا وإن أظهر الإسلام كان منافقا ملعونا بين الله أنه لا يغفر لهم ونهى نبيه عن الصلاة عليهم وأنزل في ذلك جمهور سورة براءة بالنقل المتواتر حتى بين كفر الذين استأذنوه في ترك الخروج معه لقتال النصارى.
قال - تعالى -:{ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل - إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير - إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم - انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون - لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون - عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين - لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين - إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون - ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين - لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين - لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون} [التوبة: 38 - 48].
فصل
فتبين أن قولهم: فثبت بهذا ما معنا نعم، ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.
إن أرادوا به أنه ثبت ما جاءت الأنبياء قبله عن الله فهذا حق.
وإن أرادوا به أنه ثبت ما هم عليه بعد مبعثه من الشرع الذي خالف شرعه أو ما ابتدعوه مما لم يأت به الأنبياء - عليهم السلام - قبله فهذا باطل.
وإن أرادوا بذلك أنه صدق ألفاظ الكتب التي بأيدينا أي التوراة والإنجيل فهذا مما يسلمه لهم بعض المسلمين وينازعهم فيه أكثر المسلمين وإن كان أكثر ذلك مما يسلمه أكثر المسلمين.
فأما تحريف معاني الكتب بالتفسير والتأويل وتبديل أحكامها فجميع المسلمين واليهود والنصارى يشهدون عليهم بتحريفها وتبديلها ; كما يشهدون هم والمسلمون على اليهود بتحريف كثير من معاني التوراة وتبديل أحكامها وإن كانوا هم واليهود يقولون إن التوراة لم تحرف ألفاظها.
وحينئذ فلا ينفعهم بقاء حروف الكتب عندهم مع تحريف معانيها إلا ; كما ينفع اليهود بقاء حروف التوراة والنبوات عندهم مع تحريف معانيها بل جميع النبوات التي يقرون بها هي عند اليهود، وهم مع اليهود ينفون عنها التهم والتبديل لألفاظها مع أن اليهود عندهم من أعظم الخلق كفرا واستحقاقا لعذاب الله في الدنيا والآخرة وهم عند النصارى الذين يكفرون المسلمين أكثر من هؤلاء وشر منهم، فإن النصارى متفقون على أن المسلمين خير من اليهود وكذلك اليهود متفقون على أن المسلمين خير من النصارى بل جميع الأمم المخالفين للمسلمين يشهدون أن المسلمين خير من سائر الأمم والطوائف إلا أنفسهم وشهادتهم لأنفسهم لا تقبل فصار هذا اتفاق أهل الأرض على تفضيل دين الإسلام.
فعلم أن بقاء حروف الكتاب مع الإعراض عن اتباع معانيها وتحريفها لا يوجب إيمان أصحابها ولا يمنع كفرهم.
وحينئذ فليس شهادة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته للمسيح - عليه السلام - ولما أنزل عليه من الإنجيل في تثبيت ما عند النصارى بأعظم من شهادة المسيح - عليه السلام - والحواريين وسائر من اتبعه لموسى ولما أنزل عليه من التوراة في تثبيت ما عند اليهود، فإن المسيح أمر أتباعه باتباع التوراة إلا القدر اليسير الذي نسخه منها.
وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فبعث بكتاب مستقل وشرع مستقل كامل تام لم يحتج معه إلى شرع سابق تتعلمه أمته من غيره ولا إلى شرع لاحق يكمل شرعه ولهذا قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر».
فجزم أن من كان قبله كان فيهم محدثون وعلق الأمر في أمته وإن كان هذا المعلق قد تحقق ; لأن أمته لا تحتاج بعده إلى نبي آخر، فلأن لا تحتاج معه إلى محدث ملهم أولى وأحرى.
وأما من كان قبله فكانوا يحتاجون إلى نبي بعد نبي فأمكن حاجتهم إلى المحدثين الملهمين ولهذا إذا نزل المسيح ابن مريم في أمته لم يحكم فيهم إلا بشرع محمد - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان مع هذا فشهادة المسيح والحواريين وكل من آمن بالمسيح للتوراة بأنها حق ولموسى بأنه رسول لا يمنع كفر اليهود لكونهم بدلوا شرع التوراة وكذبوا بالمسيح والإنجيل.
فكيف تكون شهادة محمد وأمته للإنجيل بأنه منزل من عند الله وللمسيح بأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مانعة من كفر النصارى مع تبديلهم شرع الإنجيل وتكذيبهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وشرع القرآن؟.
وأما إيمان من يؤمن منهم بأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب أو بكثير مما جاء به القرآن فلا يمنع كفرهم إذا كفروا ببعض ما جاء به، بل من كذب بشيء مما جاءت به الرسل عن الله فهو كافر وإن آمن بأكثر ما جاءت به الرسل ; كما قال - تعالى -: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا - أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} [النساء: 150 - 151] وقال - تعالى -:{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة: 85] وقد صرح بكفر النصارى في غير موضع وأمر بجهادهم وقتالهم وحكم بكفر من لا يوجب جهادهم وقتالهم أو لا يرى ذلك عبادة لله وطاعة له ; كما تقدم التنبيه على ذلك فإذا كان من لا يرى جهادهم عبادة لله كافرا عند محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف حالهم عنده - صلى الله عليه وسلم -.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 267)
من صــ 201 الى صـ 215
[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَاهُمْ تَنَاقُضُ خَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
وَإِذَا تَبَيَّنَ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مِمَّنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ كَفَرَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاء ِ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ شَاهِدًا بِأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ يُكَفِّرُ جَمِيعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَتُهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَشَهِدَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا كَثِيرًا مِنْ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كُلَّهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَشْهَدُونَ أَيْضًا بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ حَرَّفَهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَحْتَجَّ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صِحَّةِ دِينِهِمُ الَّذِي شَهِدَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ بَاطِلٌ مُبَدَّلٌ مَنْسُوخٌ وَأَهْلُهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ.
وَإِذَا قَالُوا: نَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ لِنُبَيِّنَ تَنَاقُضَهُ حَيْثُ صَدَّقَهَا وَهِيَ تُنَاقِضُ بَعْضَ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَوْ لِنُبَيِّنَ أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ يُنَاقِضُ خَبَرَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْحًا فِيمَا جَاءَ بِهِ.
أَجَابَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ هَذَا بِعِدَّةِ طُرُقٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولُوا أَمَّا مُنَاقَضَةُ بَعْضِ خَبَرِهِ لِبَعْضٍ ; كَمَا يَزْعُمُهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ كِتَابَهُ يَمْدَحُ أَهْلَ الْكِتَابِ مَرَّةً وَيَذُمُّهُمْ أُخْرَى وَأَنَّهُ يُصَدِّقُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ تَارَةً وَيَذُمُّهَا أُخْرَى فَهَذَا قَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا مَدَحَ مَنِ اتَّبَعَ مُوسَى وَالْمَسِيحَ عَلَى الدِّينِ الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ وَلَمْ يُنْسَخْ.
وَأَمَّا مَنِ اتَّبَعَ الدِّينَ الْمُبَدَّلَ الْمَنْسُوخَ فَقَدْ كَفَّرَهُ.
فَأَمَّا دَعْوَاهُمْ مُنَاقَضَةَ خَبَرِهِ لِخَبَرِ غَيْرِهِ فَيُقَالُ: هُوَ مُصَدِّقٌ لِلْأَنْبِيَاءِ فَمَا أَخْبَرُوا بِهِ.
وَأَمَّا مَا بُدِّلَ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا بِالتَّرْجَمَةِ أَوْ فُسِّرَ بِغَيْرِ مُرَادِهِمْ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ وَيُقَالُ أَيْضًا إِنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَثْبُتُ بِمِثْلِ مَا تَثْبُتُ بِهِ نُبُوَّاتُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَبِأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيَّنَ أَنَّ التَّكْذِيبَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّةِ غَيْرِهِ فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ وَأَنَّهُ مَا مِنْ طَرِيقٍ يُعْلَمُ بِهَا نُبُوَّةُ غَيْرِهِ إِلَّا وَنُبُوَّتُهُ تُعْلَمُ بِمِثْلِ تِلْكَ الطَّرِيقِ وَبِأَعْظَمَ مِنْهَا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ نُبُوَّتُهُ وَطَرِيقُ ثُبُوتِهَا إِلَّا مثل نبوة غيره وطريق ثبوتها لوجب التصديق بنبوته ; كما وجب التصديق بنبوة غيره ولكان تكذيبه كتكذيب إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل فكيف إذا كان ذلك أعظم من وجوه متعددة.
وحينئذ فالأنبياء كلهم صادقون مصدقون معصومون فيما يخبرون به عن الله لا يجوز أن يثبت في خبرهم عن الله خبر باطل لا عمدا ولا خطأ فلا يجوز أن يخبر أحدهم بخلاف ما أخبر به غيره بل ولا يفترقون في الدين الجامع ; كما قال - تعالى -: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13] وقال - تعالى -: {ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم - وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون - فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 51 - 53] وإنما يقع النسخ في بعض الشرائع ; كما يقع النسخ في شريعة الرسول الواحد وحينئذ فيعلم أن كل ما ينقل عن الأنبياء المتقدمين مما يناقض ما علم من إخبار محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو باطل سواء كان اللفظ نفسه باطلا لم يقله ذلك النبي أو قد قال: لفظا وغلط المترجمون له من لغة إلى لغة أو كان اللفظ وترجمته صحيحين لكن وقع الغلط في معرفة مراد ذلك النبي بذلك الكلام.
فإن كل ما يحتج به من الألفاظ المنقولة عن الأنبياء أنبياء بني إسرائيل وغيرهم ممن أرسل بغير اللغة العربية لا بد في الاحتجاج بألفاظه من هذه المقدمات أن يعلم اللفظ الذي قاله ويعلم ترجمته ويعلم مراده بذلك اللفظ.
والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على وقوع الغلط في تفسير بعض الألفاظ وبيان مراد الأنبياء بها وفي ترجمة بعضها، فإنك تجد بالتوراة عدة نسخ مترجمة وبينها فروق يختلف بها المعنى المفهوم وكذلك في الإنجيل وغيره فهذا الطريق في الجواب طريق عام لكل من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وشهد أنه رسول الله باطنا وظاهرا يخاطب به كل يهودي ونصراني على وجه الأرض وإن لم يكن عارفا بما عند أهل الكتاب، فإنه لا يقدر أحد من أهل الأرض يقيم دليلا صحيحا على نبوة موسى وعيسى وبطلان نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذا ممتنع لذاته بل ولا يمكنه أن يقيم دليلا صحيحا على نبوة أحدهما إلا وإقامة مثل ذلك الدليل أو أعظم منه على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أولى وحينئذ فلا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يحتج بشيء من المنقولات عن الأنبياء المخالفة لما ثبت عن محمد - صلى الله عليه وسلم - سواء أقر بنبوته أو أنكرها بل إن احتج بشيء مما نقل عن محمد - صلى الله عليه وسلم - بين له بطلان احتجاجه به وأنه حجة عليه لا له.
وإن احتج بشيء من المنقول عن غيره من الأنبياء - عليهم السلام - طولب بتقدير نبوة ذلك النبي مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلا فبتقدير أن ينقل عن اثنين ادعيا النبوة وأتيا بالآيات التي تثبت بها النبوات خبران مناقضان لا يجوز تصديق هذا وتكذيب ذاك إن لم يتبين ما يدل على صدق هذا وكذب هذا وكذلك إذا عورض أحدهما بجنس ما يعارض الآخر.
وهذا لا يرد على المسلمين إذا ردوا ما يحتج به أهل الكتاب مما ينقلونه عن الأنبياء مخالفا لخبر محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن المسلمين لا يطعنون في نبوة أحد من الأنبياء المعروفين وإنما يطعنون في أنهم أخبروا بما يخالف خبر محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن ذلك لا يثبت أي لم يثبت اللفظ والترجمة وتفسير اللفظ وهذه المقدمات يمتنع أن تقوم على شيء يخالف خبر محمد لا جملة ولا تفصيلا.
فأهل الكتاب يطالبون فيما يعارضون به بثلاث مقدمات.
أحدها: تقدير أن أولئك صادقون ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كاذب.
والثاني: ثبوت ما أتوا به لفظا.
والثالث: معرفة المراد باللفظ ترجمة وتفسيرا وإن قال الكتابي للمسلم: أنت توافقني على نبوة هؤلاء المتقدمين، إجابة المسلم بوجوه.
منها أن يقول إني لم أوافقك على نبوة واحد منهم مع التكذيب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بل دين المسلمين كلهم أنه من آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض فهو كافر فكيف بمن كفر بمن هو عند المسلمين أفضل الأنبياء وخاتمهم بل قد يقول له أكثر المسلمين نحن لم نعلم نبوة أولئك إلا بإخبار محمد أنهم أنبياء فلو قدحنا في الأصل الذي قد علمنا به نبوتهم لزم القدح في نبوتهم والفرع إذا قدح في أصله دل على فساده في نفسه سواء قدر أصله صحيحا أو فاسدا، فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو، فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو فهو إذا ناقض أصله باطل على كل تقدير.
وكذلك إذا قال: له الكتابي قد اتفقنا على تصديق موسى والتوراة والمسيح والإنجيل.
قال له المسلم إنما وافقتك على تصديق موسى وعيسى الذين بشرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ; كما أخبرنا به محمد عن الله حيث قال الله - تعالى -: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون - الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} [الأعراف: 156 - 157] الآية.
وقال - تعالى -: {وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6] إلى أمثال ذلك.
فأما الإيمان بموسى الذي ذكر أن شريعته مؤيدة لا ينسخ منها شيء أو بمسيح ادعى أنه الله أو أن الله اتحد به أو حل فيه ونحو ذلك مما يدعيه أهل الكتاب في الرسولين والكتابين ويخالفهم فيه المسلمون فهذا من موارد النزاع لا من مواقع الإجماع فليس لأحد من أهل الكتاب أن يحتج على أحد من المسلمين بموافقته له على ذلك.
ومن تمام ذلك أن يقول المسلم نعم أنا أقر بنبوة موسى والمسيح وإن التوراة والإنجيل كلام الله لكن يمتنع عقلا الإقرار بنبوة واحد من هؤلاء دون نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن البراهين والآيات والأدلة الدالة على صدق موسى والمسيح تدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى فلو انتقضت تلك الأدلة لزم فسادها وأن لا أصدق بأحد من الأنبياء وإن كانت حقا لزم تصديقهم كلهم فلزم إما أن نصدقهم كلهم وإما أن نكذبهم كلهم ولهذا كان من آمن ببعض وكذب ببعض كافرا.
ومن الأجوبة للمسلمين أن يقولوا نحن نصدق الأنبياء المتقدمين في كل ما أخبروا به لكن من نقل عنهم أنهم أخبروا بما يناقض خبر محمد فلا بد له من مقدمتين، ثبوت ذلك اللفظ عن الأنبياء والعلم بمعناه الذي يعلم أنه مناقض للمعنى الذي علم أن محمدا عناه، ثم العلم باللفظ يحتاج مع الخطاب بغير ألسن الأنبياء العربية سواء كانت عربية أو رومية أو سريانية أو قبطية إلى أن يعرف أن هذا اللفظ الذي ترجم به لفظه مطابق للفظه ويمتنع ثبوت المقدمتين ; لأن في ثبوتهما تناقض الأدلة العلمية، والأدلة العلمية لا تتناقض.
الطريق الثاني: أن يقول المسلمون: ما تذكرونه من المنقول عن الأنبياء مناقضة لما أخبر به محمد أمور لم تعلم صحتها فلا يجوز اعتقاد ثبوتها والجزم بها ولو لم يعلم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أخبر بخلافها فكيف إذا علم أنه أخبر بخلافها وذلك أن العلم بثبوتها مبني على مقدمات.
أحدها: العلم بنبوتهم وهذا ممتنع مع تكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والثانية: أنهم قالوا: هذه الألفاظ وهذا يحتاج إلى إثبات تواتر هذه الألفاظ عن الأنبياء ولم يثبت أنها تواترت عنهم.
والثالثة: أن معناها هو المعنى المناقض لخبر محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلم ذلك.
وكل واحدة من هذه المقدمات تمنع العلم بثبوت هذه المعاني المناقضة لخبر محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف إذا اجتمعت.
وهي تمنع العلم بصحتها ولو لم تناقض خبر محمد فكيف إذا ناقضته.
الطريق الثالث: طريق من يبين أن ألفاظ هذه الكتب لم تتواتر ويثبتون ذلك بانقطاع تواتر التوراة لما خرب بيت المقدس وانقطاع تواتر الإنجيل في أول الأمر.
الطريق الرابع: طريق من يبين أن بعض ألفاظ الكتب حرفت،ويقيم الأدلة الشرعية والعقلية على تبديل بعض ألفاظها.
الطريق الخامس: أن يبين أن الألفاظ التي بأيديهم لا تناقض ما أخبر به محمد بل تدل على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ويتكلم على تفسير تلك الألفاظ بأعيانها.
وهذه الطريق يسلكها من لا ينازع في ثبوت الألفاظ من المسلمين.
وأما الجمهور الذين يقولون بتبديل هذه الألفاظ فيسلكون هذه الطريق ويسلكون أيضا بيان عدم تواتر الألفاظ بل بيان التبديل في ألفاظها.
(فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ... (48)
فأمره أن يحكم بما أنزل الله على من قبله لكل جعلنا من الرسولين والكتابين شرعة ومنهاجا أي سنة وسبيلا فالشرعة الشريعة وهي السنة والمنهاج الطريق والسبيل وكان هذا بيان وجه تركه لما جعل لغيره من السنة والمنهاج إلى ما جعل له ثم أمره أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه فالأول نهى له أن يأخذ بمنهاج غيره وشرعته والثاني وإن كان حكما غير الحكم الذي أنزل نهى له أن يترك شيئا مما أنزل فيها عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فمن لم يتبعه لم يحكم بما أنزل الله وإن لم يكن من أهل الكتاب الذين أمروا أن يحكموا بما فيها مما يخالف حكمه.
(ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (51)
(فصل في ذكر أشياء من منكرات دين النصارى)
قال الشيخ - رضي الله عنه -:
ونذكر أشياء من منكرات دين النصارى لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلي ببعضها وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله. وقد بلغني أنهم يخرجون في الخميس الحقير. الذي قبل ذلك أو السبت أو غير ذلك إلى القبور. وكذلك يبخرون في هذه الأوقات وهم يعتقدون أن في البخور بركة ودفع مضرة ويعدونه من القرابين مثل الذبائح ويرقونه بنحاس يضربونه كأنه ناقوس صغير وبكلام مصنف ويصلبون على أبواب بيوتهم إلى غير ذلك من الأمور المنكرة حتى إن الأسواق تبقى مملوءة أصوات النواقيس الصغار وكلام الرقايين من المنجمين وغيرهم بكلام أكثره باطل وفيه ما هو محرم أو كفر. وقد ألقي إلى جماهير العامة أو جميعهم إلا من شاء الله وأعني بالعامة هنا: كل من لم يعلم حقيقة الإسلام فإن كثيرا ممن ينسب إلى فقه ودين قد شاركهم في ذلك ألقي إليهم أن هذا البخور المرقي ينفع ببركته من العين والسحر والأدواء والهواء.
ويصورون صور الحيات والعقارب. ويلصقونها في بيوتهم زعما أن تلك الصور الملعون فاعلها التي لا تدخل الملائكة بيتا هي فيه تمنع الهوام وهو ضرب من طلاسم الصابئة. ثم كثير منهم على ما بلغني يصلب باب البيت. ويخرج خلق عظيم في الخميس الحقير المتقدم وعلى هذا يبخرون القبور ويسمون هذا المتأخر الخميس الكبير وهو عند الله الخميس المهين الحقير هو وأهله ومن يعظمه فإن كل ما عظم بالباطل من مكان أو زمان أو حجر أو شجر أو بنية يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة وإن كانت لولا عبادتها لكانت كسائر الأحجار. ومما يفعله الناس من المنكرات: أنهم يوظفون على الفلاحين وظائف أكثره كرها؛ من الغنم والدجاج واللبن والبيض يجتمع فيها تحريمان: أكل مال المسلم والمعاهد بغير حق وإقامة شعار النصارى ويجعلونه ميقاتا لإخراج الوكلاء على المزارع ويطبخون منه ويصطبغون فيه البيض وينفقون فيه النفقات الواسعة ويزينون أولادهم إلى غير ذلك من الأمور التي يقشعر منها قلب المؤمن. الذي لم يمت قلبه بل يعرف المعروف وينكر المنكر. وخلق كثير منهم يضعون ثيابهم تحت السماء رجاء لبركة نزول مريم عليها فهل يستريب من في قلبه أدنى حبة من الإيمان أن شريعة جاءت بما قدمنا بعضه من مخالفة اليهود والنصارى. لا يرضى من شرعها ببعض هذه القبائح.
وأصل ذلك كله إنما هو اختصاص أعياد الكفار بأمر جديد أو مشابهتهم في بعض أمورهم فيوم الخميس هو عندهم يوم عيد المائدة ويوم الأحد يسمونه عيد الفصح وعيد النور والعيد الكبير. ولما كان عيدا صاروا يصنعون لأولادهم فيه البيض المصبوغ ونحوه لأنهم فيه يأكلون ما يخرج من الحيوان من لحم ولبن وبيض إذ صومهم هو عن الحيوان وما يخرج منه. وعامة هذه الأعمال المحكية عن النصارى وغيرها مما لم يحك قد زينها الشيطان لكثير ممن يرى الإسلام وجعل لها في قلوبهم مكانة وحسن ظن وزادوا في بعض ذلك ونقصوا وقدموا وأخروا. وكل ما خصت به هذه الأيام من أفعالهم وغيرها فليس للمسلم أن يشابههم في أصله ولا في وصفه. ومن ذلك أيضا أنهم يكسون بالحمرة دوابهم ويصبغون الأطعمة التي لا تكاد تفعل في عيد الله ورسوله ويتهادون الهدايا التي تكون في مثل مواسم الحج.
وعامتهم قد نسوا أصل ذلك وبقي عادة مطردة. وهذا كله تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم {لتتبعن سنن من كان قبلكم} وإذا كانت المتابعة في القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض هذه القبائح. كانت محرمة فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله من التبرك بالصليب والتعمد في المعمودية. وقول القائل: المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن: إما كون الشريعة النصرانية أو اليهودية المبدلين المنسوخين موصلة إلى الله وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله أو التدين بذلك أو غير ذلك مما هو كفر بالله ورسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة. وأصل ذلك المشابهة والمشاركة. وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية. وبعض حكم ما شرع الله لرسوله من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة الأمور؛ لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 268)
من صــ 216 الى صـ 230
فينبغي للمسلم إذا طلب منه أهله وأولاده شيئا من ذلك أن يحيلهم على ما عند الله ورسوله ويقضي لهم في عيد الله من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله ومن أغضب أهله لله أرضاه الله وأرضاهم. فليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء}. وأكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء. ففي صحيح البخاري عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة}. وروي أيضا: {هلكت الرجال حين أطاعت النساء} وقد {قال صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين لما راجعنه في تقديم أبي بكر: إنكن صواحب يوسف}. يريد أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب كما قال في الحديث الآخر: {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن}. {ولما أنشده الأعشى - أعشى باهلة - أبياته التي يقول فيها: وهن شر غالب لمن غلب جعل النبي صلى الله عليه وسلم يرددها ويقول: وهن شر غالب لمن غلب} ولذلك امتن الله سبحانه على زكريا حيث قال: {وأصلحنا له زوجه} قال بعض العلماء ينبغي للرجل أن يجتهد إلى الله في إصلاح زوجته.
وقد قال صلى الله عليه وسلم {من تشبه بقوم فهو منهم}. وقد روى البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهية الدخول على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم؛ والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم - عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن عطاء بن دينار قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه " لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط ينزل عليهم ". فهذا عمر قد نهى عن تعلم لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم فكيف من يفعل بعض أفعالهم؟ أو قصد ما هو من مقتضيات دينهم؟ أليست موافقتهم في العمل أعظم من موافقتهم في اللغة؟ أو ليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك.
ثم قوله: " اجتنبوا أعداء الله في عيدهم " أليس نهيا عن لقائهم والاجتماع بهم فيه؟ فكيف بمن عمل عيدهم وقال ابن عمر في كلام له: من صنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم. وقال عمر: اجتنبوا أعداء الله في عيدهم. ونص الإمام أحمد على أنه لا يجوز شهود أعياد اليهود والنصارى واحتج بقول الله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} قال الشعانين وأعيادهم. وقال عبد الملك بن حبيب من أصحاب مالك في كلام له قال: فلا يعاونون على شيء من عيدهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم. وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك وهو قول مالك وغيره: لم أعلم أنه اختلف فيه.
وأكل ذبائح أعيادهم داخل في هذا الذي اجتمع على كراهيته بل هو عندي أشد: وقد سئل أبو القاسم عن الركوب في السفن التي ركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم بشركهم. الذي اجتمعوا عليه وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم} فيوافقهم ويعينهم {فإنه منهم}. وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى قال: قلت لعمر: إن لي كاتبا نصرانيا قال: ما لك قاتلك الله أما سمعت الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} ألا اتخذت حنيفيا قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله.
وقال الله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} قال مجاهد: أعياد المشركين وكذلك قال الربيع بن أنس. وقال القاضي أبو يعلى (مسألة في النهي عن حضور أعياد المشركين وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة عن الضحاك في قوله: {والذين لا يشهدون الزور} قال: عيد المشركين وبإسناده عن سنان عن الضحاك {والذين لا يشهدون الزور} كلام المشركين. وروى بإسناده عن ابن سلام عن عمرو بن مرة {والذين لا يشهدون الزور} لا يماكثون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم. وقد دل الكتاب وجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع أهل العلم عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم. . . (1) إيقاد النار والفرح بها من شعار المجوس عباد النيران. والمسلم يجتهد في إحياء السنن. وإماتة البدع. ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم {اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون} وقد أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. والله سبحانه أعلم.
وسئل:
عمن يفعل من المسلمين: مثل طعام النصارى في النيروز. ويفعل سائر المواسم مثل الغطاس والميلاد وخميس العدس وسبت النور ومن يبيعهم شيئا يستعينون به على أعيادهم أيجوز للمسلمين أن يفعلوا شيئا من ذلك؟ أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك. ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك. ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينة. وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصهم.
وأما إذا أصابه المسلمون قصدا فقد كره ذلك طوائف من السلف والخلف.
وأما تخصيصه بما تقدم ذكره فلا نزاع فيه بين العلماء. بل قد ذهب طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل هذه الأمور لما فيها من تعظيم شعائر الكفر. وقال طائفة منهم: من ذبح نطيحة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيرا. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من [تأسى] (*) ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة. وفي سنن أبي داود عن ثابت بن الضحاك قال: {نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل كان فيها من وثن يعبد من دون الله من أوثان الجاهلية؟ قال: لا قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم} فلم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل أن يوفي بنذره مع أن الأصل في الوفاء أن يكون واجبا حتى أخبره أنه لم يكن بها عيد من أعياد الكفار وقال: {لا وفاء لنذر في معصية الله}.
فإذا كان الذبح بمكان كان فيه عيدهم معصية. فكيف بمشاركتهم في نفس العيد؟ بل قد شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا يظهروا أعيادهم في دار المسلمين وإنما يعملونها سرا في مساكنهم. فكيف إذا أظهرها المسلمون أنفسهم؟ حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " لا تتعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط ينزل عليهم ". وإذا كان الداخل لفرجة أو غيرها منهيا عن ذلك؛ لأن السخط ينزل عليهم. فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم مما هي من شعائر دينهم؟ وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى {والذين لا يشهدون الزور} قالوا أعياد الكفار فإذا كان هذا في شهودها من غير فعل فكيف بالأفعال التي هي من خصائصها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن أنه قال: {من تشبه بقوم فهو منهم} وفي لفظ: {ليس منا من تشبه بغيرنا} وهو حديث جيد. فإذا كان هذا في التشبه بهم وإن كان من العادات فكيف التشبه بهم فيما هو أبلغ من ذلك؟!.
وقد كره جمهور الأئمة - إما كراهة تحريم أو كراهة تنزيه - أكل ما ذبحوه لأعيادهم وقرابينهم إدخالا له فيما أهل به لغير الله وما ذبح على النصب وكذلك نهوا عن معاونتهم على أعيادهم بإهداء أو مبايعة وقالوا: إنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئا من مصلحة عيدهم لا لحما ولا دما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من دينهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك. لأن الله تعالى يقول: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}. ثم إن المسلم لا يحل له أن يعينهم على شرب الخمور بعصرها أو نحو ذلك. فكيف على ما هو من شعائر الكفر. وإذا كان لا يحل له أن يعينهم هو فكيف إذا كان هو الفاعل لذلك والله أعلم.
[النهي عن موالاة الكفار ومودتهم]
وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة: 51] وقال سبحانه: {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم} [المجادلة: 14] يعيب بذلك المنافقين الذين تولوا اليهود. . . إلى قوله: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22] إلى قوله: {أولئك حزب الله} [المجادلة: 22].
وقال تعالى:
{إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 72] إلى قوله: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 73]
إلى قوله: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} [الأنفال: 75].
فعقد سبحانه الموالاة بين المهاجرين والأنصار، وبين من آمن بعدهم وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة.
والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه والجهاد باق إلى يوم القيامة.
فكل شخص يمكن أن يقوم به هذان الوصفان، إذ كان كثير من النفوس اللينة تميل إلى هجر السيئات دون الجهاد، والنفوس القوية قد تميل إلى الجهاد دون هجر السيئات، وإنما عقد الموالاة لمن جمع الوصفين، وهم أمة محمد حقيقة.
وقال: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 55 - 56] ونظائر هذا في غير موضع من القرآن: يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقا - الذين هم حزبه وجنده - ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين ولا يوادونهم.
والموالاة والموادة: وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم.
ومشاركتهم في الظاهر: إن لم تكن ذريعة أو سببا قريبا أو بعيدا إلى نوع ما من الموالاة والموادة، فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة - كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة - ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات.
فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتبا نصرانيا قال: ما لك؟ قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [المائدة: 51] ألا اتخذت حنيفا؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه. قال:
لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله " ولما دل عليه معنى الكتاب: وجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» أمر بمخالفتهم؛ وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرا مقصودا للشارع؛ لأنه: إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود، وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط، فهو لأجل ما فيه من المخالفة فالمخالفة: إما علة مفردة أو علة أخرى، أو بعض علة، وعلى التقديرات تكون مأمورا بها مطلوبة
من الشارع؛ لأن الفعل المأمور به إذا عبر عنه. بلفظ مشتق من معنى أعم من ذلك الفعل؛ فلا بد أن يكون ما منه الاشتقاق أمرا مطلوبا، لا سيما إن ظهر لنا أن المعنى المشتق منه معنى مناسب للحكمة، كما لو قيل للضيف: أكرمه، بمعنى أطعمه، أو للشيخ الكبير: وقره، بمعنى اخفض صوتك له، أو نحو ذلك.
[وجوه الأمر بمخالفة الكفار]
وذلك لوجوه:
* أحدها أن الأمر إذا تعلق باسم مفعول مشتق من معنى كان المعنى علة للحكم، كما في قوله عز وجل: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5]
وقوله {فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 10] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني» وهذا كثير معلوم.
فإذا كان نفس الفعل المأمور به مشتقا من معنى أعم منه؛ كان نفس الطلب والاقتضاء قد علق بذلك المعنى الأعم، فيكون مطلوبا بطريق الأولى.
* الوجه الثاني: أن جميع الأفعال مشتقة، سواء كانت مشتقة من المصدر، أو كان المصدر مشتقا منها، أو كان كل منهما مشتقا من الآخر، بمعنى: أن بينهما مناسبة في اللفظ والمعنى، لا بمعنى: أن أحدهما أصل والآخر فرع، بمنزلة المعاني المتضايفة كالأبوة والبنوة أو كالأخوة من الجانبين، ونحو ذلك.
فعلى كل حال: إذا أمر بفعل كان نفس مصدر الفعل أمرا مطلوبا للآمر، مقصودا له كما في قوله: اتقوا الله و {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195] و {آمنوا بالله ورسوله} [النساء: 136] و {اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 72] و {فعليه توكلوا} [يونس: 84].
فإن نفس التقوى، والإحسان، والإيمان، والعبادة أمور مطلوبة مقصودة، بل هي نفس المأمور به.
ثم المأمور به أجناس لا يمكن أن تقع إلا معينة، وبالتعيين تقترن بها أمور غير مقصودة للآمر، لكن لا يمكن العبد إيقاع الفعل المأمور به؛ إلا مع أمور معينة له، فإنه إذا قال: {فتحرير رقبة} [النساء: 92] فلا بد إذا أعتق العبد رقبة أن يقترن بهذا المطلق تعيين: من سواد، أو بياض، أو طول، أو قصر،
أو عربية، أو عجمية، أو غير ذلك من الصفات، لكن المقصود: هو المطلق المشترك بين هذه المعينات.
وكذلك إذا قيل: اتقوا الله وخالفوا اليهود؛ فإن التقوى تارة تكون بفعل واجب: من صلاة، أو صيام، وتارة تكون بترك محرم: من كفر أو زنا، أو نحو ذلك، فخصوص ذلك الفعل إذا دخل في التقوى لم يمنع دخول غيره، فإذا رئي رجل على زنا فقيل: له اتق الله؛ كان أمرا له بعموم التقوى، داخلا فيه خصوص ترك ذلك الزنا؛ لأن سبب اللفظ العام لا بد أن يدخل فيه. كذلك إذا قيل: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " كان أمرا بعموم المخالفة، داخلا فيه المخالفة بصبغ اللحية؛، لأنه سبب اللفظ العام.
وسببه: أن الفعل فيه عموم وإطلاق لفظي ومعنوي فيجب الوفاء به، وخروجه على سبب يوجب أن يكون داخلا فيه لا يمنع أن يكون غيره داخلا فيه - وإن قيل: إن اللفظ العام يقصر على سببه - لأن العموم هاهنا من جهة المعنى - فلا يقبل من التخصيص ما يقبله العموم اللفظي.
فإن قيل: الأمر بالمخالفة أمر بالحقيقة المطلقة وذلك لا عموم فيه بل يكفي فيه المخالفة في أمر ما، وكذلك سائر ما يذكرونه فمن أين اقتضى ذلك المخالفة في غير ذلك الفعل المعين؟.
قلت: هذا سؤال قد يورده بعض المتكلمين في عامة الأفعال المأمور بها ويلبسون به على الفقهاء وجوابه من وجهين.
أحدهما: أن التقوى والمخالفة ونحو ذلك من الأسماء والأفعال المطلقة قد يكون العموم فيها من جهة عموم الكل لأجزائه لا من جهة عموم الجنس لأنواعه؛ فإن العموم ثلاثة أقسام:
1 - عموم الكل لأجزائه: وهو ما لا يصدق فيه الاسم العام، ولا أفراده على جزئه.
2 - عموم الجميع لأفراده: وهو ما يصدق فيه أفراد الاسم العام على آحاده.
3 - عموم الجنس لأنواعه وأعيانه: وهو ما يصدق فيه نفس الاسم العام على أفراده.
فالأول: عموم الكل لأجزائه في الأعيان والأفعال والصفات كما في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] فإن اسم الوجه يعم الخد والجبين والجبهة ونحو ذلك وكل واحد من هذه الأجزاء ليس هو الوجه فإذا غسل بعض هذه الأجزاء لم يكن غاسلا للوجه لانتفاء المسمى بانتفاء جزئه.
وكذلك في الصفات والأفعال إذا قيل: صل فصلى ركعة وخرج بغير سلام أو قيل: صم فصام بعض يوم لم يكن ممتثلا لانتفاء معنى الصلاة المطلقة والصوم المطلق وكذلك إذا قيل: أكرم هذا الرجل. فأطعمه وضربه لم يكن ممتثلا؛ لأن الإكرام المطلق يقتضي فعل ما يسره وترك ما يسوءه.
فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» فلو أطعمه بعض كفايته وتركه جائعا لم يكن مكرما له؛ لانتفاء أجزاء الإكرام، ولا يقال: الإكرام حقيقة مطلقة وذلك يحصل بإطعام لقمة كذلك إذا قال: خالفوهم. فالمخالفة المطلقة تنافي الموافقة في بعض الأشياء، أو في أكثرها على طريق التساوي؛ لأن المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فيكون الأمر بأحدهما نهيا عن الآخر، ولا يقال: إذا خالف في شيء ما فقد حصلت المخالفة، كما لا يقال: إذا وافقه في شيء ما فقد حصلت الموافقة.
وسر ذلك الفرق بين مفهوم اللفظ المطلق وبين المفهوم المطلق من اللفظ، فإن اللفظ يستعمل مطلقا ومقيدا.
فإذا أخذت المعنى المشترك بين جميع موارده مطلقها ومقيدها؛ كان أعم من المعنى المفهوم منه عند إطلاقه وذلك المعنى المطلق يحصل بحصول بعض مسميات اللفظ في أي استعمال حصل من استعمالاته المطلقة والمقيدة.
وأما معناه في حال إطلاقه فلا يحصل بعض معانيه عند التقييد بل يقتضي أمورا كثيرة لا يقتضيها اللفظ المقيد.
فكثيرا ما يغلط الغالطون هنا. ألا ترى أن الفقهاء يفرقون بين الماء المطلق وبين المائية المطلقة الثابتة في المني والمتغيرات وسائر المائعات، فأنت تقول عند التقييد: أكرم الضيف بإعطاء هذا الدرهم. فهذا إكرام مقيد، فإذا قلت: أكرم الضيف. كنت آمرا بمفهوم اللفظ المطلق وذلك يقتضي أمورا
لا تحصل بحصول إعطاء درهم فقط.
، وأما القسم الثاني من العموم فهو عموم الجميع لأفراده كما يعم قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] كل مشرك.
والقسم الثالث من أقسام العموم: عموم الجنس لأعيانه كما يعم قوله: «لا يقتل مسلم بكافر» جميع أنواع القتل والمسلم والكافر.
__________
Q (1) بياض بالأصل
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 269)
من صــ 231 الى صـ 245
إذا تبين هذا فالمخالفة المطلقة لا تحصل بالمخالفة في شيء ما إذا كانت الموافقة قد حصلت في أكثر منه وإنما تحصل بالمخالفة في جميع الأشياء أو في غالبها، إذ المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فلا يجتمعان، بل الحكم للغالب وهذا تحقيق جيد، لكنه مبني على مقدمة وهو أن المفهوم من لفظ المخالفة عند الإطلاق، يعم المخالفة في عامة الأمور الظاهرة، فإن خفي هذا في هذا الموضع المعين فخذ في:
الوجه الثاني وهو العموم المعنوي وهو أن المخالفة مشتقة، فإنما أمر بها لمعنى كونها مخالفة، كما تقدم تقريره وذلك ثابت في كل فرد من أفراد المخالفة فيكون العموم ثابتا من جهة المعنى المعقول، وبهذين الطريقين يتقرر العموم في قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر: 2] وغير ذلك من الأفعال.
وإن كان أكثر الناس إنما يفزعون إلى الطريق الثاني وقل منهم من يتفطن للطريق الأول وهو أبلغ إذا صح.
ثم نقول: هب أن الإجزاء يحصل بما يسمى مخالفة، لكن الزيادة على القدر المجزئ مشروعة؛ إذا كان الأمر مطلقا كما في قوله: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] ونحو ذلك من الأوامر المطلقة.
الوجه الثالث في أصل التقرير أن عدول الأمر عن لفظ الفعل الخاص به إلى لفظ أعم منه معنى كعدوله عن لفظ: أطعمه. إلى لفظ: أكرمه. وعن لفظ: فاصبغوا إلى لفظ: فخالفوهم لا بد له من فائدة، وإلا فمطابقة اللفظ للمعنى أولى من إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص، وليست هنا فائدة تظهر إلا تعلق القصد بذلك المعنى العام المشتمل على هذا الخاص وهذا بين عند التأمل.
الوجه الرابع: أن العلم بالعام عاما يقتضي العلم بالخاص، والقصد العام عاما يوجب القصد للمعنى الخاص، فإنك إذا علمت أن كل مسكر خمر، وعلمت أن النبيذ مسكر، كان علمك بذلك الأمر العام وبحصوله في الخاص موجبا لعلمك بوصف الخاص كذلك إذا كان قصدك طعاما مطلقا، أو مالا مطلقا، وعلمت وجود طعام معين أو مال معين في مكان حصل قصدك له إذ العلم والقصد يتطابقان في مثل هذا والكلام يبين مراد المتكلم ومقصوده.
فإذا أمر بفعل باسم دال على معنى عام مريدا به فعلا خاصا كان ما ذكرناه من الترتيب الحكمي يقتضي أنه قاصد بالأول لذلك المعنى العام وأنه إنما قصد ذلك الفعل الخاص لحصوله به.
ففي قوله: أكرمه. طلبان طلب للإكرام المطلق وطلب لهذا الفعل الذي يحصل به الفعل المطلق؛ وذلك؛ لأن حصول المعين مقتض لحصول المطلق، وهذا معنى صحيح، إذا صادف فطنة من الإنسان وذكاء؛ انتفع به في كثير من المواضع وعلم به طريق البيان والدلالة.
بقي أن يقال هذا يدل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وهذا صحيح لكن قصد الجنس قد يحصل الاكتفاء فيه بالمخالفة في بعض الأمور، فما زاد على ذلك لا حاجة إليه. قلت: إذا ثبت أن الجنس مقصود في الجملة كان ذلك حاصلا في كل فرد من أفراده ولو فرض أن الوجوب سقط بالبعض؛ لم يرفع حكم الاستحباب عن الباقي.
وأيضا فإن ذلك يقتضي النهي عن موافقتهم؛ لأن من قصد
مخالفتهم بحيث أمر بإحداث فعل يقتضي مخالفتهم فيما لم تكن الموافقة فيه من فعلنا، ولا قصدنا كيف لا ينهانا عن أن نفعل فعلا فيه موافقتهم سواء قصدنا موافقتهم أو لم نقصدها.
الوجه الخامس: أنه رتب الحكم على الوصف بحرف الفاء فيدل هذا على أنه علة له من غير وجه حيث قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم. فإنه يقتضي أن علة الأمر بهذه المخالفة كونهم لا يصبغون فالتقدير: اصبغوا؛ لأنهم لا يصبغون وإذا كان علة الأمر بالفعل عدم فعلهم له دل على أن قصد المخالفة لهم ثابت بالشرع، وهو المطلوب يوضح ذلك أنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ لم يكن لذكرهم فائدة، ولا حسن تعقيبه به، وهذا وإن دل على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع فذلك لا ينفي أن يكون في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم فإن هنا شيئين:
أحدهما: أن نفس المخالفة لهم في الهدى الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب
المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان.
والثاني: أن نفس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون مضرا أو منقصا فينهى عنه، ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة، وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص، فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال، ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملا قط، فإذا المخالفة فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورهم حتى ما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم قد يكون مضرا بأمر الآخرة أو بما هو أهم منه من أمر الدنيا لمخالفة فيه صلاح لنا.
وبالجملة فالكفر بمنزلة مرض القلب وأشد ومتى كان القلب مريضا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة، وإنما الصلاح أن لا تشبه
مريض القلب في شيء من أموره، وإن خفي عليك مرض ذلك العضو لكن يكفيك أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع، ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله فإن من في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته، أو يتوهم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلو في الأرض، ولعمري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء، ولكن ملك هو غاية صلاح من أطاعه من العباد في معاشهم ومعادهم.
وحقيقة الأمر: أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم منفعة بها.
ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام، لاستحق بذلك ثواب الآخرة، ولكن كل أموره إما فاسدة وإما ناقصة، فالحمد لله على نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم، وأم كل خير كما يحب ربنا ويرضى.
فقد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة، ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول: ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب، لا يتشبه بأهل الكتاب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا بأهل الكتاب».
وقال إسحاق بن إبراهيم سمعت أبا عبد الله يقول لأبي
: يا أبا هاشم اخضب ولو مرة واحدة، أحب لك أن تخضب، ولا تشبه باليهود.
وهذا اللفظ الذي احتج به أحمد قد رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود.». قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقد رواه النسائي من حديث محمد بن كناسة عن هشام بن عروة عن عثمان بن
عروة عن أبيه عن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود» ورواه أيضا من حديث عروة عن عبد الله بن عمر لكن قال النسائي: كلاهما ليس بمحفوظ.
وقال الدارقطني المشهور عن عروة مرسلا.
وهذا اللفظ دل على الأمر بمخالفتهم والنهي عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بيض الشيب الذي ليس من فعلنا، فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى، ولهذا كان هذا التشبه يكون محرما بخلاف الأول.
وأيضا ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحى». رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه فأمر بمخالفة المشركين مطلقا ثم قال: «أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى». وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى، فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات كقوله تعالى: {يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} [البقرة: 49] فهذا الذبح والاستحياء هو سوء العذاب كذلك هنا هذا هو المخالفة للمشركين المأمور بها هنا لكن الأمر بها أولا بلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وإن عينت هنا في هذا الفعل فإن تقديم المخالفة علة تقدم العام على الخاص كما يقال: أكرم ضيفك: أطعمه، وحادثه. فأمرك بالإكرام أولا دليل على أن إكرام الضيف مقصود، ثم عينت الفعل الذي يكون إكراما في ذلك الوقت.
والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله: لا يصبغون فخالفوهم. وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس».
فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع، وهو العلة في هذا الحكم، أو علة أخرى،
أو بعض علة، وإن كان الأظهر عند الإطلاق: أنه علة تامة؛ ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس، في هذا وغيره، كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدى المجوس.
وقال المروذي سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن حلق القفا فقال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
وقال أيضا: قيل لأبي عبد الله: يكره للرجل أن يحلق قفاه، أو وجهه. فقال: أما أنا فلا أحلق قفاي.
وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة
كراهيته وقال: إن حلق القفا من فعل المجوس.
قال وكان أبو عبد الله يحلق قفاه وقت الحجامة.
وقال أحمد أيضا: لا بأس أن يحلق قفاه وقت الحجامة.
وقد روى عنه ابن منصور قال: سألت أحمد عن حلق القفا فقال: لا أعلم فيه حديثا إلا ما يروى عن إبراهيم أنه كره قردا يرقوس وذكر الخلال هذا وغيره.
وذكره أيضا بإسناده عن الهيثم بن حميد قال: حف القفا من شكل المجوس.
وعن المعتمر بن سليمان التيمي قال: كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه. قيل له: لم؟ قال: كان يكره أن يتشبه بالعجم.
والسلف تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب، وتارة بالتشبيه بالأعاجم، وكلا العلتين منصوصة في السنة مع أن الصادق صلى الله عليه وسلم قد أخبر بوقوع المشابهة لهؤلاء وهؤلاء كما قدمنا بيانه.
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا
اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم» رواه أبو داود.
وهذا مع أن نزع اليهود نعالهم مأخوذ عن موسى عليه السلام لما قيل له: {فاخلع نعليك} [طه: 12].
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر» رواه مسلم في صحيحه.
وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون».
وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى.
وإذا كان مخالفتهم سببا لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة.
وهكذا روى أبو داود من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا
المغرب إلى أن تشتبك النجوم» ورواه ابن ماجه من حديث العباس ورواه الإمام أحمد من حديث السائب بن يزيد.
وقد جاء مفسرا تعليله: لا يزالون بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى طلوع النجم مضاهاة لليهودية، ويؤخروا الفجر إلى
محاق النجوم مضاهاة للنصرانية.
قال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الصلت بن بهرام عن الحارث بن وهب عن أبي عبد الرحمن الصنابحي
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي على مسكة ما لم ينتظروا بالمغرب اشتباك النجوم مضاهاة لليهودية ولم ينتظروا بالفجر محاق النجوم مضاهاة للنصرانية ولم يكلوا الجنائز إلى أهلها».
وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط عن أبيه عن ليلى
امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فنهاني عنه بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك وقال: «إنما يفعل ذلك النصارى، صوموا كما أمركم الله وأتموا الصوم كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا». وقد رواه أحمد في المسند.
فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم النصارى وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها.
وعن حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه: «أن اليهود كانوا إذا
حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اصنعوا كل شيء إلا النكاح. فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا
فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجد عليهما» رواه مسلم.
فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه.
ثم إن المخالفة كما سنبينه تارة تكون في أصل الحكم وتارة في وصفه.
ومجانبة الحائض: لم يخالفوا في أصله بل خولفوا في وصفه حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى، فلما أراد بعض الصحابة أن يعتدي في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله، تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الباب - باب الطهارة - كان على اليهود فيه أغلال عظيمة فابتدع النصارى ترك ذلك كله حتى
إنهم لا ينجسون شيئا، بلا شرع من الله فهدى الله الأمة الوسط بما شرعه لها إلى وسط من ذلك وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضا مشروعا، فاجتناب ما لم يشرع الله اجتنابه مقاربة لليهود وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي أمامة عن «عمرو بن عبسة قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة فإنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، قال: فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال أنا نبي. فقلت: وما نبي؟ قال أرسلني الله. فقلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء. فقلت له: من معك على هذا؟ قال: حر وعبد. قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال فقلت: إني متبعك. قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني. قال فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم نفر من أهل يثرب من أهل المدينة. فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك. فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت يا رسول الله، أتعرفني قال: نعم، أنت الذي لقيتني بمكة. قال: فقلت: يا نبي الله، أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة قال: صل
صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار» وذكر الحديث رواه مسلم.
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب، معللا بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان وأنه حينئذ يسجد لها الكفار.
ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان ولا أن الكفار يسجدون لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسما لمادة المشابهة بكل طريق، ويظهر بعض فائدة ذلك بأن من الصابئة المشركين اليوم ممن يظهر الإسلام ويعظم الكواكب، ويزعم أنه يخاطبها بحوائجه، ويسجد لها وينحر ويذبح.
وقد صنف بعض المنتسبين إلى الإسلام في مذهب المشركين من الصابئة والبراهمة كتبا في عبادة الكواكب توسلا بذلك زعموا إلى مقاصد دنيوية من الرئاسة وغيرها وهي من السحر الذي كان عليه الكنعانيون الذين ملوكهم النماردة الذين بعث الله الخليل صلوات الله وسلامه عليه بالحنيفية وإخلاص الدين كله لله إلى هؤلاء المشركين.
فإذا كان في هذه الأزمنة من يفعل مثل هذا، تحققت حكمة الشارع
صلوات الله وسلامه عليه في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، سدا للذريعة وكان فيه تنبيه على أن كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها، مما يكون كفرا أو معصية بالنية، ينهى المؤمنون عن ظاهره وإن لم يقصدوا به قصد المشركين سدا للذريعة وحسما للمادة.
ومن هذا الباب أنه صلى الله عليه وسلم، كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمدا.
ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة، وإن لم يكن العابد يقصد ذلك، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل وإن لم يقصد الساجد ذلك لما فيه من مشابهة السجود لغير الله، فانظر كيف قطعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات وكما لا يصلى إلى القبلة التي يصلون إليها كذلك لا يصلى إلى ما يصلون له بل هذا أشد فسادا، فإن القبلة
شريعة من الشرائع قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء، أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله كما قال سبحانه وتعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45].
وأيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلا يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال له: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون وفي رواية تلك صلاة المغضوب عليهم وفي رواية «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده». رواهن أبو داود.
ففي هذا الحديث النهي عن هذه الجلسة معللا بأنها جلسة المعذبين، وهذه مبالغة في مجانبة هديهم.
وأيضا فروى البخاري عن مسروق عن عائشة أنها كانت تكره
أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله ورواه أيضا من حديث أبي هريرة قال: «نهى عن الخصر في الصلاة» وفي لفظ: «نهى أن يصلي الرجل مختصرا.» قال وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين
عن أبي هريرة نهى النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا رواه مسلم في صحيحه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن زياد بن صبيح قال: «صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه.» رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
وأيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا». رواه مسلم وأبو داود من حديث الليث
عن أبي الزبير عن جابر. .
ورواه أبو داود وغيره من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: «ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا بالمدينة فصرعه على جذم نخلة فانقطعت قدمه، فأتيناه نعوده، فوجدناه في مشربة لعائشة يسبح جالسا. قال: فقمنا خلفه، فسكت عنا، ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالسا، فقمنا خلفه، فأشار إلينا فقعدنا. قال: فلما قضى الصلاة. قال: إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا وإذا صلى الإمام قائما فصلوا قياما، ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها» وأظن في غير رواية أبي داود «ولا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا».
ففي هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم، في قيامهم وهم قعود.
ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه وهذا
تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد، ونهى أيضا عما يشبه ذلك، وإن لم يقصد به ذلك، ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل، وعن الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله، كالنار ونحوها.
وفي هذا الحديث أيضا نهى عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم لقوله فلا تفعلوا. فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية.
ثم هذا الحديث سواء كان محكما في قعود الإمام أو منسوخا فإن الحجة منه قائمة؛ لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها مثل كون القيام فرضا في الصلاة فلا يسقط الفرض بمجرد المشابهة الصورية، وهذا محل اجتهاد، وأما المشابهة الصورية إذا لم تسقط فرضا كانت تلك العلة التي علل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمة عن معارض أو نسخ؛ لأن القيام في الصلاة ليس بمشابهة في الحقيقة فلا يكون محذورا فالحكم إذا علل بعلة، ثم نسخ مع بقاء العلة، فلا بد من أن يكون غيرها ترجح عليها وقت الناسخ أو ضعف تأثيرها أما أن تكون في نفسها باطلة فهذا محال هذا كله لو كان الحكم هنا منسوخا فكيف، والصحيح أن هذا الحديث محكم قد عمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونهم علموا صلاته في مرضه.
وقد استفاض عنه صلى الله عليه وسلم الأمر به استفاضة صحيحة صريحة يمتنع معها أن يكون حديث المرض ناسخا له على ما هو مقرر في غير هذا الموضع إما بجواز الأمرين إذ فعل القيام لا ينافي فعل القعود، وإما بالفرق بين المبتدئ للصلاة قاعدا والصلاة التي ابتدأها الإمام قائما لعدم دخول
هذه الصلاة في قوله. وإذا صلى قاعدا ولعدم المفسدة التي علل بها، ولأن بناء فعل آخر الصلاة على أولها أولى من بنائها على صلاة الإمام ونحو ذلك من الأمور المذكورة في غير هذا الموضع.
وأيضا فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبر فقال: هكذا نصنع يا محمد. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: خالفوهم. رواه أبو داود وابن
ماجه والترمذي وقال: بشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث.
قلت: قد اختلف العلماء في القيام للجنازة إذا مرت ومعها إذا شيعت، وأحاديث الأمر بذلك كثيرة مستفيضة ومن اعتقد نسخها أو نسخ القيام للمارة فعمدته حديث علي وحديث عبادة هذا.
وإن كان القول بهما ممكنا؛ لأن المشيع يقوم لها حتى توضع عن أعناق الرجال لا في اللحد فهذا الحديث إما أن يقال به جمعا بينه وبين غيره، أو ناسخا لغيره وقد علل المخالفة ومن لا يقول به يضعفه، وذلك لا يقدح في الاستشهاد والاعتضاد به على جنس المخالفة.
وقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم كان يمشي بين يدي الجنازة، ولا يقوم لها ويخبر عن عائشة قالت: كان أهل الجاهلية يقومون لها، يقولون إذا رأوها: كنت في أهلك ما كنت. مرتين فقد استدل من كره القيام بأنه كان من فعل الجاهلية وليس ال غرض هنا الكلام في عين هذه المسألة.
وأيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أهل السنن الأربعة» وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللحد لنا والشق لغيرنا» رواه أحمد وابن ماجه وفي رواية لأحمد: «والشق لأهل
الكتاب.» وهو مروي من طرق فيها لين لكن يصدق بعضها بعضا.
وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب حتى في وضع الميت في أسفل القبر.
(ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ... (54)
فإن قيل: قوله تبارك وتعالى {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} هو خطاب لذلك القرن كقوله تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم}. ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أهل اليمن الذين دخلوا في الإسلام لما ارتد من ارتد من العرب: ويدل على ذلك أنه في آخر الأمر لا يبقى مؤمن. قيل: قوله تبارك وتعالى {يا أيها الذين آمنوا} خطاب لكل من بلغه القرآن من المؤمنين كسائر أنواع هذا الخطاب كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} وأمثالها. وكذلك قوله تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم}. وكلاهما وقع ويقع كما أخبر الله عز وجل.
فإنه ما ارتد عن الإسلام طائفة إلا أتى الله بقوم يحبهم يجاهدون عنه وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة. يبين ذلك أنه ذكر هذا في سياق النهي عن موالاة الكفار فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} - إلى قوله - {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}. فالمخاطبون بالنهي عن موالاة اليهود والنصارى هم المخاطبون بآية الردة. ومعلوم أن هذا يتناول جميع قرون الأمة. وهو لما نهى عن موالاة الكفار وبين أن من تولاهم من المخاطبين فإنه منهم بين أن من تولاهم وارتد عن دين الإسلام لا يضر الإسلام شيئا.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 270)
من صــ 246 الى صـ 260
بل سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه فيتولون المؤمنين دون الكفار ويجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم كما قال في أول الأمر {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين}. فهؤلاء الذين لم يدخلوا في الإسلام وأولئك الذين خرجوا منه بعد الدخول فيه - لا يضرون الإسلام شيئا. بل يقيم الله من يؤمن بما جاء به رسوله وينصر دينه إلى قيام الساعة. وأهل اليمن هم ممن جاء الله بهم لما ارتد من ارتد إذ ذاك. وليست الآية مختصة بهم ولا في الحديث ما يوجب تخصيصهم. بل قد أخبر الله أنه يأتي بغير أهل اليمن كأبناء فارس لا يختص الوعد بهم. بل قد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} وهذا أيضا خطاب لكل قرن وقد أخبر فيه أنه من نكل عن الجهاد المأمور به عذبه واستبدل به من يقوم بالجهاد. وهذا هو الواقع.
[فصل البرهان الخامس والعشرون " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " والجواب عليه]
فصل
قال الرافضي: " البرهان الخامس والعشرون: قوله تعالى:
{فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [سورة المائدة: 54] قال الثعلبي: إنما نزلت في علي، وهذا يدل على أنه أفضل، فيكون هو الإمام ".
والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كذب على الثعلبي، فإنه قال في تفسيره [في] هذه الآية: " قال علي وقتادة والحسن: إنهم أبو بكر وأصحابه. وقال مجاهد: هم أهل اليمن ". وذكر حديث عياض بن غنم: أنهم أهل اليمن، وذكر الحديث: " «أتاكم أهل اليمن» ". فقد نقل الثعلبي أن عليا فسر هذه الآية بأنهم أبو بكر وأصحابه.
وأما أئمة التفسير، فروى الطبري عن المثنى، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا سيف بن عمر، عن أبي روق، [عن الضحاك]، عن أبي أيوب، عن علي [في قوله: {ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه} [سورة المائدة: 54] قال: علم الله المؤمنين، ووقع معنى السوء على الحشو الذي فيهم [من] المنافقين ومن في علمه أن يرتدوا، فقال: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله}: المرتدة في دورهم، {بقوم يحبهم ويحبونه}: بأبي بكر وأصحابه - رضي الله عنهم -.
وذكر بإسناده هذا القول عن قتادة والحسن والضحاك وابن جريج، وذكر قوم أنهم الأنصار، وعن آخرين أنهم أهل اليمن، ورجح هذا الآخر وأنهم رهط أبي موسى، قال: " ولولا صحة الخبر بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان القول عندي [في ذلك] إلا قول من قال: هم أبو بكر وأصحابه " قال: " لما ارتد المرتدون جاء الله بهؤلاء على عهد عمر - رضي الله عنه -.
الثاني: أن هذا قول بلا حجة، فلا يجب قبوله.
الثالث: أن هذا معارض بما هو أشهر منه وأظهر، وهو أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه، الذين قاتلوا معه أهل الردة. وهذا هو المعروف [عند الناس] كما تقدم. لكن هؤلاء الكذابون أرادوا أن يجعلوا الفضائل التي جاءت في أبي بكر يجعلونها لعلي، وهذا من المكر السيئ الذي لا يحيق إلا بأهله.
وحدثني الثقة من أصحابنا أنه اجتمع بشيخ أعرفه، وكان فيه دين وزهد وأحوال معروفة لكن كان فيه تشيع. قال: وكان عنده كتاب يعظمه، ويدعي أنه من الأسرار، وأنه أخذه من خزائن الخلفاء، وبالغ في وصفه. فلما أحضره، فإذا به كتاب قد كتب بخط حسن، وقد عمدوا إلى الأحاديث التي في البخاري ومسلم جميعها في فضائل أبي بكر وعمر ونحوهما جعلوها لعلي. ولعل هذا الكتاب كان من خزائن بني عبيد المصريين، فإن خواصهم كانوا ملاحدة زنادقة غرضهم قلب الإسلام، وكانوا قد وضعوا من الأحاديث المفتراة التي يناقضون بها الدين ما لا يعلمه إلا الله.
ومثل هؤلاء الجهال يظنون أن الأحاديث التي في البخاري ومسلم إنما أخذت عن البخاري ومسلم، كما يظن مثل ابن الخطيب ونحوه ممن لا يعرف حقيقة الحال، وأن البخاري ومسلما كان الغلط يروج عليهما، أوكانا يتعمدان الكذب، ولا يعلمون أن قولنا: رواه البخاري ومسلم علامة لنا على [ثبوت] صحته، لا أنه كان صحيحا بمجرد رواية البخاري ومسلم، بل أحاديث البخاري ومسلم رواها غيرهما من العلماء والمحدثين من لا يحصي عدده إلا الله، ولم ينفرد واحد منهما بحديث، بل ما من حديث إلا وقد رواه قبل زمانه وفي زمانه وبعد زمانه طوائف، ولو لم يخلق البخاري ومسلم لم ينقص من الدين شيء، وكانت تلك الأحاديث موجودة بأسانيد يحصل بها المقصود وفوق المقصود.
وإنما قولنا: رواه البخاري ومسلم كقولنا: قرأه القراء السبعة. والقرآن منقول بالتواتر، لم يختص هؤلاء السبعة بنقل شيء منه، وكذلك التصحيح لم يقلد أئمة الحديث فيه البخاري ومسلما، بل جمهور ما صححاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقى بالقبول، وكذلك في عصرهما وكذلك بعدهما قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما، ووافقوهما على تصحيح ما صححاه، إلا مواضع يسيرة، نحو عشرين حديثا، غالبها في مسلم، انتقدها عليهما طائفة من الحفاظ، وهذه
المواضع المنتقدة غالبها في مسلم، وقد انتصر طائفة لهما فيها، وطائفة قررت قول المنتقدة.
والصحيح التفصيل ; فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب، مثل حديث أم حبيبة، وحديث خلق الله البرية يوم السبت، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر.
وفيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري، فإنه أبعد الكتابين عن الانتقاد، ولا يكاد يروي لفظا فيه انتقاد، إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد، فما في كتابه لفظ منتقد، إلا وفي كتابه ما يبين أنه منتقد.
وفي الجملة من نقد سبعة آلاف درهم، فلم يرج عليه فيها إلا دراهم يسيرة، ومع هذا فهي مغيرة ليست مغشوشة محضة، فهذا إمام في صنعته. والكتابان سبعة آلاف حديث وكسر.
والمقصود أن أحاديثهما انتقدها الأئمة الجهابذة قبلهم وبعدهم، ورواها خلائق لا يحصي عددهم إلا الله، فلم ينفردا لا برواية ولا بتصحيح، والله - سبحانه وتعالى - هو الكفيل بحفظ هذا الدين، كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [سورة الحجر: 9].
وهذا مثل غالب المسائل التي توجد في الكتب المصنفة في مذاهب الأئمة مثل القدوري والتنبيه والخرقي والجلاب، غالب ما فيها إذا قيل: ذكره فلان، علم أنه مذهب ذلك الإمام، وقد نقل ذلك سائر أصحابه، وهم خلق كثير ينقلون مذهبه بالتواتر.
وهذه الكتب فيها مسائل انفرد بها بعض أهل المذهب، وفيها نزاع بينهم، لكن غالبا هو قول أهل المذهب. وأما البخاري ومسلم فجمهور ما فيهما اتفق عليه أهل العلم بالحديث، الذين هم أشد عناية بألفاظ الرسول وضبطا لها ومعرفة بها من أتباع الأئمة لألفاظ أئمتهم، وعلماء الحديث أعلم بمقاصد الرسول [في ألفاظه] من أتباع الأئمة بمقاصد أئمتهم، والنزاع بينهم في ذلك أقل من تنازع أتباع الأئمة في مذاهب أئمتهم.
والرافضة - لجهلهم - يظنون أنهم إذا قبلوا ما في نسخة من ذلك، وجعلوا فضائل الصديق لعلي، أن ذلك يخفى على أهل العلم، الذين حفظ الله بهم الذكر.
الرابع: أن يقال: إن الذي تواتر عند الناس أن الذي قاتل أهل الردة هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي قاتل مسيلمة الكذاب المدعي للنبوة وأتباعه بني حنيفة وأهل اليمامة. قد قيل: كانوا نحو مائة ألف أو أكثر، وقاتل طليحة الأسدي، وكان قد ادعى النبوة بنجد، واتبعه من أسد وتميم وغطفان ما شاء الله، ادعت النبوة سجاح، امرأة تزوجها مسيلمة الكذاب، فتزوج الكذاب بالكذابة.
وأيضا فكان من العرب من ارتد عن الإسلام، ولم يتبع متنبئا كذابا.
ومنهم قوم أقروا بالشهادتين، لكن امتنعوا من أحكامهما كمانعي الزكاة. وقصص هؤلاء مشهورة متواترة يعرفها كل من له بهذا الباب أدنى معرفة.
والمقاتلون للمرتدين [هم من الذين يحبهم الله ويحبونه]، وهم أحق الناس بالدخول في هذه الآية، وكذلك الذين قاتلوا سائر الكفار من الروم والفرس. وهؤلاء أبو بكر وعمر ومن اتبعهما من أهل اليمن وغيرهم. ولهذا روي أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هؤلاء، فأشار إلى أبي موسى الأشعري، وقال: " هم قوم هذا ".
فهذا أمر يعرف بالتواتر والضرورة: أن الذين أقاموا الإسلام وثبتوا عليه حين الردة، وقاتلوا المرتدين والكفار، هم داخلون في قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} [سورة المائدة: 54].
وأما علي - رضي الله عنه - فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله، لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان، ولا * كان جهاده للكفار والمرتدين أعظم من جهاد هؤلاء، ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم * مما حصل بهؤلاء، بل كل منهم له سعي مشكور وعمل مبرور وآثار صالحة في الإسلام، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير جزاء، فهم
الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون.
وأما أن يأتي إلى أئمة الجماعة الذين كان نفعهم في الدين والدنيا أعظم، فيجعلهم كفارا أو فساقا ظلمة، ويأتي إلى من لم يجر على يديه من الخير مثل ما جرى على يد واحد منهم، * فيجعله الله أو شريكا لله، أو شريك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو الإمام المعصوم الذي لا يؤمن إلا من * جعله معصوما منصوصا عليه، ومن خرج عن هذا فهو كافر، ويجعل الكفار المرتدين الذي قاتلهم أولئك كانوا مسلمين، ويجعل المسلمين الذين يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، ويحجون البيت، ويؤمنون بالقرآن يجعلهم كفارا لأجل قتال هؤلاء.
فهذا عمل أهل الجهل والكذب والظلم والإلحاد في دين الإسلام، عمل من لا عقل له ولا دين ولا إيمان.
والعلماء دائما يذكرون أن الذي ابتدع الرفض كان زنديقا ملحدا، مقصوده إفساد [دين] الإسلام. ولهذا [صار] الرفض مأوى الزنادقة الملحدين من الغالية والمعطلة، كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم.
وأول الفكرة آخر العمل، فالذي ابتدع الرفض كان مقصوده إفساد
دين الإسلام، ونقض عراه، وقلعه بعروشه آخرا، لكن صار يظهر منه ما يكنه من ذلك، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وهذا معروف عن ابن سبأ وأتباعه، وهو الذي ابتدع النص في علي، وابتدع أنه معصوم. فالرافضة الإمامية هم أتباع المرتدين، وغلمان الملحدين، وورثة المنافقين، لم يكونوا أعيان المرتدين الملحدين.
الوجه الخامس: أن يقال: هب أن الآية نزلت في علي، أيقول القائل: أنها مختصة به، ولفظها يصرح بأنهم جماعة؟ قال تعالى: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [سورة المائدة: 54] إلى قوله: {لومة لائم}. أفليس هذا صريحا في أن هؤلاء ليسوا رجلا، فإن الرجل لا يسمى قوما في لغة العرب: لا حقيقة ولا مجازا.
ولو قال: المراد هو وشيعته.
لقيل: إذا كانت الآية أدخلت مع علي غيره، فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفار والمرتدين أحق بالدخول فيها ممن لم يقاتل إلا أهل القبلة، فلا ريب أن أهل اليمن، الذين قاتلوا مع أبي بكر وعمر وعثمان أحق بالدخول فيها من الرافضة، الذين يوالون اليهود والنصارى والمشركين، ويعادون السابقين الأولين.
فإن قيل: الذين قاتلوا مع علي كان كثير منهم من أهل اليمن.
قيل: والذين قاتلوه أيضا كان كثير منهم من أهل اليمن. فكلا العسكرين كانت اليمانية والقيسية فيهم كثيرة جدا، وأكثر أذواء اليمن كانوا مع معاوية، كذي كلاع وذي عمرو، وذي رعين، ونحوهم. وهم الذين يقال لهم: الذوين.
كما قال الشاعر:
وما أعني بذلك أصغريهم ... ولكني أريد به الذوينا.
الوجه السادس: قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} لفظ مطلق، ليس فيه تعيين. وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائنا ما كان، لا يختص ذلك بأبي بكر ولا بعلي. وإذا لم يكن مختصا بإحداهما، لم يكن هذا من خصائصه، فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه، فضلا عن أن يستوجب بذلك الإمامة.
بل هذه الآية تدل على أنه لا يرتد أحد [عن الدين] إلى يوم القيامة إلا أقام الله قوما يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون هؤلاء المرتدين.
والردة قد تكون عن أصل الإسلام، كالغالية من النصيرية والإسماعيلية، فهؤلاء مرتدون باتفاق أهل السنة والشيعة، وكالعباسية.
وقد تكون الردة عن بعض الدين، كحال أهل البدع الرافضة وغيرهم. والله تعالى يقيم قوما يحبهم ويحبونه، ويجاهدون من ارتد عن الدين، أو عن بعضه، كما يقيم من يجاهد الرافضة المرتدين عن الدين، أو عن بعضه، في كل زمان.
والله سبحانه المسئول أن يجعلنا من الذين يحبهم ويحبونه، الذين يجاهدون المرتدين [وأتباع المرتدين]، ولا يخافون لومة لائم.
(فصل في الرد على من قال: إن المراد بمحبة الله محبة التقرب إليه)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
ومن قال: إن المراد بمحبة الله محبة التقرب إليه فقوله متناقض؛ فإن محبة التقرب إليه تبع لمحبته. فمن أحب الله نفسه أحب التقرب إليه ومن كان لا يحبه نفسه امتنع أن يحب التقرب إليه. وأما من كان لا يطيعه ولا يمتثل أمره إلا لأجل غرض آخر فهو في الحقيقة إنما يحب ذلك الغرض الذي عمل لأجله وقد جعل طاعة الله وسيلة إليه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الجنة؟ ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة} ". فأخبر أن النظر إليه أحب إليهم من كل ما يتنعمون به ومحبة النظر إليه تبع لمحبته فإنما أحبوا النظر إليه لمحبتهم إياه وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله وطمأنينة بذكره وتنعما بمعرفته ولذة وسرورا بذكره ومناجاته. وذلك يقوى ويضعف ويزيد وينقص بحسب إيمان الخلق. فكل من كان إيمانه أكمل كان تنعمه بهذا أكمل.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وغيره: {حبب إلي من دنياكم النساء والطيب - ثم قال - وجعلت قرة عيني في الصلاة} وكان صلى الله عليه وسلم يقول {أرحنا بالصلاة يا بلال} وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن عباده المؤمنين يحبونه وهو يحبهم سبحانه وتعالى وحبهم له بحسب فعلهم لما يحبه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها. فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه}.
فقد بين أن العبد إذا تقرب إلى الله بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الله فحب الله لعبده بحسب فعل العبد لما يحبه الله. وما يحبه الله من عبادته وطاعته فهو تبع لحب نفسه وحبه ذلك هو سبب حب عباده المؤمنين فكان حبه للمؤمنين تبعا لحب نفسه. فالمؤمنون وإن كانوا يحمدون ربهم ويثنون عليه فهم لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك. وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك} وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال {لا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه}. {وقال له الأسود بن سريع: إني حمدت ربي بمحامد فقال إن ربك يحب الحمد} فهو يحب حمد العباد له وحمده لنفسه أعظم من حمد العباد له ويحب ثناءهم عليه وثناؤه على نفسه أعظم من ثنائهم عليه. وكذلك حبه لنفسه وتعظيمه لنفسه فهو سبحانه أعلم بنفسه من كل أحد وهو الموصوف بصفات الكمال التي لا تبلغها عقول الخلائق فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 271)
من صــ 261 الى صـ 275
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أنه قرأ على المنبر {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه}. قال يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك أنا القدوس أنا السلام أنا المؤمن أنا المهيمن أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا أنا الذي أعيدها} وفي رواية {يمجد الرب نفسه سبحانه} فهو يحمد نفسه ويثني عليها ويمجد نفسه سبحانه وتعالى وهو الغني بنفسه لا يحتاج إلى أحد غيره بل كل ما سواه فقير إليه {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن} وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
فإذا فرح بتوبة التائب وأحب من تقرب إليه بالنوافل ورضي عن السابقين الأولين ونحو ذلك لم يجز أن يقال: هو مفتقر في ذلك إلى غيره ولا مستكمل بسواه فإنه هو الذي خلق هؤلاء وهو الذي هداهم وأعانهم حتى فعلوا ما يحبه ويرضاه ويفرح به. فهذه المحبوبات لم تحصل إلا بقدرته ومشيئته وخلقه فله الملك لا شريك له وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون. فهذا ونحوه يحتج به الجمهور الذين يثبتون لأفعاله حكمة تتعلق به يحبها ويرضاها ويفعل لأجلها.
(فصل: أصل المحبة هو معرفة الله سبحانه وتعالى ولها أصلان)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأصل المحبة هو معرفة الله سبحانه وتعالى ولها أصلان:
أحدهما: وهو الذي يقال له محبة العامة لأجل إحسانه إلى عباده وهذه المحبة على هذا الأصل لا ينكرها أحد فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها والله سبحانه هو المنعم المحسن إلى عبده بالحقيقة فإنه المتفضل بجميع النعم وإن جرت بواسطة؛ إذ هو ميسر الوسائط ومسبب الأسباب ولكن هذه المحبة في الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة الله نفسه فما أحب العبد في الحقيقة إلا نفسه وكذلك كل من أحب شيئا لأجل إحسانه إليه فما أحب في الحقيقة إلا نفسه. وهذا ليس بمذموم بل محمود. وهذه المحبة هي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم {أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهلي بحبي} والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة الله ما يستوجب أنه يحبه إلا إحسانه إليه وهذا كما قالوا: إن الحمد لله على " نوعين ":
" حمد " هو شكر وذلك لا يكون إلا على نعمته.
و " حمد " هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه سبحانه فكذلك الحب فإن الأصل الثاني فيه هو محبته لما هو له أهل وهذا حب من عرف من الله ما يستحق أن يحب لأجله وما من وجه من الوجوه التي يعرف الله بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إلا وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولاته إذ كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل ولهذا استحق أن يكون محمودا على كل حال ويستحق أن يحمد على السراء والضراء وهذا أعلى وأكمل وهذا حب الخاصة.
وهؤلاء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم ويتلذذون بذكره ومناجاته ويكون ذلك لهم أعظم من الماء للسمك حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من الألم ما لا يطيقون وهم السابقون كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال {مر النبي صلى الله عليه وسلم بجبل يقال له: حمدان فقال: سيروا هذا حمدان سبق المفردون قالوا: يا رسول الله من المفردون؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات} وفي رواية أخرى قال: {المستهترون بذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون الله يوم القيامة خفافا} والمستهتر بذكر الله يتولع به ينعم به كلف لا يفتر منه.
وفي حديث هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {قال موسى يا رب أي عبادك أحب إليك؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني قال: أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يطلب علم الناس إلى علمه ليجد كلمة تدله على هدى أو ترده عن رديء قال أي عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما يحكم لنفسه} فذكر في هذا الحديث الحب والعلم والعدل وذلك جماع الخير.
ومما ينبغي التفطن له أنه لا يجوز أن يظن في باب محبة الله تعالى ما يظن في محبة غيره مما هو من جنس التجني والهجر والقطيعة لغير سبب ونحو ذلك مما قد يغلط فيه طوائف من الناس حتى يتمثلون في حبه بجنس ما يتمثلون به في حب من يصد ويقطع بغير ذنب أو يبعد من يتقرب إليه وإن غلط في ذلك من غلط من المصنفين في رسائلهم حتى يكون مضمون كلامهم إقامة الحجة على الله بل لله الحجة البالغة. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة}. وفي بعض الآثار يقول الله تعالى: {أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيارتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي وإن تابوا فأنا حبيبهم} - لأن الله يحب التوابين - {وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب حتى أطهرهم من المعائب}.
وقد قال تعالى {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} قالوا: الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره والهضم أن ينقص من حسنات نفسه. وقال تعالى: {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله تعالى: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم.
يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه}.
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55) ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56)
وقد وضع بعض الكذابين حديثا مفترى، أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة، وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل، وكذبه بين من وجوه كثيرة.
منها أن قوله الذين صيغة جمع. وعلي واحد.
ومنها أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك لكان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع. فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة.
ومنها أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب، وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجب ولا مستحب، باتفاق علماء الملة، فإن الصلاة شغلا.
ومنها أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير الركوع، بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن.
ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم، فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة.
ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل، والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور، لا ينتظر أن يسأله سائل.
ومنها أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار، والأمر بموالاة المؤمنين، كما يدل عليه سياق الكلام، وسيجيء إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذه الآية، فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم، كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة، وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة.
والرافضة مخالفون لها، والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار، من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبوعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهذا أمر مشهور.
[فصل: في المنهج الثاني عند الرافضي في الأدلة من القرآن على إمامة علي رضي الله عنه]
[البرهان الأول " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " والجواب عليه]
قال الرافضي: " المنهج الثاني: في الأدلة المأخوذة من القرآن، والبراهين الدالة على إمامة علي من الكتاب العزيز كثيرة.
الأول: قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} [سورة المائدة: 55] وقد أجمعوا أنها نزلت في علي. قال الثعلبي في إسناده إلى أبي ذر: قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهاتين وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول: "علي قائد البررة، وقاتل الكفرة، فمنصور من نصره، ومخذول من خذله " أما إني صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما) صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحد شيئا، فرفع السائل يده إلى السماء، وقال: " اللهم إنك تشهد أني) سألت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعطني أحد شيئا، وكان علي راكعا، فأومأ بخنصره اليمنى، وكان متختما فيها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم، وذلك بعين النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء، وقال: " اللهم إن موسى سألك وقال: {رب اشرح لي صدري - ويسر لي أمري - واحلل عقدة من لساني - يفقهوا قولي - واجعل لي وزيرا من أهلي - هارون أخي - اشدد به أزري - وأشركه في أمري} [سورة طه: 25 - 32] فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا} [سورة القصص: 35]. اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرا من أهلي، عليا اشدد به ظهري " قال أبو ذر: " فما استتم كلام [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال: يا محمد اقرأ.
قال: وما أقرأ؟ قال: اقرأ: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} [سورة المائدة: 55] ".
ونقل الفقيه ابن المغازلي الواسطي الشافعي أن هذه نزلت في علي، والولي هو المتصرف، وقد أثبت له الولاية في الآية، كما أثبتها الله تعالى لنفسه ولرسوله ".
والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: " ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا، بل كل ما ذكره كذب وباطل، من جنس السفسطة. وهو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة ; فإن البرهان في القرآن وغيره يطلق على ما يفيد العلم واليقين، كقوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [سورة البقرة: 111].
وقال تعالى: {أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء
والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [سورة النمل: 64].
فالصادق لا بد له من برهان على صدقه، والصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم.
وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب، فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة، فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل. وسنبين - إن شاء الله تعالى - عند كل واحدة منها ما يبين كذبها، فتسمية هذه براهين من أقبح الكذب.
ثم إنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس، مع أنه قد يكون كذبا عليه، وإن كان صدقا فقد خالفه أكثر الناس. فإن كان قول الواحد [الذي] لم يعلم صدقه، وقد خالفه الأكثرون برهانا، فإنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله، فتتعارض البراهين فتتناقض، والبراهين لا تتناقض.
بل سنبين - إن شاء الله تعالى - قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين، وأن الكذب في عامتها كذب ظاهر،
لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه، وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق، وأن القرآن حق، وأن دين الإسلام حق - تناقض ما ذكره من البراهين، فإن غاية ما يدعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب، وتأمل لوازمه وجده يقدح في الإيمان والقرآن والرسول.
وهذا لأن أصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين، مقصودهم الطعن في القرآن والرسول ودين الإسلام، فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام، وروجوها على أقوام، فمنهم من كان صاحب هوى وجهل، فقبلها لهواه، ولم ينظر في حقيقتها. ومنهم من كان له نظر فتدبرها، فوجدها تقدح في [حق] الإسلام، فقال بموجبها، وقدح بها في دين الإسلام، إما لفساد اعتقاده في الدين، وإما لاعتقاده أن هذه صحيحة وقدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام.
ولهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب، فإن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلطوا به على الطعن في الإسلام، وصارت شبها عند من لم [يعلم] أنه كذب، وكان عنده خبرة بحقيقة الإسلام.
وضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية والنصيرية، وغيرهم من الزنادقة الملاحدة المنافقين. وكان مبدأ ضلالهم تصديق الرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن والحديث، كأئمة العبيديين إنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ; ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضلال، ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة، إلى القدح في علي، ثم في النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم في الإلهية، كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم. ولهذا كان الرفض أعظم باب ودهليز إلى الكفر والإلحاد.
***
ثم نقول: ثانيا: الجواب عن هذه الآية حق من وجوه: الأول: أنا نطالبه بصحة هذا النقل، أو لا يذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة ; فإن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبي، أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات، الصادقين في نقلها، ليس بحجة باتفاق أهل العلم، إن لم نعرف ثبوت إسناده، وكذلك إذا روى فضيلة لأبي بكر وعمر، لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم.
فالجمهور - أهل السنة - لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته: لا حكما، ولا فضيلة، ولا غير ذلك. وكذلك الشيعة.
وإذا كان هذا بمجرده ليس بحجة باتفاق [الطوائف] كلها، بطل الاحتجاج به. وهكذا القول في كل ما نقله وعزاه إلى أبي نعيم أو الثعلبي أو النقاش أو ابن المغازلي ونحوهم.
الثاني: قوله: " قد أجمعوا أنها نزلت في علي " من أعظم الدعاوى الكاذبة، بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه، وأن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة، وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع.
وأما ما نقله من تفسير الثعلبي، فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي أمامة في فضل تلك السورة، وكأمثال ذلك. ولهذا يقولون: " هو كحاطب ليل ".
وهكذا الواحدي تلميذه، وأمثالهما من المفسرين: ينقلون الصحيح والضعيف.
ولهذا لما كان البغوي عالما بالحديث، أعلم به من الثعلبي والواحدي، وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبي، لم يذكر في تفسيره شيئا من الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي، ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبي، مع أن الثعلبي فيه خير ودين، لكنه لا خبرة له بالصحيح من الأحاديث، ولا يميز بين السنة والبدعة في كثير من الأقوال.
وأما أهل العلم الكبار: أهل التفسير، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وبقي بن مخلد، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، وأمثالهم - فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات.
دع من هو أعلم منهم، مثل تفسير أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. بل ولا يذكر مثل هذا عند ابن حميد ولا عبد الرزاق، مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع، ويروي كثيرا من فضائل علي، وإن كانت ضعيفة ; لكنه أجل قدرا من أن يروي مثل هذا الكذب الظاهر.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 272)
من صــ 276 الى صـ 295
وقد أجمع أهل العلم بالحديث إلى أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد، من جنس الثعلبي والنقاش والواحدي، وأمثال هؤلاء المفسرين ; لكثرة ما يروونه من الحديث ويكون ضعيفا، بل موضوعا. فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى، لم يجز أن نعتمد عليه ; لكون الثعلبي وأمثاله رووه، فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب؟!.
وسنذكر - إن شاء الله تعالى - ما يبين كذبه عقلا ونقلا، وإنما المقصود هنا
بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله، حيث قال: " * قد أجمعوا أنها نزلت في علي " فيا ليت شعري من نقل هذا الإجماع من أهل العلم والعالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور؟ *. فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يقبل من غير أهل العلم بالمنقولات، وما فيها من إجماع واختلاف.
فالمتكلم والمفسر والمؤرخ ونحوهم، لو ادعى أحدهم نقلا مجردا بلا إسناد ثابت لم يعتمد عليه، فكيف إذا ادعى إجماعا؟!.
الوجه الثالث: أن يقال: هؤلاء المفسرون الذين نقل من كتبهم، هم - ومن هم أعلم منهم - قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدعى، والثعلبي [قد نقل] في تفسيره أن ابن عباس يقول: نزلت في أبي بكر. ونقل عن عبد الملك: قال: سألت أبا جعفر، قال: هم المؤمنون. قلت: فإن ناسا يقولون: هو علي. قال: فعلي من الذين آمنوا. وعن الضحاك مثله.
وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه قال: حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثنا معاوية [بن صالح]، حدثنا علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه، قال: " كل من آمن فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا ". قال: وحدثنا أبو سعيد الأشج، عن المحاربي، عن عبد الملك بن
أبي سليمان، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن هذه الآية، فقال: " هم الذين آمنوا ". قلت: نزلت [في علي؟ قال: علي من الذين آمنوا]. وعن السدي مثله.
الوجه الرابع: أنا نعفيه من الإجماع، ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح. وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبي إسناده ضعيف، فيه رجال متهمون. وأما نقل ابن المغازلي الواسطي فأضعف وأضعف، فإن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب على من له أدنى معرفة بالحديث، والمطالبة بإسناد يتناول هذا وهذا.
الوجه الخامس: أن يقال: لو كان المراد بالآية أن يؤتي الزكاة حال ركوعه، كما يزعمون أن عليا تصدق بخاتمه في الصلاة ; لوجب أن يكون
ذلك شرطا في الموالاة، وأن لا يتولى المسلمون إلا عليا وحده، فلا يتولى الحسن ولا الحسين ولا سائر بني هاشم. وهذا خلاف إجماع المسلمين.
الوجه السادس: أن قوله: " الذين " صيغة جمع ; فلا يصدق على علي وحده.
الوجه السابع: أن الله تعالى لا يثني على الإنسان [إلا] بما هو محمود عنده: إما واجب، وإما مستحب. والصدقة والعتق والهدية والهبة والإجارة والنكاح والطلاق، وغير ذلك من العقود في الصلاة، ليست واجبة ولا مستحبة باتفاق المسلمين، بل كثير منهم يقول: إن ذلك يبطل الصلاة وإن لم يتكلم، بل تبطل بالإشارة المفهمة. وآخرون يقولون: لا يحصل الملك بها لعدم الإيجاب الشرعي. ولو كان هذا مستحبا ; لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله ويحض عليه أصحابه، ولكان علي يفعله في غير هذه الواقعة.
فلما لم يكن شيء من ذلك، علم أن التصدق في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة، وإعطاء السائل لا يفوت، فيمكن المتصدق إذا سلم أن يعطيه، وإن في الصلاة لشغلا.
الوجه الثامن: أنه لو قدر أن هذا مشروع في الصلاة، لم يختص بالركوع، بل يكون في القيام والقعود أولى منه في الركوع، فكيف يقال: لا ولي [لكم] إلا الذين يتصدقون في كل الركوع. فلو تصدق المتصدق
في حال القيام والقعود: أما كان يستحق هذه الموالاة؟.
فإن قيل: هذه أراد بها التعريف بعلي على خصوصه.
قيل له: أوصاف علي التي يعرف بها كثيرة ظاهرة، فكيف يترك تعريفه بالأمور المعروفة، ويعرفه بأمر لا يعرفه إلا من سمع هذا وصدقه؟.
وجمهور الأمة لم تسمع هذا الخبر، ولا [هو] في شيء من كتب المسلمين المعتمدة: لا الصحاح، ولا السنن، ولا الجوامع، ولا المعجمات، ولا شيء من الأمهات. فأحد الأمرين لازم: إن قصد به المدح بالوصف فهو باطل، وإن قصد به التعريف فهو باطل.
الوجه التاسع: أن يقال: قوله: {ويؤتون الزكاة وهم راكعون} على قولهم يقتضي أن يكون قد أتى الزكاة في حال ركوعه. وعلي - رضي الله عنه - لم يكن ممن تجب عليه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان فقيرا، وزكاة الفضة إنما تجب على من ملك النصاب حولا، وعلي لم يكن من هؤلاء.
الوجه العاشر: أن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزئ عند كثير من
الفقهاء، إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحلي. وقيل: إنه يخرج من جنس الحلي، ومن جوز ذلك بالقيمة، فالتقويم في الصلاة متعذر، والقيم تختلف باختلاف الأحوال.
الوجه الحادي عشر: أن هذه الآية بمنزلة قوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} [سورة البقرة: 43] هذا أمر بالركوع.
وكذلك قوله: {يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [سورة آل عمران: 43] وهذا أمر بالركوع.
قد قيل: ذكر ذلك ليبين أنهم يصلون الجماعة ; لأن المصلي في الجماعة إنما يكون مدركا للركعة بإدراك ركوعها، بخلاف الذي لم يدرك إلا السجود، فإنه قد فاتته الركعة. وأما القيام فلا يشترط فيه الإدراك.
وبالجملة " الواو " إما واو الحال، وإما واو العطف. والعطف هو الأكثر، وهي المعروفة في مثل هذا الخطاب. وقوله إنما يصح إذا كانت واو الحال، فإن لم يكن ثم دليل على تعيين ذلك بطلت الحجة، [فكيف إذا كانت الأدلة تدل على خلافه؟!].
الوجه الثاني عشر: أنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير، خلفا عن سلف، أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار، والأمر بموالاة المؤمنين ; لما كان بعض المنافقين، كعبد الله بن أبي، يوالي اليهود، ويقول: إني أخاف الدوائر. فقال بعض المؤمنين، وهو عبادة بن الصامت: إني
يا رسول الله، أتولى الله ورسوله، وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.
ولهذا لما جاءتهم بنو قينقاع وسبب تآمرهم عبد الله بن أبي بن سلول، فأنزل الله هذه الآية، يبين فيها وجوب موالاة المؤمنين عموما، وينهى عن موالاة الكفار عموما. وقد تقدم كلام الصحابة والتابعين أنها عامة لا تختص بعلي.
الوجه الثالث عشر: أن سياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبر القرآن، فإنه قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [سورة المائدة: 51]. فهذا نهي عن موالاة اليهود والنصارى.
ثم قال: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده} إلى قوله: {فأصبحوا خاسرين} [سورة المائدة: 52 - 53]. فهذا وصف الذين في قلوبهم مرض، الذين يوالون الكفار كالمنافقين.
ثم قال: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } [سورة المائدة: 54] فذكر فعل المرتدين وأنهم لن يضروا الله شيئا، وذكر من يأتي به بدلهم.
ثم قال: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}. {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [سورة المائدة: 55 - 56].
فتضمن هذا الكلام ذكر أحوال من دخل في الإسلام من المنافقين، وممن يرتد عنه، وحال المؤمنين الثابتين عليه ظاهرا وباطنا.
فهذا السياق، مع إتيانه أتى بصيغة الجمع، مما يوجب لمن تدبر ذلك علما يقينا لا يمكنه دفعه عن نفسه: أن الآية عامة في كل المؤمنين المتصفين بهذه الصفات، لا تختص بواحد بعينه: لا أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا غيرهم. لكن هؤلاء أحق الأمة بالدخول فيها.
الوجه الرابع عشر: أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يعلم أنها كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن عليا ليس قائدا لكل البررة، بل لهذه الأمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا هو أيضا قاتلا لكل الكفرة، بل قتل بعضهم، كما قتل غيره بعضهم. وما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار، إلا وهو قاتل لبعض الكفرة.
وكذلك قوله: " "منصور من نصره، مخذول من خذله" " هو خلاف
الواقع. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقا، لا سيما على قول الشيعة ; فإنهم يدعون أن الأمة كلها خذلته إلى قتل عثمان.
ومن المعلوم أن الأمة كانت منصورة في أعصار الخلفاء الثلاثة، نصرا لم يحصل لها بعده مثله. ثم لما قتل عثمان، وصار الناس ثلاثة أحزاب: حزب نصره وقاتل معه، وحزب قاتلوه، وحزب خذلوه لم يقاتلوا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء - لم يكن الذين قاتلوا معه منصورين على الحزبين الآخرين ولا على الكفار، بل أولئك الذين نصروا عليهم، وصار الأمر لهم ; لما تولى معاوية، فانتصروا على الكفار، وفتحوا البلاد، إنما كان علي منصورا كنصر أمثاله في قتال الخوارج والكفار.
والصحابة الذين قاتلوا الكفار والمرتدين كانوا منصورين نصرا عظيما، فالنصر وقع كما وعد الله به حيث قال: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [سورة غافر: 51].
فالقتال الذي كان بأمر الله وأمر رسوله من المؤمنين للكفار والمرتدين والخوارج، كانوا فيه منصورين [نصرا عظيما] إذا اتقوا وصبروا، فإن التقوى والصبر من تحقيق الإيمان الذي علق به النصر.
وأيضا فالدعاء الذي ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب التصدق بالخاتم من أظهر الكذب. فمن المعلوم أن الصحابة أنفقوا في سبيل الله وقت الحاجة إليه، ما هو أعظم قدرا ونفعا من إعطاء سائل خاتما.
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " "ما نفعني مال كمال أبي بكر" "، " "إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا".
وقد "تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم" ".
والإنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام أعظم من صدقة على سائل محتاج. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " "لا تسبوا أصحابي ; فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" " أخرجاه في الصحيحين.
قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} [سورة الحديد: 10].
فكذلك الإنفاق الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه.
وأما إعطاء السؤال لحاجتهم فهذا البر يوجد مثله إلى يوم القيامة. فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل تلك النفقات العظيمة النافعة الضرورية لا يدعو بمثل هذا الدعاء، فكيف يدعو به لأجل إعطاء خاتم لسائل قد يكون كاذبا في سؤاله؟.
ولا ريب أن هذا ومثله من كذب جاهل أراد أن يعارض ما ثبت لأبي بكر بقوله: {وسيجنبها الأتقى - الذي يؤتي ماله يتزكى - وما لأحد عنده من نعمة تجزى - إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى - ولسوف يرضى} [سورة الليل: 17 - 21]. بأن يذكر لعلي شيئا من هذا الجنس، فما أمكنه أن يكذب أنه فعل ذلك في أول الإسلام، فكذب هذه الأكذوبة التي لا تروج إلا على مفرط في الجهل.
وأيضا فكيف يجوز أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة والنصرة -: واجعل لي وزيرا من أهلي، عليا اشدد به ظهري، مع أن الله قد أعزه بنصره وبالمؤمنين، كما قال تعالي: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} [سورة الأنفال: 62]، وقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40].
فالذي كان معه حين نصره الله ; {إذ أخرجه الذين كفروا}، هو أبو بكر وكانا اثنين الله ثالثهما، وكذلك لما كان يوم بدر ; لما صنع له عريش كان الذي دخل معه في العريش دون سائر الصحابة أبو بكر، وكل من الصحابة له في نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعي مشكور وعمل مبرور.
وروي أنه "لما جاء علي بسيفه يوم أحد، قال لفاطمة: اغسليه يوم أحد
غير ذميم. فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن تك أحسنت فقد أحسن فلان وفلان وفلان" " فعدد جماعة من الصحابة.
ولم يكن لعلي اختصاص بنصر النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أمثاله، ولا عرف موطن احتاج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه إلى معونة علي وحده، لا باليد ولا باللسان، ولا كان إيمان الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاعتهم له لأجل علي، بسبب دعوة علي لهم، وغير ذلك من الأسباب الخاصة، كما كان هارون وموسى، فإن بني إسرائيل كانوا يحبون هارون جدا ويهابون موسى، وكان هارون يتألفهم.
والرافضة تدعي أن الناس كانوا يبغضون عليا، وأنهم لبغضهم له لم يبايعوه. فكيف يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتاج إليه، كما احتاج موسى إلى هارون؟.
وهذا أبو بكرالصديق أسلم على يديه ستة أو خمسة من العشرة: عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة. ولم يعلم أنه أسلم على يد علي وعثمان وغيرهما أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
ومصعب بن عمير هو الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة لما بايعه الأنصار ليلة العقبة، وأسلم على يده رءوس الأنصار كسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته، وأسيد بن حضير وغير هؤلاء.
وكان أبو بكر يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو معه الكفار إلى الإسلام في الموسم، ويعاونه معاونة عظيمة في الدعوة، بخلاف غيره. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: " "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" ".
وقال: " "أيها الناس إني جئت إليكم، فقلت: إني رسول الله، فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت. فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ " ".
ثم إن موسى دعا بهذا الدعاء قبل أن يبلغ الرسالة إلى الكفار ليعاون عليها. ونبينا - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الرسالة لما بعثه الله: بلغها وحده، وأول من آمن به باتفاق أهل الأرض أربعة، أول من آمن به من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد.
وكان أنفع الجماعة في الدعوه باتفاق الناس أبو بكر، ثم خديجة ; لأن أبا بكر هو أول رجل حر بالغ آمن به باتفاق الناس، وكان له قدر عند قريش لما كان فيه من المحاسن، فكان أمن الناس عليه في صحبته وذات يده. ومع هذا فما دعا الله أن يشد أزره بأحد: لا بأبي بكر ولا بغيره،بل قام مطيعا لربه، متوكلا عليه، صابرا له، كما أمره بقوله: {قم فأنذر}. {وربك فكبر}. {وثيابك فطهر}. {والرجز فاهجر}. {ولا تمنن تستكثر}. {ولربك فاصبر} [سورة المدثر: 2 - 7] وقال: {فاعبده وتوكل عليه} [سورة هود: 123].
فمن زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل الله - عز وجل - أن يشد أزره بشخص من الناس، كما سأل موسى أن يشد أزره بهارون، فقد افترى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبخسه حقه. ولا ريب أن الرفض مشتق من الشرك والإلحاد والنفاق، لكن تارة يظهر [لهم] ذلك فيه وتارة يخفى.
الوجه الخامس عشر: أن يقال: غاية ما في الآية أن المؤمنين عليهم موالاة الله ورسوله والمؤمنين، فيوالون عليا. ولا ريب أن موالاة علي واجبة على كل مؤمن، كما يجب على كل مؤمن مولاة أمثاله من المؤمنين.
قال تعالى: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} [سورة التحريم: 4]. فبين الله أن كل صالح من المؤمنين فهو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله مولاه، وجبريل مولاه، وليس في كون الصالح من المؤمنين مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما أن الله مولاه، وجبريل مولاه، أن يكون صالح المؤمنين متوليا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا متصرفا فيه.
وأيضا فقد قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}
[سورة التوبة: 71]، فجعل كل مؤمن وليا لكل مؤمن. وذلك لا يوجب أن يكون أميرا عليه معصوما، لا يتولى عليه إلا هو.
وقال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. {الذين آمنوا وكانوا يتقون} [سورة يونس: 62 - 63]، فكل مؤمن تقي فهو ولي لله، والله وليه. كما قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا} [سورة البقرة: 257] وقال: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} [سورة محمد: 11] وقال: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا} إلى قوله: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [سورة الأنفال: 72 - 75].
فهذه النصوص كلها ثبتت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأن هذا ولي هذا، وهذا ولي هذا، وأنهم أولياء الله، وأن الله وملائكته والمؤمنين موالي رسوله، كما أن الله ورسوله والذين آمنوا هم أولياء المؤمنين. وليس في شيء من هذه النصوص أن من كان وليا للآخر كان أميرا عليه دون غيره، وأنه يتصرف فيه دون سائر الناس.
الوجه السادس عشر: أن الفرق بين " الولاية " بالفتح و " الولاية " بالكسر معروف ; فالولاية ضد العداوة، وهي المذكوره في هذه النصوص، ليست هي الولاية بالكسر التي هي الإمارة. وهؤلاء الجهال يجعلون الولي هو الأمير، ولم يفرقوا بين الولاية والولاية. والأمير يسمى الوالي لا يسمى
الولي، ولكن قد يقال: هو ولي الأمر، كما يقال: وليت أمركم، ويقال: أولو الأمر.
وأما إطلاق القول بالمولى وإراده الولي، فهذا لا يعرف، بل يقال في الولي: المولى، ولا يقال الوالي. ولهذا قال الفقهاء: إذا اجتمع في الجنازة الوالي والولي، فقيل: يقدم الوالي، وهو قول أكثرهم. وقيل: يقدم الولي.
فبين أن الولاية دلت على الموالاة، المخالفة للمعاداة، الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض. وهذا مما يشترك فيه الخلفاء الأربعة، وسائر أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان. فكلهم بعضهم أولياء بعض، ولم تدل الآية على أحد منهم يكون أميرا على غيره، بل هذا باطل من وجوه كثيرة، إذ لفظ " الولي " و " الولاية " غير لفظ " الوالي ". والآية عامة في المؤمنين، والإمارة لا تكون عامة.
الوجه السابع عشر: أنه لو أراد الولاية التي هي الإمارة لقال: إنما يتولى عليكم الله ورسوله والذين آمنوا، ولم يقل: ومن يتولى الله ورسوله ; فإنه لا يقال لمن ولي عليهم وال: إنهم يقولون: تولوه، بل يقال: تولى عليهم.
الوجه الثامن عشر: أن الله - سبحانه وتعالى - لا يوصف بأنه متول على عباده وأنه أمير عليهم، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، فإنه خالقهم ورازقهم، وربهم ومليكهم، له الخلق والأمر، ولا يقال: إن الله أمير المؤمنين، كما يسمى المتولي، مثل علي وغيره: أمير المؤمنين بل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضا لا يقال إنه متول على الناس، وإنه أمير عليهم، فإن قدره أجل من هذا. بل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لم يكونوا يسمونه إلا خليفة رسول الله وأول من سمي من الخلفاء " أمير المؤمنين " هو عمر - رضي الله عنه -.
وقد روي أن عبد الله بن جحش كان أميرا في سرية، فسمي أمير المؤمنين، لكن إمارة خاصة في تلك السرية، لم يسم أحد بإمارة المؤمنين عموما قبل عمر، وكان خليقا بهذا الاسم.
وأما الولاية المخالفة للعداوة فإنه يتولى عباده المؤمنين ; فيحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، ومن عادى له وليا فقد بارزه بالمحاربة. وهذه الولاية من رحمته وإحسانه، ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجته إليه.
قال تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل} [سورة الإسراء: 111]. فالله تعالى ليس له ولي من الذل، بل هو القائل: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} [سورة فاطر: 10] بخلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه لذاته، إذا لم يكن له ولي ينصره.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 273)
من صــ 296 الى صـ 310
الوجه التاسع عشر: أنه ليس كل من تولى عليه إمام عادل يكون من حزب الله، ويكون غالبا ; فإن أئمة العدل يتولون على المنافقين والكفار، كما كان في مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت حكمه ذميون ومنافقون. وكذلك كان تحت ولاية علي كفار ومنافقون. والله تعالى يقول: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [سورة المائدة: 56] ; فلو أراد الإمارة لكان المعنى: إن كل من تأمر عليهم الذين آمنوا يكونون من حزبه الغالبين، وليس كذلك. وكذلك الكفار والمنافقون تحت أمر الله الذي هو قضاؤه وقدره، مع كونه لا يتولاهم بل يبغضهم.
(قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (60)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ.
منها قوله: {وعبد الطاغوت} والصواب عطفه على قوله: {من لعنه الله} فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية؛ لكن المتقدمة الفاعل الله مظهرا أو مضمرا وهذا الفعل اسم من عبد الطاغوت وهو الضمير في عبد ولم يعد حرف (من) لأن هذه الأفعال لصنف واحد وهم اليهود.
(وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين (64)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
قال: {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله} فهذا اللفظ أصله أن المحاربين يوقدون نارا يجتمع إليها أعوانهم وينصرون وليهم على عدوهم فلا تتم محاربتهم إلا بها فإذا طفئت لم يجتمع أمرهم ثم صار هذا كما تستعمل الأمثال في كل محارب بطل كيده كما يقال: يداك أوكتا وفوك نفخ ومعناه أنت الجاني على نفسك. وكما يقال: الصيف ضيعت اللبن معناه: فرطت وقت الإمكان. وهذه الألفاظ كان لها معنى خاص نقلت بعرف الاستعمال إلى معنى أعم من ذلك وصار يفهم منها ذلك عند الإطلاق لغلبة الاستعمال ولا يفهم منها خصوص معناها الأول كسائر الألفاظ التي نقلها أهل العرف إلى أعم من معناها مثل لفظ الرقبة والرأس في قوله: {فتحرير رقبة} وقد يقال: إن هذا من باب دلالة اللزوم فإن تحرير العنق يستلزم تحرير سائر البدن؛ ولهذا تنازع الفقهاء إذا قال: يدك حر إن دخلت الدار؛ فقطعت يده ثم دخل الدار: هل يعتق؟ على وجهين بناء على أنه من باب السراية أو من باب العبادة. والصحيح أنه من باب العبادة ومعناه: أنت حر إن فعلت كذا والحقيقة الحرفية والشرعية معلومة في اللغة.
[فصل: الجواب عن شبهة النصارى في إقرار المسلمين في الصفات وأنه لا يقتضي التشبيه والتجسيم]
قال الحاكي عنهم: فقلت لهم: إنهم يقولون لنا: إذا كان اعتقادكم في الباري - تعالى - أنه واحد، فما حملكم على أن تقولوا: أب وابن وروح قدس، فتوهمون السامعين أنكم تعتقدون في الله ثلاثة أشخاص مركبة، أو ثلاثة آلهة، أو ثلاثة أجزاء، وأن له ابنا، ويظن من لا يعرف اعتقادكم أنكم تريدون بذلك ابن المباضعة والتناسل، فتطرقون على أنفسكم تهمة أنتم منها بريئون؟
قالوا: وهم أيضا، لما كان اعتقادهم في الباري جلت عظمته أنه غير ذي جسم، وغير ذي جوارح وأعضاء، وغير محصور في مكان، فما حملهم على أن يقولوا: إن له عينين يبصر بهما، ويدين يبسطهما، وساقا، ووجها يوليه إلى كل مكان، وجنبا، وأنه يأتي في ظلل من الغمام، فيوهمون السامعين أن الله ذو جسم وذو أعضاء وجوارح، وأنه ينتقل من مكان إلى مكان في ظلل من الغمام، فيظن من لا يعرف اعتقادهم أنهم يجسمون الباري، حتى إن قوما منهم اعتقدوا ذلك واتخذوه مذهبا، ومن لم يتحقق اعتقادهم يتهمهم بما هم بريئون منه.
قال: فقلت لهم: إنهم يقولون: إن العلة في قولهم هذا، أن الله له عينان ويدان ووجه وساق وجنب، وأنه يأتي في ظلل من الغمام، فهو أن القرآن نطق به، وأن ذلك غير ظاهر اللفظ، وكل من يحمل ذلك على ظاهر اللفظ ويعتقد أن الله له عينان ويدان ووجه وجنب وجوارح وأعضاء، وأن ذاته تنتقل، فهم يلعنونه ويكفرونه، فإذا كفروا من يعتقد هذا، فليس لمخالفيهم أن يلزموهم هذا بعد أن لا يعتقدوه.
قالوا: وكذلك نحن أيضا النصارى، العلة في قولنا: إن الله ثلاثة أقانيم: أب، وابن، وروح قدس، أن الإنجيل نطق به، والمراد بالأقانيم: غير الأشخاص المركبة والأجزاء والأبعاض وغير ذلك مما يقتضي الشرك والتكثير، وبالأب والابن غير أبوة وبنوة نكاح أو تناسل، أو جماع أو مباضعة.
وكل من يعتقد أن الثلاثة أقانيم ثلاثة آلهة مختلفة، أو ثلاثة آلهة متفقة، أو ثلاثة أجسام مؤلفة، أو ثلاثة أجزاء متفرقة، أو ثلاثة أشخاص مركبة، أو أعراض، أو قوى، أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه، أو بنوة نكاح، أو تناسل، أو مباضعة، أو جماع، أو ولادة زوجة، أو من بعض الأجسام، أو من بعض الملائكة، أو من بعض المخلوقين، فنحن نلعنه ونكفره ونجرمه.
وإذا لعنا أو كفرنا من يعتقد ذلك، فليس لمخالفينا أن يلزمونا بعد أن لا نعتقده، وإن ألزمونا الشرك والتشبيه لأجل قولنا: أب وابن وروح
قدس ; لأن ظاهر ذلك يقتضي التكثير والتشبيه، ألزمناهم أيضا - نحن - التجسيم والتشبيه لقولهم: إن الله له عينان ويدان ووجه وساق وجنب، وأن ذاته تنتقل من مكان إلى مكان، وأنه استوى على العرش من بعد أن لم يكن عليه، وغير ذلك مما يقتضي ظاهره التجسيم والتشبيه.
والجواب من وجوه:أحدها: أن يقال: من آمن بما جاءت به الرسل وقال ما قالوه من غير تحريف للفظه ولا معناه، فهذا لا إنكار عليه، بخلاف من ابتدع أقوالا لم تقلها الرسل، بل هي تخالف ما قالوه، وحرف ما قالوه، إما لفظا ومعنى، وإما معنى فقط، فهذا يستحق الإنكار عليه باتفاق الطوائف.
وأصل دين المسلمين أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه في كتبه، وبما وصفته به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبتون له - تعالى - ما أثبته لنفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، ويتبعون في ذلك أقوال رسله، ويجتنبون ما خالف أقوال الرسل، كما قال تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافات: 180] أي عما يصفه الكفار المخالفون للرسل. {وسلام على المرسلين} [الصافات: 181]
لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. {والحمد لله رب العالمين} [الأنعام: 45].
فالرسل وصفوا الله بصفات الكمال، ونزهوه عن النقائص المناقضة للكمال، ونزهوه عن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال، وأثبتوا له صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفوا عنه التمثيل، فأتوا بإثبات مفصل ونفي مجمل.
فمن نفى عنه ما أثبته لنفسه من الصفات، كان معطلا، ومن جعلها مثل صفات المخلوقين، كان ممثلا، والمعطل يعبد عدما، والممثل يعبد صنما.
وقد قال تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] وهو رد على الممثلة، {وهو السميع البصير} [الشورى: 11] وهو رد على المعطلة.
فوصفته الرسل بأنه حي منزه عن الموت، عليم منزه عن الجهل، قدير قوي عزيز منزه عن العجز والضعف والذل واللغوب، سميع بصير منزه عن الصم والعمى، غني منزه عن الفقر، جواد منزه عن البخل، حكيم حليم منزه عن السفه، صادق منزه عن الكذب، إلى سائر صفات الكمال، مثل وصفه بأنه ودود رحيم لطيف، وقد قال تعالى: {قل هو الله أحد - الله الصمد - لم يلد ولم يولد - ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 1 - 4].
فالصمد، اسم يتضمن إثبات صفات الكمال ونفي النقائص، وهو العليم الكامل في علمه، القدير الكامل في قدرته، الحكيم الكامل في حكمته.
ولنا مصنف مبسوط في تفسير هذه السورة، وآخر في بيان أنها تعادل ثلث القرآن، وذكرنا كلام علماء المسلمين من الصحابة والتابعين في معنى " الصمد " وأن عامة ما قالوه حق، كقول من قال منهم: (إن الصمد الذي لا جوف له) ومن قال منهم: (إنه السيد الذي انتهى سؤدده) كما قيل: (إنه المستغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه محتاج إليه) وكما قيل: (إنه العليم الكامل في علمه، والقدير الكامل في قدرته) إلى سائر صفات الكمال.
وذكر تعالى في هذه السورة، أنه أحد ليس له كفوا أحد، فنفى بذلك أن يكون شيئا من الأشياء له كفوا، وبين أنه أحد لا نظير له.
وقال في آية أخرى: {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} [مريم: 65] وقال: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] وقال: {فلا تضربوا لله الأمثال} [النحل: 74] وقال: {فلا تجعلوا لله أندادا} [البقرة: 22]
وما ورد في القرآن والسنة من إثبات صفات الله، فقد ورد في التوراة وغيرها من كتب الله مثل ذلك.
فهو أمر اتفقت عليه الرسل، وأهل الكتاب في ذلك كالمسلمين.
وإذا كان كذلك، فهم في أمانتهم لم يقولوا ما قاله المسيح والأنبياء، بل ابتدعوا اعتقادا لا يوجد في كلام الأنبياء، فليس في كلام الأنبياء لا المسيح ولا غيره ذكر أقانيم لله، لا ثلاثة ولا أكثر، ولا إثبات ثلاث صفات، ولا تسمية شيء من صفات الله ابنا لله ولا ربا، ولا تسمية حياته روحا، ولا أن لله ابنا هو إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، وأنه خالق كما أن الله خالق، إلى غير ذلك من الأقوال المتضمنة لأنواع من الكفر، لم تنقل عن نبي من الأنبياء.
فقالوا في شريعة إيمانهم: نؤمن بالله الأب، مالك كل شيء، صانع ما يرى وما لايرى، وهذا حق.
ثم قالوا: وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلايق كلها، مولود ليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، نور من نور، مساو للأب في الجوهر الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء، الذي من أجلنا - معشر الناس - ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء البتول، وصار إنسانا، وحبل به وولد من مريم البتول، وتألم وصلب ودفن، وقام في اليوم الثالث، كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء.
ونؤمن بروح القدس المحيي، وروح الحق المنبثق من أبيه، أو الذي خرج من أبيه روح محييه.
فأين في كلام الأنبياء أن شيئا من صفات الله أو من مخلوقاته يقال فيه: إنه أقنوم، وإنه حق من إله حق، من جوهر أبيه، وإنه مساو لله في الجوهر، وإنه خالق خلق كل شيء، وإنه قعد عن يمين الله فوق العرش، وإنه الذي يقضي بين الناس يوم القيامة؟
وأين في كلام الأنبياء أن لله ولدا قديما أزليا؟
ومن الذي سمى كلام الله أو علمه أو حكمته - مولودا له أو ابنا له، أو شيئا من صفاته مولودا له أو ابنا له؟
ومن الذي قال من الأنبياء: إنه مولود، وهو - مع ذلك - قديم أزلي؟
وأين في كلامهم أن لله أقنوما ثالثا هو حياته، ويسمى بروح القدس، وأنه أيضا رب حي محي.
فلو كان النصارى آمنوا بنصوص الأنبياء، كما آمن المؤمنون،
لم يكن عليهم ملام.
ومن اعترض على نصوص الأنبياء، كان لفساد فهمه ونقص معرفته.
ولكنهم ابتدعوا أقوالا وعقائد ليست منصوصة عن أحد من الأنبياء - عليهم السلام - وفيها كفر ظاهر وتناقض بين.
فلو قدر أنهم أرادوا بها معنى صحيحا، لم يكن لأحد أن يبتدع كلاما لم يأت به نبي يدل على الكفر المتناقض الذي يخالف الشرع والعقل، ويقول: إني أردت به معنى صحيحا، من غير أن يكون لفظه دالا على ذلك، فكيف والمراد الذي يفسرون به كلامهم فاسد متناقض كما تقدم؟
فهم ابتدعوا أقوالا منكرة وفسروها بتفسير منكر، فكان الرد عليهم من كل واحد من الوجهين، وهم - في ذلك - نظير بعض ملاحدة المسلمين الذين يعتقدون إلهية بعض أهل البيت، أو بعض المشايخ، ويصفون الله بصفات لم ينطق بها كتاب، وهؤلاء ملحدون عند المسلمين.
بخلاف المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله، الذين آمنوا بما قالت الأنبياء، ولم يبتدعوا أقوالا لم يأت بها الأنبياء، وجعلوها أصل دينهم.
الوجه الثاني: أن يقال: ما ذكرتموه عن المسلمين كذب ظاهر عليهم.
فهذا النظم الذي ذكروه ليس هو في القرآن، ولا في الحديث،
ولا يعرف عالم مشهور من علماء المسلمين، ولا طائفة مشهورة من طوائفهم، يطلقون العبارة التي حكوها عن المسلمين، حيث قالوا عنهم: (إنهم يقولون: إن لله عينين يبصر بهما، ويدين يبسطهما، وساقا ووجها يوليه إلى كل مكان، وجنبا).
ولكن هؤلاء ركبوا من ألفاظ القرآن بسوء تصرفهم وفهمهم، تركيبا زعموا أن المسلمين يطلقونه.
وليس في القرآن ما يدل ظاهره على ما ذكروه، فإن الله - تعالى - قال في كتابه: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائدة: 64]
واليهود أرادوا بقولهم: (يد الله مغلولة) أنه بخيل، فكذبهم الله في ذلك، وبين أنه جواد لا يبخل، فأخبر أن يديه مبسوطتان، كما قال: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا} [الإسراء: 29]
فبسط اليدين المراد به الجواد والعطاء، ليس المراد ما توهموه من بسط مجرد.
ولما كان العطاء باليد يكون ببسطها، صار من المعروف في اللغة التعبير ببسط اليد عن العطاء.
فلما قالت اليهود: (يد الله مغلولة) وأرادوا بذلك أنه بخيل، كذبهم الله في ذلك، وبين أنه جواد ماجد.
وإثبات اليدين له موجود في التوراة وسائر النبوات، كما هو موجود في القرآن.
فلم يكن في هذا شيء يخالف ما جاءت به الرسل، ولا ما يناقض العقل، وقد قال تعالى لإبليس: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75]
فأخبر أنه خلق آدم بيديه، وجاءت الأحاديث الصحيحة توافق ذلك.
وأما لفظ (العينين)، فليس هو في القرآن، ولكن جاء في حديث.
وذكر الأشعري عن أهل السنة والحديث أنهم يقولون: إن لله عينين.
ولكن الذي جاء في القرآن: {ولتصنع على عيني - واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} [هود: 39 - 37]،
{وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا} [القمر: 13].
وأما قولهم: (له وجه يوليه إلى كل مكان) فليس هذا في القرآن ولكن في القرآن: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 26] وقوله: {كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون} [القصص: 88] وقوله: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]
وهذا قد قال فيه طائفة من السلف: فثم قبلة الله ; أي فثم جهة الله، والجهة كالوعد والعدة، والوزن والزنة.
والمراد بوجه الله وجهة الله - الوجه، والجهة والوجهة الذي لله يستقبل في الصلاة، كما قال في أول الآية: {ولله المشرق والمغرب} [البقرة: 115] ثم قال: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]
كما قال تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 142]
فإذا كان لله المشرق والمغرب، {ولكل وجهة هو موليها} [البقرة: 148] وقوله: (موليها) ; أي متوليها أو مستقبلها، فهذا كقوله: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115] أي فأينما تستقبلوا فثم وجه الله. وقد قيل: إنه يدل على صفة الله، لكن يدل على أن ثم وجه لله، وأن العباد أينما يولون فثم وجه الله، فهم الذين يولون ويستقبلون، لا أنه هو يولي وجهه إلى كل مكان، فهذا تحريف منهم للفظ القرآن عن معناه وكذب على المسلمين.
ومن قال بالقول الثاني من المسلمين، فإن ذلك يقتضي أن الله محيط بالعالم كله، كما قد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع.
إذ المقصود هنا بيان ضلال هؤلاء في دينهم فيما ابتدعوا من الكفر والتثليث والاتحاد، دون الذين آمنوا بالله ورسله، وما أخبرت به الرسل عن الله - تبارك وتعالى -.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 274)
من صــ 311 الى صـ 325
وأما قولهم: (وجنب) فإنه لا يعرف عالم مشهور عند المسلمين، ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين، أثبتوا لله جنبا نظير جنب الإنسان، وهذا اللفظ جاء في القرآن في قوله: {أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله} [الزمر: 56]
فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله
صفة له، بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها ما ليس بصفة له باتفاق الخلق، كقوله: (بيت الله) و (ناقة الله) و (عباد الله) بل وكذلك (روح الله) عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم.
ولكن إذا أضيف إليه ما هو صفة له وليس بصفة لغيره، مثل كلام الله وعلم الله، ويد الله ونحو ذلك، كان صفة له.
وفي القرآن ما يبين أنه ليس المراد بالجنب ما هو نظير جنب الإنسان فإنه قال: {أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله} [الزمر: 56]
والتفريط ليس في شيء من صفات الله - عز وجل -.
والإنسان إذا قال: فلان قد فرط في جنب فلان أو جانبه، لا يريد به أن التفريط وقع في شيء من نفس ذلك الشخص، بل يريد به أنه فرط في جهته وفي حقه.
فإذا كان هذا اللفظ إذا أضيف إلى المخلوق لا يكون ظاهره أن التفريط في نفس جنب الإنسان المتصل بأضلاعه، بل ذلك التفريط لم يلاصقه، فكيف يظن أن ظاهره في حق الله - أن التفريط كان في ذاته؟
وجنب الشيء وجانبه، قد يراد به منتهاه وحده، ويسمى جنب الإنسان جنبا بهذا الاعتبار، قال تعالى:
{تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا} [السجدة: 16] وقال تعالى: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} [آل عمران: 191]
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين: " (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع، فعلى جنب) "
وإذا قدر أن الإضافة هنا تتضمن صفة الله، كان الكلام في هذا كالكلام في سائر ما يضاف إليه تعالى من الصفات، وفي التوراة من ذلك نظير ما في القرآن.
وهذا يتبين بالوجه الثالث: وهو أن يقال ما في القرآن والحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وصف الله بهذه الصفات التي يسميها بعض الناس تجسيما، هو مثل ما في التوراة وسائر كتب الأنبياء، وهذا الذي في التوراة وكتب الأنبياء ليس مما أحدثه أهل الكتاب.
ولو كانوا هم ابتدعوا ذلك، ووصفوا الخالق بما يمتنع عليه من التجسيم، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذمهم على ذلك، كما ذمهم على ما وصفوه به من النقائص في مثل قوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181] وقوله: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائدة: 64] وقال تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38]
فنفى عنه اللغوب الذي يظن في لفظ الاستراحة الذي في التوراة، فإن فيها أن الله خلق العالم في ستة أيام، ثم استراح في يوم السبت، فظن بعض الناس أنه تعب فاستراح.
ثم من علماء المسلمين من قال: إن هذا اللفظ حرفوا معناه دون لفظه، وهذا لفظ التوراة المنزلة. قاله ابن قتيبة
وغيره وقالوا معناه: ثم ترك الخلق، فعبر عن ذلك بلفظ استراح.
ومنهم من قال: بل حرفوا لفظه، كما قال أبو بكر الأنباري وغيره.
وقالوا: ليس هذا لفظ التوراة المنزلة، وأما ما في التوراة من إثبات الصفات، فلم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من ذلك، بل كان علماء اليهود إذا ذكروا شيئا من ذلك يقرهم عليه ويصدقهم عليه، كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، "أن حبرا من اليهود جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا محمد إن الله - عز وجل - يوم القيامة يحمل السماوات على إصبع،
والأرض على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك). قال: فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا لقول الحبر، ثم قرأ: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] الآية".
وفي التوراة: " إن الله كتب التوراة بإصبعه ".
وإذا ثبت أن مثل هذه النصوص في التوراة والكتب المتقدمة باتفاق أهل الكتاب وبما يشهد على ذلك من أخبار الرسول بنظير ذلك وترك إنكاره لما في التوراة، وتصديقه على ما كانوا يذكرونه من ذلك - لم يكن المسلمون مختصين بذكر ما سموه تجسيما، بل يلزم أهل الكتاب اليهود والنصارى من ذلك نظير ما يلزم المسلمين.
وقد افترق أهل الكتاب في ذلك كما افترق فيه المسلمون، منهم الغالي في النفي والتعطيل، ومنهم الغالي في التشبيه والتمثيل.
والمسلمون أئمتهم وجمهورهم مقتصدون بين التعطيل والتمثيل، وكذلك طائفة من أهل الكتاب.
والمقصود أنه إذا كانت هذه الصفات قد جاءت في الكتب الإلهية، التوراة وغيرها، كما جاءت في القرآن، لم يكن للمسلمين بذلك اختصاص.
ولم يجز للنصارى أن يجعلوا ذلك نظير ما اختصوا به من التثليث والاتحاد، فإن ذلك مختص بهم.
وهذه الصفات قد اشترك فيها أهل الملل الثلاث ; لأن التثليث والاتحاد ليس منصوصا عن أحد من الأنبياء - عليهم السلام - وهذه الصفات منصوصة في القرآن والتوراة وغيرهما من كتب الأنبياء، فكيف يجوز تشبيه هذا بهذا؟
الوجه الرابع: قولهم: (فيوهمون السامعين أن الله ذو جسم وأعضاء وجوارح) - كلام باطل؛ وذلك أن الله سمى نفسه وصفاته بأسماء، وسمى بعض عباده وصفات عباده بأسماء هي في حقهم نظير تلك الأسماء في حقه سبحانه وتعالى.
فسمى نفسه حيا، كقوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255] الآية.
{وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] وسمى بعض عباده حيا، كقوله: {يخرج الحي من الميت} [الأنعام: 95]
مع العلم بأنه ليس الحي كالحي، وسمى نفسه عليما، كقوله: {إن ربك حكيم عليم} [الأنعام: 83].
وسمى بعض عباده عليما، كقوله: {وبشروه بغلام عليم} [الذاريات: 28]
مع العلم بأنه ليس العليم كالعليم.
وسمى نفسه حليما، بقوله: {والله غني حليم} [البقرة: 263] وسمى بعض عباده حليما، بقوله: {فبشرناه بغلام حليم} [الصافات: 101]
وسمى نفسه رءوفا رحيما، بقوله: {إن الله بالناس لرءوف رحيم} [البقرة: 143].
وسمى بعض عباده رءوفا رحيما، بقوله: {بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]
وليس الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم.
وكذلك سمى نفسه ملكا جبارا متكبرا عزيزا، وسمى بعض عباده ملكا، وبعضهم عزيزا، وبعضهم جبارا متكبرا، وليس هو في ذلك مماثلا لخلقه.
وكذلك سمى بعض صفاته علما وقوة وأيدا، وقدرة ورحمة وغضبا، ورضى ويدا وغير ذلك، وسمى بعض صفات عباده بذلك، وليس علمه كعلمهم، ولا قدرته كقدرتهم، ولا رحمته وغضبه كرحمتهم وغضبهم، ولا يده كأيديهم.
وكذلك ما أخبر به عن نفسه من استوائه على العرش، ومجيئه في ظلل من الغمام، وغير ذلك من هذا الباب، ليس استواؤه كاستوائهم، ولا مجيئه كمجيئهم.
وهذه المعاني التي تضاف إلى الخالق تارة وإلى المخلوق أخرى، تذكر على ثلاثة أوجه:
تارة تقيد بالإضافة إلى الخالق أو بإضافته إليها، كقوله
- تعالى -: {ولا يحيطون بشيء من علمه} [البقرة: 255] الآية. {إن الله هو الرزاق ذو القوة} [الذاريات: 58]
وتارة تتقيد بالمخلوق كقوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} [آل عمران: 18].
وتارة تطلق مجردة.
فإذا قيدت بالخالق، لم تدل على شيء من خصائص المخلوقين.
فإذا قيل: علم الله وقدرته واستواؤه ومجيئه ويده ونحو ذلك، كانت هذه الإضافة توجب ما يختص به الرب الخالق، وتمنع أن يدخل فيها ما يختص به المخلوق.
وكذلك إذا قيل: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون: 28] كانت هذه الإضافة توجب ما يختص بالعبد وتمنع أن يدخل في ذلك ما يختص بالرب - عز وجل -.
وإذا جرد اللفظ عن القيود فذكر بوصف العموم والإطلاق، تناول الأمرين كسائر الألفاظ التي تطلق على الخالق والمخلوق.
وهذه للناس فيها أقوال.
قيل: إنها حقيقة في الخالق، مجاز في المخلوق، كقول أبي العباس الناشئ.
وقيل: بالعكس كقول غلاة الجهمية والباطنية والفلاسفة.
وقيل: حقيقة فيهما، وهو قول الجمهور.
ثم قيل: هي مشتركة اشتراكا لفظيا، وقيل: متواطئة وهو قول الجمهور.
ثم من جعل المشككة نوعا من المتواطئة لم يمتنع - عنده - إذا قيل: مشككة، أن تكون متواطئة، ومن جعل ذلك نوعا آخر جعلها مشككة لا متواطئة.
وهذا نزاع لفظي، فإن المتواطئة التواطؤ العام، يدخل فيها المشككة.
إذ المراد بالمشككة، ما يتفاضل معانيها في مواردها، كلفظ الأبيض الذي يقال على البياض الشديد، كبياض الثلج، والخفيف كبياض العاج، والشديد أولى به.
ومعلوم أن مسمى البياض في اللغة لا يختص بالشديد دون الخفيف، فكان اللفظ دالا على ما به الاشتراك، وهو المعنى العام الكلي، وهو متواطئ بهذا الاعتبار، وهو باعتبار التفاضل يسمى مشككا.
وأما إذا أريد بالتواطؤ، ما تستوي معانيه، كانت المشككة نوعا آخر.
لكن تخصيص لفظ المتواطئة بهذا عرف حادث، وهو خطأ أيضا.
فإن عامة المعاني العامة تتفاضل، والتماثل فيها في جميع مواردها، بحيث لا تتفاضل في شيء من مواردها، إما قليل وإما معدوم.
فلو لم تكن هذه الأسماء متواطئة بل مشككة، كان عامة الأسماء الكلية غير متواطئة، وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أن الله - سبحانه وتعالى - إذا أضاف إلى نفسه ما أضافه إضافة يختص بها، وتمنع أن يدخل فيها شيء من خصائص المخلوقين، وقد قال مع ذلك: إنه (ليس كمثله شيء) وإنه (لم يكن له كفوا أحد) وأنكر أن يكون له سمي، كان من فهم من هذه ما يختص به المخلوق - قد أتي من سوء فهمه ونقص عقله، لا من قصور في بيان الله ورسوله، ولا فرق في ذلك بين صفة وصفة.
فمن فهم من علم الله ما يختص به المخلوق من أنه عرض محدث باضطرار أو اكتساب، فمن نفسه أتي، وليس في قولنا: علم الله - ما يدل على ذلك.
وكذلك من فهم من قوله: {بل يداه مبسوطتان} [المائدة: 64] الآية. {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75]
ما يختص به المخلوق من جوارحه وأعضائه، فمن نفسه أتي،
فليس في ظاهر هذا اللفظ ما يدل على ما يختص به المخلوق كما في سائر الصفات.
وكذلك إذا قال: {ثم استوى على العرش} [الأعراف: 54]. من فهم من ذلك ما يختص بالمخلوق، كما يفهم من قوله: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون: 28]
فمن نفسه أتي، فإن ظاهر اللفظ يدل على استواء يضاف إلى الله - عز وجل - كما يدل في تلك الآية على استواء يضاف إلى العبد.
وإذا كان المستوي ليس مماثلا للمستوي، لم يكن الاستواء مماثلا للاستواء.
فإذا كان العبد فقيرا إلى ما استوى عليه، يحتاج إلى حمله.
وكان الرب - عز وجل - غنيا عن كل ما سواه والعرش وما سواه فقيرا إليه، وهو الذي يحمل العرش وحملة العرش، لم يلزم إذا كان الفقير محتاجا إلى ما استوى عليه أن يكون الغني عن كل شيء وكل شيء محتاج إليه - محتاجا إلى ما استوى عليه.
وليس في ظاهر كلام الله - عز وجل - ما يدل على ما يختص به المخلوق من حاجة إلى حامل وغير ذلك، بل توهم هذا من سوء الفهم، لا من دلالة اللفظ.
لكن إذا تخيل المتخيل في نفسه أن الله مثله، تخيل أن يكون استواؤه كاستوائه، وإذا عرف أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، علم أن استواءه ليس كاستوائه، ومجيئه كمجيئه، كما أن علمه وقدرته ورضاه وغضبه، ليس كعلمه وقدرته ورضاه وغضبه.
وما بين الأسماء من المعنى العام الكلي كما بين قولنا: حي وحي، وعالم وعالم. وهذا المعنى العام الكلي المشترك لا يوجد عاما كليا مشتركا إلا في العلم والذهن، وإلا فالذي في الخارج أمر يختص بالموصوف.
فصفات الرب - عز وجل - مختصة به، وصفات المخلوق مختصة به، ليس بينهما اشتراك ولا بين مخلوق ومخلوق.
الوجه الخامس: قولهم: (لما كان اعتقادهم في الباري جلت قدرته أنه غير ذي جسم) استعمال منهم للفظ الجسم في القدر والغلظ، لا في ذي القدر والغلظ، وهذا أحد موردي استعماله، وهو الأشهر في لغة العامة، فيقولون: هذا الثوب له جسم، وهذا ليس له جسم ; أي هذا له غلظ وكثافة دون هذا.
ولكن النظار أكثر ما يستعملون لفظ الجسم في نفس ذي القدر، فيقولون للقائم بنفسه ذي القدر: إنه جسم.
وهذا اللفظ لما كثر استعماله في كلام النظار، تفرقوا في معانيه لغة وعقلا وشرعا، تفرقا ضل به كثير من الناس، فإن هذا اللفظ أصله في اللغة هو الجسد.
قال غير واحد من أهل اللغة، كالأصمعي وأبي زيد وغيرهما: الجسم هو الجسد.
وهذا إنما يستعمله أهل اللغة فيما كان غليظا كثيفا، فلا يسمون الهواء جسما ولا جسدا، ويسمون بدن الإنسان جسدا.
وقد تقدم أن الجسم يراد به نفس الجسد، ويراد به قدر الجسد وغلظه، قال تعالى: {وزاده بسطة في العلم والجسم} [البقرة: 247] وقال تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة} [المنافقون: 4]
وقد يراد به هذا وهذا.
ثم إن أهل النظر استعملوا لفظ " الجسد " في أعم من معناه في
اللغة، كما فعلوا مثل ذلك في لفظ " الجوهر " ولفظ " العرض " ولفظ " الوجود " ولفظ " الذات " وغير ذلك.
فاستعملوا لفظ " الجسم " فيما يقوم بنفسه وتمكن الإشارة إليه الحسية المختلفة.
ثم تنازعوا نزاعا عقليا فيما يشار إليه، كالهواء والنار والتراب والماء وغير ذلك، هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة، أو من المادة والصورة، أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا، على ثلاثة أقوال قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع.
فمن اعترف أنها مركبة من هذا أو هذا، يلزمه - إذا قال: إن الله جسم - أن يكون الله مركبا من هذا أو هذا.
ولهذا قالوا: إن هذا باطل وأوجبوا - على أصلهم - نفي مسمى هذا الاسم، وهذا هو المشهور عند هؤلاء.
ومن اعتقد أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا، قال: يلزمني إذا قلت: هو جسم أن يكون مركبا.
فمن هؤلاء من أطلق عليه لفظ " الجسم "، وأراد به القائم بنفسه أو الموجود، كما أطلق هؤلاء لفظ الجوهر، وقالوا: أردنا بالجوهر القائم بنفسه. وكما قال هؤلاء: ليس في الوجود إلا جوهر أو عرض.
فإن الوجود إما قائم بنفسه، وهو الجوهر، أو بغيره، وهو العرض، والجوهر أشرف القسمين.
وقال الآخرون: ليس في الوجود إلا قائم بنفسه، وهو الجسم أو قائم بغيره، وهو العرض، والجسم أشرف القسمين. وقال: فما سماه أولئك جوهرا، سماه أولئك جسما، وكلاهما ليست تسميته لغوية ولا شرعية.
وإذا قال هؤلاء: هو جوهر لا كالجواهر، كما يقال: هو شيء لا كالأشياء.
قال أولئك: هو جسم لا كالأجسام، كما يقال: هو شيء لا كالأشياء.
وإذا قال هؤلاء: الجوهر ينقسم إلى كثيف ولطيف، قال أولئك: والجسم ينقسم إلى لطيف وكثيف.
والمقصود هنا، أن هؤلاء الذين نزهوه عما يمتنع عليه من مماثلة المخلوقين، وسموه جسما - نزاعهم مع النفاة قد يكون لفظيا، كنزاع النصارى في لفظ " الجوهر "، وقد يكون عقليا، كنزاعهم في المشار إليه، هل هو مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، أو لا من هذا ولا من هذا.
ومن قال من القائلين بأنه جسم، فيقول: إنه مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، فهؤلاء مذمومون لفظا ومعنى عند جماهير المسلمين وغيرهم، وإن كان النصارى وغيرهم يعجزون عن الرد على هؤلاء، إذ كان ما يعتمدون عليه في تنزيه الله عن خصائص الأجسام طرقا ضعيفة لا تثبت على المعيار العقلي، كما قد بسط في موضع آخر.
بخلاف من كان نزاعه لفظيا، فهذا يذم إما لغة وإما لغة وشرعا ; لكونه أطلق لفظا لم يأذن به الشرع، أو استعمله في خلاف معناه اللغوي، كما قد يذم النافي لمثل ذلك لغة وشرعا، إذا كان معناه صحيحا.
وأما من كان من النفاة أو المثبتة نفى حقا أو أثبت باطلا، فهذا مذموم ذما معنويا شرعا وعقلا.
وأما الشرع، فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، لم يقولوا: إن الله جسم، ولا إنه ليس بجسم، ولا إنه جوهر، ولا إنه ليس بجوهر.
لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء، هو مما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 275)
من صــ 326 الى صـ 340
والذي اتفقت عليه الرسل وأتباعهم، ما جاء به القرآن والتوراة من أن الله موصوف بصفات الكمال، وأنه ليس كمثله شيء، فلا تمثل صفاته بصفات المخلوقين، مع إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات، ولا يدخل في صفاته ما ليس منها، ويخرج منها ما هو داخل فيها.
إذا تبين هذا، فالمسلمون لما كان اعتقادهم بأن الله - تعالى - موصوف بما وصف به نفسه، وأنه ليس كمثله شيء، وكان ما أثبتوه له من الصفات مما جاءت به الرسل، لم يكن عليهم ملام ; لأنهم أثبتوا ما أثبته الرسل، ونفوا ما نفته الرسل، فكان في هذا النفي ما ينفي الوهم الباطل.
بخلاف من أثبت أمورا لم تأت بها الرسل، وضم إليها ما يؤكد المعنى الباطل لا ما ينفيه، وكان مما نفوا عنه أنه ليس بجسم مركب من الجواهر المنفردة، ولا من المادة والصورة.
أما على أحد قولي النظار بل أظهرهما، فإن ما سواه من الموجودات القائمة بأنفسها، ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا.
فهو سبحانه أحق بتنزيهه عن مثل هذا، إذ كل نقص نفي عن المخلوق، فالخالق أحق بتنزيهه منه.
وأما على القول الآخر، فتارة يقولون: لأن المركب من الجواهر المنفردة يمكن افتراق أجزائه، وذلك ممتنع في حق الله - تعالى -، وتارة يقولون: لأنه مفتقر إلى أجزائه، وذلك ممتنع في حق الله
- تعالى -، إذ جزؤه غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه قديما أزليا، كما قد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر.
ثم منهم من لا يطلق من النفي والإثبات إلا الألفاظ الشرعية، فكما لا يقول: هو جسم وجوهر، لا يقول: ليس بجسم ولا جوهر.
ومنهم من يطلق هذه الألفاظ، وهؤلاء منهم من ينفيها، ومنهم من يثبتها.
وكل من الطائفتين قد يدخل في ذلك ما يوافق الشرع، وقد يدخل في ذلك ما يخالف الشرع.
وكل من الطائفتين يدعي النظر العقلي أو اللغوي، وربما اعتصم بعضهم بما يظنه دليلا شرعيا.
والغالب عليهم أنهم لا يعتصمون في ذلك بشرع، إذ لم يكن في ذلك شرع، وإنما يتكلفون تغيير اللغة التي بعث بها الرسول، ثم يحملون ألفاظه على ما ابتدعوه من اللغة، كما فعلته النصارى في حمل كلام الأنبياء على ما ابتدعوه من اللغة.
فإن الأنبياء لم يسموا علم الله وحياته ابنا، وروح قدس، ولا ربا، فسمى النصارى علمه وحياته ابنا، وروح قدس، وربا، ثم حملوا كلام الأنبياء على ذلك.
كذلك طائفة من أهل الكلام كان السلف يسمونهم الجهمية، أحدثوا تسمية الواحد والأحد ونحوهما لما لا يشار إليه ويميز الحس منه
شيئا عن شيء، وهذا خلاف اللغة، فإن أهل اللغة يسمون بالواحد والوحيد والأحد في النفي لما يشار إليه ويميز الحس منه شيئا من شيء، قال تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11] فسمى الإنسان وحيدا، وقال تعالى: {وإن كانت واحدة فلها النصف} [النساء: 11] فسمى المرأة واحدة، {وما أمرنا إلا واحدة} [القمر: 50] وقال: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] فسمى المستجير وهو الإنسان أحدا.
وكذلك قوله تعالى: {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] فنفى أن يكون أحد كفوا له.
فلو كان ما يشار إليه لا يسمى أحدا، لم يكن قد نزهه عن مماثلة المخلوقات له، فإن المشهود من المخلوقات كلها يشار إليها، فإن لم يدخل في أحد، لم يكن قد نزه نفسه عن مماثلتها.
فهؤلاء لما أحدثوا أن مسمى الأحد والواحد لا يكون مشارا إليه، قالوا: والرب قد سمى نفسه أحدا وواحدا، فيجب أن لا يكون مشارا إليه.
ولغة الرسول التي خاطب بها الناس لم تكن موافقة لما ابتدعوه من اللغة.
وكذلك الذين قالوا: " هو جسم " غيروا اللغة، وجعلوا الجسم اسما لما يشار إليه، أو لكل موجود، ولكل قائم بنفسه.
ثم قالوا: هو موجود، أو قائم بنفسه، أو مشار إليه، فيكون جسما
ولا يوجد في اللغة اسم الجسم، لا لهذا، ولا لهذا، ولا لهذا.
وقالوا: لا يلزم من كونه مشارا إليه أن يكون مركبا من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة.
وقال أولئك: بل يلزم أن كل مركب، يسمى في اللغة جسما، فيلزم أن يسمى جسما، إذا قلنا: هو مشار إليه، أو يرى بالأبصار، أو متصفا بصفات تقوم به.
وليس ما ذكروه عن اللغة بمستقيم، فإن أهل اللغة لا يعنون بالجسم المركب، بل الجسم عندهم هو الجسد، ولا يسمون الهواء جسما.
إذا تبين هذا، فتمثيل هؤلاء النصارى باطل، على قول كل طائفة من طوائف المسلمين.
فمنهم من يقول: الجسم - في اللغة - هو المركب، والله ليس بمركب، فليس بجسم. لا يقولون بما ذكروه من أن الله له وجه يوليه إلى كل مكان، وجنب ونحو ذلك.
وكذلك من قال: إن الله ليس بمركب، وسماه جسما، بمعنى أنه قائم بنفسه، أو لم يسمه جسما، لا يقول بذلك أيضا، ومن حكى عنه يثبت له خصائص الأجسام المركبة، فهؤلاء إن أطلقوا ما نفاه، فلا حجة للنصارى عليهم، وإن لم يطلقوه، فحجتهم أبعد.
فقد تبين أنه ليس لهم حجة على أفسد الناس قولا في التجسيم، فضلا عن غيرهم.
الوجه السادس: أن يقال لهؤلاء النصارى: إما أن تعنوا بلفظ الجسم المعنى اللغوي وهو الجسد، وإما أن تعنوا به المعنى الاصطلاحي عند أهل الكلام، كالمشار إليه مثلا.
فإن عنيتم الأول، لم يلزم من نفي ذلك نفي ما ذكرتموه من الصفات لا سيما وأنتم تقولون: إنه جوهر، وقسمتم الجوهر إلى لطيف وكثيف.
فإذا كان الكثيف هو الجسم، واللطيف جوهر ليس بجسم، لم يمتنع على مثل هذا أن يكون له ما يناسبه من الصفات كالملائكة،فإن الملائكة لا يمتنع وصفها بذلك، وإن لم تكن أجساما على هذا الاصطلاح، بل هي جواهر روحانية، وكذلك روح الإنسان التي تخرج منه، لا يمتنع وصفها بما يناسبها من ذلك، وإن كانت ليست بجسم على هذا التقدير.
فتبين أن نفي مسمى الجسم اللغوي عن الشيء، لا يمتنع اتصافه بما ذكر من الصفات وأمثالها.
وإن عنيتم بالجسم القائم بنفسه أو المشار إليه، لم يمتنع - عندكم - أن يكون جسما، فإنكم سميتموه جوهرا، وعنيتم القائم بنفسه.
فإن قام الدليل على أن كل قائم بنفسه يشار إليه، كان أيضا مشارا إليه.
وإن قام دليل على أنه قائم بنفسه لا يشار إليه، كان جوهرا وجسما عند من يفسر الجسم بالقائم بنفسه، ومن فسره بالمشار إليه لم يسم عنده جسما، فتبين أنه على - أصلكم - لا يمتنع أن يسمى جسما مع تسميتكم له جوهرا، إلا إذا ثبت أن من الموجودات ما هو جوهر قائم بنفسه لا يشار إليه، وهذا لم يقيموا عليه دليلا، وليس هذا قول أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، وإنما هو قول طائفة من الفلاسفة، وقليل من أهل الملل وافقوهم.
ثم يقال لكم: أنتم قلتم: إنه حي ناطق، وله حياة ونطق، بل زدتم على ذلك حتى جعلتموه أقانيم ثلاثة.
ومعلوم أن الحياة والنطق لا تعقل إلا صفة قائمة بموصوف، ولا يعلم موصوف بالحياة والنطق إلا ما هو مشار إليه، بل ما هو جسم كالإنسان.
فإن جاز لكم أن تثبتوا هذه الأعراض في غير جسم، جاز لغيركم أن يثبت المجيء واليد ونحو ذلك لغير الجسم.
وإن قلتم: هذا لا يعقل إلا لجسم، قيل لكم: وذلك لا يعقل إلا لجسم، فإن رجعتم إلى الشاهد، كان حجة عليكم، وإن جاز لكم أن تثبتوا في الغائب حكما على خلاف الشاهد، جاز لغيركم، وحينئذ فلا تناقض بين ما نفاه المسلمون وأثبتموه، لو كان ما ذكرتموه عنهم من النفي والإثبات حقا على وجهه، فكيف وقد وقع التحريف في الطرفين؟
الوجه السابع: أن يقال: غاية مقصودكم أن تقولوا: إن المسلمين لما أطلقوا ألفاظا ظاهرها كفر عندهم، لمجيء النص بها، وهم لا يعتقدون ظاهر مدلولها، كذلك نحن أطلقنا هذه الألفاظ التي ظاهرها كفر، لمجيء النص بها، ونحن لا نعتقد مدلولها.
فيقال لكم: أولا: إن ما أطلقه المسلمون من نصوص الصفات أطلقتموه أنتم، كما وردت به التوراة، فهذا مشترك بينكم وبينهم، وما اختصصتم به من التثليث، والاتحاد لم يشركوكم فيه.
ثم يقال ثانيا: إن المسلمين أطلقوا ألفاظ النصوص، وأنتم أطلقتم ألفاظا لم يرد بها نص.
والمسلمون قرنوا تلك الألفاظ بما جاءت به النصوص من نفي التمثيل.
وأنتم لم تقرنوا بألفاظكم ما ينفي ما أثبتموه من التثليث والاتحاد.
والمسلمون لم يعتقدوا معنى باطلا.
وأنتم اعتقدتم من التثليث في الأقانيم والاتحاد ما هو معنى باطل.
والمسلمون لم يسموا صفات الله بأسماء أحدثوا تسمية الصفات بها وحملوا كلام الرسل عليها.
وأنتم أحدثتم لصفات الله أسماء سميتموه أنتم بها لم تسمعه الرسل، وحملتم كلام الرسل عليها.
والمسلمون لم يعدلوا عن النصوص الكثيرة المحكمة البينة الواضحة إلى ألفاظ قليلة متشابهة.
وأنتم عدلتم عن هذا إلى هذا.
والمسلمون لم يضعوا لهم شريعة اعتقاد غير ما جاءت به الرسل.
وأنتم وضعتم شريعة اعتقاد غير ما جاءت به الرسل.
والمسلمون لم يقولوا قولا لا يعقل.
وأنتم قلتم قولا لا يعقل.
والمسلمون لم يتناقضوا، فيجعلوا الإله واحدا ويجعلونه
اثنين، بل ثلاثة، وأنتم تناقضتم.
فهذه الفروق وغيرها مما يبين فساد تشبيهكم أنفسكم بالمسلمين.
الوجه الثامن: قولكم: وكذلك - نحن النصارى - العلة في قولنا: (إن الله ثلاثة أقانيم، أب، وابن، وروح قدس، أن الإنجيل نطق به.
فيقال لكم: هذا باطل، فإنه لم ينطق لا الإنجيل ولا شيء من النبوات بأن الله ثلاثة أقانيم، ولا خص أحد من الأنبياء الرب بثلاث صفات دون غيرها، ولا قال المسيح ولا غيره: إن الله هو الأب والابن وروح القدس، ولا إن له أقنوما هو الابن، وأقنوما هو روح القدس، ولا قال: إن الابن كلمته أو علمه أو حكمته أو نطقه، وإن روح القدس حياته، ولا سمى شيئا من صفاته ابنا ولا ولدا، ولا قال عن شيء من صفات الرب إنه مولود، ولا جعل القديم الأزلي مولودا، ولا قال لا عن قديم ولا مخلوق، إنه إله حق من إله حق، ولا قال عن صفات الله إنها آلهة، وإن الكلمة إله والروح إله، ولا قال إن الله اتحد لا بذاته ولا بصفاته بشيء من البشر، بل هذا كله مما ابتدعتموه وخرجتم به عن الشرع والعقل، فخالفتم الكتب المنزلة والعقول الصريحة، وكنتم ممن قيل فيهم: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10]
فإنكم أنتم الذين سميتم نطق الله ابنا، وقلتم: سميناه ابنا ; لأنه تولد منه كما يتولد الكلام من العقل، فكان ينبغي أيضا أن تسموا حياته ابنا ; لأنها منبثقة منه ومتولدة عنه أيضا، إذ لا فرق بين علم الرب وحياته.
فعلمه لازم له وحياته لازمة له، فلماذا جعلتم هذا ابنا دون هذا.
وقلتم: إنه مولود من الله، وإنه قديم أزلي، وأنتم تعترفون بأن أحدا من الأنبياء لم يسم علم الله ولا كلامه ولا حكمته مولودا منه.
والذي يعقله الخلق في المولود الذي يولد من غيره، كما يتولد العلم والكلام من نفس الإنسان، أنه حادث فيه أو منفصل عنه، لا يعقل أنه قائم به، وأنه متولد منه قديم أزلي.
ثم قلتم في أمانتكم، إنه تجسم من روح القدس، أو منه ومن مريم.
وهو إنما تجسم عندكم من الكلمة التي سميتموها الابن دون روح القدس.
وإن كان تجسم من روح القدس، فيكون هو روح القدس لا يكون هو الكلمة التي هي الابن.
ثم تقولون: هو كلمة الله وروحه، فيكون حينئذ أقنومين، أقنوم الكلمة وأقنوم الروح، وإنما هو عندكم أقنوم واحد.
فهذا تناقض وحيرة، تجعلونه الابن الذي هو الكلمة، وهو أقنوم الكلمة فقط
وتقولون: تجسم من روح القدس، ولا تقولون: إنه تجسم من الكلمة.
وتقولون: هو كلمة الله وروحه، والكلمة والروح أقنومان.
ولا تقولون: إنه أقنومان، بل أقنوم واحد.
وتقولون: إنه خالق العالم، والخالق هو الأب وتقولون: ليس هو الأب، وتقولون: إله حق من إله حق، وتقولون: إله واحد ساوى الأب في الجوهر.
وتقولون: ليس له مثل، وليس شيء من هذا في كلام أحد من الأنبياء، فكيف تشبهون أنفسكم بمن اتبع نصوص الأنبياء، ولم يحرفها؟
وغاية ما عندكم ما وجد في إنجيل " متى " دون سائر الأناجيل من أن المسيح - عليه السلام - قال: (عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس).
وأنتم قد عرفتم في كلام المسيح وغيره من الأنبياء أنهم يريدون بالابن صفة الله، لا كلامه ولا علمه ولا حكمته.
ولا يريدون بالابن: إله حق من إله حق، ولا مولود قديم أزلي،
بل يريدون به وليه، وهو ناسوت لا لاهوت، كيعقوب والحواريين.
ولا يريدون بروح القدس نفس حياة الله، ولا يريدون به أنه رب حي، وإنما يريدون بها الملك أو ما ينزله الله على قلوب أنبيائه وأصفيائه من الهدى والتأييد ونحو ذلك.
فروح القدس يكون عندكم وعند المسلمين في الأنبياء وغيرهم، كما كانت في داود وغيره وكانت في الحواريين.
فلو قدر أن لفظ الابن وجد في كلام المسيح مستعملا تارة في كلمة الله، وتارة في وليه الناسوت، وروح القدس مستعملا تارة في حياته، وتارة فيما ينزله على قلوب أنبيائه - كان جزمكم بأنه أراد بذلك هنا صفات الله جزما باطلا.
فما وصف به المسيح من أنه ابن الله، ومن أن روح القدس فيه - قد وصف به غيره من الأنبياء والصالحين.
فإن كان الابن وروح القدس صفتين لله، وجب أن يكون غير المسيح لاهوتا وناسوتا كالمسيح، إذ الذي حل في المسيح حل في غيره.
ثم جزمكم بأن هذه الصفات أقانيم، وأنه ليس لله صفات ذاتية أو جوهرية أو نحو ذلك إلا هذه الثلاثة، ثم تفرقتم في الثلاثة، هل المراد بالأقانيم الوجود والعلم والحياة، أو الحكمة والكلام، أو النطق
بدل لفظ العلم، أو المراد الوجود والعلم والقدرة، بدل الحياة، أو المراد الوجود والحياة والقدرة، أو المراد الوجود مع الحياة والعلم والقدرة؟ إلى أقوال أخرى يطول أمرها.
فيا ليت شعري، ما الذي أراد المسيح بلفظ الأب والابن وروح القدس من هذه الأمور التي اختلفتم فيها، لو كان مراده ما ادعيتموه من الأقانيم؟
والأقانيم - لفظا ومعنى - لا يوجد في كلام أحد من الأنبياء، بل قيل فيها: إنها لفظة رومية، يفسرونها تارة بالأصل، وتارة بالشخص، وتارة بالذات مع الصفة، ويفسرونها تارة بالخاصة، وتارة بالصفة.
فهلا تركتم كلام المسيح على حاله، ولم تحرفوه هذه التحريفات.
ولقد أحسن بعض الفضلاء إذ قال: لو سألت نصرانيا وابنه وابن ابنه عما يعتقدونه، لأخبرك كل واحد بعقيدة تخالف عقيدة الآخر، إذ كان أصل اعتقادهم جهلا وضلالا، ليس معهم علم لا نقل ولا عقل، فهم كما قال الله - تعالى -: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [الحج: 8]
وليس معهم بما اعتقدوه من التثليث والاتحاد علم، بوجه من الوجوه فضلا عما هو أخص من ذلك، وهو علم يهتدون به، فليسوا
بمهتدين فضلا عما هو أخص من الهدى وهو " كتاب منير " فليس معهم به كتاب منير.
ولو تكلمتم بهذا الكلام، وقلتم: لا نفهم معناه أو ظاهره باطل، وله تأويل مقبول، كما حكيتموه عمن تشبهتم به من المسلمين من أنه يقوله في الصفات - لكان هذا أقرب إلى القياس.
فكيف والأمر بعكس ما ذكرتم؟
وذلك يتبين بالوجه التاسع: وهو أنكم إنما ضللتم بعدولكم عن صريح كلام الأنبياء وظاهره، إلى ما تأولتموه عليه من التأويلات التي لا يدل عليها لفظه، لا نصا ولا ظاهرا، فعدلتم عن المحكم واتبعتم المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
فلو تمسكتم بظاهر هذا الكلام، لم تضلوا، فإن الابن ظاهره في كلام الأنبياء، لا يراد به شيء من صفات الله، بل يراد به وليه وحبيبه ونحو ذلك، وروح القدس يراد به صفته، بل يراد به وحيه وملكه ونحو ذلك، فعدلتم عن ظاهر اللفظ ومفهومه إلى معنى لا يدل عليه اللفظ البتة، فكيف تدعون أنكم اتبعتم نصوص الأنبياء؟
الوجه العاشر: أنكم بالغتم في ذم المسيح وإنجيله، كما بالغتم في سب الله وشتمه، وإن كنتم لا تعلمون أن ذلك ذم، فلم ترضوا أن تجعلوا ظاهر كلام المسيح ما أنتم عليه من الكفر حتى جعلتم ظاهره كفرا لا ترضونه، مثل ثلاثة آلهة متفقة أو متفرقة، أو ثلاثة أجسام مؤلفة، أو ثلاثة أجزاء مفرقة، أو ثلاثة أشخاص مركبة.
فهذا ونحوه هو الذي ادعيتم أنه ظاهر كلام المسيح - عليه السلام -.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 276)
من صــ 341 الى صـ 355
وأنتم لا تقولون بهذا الظاهر، بل تكفرون قائله، كما يكفر المسلمون من يقول بالظاهر الذي هو التجسيم والتمثيل.
وهذا ما يتضمن أن كلام المسيح ظاهر في إثبات ثلاثة آلهة، وثلاثة أشخاص مؤلفة، وثلاثة أجزاء متفرقة، وثلاثة أشخاص مركبة.
كما زعمتم أن ظاهر القرآن التجسيم، وأنكم عدلتم عن هذا الظاهر إلى إثبات الأقانيم الثلاثة التي جعلتم فيها كلمة الله هي ابنه، وهو جوهر خالق يساويه في الجوهر، وأن المسيح هو هذا الابن المساوي للأب في الجوهر خالق العالمين، وديان يوم الدين والجالس فوق العرش عن يمين الرب، وأنه إله حق من إله حق، والروح أيضا إله ثالث، والآلهة الثلاثة إله واحد.
وهذا الذي ذكرتموه فيه من عيب المسيح وذمه ما ينتصر الله به للمسيح، وممن افترى عليه منكم ومن غيركم.
فإن المسيح - عليه السلام - على قولكم - لم يفصح لكم بأمانة تعتقدونها، ولا بتوحيد تعرفون به ربكم - عز وجل -، بل تكلم بما ظاهره إثبات ثلاثة آلهة، وثلاثة أجسام مركبة، وثلاثة أجزاء متفرقة، وأنكم أنتم أصلحتم ذلك حتى جعلتموه ثلاثة أقانيم، ووضعتم تلك الأمانة المخالفة لعقول ذوي العقول، ولكل كتاب جاء به رسول، مع أن المسيح لم ينطق بتثليث قط، ولا باتحاد، ولا بما يدل على ذلك.
وعمدتم على ما نقله " متى " عنه دون الثلاثة أنه قال: (عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس).
وهذا الكلام ظاهر، بل نصه حجة على خلاف قولكم، وأنه أراد بالابن نفسه، وهو الناسوت، ولم يرد به صفة الله، وأراد بروح القدس ما أيده الله به، أو روح القدس الذي نفخ في أمه حتى حبلت به، لم يرد به صفة الله - تعالى -.
فتأولتم كلامه على خلاف ظاهره، تأويلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول، فكيف تدعون أنكم تمسكتم بظاهر كلامه؟
ولما كان قول النصارى في التثليث متناقضا في نفسه لا حقيقة له، صار مجرد تصوره التام كافيا في العلم بفساده من غير احتياج إلى دليل، وإن كانت الأدلة تظهر بفساده.
ولهذا سلك طائفة من العلماء في الكلام معهم هذا المسلك، وهو أن مجرد تصور مذهبهم كاف في العلم بفساده، فإنه غير معقول.
وقالوا: إن النصارى ناقضت في اللفظ وأحالت في المعنى، فلا يجوز أن يعتقد ما يدعون انتحاله لتناقضه.
وذلك أنهم يزعمون أن الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة، وهذا لا يصح اعتقاده ; لأنه لا يجوز أن يعتقد المعتقد في شيء أنه ثلاثة، مع اعتقاده فيه أنه واحد ; لأن ذلك متضاد.
وإذا كان ذلك كذلك، فليس يخلو من أن يعتقد أنه ثلاثة، أو أنه واحد.
وليس يحتاج أن يعرف بدليل بطلان قول من ادعى أن الواحد ثلاثة، وأن الثلاثة واحد ; لأن ذلك لا يعقل.
وهو كمن ادعى في الشيء أنه موجود معدوم، أو قديم محدث، أو في الجسم أنه قائم قاعد، متحرك ساكن.
وإذا كان كذلك، فتناقضه أظهر من أن يحتاج فيه إلى دلالة.
وإذا قال النصارى: إنه أحدي الذات ثلاثي الصفات.
قيل: لو اقتصرتم على قولكم: إنه واحد له صفات متعددة، لم ينكر ذلك عليكم جمهور المسلمين، بل ينكرون تخصيص الصفات بثلاث، فإن هذا باطل من وجوه متعددة:منها: أن الأب عندكم هو الجوهر ليس هو صفة، فلا يكون له صفة إلا الحياة والعلم، فيكون جوهرا واحدا له أقنومان، وأنتم جعلتم ثلاثة أقانيم.
ومنها: أن صفات الرب لا تنحصر في العلم والحياة، بل هو موصوف بالقدرة وغيرها.
ومنها: أنكم تارة تفسرون روح القدس بالحياة، وتارة بالقدرة، وتارة بالوجود.
وتفسرون الكلمة تارة بالعلم، وتارة بالحكمة، وتارة بالكلام.
فبطلان قولكم في إثبات ثلاث صفات، كثير وأنتم مع هذا تجعلون كل واحدة منها إلها. فتجعلون الحياة إلها، والعلم إلها، وهذا باطل.
وأما من لم يثبت الصفات من المسلمين وغيرهم، فيردون عليكم من وجوه أخرى كقول بعضهم: إذا قيل: ألستم تقولون: إن الأبعاض
الكثيرة تكون إنسانا واحدا، والآحاد الكثيرة عشرة واحدة، والأجسام الكثيرة دارا واحدة ومدينة واحدة، وما جرى هذا المجرى مما هو أكثر من أن يحصى، وأظهر من أن يخفى.
فكيف عبتم ذلك من النصارى؟ ولم أنكرتم أن يكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا؟
قيل: إن قولنا: إنسان واحد، ودار واحدة، وعشرة واحدة، وما يجري هذا المجرى، أسماء تنبئ عن الجمل لا عن آحاد.
وإذا قلنا: إنسان واحد، فكأنا قلنا: جملة واحدة، وكذلك إذا قلنا: عشرة واحدة، لا أنا نثبته واحدا في الحقيقة.
كيف ونحن نقول: إن أبعاض الإنسان متغايرة، فكل بعض منها غير سائرها، وكذلك كل واحد من العشرة غير سائرها؟
فنحن وإن قلنا: إنسان واحد، فلسنا نثبته شيئا واحدا في نفسه، ولو أثبتنا ذلك، لتناقضنا مناقضة النصارى، وإنما قلنا: هي جملة واحدة، ولو قالت النصارى مثل ذلك، لم تتناقض، حتى يزعموا أنها ثلاثة أشياء جملة واحدة.
فيكون مرادهم في ذلك بوصفهم الأقانيم الثلاثة، بأنها جوهر واحد مما نريد بقولنا: الأبعاض الكثيرة - أنه إنسان واحد.
فيكون وصفهم لها بأنها جوهر، إنما ينبئ أنها جملة، وليس هذا مما يذهبون إليه، ولا يعتقدونه ولا يجعلون له معنى ; لأنهم لا يعطون
حقيقة التثليث، فيثبتون الأقانيم الثلاثة متغايرة، ولا حقيقة التوحيد، فيثبتون القديم واحدا ليس باثنين ولا أكثر من ذلك.
وإذا كان ذلك كذلك، فما قالوه هو شيء لا يعقل، ولا يصلح اعتقاده، ويمكن أن يعارضوا على قولهم بكل حال.
فيقال لهم: إذا جاز عندكم أن تكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا، فلم لا يجوز أن تكون ثلاثة آلهة جوهرا واحدا، وثلاثة فاعلين جوهرا واحدا، وثلاثة أغيار جوهرا واحدا، وثلاثة أشياء جوهرا واحدا، وثلاثة قادرين جوهرا واحدا، وكل ثلاثة أشياء جوهرا واحدا، وكل ما يجري هذا المجرى من المعارضة؟ فلا يجدون فصلا.
الوجه الحادي عشر: أن غلاة المجسمة الذين يكفرهم المسلمون أحسن حالا منكم شرعا وعقلا، وهم أقل مخالفة للشرع والعقل منكم.
فإذا كان هؤلاء خيرا منكم، فكيف تشبهون أنفسكم بمن هو خير من هؤلاء من أهل السنة من المسلمين الذين لا يقولون لا بتمثيل ولا بتعطيل.
وبيان ذلك أن التوراة والإنجيل وسائر كتب الله، وغير ذلك مما هو مأثور عن الأنبياء فيه نصوص كثيرة صريحة ظاهرة واضحة في وحدانية الله، وأنه لا إله غيره، وهو مسمى فيها بالأسماء الحسنى، موصوف بالصفات العلى، وأن كل ما سواه مخلوق له، ليس فيه
تثليث ولا اتحاد الخالق بشيء من المخلوقات، لا المسيح ولا غيره.
وفيها ألفاظ قليلة مشكلة متشابهة، وهي - مع ذلك - لا تدل على ما ذكرتموه من التثليث والاتحاد، لا نصا ولا ظاهرا، ولكن بعضها يحتمل بعض ما قلتم، وليس فيها شيء يحتمل جميع ما قلتم، فضلا عن أن يكون ظاهرا فيه أو نصا، بل بعضها يحتمل بعض قولكم.
فأخذتم ذلك المحتمل وضممتم إليه من الكفر الصريح والتناقض القبيح ما صيرتموه أمانة لكم ; (أي عقيدة إيمان لكم).
ولو كانت كلها تحتمل جميع ما قلتم، لم يجز العدول عن النص والظاهر إلى المحتمل، ولو كان بعضها ظاهرا فيما قلتم، لم يجز العدول عن النصوص الصريحة إلى الظاهر المحتمل.
ولو قدر أن فيها نصوصا صريحة قد عارضتها نصوص أخرى صريحة، لكان الواجب أن ينظروا بنور الله الذي أيد به عباده المؤمنين، فيتبعون أحسن ما أنزل الله، وهو المعنى الذي يوافق صريح المعقول وسائر كتب الله، وذلك النص الآخر إن فهموا تفسيره، وإلا فوضوا معناه إلى الله - تعالى - إن كان ثابتا عن الأنبياء.
وهؤلاء عدلوا عما يعلم بصريح المعقول، وعما يعلم بنصوص الأنبياء الكثيرة، إلى ما يحتمله بعض الألفاظ لموافقته لهواهم، فلم يتبعوا: {إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم: 23]
وأما كفار المجسمة، فهؤلاء أعذر وأقل كفرا من النصارى، فإن هؤلاء يقولون كما يقوله معهم النفاة: إن ظواهر جميع الكتب هو التجسيم.
ففي التوراة والقرآن من الآيات التي ظاهرها التجسيم ما لا يحصى.
وليس فيها نص بما يقوله النفاة من أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا هو فوق العرش، ولا يشار إليه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يقرب منه شيء، ولا يدنو من شيء، ولا يدنو إليه شيء، إلى نحو ذلك من النفي الذي يقوله نفاة الصفات.
فمعلوم أنه ليس في الكتب الإلهية لا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن ولا غير ذلك من النبوات - من هذا حرف واحد، وكلها مملوءة مما يقول هؤلاء: إنه تجسيم.
فيقول هؤلاء: نحن اتبعنا نصوص الأنبياء، ولم نعدل عنها إلى غيرها، ولم نجد في نصوصهم نصا محكما صريحا بالنفي الذي يقوله نفاة الصفات.
ووجدنا نصوصهم كلها بالإثبات الذي يقولون: إنه تجسيم.
فكان على قولنا وقولهم نصوص الأنبياء ظاهرة في التجسيم، وليس لهم نص يناقض ذلك، فاتبعنا نصوصهم، وكل من عارض إثبات الصفات، لم يعارضها بنصوص صريحة عن الأنبياء، لكن بحجج عقلية.
فيقول هؤلاء: إن النصارى خالفوا صريح المعقول، وصريح كلام الأنبياء، واتبعوا قليلا من متشابه كلامهم، ونحن اتبعنا نصوص الأنبياء، ولم نخالف شيئا من صريح نصوصهم، ولكن مخالفنا يقول: إنا خالفنا العقل.
ونحن ننازعه في ذلك، وندعي أن العقل معنا لا علينا، وأن ما يدعيه من المعقولات التي تعارض كلام الأنبياء فهي باطلة.
أو يقولون: نحن والنصارى متفقون على أنا لا نعارض كلام الأنبياء بالشبه العقلية، لكن نحن اتبعنا كلامهم المحكم الظاهر الكثير، الذين لا مخالف له من كلامهم.
وهم خالفوا كلامهم الكثير المحكم، واتبعوا قليلا من المتشابه.
ويقول الغلاة من هؤلاء الذين يكفرهم أئمة المسلمين وجمهورهم الذي يحكي عنهم: أن الله ينزل إلى الأرض عشية عرفة، فيعانق المشاة ويصافح الركبان، وأنه يتمشى في الأرض، يكون موطئ أقدامه مروجا، ونحو ذلك.
ليس هذا القول بأعجب من قول النصارى الذين يقولون: إنه هو المسيح، وأن اللاهوت والناسوت اتحدا.
فنحن نقول أيضا: إنه حل في بعض الأجساد المخلوقة، كما يقوله النصارى.
أو نقول: إنه تجسد كما تتجسد الملائكة والجن، وهذا أقرب من قول النصارى: إنه اتحد بجسم المسيح.
فإنا قد عهدنا اللطائف من الملائكة تتصور في صورة بشرية، ولم نعهد ملكا صار هو والبشر شيئا واحدا.
فإذا لم يجز أن يتحد الملك بالبشر، فكيف يجوز أن يتحد رب الخلائق كلهم بالبشر؟
قالوا: وقد يحل الجني في بدن الإنسي ويتكلم على لسانه، إلا أنهما جوهران ومشيئتان وطبيعتان، ليس بينهما اتحاد، لكنه دخل فيه وتكلم على لسانه.
والنصارى يقولون: إن رب العالمين اتحد بالبشر، فمنهم من يقول: جوهر واحد، ومنهم من يقول: شخص واحد وأقنوم واحد، ومنهم من يقول: مشيئة واحدة، فلابد لكل منهم من نوع اتحاد، وهذا أبعد من حلول الجني في الإنسي، فإذا كان ما يقولونه ممتنعا في الجن والملائكة، فكيف برب العالمين؟
ومن غلاة المجسمة اليهود، من يحكىعنه أنه قال: (إن الله بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، وأنه ندم حتى عض يده وجرى منه الدم)، وهذا كفر واضح صريح، ولكن يقولون: قولنا خير من قول النصارى، فإن النصارى يقولون: (إنه أخذ وضرب بالسياط وبصق في وجهه، ووضع الشوك على رأسه كالتاج، وصلب بين لصين، وفعل به من أقبح ما يفعل باللصوص قطاع الطرق.
وقد صرح كثير منهم بأن هذا فعل باللاهوت والناسوت جميعا.
وشريعة إيمانهم تدل على ذلك، وهو لازم لمن أنكر ذلك منهم، فإنه مع القول بالاتحاد الذي لا بد لطوائفهم الثلاثة منه، يمتنع أن تحل هذه العقوبات في هذا دون ذاك، فلا يمكن أن يحل في الناسوت دون اللاهوت، فإن هذا إنما يتصور إذا كان اثنين، ومن قال بالاتحاد، امتنع عنده أن يكون هناك اثنان.
وفي الجملة، فالنصارى المثلثة، إما أن يصرحوا بالاتحاد من كل وجه كاليعقوبية، وهؤلاء يصرحون بأن الآلآم حلت باللاهوت.
وإما أن يقولوا بالاتحاد من وجه كقول الملكية: إنهما شخص
واحد، وقول النسطورية: هما مشيئة واحدة.
وحينئذ فما قالوه من التعدد الذي يوجب المباينة، وأنه لا يتصف أحدهما بما يتصف به الآخر، ولا يحل به ما حل به، فيكون متناقضا لهذا.
فأحسن أحوالهم أن يتناقضوا في الاتحاد، كما تناقضوا في التثليث، وهذا حقيقة قول خيار هؤلاء يتكلمون بالكفر وبما يناقضه، وبالتوحيد وبما يناقضه.
ومعلوم أن ما يفعله بنفسه من ندم وبكاء وحزن، هو دون ما يفعله أعداؤه به من ضرب وصفع وجعل الشوك على رأسه، وصلبه بين لصين، وأن استغاثته بمن يخلصه من ذلك أشد نقصا من ندمه وحزنه.
وإن قالوا: فعل هذا حتى يعلم عباده التشبه به - أمكن أولئك المجسمة الكفرة أن يقولوا: بكى وندم وعض يده ندما حتى جرى الدم، حتى يعلم عباده التوبة من الذنوب.
ففي الجملة، ما قال قوم من أهل الملل قولا في الله، إلا وقول النصارى أقبح منه.
ولهذا، كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يقول: لا ترحموهم، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر، ولهذا يعظم الله فريتهم على الله في القرآن أشد من تعظيم افتراء غيرهم كقوله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا - لقد جئتم شيئا إدا - تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا - أن دعوا للرحمن ولدا - وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا - إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا - لقد أحصاهم وعدهم عدا - وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} [مريم: 88 - 95].
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ("يقول الله - عز وجل - كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته").
ورواه البخاري عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ("قال الله - عز وجل -: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا").
وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ("ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله - عز وجل - إنه يشرك به ويجعل له ند وهو يعافيهم ويرزقهم ويدفع عنهم".)
الوجه الثاني عشر: أن كل من يعتقد في التجسيم ما يعتقد، يمكنه أن يقول كما يقوله النصارى، فإن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم، قالوا: إنه إله تام وإنسان تام، وليس فيه من الإلهية شيء، فما بقي مع هذا يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فيه.
فلو قال القائل: إن موسى بن عمران كان هو الله، لم يكن هذا أبعد من قول النصارى، فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر، وقد سماه الله في التوراة إلها لهارون ولفرعون.
فإذا قيل فيه ما قالوه في المسيح: إنه أظهر المعجز بلاهوته، وأظهر العبودية بناسوته، لم يكن بطلان هذا أظهر من بطلان قول النصارى، بل متى جوزوا اتحاد اللاهوت بالناسوت، لم يمكنهم دفع ذلك عن أحد ممن يدعى فيه إلا بدليل خاص، بل إذا قيل لهم حل في كثير من الأنبياء والقداديس، لم يمكنهم نفي ذلك.
وإذا قالوا: لم يخبر بذلك أحد، ولم يبشر به نبي، أو هذا غير معلوم.
قيل لهم: غاية هذا كله، أنكم لا تعلمون ذلك، ولم يقم عندكم دليل عليه، وعدم العلم ليس علما بالعدم، فعدم علمكم وعدم علم غيركم بالشيء، ليس علما بعدم ذلك الشيء.
وكذلك عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول عليه، فإن كل ما خلقه الله دليل عليه، ثم إذا عدم ذلك لم يلزم عدم الخالق، فلا يجوز نفي الشيء لعدم الدليل الدال عليه، إلا أن يكون عدم الدليل مستلزما لعدمه، كالأمور التي تتوفر الهمم على نقلها، إذا لم ينقل علم انتفاؤها.
والمقصود أنكم - مع العدم - يمكنكم النفي العام عن غير المسيح لعدم الدليل الدال عليه، فإنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول في نفس الأمر، لا سيما وهو كان متحدا بالمسيح عندهم أكثر من ثلاثين سنة، ومع هذا فكان يخفي نفسه ولا يظهر إلا العبودية.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 277)
من صــ 356 الى صـ 370
فإذا قيل لهم: هكذا كان متحدا بغيره من الأنبياء والصالحين، ولكن أخفى نفسه لحكمة له في ذلك، أو أظهر على نفسه بعض خواص عباده، أو أظهر لطائفة لم ينقل إلينا خبرهم ونحو ذلك، لم يمكن مع تصديق النصارى فيما يدعونه الجزم بكذب هؤلاء، بل من جوز قول النصارى، جوز أن يكون متحدا بغير ذلك من الأجسام، فيجعل كثيرا من الأجسام المخلوقة هي رب العالمين، إذ كانت ليس هو متحدا بها في نفس الأمر.
فإذا اعتقدوا الاتحاد فيها، كما اعتقدته النصارى في المسيح، لم يكن ثم إله في الحقيقة إلا ذلك الجسم الناسوتي المخلوق.
لكن ظن الضال أنه رب العالمين، كما ظن عباد العجل أن العجل إله موسى. فإذا جاز أن يتحد الرب - عز وجل - ببعض الأجسام، لم ينكر على أصحاب العجل إذا جوزوا أن يكون رب العالمين اتحد بالعجل، وقد رأوا منه نوع خرق عادة. فليس للنصارى أن ينكروا على عباد العجل ولا عباد شيء من الأصنام إذا أمكن أن يكون الرب - عز وجل - حل فيها عندهم إن لم يقيموا دليلا على أن الرب لم يحل في ذلك.
فإذا قيل: إن موسى - عليه السلام - أنكر على عباد العجل.
قيل: نعم. وموسى ينكر على كل من عبد شيئا من المخلوقات، حتى لو عبد أحد الشجرة التي كلمه الله منها لأنكر عليه، فإنكاره على النصارى أعظم.
وموسى - عليه السلام - لم يقل قط: إن الله يتحد بشيء مع المخلوقات ويحل فيه، بل أخبر من عظمة الله - عز وجل - بما يناقض ذلك.
ففي التوراة من نهيه عن عبادة ما سوى الله ومن تعظيم أمره وعقوبة المشركين به، وبما أخبر به من صفات الله - عز وجل - ما يناقض قول النصارى.
ولهذا كان من تدبر التوراة وغيرها من كلام الأنبياء - عليهم السلام - من النصارى، تبين له أن دينهم يناقض دين الأنبياء كلهم، وأن ما هم عليه من التثليث والاتحاد والشرك، لم يبعث به أحد من الأنبياء - عليهم السلام -.
وما يفعلونه من دعاء المخلوقين كالملائكة، أو كالأنبياء والصالحين الذين ماتوا، مثل دعائهم مريم وغيرها، وطلبهم من الأموات الشفاعة لهم عند الله - لم يبعث به أحد من الأنبياء، فكيف وقد صوروا تماثيلهم ليكون تذكيرا لهم بأصحابها، ويدعون تلك الصور؟
وإن قصدوا دعاء أصحابها، فهم إذا صرحوا بدعاء أصحابها وطلبوا منهم الشفاعة وهم موتى وغائبون، كانوا مشركين.
فكيف إذا كان الدعاء في الظاهر لتماثيلهم المصورة، وهذا مما يعترف حذاق علمائهم بأنه مخالف لدين الأنبياء كلهم.
ولهذا وقع بينهم تنازع في اتخاذ الصور في الكنائس لما ابتدعه بعضهم، كما هو مذكور في أخبارهم، ولم يأت من ابتدع ذلك بحجة شرعية.
والمجسمة يعتقدون أن الله قديم أزلي، وأنه عظيم جدا، لا يقولون: إنه متحد بشيء من الأجسام المخلوقة، ولا يحل فيها. فمن
قال باتحاده وحلوله فيها، كان قوله شرا من قول هؤلاء المجسمة.
كما أن المتفلسفة الذين يقولون بأن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة بنفسها أولها علة تتشبه بها كما يقوله " أرسطو " وذووه، أو يثبتون لها علة فاعلة، لم تزل مقارنة لها، كما يقوله " ابن سينا " وأمثاله.
وهؤلاء قولهم شر من قول اليهود والنصارى ومشركي العرب الذين يثبتون للسموات والأرض خالقا خلقها بمشيئته وقدرته.
ولو قال من قال منهم: إن ذلك جسم فغايته أن يثبت جسما قديما أزليا موصوفا بصفات الكمال
فمن أثبت جسما قديما أزليا ليس موصوفا بصفات الكمال، كان قوله شرا من قول هذا.
فتبين أن المجسمة الذين يثبتون جسما قديما أزليا واجب الوجود بنفسه عالما بكل شيء قادرا على كل شيء مع قولهم: إنه تحله الحوادث وتقوم به الحركة والسكون - خير من قول الفلاسفة الذين يقولون: إن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة الوجود بنفسها، كما يقوله " أرسطو " وذووه، وخير من النصارى أيضا.
الوجه الثالث عشر: قولهم: من قال: ثلاثة آلهة مختلفة أو متفقة، أو ثلاثة أشخاص مركبة، أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه - فنحن نلعنه ونكفره.
فيقال لهم: وأنتم أيضا تلعنون من قال: إن المسيح ليس هو إله حق من إله حق، ولا هو مساوي الأب في الجوهر، ومن قال: إنه
ليس بخالق، ومن قال: إنه ليس بجالس عن يمين أبيه، ومن قال أيضا: إن روح القدس ليس برب حق محي، ومن قال: إنه ليس ثلاثة أقانيم.
وتلعنون أيضا مع قولكم إنه الخالق من قال: إنه الأب، والأب هو الخالق، فتلعنون من قال: هو الأب الخالق، ومن قال: ليس هو الخالق، فتجمعون بين النقيضين.
فتلعنون من جرد التوحيد بلا شرك ولا تثليث، ومن أثبت التثليث مع انفصال كل واحد عن الآخر، وتجمعون بين النقيضين.
فمن أثبت أحدهما منفكا عن الآخر لعنتموه، كمن قال: عندي واحد ثلاثة.
فمن قال: هو واحد ليس بثلاثة - كذبه، ومن قال: هو ثلاثة ليس واحدا - كذبه.
ومن قال: عندي شيء موجود معدوم، فمن قال: هو موجود ليس بمعدوم - كذبه، ومن قال: معدوم ليس بموجود - كذبه.
ومن قال: عندي شيء هو حي ميت، هو عالم جاهل، هو قادر عاجز، فمن قال: هو حي ليس بميت - كذبه، ومن قال: هو ميت ليس بحي - كذبه.
فهكذا أنتم تجمعون بين قولين متناقضين، أحدهما حق والآخر باطل.
فمن قال الحق ونفى الباطل لعنتموه، ومن قال الباطل ونفى
الحق لعنتموه.
وأنتم تشبهون الملاحدة من الجهمية والفلاسفة والباطنية الذين يسلبون عنه النقيضين، أو يمتنعون عن إثبات أحد النقيضين، فيقولون: لا نقول هو حي ولا ليس بحي، ولا هو عالم ولا ليس بعالم، ولا قادر ولا ليس بقادر.
بل منهم من يقول: لا نقول: هو موجود ولا معدوم، ولا نقول هو شيء ولا نقول ليس بشيء.
ومنهم من يقول: ليس بحي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز.
ومنهم من يقول: لا نطلق لا هذا ولا هذا.
فيقال لهم: رفع النقيضين كجمع النقيضين، والامتناع عن إثبات أحد النقيضين، كالامتناع عن نفي أحد النقيضين.
وكذلك من وصفه بأنه موجود واجب الوجود لذاته، ثم وصفه بصفات تستلزم عدمه، فقد جمع بين النقيضين.
وكل قول يتضمن جمع النقيضين وإثبات الشيء ونفيه، أو رفع النقيضين الإثبات والنفي - فهو باطل.
والنصارى في هذا الباب من أبلغ الناس تناقضا يقولون الشيء ويقولون بما يناقضه، ويلعنون من قال هذا ومن قال هذا.
وأيضا فكل طائفة منكم تلعن الأخرى، فإن أهل الأمانة تلعن الأريوسية وغيرهم من طوائف النصارى، وهم يلعنونكم وكل من فرقكم
الثلاثة، النسطورية، واليعقوبية، والملكية، تلعن الطائفتين الأخريين.
فأنتم واليعقوبية تلعنون من يقول: إن مريم لم تلد إلها، ويقولون: إن مريم ولدت إنسانا تاما إلها تاما.
وأنتم والنسطورية تلعنون من قال: إنهما جوهر واحد بمشيئة واحدة وطبيعة واحدة.
ومن قال: إن اللاهوت تألم مع قولكم: إن اللاهوت مولود من مريم، ومع قولكم: المسيح الذي ولدته مريم مات وصلب، وفي أقوالكم من العجائب المتناقضة التي توجب أنكم ملعونون، ما يطول وصفه، فما منكم من أحد إلا وهو لاعن ملعون، فلعنكم من قال بهذه المقالات، لا يوجب أنكم على الحق، بل يوجب أن يكون من جملة الملعونين عندكم كطائفة من طوائفكم. والنصارى طوائف كثيرون مختلفون اختلافا كثيرا.
والطوائف الثلاثة المشهورة في الأزمان المتأخرة منهم - بعض طوائفهم، وإلا فهم طوائف كثيرون مختلفون في التثليث والاتحاد.
وتجد كل صنف منهم أو غيرهم في مقالاتهم يحكي أقوالا غير الأقوال التي حكاها الآخرون.
ومن أجل من جمع أخبارهم عندهم، سعيد بن البطريق بترك الإسكندرية في أثناء المائة الرابعة من دولة الإسلام، وقد بحث لهم بحثا استقصى فيه - بزعمه - نصر مذهبهم، وهو ملكي، وقد ذكرت
كلامه في غير هذا الموضع.
وفيهم من يقول: إن مريم زوجة الله، وفيهم من يجعلها إلها آخر كالمسيح.
وفيهم من يثبت أن المسيح ابن الله، الولادة المعقولة المعروفة من الحيوان.
والأمانة التي جعلوها عقيدتهم وأصل إيمانهم في زمن " قسطنطين " بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، هي وغيرها من أقوالهم الظاهرة تدل على هذه الأمور المنكرة القبيحة دلالة بينة.
لكن علماؤهم يتأولونها بتأويلات تناقض مدلولها، مع فساد تلك المعاني التي يحملونها عليها عقلا وشرعا.
وليست تلك ألفاظ الأنبياء حتى يقال: حكمهم في ذلك حكم سائر الطوائف من المسلمين وغيرهم، الذين يقولون ما يرونه متشابها من كلام الأنبياء، ويقولون: إن الأنبياء تكلموا بما لا يعرف أحد معناه، أو إنهم خاطبوا الجمهور بما أرادوا به تفهيمهم أمورا ينتفعون بها، وإن كان ذلك كذبا باطلا في نفس الأمر.
فإن هؤلاء الطوائف، وإن كان فيهم من الضلال والجهل ما قد بسط في غير هذا الموضع، فقد فعلوا ذلك في ألفاظ الأنبياء التي لها حرمة النبوة.
بخلاف النصارى فإنهم وضعوا عقيدة وشريعة، ليست ألفاظها منقولة عن أحد من الأنبياء.
الوجه الرابع عشر: قولهم: ويراد بالأب والابن غير أبوة وبنوة نكاح، ومن أراد ولادة زوجة لعناه.
فيقال: لفظ الولادة المعروفة، إنما يكون من أصلين، وإنما يكون بانفصال جزء من الأصلين، وإنما يكون بحدوث المولود سواء أريد ولادة الحيوان أو غيرها، كما تتولد النار من بين الزنادين، فإذا قدح أحدهما بالآخر، خرج منهما جزء لطيف، فاستحال نارا، ثم سقط على الحراق.
وقد توسع بعض الناس في الولادة حتى عبر به عما يحدث عن الشيء، وإن لم يكن بانفصال جزء منه، كتولد الشعاع عن النار والشمس وغيرها ; لأن هذا يحدث بشيئين أحدهما ما يصدر عنه من الشمس والنار، والثاني المحل القابل له الذي ينعكس عليه، وهو الجرم المقابل له الذي يقوم به الشعاع.
فأما ما يحدث عن شيء واحد، فلا يعرف أنه يسمى ولادة إن قدر وجود ذلك، وكذلك لا يعرف ما يلزم الشيء الواحد أنه يسمى ولدا.
فأما ما يقوم بالموصوف من صفاته اللازمة له، فهذا أبعد
شيء عن أن يسمى هذا الملزوم ولادة، بل لا تكون الولادة إلا عن أصلين.
وكل من قال: إن لله ولدا، لزمه أن يكون له صاحبة بأي وجه فسر الولادة، وأن يكون له ولد حادث، ولهذا قال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون - بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 100 - 101]. فاستفهم تعالى استفهام إنكار، ليبين امتناع أن يكون له ولد، إذ لم تكن له صاحبة، فإن الولد لا يكون إلا من أصلين، وهذا مما ينبغي أن يتفطن له، فإن جعل ما يلزم الشيء الواحد متولدا عنه لا يعرف، لا سيما صفاته القائمة به اللازمة له، كعلمه وحياته، لا سيما الصفات القديمة الأزلية اللازمة لذات رب العالمين الذي لم يزل ولا يزال موصوفا بها، فإن صفات العبد اللازمة له، كحياته وقدرته ونحو ذلك، ليست متولدة عنه عند جميع العقلاء.
ولا يقول عاقل يعقل ما يقول: إن لون السماء وقدرها متولد عنها، ولا إن قدر الشمس وضوءها القائم بها اللازم لها متولد عنها، ولا يقول أحد: إن حرارة النار وضوءها القائم بها متولد عنها.
وإنما يقال: إن قيل فيما ليس بقائم بها، بل قائم بغيرها، أو فيما هو حادث بعد أن لم يكن، كالشعاع القائم بالأرض والحيطان، وهذا ليس بقائم بها، بل قائم بغيرها، هو حادث متولد عن أصلين لا عن أصل واحد.
فأما صفات المخلوق القائمة به اللازمة له، فلا يقول أحد من العقلاء: إنها متولدة عنه.
والنصارى يزعمون أن كلمة الله التي يفسرونها بعلمه أو حكمته، وروح القدس التي يفسرونها بحياته وقدرته - هي صفة له قديمة أزلية، لم يزل ولا يزال موصوفا بها.
ويقولون - مع ذلك -: إن الكلمة هي مولودة منه، فيجعلون علمه القديم الأزلي متولدا عنه، ولا يجعلون حياته القديمة الأزلية متولدة عنه.
وقد أصابوا في أنهم لم يجعلوا حياته متولدة عنه، لكن ظهر بذلك بعض مناقضاتهم وضلالهم، فإنه أنواع كثيرة، فإنه إن كانت صفة الموصوف القديمة اللازمة لذاته يقال: إنها ابنه وولده ومتولد عنه، ونحو ذلك، فتكون حياته أيضا ابنه وولده ومتولدا عنه، وإن لم يكن كذلك، فلا يكون علمه ابنه ولا ولده ولا متولدا عنه.
وأبلغ من ذلك أن روح القدس المنفصلة عنه القائمة بالأنبياء والصديقين، يقولون إنها ولده ولا إنها متولدة عنه، بل يخصون
ذلك بالكلمة، فلا ينقلون عن أحد من الأنبياء أنه سمى شيئا من صفات الله ابنا ولا ولدا، ولا قال: إن علم الله أو كلامه أو حكمته ولده أو ابنه، أو هو متولد عنه.
فعلم أن القوم في غاية التناقض في المعاني والألفاظ، وأنهم مخالفون للكتب الإلهية كلها، ولما فطر الله عليه عباده من المعقولات التي يسمونها نواميس عقلية، ومخالفون لجميع لغات الآدميين، وهذا مما يظهر به فساد تمثيلهم، فإنهم قالوا: تولدت الكلمة عنه، كما تولد الكلمة والحكمة فينا عن العقل.
فيقال لهم: لو قدر أن الأنبياء سموا ذلك تولدا، فما يتولد فينا حادث بعد أن لم يكن، وحدوثه يتسبب من فعلنا وقدرتنا ومشيئتنا.
فأما صفاتنا اللازمة لنا، التي لا اختيار لنا في اتصافنا بها، ولم نزل متصفين بها، فلا يقول عاقل: إنها متولدة فينا وعنا.
وأنتم تجعلون صفة الله القديمة اللازمة له التي لم يزل ولا يزال متصفا بها، متولدة عنه.
فلو قدر أن ما ذكرتموه من التولد العقلي أمر معروف في اللغة والعقل والشرع، لم يكن لكم أن تجعلوا علم الله وحكمته التي فسرتم بها كلمته ابنا له ومولودا منه، لم يزل مولودا منه ; لأن هذا باطل عقلا وشرعا ولغة.
أما العقل، فإن صفة الموصوف اللازمة له - وإن كان مخلوقا -
ليست متولدة عنه، فكيف الصفة القديمة للموصوف القديم؟
ولو جاز هذا، جاز أن يجعل ما كان لازما لغيره ولدا له ومولودا منه، فيجعل كيفيات الأشياء وكمياتها متولدة عنها وأمثالها.
ويقال: إن طول الجسم وعرضه وعمقه متولد عنه، وإن حياة الحي متولدة عنه، وإن القوى والطبايع التي جعلها الله في المخلوقات متولدة عنها.
وأما الشرع، فإن هذا لو كان متولدا وهو في بعض اللغات يسمى ولدا، لم يجز أن يحمل على ذلك كلام الأنبياء، إلا أن يكون في لغتهم يسمى ولدا.
وكل من نظر في كتب الأنبياء من علماء النصارى وغيرهم، لم يجد أحدا من الأنبياء يسمي علم الله وكلمته وحياته ولدا له، ولا ابنا له، ولا قال: إن ذلك يتولد عنه.
فقولهم عن المسيح: عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس: إنه أراد بالابن كلمة الله القديمة الأزلية، وإنها متولدة منه، وإنه أراد بروح القدس حياة الله القديمة الأزلية - كذب محض على المسيح - عليه السلام - لا يوجد قط في كلامه ولا كلام غيره من الأنبياء أنهم سموا علم الله وحكمته، ولا شيئا من صفاته القائمة به ابنا، ولا سموا حياته روح القدس.
وأما اللغة، فإن هذا التعبير الذي ذكروا - وهو تسمية صفات
الموصوف اللازمة له ولدا وابنا ومتولدا - لا يعرف في لغات بني آدم المعروفة.
وقد يتبنى الرجل ولد غيره فيتخذه ولدا ويجعله بمنزلة الولد، وإن لم يكن متولدا عنه، كما كانت تفعله أهل الجاهلية من العرب وغيرهم، ولهذا نزه الله - تعالى - نفسه عن الولادة وعن اتخاذ الولد فقال تعالى: {ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون} [الصافات: 151] وقال تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون - بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 100 - 101]. وقال تعالى: {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 3]
وأما اتخاذ الولد، ففي مواضع متعددة، كقوله تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك} [الإسراء: 111] وقوله تعالى:
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 278)
من صــ 371 الى صـ 385
{وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون - بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [البقرة: 116 - 117]. وقوله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون - لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون - يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون - ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} [الأنبياء: 26 - 29]. وقوله: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} [المؤمنون: 91] وقوله: {لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء} [الزمر: 4]
وأهل الكتاب يذكرون أن في كتبهم تسمية عباد الله الصالحين ابنا، وتسمية الله أبا، وتسمية المصطفين أبناء، وهذا إذا كان ثابتا عن الأنبياء، فإنهم لا يعنون به إلا معنى صحيحا
واللفظ قد يكون له في لغة معنى، وله في لغة أخرى معنى غير ذلك، والمراد بهذا الولد والابن لا ينافي كونه مخلوقا مربوبا عبدا لله - عز وجل -.
وأما تسمية شيء من صفات الله ابنا أو ولدا، فهذا لا يعرف عن أحد من الأنبياء، ولا الأمم أهل اللغات سوى مبتدعة النصارى. ولم يبق للتولد إلا معنيان: أحدهما: أن ينفصل عنه جزء، والثاني: أن يحدث عنه شيء، إما باختياره، وإما بغير اختياره وقدرته، كحدوث الشعاع عن النار والشمس.
وكل من الأمرين لا يكون إلا عن أصلين، ولا بد أن يكون حادثا، لا يكون من صفاته اللازمة له، فيمتنع أن يتولد عنه شيء إن لم يكن معه أصل آخر يتولد عنهما.
والتولد عنه بغير قدرته ومشيئته، ممتنع عند أهل الملل، المسلمين واليهود والنصارى وسائر الأمم، سوى طائفة من المتفلسفة يقولون: إنه موجب بذاته مستلزما لما يصدر عنه، فهؤلاء قولهم يناسب هذا التولد.
والنصارى تكفر هؤلاء، لكن قد ضاهوهم في القول، كما قال تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30].
وهذا قاله طائفة من اليهود، وهو معروف عن شخص يقال له فنحاص بن عازورا وأتباعه.
قال أبو محمد بن حزم: والصدوقية طائفة من اليهود نسبوا إلى رجل يقال له صدوق، وهم يقولون - من بين سائر اليهود -: إن العزير ابن الله، وكانوا بجهة اليمن.
ولكن المتفلسفة الذين يقولون بصدور العقول والأفلاك عنه، وإن سمي ذلك تولدا، فهم يجعلون ولده منفصلا عنه، لكن يثبتون ولدا قديما أزليا صدر عنه بغير اختياره، ويجعلون الشيء الواحد متولدا عنه.
وسائر الطوائف الذين أثبتوا لله ولدا، جعلوه حادثا منفصلا عنه.
فأما جعل صفته القائمة به ولدا له ومولودا، فهذا لا يعرف عن غير النصارى، فإذا أثبتوا له ولدا وابنا غير مخلوق، والصفة القائمة به اللازمة له، لم تتولد عنه ولا تسمى ابنا ولا ولدا عند أحد من الأنبياء وغيرهم - تعين أن يكون الولد إما جزءا منفصلا عنه، وإما معلولا له صادرا عنه بغير قدرته ومشيئته، وأي القولين قالوه فهم فيه كفار مضاهئون لقول الذين كفروا من قبل.
وبعض علمائهم، وإن أنكر ذلك، لكنهم يقولون ما يستلزم ذلك ويشبهونه بالشعاع من الشمس، ويقولون عن الروح: هو منبثق من الله خارج منه.
وهذا كله يناسب الولادة التي هي خروج شيء منه، أو حدوث شيء عنه بغير اختياره ومشيئته، ولا بد له - مع ذلك - من محل يقوم به، فإن الشعاع لا يقوم إلا بالأرض.
والأمر المنبثق الخارج من غيره، إما أن يكون جوهرا قائما بنفسه، أو صفة قائمة بغيرها.
فإن كان جوهرا، فقد انفصل من الرب جزء.
وإن كان عرضا، فلا بد له من محل، فيكون متولدا عن أصلين.
وتشبيههم بتولد الكلام عن العقل تشبيه باطل، فإن ذلك يحصل بقدرة الإنسان ومشيئته، وهو حادث بعد أن لم يكن.
هذا إذا عرف أن ما يقوم بقلب الإنسان من علم وحكمة، يقال: إنه يتولد عنه، ويقال: إنه ابنه، مع أن هذا أمر غير معروف في اللغات، ولو كان معروفا في لغة بعض الأمم، لم يجز أن يفسر به كلام الأنبياء، إن لم يكن معروفا في لغتهم.
وأما ما يدعونه، فإنهم يقولون: إن الكلمة لازمة لذات الله أزلا وأبدا، وهي مولودة منه، مع أنها غير مصنوعة، فهذا كلام متناقض باطل من وجوه.
فإن المتولد عن الشيء لا يتولد إلا عنه وعن غيره، وأما الشيء الواحد فلا يتولد عنه وحده شيء، وأيضا فإن ما تولد عن غيره لم يكن حادثا، وأما الصفة القديمة اللازمة لذات الرب فليست مولودة له، ولا متولدة عنه، بل هي قائمة به لازمة لذاته.
وأيضا، فإن المولود اسم مفعول، يقال: ولده يلده فهو مولود، وهذا لا يقال إلا في الحادث المتجدد، فإنه مفعول فعل الوالد.
والقديم الأزلي لا يكون مفعولا مولودا.
وأيضا فتسمية الصفة القديمة الأزلية مولودا وابنا، لا يوجد في كلام أحد من الأنبياء - عليهم السلام -.
فهب أن هذا مما يسوغ لنا في اللغة أن نقوله، لكن لا يجوز أن نحدث لغة غير لغة الأنبياء، ونحمل كلام الأنبياء عليها، فإن هذا كذب عليهم.
وهكذا تفعل النصارى وأمثالهم من أهل التحريف بكلام الأنبياء، يحدثون لهم لغة مخالفة للغة الأنبياء، ويحملون كلام الأنبياء عليه.
مثال ذلك أن الأنبياء أخبروا بأن الله إله واحد، وكفروا من أثبت إلهين اثنين، وأمروا بالتوحيد ودعوا إليه، وحرموا الشرك وكفروا أهله، وأخبروا أن الله واحد أحد، وكان مرادهم بذلك توحيده، وأنه لا يجوز أن يعبد إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، ليس مقصودهم بذلك نفي صفاته.
فلم يقصدوا بلفظ " الأحد والواحد " أنه ليس له علم ولا قدرة ولا شيء من الصفات.
فجاء طائفة من أهل البدع، ففسروا لفظ اسم " الواحد والأحد " بما جعلوه اصطلاحا لهم، فقالوا: الواحد الذي ليس فيه تركيب ولا ينقسم، ولو كان له صفات لكان مركبا، ولو قامت به الصفات لكان جسما، والجسم مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، فلا يكون أحدا ولا واحدا.
فيقال: هذا الذي قالوه، لو قدر أنه صحيح في العقل واللغة، فليس هو لغة الأنبياء التي خاطبوا بها الخلق، فكيف إذا لم يكن هذا الواحد من لغة أحد من الأمم؟
بل جميع الأمم تسمي ما قام به الصفات واحدا، بل يسمونه وحيدا، وقد يسمونه في غير الإثبات أحدا، كقوله: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] وقوله: {ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11] وأمثال ذلك.
وأما البحث العقلي في هذا، فقد بسطناه في غير هذا الموضع، وبينا أن ما يسميه هؤلاء المتفلسفة تركيبا، كقولهم: إن الشيء مركب من وجود وماهية، وقولهم: إن الأنواع مركبة من الأجناس والفصول، هو باطل عند جميع جمهور العقلاء.
وليس في الخارج إلا ذات متصفة بصفات، ليس في الخارج وجود القائم بنفسه، وماهية أخرى غير هذا الشيء الموجود القائم بنفسه مثلا.
ولكن قد يعنى بلفظ " ماهية " ما يتصور في الأذهان، وبالوجود ما يوجد في الأعيان، وحينئذ فهذه الماهية غير هذا الموجود، وحينئذ فيقال: هذه الماهية غير هذا الوجود.
وكذلك قولهم: إن الإنسان الموجود في الخارج مركب من الجنس والفصل، فإن الإنسان الموجود هو ذات متصفة بصفات هو وغيره من الموجودات.
ولكن يتصور في الذهن ما هو مركب من الحيوان والناطق، كما يتصور ما هو مركب من الحيوان والضاحك، وهذا تركيب ذهني لا تركيب في الخارج، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
وتبين أن ما جعلوه من الصفات داخلا في الماهية، وما جعلوه خارجا عنها لازما لها، وما هو مجموع أجزاء الماهية، يرجع عند التحقيق إلى ما هو مدلول عليه بالتضمن والالتزام والمطابقة.
ومن ذلك تركيب الجسم من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة.
وأكثر العقلاء ينكرون تركيب الجسم من هذا وهذا، كما قد بسط في موضع آخر.
والمقصود هنا، أن كلام الأنبياء لا يجوز أن يحمل إلا على لغتهم التي من عادتهم أن يخاطبوا بها الناس، لا يجوز أن يحدث لغة غير لغتهم، ويحمل كلامهم عليها.
بل إذا كان لبعض الناس - عادة ولغة - يخاطب بها أصحابه، وقدر أن ذلك يجوز له، فليس له أن يحمل ذلك، لغة النبي، ويحمل كلام النبي على ذلك.
ومن هذا إخبار الأنبياء بأن الله يقول ويتكلم وينادي ويناجي، وأنه قال كذا وتكلم بكذا، ونادى موسى ونحو ذلك.
والمعروف في لغتهم ولغة سائر الأمم، أن المتكلم من قام به الكلام، وإن كان متكلما بقدرته ومشيئته، لا يعرف في لغتهم أن المتكلم من أحدث كلاما منفصلا عنه، ولا أن المتكلم من قام به الكلام بدون قدرته ومشيئته.
فليس لأحد - إذا جعل اسم المتكلم لمن يحدث كلاما بائنا عنه، أو من قام به بدون قدرته ومشيئته - أن يحمل كلام الأنبياء على هذا.
بل المتكلم - عند الإطلاق - من تكلم بقدرته ومشيئته، مع قيام الكلام به.
وهذا هو المعروف في لغة الأنبياء وسائر الأمم عند الإطلاق، ونظائر هذا متعددة.
فمن فسر كلام الأنبياء بغير لغتهم المعروفة، فهم ممن بدل كلامهم وحرفه، والنصارى من هؤلاء.
وكذلك اسم العادل والظالم ونحوهما، فإن المعروف من كلام الأنبياء وغيرهم أن العادل من قام به العدل وفعل العدل بمشيئته وقدرته.
والظالم من قام به الظلم، وفعله بقدرته ومشيئته، لا يسمون من لم يقم به الظلم، ولكن قام بغيره، لكون قد جعل ذلك فاعلا له، ولا يسمون من لم يفعل الظلم - ولكن فعله غيره فيه - ظالما.
فمن جعل الظالم والكافر والفاسق من لم يفعل شيئا من ذلك ولكن فعله غيره فيه، أو جعل الظالم من لم يقم به ظلم فعله، ولكن جعل غيره متصفا به ظالما - فقد خرج عن المعروف من كلام الأنبياء وغيرهم.
وأبلغ من ذلك أن المحدث والحادث في لغة جميع الأمم، لا يسمى به إلا ما كان بعد أن لم يكن، والمخلوق أبلغ من المحدث والحادث فليس لأحد - إذا أحدث اصطلاحا سمى به القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا، ولكنه زعم أنه معلول لغيره، فسماه محدثا بهذا الاعتبار - أن يقول: أنا أحمل كلام الأنبياء الذي أخبروا به، أن السماوات والأرض
وما بينهما مخلوق أو مصنوع أو معقول أو محدث أو نحو ذلك من العبارات - على أن مرادهم بذلك أنه معلول، مع كونه قديما أزليا لم يزل.
وأما لفظ " القديم " فهو في اللغة المشهورة التي خاطبنا بها الأنبياء، يراد به ما كان متقدما على غيره تقدما زمانيا، سواء سبقه عدم أو لم يسبقه، كما قال تعالى: {حتى عاد كالعرجون القديم} [يس: 39] وقال تعالى: {تالله إنك لفي ضلالك القديم} [يوسف: 95] وقال " الخليل ": {أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء: 75]
فلهذا كان القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا، ولم يسبقه عدم - أحق باسم القديم من غيره.
وليس لأحد أن يجعل القديم والمتقدم اسما لما قارن غيره في الزمان لزعمه أنه متقدم عليه بالعلة، ويقول: إنه متقدم على غيره وسابق له بهذا الاعتبار، وإن ذلك المعلول متأخر عنه بهذا الاعتبار، ثم يحمل ما جاء من كلام الأنبياء وأتباع الأنبياء وعموم الخلق على هذا الاصطلاح لو كان حقا، فكيف إذا كان باطلا.
وما ذكره من التقدم والسبق والتأخر بغير الزمان، أمر غير موجود ولا معقول ولا يعرف في الوجود من فعل شيئا، وكان علة فاعلة له إلا وهو متقدم عليه سابق له، ليس مقارنا له في الزمان ألبتة، بل متقدم عليه تقدما زمانيا.
وكل من يعرف أنه سبب أو علة فاعلة، فإنه متقدم على مسببه ومعلوله، لكن قد يكون متصلا به ليس بينهما زمان آخر.
فيقال: ليس هذا متأخرا عن هذا ; أي هو متصل به ليس بينهما فصل.
ويقال: ليس ذلك متقدما على هذا ; أي ليس بينهما زمان، بل هو متصل به، إذ قد يراد بلفظ التقدم هذا، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ("الجنازة متبوعة، وليست بتابعة، ليس منها من تقدمها") ; أي من كان قد تقدمها، حتى لم يكن قريبا منها، لم يكن تابعا لها، كما جاء في الحديث الآخر: ("الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها ووراءها، وعن يمينها ويسارها، قريبا منها") رواه أبو داود وغيره، وهو أبين حديث
روي في هذا الباب في هذا الحكم، ومنه قوله تعالى: {ولا الليل سابق النهار} [يس: 40] أي لا يتقدم عليه، بحيث يكون بينهما انفصال، بل كل منهما متصل بالآخر.
والمقصود هنا أن معرفة اللغة التي خاطبنا بها الأنبياء وحمل كلامهم عليها - أمر واجب متعين، ومن سلك غير هذا المسلك، فقد حرف كلامهم عن مواضعه، وكذب عليهم وافترى.
ومثل هذا التحريف والتبديل قد اتفق المسلمون واليهود والنصارى على أنه وقع فيه خلق كثير من أهل الكتب الثلاثة، وأن التوراة والإنجيل حرفا بهذا الاعتبار، وكذلك القرآن حرفه أهل الإلحاد والبدع بهذا الاعتبار.
فأهل الكتاب نقلوا عن الأنبياء أنهم تكلموا بلفظ الأب والابن ومرادهم - عندهم - بالأب: الرب، وبالابن: المصطفى المختار المحبوب.
ولم ينقل أحد منهم عن الأنبياء أنهم سموا شيئا من صفات الله ابنا، ولا قالوا عن شيء من صفاته: إنه تولد عنه، ولا إنه مولود له.
فإذا وجد في كلام المسيح - عليه السلام - أنه قال: (عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس) ثم فسروا الابن بصفة الله
القديمة الأزلية، كان هذا كذبا بينا على المسيح، حيث لم يكن في لغته أن لفظ الابن يراد به صفة الله القديمة الأزلية.
وكذلك إذا لم يكن في كلام الأنبياء أن حياة الله تسمى روح القدس، وإنما يريدون بروح القدس ما ينزله الله - تبارك وتعالى - على الأنبياء والصالحين ويؤيدهم، كان تفسير قول المسيح: " روح القدس ": إنه أراد حياة الله - كذبا على المسيح.
وهذا من بعض الوجوه أفسد من قول بعض المتفلسفة: إن العقول والنفوس والأفلاك معلولة له متولدة عنه، لازمة له أزلا وأبدا، وإن كان هذا أيضا باطلا في صريح العقل، كما هو كفر بما أخبرت به الأنبياء، كما قد بسط في موضع آخر، فإنه لا يصدر شيء عن فاعل الأشياء بعد شيء لا يتصور أن يكون المفعول مقارنا للفاعل لا يتأخر عنه، ولا يكون التولد إلا عن أصلين.
والواحد من كل وجه الذي ليس له صفة ثبوتية، لا وجود له، ولو كان له وجود لم يصدر عنه وحده شيء، كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع أخر.
ومما يوضح ذلك، أن خواص النصارى وعلماءهم - مع تجويزهم أن يقال: إن المسيح ابن الله - يلزمهم أن تكون مريم صاحبة الله وامرأته، كما قال ذلك من يغلو منهم، ومنهم من يجعل مريم إلها مع الله، كما جعل المسيح إلها.
فإن قالوا بذلك، جعلوا لله صاحبة وولدا، وجعلوا المسيح ابن
مريم وأمه إلهين من دون الله، كما فعل ذلك من فعله منهم.
فإنهم يعبدون مريم ويدعونها بما يدعون به الله - سبحانه - والمسيح، ويجعلونها إلها كما يجعلون المسيح إلها، فيقولون: يا والدة الإله، اغفري لنا وارحمينا، ونحو ذلك، فيطلبون منها ما يطلبونه من الله - عز وجل -.
ومنهم من يقول عن مريم: إنها صاحبة الله - سبحانه وتعالى -.
وبيان لزوم ذلك أن المسيح - عندهم - إنسان تام وإله تام، ناسوت ولاهوت، فناسوته من مريم، ولاهوته الكلمة القديمة الأزلية، وهي الخالق عندهم.
فالمسيح بين أصلين، ناسوت ولاهوت، فإذا كان الأب هو الله - عندهم - والكلمة المولودة عن الأب ابن الله، فمعلوم أن اللاهوت لما التحم بالناسوت ليصير منهما المسيح ازدوج به وقارنه، وهذا معنى الزوجية.
فكما أنهم قالوا: إن الولادة عقلية لا حسية، فكذلك الازدواج والنكاح عقلي لا حسي، فإن اللاهوت - على قولهم - ازدوج بناسوت مريم ونكحها نكاحا عقليا، وخلق المسيح من هذا وهذا.
وهم يقولون في الأمانة: إن المسيح تجسد من مريم ومن روح القدس.
فإن فسروا روح القدس بجبريل - كما يقوله المسلمون - فهو
الحق، وبطل قولهم لكنهم يقولون: روح القدس هو الأقنوم الثالث، كما يقولون في الكلمة وهو اللاهوت عندهم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 279)
من صــ 386 الى صـ 400
فهم قد ذكروا أنه تجسد من الناسوت واللاهوت، فيلزمهم على هذا أن يكون المسيح هو الابن، وهو روح القدس، فيكون أقنومين، لا أقنوما واحدا، وقد تقدم تناقضهم في هذا.
والمقصود هنا، أنهم إذا قالوا: إن الرب أو بعض صفاته اتحد بما خلق من مريم، فلا بد أن يحصل له اتصال بمريم قبل اتصاله بما خلق منها، وذلك هو معنى النكاح والازدواج.
وعند جمهور النصارى أن مريم ولدت اللاهوت كما ولدت الناسوت، وهي أم اللاهوت، ويقولون في دعائهم: يا والدة الإله.
واللاهوت الذي ولدته مريم هو - عندهم - رب العالمين، واللاهوت اتحد بالناسوت عندهم، من حين خلق الناسوت في بطن مريم، لم يحدث بعد الولادة.
فإذا جاز أن يكون لرب العالمين عندهم أم ولدته بوجه من الوجوه، فإمكان أن يكون له صاحبة وزوجة أولى وأحرى، وليس في ذلك ما يحيله العقل والشرع إلا وهو لكونها أما للاهوت أشد إحالة.
فإن جاز أن يكون للاهوت أم والأم أصل، فلأن يكون له صاحبة هي زوجة ونظير - أقرب وأولى، فإن من المعلوم أن ولد ذلك الشيء، وهو المتفرع المتولد عنه، أنقص بالنسبة إليه من نظيره.
فإذا قالوا: إن لرب العالمين ولدا اتحد بالناسوت هو نظيره المساوي له في الجوهر، وقالوا: إن الناسوت أم هذا المسيح الذي
هو الله وهو ابن الله، وقالوا: إن الناسوت مريم، ولد اللاهوت، كما ولد الناسوت، ولم يكن هذا عيبا ينزه الرب عنه، فلأن يجعلوا له أم هذا الولد الذي حبلت به واتحد به اللاهوت وهو منها، وولدت اللاهوت - صاحبة وزوجة للأب، أولى وأحرى، وإلا فكيف تلد ابنه الذي هو اللاهوت ولا تكون صاحبته وامرأته؟
وهم يقولون: نحن سمينا علمه مولودا عنه ; لكونه تولد عنه تولد الكلمة عن العقل، وهذا الولد اتحد بالناسوت فسمينا المجموع ولدا.
وبهذا يفرقون بين كون المسيح ابنا وغيره من الأنبياء يسمى ابنا.
فإنهم يقولون: هؤلاء أبناء بالوضع، والمسيح ابن بالطبع ; أي أولئك سموا أبناء بمشيئة الرب وقدرته ; لأنه اصطفاهم، والكلمة التي جعلوها متحدة بالمسيح، هي عندهم متولدة عن الله تولدا قديما أزليا، لا يتعلق بمشيئته وقدرته، ولهذا قالوا: مولود غير مصنوع، فإن القديم الأزلي - مع كونه قائما بذاته - لا يكون مصنوعا عند أحد من العقلاء، ولا القائلين بقدم العالم.
فإذا كانت الكلمة اتحدت بالمسيح المخلوق من مريم والتحمت به، فإذا قيل - مع ذلك -: إن القديم مس المحدث أو لاصقه أو باشره، كان أيسر من هذا كله.
والمسيح ولد ولادة حادثة عندهم، غير الولادة القديمة التي للكلمة، فيلزم أن تكون مريم قد صارت زوجة وامرأة، بل نكحت نكاحا
حادثا يناسب تلك الولادة المحدثة، قال تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 101] ولهذا كان الحلول أسهل من الاتحاد.
فمن قال: إنه حل في جسد المسيح وماسه وباشره، كما يحل الماء في اللبن، كان أهون ممن يقول: إنه اتحد به والتحم به.
فإذا قيل: إن مريم امرأة القديم وصاحبته وزوجته، كان ما في هذا من إثبات مباشرته لها ومماسته لها واتصاله بها.
ومهما قدر من اتصال الزوج بزوجته، أهون مما قالوه من اتحاد القديم بالمحدث، ومصيره إياه، إما جوهرا واحدا، وإما شخصا واحدا، وإما مشيئة واحدة.
ولهذا كان كل عاقل يعلم أن النكاح الحسي أسهل من الولادة الحسية.
فالذكر من الحيوان إذا نكح الأنثى، فإنما مس الذكر للأنثى، لم تصر الأنثى متولدة عنه. فإذا جوزوا أن يكون للرب القديم الأزلي ما يتولد عنه ويتحد به، وهو محدث مخلوق، فلأن يكون له ما يمسه أولى وأحرى.
وإذا قالوا: إن المسيح إنما كان ابنا ; لأن الكلمة القديمة التي هي ابن، اتحدت به قبل، فقد يسمى الناسوت الذي اتحد به القديم ابنا عندكم، باسم القديم وجعلتموه إلها خالقا، فما المانع من جعل أم ذلك الناسوت الذي جعلتموه ابن الله، صاحبة لله وزوجة، باعتبار أن القديم الأزلي حصل منه ومنها ما هو ابن القديم الأزلي؟
الوجه الخامس عشر: أن يقال: لفظ الابن وروح القدس، قد جاء في حق غير المسيح - عندكم - حتى الحواريين عندكم يقولون: إن المسيح قال لهم: (إن الله أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم)، ويقولون: إن روح القدس تحل فيهم.
وفيما عندكم من التوراة أن الرب قال لموسى: (اذهب إلى فرعون، فقل له: يقول لك الرب: إسرائيل ابني بكري، أرسله يعبدني، فإن أبيت أن ترسل ابني بكري، قتلت ابنك بكرك. فلما لم يرسل فرعون بني إسرائيل كما قال الله، قتل الله أبكار فرعون وقومه من بكر فرعون الجالس على السرير، إلى الأول من أولاد الآدميين، إلى ولد الحيوان إليهم.)
فهذه التوراة تسمي بني إسرائيل كلهم أبناء الله وأبكاره، وتسمي
أبناء أهل مصر أبناء فرعون، فتوسع بتسمية سخال الحيوان أولاد المالك للحيوان.
وفي مزامير داود يقول: (أنت ابني، سلني أعطك). وفي الإنجيل يقول عن المسيح: (أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم)، وقال: (إذا صليتم فقولوا: يا أبانا الذي في السماء، قدوس اسمك، افعل بنا كذا وكذا).
ويقولون عن القديسين: إن روح القدس يحل فيهم، وكذلك حلت في داود وغيره من الأنبياء، بل عندهم: إن الله يحل في الصديقين كلهم.
فإن كان الابن وروح القدس، يقتضي اتحاد اللاهوت بالناسوت، وجب أن يكون كل من الحواريين لاهوتا وناسوتا، وكذلك الأنبياء، فيكون النبي لاهوتا وناسوتا ; لأنه قد سمي عندكم ابن الله، ونطقت فيه روح القدس، لا سيما وأنتم قلتم في الأمانة: إنه روح ممجد مسجود له، ناطق في الأنبياء.
فإن كان هذا يوجب حلول اللاهوت في الناسوت أو اتحاده، لزم أن يكون غير المسيح من الأنبياء، بل والحواريين، بل وأبناء إسرائيل - لاهوتا وناسوتا، إذ كان الذي جعلتموه اللاهوت حل بغير المسيح واتحد به، أو سكن فيه، أو احتجب به، أو ما قلتم من الألفاظ التي استدللتم بها على أن اللاهوت حل في المسيح، كلفظ الابن وروح القدس - موجود عندكم في غير حق المسيح.
والمعجزات التي احتججتم بها للمسيح، قد وجدت لغير المسيح.
ولو قدر أن المسيح أفضل من بعض أولئك، فلا ريب أن المسيح - عليه السلام - أفضل من جمهور الأنبياء، أفضل من داود وسليمان وأصحاب النبوات الموجودة عندكم، وأفضل من الحواريين.
لكن مزيد الفضل يقتضي الفضيلة في النبوة والرسالة، كفضيلة إبراهيم وموسى ومحمد - صلوات الله عليهم وسلامه -، وذلك لا يقتضي خروجه عن جنس الرسل، كما قال تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [المائدة: 75] وقال تعالى: {وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار - لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم - أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم - ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} [المائدة: 72 - 75].
وجماع هذا الجواب: أن ما يوصف به المسيح عندهم من كونه ابن الله، وكون الله حل فيه، أو ظهر أو سكن، وكون روح القدس أو روح الله حلت فيه، وكونه مسيحا - كل ذلك موجود عندهم في حق غير المسيح.
فليس للمسيح اختصاص بشيء من هذه الألفاظ، وإنما يوجد اختصاصه بلفظ الكلمة، وكونه تجسد من روح القدس، وهذا هو الذي خصه به القرآن، فإن الله قال:
{إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171].
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - أدخله الله الجنة على ما كان من عمل) " فهذا الذي خصه به القرآن، هو الذي خصته الكتب المتقدمة، إذ كان القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.
وأما سائر ما يوصف به ويدعون اختصاصه به من كونه ابنا لله وكونه مسيحا، فغيره أيضا في كتب الله يسمى ابنا لله ومسيحا، ولذلك ما يذكر من الألفاظ التي يحتجون بها على الحلول، مثل كون الرب ظهر فيه أو حل أو سكن، فإن هذه الألفاظ موجودة عندهم في حق غير المسيح بخلاف لفظ الاتحاد، فإنه لا يوجد عندهم عن الأنبياء لا في حق المسيح ولا غيره، كما لا يوجد عندهم عن الأنبياء لفظ " الأقانيم " ولا لفظ " التثليث " ولا " اللاهوت " و " الناسوت " ولا تسمية الله جوهرا، بل هذا كله مما ابتدعوه، كما ابتدعوا أيضا تسمية صفات الله ابنا وروح القدس، فهم ابتدعوا ألفاظا لم ينطق بها الأنبياء، أثبتوا لها معاني وابتدعوا استعمال ألفاظ الأنبياء في غير مرادهم، وحملوا مرادهم عليها.
والألفاظ المتشابهة التي يحتجون بها على اتحاد اللاهوت بالناسوت موجودة - عندهم - في حق غير المسيح.
فليس للمسيح خاصة في كلام الأنبياء، توجب أن يكون هو الله أو ابن الله، وتلك الألفاظ قد عرف - باتفاقهم واتفاق المسلمين -، أن المراد بها حلول الإيمان بالله ومعرفته وهداه ونوره ومثاله العلمي في قلوب عباده الصالحين، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وقد تقدم.
ومن قال من ضلال المسلمين: (إن الرب يتحد أو يحل في الأنبياء والأولياء، وإن هذا من السر الذي لا يباح به، فقوله من جنس قول النصارى في المسيح، وهذا كثير في كلام كثير من المشايخ والمدعين للمعرفة والتحقيق والتوحيد، فيجعلون توحيد العارفين أن يصير الموحد هو الموحد، ومنهم من يقول: إن الله يحل في قلب العارف ويتكلم بلسانه، كما يتكلم الجني على لسان المصروع، ويقول الأول:
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته
عارية أبطلها الواحد ... توحيده إياه توحيده
ونعت من ينعته لاحد
ومن هؤلاء من يقول: إن هذا هو السر الذي باح به الحلاج وغيره، وهذا عندهم من الأسرار التي يكتمها العارفون، فلا يبوحون بها إلا لخواصهم.
ومنهم من يقول: إنما قتل الحلاج ; لأنه باح بهذا السر وينشدون:
من باح بالسر كان القتل شيمته ... بين الرجال ولم يؤخذ له ثار
وأمثال ذلك.
وهؤلاء في دعواهم الاتحاد والحلول بغير المسيح، شر من النصارى.
فإن المسيح - صلوات الله عليه - أفضل من كل من ليس بنبي، بل هو أفضل من جماهير الأنبياء والمرسلين.
فإذا كان من ادعى أن اللاهوت اتحد به كافرا، فكيف بمن ادعى ذلك فيمن هو دونه؟
وهذا الاتحاد الخاص غير الاتحاد والحلول العام لقول الذين يقولون إنه حال بذاته في كل مكان، أو متحد بكل شيء.
وغلاة هؤلاء ومحققوهم يقولون: إنه عين الوجود، والوجود واحد.
فيجعلون الوجود الخالق القديم الواجب، هو عين وجود المخلوق المحدث الممكن.
وهؤلاء مثل ابن عربي الطائي، وصاحبه الصدر القونوي، وصاحبه العفيف التلمساني، وابن سبعين، وصاحبه الششتري، وعبد الله البلياني وعامر البصري وطوائف غير هؤلاء.
وهؤلاء يقولون: إن النصارى إنما كفروا لأنهم خصوا ذلك بالمسيح.
وحقيقة قول هؤلاء هو جحد الخالق وتعطيله، كما قال فرعون: {وما رب العالمين} [الشعراء: 23] وقال: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38]
فإن فرعون ما كان ينكر هذا الوجود المشهود، لكن ينكر أن له صانعا مباينا له خلقه، وهؤلاء موافقون لفرعون في ذلك.
لكن فرعون أظهر الجحود والإنكار، فلم يقل " الوجود المخلوق هو الخالق ".
وهؤلاء ظنوا أنهم يقرون بالخالق، وأن الوجود المخلوق هو الخالق، وقد بسط الكلام على هؤلاء في آخر هذا الكتاب.
وهؤلاء لهم شعر نظموا قصائد على مذهبهم، كابن الفارض في قصيدته المسماة " بنظم السلوك " حيث يقول:
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال:
وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
وقوله:
إلي رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي علي استدلت
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت
وقد رفعت ياء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
إلى أمثال هذه الأبيات.
وكذلك ابن إسرائيل في شعره قطعة من هذا كقوله:
وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائق
والتلمساني الملقب بالعفيف، كان من أفجر الناس، وكان أحذق هؤلاء الملاحدة.
ولما قرئ عليه كتاب " فصوص الحكم " لابن عربي قيل له: هذا الكلام يخالف القرآن، قال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا.
فقيل له: إذا كان الوجود واحدا، فلماذا تحرم علي أمي وتباح لي امرأتي؟
فقال: الجميع عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم.
وكلام هؤلاء كله متناقض ينقض بعضه بعضا.
فإن قوله: (هؤلاء المحجوبون) وقوله: (قلنا حرام عليكم)، يقتضي الفرق بينه وبين المحجوبين، وبين المخاطب والمخاطب، وهذا يناقض وحدة الوجود.
وإذا قالوا: (هذه مظاهر للحق ومجال) فإن كان الظاهر غير المظهر، والمجلى غير المتجلي، فقد ثبت التعدد، وأن في الوجود اثنين ظاهرا ومظهرا، وإن جعلوهما واحدا، فقد بطل جوابهم.
(ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)
[فصل البرهان الثاني " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " والجواب عليه]
فصل
قال الرافضي: " البرهان الثاني: قوله تعالى: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [سورة المائدة: 67]، اتفقوا في نزولها في علي. وروى أبو نعيم الحافظ - من الجمهور - بإسناده عن عطية قال: نزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في علي بن أبي طالب. ومن تفسير
الثعلبي قال: معناه: بلغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي، فلما نزلت هذه الآيه «أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد علي، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه». والنبي - صلى الله عليه وسلم - مولى أبي بكر وعمر وباقي الصحابة بالإجماع، فيكون علي مولاهم، فيكون هو الإمام.
ومن تفسير الثعلبي: «لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي وقال: " من كنت مولاه فعلي مولاه " فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقته، حتى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته وأناخها فعقلها، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في ملأ من الصحابة، فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ; فقبلنا منك.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 280)
من صــ 401 الى صـ 415
وَأَمَرَتْنَا أَنْ نَحُجَّ الْبَيْتَ فَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ. ثُمَّ لَمْ تَرْضَ بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا، وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه. وهذا منك أم من الله؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - والله الذي لا إله إلا هو هو من أمر الله، فولى الحارث يريد راحلته، وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع}. {للكافرين ليس له دافع من الله}» [سورة المعارج: 1 - 3]. وقد روى هذه الرواية النقاش من علماء الجمهور في تفسيره ".
والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا أعظم كذبا وفرية من الأول، كما سنبينه - إن شاء الله تعالى -. وقوله: " اتفقوا على نزولها في علي " أعظم كذبا مما قاله في تلك الآيه. فلم يقل لا هذا ولا ذاك أحد من العلماء، الذين يدرون ما يقولون.
وأما ما يرويه أبو نعيم في " الحلية " أو في " فضائل الخلفاء " والنقاش والثعلبي والواحدي ونحوهم في التفسير، فقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن فيما يروونه كثيرا من الكذب الموضوع، واتفقوا على أن هذا الحديث المذكور الذي رواه الثعلبي في تفسيره هو من الموضوع، وسنبين أدلة يعرف بها أنه موضوع، وليس [الثعلبي] من أهل العلم * بالحديث.
ولكن المقصود هنا أنا نذكر قاعدة فنقول: المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب *، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل علم الحديث، كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب، ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك، فلكل علم رجال يعرفون به،
والعلماء بالحديث أجل هؤلاء قدرا، وأعظمهم صدقا، وأعلاهم منزلة، وأكثر دينا.
وهم من أعظم الناس صدقا وأمانة، وعلما وخبرة، فيما يذكرونه عن الجرح والتعديل، مثل مالك، وشعبة، وسفيان، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن المبارك، ووكيع، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وابن معين، وابن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والعجلي، وأبي أحمد بن عدي، وأبي حاتم البستي، والدارقطني، وأمثال هؤلاء: خلق كثير لا يحصى عددهم، من أهل العلم بالرجال والجرح والتعديل، وإن كان بعضهم أعلم بذلك من بعض، وبعضهم أعدل من بعض في وزن كلامه، كما أن الناس في سائر العلوم كذلك.
وقد صنف للناس كتبا في نقلة الأخبار: كبارا وصغارا، مثل الطبقات لابن سعد، وتاريخي البخاري، والكتب المنقولة عن أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهما. وقبلها عن يحيى بن سعيد القطان وغيره، وكتاب يعقوب بن سفيان، وابن أبي خيثمة، وابن أبي حاتم، وكتاب ابن عدي، وكتب أبي حازم وأمثال ذلك.
وصنفت كتب الحديث تارة على المساند، فتذكر ما أسنده الصاحب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كمسند أحمد، وإسحاق، وأبي داود الطيالسي، وأبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن أبي عمر، والعدني، وأحمد بن منيع، وأبي يعلى الموصلي، وأبي بكر البزار البصري، وغيرهم.
وتارة على الأبواب، فمنهم من قصد مقصده الصحيح كالبخاري ومسلم وابن خزيمة وأبي حاتم وغيرهم. وكذلك من خرج على الصحيحين، كالإسماعيلي والبرقاني وأبي نعيم وغيرهم. ومنهم من خرج أحاديث السنن، كأبي داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. ومنهم من خرج الجامع الذي يذكر فيه الفضائل وغيرها، كالترمذي وغيره.
وهذا علم عظيم من أعظم علوم الإسلام. ولا ريب أن الرافضة أقل معرفة بهذا الباب، وليس في أهل الأهواء والبدع أجهل منهم به، فإن سائر أهل الأهواء - كالمعتزلة والخوارج - * مقصرون في معرفة هذا، ولكن المعتزلة، أعلم بكثير من الخوارج، والخوارج أعلم بكثير من الرافضة، والخوارج * أصدق من الرافضة وأدين وأورع، بل الخوارج لا نعرف عنهم أنهم يتعمدون الكذب، بل هم [من] أصدق الناس.
والمعتزلة - مثل سائر الطوائف - فيهم من يكذب وفيهم من يصدق، لكن ليس لهم من العناية بالحديث ومعرفته ما لأهل الحديث والسنة، فإن هؤلاء يتدينون به فيحتاجون إلى أن يعرفوا ما هو الصدق.
وأهل البدع سلكوا طريقا آخر ابتدعوها اعتمدوا عليها، ولا يذكرون الحديث، بل ولا القرآن، في أصولهم [إلا] للاعتضاد لا للاعتماد.
والرافضة أقل معرفة وعناية بهذا، إذ كانوا لا ينظرون في الإسناد ولا في سائر الأدلة الشرعية والعقلية: هل توافق ذلك أو تخالفه؟ ولهذا لا يوجد لهم أسانيد متصلة صحيحة قط، بل كل إسناد متصل لهم، فلا بد من أن يكون فيه من هو معروف بالكذب أو كثرة الغلط.
وهم في ذلك شبيه باليهود والنصارى، فإنه ليس لهم إسناد. والإسناد من خصائص هذه الأمة، وهو من خصائص الإسلام، ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة. والرافضة من أقل الناس عناية ; إذ كانوا لا يصدقون إلا بما يوافق أهواءهم، وعلامة كذبه أنه يخالف هواهم ; ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي: أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم.
ثم إن أولهم كانوا كثيري الكذب، فانتقلت أحاديثهم إلى قوم لا يعرفون الصحيح من السقيم، فلم يمكنهم التمييز إلا بتصديق الجميع أو تكذيب الجميع، والاستدلال على ذلك بدليل منفصل غير الإسناد.
فيقال: ما يرويه مثل أبي نعيم والثعلبي والنقاش وغيرهم: أتقبلونه مطلقا؟ أم تردونه مطلقا؟ أم تقبلونه إذا كان لكم [لا عليكم]، وتردونه إذا كان عليكم؟ فإن تقبلوه مطلقا، ففي ذلك أحاديث كثيره في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان تناقض قولكم. وقد روى أبو نعيم في أول " الحلية " في فضائل الصحابة، وفي كتاب مناقب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أحاديث بعضها صحيحة وبعضها ضعيفة، بل منكرة. وكان رجلا عالما بالحديث فيما ينقله، لكن هو وأمثاله يروون ما في الباب، لا يعرف أنه روى كالمفسر الذي ينقل أقوال الناس في التفسير، والفقيه الذي يذكر الأقوال في الفقه، والمصنف الذي يذكر حجج الناس، ليذكر ما ذكروه، وإن كان كثير من ذلك لا يعتقد صحته، بل يعتقد ضعفه ; لأنه يقول: أنا نقلت ما ذكر غيري، فالعهدة على القائل لا على الناقل.
وهكذا كثير ممن صنف في فضائل العبادات، وفضائل الأوقات، وغير ذلك: يذكرون أحاديث كثيرة وهي ضعيفة، بل موضوعة، باتفاق أهل العلم، كما يذكرون [أحاديث] في فضل صوم رجب كلها ضعيفة، بل موضوعة، عند أهل العلم. ويذكرون صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة منه، وألفية نصف شعبان، وكما يذكرون في فضائل عاشوراء ما ورد من التوسعة على العيال، وفضائل المصافحة والحناء والخضاب والاغتسال ونحو ذلك، ويذكرون فيها صلاة.
وكل هذا كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم يصح في عاشوراء إلا فضل صيامه. قال حرب الكرماني: قلت لأحمد بن حنبل: الحديث الذي يروى: «من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته»؟ فقال: لا أصل له.
وقد صنف في فضائل الصحابة - علي وغيره - غير واحد، مثل خيثمة بن سليمان الأطرابلسي وغيره. وهذا قبل أبي نعيم. يروي عنه إجازة. وهذا وأمثاله جروا على العادة المعروفة لأمثالهم ممن يصنف في الأبواب: أنه يروي ما سمعه في هذا الباب.
وهكذا المصنفون في التواريخ، مثل " تاريخ دمشق " لابن عساكر وغيره، إذا ذكر ترجمة واحد من الخلفاء الأربعة، أو غيره يذكر كل ما رواه في ذلك الباب، فيذكر لعلي ومعاوية من الأحاديث المروية في فضلهما ما يعرف أهل العلم بالحديث أنه كذب، ولكن لعلي من الفضائل الثابتة في الصحيحين وغيرهما، ومعاوية ليس له بخصوصه فضيلة في الصحيح، لكن قد شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينا والطائف وتبوك، وحج معه حجة الوداع، وكان يكتب الوحي، فهو ممن ائتمنه النبي - صلى الله عليه وسلم - على كتابة الوحي، كما ائتمن غيره من الصحابة.
فإذا كان المخالف يقبل كل ما رواه هؤلاء وأمثالهم في كتبهم، فقد رووا أشياء كثيرة تناقض مذهبهم. وإن كان يرد الجميع، بطل احتجاجه بمجرد عزوه الحديث [بدون المذهب] إليهم. وإن قال: أقبل ما يوافق مذهبي وأرد ما يخالفه، أمكن منازعه أن يقول له مثل هذا، [وكلاهما] باطل، لا يجوز أن يحتج على * صحة مذهب بمثل هذا، فإنه يقال: إن كنت إنما عرفت صحة هذا الحديث بدون المذهب، فاذكر ما يدل على * صحته، وإن كنت إنما عرفت صحته لأنه يوافق المذهب، امتنع تصحيح الحديث بالمذهب ; لأنه يكون حينئذ صحة المذهب موقوفة على صحة الحديث، وصحة الحديث موقوفة على صحة المذهب، فيلزم الدور الممتنع.
وأيضا فالمذهب: إن كنت عرفت صحته بدون هذا الطريق، لم يلزم صحة هذا الطريق. فإن الإنسان قد يكذب على غيره قولا، وإن كان ذلك القول حقا، فكثير من الناس يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا هو حق في نفسه، لكن لم يقله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يلزم من كون الشيء صدقا في نفسه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله، وإن كنت إنما عرفت صحته بهذا الطريق، امتنع أن تعرف صحة الطريق بصحته ; لإفضائه إلى الدور.
فثبت أنه على التقديرين لا يعلم صحة هذا الحديث لموافقته للمذهب، سواء كان المذهب معلوم الصحة، أو غير معلوم الصحة.
وأيضا فكل من له أدنى علم وإنصاف يعلم أن المنقولات فيها صدق وكذب، وأن الناس كذبوا في المثالب والمناقب، كما كذبوا في غير ذلك، وكذبوا فيما يوافقه ويخالفه.
ونحن نعلم أنهم كذبوا في كثير مما رووه في فضائل أبى بكر وعمر وعثمان، كما كذبوا في كثير مما رووه في فضائل علي، وليس في أهل الأهواء أكثر كذبا من الرافضة، بخلاف غيرهم، فإن الخوارج لا يكادون يكذبون، بل هم من أصدق الناس مع بدعتهم وضلالهم.
وأما أهل العلم والدين فلا يصدقون بالنقل ويكذبون [به] بمجرد موافقة ما يعتقدون، بل قد ينقل الرجل أحاديث كثيرة فيها فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته وأصحابه، فيردونها لعلمهم بأنها كذب، ويقبلون أحاديث كثيرة لصحتها، وإن كان ظاهرها بخلاف ما يعتقدونه: إما لاعتقادهم أنها منسوخة، أو لها تفسير لا يخالفونه، ونحو ذلك.
فالأصل في النقل أن يرجع فيه إلى أئمة النقل وعلمائه، ومن يشركهم في علمهم علم ما يعلمون، وأن يستدل على الصحة والضعف بدليل منفصل عن الرواية، فلا بد من هذا وهذا. وإلا فمجرد قول القائل: " رواه فلان " لا يحتج به: لا أهل السنة ولا الشيعة، وليس في المسلمين من يحتج بكل حديث رواه كل مصنف، فكل حديث يحتج به نطالبه من أول مقام بصحته.
ومجرد عزوه إلى رواية الثعلبي ونحوه ليس دليلا على صحته باتفاق أهل العلم بالنقل. ولهذا لم يروه أحد من علماء الحديث في شيء من كتبهم التي ترجع الناس إليها في الحديث، لا [في] الصحاح ولا في السنن ولا المسانيد وغير ذلك ; لأن كذب مثل هذا لا يخفى على من له أدنى معرفة بالحديث.
وإنما هذا عند أهل العلم بمنزلة ظن من يظن من العامة - وبعض من يدخل في غمار الفقهاء - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على أحد المذاهب الأربعة، وأن أبا حنيفة ونحوه كانوا من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو كما يظن طائفة من التركمان أن حمزة له مغاز عظيمة وينقلونها بينهم، والعلماء متفقون على أنه لم يشهد إلا بدرا وأحدا وقتل يوم أحد، ومثل ما يظن كثير من الناس أن في مقابر دمشق من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة وغيرها، ومن أصحابه أبي بن كعب، وأويس القرني وغيرهما.
وأهل العلم يعلمون أن أحدا من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقدم دمشق، ولكن كان في الشام أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاري، وكان أهل الشام يسمونها أم سلمة، فظن الجهال أنها أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأبي بن كعب مات بالمدينة. وأويس تابعي لم يقدم الشام.
ومثل من يظن من الجهال أن قبر علي بباطن النجف. وأهل العلم - بالكوفة وغيرها - يعلمون بطلان هذا، ويعلمون أن عليا ومعاوية وعمرو بن العاص كل منهم دفن في قصر الإمارة ببلده، خوفا عليه من الخوارج أن ينبشوه، فإنهم كانوا تحالفوا على قتل الثلاثة، فقتلوا عليا وجرحوا معاوية.
وكان عمرو بن العاص قد استخلف رجلا يقال له خارجة، فضربه القاتل يظنه عمرا فقتله، فتبين أنه خارجة، فقال: أردت عمرا وأراد الله خارجة، فصار مثلا.
ومثل هذا كثير مما يظنه كثير من الجهال. وأهل العلم بالمنقولات يعلمون خلاف ذلك.
الوجه الثاني: أن نقول: في نفس هذا الحديث ما يدل على أنه كذب من وجوه كثيرة ; فإن فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان بغدير يدعى خما نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيدي علي وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، وأن هذا قد شاع وطار بالبلاد، وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، وأنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ناقته وهو في الأبطح وأتى وهو في ملأ من الصحابة، فذكر أنهم امتثلوا أمره بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم قال: " ألم ترضى بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا " وقلت: «من كنت مولاه فعلي مولاه»؟ وهذا منك أم من الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو من أمر الله، فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته، وهو يقول: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر، فسقط على هامته، وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله: {سأل سائل بعذاب واقع - للكافرين} [سورة المعارج: 1، 2] الآية.
فيقال لهؤلاء الكذابين: أجمع الناس كلهم على أن ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - بغدير خم كان مرجعه من حجة الوداع. والشيعة تسلم هذا، وتجعل ذلك اليوم عيدا وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرجع إلى مكة بعد ذلك، بل رجع من حجة الوداع إلى المدينة، وعاش تمام ذي الحجة والمحرم وصفر، وتوفي في أول ربيع الأول.
وفي هذا الحديث يذكر أنه بعد أن قال هذا بغدير خم وشاع في البلاد، جاءه الحارث وهو بالأبطح، والأبطح بمكة، فهذا كذب جاهل لم يعلم متى كانت قصة غدير خم.
وأيضا فإن هذه السورة - سورة سأل سائل - مكية باتفاق أهل العلم، نزلت بمكة قبل الهجرة، فهذه نزلت قبل غدير خم بعشر سنين أو أكثر من ذلك، فكيف [تكون] نزلت بعده؟.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 281)
من صــ 416 الى صـ 430
وأيضا قوله: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} [سورة الأنفال: 32] في سورة الأنفال، وقد نزلت عقيب بدر بالاتفاق قبل غدير خم بسنين كثيرة، وأهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة، كأبي جهل وأمثاله، وأن الله ذكر نبيه بما كانوا يقولونه بقوله: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} أي اذكر قولهم، كقوله: {وإذ قال ربك للملائكة} [سورة البقرة: 30]، {وإذ غدوت من أهلك} [سورة آل عمران: 121]، ونحو ذلك: يأمره بأن يذكر كل ما تقدم. فدل على أن هذا القول كان قبل نزول هذه السورة.
وأيضا فإنهم لما استفتحوا بين الله أنه لا ينزل عليهم العذاب ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فيهم ; فقال:{وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [سورة الأنفال: 32] ثم قال الله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [سورة الأنفال: 33] واتفق الناس على أن أهل مكة لم تنزل عليهم حجارة من السماء لما قالوا ذلك، فلو كان هذا آية لكان من جنس آية أصحاب الفيل، ومثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله.
ولو أن الناقل طائفة من أهل العلم، فلما كان هذا لا يرويه أحد من المصنفين في العلم: لا المسند، ولا الصحيح، ولا الفضائل، ولا التفسير، ولا السير ونحوها، إلا ما يروى بمثل هذا الإسناد المنكر - علم أنه كذب وباطل.
وأيضا فقد ذكر في هذا الحديث أن هذا القائل أمر بمباني الإسلام الخمس، وعلى هذا فقد كان مسلما فإنه قال: " فقبلناه منك. ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا من المسلمين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصبه هذا.
وأيضا فهذا الرجل لا يعرف في الصحابة، بل هو من جنس الأسماء التي يذكرها الطرقية، من جنس الأحاديث التي في سيرة عنتر ودلهمة. وقد صنف الناس كتبا كثيرة في أسماء الصحابة الذين ذكروا في شيء من الحديث، حتى في الأحاديث الضعيفة، مثل كتاب " الاستيعاب " لابن عبد البر، وكتاب ابن منده، وأبي نعيم الأصبهاني، والحافظ أبي موسى، ونحو ذلك. ولم يذكر أحد منهم هذا الرجل، فعلم أنه ليس له ذكر في شيء من الروايات، فإن هؤلاء لا يذكرون إلا ما رواه أهل العلم، لا يذكرون أحاديث الطرقية، مثل " تنقلات الأنوار " للبكري الكذاب وغيره.
الوجه الثالث: أن يقال: أنتم ادعيتم أنكم أثبتم إمامته بالقرآن، والقرآن ليس في ظاهره ما يدل على ذلك أصلا ; فإنه قال: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} [سورة المائدة: 67]. وهذا اللفظ عام في جميع ما أنزل إليه من ربه، لا يدل على شيء معين.
فدعوى المدعى أن إمامة علي هي مما بلغها، أو مما أمر بتبليغها، لا تثبت بمجرد القرآن، فإن القرآن ليس فيه دلالة على شيء معين، فإن ثبت ذلك بالنقل كان ذلك إثباتا بالخبر لا بالقرآن. فمن ادعى أن القرآن يدل على [أن] إمامة علي مما أمر بتبليغه، فقد افترى على القرآن، فالقرآن لا يدل على ذلك عموما ولا خصوصا.
الوجه الرابع: أن يقال: هذه الآية، مع ما علم من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، تدل على نقيض ما ذكروه، وهو أن الله لم ينزلها عليه، ولم يأمره بها، فإنها لو كانت مما أمره الله بتبليغه، لبلغه ; فإنه لا يعصي الله في ذلك.
ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها -: " من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب، والله تعالى يقول: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [سورة المائدة: 67].
لكن أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ شيئا من إمامة علي، ولهم على هذا طرق كثيرة يثبتون بها هذا العلم.
منها: أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان له أصل لنقل، كما نقل أمثاله من حديثه، لا سيما مع كثرة ما ينقل من فضائل علي، من الكذب الذي لا أصل له، فكيف لا ينقل الحق [الصدق] الذي قد بلغ للناس؟!.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته بتبليغ ما سمعوا منه، فلا يجوز عليهم كتمان ما أمرهم الله بتبليغه.
ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات، وطلب بعض الأنصار أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، فأنكر ذلك عليه، وقالوا: الإمارة لا تكون إلا في قريش، وروى الصحابة في [مواطن] متفرقة الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في: " أن «الإمامة في قريش» "
ولم يرو واحد منهم: لا في ذلك المجلس ولا غيره، ما يدل على إمامة علي.
وبايع المسلمون أبا بكر، وكان أكثر بني عبد مناف - من بني أمية وبني هاشم وغيرهم - لهم ميل قوي إلى علي بن أبي طالب يختارون ولايته، ولم يذكر أحد منهم هذا النص. وهكذا أجري الأمر في عهد عمر وعثمان، وفي عهده أيضا لما صارت له ولاية، ولم يذكر هو ولا أحد من أهل بيته ولا من الصحابة المعروفين هذا النص، وإنما ظهر هذا النص بعد ذلك.
وأهل العلم بالحديث والسنة الذين يتولون عليا ويحبونه، ويقولون: إنه كان الخليفة بعد عثمان، كأحمد بن حنبل وغيره من الأئمة، قد نازعهم في ذلك طوائف من أهل العلم وغيرهم، وقالوا: كان زمانه زمان فتنة واختلاف بين الأمة، لم تتفق الأمة فيه لا عليه ولا على غيره.
وقال طوائف من الناس كالكرامية: بل هو كان إماما ومعاوية إماما، وجوزوا أن يكون للناس إمامان للحاجة. وهكذا قالوا في زمن ابن الزبير ويزيد، حيث لم يجدوا الناس اتفقوا على إمام.
وأحمد بن حنبل، مع أنه أعلم أهل زمانه بالحديث، احتج على إمامة علي بالحديث الذي في السنن: " «تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكا» ".
وبعض الناس ضعف هذا الحديث، لكن أحمد وغيره يثبتونه، فهذا عمدتهم من النصوص على خلافة علي، فلو ظفروا بحديث مسند أو مرسل موافق لهذا لفرحوا به.
فعلم أن ما تدعيه الرافضة من النص، هو مما لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا قديما ولا حديثا.
ولهذا كان أهل العلم بالحديث يعلمون بالضرورة كذب هذا النقل، كما يعلمون كذب غيره من المنقولات المكذوبة.
وقد جرى تحكيم الحكمين، ومعه أكثر الناس، فلم يكن في المسلمين من أصحابه ولا غيرهم من ذكر هذا النص، مع كثرة شيعته، ولا فيهم من احتج به، في مثل هذا المقام الذي تتوفر فيه الهمم والدواعي على إظهار مثل هذا النص.
ومعلوم أنه لو كان النص معروفا عند شيعة علي - فضلا عن غيرهم - ; لكانت العادة المعروفة تقتضي أن يقول أحدهم: هذا نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خلافته، فيجب تقديمه على معاوية.
وأبو موسى نفسه كان من خيار المسلمين، لو علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص عليه لم يستحل عزله، ولو عزله لكان من أنكر عزله عليه يقول: كيف تعزل من نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلافته؟.
وقد احتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " «تقتل عمارا الفئة الباغية» " وهذا الحديث خبر واحد أو اثنين أو ثلاثة ونحوهم، وليس هذا متواترا. والنص عند القائلين به متواتر، فيا لله العجب كيف ساغ عند الناس احتجاج شيعة علي بذلك الحديث، ولم يحتج أحد منهم بالنص؟.
(فصل في حديث الغدير)
قال الرافضي: الثاني الخبر المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما نزل قوله تعالى: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (سورة المائدة: 67) «خطب الناس في غدير خم، وقال للجمع كله: يا أيها الناس ألست أولى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله»، فقال عمر: بخ بخ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، والمراد بالمولى هنا الأولى بالتصرف لتقدم التقرير منه صلى الله عليه وسلم بقوله: ألست أولى منكم بأنفسكم؟
والجواب عن هذه الآية والحديث المذكور قد تقدم، وبينا أن هذا كذب، وأن قوله: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} (سورة المائدة: 67) نزل قبل حجة (الوداع) بمدة طويلة.
ويوم الغدير إنما كان ثامن عشر ذي الحجة بعد رجوعه من الحج، وعاش بعد ذلك شهرين وبعض الثالث، ومما يبين ذلك أن آخر المائدة نزولا قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} (سورة المائدة: 3)، وهذه الآية نزلت بعرفة تاسع ذي الحجة في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة كما ثبت ذلك في الصحاح والسنن، وكما قاله العلماء قاطبة من أهل التفسير والحديث وغيرهم.
وغدير خم كان بعد رجوعه إلى المدينة ثامن عشر ذي الحجة بعد نزول هذه الآية بتسعة أيام، فكيف يكون قوله: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} (سورة المائدة: 67) نزل ذلك الوقت، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية نزلت قبل ذلك، وهي من أوائل ما نزل بالمدينة، وإن كان ذلك في سورة المائدة كما أن فيها تحريم الخمر، والخمر حرمت في أوائل الأمر عقب غزوة أحد، وكذلك فيها الحكم بين أهل الكتاب بقوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} (سورة المائدة: 42)، وهذه الآية نزلت إما في الحد لما رجم اليهوديين، وإما في الحكم بين قريظة والنضير لما تحاكموا إليه في الدماء، ورجم اليهوديين كان أول ما فعله بالمدينة، وكذلك الحكم بين قريظة والنضير، فإن بني النضير أجلاهم قبل الخندق، وقريظة قتلهم عقب غزوة الخندق.
والخندق باتفاق الناس كان قبل الحديبية، وقبل فتح خيبر، وذلك كله قبل فتح مكة وغزوة حنين، وذلك كله قبل حجة الوداع، وحجة الوداع قبل خطبة الغدير.
فمن قال: إن المائدة نزل فيها شيء بغدير خم فهو كاذب مفتر باتفاق أهل العلم.
وأيضا، فإن الله تعالى قال في كتابه: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (سورة المائدة: 67) فضمن له سبحانه أنه يعصمه من الناس إذا بلغ الرسالة ليؤمنه بذلك من الأعداء ; ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول هذه الآية يحرس، فلما نزلت هذه الآية ترك ذلك.
وهذا إنما يكون قبل تمام التبليغ، وفي حجة الوداع تم التبليغ.
«وقال في حجة الوداع: " ألا هل بلغت ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم، قال: " اللهم اشهد "، وقال لهم: " أيها الناس إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء، وينكبها إلى الأرض، ويقول: " اللهم اشهد، اللهم اشهد» "، وهذا لفظ حديث جابر في صحيح مسلم وغيره من الأحاديث الصحيحة.
وقال: " «ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع» ".
فتكون العصمة المضمونة موجودة وقت التبليغ المتقدم، فلا تكون هذه الآية نزلت بعد حجة الوداع ; لأنه قد بلغ قبل ذلك، ولأنه حينئذ لم يكن خائفا من أحد يحتاج أن يعصم منه، بل بعد حجة الوداع كان أهل مكة والمدينة، وما حولهما كلهم مسلمين منقادين له ليس فيهم كافر، والمنافقون مقموعون مسرون للنفاق، ليس فيهم من يحاربه، ولا من يخاف الرسول منه فلا يقال له في هذه الحال: {بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (سورة المائدة: 67).
وهذا مما يبين أن الذي جرى يوم الغدير لم يكن مما أمر بتبليغه، كالذي بلغه في حجة الوداع، فإن كثيرا من الذين حجوا معه - أو أكثرهم - لم يرجعوا معه إلى المدينة، بل رجع أهل مكة إلى مكة، وأهل الطائف إلى الطائف، وأهل اليمن إلى اليمن، وأهل البوادي القريبة من ذاك إلى بواديهم، وإنما رجع (معه). أهل المدينة ومن كان قريبا منها.
فلو كان ما ذكره يوم الغدير مما أمر بتبليغه كالذي بلغه في الحج، لبلغه في حجة الوداع كما بلغ غيره، فلما لم يذكر في حجة الوداع إمامة ولا ما يتعلق بالإمامة أصلا، ولم ينقل أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه في حجة الوداع ذكر إمامة علي، بل ولا ذكر عليا في شيء من خطبته، وهو المجمع العام الذي أمر فيه بالتبليغ العام - علم أن إمامة علي لم تكن من الدين الذي أمر بتبليغه، بل ولا حديث الموالاة، وحديث الثقلين، ونحو ذلك مما يذكر في إمامته.
والذي رواه مسلم أنه. بغدير خم قال: " «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله» " فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: «وعترتي أهل بيتي، أذكركم الله (في أهل بيتي») ثلاثا، وهذا مما انفرد به مسلم ولم يروه البخاري، وقد رواه الترمذي وزاد فيه: " «وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» ".
وقد طعن غير واحد من الحفاظ في هذه الزيادة، وقال: إنها ليست من الحديث. والذين اعتقدوا صحتها قالوا: إنما يدل على أن مجموع العترة الذين هم بنو هاشم لا يتفقون على ضلالة، وهذا قاله طائفة من أهل السنة، وهو من أجوبة القاضي أبي يعلى وغيره.
والحديث الذي في مسلم إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، فليس فيه إلا الوصية باتباع كتاب الله، وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك، وهو لم يأمر باتباع العترة، ولكن قال: " «أذكركم الله في أهل بيتي» "، وتذكير الأمة بهم يقتضي أن يذكروا ما تقدم الأمر به قبل ذلك من إعطائهم حقوقهم، والامتناع من ظلمهم، وهذا أمر قد تقدم بيانه قبل غدير خم.
فعلم أنه لم يكن في غدير خم أمر يشرع نزل إذ ذاك، لا في حق علي ولا غيره لا إمامته، ولا غيرها.
لكن حديث الموالاة قد رواه الترمذي، وأحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «من كنت مولاه فعلي مولاه» "، وأما الزيادة وهي قوله: " «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه». . . " إلخ فلا ريب أنه كذب.
ونقل الأثرم في " سننه " عن أحمد أن العباس سأله عن حسين الأشقر، وأنه حدث بحديثين: أحدهما: قوله «لعلي: إنك ستعرض على البراءة مني فلا تبرأ، والآخر: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه». فأنكره أبو عبيد الله جدا لم يشك أن هذين كذب.
وكذلك قوله: «أنت أولى بكل مؤمن ومؤمنة»، كذب أيضا.
وأما قوله: " «من كنت مولاه فعلي مولاه» " فليس هو في الصحاح لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته فنقل عن البخاري، وإبراهيم الحربي، وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وضعفوه، ونقل عن أحمد بن حنبل أنه حسنه كما حسنه الترمذي، وقد صنف أبو العباس بن عقدة مصنفا في جميع طرقه.
وقال ابن حزم: الذي صح من فضائل علي فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: " «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» "، وقوله: " «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» " وهذه صفة واجبة لكل مسلم ومؤمن وفاضل، وعهده صلى الله عليه وسلم أن عليا " «لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق» "، وقد صح مثل هذا في الأنصار أنهم " «لا يبغضهم من يؤمن بالله، واليوم الآخر» ".
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 282)
من صــ 431 الى صـ 445
قال: " وأما " «من كنت مولاه فعلي مولاه» فلا يصح من طريق الثقات أصلا، وأما سائر الأحاديث التي يتعلق بها الروافض فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلها ".
فإن قيل: لم يذكر ابن حزم ما في الصحيحين من قوله: «أنت مني، وأنا منك» "، وحديث المباهلة، والكساء.
قيل: مقصود ابن حزم: الذي في الصحيح من الحديث الذي لا يذكر فيه إلا علي، وأما تلك ففيها ذكر غيره فإنه قال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» "، «وقال لزيد: " أنت أخونا ومولانا» "، وحديث المباهلة، والكساء فيهما ذكر علي، وفاطمة، وحسن، وحسين - رضي الله عنهم - فلا يرد هذا على ابن حزم.
ونحن نجيب بالجواب المركب فنقول: إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام، وإن كان قاله فلم يرد به قطعا الخلافة بعده ; إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه، ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلغ بلاغا مبينا.
وليس في الكلام ما يدل دلالة بينة على أن المراد به الخلافة، وذلك أن المولى كالولي، والله تعالى قال: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} (سورة المائدة: 55)، وقال: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} (سورة التحريم: 4) * فبين أن الرسول ولي المؤمنين وأنهم مواليه أيضا، كما بين أن الله ولي المؤمنين وأنهم أولياؤهم، وأن * المؤمنين بعضهم أولياء بعض.
فالموالاة ضد المعاداة، وهي تثبت من الطرفين، وإن كان أحد المتواليين أعظم قدرا وولايته إحسان وتفضل، وولاية الآخر طاعة وعبادة، كما أن الله يحب المؤمنين، والمؤمنون يحبونه، فإن الموالاة ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة، والكفار لا يحبون الله ورسوله، ويحادون الله ورسوله ويعادونه.
وقد قال تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} (سورة الممتحنة: 1)، وهو يجازيهم على ذلك كما قال تعالى: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} (سورة البقرة: 279).
وهو ولي المؤمنين وهو مولاهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذا كان كذلك فمعنى كون الله ولي المؤمنين ومولاهم، وكون الرسول وليهم ومولاهم، وكون علي مولاهم هي الموالاة التي هي ضد المعاداة.
والمؤمنون يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه.
وفي هذا الحديث إثبات إيمان علي في الباطن، والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطنا وظاهرا، وذلك يرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب، لكن ليس فيه أنه ليس للمؤمنين مولى غيره فكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم له موالي، وهم صالحو المؤمنين فعلي أيضا له مولى بطريق الأولى والأحرى، وهم المؤمنون الذين يتولونه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: * " «إن أسلم، وغفارا، ومزينة، وجهينة، وقريشا، والأنصار ليس لهم مولى دون الله ورسوله» "، وجعلهم موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم * كما جعل صالح المؤمنين مواليه، والله ورسوله مولاهم.
وفي الجملة فرق بين الولي، والمولى ونحو ذلك، وبين الوالي فباب الولاية التي هي ضد العداوة - شيء، وباب الولاية - التي هي الإمارة - شيء.
والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: من كنت واليه فعلي واليه، وإنما اللفظ: " «من كنت مولاه فعلي مولاه» ".
وأما كون المولى بمعنى الوالي فهذا باطل، فإن الولاية تثبت من الطرفين، فإن المؤمنين أولياء الله، وهو مولاهم.
وأما كونه أولى بهم من أنفسهم فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه وسلم، وكونه أولى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته، ولو قدر أنه نص على خليفة من بعده، لم يكن ذلك موجبا أن يكون أولى بكل مؤمن من نفسه كما أنه لا يكون أزواجه أمهاتهم، ولو أريد هذا المعنى لقال: من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه، وهذا لم يقله ولم ينقله أحد، ومعناه باطل قطعا ; لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم أولى بكل مؤمن من نفسه أمر ثابت في حياته ومماته، وخلافة علي - لو قدر وجودها - لم تكن إلا بعد موته، لم تكن في حياته، فلا يجوز أن يكون علي خليفة في زمنه فلا يكون حينئذ أولى بكل مؤمن من نفسه، بل ولا يكون مولى أحد من المؤمنين إذا أريد (به) الخلافة.
وهذا مما يدل على أنه لم يرد الخلافة ; فإن كونه ولي كل مؤمن وصف ثابت له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتأخر حكمه إلى الموت، وأما الخلافة فلا يصير خليفة إلا بعد الموت. فعلم أن هذا ليس هذا.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة، وإذا استخلف أحدا على بعض الأمور في حياته، أو قدر أنه استخلف أحدا على بعض الأمور في حياته، أو قدر أنه استخلف أحدا بعد موته، وصار له خليفة بنص، أو إجماع فهو أولى بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم فلا يكون قط غيره أولى بكل مؤمن من نفسه، لا سيما في حياته.
وأما كون علي، وغيره مولى كل مؤمن فهو وصف ثابت لعلي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، وبعد ممات علي، فعلي اليوم مولى كل مؤمن، وليس اليوم متوليا على الناس، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياء وأمواتا.
(قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (68)
[فصل: مواصلة الرد على النصارى بما قاله الحسن بن أيوب ثم بكلام ابن البطريق]
قال الحسن بن أيوب: ومثل هذا أنه لما خاطبه الرجل على ما كتب في الإنجيل فقال له: (أيها الخير، فقال: ليس الخير إلا الله وحده، قلت: وبعضهم يترجمه أيها الصالح، فقال: ليس الصالح إلا الله وحده). قال: ومثله قوله في الإنجيل: (إني لم آت لأعمل بمشيئتي، لكن بمشيئة من أرسلني). قال: ولو كانت له مشيئة لاهوتية، كما يقولون، لما قال هذا القول فقد أبطل به ما تدعونه في ذلك.
قال: ثم أنتم مع ذلك تدعون أن المسيح كلمة الله، ومن قوة الله غير بائنة منه ولا منفصلة عنه، وتشهدون عليه في الإنجيل بقوله: (إنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه، ويدين الناس يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم، ويتولى الحكم بينهم، وأن الله عز وجل منحه ذلك إذ كان لا يراه أحد من خلقه في الدنيا ولا في الآخرة، فإن كان هذا الجالس للحكومة بين العالمين يوم الدين، والقاعد عن يمين أبيه وهو شخص قائم بذاته لا يشك فيه هو الجسد الذي كان في الأرض المتوحد به الربوبية، فقد فصلتم بين الله تبارك وتعالى وبينه، وبعضتموه باجتماعهما في السماء شخصين متباينين أحدهما عن يمين صاحبه، وهذا كفر وشرك بالله عز وجل وإن كان جسدا خاليا من الإلهية، وهي الكلمة، وقد عادت إلى الله كما بدت منه، فقد زال عنه حكم الربوبية التي تنتحلونه إياها.
قال: ونسألكم عن واحدة نحب أن تخبرونا بها، هي أصل ما وضعتموه من عبادة الثلاثة الأقانيم التي ترجع بزعمكم إلى جوهر واحد وهو اللاهوت، ما هو؟ ومن أين أخذتموه؟ ومن أمركم به؟ وفي أي كتاب نزل؟ وأي نبي تنبأ به؟ أو أي قول للمسيح تدعونه فيه؟ وهل بنيتم أمركم في ذلك إلا على قول " متى " التلميذ على المسيح
عليه السلام أنه قال لتلاميذه حيث أراد أن يفارقهم: (اذهبوا فعمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس).
قال: وهذا كلام يحتمل معناه إن كان صحيحا أن يكون ذهب فيه بأن يجمع هذه الألفاظ إلى أن تجتمع لهم بركات الله وبركة نبيه المسيح وروح القدس التي يؤيد بها الأنبياء والرسل، وقد نراكم إذا أردتم الدعاء بعضكم لبعض قلتم: صلاة فلان القديس تكون معك. ومعنى الصلاة: الدعاء. واسم فلان النبي يعينك على أمورك.
وكما قال الله تبارك وتعالى:
{ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]
يقرن طاعته نبيه وأولي الأمر من المسلمين، أفنقول لذلك إنهم جميعا آلهة؟
قال: وقد يجوز أن يكون له معنى يدق عن الوقوف عليه بغير التأويل إن لم يكن معناه ما قلناه، أو يكون المسيح عليه السلام ذهب فيه إلى ما هو أعلم به، فلم حكمتم بأنه ذهب إلى أن هذه
الأسماء لما أضافها إلى الله عز وجل صارت آلهة، وجعلتم لها أقانيم لكل اسم أقنوم يخصه بعينه وهو شخص واحد، وكيف استجزتم ما أشركتموه مع الله عز وجل بالتأويل الذي لا يصح؟
وإذا قلتم بثلاثة أقانيم كل أقنوم بذاته، فلا بد من أن تعترفوا ضرورة بأن كل أقنوم منها حي سميع بصير عالم حكيم منفرد بذاته، كما يقولون في المسيح إنه جالس عن يمين أبيه، فنراكم أخذتم الأقنومين اللذين أحدثتموها مع الله من جهة أن الله حكيم حي، فحكمته الكلمة وهي المسيح، وروحه روح القدس، وهذه صفة من صفات الله مثلها كثير، لأنه يقال حكيم عليم سميع بصير حي قدير.
وكذلك ربنا تبارك وتعالى وإن كانت صفاتنا إياه لا تلحق صفاته ولا تبلغ كنه مجده إلا بالتمثيل لعظمته وعزته وجلاله وعلوه، فنحلتم صفاته التي هي معناه وليست سواه غيره وجعلتموه
أقانيم لكل واحد من الحياة والحكمة وسائر الصفات مثل الذي له، وما منها أقنوم له صفة إلا ويحتمل على قياس قولكم أن تكون صفته مثله، فإذا كانت هذه الأقانيم آلهة وكل صفة إله، وهي من جوهره فيجب أن تكون كل صفة لكل واحد من الثلاثة الأقانيم إلها مثله إذ كان من جوهره فيتسع الأمر في ذلك حتى لا يكون له غاية ولا نهاية.
قال: وإذا قلتم بثلاثة أقانيم هي في السماء من جوهر قديم، أفليس يلزمكم الإقرار بثلاثة آلهة، لأن الأقانيم أشخاص يومأ إليها ويقع الحد عليها، وإلا فما الحجة وأنتم تذكرون في بعض احتجاجكم أنها ثلاثة ترجع إلى واحد غير متبعضة ولا منفصلة، وتشبهونها في اجتماعها وظهور ما يظهر منها بالشمس، وقد نراكم عقدتم شريعة إيمانكم على أن المسيح إله وإنسان متحدين، وأنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه، والجالس عن يمين صاحبه أليس هو منفصلا
عنه مفروزا عنه؟ فكيف يصح على هذا القول قياس، أو يصح به عقد دين؟ تقولون مرة مجتمع، ومرة منفصل، وما شبهتموه به من الشمس، فقد تقدم شرحنا لبطلان الحجة فيه، وأنه لا يكون قياسه القياس الذي تعلقتم به.
على أنا وجدناكم تقولون في معنى التثليث: إن الذي دعاكم إليه ما ذكرتم أن " متى " التلميذ حكاه في الإنجيل عن المسيح عليه السلام إذ قال لتلاميذه: (سيروا في البلاد، وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس). وأنكم فكرتم في هذا القول بعقولكم فعلمتم أن المراد بذلك أنه لما أن ثبت حدوث العالم علمتم أن له محدثا فتوهمتموه شيئا موجودا، ثم توهمتموه حيا ثم ناطقا، لأن الشيء ينقسم لحي ولا حي، والحي ينقسم لناطق ولا ناطق.
وأنكم علمتم بذلك أنه شيء حي ناطق، فأثبتم له حياة ونطقا غيره في الشخص وهما هو في الجوهرية.
فنقول لكم في ذلك: إذا كان الحي له حياة ونطق، فأخبرونا عنه: أتقولون أنه قادر عزيز، أم عاجز ذليل؟
فإن قلتم: لا بل هو قادر عزيز، قلنا: فأثبتوا له قدرة وعزة، كما أثبتم له حياة وحكمة.
فإن قلتم: لا يلزمنا ذلك، لأنه قادر بنفسه عزيز بنفسه، قلنا لكم: وكذلك فقولوا: إنه حي بنفسه وناطق بنفسه، ولا بد لكم مع ذلك من إبطال التثليث، أو إثبات التخميس، وإلا فما الفرق؟ وهيهات من فرق.
وقال الحسن بن أيوب أيضا: إنا كلما تأملنا معكم في نسبة المسيح عليه السلام إلى الإلهية وعبادتكم له مع الله على الجهة التي تذهبون إليها، وطلبنا لكم الحجة في ذلك من كتبكم، ازددنا بصيرة في استحالة ذلك ووضعكم له من القول ما يثبت لكم به حجة، ولا يشهد به لكم شيء من كتبكم، ووجدنا أبين ما جاء في المسيح وصحة أمره فيما أتى به ما قال " متى " التلميذ: (إنه لما جاء يسوع إلى أرض قيسارية سأل تلاميذه فقال: ماذا يقول الناس في أني ابن البشر؟ فقالوا: منهم من يقول: إنك يوحنا المعمداني، وآخرون يقولون: إنك أرميا، أو أحد الأنبياء. فقال لهم يسوع: فأنتم ماذا تقولون؟ فأجابه سمعان الصفا، وهو رئيسهم، فقال: أنت المسيح ابن الله الحق. فأجابه المسيح وقال: طوبى لك يا سمعان ابن يونان، إنه لم يطلعك على
هذا لحم ولا دم، ولكن أبي الذي في السماء).
وحكى لوقا في إنجيله هذا الخبر فقال: (إن سمعان أجابه فقال: أنت مسيح الله)، ولم يقل ابن الله، فهذا كلام تلميذه الرئيس فيه وأرضاه ما قال.
وقوله: إنه لم ينطق بذلك إلا ما أوحاه الله في قلبه ولم ندفعكم قط عن أنه مسيح الله، ولا عن أنه كما تقولون في لغتكم أنه ابن الله بالرحمة والصفوة مع هذا الاختلاف الواقع في ذلك في الإنجيلين، وقد قال مثل ذلك فيكم جميعا: (إن الله إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم)، فنعمل على احتجاجكم بأنه ليس مثلكم في معنى
النبوة ونجعله مثل من سمي في الكتب ابنا على جهة الاصطفاء والمحبة مثل إسرائيل وغيره، بل قد خص إسرائيل بأن قال عز وجل: (أنت ابني بكري).
وهذا كلام له مذهب في اللغة القديمة التي جاءت بها الكتب، وليست بموجبة الإلهية إذ كان قد شاركه في هذا الاسم غيره، فلم لا جعلتموه كما جعل نفسه؟
ومما يؤكد المعنى في ذلك ويزيل تأويل من يتأوله له ما لم يدعه ولم يرض به، قوله في علم الساعة: (أن ذلك شيء لا يعلمه أحد من الخلق ولا الملائكة المقربون، ولا الابن يعني نفسه إلا الأب وحده)، ثم قال للرجل الذي أتاه فقال له: (أيها العالم الصالح، أي الأعمال خير لي، الذي تكون لي حياة إلى يوم الدين؟ فقال له: لم تقول لي صالحا؟ ليس الصالح إلا الله وحده)، فاعترف لله بأنه واحد لا شريك له، ونفى عن نفسه فلم يجعلها ولا أحد من الخلق أهلا لذلك.
وقوله للمرأة التي جاءته فقالت: (أنت ذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟
فقال لها المسيح: صدقت طوبى لك)، ثم قال للشيطان حين اختبره فسامه أن يلقي نفسه من رأس الهيكل، فقال: (أمرنا أن لا نجرب الرب)، ثم سامه أن يسجد له فقال: (أمرنا أن لا نسجد إلا لله وحده، ولا نعبد سواه)، ثم صلاته في غير وقت لله، وآخرها الليلة التي أخذته اليهود فيها، فإذا كان إلها كما زعمتم فلمن كان يصلي ويسجد؟
ثم قول الجموع الذين كانوا معه حين دخل أورشليم، وهي مدينة بيت المقدس على الأتان، لمن كان يسأله عن أمره لما راجت المدينة به: (هذا هو يسوع الناصري النبي الذي من الناصرة)؟ ثم قوله في بعض الإنجيل: (اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يبجل في مدينته). وفي موضع آخر أنه قال: (لا يهان نبي إلا في مدينته وفي بيته وأقاربه).
وقوله في بعض خطبه: (إن هذا الجيل السوء يريد آية وأنه
لا يعطى إلا آية يونس، كما كان يونس لأهل " نينوى ": كذلك يكون ابن البشر لهذا الجيل، رجال نينوى يقومون في الدين مع هذا الجيل فيخصمونهم، لأنهم تابوا على قول يونس النبي، وإن هاهنا أفضل من يونس).
ثم قول داود في نبوته عليه: (من هذا الرجل الذي ذكرته وجعلته
دون الملائكة قليلا). ثم قول تلاميذه فيه ما شرحناه في صدر كتابنا هذا ما تقدم ووصفهم أنه رجل أتى من عند الله بالأيدي والقوة.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 283)
من صــ 446 الى صـ 460
ومما يشبه ذلك أنه لما قدم تلامذته فركبوا السفينة وقال لهم: (امضوا فإني ألحق بكم، فأتاهم يمشي على البحر فلما رأوه في تلك الحال قالوا: ما هذا الحال ويح، ومن الغرق صاحوا. فقال لهم يسوع: اطمئنوا ولا تخافوا أنا هو، فأجابه شمعون الصفا وقال له: يا رب إن كنت أنت هو فأذن لي آتيك على الماء. فقال له: تعال، فنزل سمعان إلى الماء ليمشي عليه، فلم يستطع وجعل يغرق، فصاح وقال: يا رب أغثني، فبسط يده يسوع فأخذه وقال له: لم تشككت يا قليل الأمانة؟). قال: فبان بذلك عجز المسيح عن إتمام ما سأله شمعون الصفا، ومثله أمر الرجل الذي قال ليسوع خبر ابنته وما ينالها من الشيطان، وأنه قد قدمها إلى تلاميذه فلم يستطيعوا أن يخرجوه، وقد كان جعل لهم ذلك وغيره فأخرجه هو منها.
وقال في الإنجيل، وهو يذكر الأمثال التي ضربها لرؤساء الكهنة، أنهم لما سمعوها منه علموا أنها في شأنهم، فهموا أن يأخذوه ثم فرقوا
من الجموع، لأنهم كانوا ينزلونه مثل النبي.
وقال في الإنجيل لما جاءته أم ابني زندا، وكانت من تلامذته مع ابنيها، فقال لها: (ما تريدين؟ قالت: أريد أن تجلس ابناي أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك في ملكوتك. فقال: ليس إلى ذلك سبيل، لأنه ليس لي أن أعطيه، ولكن من وعد له من أبي).
قال الحسن بن أيوب: فما يكون يا هؤلاء أفصح وأبين وأوضح من اجتماع هذه الشواهد لكم في كتبكم، ما رضيتم بقوله في نفسه، ولا بقول تلامذته فيه، ولا بقول من تنبأ عليه من الأنبياء، ولا قول جموعه الذين تولوه لمن سألهم من مخالفيهم عنه وتركتم ذلك كله،
وأخذتم بآراء قوم تأولوا لكم على علمكم بأنهم قد اختلفوا أيضا في الرأي، فقال كل قوم في المسيح ما اختاروا، واتبع كلا منهم طائفة قالوا بقولهم، ثم سلك من بعدهم سبيل الآباء في الاقتداء بهم.
فبينوا لنا حجتكم في ذلك، وهيهات من حجة ونحن نستوهب الله العصمة والتوفيق منه.
قال: ومما يشبه ما تقدم قوله لتلاميذه في إنجيل لوقا 55: (فأما أنتم الذين صبرتم معي في بلائي وتجاربي فإني أعدكم كما وعدني أبي الملكوت لتأكلوا وتشربوا معي على مائدتي في ملكوتي) فبين أن الله - عز وجل ثناؤه وعده أن يجعله في ملكوت السماء يأكل ويشرب مع تلاميذه على مائدته، وهذا ما لا شك لكم فيه، وهو مخالف لقولكم فيما يصير إليه، وفي الأكل والشرب
والنعيم هناك، ثم قوله لشمعون حين أتته الجموع فأخذوه: (أم تظن أني لست قادرا أن أطلب إلى أبي فيقيم لي اثني عشر جندا من ملائكته أو أكثر، ولكن: كيف تتم الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون)، ولم يقل: إني قادر أن أدفعهم عن نفسي، ولا أني آمر الملائكة أن يمنعوا عني، كما يقول من له القدرة والأمر.
قال: ونجدكم تقولون في المسيح عليه السلام: إنه مولود من أبيه أزلي، ويجب على المدعي القول أن يثبت الحجة فيه ويعلم أنه مطالب بإيضاحها، لا سيما في مثل هذا الخطب الجليل الذي لا يقع التلاعب به، ولا تجترئ النفوس على ركوب الشبهات فيه، والويل الطويل لمن تأول في ذلك تأويلا لا حقيقة له، فإنه يهلك نفسه ومن كان من الناس معه ممن يتبع قوله، إن كان هذا الابن أزليا على ما في شريعة إيمانكم فليس هذا بمولود، وإن كان مولودا فليس بأزلي ; لأن اسم الأزلية إنما يقع على من لا أول له ولا آخر.
ومعنى المولود: أنه حادث مفعول، وكل مفعول فله أول، فكيف
ما أردتم القول فيه كان بطلان الشريعة.
قال: ونسألكم أيضا عن واحدة، لم سميتم الأب أبا والابن ابنا؟ فإنه إن كان وجب للأب اسم الأبوة لقدمه، فالابن أيضا يستحق هذا الاسم بعينه، إذ كان قديما مثله، وإن كان الأب عالما عزيزا فهو أيضا عالم عزيز تشهد شريعة الإيمان له بذلك في قولها: إنه خلق الخلائق كلها وأتقنت على يده، وأنه نزل لخلاصكم ومن قدر على ذلك لم يكن إلا عالما عزيزا، فهذه المعاني التي ذكرناها تبطل اسم الأبوة والبنوة وفي إبطالها بطلان الشريعة التي تقول: ولد من أبيه، وإلا فإن كان الأب والابن متكافئين في القدم والقدرة، فبأي فضل وسلطان للأب عليه أمره ونهاه، فصار الأب باعثا والابن مبعوثا، والأب متبوعا مطاعا والابن تابعا مطيعا؟.
ومما يشهد بصحة قولنا وبطلان ما تأوله أولوكم في عبودية المسيح، أن " متى " التلميذ حين بنى كتابه الإنجيل أول ما ابتدأ به أن قال: كتاب مولد يسوع المسيح ابن داود بن إبراهيم، فنسبه إلى من كان منه على الصحة، ولم يقل: إنه ابن الله، ولا إنه إله من إله كما يقولون: فإن قلتم: إن تسمية يسوع للناسوت الذي قد جعلتموه حجة بينكم وبين كل من التمس الحجة منكم عند الانقطاع فيما يعترف به للمسيح من العبودية، فقد نسق " متى " على اسم يسوع الذي هو عندكم اسم للناسوت المسيح الذي هو جامع الناسوت واللاهوت، فأي حجة في إبطال هذا التأويل أوضح من هذا؟.
ومما يصحح قولنا ويؤكده قول جبريل الملك لمريم عند مخاطبته إياها: إنه ابن داود على ما ثبت من ذلك في الإنجيل.
قال: ووجدناكم قد ذكرتم في شريعة الإيمان: أن يسوع المسيح بكر الخلائق، فإن كنتم ذهبتم في ذلك إلى أنه على نحو ما يسمى أول ولد الرجل وكبيرهم فجائز، وهو محقق لقولنا في عبوديته، وإن كنتم أردتم بذكر البكر أنه أول قديم، فلسنا نعرف للبكر معنى في لغة من اللغات إلا للأكبر من الإخوة والأول من الولد، وبكر الخلائق لا يكون إلا من الخلائق.
كما أن بكر الرجل والمرأة لا يكون إلا من جنسهما، وباكورة الثمار لا تكون إلا ثمرة، ولأن من المحال أن يقول قائل: بكر ولد آدم ملك من الملائكة، وكذلك من المحال أن يكون بكر المصنوعات ليس بمصنوع، وبكر المخلوقات ليس بمخلوق.
وقد قال الله تعالى في التوراةيا ابني بكري) أي إسرائيل، وقال في موضع آخر: (إنه نظر بنو الله إلى بنات الناس فشغفوا بهن). فهل يوجب لآل إسرائيل إلهية بهذا القول؟
قال: وقلتم: إن المسيح ولد من أبيه قبل العوالم وليس بمصنوع، فليس يخلو الأب من أن يكون أولد شيئا موجودا أو غير موجود، فإن كان لم يزل موجودا فإن الأب لم يلد شيئا، وإن كان غير موجود وإنما هو حادث، لم يكن، فهو مخلوق كما قلنا.
قال: ومما يبين قولنا في خلق المسيح: أن هذا الاسم إنما وقع له، لأنه مسح للنبوة والخير وماسحه الله تبارك وتعالى، وقد قال داود في زبوره قولا يشهد على ذلك بعينه: (من أجل هذا البر مسحك الله إلهك أكثر مما مسح به نظراءك) فأبان داود بهذه الآية معنى المسح بإنجيله، وأن ماسحه الله إلهه، وأنه مصطفى مكرم بزيادة على نظرائه، وقال داود أيضا في مزمور إحدى وثلاثين يخاطب الله: (من
أجل داود عبدك لا يغلب وجه مسيحك. عهد الرب لداود بالحق، ولا يرجع عنه) يعني بمسيحه نفسه، لأن الله مسحه للنبوة والملك، وقد قال مثل هذا في غير موضع من زبوره، فسمى نفسه مسيح الله.
قال: وإذا نظر في الإنجيل وكتب بولس وغيره ممن يحتج به النصارى، وجد نحوا من عشرين ألف آية مما فيه اسم المسيح وكلها تنطق بعبودية المسيح، وأنه مبعوث مربوب وأن الله اختصه بالكرامات، ما خلا آيات يسيرة مشكلات قد تأولها كل فريق من أولئك الذين وضعوا الشريعة باختيارهم على هواهم، فأخذوا بذلك التأويل الفاسد، وتركوا المعظم الذي ينطق بعبوديته، فلو كانوا قصدوا الحق لردوا تلك المشكلات الشاذة اليسيرة التي يوجد لها من التأويل خلاف ما يتأولونه على الواضحات الكثيرة التي قد بانت بغير تأويل، لأنه إنما يجب أن يقاس الجزء على الكل، ويستدل على ما غاب بما حضر، وعلى ما أشكل بما ظهر، فمن تلك الآيات المشكلات ما ذكرناه في
كتابنا هذا وبينا معناه والحجة فيه، وأنه ليس كما تأولوه.
ومنها ما يحكون عن المسيح أنه قال: (أنا بأبي)، وقد فسر المسيح عليه السلام ذلك وكشفه. قال " يوحنا " في إنجيله: (إن المسيح تضرع إلى الله في تلاميذه وقال: يا أيها الرب القدوس احفظهم باسمك الذي أعطيتني ليكونوا هم أيضا شيئا واحدا، كما أنا شيء واحد، وكما أنك أرسلتني إلى العالم، وكذلك أرسلهم أنا أيضا. ثم قال بعد هذا أيضا: إني قد منحتهم من المجد الذي أعطيتني ومنحتني ليكونوا أيضا شيئا واحدا، كما أنا شيء واحد، فأنا بهم وأنت بي)
قال: هو معنى ذلك أنه قال: أنت معي وأنت لي، كما أنا مع تلاميذي ولهم.
قلت: أو أراد أنك بي هديت الخلق وعلمتهم وأنا أهديهم
وأعلمهم. والباء للسببية، فإن الله برسله هدى عباده وعلمهم، والرسل علموا الغائبين عنهم بالحاضرين الذين بلغوا عنهم، وقوله: ليكونوا شيئا واحدا: أراد به اتفاق صدقهم وأمرهم ومرادهم، وهذا مفسر، وقد قال: ليكونوا هم شيئا واحدا، كما أنا شيء واحد، فقد طلب لهم مثل ما حصل له ولربه.
وهذا يبين أن قوله: كما أنا شيء واحد، أي أنا موافقك في أمرك ونهيك ومحبتك ورضاك، لم يرد بذلك اتحاد ذاته به، كما لم يرد أن تتحد ذوات بعضهم ببعض، فإنه طلب لهم مثل ما حصل له من الموافقة لأمر الله ونهيه ومحبته ورضاه.
قال: أو يكون ذهب فيه إلى معنى دقيق لا يعرفه إلا أنه قد بطل على كل حال بهذا القول تأويلكم ممازجته عز وجل في اللاهوت بقوله في تلاميذه أنه بهم، كما أن أباه به، لأنه إن تأول متأول في هذا المعنى أنه ذهب في وصفه أنه أبيه، وأن أباه به إلى مشاركته في
اللاهوت فقد قال في تلامذته مثل هذا القول، فيجب أن يكونوا على هذا القياس شركاء في المحل، وهذا ما لا يكون ولا يجترئ على القول به أحد.
قال: ومن أعجب العجب أن تكون أمة كتابها ودعوتها ومعبودها واحد يتمسكون بأمر المسيح عليه السلام، وتلامذته وإنجيله وسنته وشرائعه، وهم مع ذلك مختلفون فيه أشد الاختلاف، فمنهم من يقول: إنه عبد، ومنهم من يقول: إنه إله، ومنهم من يقول: إنه ولد، ومنهم من يقول: إنه أقنوم وطبيعة، ومنهم من يقول: إنه أقنومان وطبيعتان.
وكل منهم يكفر صاحبه ويقول: إن الحق في يده، وكلهم لا يأتي من الكتاب بحجة واضحة يثبت بها دعواه، ولا من قياسه لنفسه وتأوله بما يصح له عند المناظرة، وإنما يرجع في دينه واعتقاده إلى ما تأوله له المتأولون، بما يخالف إنجيلهم وكتبهم بالهوى والعناد من بعضهم لبعض، فهم يشركون بالله على التأويل ولا شريك له، ويدعون له ولدا من جهة ما أحدثوا لأنفسهم، سبحانه أنى يكون له ولد.
قال الحسن بن أيوب: وقد بينا الحجج في بطلان كل قول لكم
مما عقدتم به شريعة إيمانكم، ووجدنا قوما منكم إذا نوظروا في ذلك قالوا: قد وجدنا أكثر الأديان يختلف أهلها فيها، ويتفرقون على مقالات شتى هم عليها، وكل منهم يدعي أن الصواب في يده.
وهذا أيضا من سوء الاختيار، وذهاب القلوب عن رشدها وانصرافها عن سبيل حقها.
فلم يختلف أهل دين من الأديان في عقد معبودهم، ولا شكوا فيه ولا تفرقوا القول فيما اختاروه، إلا أهل ملل النصرانية فقط.
وسائر من سواهم إنما اختلفوا في فروع من فروع الدين وشرائعه، مثل اختلاف اليهود في أعيادهم وسنن لهم، ومثل اختلاف المسلمين في القدر.
فمنهم من قال به، ومنهم من دفعه.
وفي تفضيل قوم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على نظرائهم بعد اتفاق جماعتهم على إلههم ومعبودهم وخالقهم، وأن الله إله الخلق كلهم واحد لا شريك له ولا ولد.
ثم اتفاقهم بعد ذلك على نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم لا يشكون فيه، وعلى القرآن وأنه كتاب الله المنزل على محمد المرسل لا يختلفون فيه.
فإذا صح اتفاقهم على هذه الأصول، كان ما سواها خللا لا يقع معه كفر ولا يبطل به دين.
والبلاء العظيم الاختلاف في المعبود.
فلو أن قوما لم يعرفوا لهم إلها ولا دينا، ثم عرض عليهم دين النصرانية، لوجب أن يتوقفوا عنه، إذ كان أهله لم يتفقوا على شيء فيه.
ودل اختلافهم في مقالاتهم ومباينتها ما في كتبهم على باطله.
فأما قولنا في باب التوحيد، واعترافنا بوحدانية الله تعالى ونفينا عنه الشركاء والأنداد والأمثال والأولاد، فهو قول لا يشكون في صحته ولا يشك فيه أحد من أهل الكتب وسائر الملل ولا غيرهم من أهل القول بالدهر وسائر عبدة الأصنام والأوثان، وكل منهم يقر به ويرجع إليه.
إلا أن منهم من يتابعنا على تحديد التوحيد. ومنهم من يدخل العلل فيه، بأن يقول: ثلاثة ترجع إلى واحد، وصنما نعبده إجلالا لله ليقربنا إلى ربنا وربه، ومدبر للأمور قديم لا بد أن نعترف به خالقها وباريها.
وكل منهم مقر بقولنا، وذاهب إلى مذهبنا على الاعتراف بالله على الجهة التي يذهب إليها، وأنه واحد لا شريك له.
فقد صح عقدنا بلا شك منكم، ولا من أحد من الأمم فيه،
ولا في شيء منه، بل تقودكم الضرورة إلى الإقرار به والاجتماع معنا عليه.
والحمد لله رب العالمين على توفيقه، وإياه نسأل أن يتم علينا فضله ويديم لنا تسديده بقدرته، وأن يحيينا ويميتنا على الإسلام غير مشركين ولا جاحدين ولا مبدلين، إنه على كل شيء قدير، وكل مستصعب عليه يسير، وهو بمن خافه واتقاه وطلب ما عنده ولم يلحد في دينه رءوف رحيم. اهـ.
قلت: هذا آخر ما كتبته من كلام الحسن بن أيوب، وهو ممن كان من أجلاء علماء النصارى وأخبر الناس بأقوالهم، فنقله لقولهم أصح من نقل غيره.
وقد ذكر في كتابه من الرد على ما يحتجون به من الحجج العقلية والسمعية، وما يبطل قولهم من الحجج السمعية والعقلية ما يبين ذلك.
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72)
[فصل: بيان اضطراب كلام النصارى وتفرقهم في باب طبيعة المسيح]
وأما قولهم: وعلى هذا المثال نقول: في السيد المسيح طبيعتان:
طبيعة لاهوتية: التي هي طبيعة كلمة الله وروحه.
وطبيعة ناسوتية: التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به.
فيقال لهم: كلام النصارى في هذا الباب مضطرب مختلف متناقض، وليس لهم في ذلك قول اتفقوا عليه، ولا قول معقول، ولا قول دل عليه كتاب، بل هم فيه فرق وطوائف كل فرقة تكفر الأخرى، كاليعقوبية والملكانية والنسطورية، ونقل الأقوال عنهم في ذلك مضطربة، كثيرة الاختلاف.
ولهذا يقال: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا على أحد عشر قولا، وذلك أن ما هم عليه من اعتقادهم من التثليث والاتحاد، كما هو مذكور في أمانتهم، لم ينطق به شيء من كتب الأنبياء، ولا يوجد لا في كلام المسيح ولا الحواريين ولا أحد من الأنبياء، ولكن عندهم في الكتب ألفاظا متشابهة وألفاظا محكمة يتنازعون في فهمها، ثم القائلون منهم بالأمانة وهم عامة النصارى اليوم من الملكانية والنسطورية واليعقوبية مختلفون في تفسيرها، ونفس قولهم متناقض يمتنع تصوره على الوجه الصحيح.
فلهذا صار كل منهم يقول ما يظن أنه أقرب من غيره، فمنهم من يراعي لفظ أمانتهم وإن صرح بالكفر الذي يظهر فساده لكل أحد كاليعقوبية، ومنهم من يستر بعض ذلك كالنسطورية، وكثير منهم وهم الملكانية بين هؤلاء وهؤلاء، ولما ابتدعوا ما ابتدعوا من التثليث والحلول، كان فيهم من يخالفهم في ذلك.
وقد يوجد نقل الناس لمقالاتهم مختلفا، وذلك بحسب قول الطائفة التي ينقل ذلك الناقل قولها، والقول الذي يحكيه كثير من نظار المسلمين يوجد كثير منهم على خلافه، كما نقلوا عنهم ما ذكره أبو المعالي وصاحبه أبو القاسم الأنصاري، وغيرهما: أن القديم واحد بالجوهر، ثلاثة بالأقنوم، وأنهم يعنون بالأقنوم: الوجود والحياة والعلم.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 284)
من صــ 461 الى صـ 475
ونقلوا عنهم: أن الحياة والعلم ليسا بوصفين زائدين على الذات موجودين، بل هما صفتان نفسيتان للجوهر، قالوا: ولو مثل مذهبهم بمثال لقيل: إن الأقانيم عندهم تنزل منزلة الأحوال والصفات النفسية عند مثبتيها من المسلمين، فإن سوادية اللون ولونيته صفتان نفسيتان للعرض، قال: وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود، وبالابن المسيح والكلمة، وربما سموا العلم
كلمة، والكلمة علما، ويعبرون عن الحياة بالروح، قال: ولا يريدون بالكلمة الكلام، فإن الكلام عندهم من صفات الفعل، ولا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح واتحاده به ابنا، بل المسيح عندهم مع ما تدرع به ابن، قالوا: ومن مذهبهم أن الكلمة اتحدت بالمسيح وتدرعت بالناسوت، ثم اختلفوا في معنى الاتحاد فمنهم من فسره بالاختلاط والامتزاج، وهذا مذهب طوائف من اليعقوبية والنسطورية والملكانية، قالوا: إن الكلمة خالطت جسد المسيح ومازجته كما مازج الخمر الماء أو اللبن، قالوا: وهذا مذهب الروم ومعظمهم الملكانية، قالوا: فمازجت الكلمة جسد المسيح فصارت شيئا واحدا وصارت الكثرة قلة.
وذهبت طائفة من اليعاقبة إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما، وقالوا: وصارت شرذمة من كل صنف إلى أن المراد بالاتحاد ظهور اللاهوت على الناسوت كظهور الصورة في المرآة، والنقش في الخاتم.
ومنهم من قال: ظهور اللاهوت على الناسوت كاستواء الإله على العرش عند المسلمين، وذهب كثير من هذه الطوائف إلى أن المراد بالاتحاد الحلول. قالوا: وقد اختلفوا أيضا في الجوهر والأقانيم
فذهبت اليعقوبية والنسطورية إلى أن الجوهر ليس بغير الأقانيم.
ولا يقال: إنه هي، وصرحت الملكانية بأنه غير الأقانيم، وآخرون قالوا: هو الأقانيم.
قالوا: وافترقت النصارى من وجه آخر، فذهبت الروم إلى التصريح بإثبات ثلاثة آلهة، وامتنعت اليعقوبية والنسطورية من ذلك في وجه والتزموه من وجه، وذلك أنهم قالوا: الكلمة إله والروح إله والأب إله، والثلاثة الأقانيم التي كل أقنوم إله، إله واحد.
قالوا: وذهبت شرذمة من النصارى إلى أن عيسى كان ابنا لله على جهة الكرامة، فكما اتخذ الله إبراهيم خليلا، كذلك اتخذ عيسى ابنا.
قالوا: وهؤلاء يقال لهم: الأريوسية. فهذا نقل طائفة من نظار المسلمين، وهذا قول لمن قاله من النصارى، وفيه ما هو مخالف لصريح أمانتهم وما عليه جمهورهم، مثل قوله: إنهم لا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح ابنا، بل المسيح مع ما تدرع به ابن، فإن هذا خلاف ما عليه فرق النصارى من الملكانية واليعقوبية والنسطورية، وخلاف ما تضمنته أمانتهم، إذ صرحوا فيها بأن الكلمة ابن قديم أزلي مولود قبل الدهور، وهذا صفة اللاهوت عندهم، وفيها أشياء يقولها بعض النصارى لا كلهم، وكذلك نقلهم عنهم أنهم لا يريدون بالكلمة الكلام، فإن الكلام عندهم صفة فعل، وهذا قول طائفة منهم ومن
اليهود، وكثير منهم أو أكثرهم يقولون: إن كلام الله غير مخلوق، وينكرون على من يقول إنه مخلوق.
ونقلت طائفة أخرى منهم أبو الحسن بن الزاغوني عنهم ما يوافق هذا من وجه دون وجه، فقالوا: اتفقت طوائف النصارى على أن الله ليس بجسم، واتفقوا على أنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم، وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام، ثم اختلفوا، فقال بعضهم: إن الأقانيم مختلفة في الأقنومية، متفقة في الجوهرية.
وقال آخرون: ليست مختلفة في الأقنومية، بل متغايرة، وقال فريق منهم: إن كل واحد منها لا هو الآخر، ولا هو غيره، وليست متغايرة ولا مختلفة، وزعموا أن الجوهر ليس هو غيرها إلا ما ذكر عن طائفة من الملكانية، فإنهم قالوا: إن الأقانيم هي الجوهر غير الأقانيم، وزعموا أن الجوهر هو الأب، والأقانيم الحياة، وهي روح القدس، والقدرة، والعلم، وأن الله اتحد بأحد الأقانيم الذي هو الابن بعيسى ابن مريم، وكان مسيحا عند الاتحاد، لاهوتا وناسوتا، حمل، وولد، ونشأ، وقتل، وصلب، ودفن.
واختلفوا أيضا فقالت النسطورية: إن المسيح جوهران أقنومان قديم ومحدث، وأن اتحاده إنما هو بالمشيئة، وأن مشيئتهما واحدة وإن كانا جوهرين.
وقالت اليعقوبية: لما اتحدا صار الجوهران الجوهر القديم والجوهر المحدث جوهرا واحدا.
واختلفوا هاهنا فقال بعضهم: الجوهر المحدث صار قديما، وزعم آخرون أنهما لما اتحدا صارا جوهرا واحدا قديما من وجه محدثا من وجه آخر.
وقالت الملكانية: إن المسيح جوهران أقنوم واحد. وحكي عن بعضهم أنه أقنومان جوهر واحد، وقالت الأريوسية: إن الله ليس بجسم ولا أقانيم له، وأن المسيح لم يصلب ولم يقتل، وأنه نبي، وحكي عن بعضهم أنه قال: المسيح ليس بابن الله، وحكى عن بعضهم أنه ابن الله على التسمية والتقريب.
واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم، فقالت طائفة منهم: إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة، كما يحل الماء في اللبن فيمازجه ويخالطه. وقالت طائفة منهم: إنها حلت في مريم من غير ممازجة، كما أن شخص الإنسان يحل في المرآة وفي الأجسام الصقيلة من غير ممازجة.
وزعمت طائفة من النصارى أن الناسوت مع اللاهوت كمثل الخاتم مع الشمع، يؤثر فيه بالنقش، ثم لا يبقى منه شيء إلا أثره.
قال أبو الحسن بن الزاغوني ومن معه: واختلفت النصارى في الأقانيم فقال قوم منهم: هي جواهر، وقال قوم: هي خواص، وقال قوم هي صفات، وقال قوم: هي أشخاص، والأب عندهم الجوهر الجامع للأقانيم، والابن هو الكلمة التي اتحدت عند مبدأ المسيح، والروح هي الحياة، واجتمعوا على أن الاتحاد صفة فعل وليس بصفة ذات.
قالوا: واختلف قولهم في الاتحاد اختلافا متباينا، فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح وقيل: هذا قول الأكثرين منهم.
وزعم قوم منهم أن الاتحاد: هو الاختلاط والامتزاج، وقال قوم من اليعقوبية: هو أن كلمة الله قد انقلبت لحما ودما بالاختلاط، وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط الماء بالخمر وامتزاجهما، وكذلك الخمر باللبن.
وقال قوم منهم: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اتحدا فصارا هيكلا واحدا.
وقال قوم منهم: الاتحاد مثل ظهور صورة الإنسان في المرآة، وكظهور الطابع في المطبوع، مثل الخاتم في الشمع، وقال قوم منهم: الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة، كما نقول: الله في السماء على العرش من غير مماسة ولا ممازجة، وكما نقول: إن العقل جوهر حال في النفس من غير مخالطة للنفس ولا مماسة لها. وقالت الملكانية: الاتحاد أن الاثنين صارا واحدا وصارت الكثرة قلة.
وهذا الذي نقله عنهم أبو الحسن الزاغوني هو نحو ما نقله عنهم القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي أبو يعلى وغيرهما، وقال أبو محمد بن حزم: النصارى فرق منهم أصحاب أريوس، وكان قسيسا بالأسكندرية، ومن قوله: التوحيد المجرد وأن عيسى عبد
مخلوق، وأنه كلمة الله التي بها خلق السماوات والأرض، وكان في زمن " قسطنطين " الأول باني القسطنطينية وأول من تنصر من ملوك الروم، وكان على مذهب أريوس هذا.
قال: ومنهم أصحاب بولس الشمشاطي، وكان بطرياركا بأنطاكية قبل ظهور النصرانية وكان قوله بالتوحيد المجرد الصحيح، وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام خلقه الله في بطن أمه مريم من غير ذكر، وأنه إنسان لا إلهية فيه البتة، وكان يقول: لا أدري ما الكلمة ولا الروح القدس، قال: وكان منهم أصحاب مقدنيوس، كان بطرياركا بالقسطنطينية بعد ظهور النصرانية أيام قسطنطين بن قسطنطين باني القسطنطينية، وكان هذا الملك أريوسيا كأبيه، وكان من قول مقدونيوس هذا التوحيد المجرد وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق إنسان نبي رسول كسائر الأنبياء عليهم السلام، وأن عيسى هو روح القدس وكلمة الله، وأن روح القدس والكلمة مخلوقان، خلق الله كل ذلك، قال: وكان منهم البربرانية، وهم يقولون: إن عيسى وأمه إلهان من دون الله تعالى. قال: وهذه الفرق قد بادت، وعمدتهم اليوم ثلاث فرق، وأعظمها فرق الملكانية، وهي مذهب جميع ملوك النصارى حيث كانوا حاشا الحبشة والنوبة ومذهب عامة أهل كل مملكة النصارى حاشا النوبة والحبشة وهو مذهب جميع نصارى أفريقية وصقلية
والأندلس وجمهور الشام، وقولهم أن الله تعالى الله عن قولهم ثلاثة أشياء: أب، وابن، وروح القدس، كلها لم تزل، وأن عيسى إله تام كله وإنسان تام ليس أحدهما غير الآخر، وأن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل، وأن الإله منه لم ينله شيء من ذلك، وأن مريم ولدت الإله والإنسان، وأنهما معا شيء واحد ابن الله تعالى الله عن كفرهم.
وقالت النسطورية مثل ذلك سواء بسواء، إلا أنهم قالوا: إن مريم لم تلد الإله، وإنما ولدت الإنسان، وأن الله لم يلد الإنسان، وإنما ولد الإله تعالى الله عن كفرهم، وهذه الفرقة غالبة على الموصل والعراق وفارس وخراسان، وهم منسوبون إلى نسطور، وكان بطرياركا بالقسطنطينية.
وقالت اليعقوبية: إن المسيح هو الله نفسه، وأن الله تعالى الله عن عظيم كفرهم مات وصلب وقتل، وأن العالم بقي ثلاثة أيام بلا
مدبر، والفلك بلا مدبر، ثم قام ورجع كما كان، والله تعالى عاد محدثا، والمحدث عاد قديما، والله تعالى كان في بطن مريم محمولا به، وهم في أعمال مصر وجميع النوبة وجميع الحبشة، وملوك الأمتين المذكورتين.
قلت: ومن أخبر الناس بمقالاتهم من كان من علمائهم، وأسلم على بصيرة بعد الخبرة بكتبهم ومقالاتهم، كالحسن بن أيوب الذي كتب رسالة إلى أخيه علي بن أيوب يذكر فيها سبب إسلامه ويذكر الأدلة على بطلان دين النصارى وصحة دين الإسلام، قال في رسالته إلى أخيه لما كتب إليه يسأله عن سبب إسلامه بعد أن ذكر خطبته: " ثم أعلمك أرشدك الله أن ابتداء أمري في الشك الذي دخلني فيما كنت عليه والاستبشاع بالقول به من أكثر من عشرين سنة لما كنت أقف عليه في المقالة من فساد التوحيد لله عز وجل بما أدخل فيه من القول بالثلاثة الأقانيم وغيرها مما تضمنته شريعة النصارى، ووضع الاحتجاجات التي لا تزكو ولا تثبت في تقرير ذلك، وكنت إذا تبحرته وأجلت الفكر فيه، بان لي عواره، ونفرت نفسي من قبوله، وإذا فكرت في دين الإسلام الذي من الله علي به، وجدت أصوله ثابتة وفروعه مستقيمة وشرائعه جميلة.
وأصل ذلك ما لا يختلف فيه أحد ممن عرف الله عز وجل منكم ومن غيركم وهو الإيمان بالله الحي القيوم السميع البصير الواحد الفرد الملك القدوس الجواد العدل إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وإله موسى وعيسى وسائر النبيين والخلق أجمعين، الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، ولا ضد ولا ند، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا، الذي خلق الأشياء كلها لا من شيء ولا على مثال، بل كيف شاء وبأن قال لها: " كوني " فكانت على ما قدر وأراد، وهو العليم القدير الرءوف الرحيم الذي لا يشبهه شيء، وهو الغالب فلا يغلب، والجواد فلا يبخل، لا يفوته مطلوب، ولا تخفى عليه خافية، {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} [غافر: 19]، وما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وكل مذكور أو موهوم هو منه، وكل ذلك به، وكل له قانتون، ثم نؤمن بأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ; ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ونؤمن بموسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا نفرق بين أحد منهم، ونؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الأبرار لفي نعيم وأن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين، ذلك بما كسبت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد.
قال: وكان يحملني إلف ديني وطول المدة والعهد عليه والاجتماع مع الآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأقارب والإخوان والجيران وأهل المودات على التسويف بالعزم، والتلبث على إبرام الأمر، ويعرض مع ذلك الفكر في إمعان النظر والازدياد في البصيرة، فلم أدع كتابا من كتب أنبياء التوراة والإنجيل والزبور وكتب الأنبياء والقرآن إلا نظرت فيه وتصفحته، ولا شيئا من مقالات النصرانية إلا تأملته، فلما لم أجد للحق مدفعا، ولا للشك فيه موضعا، ولا للأناة والتلبث وجها، خرجت مهاجرا إلى الله عز وجل بنفسي هاربا بديني عن نعمة وأهل مستقر ومحل وعز ومتصرف في عمل، فأظهرت ما أظهرته عن نية صحيحة، وسريرة صادقة، ويقين ثابت، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق،
وإياه تعالى نسأل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب.
قال: ولما نظرت في مقالات النصارى وجدت صنفا منهم يعرفون بالأريوسية يجردون توحيد الله ويعترفون بعبودية المسيح عليه السلام ولا يقولون فيه شيئا مما يقوله النصارى من ربوبية ولا بنوة خاصة ولا غيرهما، وهم متمسكون بإنجيل المسيح مقرون بما جاء به تلاميذه والحاملون عنه، فكانت هذه الطبقة قريبة من الحق مخالفة لبعضه في جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودفع ما جاء به من الكتاب والسنة.
قال: ثم وجدت منهم صنفا يعرفون باليعقوبية، يقولون: إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين: إحداهما طبيعة الناسوت والأخرى طبيعة اللاهوت، وأن هاتين الطبيعتين تركبتا كما تركبت النفس مع البدن فصارتا إنسانا واحدا وجوهرا واحدا وشخصا واحدا، وأن هذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح، وهو إله كله وإنسان كله، وهو شخص واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين.
وقالوا: إن مريم ولدت الله، تعالى الله عما يقولون، وإن الله مات وتألم وصلب متجسدا، ودفن وقام من بين الأموات وصعد إلى السماء، فجاءوا من القول بما لو عرض على السماء لانفطرت، أو على الأرض لانشقت، أو على الجبال لانهدت، فلم يكن لمحاجة هؤلاء وجه، إذ كان كفرهم بما صرحوا به أوضح من أن يقع فيه الشك، وكان غيرهم من النصارى كالمالكانية والنسطورية يشهدون بذلك عليهم.
قال: ثم نظرت في قول الملكانية وهم الروم وهم أكثر النصارى فوجدتهم قالوا: إن الابن الأزلي الذي هو الله الكلمة تجسد من مريم تجسدا كاملا كسائر أجساد الناس، وركب في ذلك الجسد نفسا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنسانا بالنفس والجسد اللذين هما من جوهر الناس، وإلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناسوت مثل إبراهيم وداود، وهو شخص واحد لم يزد عدده وثبت له جوهر اللاهوت كما لم يزل يصح له جوهر الناسوت الذي لبسه من مريم، وهو شخص واحد لم يزد عدده وطبيعتان، ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح، وله بناسوته مشيئة مثل مشيئة إبراهيم وداود.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 285)
من صــ 476 الى صـ 490
وقالوا: إن مريم ولدت إلها، وأن المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت، مات، وقالوا: إن الله لم يمت، والذي ولدت مريم قد مات بجوهر ناسوته (فهو إله تام بجوهر لاهوته، وإنسان تام بجوهر ناسوته، وله مشيئة اللاهوت ومشيئة الناسوت، وهو شخص واحد لا نقول شخصان لئلا يلزمنا القول بأربعة أقانيم.
قال: فهؤلاء أتوا من ذلك بمثل ما أتت به اليعقوبية في ولادة مريم الله، تعالى الله عما يقول الظالمون، وقالوا: إن المسيح وهو اسم لا تشك جماعة النصارى أنه واقع على اللاهوت والناسوت مات، وأن الله لم يمت، فكيف يكون ميتا لم يمت، وقائما قاعدا في حال واحدة؟ وهل بين المقالتين فرق إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع؟
قال: ثم نظرت في قول النسطورية فوجدتهم قالوا: إن المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة، وأن طبيعة اللاهوت التي للمسيح غير طبيعة ناسوته، وأن طبيعة اللاهوت لما توحدت بالناسوت بشخصها
الكلمة التي صارت الطبيعتان بجهة واحدة وإرادة واحدة، واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان، ولا يمتزج بشيء، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيح بتلك إلها وإنسانا، فهو إله بجوهر اللاهوت الذي لا يزيد ولا ينقص، وهو إنسان بجوهر الناسوت القابل للزيادة والنقصان.
وقالوا: إن مريم ولدت المسيح بناسوته، وإن اللاهوت لم يفارقه قط منذ توحدت بناسوته.
وقال: فوجدنا اليعقوبية قد صرحوا بأن مريم ولدت الله، تعالى عما يصفه المبطلون ويقوله العادلون، وأنه تألم وصلب ومات، وقام بعد ثلاثة أيام من بين الموتى، وهذا الكفر الذي تشهد به عليهم سائر ملل النصارى وغيرهم، ووجدنا الملكانية قد حادوا عن هذا التصريح إلى ما هو دونه في الظاهر، فقالوا: إن المسيح شخص واحد وطبيعتان، فلكل واحدة من الطبيعتين مشيئة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح، وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود. وأوهموا الواقف على قولهم أنهم بما اخترعوه من هذا الاختيار قد فرقوا بين اللاهوت والناسوت، ثم عادوا إلى قول اليعقوبية، فقالوا: إن مريم ولدت إلها وأن المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت عند جماعتهم لا يشكون في ذلك، مات بالجسد وأن الله لم يمت، والذي قد ولدته مريم قد مات بجوهر ناسوته، فكيف يكون ميت لم يمت؟ وهل بين المقالتين إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع فرق؟
وإذا كانوا قد اعترفوا بأن مريم ولدت الله، وأن الذي ولدته مريم وهو المسيح الاسم الجامع للجوهرين، للاهوت والناسوت قد مات، فهل وقعت الولادة والموت وسائر الأفعال التي تحكي النصارى أنها فعلت بالمسيح إلا عليهما؟
فكيف يصح لذي عقل عبادة مولود من امرأة بشرية قد مات ونالته العلل والآفات؟
قلت: ومما يوضح تناقضهم أنهم يقولون: إن المسيح وهو اللاهوت والناسوت شخص واحد وأقنوم واحد مع قولهم أنهما جوهران بطبيعتين ومشيئتين فيثبتون للجوهرين أقنوما واحدا، ويقولون: هو شخص واحد، ثم يقولون: إن رب العالمين إله واحد، وأقنوم واحد، وجوهر واحد، وهو ثلاثة أقانيم، فيثبتون للجوهر الواحد ثلاثة أقانيم، وللجوهرين المتحدين أقنوما واحدا، مع أن مشيئة الأقانيم الثلاثة عندهم واحدة، والناسوت واللاهوت يثبتون لهما مشيئتين وطبيعتين، ومع هذا هما عندهم شخص واحد، أقنوم واحد، وهذا يقتضي غاية التناقض سواء فسروا الأقنوم بالصفة، أو الشخص، أو الذات مع الصفة، أو أي شيء قالوه.
وهو يبين أن الذين تكلموا بهذا الكلام ما تصوروا ما قالوه،بل كانوا ضلالا جهالا، بخلاف ما يقوله الأنبياء فإنه حق، فلهذا لا يوجد عن المسيح ولا غيره من الأنبياء ما يوافق قولهم في التثليث والأقانيم والاتحاد ونحو ذلك مما ابتدعوه بغير سمع وعقل، بل ألقوا أقوالا مخالفة للشرع والعقل.
ثم قال الحسن بن أيوب: ثم وجدنا النصارى المعروفين بالنسطورية قد خالفوا اليعقوبية والملكانية في قولهم بشخصين لهما مشيئة واحدة، وأن الطبيعتين اتحدتا فصارتا بجهة واحدة، ثم عادوا إلى شبيه قولهم في أن مريم ولدت المسيح، فإذا كانت ولدت المسيح فقد لزمهم ووجب عليهم الإقرار بأنها ولدت هذا اللاهوت والناسوت المتحدين.
وقد رجع المعنى إلى قول اليعقوبية، إلا أنهم اختاروا لذلك ألفاظا زوقوها وقدروا بها التمويه على السامع، ولم يصرحوا بالقول كتصريح اليعقوبية ; لأن المتحد بالشيء هو الممازج له والمجتمع معه حتى صار مازجه وهو شيئا واحدا، ثم أكدوا القول بإقرارهم أن الناسوت منذ اتحد باللاهوت لم يفارقه، فما لم يفارق الشيء هل هو إلا يجري مجراه في سائر متفرقاته من ضر ونفع، وخير وشر، وحاجة وغنى؟
قال: وأما قولهم: إن مريم ولدت المسيح بناسوته فهذه أغلوطة، وإلا فكيف يولد ولد متحد بشيء آخر مجامع له دون ذلك الشيء؟ وكيف يكون ذاك وهم يقولون إنه لم يفارقه قط؟ وهل يصح
هذا عند أهل النظر؟ أوليس الحكم عند كل ناظر ومن كل ذي عقل يوجب أن تكون الولادة واقعة على اللاهوت والناسوت معا؟ بمعنى الاتحاد وبمعنى الاسم الجامع للاهوت والناسوت وهو المسيح، وكذلك الحمل بهما جميعا، وأن يكون البطن قد حواهما؟
قال: فإن لجوا في الباطل ودافعوا عن قبيح هذه المقالة، ومالوا إلى تحسينها بالتمويهات المشككة لمن قصرت معرفته، فنحن نقيم عليهم شاهدا من أنفسهم لا يمكنهم دفعه، وذلك أن شريعة إيمانهم التي ألفها لهم رؤساؤهم من البطاركة والمطارنة والأساقفة والأحبار في دينهم وذوي العلم منهم بحضرة الملك عند اجتماعهم من آفاق الأرض بمدينة " قسطنطينية " وكانوا ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا، يصفون أنهم نطقوا بها بروح القدس، وهي التي لم تختلف جماعتهم عند اختلافهم في المقالات فيها، ولا يتم لهم قربان إلا بها على هذا النسق الذي نبينه: نؤمن بالله الأب، مالك كل شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا، وحبل به وولد من مريم البتول، وتألم وصلب أيام قيطوس بن بيلاطوس، ودفن، وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه روح، ومجيئه، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية سليخية جاثليقية، وبقيامة أبداننا، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين.
قال: فهذه الشريعة يجتمع على الإيمان بها، وبذل المهج فيها، وإخراج الأنفس دونها جماهيرهم من الملكانية واليعقوبية والنسطورية.
وقد اعترفوا فيها جميعا بأن الرب المسيح الذي هذه صفته على ما اقتصصناه منها الإله الحق من الإله الحق، نزل من السماء وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول وتألم وصلب.
قال: فهل في هذا الإقرار شبهة أو علقة يتعلق بها العنت المدافع عن الحجة؟ فتدبروا هذا القول يا معشر النصارى، فإنه لا يمكن أحد منكم أن يخرج عنه، ولا أن يدفع ما صرح به، فإنكم إن قلتم: إن المقتول المصلوب هو الله، فمريم على قولكم ولدت الله، سبحانه وتعالى عما يقولون، وإن قلتم: إنه إنسان فمريم ولدت إنسانا، وفي ذلك أجمع بطلان شريعة إيمانكم، فاختاروا أي القولين شئتم، فإن فيه نقض الدين.
قال: وقد يجب على ذوي العقول أن تزجرهم عقولهم عن عبادة إله ولدته مريم، وهي امرأة آدمية، ثم مكث على الأرض ثلاثين سنة تجري عليه أحكام الآدميين من غذاء وتربية، وصحة وسقم، وخوف وأمن، وتعلم وتعليم، لا يتهيأ لكم أن تدعوا أنه كان منه في تلك المدة من أسباب اللاهوتية شيء، ولا له من أحوال الآدميين كلها من حاجتهم وضروراتهم وهمومهم ومحنهم وتصرفاتهم مخرج، ثم أحدث بعد هذه المدة الطويلة ما أحدثه من إظهار أمر الله تعالى والنبوات والآيات الباهرة المعجزة بقوة الله تعالى، وقد كان من غيره من الأنبياء مثلها وما هو أعلى منها، فكانت مدته في ذلك أقل من ثلاث سنين، ثم انقضى أمره بما يصفون أنه انقضى به وينسبونه إليه من حبس وضرب وقذف، وصلب وقتل، فهل تقبل العقول ما يقولون من
أن إلها نال عباده منه، مثل ما تذكرون أنه نيل منه؟
فإن تأولتم أن ذلك حل بالجسم، وليس بالقياس يحتمل ذلك لما شرحناه من معنى اتحاد اللاهوت به، أفليس قد وقع بجسم توحدت اللاهوتية به، وحلت الروح فيه، وقد أنجبه الله على ما تزعمون وتصفون لخلاص الخلق، وفوض إليه القضاء بين العباد في اليوم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون للحساب، وقد وجدناكم تؤثرون أخبارا في قوم عرضوا التوابيت فيها شهداء لكم بأن الأيدي التي بسطت إليها جفت، أو هل نال أحدا من الجزع والهلع والغم والقلق والتضرع إلى الله في إزالة ما حل به، مثل ما يحكى في الإنجيل أنه ناله، ووجدنا الكتب تنبئ بأنه نيل من جورجيس أحد من كان على دين المسيح صلى الله عليه وسلم من العذاب الشديد بالقتل والحرق والنشر بالمناشير ما لم يسمع بمثله في أحد من الخلق، ونال خلقا كثيرا من تلامذته أيضا عذاب شديد.
وقيل: لما كان الملوك المحاربون لهم يسومونهم إياه من الرجوع عن أديانهم إلى الكفر الذي كان أولئك الملوك عليه فصبروا على ذلك واحتسبوا أنفسهم، فلم يهربوا من الموت، وقد كان يمكنهم الهرب من بلد إلى بلد، والاستتار وإخفاء أشخاصهم، وما أظهروا في حال من تلك الأحوال جزعا ولا هلعا، وهم بعض الآدميين التابعين له، لأنه خفف عنهم ما كانوا ينالون به بتأييد الله عز وجل إياهم.
قال: ثم نقول قولا آخر: قد نستدل على صحة هذه الشريعة من سقمها بأربعة أوجه، لا يقع في شيء منها شك ولا طعن، ولا زيادة ولا نقصان، وهي أصل أمر المسيح عندكم:
فأولها البشرى التي أتى بها جبريل عليه السلام
والثانية: قول يحيى بن زكريا الذي شهد له المسيح بأنه لم تقم النساء عن مثله.
والثالثة: النداء المسموع من السماء.
والرابعة: قول المسيح عن نفسه حين سأله يحيى عن شأنه.
والذي قال جبريل على ما ثبت في إنجيلكم لمريم حين بشرها: (السلام عليك أيتها الممتلئة نعما، ربنا معك أيتها المباركة في النساء. فلما رأته مريم ذعرت منه، فقال: لا ترهبي يا مريم فقد فزت بنعمة من ربك، فها أنت تحبلين وتلدين ابنا وتسميه يسوع ويكون كبيرا، ويسمى ابن الله العلي، ويعطيه الله الرب كرسي أبيه داود، ويكون ملكا على آل يعقوب إلى الأبد. فقالت مريم: أنى يكون لي ذلك ولم يمسسني رجل؟ قال لها الملك: إن روح القدس يأتيك، أو قال: يحل فيك، وقوة العلي تحبلك، من أجل ذلك يكون الذي يولد منك قديسا، ويسمى ابن الله العلي).
قال: فلم نر الملك قال لها: إن الذي تلدين هو خالقك، وهو الرب كما سميتموه، بل أزال الشك في ذلك بأن قال: إن الله الرب يعطيه كرسي أبيه داود، ويصطفيه ويكرمه، وأن داود النبي أبوه، وأنه يسمى ابن الله، وما قال أيضا: (أنه يكون ملكا على الأرض) وإنما جعل له الملك على بني إسرائيل فقط، وقد علمتم أن من يسمى بابن الله كثير لا يحصون، فمن ذلك إقراركم بأنكم جميعا أبناء الله بالمحبة، وقول المسيح: (أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم)، في غير موضع من الإنجيل، ثم تسمية الله يعقوب وغيره بنيه خصوصا، فالسبيل في المسيح إذا لم تلحقوه في هذا الاسم بالجمهور أن يجري في هذه التسمية مجرى الجماعة الذين اختصوا بها من الأنبياء والأبرار، ونسبة الملك إياه إلى أبيه داود تحقق أن أباه داود، وأن التسمية الأولى على جهة الاصطفاء والمحبة، وأن حلول الروح عليه على الجهة التي قالها " متى " التلميذ للشعب عن المسيح في الإنجيل: (لستم أنتم متكلمين، بل روح الله تأتيكم تتكلم فيكم).
فأخبر أن الروح تحل في القوم أجمعين وتتكلم فيهم، وقال الملك في بشارته لمريم بالمسيح عليه السلام: إنه يكون ملكا على آل يعقوب. فخص آل يعقوب بتملكه عليهم دون غيرهم من الناس، ولم يقل إنه يكون إلها للخلائق، ومعنى قول جبريل عليه السلام
لمريم 74: (ربنا معك) مثل معنى قول الله عز وجل لموسى وغيره من الأنبياء: (إني معكم) فقد قال ليوشع بن نون: (إني أكون معك، كما كنت مع موسى عبدي) فقول النصارى كلهم في مجاري لغتهم ومعاني ألفاظهم أن الله عز وجل وروح القدس مع كل خطيب وراهب وفاضل في دينه على هذه السبيل.
قال: وأما النداء الذي سمعه يحيى بن زكريا من السماء في المسيح، وشهادة يحيى له، فإن " متى " قال في إنجيله: (إن المسيح عليه السلام لما خرج من الأردن تفتحت له السماء، فنظر يحيى إلى روح القدس قد نزلت على المسيح كهيئة حمامة، وسمع نداء من السماء: إن هذا ابني الحبيب الذي اصطفيته).
فقد علمنا وعلمتم أن المصطفى مفعول، والمفعول مخلوق، وليس يستنكف المسيح عليه السلام من الاعتراف بذلك عن الاعتراف بذلك في كل كلامه، وما زال يقول: (إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم) وكلما يصحح به أنه عبد مرسل مربوب مبعوث مأمور يؤدي ما سمع، ويفعل ما حد له، ونحن نشرح هذا في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ثم قال: وقد وجدنا المسيح عليه السلام احتاج إلى تكميل أمره بمعمودية يحيى له، فسار إليه لذلك وسأله إياه، فليس مرتبة المقصود بدون مرتبة القاصد الراغب، وقال " لوقا " التلميذ في إنجيله: (إن يحيى المعمداني أرسل إلى المسيح بعد أن عمده وسأله: أنت ذلك الذي تجيء، أو نتوقع غيرك؟) فكان جواب المسيح لرسله: (أن ارجعوا فأخبروه بما ترون من عميان يبصرون، وزمن ينهضون، وصم يسمعون، فطوبى لمن لم يغتر بي، أو يذل في أمري).
قال: فوجدنا يحيى مع محله وجلالة قدره عند الله عز وجل ثم ما شهد به للمسيح له من أنه ما قامت النساء عن مثله، قد شك فيه، فاحتاج إلى أن يسأله عن شأنه، ثم لم يكن من جواب المسيح له بشيء مما تصفون من الربوبية، ولا قال: إني خالقك وخالق كل شيء، كما في شريعة إيمانكم، بل حذر الغلط في أمره والاغترار، ولا كان من قوله أكثر مما ذكر أنه أظهر بنبوته من هذه الآيات التي سبق إلى مثلها أكثر الأنبياء.
قال: ولا رأينا يحيى زاد في وضعه إياه لما قرظه وأعلا ذكره مع تشككه في أمره وحاجته إلى مسألته عن حاله على أن قال: (هو أقوى مني، وأني لا أستحق أن أحل معقد خفه) ولم يقل إنه
خالقي، وقد يقول الرجل الخير فيمن هو دونه مثل الذي قال يحيى فيه تواضعا لله وخشوعا، كما قال المسيح في يحيى: (إنه ما قامت النساء عن مثله).
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 286)
من صــ 491 الى صـ 500
قال: فتركتم ما أتت به الرسل والنبوات في المسيح وهو أصلكم الذي وقع عليه بناؤكم، وجعلتم لأنفسكم شريعة غيرها، ومثل الذين عقدوا هذه الشريعة لكم مثل من آمن بنبوة رجل ينتفي من النبوة، لأن المسيح عليه السلام يقول: إنه مربوب مبعوث، ويقول جبريل: إنه مكرم مصطفى، وأن أباه داود، وأن الله جعله ملكا على آل يعقوب، وينادي مناد من السماء بمثل ذلك، ويشهد يحيى بن زكريا على مثله، وتقولون: بل هو خالق أزلي إلا أنه يستر نفسه، ويقول: المسيح وغيره ممن سمينا أنه معطى وأن الله معطيه، وتقولون: بل رازق النعم وواهبها، ويقول: إن الله أرسله، وتقولون:
بل هو الذي نزل لخلاصنا، وتعتقدون سبب نزوله من السماء أنه أراد أن يخلصكم، ويحتمل الخطيئة، ويربط الشيطان! فقد وجدنا الخلاص لم يقع، والخطيئة قائمة لم تزل، والشيطان أعتى ما كان لم يربط، بل سلطه الله عليه على ما تقولون، فحصره في الجبل أربعين يوما يمتحنه، وقال له في بعض أحواله معه: (إن كنت ابن الله فقل لهذه الصخور تصير خبزا، فقال له المسيح مجيبا له: إنه مكتوب أن حياة الإنسان لا تكون بالخبز، بل بكل كلمة تخرج من الله.
ثم ساقه الشيطان إلى مدينة بيت المقدس، وأقامه على قرنة الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فارم بنفسك من هاهنا، فإنه مكتوب إن الملائكة توكل بك، لئلا تعثر رجلك بالحجر. قال يسوع: ومكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك. ثم ساقه إلى جبل عال وأراه جميع مملكات الدنيا وزخارفها، وقال له: إن خررت على وجهك ساجدا لي جعلت هذا الذي ترى كله لك. قال له المسيح: اغرب أيها الشيطان، فإنه مكتوب: اسجد للرب إلهك، ولا تعبد شيئا سواه. ثم بعث الله عز وجل ملكا اقتلع العدو من مكانه ورمى به في البحر، وأطلق السبيل للمسيح.
وقال: أفلا يعلم من كان في عقله أدنى مسكة، أن هذا الفعل لا يكون من شيطان إلى إله، ولو كان إلها لأزاله عن نفسه قبل أن يأتيه الملك من عند ربه، ولما قال: (أمرنا أن لا نجرب الله، وأن نسجد للرب، ولا نعبد شيئا سواه). وكيف لم يربط الشيطان عن نفسه قبل أن يربط عن أمته؟ قال: فهذه أمور إذا تأملها المتأمل قبحت جدا، وكثر اختلافها، واشتد تناقضها واضطرابها.
قال: ومما يعجب منه أنكم تعتقدون أن الابن الأزلي اتحد بالمسيح فصارا بجهة واحدة ولم يفارقه قط منذ اتحد به، ومكث على ذلك في بطن أمه تسعة أشهر، ثم أقام مولودا وتغذى باللبن، ومربوبا صبيا مغذى بالأغذية إلى أن بلغ ثلاثين سنة لا يظهر منه شيء من آلة الربوبية، ولا أمر يوجب هذا المحل، ولا كان بينه وبين نظرائه من الآدميين فرق، ولا سطع منه نور، ولا ظهرت له سكينة، ولا حفته الملائكة بالتهليل، ولا ألم به الشعث بعد ذلك فوق ما كان من الأنبياء قبله، فقد كلم الله موسى من العوسجة كيف شاء فأشرق ما حولها نورا، وكلمه من طور سيناء فاضطربت في الجبل النيران، والتبس وجهه النور الساطع حتى كان يتبرقع إذا جلس مع بني إسرائيل بعد ذلك، لأنهم كانوا لا يستطيعون النظر إليه، ثم سأل موسى ربه عز وجل لما قرب
منه فقال: رب أرني أنظر إليك. قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق) من صعقته استغفر ربه فتاب عليه، وتجلى مجد الله لجماعة من الأنبياء فرأوا حول مجده ربوات الملائكة.
وقال داود: (يا رب إنك حيث عبرت ببلاد سنين تزلزلت الأرض منك وانفطرت من هيبتك). وقال أيضا كالمخاطب للبحر والجبال والمتعجب منها: (ما لك أيها البحر هاربا، وأنت يا نهر الأردن لم وليت راجعا، وما لك أيتها الجبال تنفرين كالأبابيل، ومالكن أيتها الشوامخ والهضبات تنزو نزو الشياء). ثم قال كالمجيب عنهم: (من قدام الرب تزلزلت البقاع).
قال: فإن كان المسيح هو الأزلي الخالق أو كان متحدا به، فكيف لم ترجف بين يديه الجبال ولم تتصرف عن مشيئته الأنهار والبحار؟ أو كيف لم تظهر منه آيات باهرات أجل من آيات الأنبياء قبله مثل المشي على متون الهواء، والاضطجاع على أكتاف الرياح، والاستغناء عن
المآكل والمشارب وإحراق من قرب منه من الشياطين والجن، كما أحرق إيليا من قرب منه من جند أحاب الملك، ويمنع الآدميين من نفسه، وما فعلوا على زعمكم بجسمه ليعلم الناس أنه خالقهم أو أنه هيكل الخالق؟
قال: ووجدناكم تقولون: إن الابن إنما يسمى ابن الله وكلامه، لأنه تولد من الأب وظهر منه، فلم نقف على معنى ذلك، لأن شريعة إيمانكم تقول: إن الروح أيضا تخرج من الأب، فإن كان الأمر كما تقولون فالروح أيضا ابن، لأنها تخرج عن الله تعالى، وإلا فما الفرق بينهما؟
قال: ولم نفهم أيضا قولكم: إن الابن تجسد من روح القدس، وأن روح القدس ساقه إلى البر ليمتحنه الشيطان، فما كانت حاجة الابن إلى أن تكون الروح وهي في قولكم مثله تدبره وتغيره من حال إلى حال، أوما علمتم أن الغير السابق المدبر فاعل، والمسبوق
المدبر مفعول به، فالابن إذن دون الروح وليس مثله، لأن الأزلي لا ينفك من الأزلي وهو مثله.
قال: وإن كان المسيح من روح القدس، كما قال جبريل الملك لأمه مريم، فلم سميتموه كلمة الله وابنه، ولم تسموه روحه، فإنما قال لها الملك: إن الذي تلدين من روح القدس. والروح غير الابن، ولو كان المعنى واحدا لما قالت الشريعة إنه تجسد من روح القدس، وإن روح القدس ساقه إلى البر، وإن روح القدس نزل عليه، ولم تثلثون به في إيمانكم فتقولون: نؤمن بالأب والابن والروح القدس؟
قال: ووجدناكم تقولون أيتها النسطورية: إن لله علما وحكمة هما الابن، وحياة هي الروح قديمين، ولعلمه وحياته ذات كذات الله، وذلك أن علم الله له علم وحياة، ولحياته التي هي روحه علم وحياة، وأن الله الأب لما رأى استيلاء العدو على خلقه ونكول الأنبياء عن مناوأته، أرسل إليه ابنه الفرد وحبيبه وجعله فداء ووفاء للناس أجمعين، وأن ابنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا، ثم ولد ونشأ وعاش ثلاثين سنة يتقلب بين بني إسرائيل كواحد منهم، يصلي
في كنائسهم، ويستن بسننهم، لا يدعي دينا غير دينهم، ولا ينتحل رسالة ولا نبوة ولا بنوة حتى إذا انقضت تلك السنون. أظهر الدعوة وجاء بالآيات الباهرة والبراهين المشهورة، فأنكرته اليهود وقتلته وصلبته، ثم صعد إلى السماء.
وصدقتم بشريعة الإيمان وكفرتم من خالفها، ثم لم تلبثوا أن خلعتموها وانسلختم منها وقلتم: إن المسيح جوهران وأقنومان، جوهر قديم وجوهر حديث، ولكل جوهر أقنوم على حياله، وإن الله جوهر قديم يقوم بمعنيين، فهو واحد يقوم بثلاثة معان، وثلاثة لها معنى واحد، كالشمس التي هي شيء واحد ولها ثلاثة معان: القرص والحر والنور. فالمسيح هو الله، وهو مبعوث غير أنه ليس يعبد.
فكان معنى قولكم هذا: أن المسيح مولود لكنه ليس مفعولا به، وهو مبعوث مرسل لكنكم تستحيون أن تسموه رسولا، إذ كنتم لا تفرقون بين الله وبينه في شيء من الأشياء، وأقبلتم على الملكانية واليعقوبية بالتكفير واللعن لقولهم إن الله والمسيح شيء واحد، ثم لم تلبثوا أن قدمتم المسيح على الله تبارك وتعالى وبدأتم به في التمجيد، ورفعتم إليه تهاليلكم ورغائبكم في أوقات القرابين خاصة، وهي أجل صلواتكم وأفضل محافلكم عندكم، فإنه يقوم الإمام منكم على المذبح من مذابحكم
وأهله مرعوبون فتتوقعون نزول روح القدس، بزعمكم من السماء بدعائه.
فيفتح دعاءه ويقول: (ليتم علينا وعليكم نعمة يسوع المسيح ومحبة الله الأب، ومشاركة روح القدس إلى دهر الداهرين). ثم يختم صلاته بمثل ذلك، فهذا تصريح بالشرك، وتصغير لعظمة الله وعزته أن جعلتم النعم والمواهب لمن هو دونه، وهو معطى ومخول من عند الله على قولكم، وجعلتم لله بعد المسيح محبة ولروحه مشاركة.
قال: ووجدناكم قد عبتم على اليعقوبية قولهم: إن مريم ولدت الله، عز الله وجل عن ذلك، وفي شريعة الإيمان التي بيناها المجتمع عليها أن المسيح إله حق، وأنه ولد من مريم، فما معنى المنافرة، وما الفرق، وما تنكرون من قولهم: إن المقتول المصلوب هو الله عز الله وجل عن ذلك؟
وشريعة إيمانكم تقول: نؤمن بالرب المسيح الذي من خبره وحاله الذي ولد من مريم وتألم وصلب على عهد الملك " بيلاطيس "
النبطي، ودفن وقام في اليوم الثالث، أليس هذا إقرارا بمثل قولهم؟ فتدبروا هذا القول يا أولي الألباب.
فإنكم إن قلتم: إن المقتول المصلوب هو الله، فإن مريم عندكم ولدت الله.
وإن قلتم: إنه إنسان فإن مريم ولدت إنسانا، وبطلت الشريعة، فأي القولين اخترتموه ففيه نقض دينكم، ثم عبتم على الملكانية قولهم: إنه ليس للمسيح إلا أقنوما واحدا، لأنه صار مع الأزلي الخالق شيئا واحدا لا فرق بينهما، وقلتم بأن له أقنومين، لكل جوهر أقنوم على حياله، ثم لم تلبثوا أن رجعتم إلى مثل قولهم فقلتم: إن المسيح وإن كان مخلوقا من مريم مبعوثا، فإنه هيكل لابن الله الأزلي، ونحن لا نفرق بينهما، فإذا كان الأمر عندكم على هذا فما تنقمون على الملكية، وما معنى الافتراق؟ وقد رجعتم في الاتحاد إلى مثل قولهم؟ إن هذا الأمر تحار فيه الأفهام.
فإن كانت الشريعة بمعنى الأمانة عندكم حقا، فالقول ما قال يعقوب، وذلك أنا إذا ابتدأنا من الشريعة في ذكر المسيح، ثم نسقنا المعاني نسقا واحدا وانحدرنا فيها إلى آخرها، وجدنا القوم الذين ألقوها لكم قد صححوا أن يسوع المسيح هو ابن الله وهو بكر الخلائق كلها، وهو الذي ولد من مريم ليس بمصنوع، وهو إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وهو الذي أتقن العوالم وخلق كل شيء على يده، وهو الذي نزل لخلاصكم، فتجسد وحملته مريم وولدته، وقتل وصلب، فمن أنكر قول اليعقوبية لزمه أن ينكر هذه الشريعة التي تشهد بصحة قولهم ويلعن من ألفها.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 287)
من صــ 1 الى صـ 15
قال: وإنما أخذت تلك الطائفة يعني الذين وضعوا الأمانة بكلمات وذكروا أنهم وجدوها في الإنجيل مشكلات تأولت فيها ما وقع بهواها، وتركت ما في الإنجيل من الكلام البين الواضح الذي يشهد بعبودية المسيح وشهادته بذلك على نفسه وشهادة تلاميذه به عليه، فأخذت بالمشكل اليسير، وجعلت له ما أحبت من التأويل، وألغت الواضح الكثير الذي لا يحتاج إلى تأويل.
قال: فأما احتجاجكم بالشمس، وأنها شيء واحد له ثلاثة معان، وتشبيهكم ما يقولونه في الثلاثة الأقانيم بها، فإن ذلك تمويه لا يصح، لأن نور الشمس لا يحد بحد الشمس، وكذلك حرها لا يحد بحد الشمس، إذ كان حد الشمس جسما مستديرا مضيئا مسخنا دائرا في وسط الأفلاك دورانا دائما، ويتهيأ أن يحد نورها وحرها بمثل هذه الصفة، ولا يقال: إن نورها أو حرها جسم مستدير مضيء مسخن دائم الدوران، ولو كان نورها وحرها شمسا حقا من شمس حق من جوهر الشمس، كما قالت الشريعة في المسيح: إنه إله حق من إله حق من
جوهر أبيه، لكان ما قلتم له مثلا تاما، والأمر مخالف لذلك فلا يشبهه ولا يقع القياس عليه، والحجة منكم فيه باطلة.
قال: ووجدناكم تذكرون أن المسيح نزل من السماء فأبطل بنزوله الموت والآثام، فإن العجب ليطول من هذا القول، وأعجب منه من قبله ولم يتفكر فيه، وممن لم يستقبح أن يعتقد ديانة لله تبارك وتعالى على مثل هذا القول المحال البائن عما تشهد به العقول وتنبئ به المشاهدة، ويدعو الناس إليها، فما هو ببعيد من عقد ما هو أمحل وأبطل منها، لأنه إن كانت الخطيئة بطلت بمجيئه، فالذين قتلوه إذا ليسوا خاطئين ولا مأثومين، لأن لا خاطئ بعد مجيئه ولا خطيئة.
وكذلك أيضا الذين قتلوا حواريه وأحرقوا أسفاره غير خاطئين، وكذلك من نراه من جماعتكم منذ ذلك الدهر إلى هذا الوقت يقتل ويسرق ويزني ويلوط، ويسكر ويكذب، ويركب كل ما نهي عنه من الكبائر وغيرها غير خاطئين، ولا مأثومين.
فمن جحد ذلك فليرجع إلى التسبيحة التي تقرأ بعقب كل قربان، وهو أن (يا ربنا الذي غلب بوجعه الموت الطاغي).
وفي الأخرى التي تقال في يوم الجمعة الثانية من الفصح: (إن فخرنا بالصليب الذي بطل به سلطان الموت وصرنا إلى الأمن والنجاة بسببه). وفي بعض التسابيح (بصلوات ربنا يسوع المسيح بطل الموت، وانطفأت فتن الشيطان، ودرست آثارها). فأي خطيئة بطلت؟ وأي فتنة للشيطان انطفأت؟ أو أي أمر كان الناس عليه قبل مجيئه من المحارم والآثام تغير عن حاله؟
قال: فإذا كان التمويه يقع فيما يلحقه كل أحد بالمعرفة والبيان، فهو فيما أشكل من الأمور وفعل بالتأويلات التي تأولها أولئك المتأولون أوقع.
وإذا كنتم قد قبلتم هذا المحال الظاهر الذي لا خفاء به عن الصبيان، فأنتم لما هو أعظم منه من المحال أقبل، وهذا إنجيلكم يكذب هذا القول، حيث يقول المسيح فيه: (ما أكثر من يقول لي يوم القيامة: يا سيدنا أليس باسمك أخرجنا الشيطان، فأقول: اغربوا عني أيها الفجرة الغاوون، فما عرفتكم قط) فهذا خلاف قول علمائكم ما قالوا، ووضعهم لكم ما وضعوا، ومثله قوله: (إني جامع الناس يوم القيامة عن ميمنتي وميسرتي وقائل لأهل الميسرة: إني جعت فلم تطعموني، وعطشت فلم تسقوني، وكنت غريبا فلم تأووني، ومحبوسا فلم تزوروني، ومريضا فلم تعودوني، فاذهبوا إلى النار المعدة لكم من قبل تأسيس الدنيا.
وأقول لأهل الميمنة: فعلتم بي هذه الأشياء فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم من قبل تأسيس الدنيا). فهل أدخل أولئك النار إلا خطاياهم التي ركبوها؟ وهل صار هؤلاء إلى النعيم إلا بأعمالهم الجميلة التي قدموها بتوفيق الله إياهم؟ فمن قال: إن الخطيئة قد بطلت، فقد بهت، وقد خالف قول المسيح، وكان هو من الكاذبين.
وقال: ويا أيها القوم الذين هم أولوا الألباب والمعرفة، حيث ينسبونه إلى الربوبية، وينحلونه اللاهوتية، ويجعلونه خالق الخلق أجمعين وإلههم، بماذا ساغ ذلك لكم، وما الحجة فيه عندكم؟
هل قالت كتب النبوات فيه ذلك؟ أو هل قاله عن نفسه؟ أو قاله أحد عن تلامذته والناقلين عنه الذين هم عماد دينكم وأساسه ومن أخذتم الشرائع والسنن عنه؟ ومن كتب الإنجيل وبينه، قد أفصح في كل الإنجيل من كلامه ومخاطبته ووصاياه بما لا يحصى كثرة بأنه عبد
مثلكم ومربوب معكم، ومرسل من عند ربه وربكم، ومبدي ما أمر به فيكم، وحكى مثل ذلك من أمره حواريوه وتلامذته ووصفوه لمن سأل عنه.
وفي كلامهم بأنه رجل جاء من عند الله عز وجل ونبي له قوة وفضل، فتأولتم في ذلك أنه أخرج كلامه على معنى الناسوت، ولو كان كما تقولون، لأفصح عن نفسه بأنه إله، كما أفصح بأنه عبد ولكنه ما ذكره ولا ادعاه، ولا دعا إليه ولا ادعته له كتب الأنبياء قبله ولا كتب تلامذته ولا حكي عنهم، ولا أوجبه كلام جبريل الذي أداه إلى مريم، ولا قول يحيى بن زكريا.
قال: فإن قلتم: إنكم استدللتم على ربوبيته بأنه أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، ومشى على الماء وصعد إلى السماء، وصير الماء خمرا، وكثر القليل، فيجب الآن أن ينظر إلى كل من فعل من هذه الأمور فعلا فنجعله ربا وإلها، وإلا فما الفرق؟
فمن ذلك أن كتاب " سفر الملوك " يخبر أن إلياس أحيا ابن الأرملة، وأن اليسع
أحيا ابن الإسرائيلية، وأن " حزقيال " أحيا بشرا كثيرا، ولم يكن أحد ممن ذكرنا بإحيائه الموتى إلها.
وأما إبراء الأكمه فهذه التوراة تخبر أن يوسف أبرأ عين أبيه يعقوب بعد أن ذهبت، وهذا موسى طرح العصا فصارت حية لها عينان تبصر بهما، وضرب بها الرمل فصار قملا لكل واحدة منها عينان تبصر بهما، ولم يكن واحد منهم بذلك إلها.
وأما إبراء الأبرص، فإن كتاب " سفر الملوك " يخبر بأن رجلا من عظماء الروم برص فرحل من بلده قاصدا اليسع عليه السلام ليبرأه من برصه، فأخبر الكتاب بأن الرجل وقف بباب اليسع أياما لا يؤذن له، فقيل لليسع: إن ببابك رجلا يقال له " نعمان " وهو أجل عظماء الروم، به برص وقد قصدك لتبرأه من مرضه، فإن أذنت له دخل إليك، فلم يأذن له، وقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى هذا الرجل فقل له: ينغمس في الأردن سبع مرات، فأبلغ الرسول لنعمان ما أمره به اليسع، ففعل ذلك، فذهب عنه البرص ورجع قافلا إلى بلده، فأتبعه خادم اليسع فأوهمه أن اليسع وجه به إليه يطلب منه مالا، فسر الرجل بذلك ودفع إلى الخادم مالا وجوهرا، ورجع فأخفى ذلك وستره.
ثم دخل إلى اليسع، فلما مثل بين يديه قال له: تبعت نعمان وأوهمته عني كذا وكذا، وأخذت منه كذا وأخفيته في موضع كذا، إذ فعلت الذي فعلت به، فليصر برصه عليك وعلى نسلك، فبرص ذلك الخادم على المكان.
قال: فهذا اليسع قد أبرأ أبرصا، وأبرص صحيحا، وهو أعظم
مما فعل المسيح عليه السلام فلم يكن في فعله ذلك إلها.
قال: وأما قولكم أنه مشى على الماء، فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن إلياس عليه السلام سار إلى الأردن ومعه اليسع تلميذه، فأخذ عمامته فضرب بها الأردن فاستيبس له الماء حتى مشى عليه هو واليسع، ثم صعد إلى السماء على فرس من نور واليسع يراه، ودفع عمامته إلى اليسع، فلما رجع اليسع إلى الأردن ضرب بها الماء فاستيبس له حتى مشى عليه راجعا ولم يكن واحد منهما بمشيه على الماء إلها، ولا كان إلياس بصعوده إلى السماء إلها.
قال: وأما قولكم أنه صير الماء خمرا، فهذا كتاب سفر الملوك يخبر بأن اليسع نزل بامرأة إسرائيلية فأضافته وأحسنت إليه، فلما أراد الانصراف قال لها: هل لك من حاجة؟ فقالت المرأة: يا نبي الله إن على زوجي دينا قد فدحه، فإن رأيت أن تدعو الله لنا بقضاء ديننا فافعل.
فقال لها اليسع: اجمعي كل ما عندك من الآنية، واستعيري من جيرانك جميع ما قدرت عليه من آنيتهم. ففعلت، ثم أمرها فملأت الآنية كلها ماء فقال: اتركيه ليلتك هذه. ومضى من عندها فأصبحت المرأة وقد صار ذلك الماء كله زيتا، فباعوه فقضوا دينهم
وتحويل الماء زيتا أبدع من تحويله خمرا، ولم يكن اليسع بذلك إلها.
وأما قولكم: المسيح عليه السلام كثر القليل حتى أكل خلق كثير من أرغفة يسيرة، فإن كتاب " سفر الملوك " يخبر بأن إلياس نزل بامرأة أرملة، وكان القحط قد عم الناس وأجدبت البلاد، ومات الخلق ضرا وهزلا، وكان الناس في ضيق، فقال للأرملة: هل عندك طعام؟ فقالت: والله ما عندي إلا كف من دقيق في قلة، أردت أن أخبزه لطفل لي، وقد أيقنا بالهلاك لما الناس فيه من القحط.
فقال لها: أحضريه فلا عليك. فأتته به، فبارك عليه، فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر تأكل هي وأهلها وجيرانها منه حتى فرج الله عن الناس، فقد فعل إلياس في ذلك أكثر مما فعل المسيح، لأن إلياس كثر القليل وأدامه، والمسيح كثر القليل في وقت واحد، ولم يكن إلياس بفعله هذا إلها.
قال: فإن قلتم: إن هؤلاء الأنبياء ليس لهم صنع في هذه الأفعال، وإن الصنع فيها والقدرة لله عز وجل إذ كان هو الذي أجراها على أيديهم فقد صدقتم، ونقول لكم أيضا: كذلك المسيح ليس له صنع فيما ظهر على يديه من هذه الأعاجيب، إذ كان الله هو الذي أظهرها على يديه، فما الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء؟ وما الحجة في ذلك؟
قال: وإن قلتم: إن الأنبياء كانت إذا أرادت أن يظهر الله على أيديهم آية تضرعت إلى الله ودعته وأقرت له بالربوبية وشهدت على أنفسها بالعبودية.
قيل لكم: وكذلك سبيل المسيح، سبيل سائر الأنبياء، قد كان يدعو ويتضرع ويعترف بربوبية الله، ويقر له بالعبودية، فمن ذلك: أن الإنجيل يخبر بأن المسيح أراد أن يحيي رجلا يقال له العازر، فقال: (يا أبي أدعوك كما كنت أدعوك من قبل فتجيبني وتستجيب لي، وأنا أدعوك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا). وقال بزعمكم وهو على الخشبة: (إلهي إلهي لم تركتني؟)، وقال: (يا أبي اغفر لليهود ما يعملون، فإنهم لا يدرون ما يصنعون).
وقال في إنجيل متى: (يا أبي أحمدك). وقال: (يا أبي إن كان بد أن يتعداني هذا الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، فلتكن مشيئتك). وقال أيضا: (أنا أذهب إلى إلهي الذي هو أعظم
مني) وقال: (لا أستطيع أن أصنع شيئا ولا أتفكر فيه إلا باسم إلهي). وقال يعني نفسه: (لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده، ولا للرسول أن يكون أعظم ممن أرسله).
وقال: (إن الله لم يلد ولم يولد، ولم يأكل ولم يشرب، ولم ينم ولم يره أحد من خلقه، ويراه أحد إلا مات).
والمسيح قد أكل وشرب وولد، ورآه الناس فما ماتوا من رؤيته ولا مات أحد منهم، وقد لبث فيهم ثلاثا وثلاثين سنة.
قلت: وعامة ما ذكره هذا عن الكتب تعترف به النصارى، ولكن بعضهم ينازعه في يسير من الألفاظ، فنازعه هنا في قوله:
(لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده). وقال: هذا إنما قاله المسيح للحواريين، وذكر أنه لا يعرف عنه لفظ (لم يولد، ولم يأكل ولم يشرب).
قال: وقال في إنجيل يوحنا: ": (إنكم متى رفعتم ابن البشر فحينئذ تعلمون أني أنا هو وشيء من قبل نفسي لا أفعل، ولكن كل شيء كالذي علمني أبي). وقال في موضع آخر: (من عند الله أرسلت معلما). وقال لأصحابه: (اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يجل في مدينته) وأخبر الإنجيل أن امرأة رأت المسيح فقالت: إنك لذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟ فقال لها المسيح: (صدقت، طوبى لك). وقال لتلامذته: (كما بعثني أبي كذلك أبعث بكم).
قال: فاعترف بأنه نبي وأنه مألوه ومربوب ومبعوث، وقال
لتلامذته: (إن من قبلكم وآواكم فقد قبلني، ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني، ومن قبل نبيا باسم نبي فإنما يفوز بأجر من قبل النبي).
فبين هاهنا في غير موضع أنه نبي مرسل، وأن سبيله مع الله سبيلهم معه، وقال متى التلميذ في إنجيله، يستشهد على المسيح بنبوة أشعيا عن الله عز وجل: (هذا عبدي الذي اصطفيته، وحبيبي الذي ارتاحت إليه نفسي، أنا واضع روحي عليه، ويدعو الأمم إلى الحق). فلن يحتاج إلى حجة أوضح من هذا القول الذي جعلتموه حجة لكم، فقد أوضح الله أمره وسماه عبدا، وأعلم أنه يضع عليه روحه ويؤيده بها كما أيد سائر الأنبياء بالروح فأظهروا الآيات المذكورة عنهم، وهذا القول يوافق ما بشر به جبريل الملك مريم حين ظهر لها، وقال القول الذي سقناه في صدر كتابنا.
وقال يوحنا التلميذ في الإنجيل عن المسيح عليه السلام: (إن كلامي الذي تسمعون هو كلام من أرسلني). وقال في موضع
آخر: (إن أبي أجل وأعظم مني). وقال أيضا: (كما أمرني أبي كذلك أفعل أنا، أنا الكرم وأبي هو الفلاح). وقال يوحنا: (كما للأب حياة في جوهره، فكذلك أعطى الابن أن تكون له حياة في قينومه). قال: فالمعطي خلاف المعطى لا محالة، والفاعل خلاف المفعول.
قال: وقال المسيح في إنجيل يوحنا: (إني لو كنت أنا الشاهد لنفسي على صحة دعواي، لكانت شهادتي باطلة، لكن غيري يشهد لي، فأنا أشهد لنفسي ويشهد لي أبي الذي أرسلني). وقال المسيح لبني
إسرائيل: (تريدون قتلي، وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله.!
قال: وقال في الرجل الذي أقامه من الموتى: (يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي وأعترف لك بذلك، وأعلم أنك كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني). قال: فأي تضرع وإقرار بالرسالة والمسألة والطلب للإجابة من الله عز وجل أشد من هذا أو أكثر؟
قال: وقال في بعض مخاطبته لليهود وقد نسبوه إلى الجنون: (أنا لست بمجنون، ولكن أكرم أبي ولا أحب مدح نفسي، بل أمدح أبي، لأني أعرفه، ولو قلت: إني لا أعرفه، لكنت كذابا مثلكم، بل أعرفه وأتمسك بأمره).
قال: وقال داود في مزموره المائة وعشرة: (قال الرب اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لرجليك، عصا العظمة تبعث الرب من صهيون، ويبسط على أعدائك شعبك يا مسيح يوم الرعب في بهاء القدس من اليوم الذي ولدتك يا صبي، عهد الرب ولا يكذب أنك أنت الكاهن المؤيد يشبه ملكليز داق.)
قال: فهذه مخاطبة ينسبونها إلى اللاهوت، وقد أبان داود في مخاطبته، أن لربه الذي ذكره ربا هو أعظم منه وأعلى أعطاه ما حكيناه، ومنحه ذلك وشهد عليه، إن عصا العظمة تبعث ربه هذا من صهيون وسماه صبيا محققا لقوله الأول: اليوم ولدتك ونسقا على أول كلامه وهو ربه، ووصف أنه الكاهن المؤيد الذي يشبه ملكليز داق.
قلت: قالوا: وهذا الكاهن هو الذي ذكر في التوراة أن الخليل أعطاه القربان، وإذا كان المسيح مشبها به مع تسميته كاهنا، كان ذلك من أعظم الأدلة على أنه مخلوق، قال: فأما قوله: (من البدء ولدتك)، فهو يشبه قول داود: (تبنني على نفسه من البدء. ذكرتك وهديت كل أعمالك). وبعضهم يقول: لفظ النص: (إن الرب يبعث عصاه من صهيون).
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 288)
من صــ 16 الى صـ 30
قال: وقال شمعون الصفا رئيس الحواريين في الفصل الثاني من قصصهم: (يا رجال بني إسرائيل اسمعوا مقالتي، إن يسوع الناصري رجل ظهير لكم من عند الله بالقوة والأيدي والعجائب التي أجراها على يديه، وأنكم أسلمتموه وقتلتموه، فأقام الله يسوع هذا من
بين الأموات).
قال: فأي شهادة أبين وأوضح من هذا القول؟ وهو أوثق التلاميذ عندكم يخبر كما ترون أن المسيح رجل وأنه من عند الله، وأن الآيات التي ظهرت منه بأمر الله أجراها على يديه، وأن الذي بعثه من بين الموتى هو الله عز وجل.
قال: وقال في هذا الموضع: (اعلموا أن الله جعل يسوع الذي قتلتموه ربا ومسيحا). قال: فهذا القول يزيل تأويل من لعله يتأول في الفصل الأول أنه أراد بقوله الناسوت، لأنه يقول: إن الله جعله ربا ومسيحا، والمجعول مخلوق مفعول، قال أبو نصر: وإنما سمي ناصري ; لأن أمه كانت من قرية يقال لها: " ناصرة "
في الأردن وبها سميت النصرانية.
قال: وقد سمى الله جل ثناؤه يوسف ربا، قال داود في مزمور مائة وخمسة: (وللعبودية بيع يوسف وشدوا بالكبول رجليه وبالحديد دخلت نفسه حتى صدقت كلمته قول الرب جربه، بعث الملك فخلاه وصيره مسلطا على شعبه، وربا على بنيه، ومسلطا على فتيانه).
وقال لوقا في آخر إنجيله: (إن المسيح عرض له وللوقا تلميذه جبريل في الطريق وهما محزونان، فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونين؟ فقالا: كأنك أنت وحدك غريب ببيت المقدس، إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر يسوع الناصري، فإنه كان رجلا نبيا قويا في قوله وفعله عند الله وعند الأمة، أخذوه وقتلوه) على قولهم فيه.
قال: فهذا قوله وأقوال تلاميذه قد تركتموها وعقدتم على بدع ابتدعها لكم أولوكم تؤدي إلى الضلالة والشرك بالله جل ثناؤه. وقال داود في المزمور الثاني في زبوره مخاطبا لله ومثنيا على المسيح: (من الرجل الذي ذكرته والإنسان الذي أمرته وجعلته دون الملائكة قليلا، وألبسته المجد والكرامات؟)، وقال في المزمور الثاني: (قال لي الرب: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، سلني فأعطيك)، فقوله: " ولدتك " دليل على أنه حديث غير قديم، وكل حادث فهو مخلوق، ثم أكد ذلك بقوله: " اليوم " فحد باليوم حدا لولادته أزال به الشك في أنه ما كان قبل اليوم، ودل بقوله: " سلني فأعطيك " على أنه محتاج إلى المسألة غير مستغن عن العطية، قال: فهذا ما حضرنا من الآيات في تصحيح خلق المسيح وعبوديته، وبطلان ما يدعونه من ربوبيته، ومثله كثير في الإنجيل لا يحصى، فإذا كانت الشهادات منه على نفسه، ومن الأنبياء عليه، ومن تلاميذه بمثل ما قد بيناه في هذا الكتاب، وإنما اقتصرنا على الاحتجاج عليكم من كتبكم، فما الحجة فيما تدعونه له ومن أي جهة أخذتم ذلك واخترتم الكلام الشنيع الذي يخرج عن المعقول، وتنكره النفوس، وتنفر منه القلوب، الذي لا يصح بحجة ولا قياس ولا تأويل على القول الجميل الذي تشهد به العقول وتسكن إليه النفوس ويشاكل عظمة الله وجلاله.
قال: وإذا تأملتم كل ما بيناه تأمل إنصاف من أنفسكم وإشفاق عليها، علمتم أنه قول لا يحتمل أن يتأول فيه للناسوت شيئا دون اللاهوت.
قال: فإن قلتم: إنه يثبت للمسيح البنوة بقوله: (أبي وأبيكم، ويا أبي، وبعثني أبي). قلنا: فإن كان الإنجيل أنزل على هذه الألفاظ لم تبدل ولم تغير، فإن اللغة قد أجازت أن يسمى الولي ابنا، وقد سماكم الله جميعا بنيه، وأنتم لستم في مثل حاله.
ومن ذلك أن الله عز وجل قال لإسرائيل في التوراة: (أنت ابني بكري). وقال لداود في الزبور: (أنت ابني وحبيبي). وقال المسيح في الإنجيل للحواريين: (أريد أن أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم). فسمى الحواريين أبناء الله، وأقر بأن له إلها هو الله
ومن كان له إله فليس بإله كما تقولون، فإن زعمتم أن المسيح إنما استحق الإلهية بأن الله سماه ابنا، فنلتزم ذلك ونشهد بالإلهية لكل من سماه ابنا، وإلا فما الفرق؟
قال: فإن قلتم: إن إسرائيل وداود ونظراءهم إنما سموا أبناء الله على جهة الرحمة من الله لهم، والمسيح ابن الله على الحقيقة، تعالى الله عن ذلك.
قلنا: يجوز لمعارض أن يعارضكم، فيقول لكم: ما تنكرون أن يكون إسرائيل وداود ابني الله على الحقيقة، والمسيح ابن رحمة، وما الفرق؟
فإن قلتم: إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل، أن المسيح جاء إلى مقعد فقال: (قم قم، فقد غفرت لك، فقام الرجل، ولم يدع الله في ذلك الوقت).
قلنا لكم: هذا إلياس أمر السماء أن تمطر فأمطرت، ولم يدع الله في ذلك الوقت، وكذلك اليسع أمر نعمان الرومي أن ينغمس في
الأردن من غير دعاء ولا تضرع، على أنا قد وجدناه في الإنجيل قد تضرع، وسأل مسائل قد تقدم ذكرها.
وقال في بعض الإنجيل: (يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي، وأعلم أنك في كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني).
فإن قلتم: إن الغفران من الله عز وجل وأن المسيح قال لبعض بني إسرائيل: (قم فقد غفرت لك) والله هو الذي يغفر الذنوب.
قلنا: فقد قال الله في السفر الخامس من التوراة لموسى: (اخرج أنت وشعبك الذي أخرجت من مصر، وأنا أجعل معكم ملكا يغفر ذنوبكم).
فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه غفر ذنوب المقعد، فالملك إذا إله، لأنه يغفر ذنوب بني إسرائيل وإلا فما الفرق؟
فإن قلتم: إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل، أن الله سماه ربا فقال: (ابن البشر رب السبت).
قلنا: فهذه التوراة تخبر بأن لوطا عليه السلام لما رأى الملكين قد أقبلا من البرية لهلاك قومه قال لهما: (يا ربي ميلا إلى منزل عبدكما). وقد تقدم لنا احتجاج في هذا الكتاب بذكر من سمي في الكتب ربا من يوسف وغيره، فإن كان المسيح إلها لأنه سمي ربا، فهؤلاء إذا آلهة، لأنهم سموا بمثل ذلك.
فإن قلتم: إن الأنبياء قد تنبأت بإلهية المسيح، فقال أشعيا: (العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعى اسمه " عمانويل ")، وتفسيره: " معنا إلهنا ".
قلنا: إن هذا اسم يعاره السيد الشريف من الناس، وإن كان
الله عز وجل المنفرد بمعنى الإلهية جل ثناؤه فقد قال الله في التوراة لموسى عليه السلام: (قد جعلتك لهارون إلها، وجعلته لك نبيا).
وقال في موضع آخر: (قد جعلتك يا موسى إلها لفرعون). وقال داود في الزبور لمن كانت عنده حكمة: (كلكم آلهة ومن العلية تدعون).
فإن قلتم: إن الله عز وجل جعل موسى إلها لهارون على معنى الرياسة عليه.
قلنا: وكذلك قال أشعيا في المسيح إنه إله لأمته على هذا المعنى، وإلا فما الفرق؟
فإن قلتم: إن المسيح قد قال في الإنجيل: (من رآني فقد رأى أبي، وأنا وأبي واحد).
قلنا: إن قوله: (أنا وأبي واحد) إنما يريد به أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله، كما يقول رسول الرجل: أنا ومن أرسلني واحد،
ويقول الوكيل: أنا ومن وكلني واحد، لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه، ويؤدي عنه ما أرسله به، ويتكلم بحجته ويطالب له بحقوقه، وكذلك قوله: (من رآني فقد رأى أبي)، يريد بذلك أن من رأى هذه الأفعال التي أظهرها فقد رأى أفعال أبي.
فإن قلتم: إن المسيح قد قال في الإنجيل: (أنا قبل إبراهيم)، فكيف يكون قبل إبراهيم، وإنما هو من ولده؟ ولكن لما قال (قبل إبراهيم) علمنا ما أراد أنه قبل إبراهيم من جهة الإلهية.
قلنا: هذا سليمان بن داود يقول في حكمته: (أنا قبل الدنيا وكنت مع الله حيث بدأ الأرض)، فما الفرق بينه وبين من قال: إن سليمان ابن الله، وأنه إنما قال: أنا قبل الدنيا بالإلهية، وقد قال داود أيضا في الزبور: (ذكرتك يا رب من البدء، وهديت بكل أعمالك).
فإن قلتم: إن كلام سليمان بن داود متأول، لأنهما من ولد إسرائيل، وليس يجوز أن يكونا قبل الدنيا.
قلنا: وكذلك قول المسيح أنا قبل الدنيا متأول، لأنه من ولد إبراهيم، ولا يجوز أن يكون قبل إبراهيم، فإن تأولتم تأولنا، وإن تعلقتم بظاهر الخبر في المسيح تعلقنا بظاهر الخبر في سليمان وداود، وإلا فما الفرق؟
وقد قدمنا هذا الاحتجاج على تأويلكم لتعلموا بطلان ما ذهبتم إليه على أنه تأويل غير واقع بحقه، وإنما حقه أن يكون هذا الاسم يعني " عمانويل " لما وقع على المسيح كان معناه أنه أخبر عن نفسه بأن " إلهنا معنا " يعني أن الله معه ومع شعبه معينا وناصرا.
ومما يصحح ذلك أنكم تتسمون به، ولو كان المعنى ما ذهبتم إليه لما جاز لأحد أن يتسمى به، كما لم يجز أن يتسمى بالمسيح ; لأنه مخصوص بمعناه.
فإن قلتم: إن تلاميذ المسيح كانوا يعلمون الآيات باسم المسيح.
قلنا لكم: فقد قال الله جل ثناؤه ليحيى بن زكريا: (قد أيدتك بروح القدس وبقوة إلياس، وهي قوة تفعل الآيات)، فأضاف القوة إلى إلياس.
فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه فعلت الآيات باسمه، فما الفرق بينكم وبين من قال: إن إلياس إله فإنه فعلت بقوته الآيات؟ فإن قلتم: إن الخشبة التي صلب عليها المسيح على زعمكم ألصقت بميت فعاش، فإن هذا دليل على أنه إله. قلنا لكم: فما الفرق بينكم وبين من قال: إن اليسع إله؟ واحتج في ذلك (بأن كتاب سفر الملوك يخبر بأن رجلا مات فحمله أهله إلى المقبرة، فلما كانوا بين القبور رأوا عدوا لهم يريد أنفسهم فطرحوا الميت عن رقابهم وبادروا إلى المدينة، وكان الموضع الذي ألقوا عليه الميت قبر اليسع، فلما أصاب ذلك الميت تراب قبر اليسع عاش وأقبل يمشي إلى المدينة، فإن زعمتم أن المسيح إله لأن الخشبة التي ذكروا أنه صلب عليها ألصقت بميت فعاش، فاليسع إله، لأن تراب قبره لصق بميت فعاش.
فإن قلتم: أن المسيح كان من غير فحل. قلنا لكم: قد كان ذلك، وليس أعجوبة الولادة توجب الإلهية ولا الربوبية، لأن القدرة في
ذلك للخالق تبارك وتعالى لا للمخلوق، وعلى أنه يوجدكم لأن حواء خلقت من فحل بلا أنثى، وخلق أنثى من ذكر بلا أنثى، أعجب من ذكر من أنثى بغير ذكر، وأعجب من ذلك أن آدم خلقه الله من تراب، وخلق بشر من تراب أعجب وأبدع من خلق ذكر من أنثى بلا فحل، فما الفرق؟
قال: وهذه الأسباب التي ذكرناها كلها هي الأسباب التي تتعلقون بها في نحلتكم المسيح الربوبية، وإضافتكم إليه الإلهية، وقد وصفناها على حقائقها عندكم، وقبلنا فيها قولكم، وإن كنا لا نشك في أن أهل الكتاب قد حرفوا بعض ما فيها من الكلام عن مواضعه، وأوجدناكم بطول ما تنتحلونه وفساد ما تتأولونه من الكتب التي في أيديكم التوراة والزبور والأنبياء والإنجيل، فما الذي يثبت الحجة بعد ذلك لكم؟
قال: وقد قال السيد المسيح في الإنجيل لتلاميذه لما سألوه عن الساعة والقيامة: (إن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفه أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن أيضا، ولكن الأب وحده يعرفه). قال: فهذا إقرار منه بأنه منقوص العلم، وأن الله تبارك وتعالى أعز وأعلم منه، وأنه خلافه وأعلا منه، وقد بين بقوله (أحد) عمومه بذلك الخلق جميعا، ثم قال: (ولا الملائكة) وعندهم من علم الله ما ليس عند أهل الأرض، ثم قال: (ولا الابن) وله من القوة ما ليس لغيره، وشهد قوله هذا شهادة واضحة عليه بأنه لا يعلم كل ما يعلمه الله، بل ما علمه الله إياه وأطلعه على معرفته وجعله له، وأنه لقصور معرفته بكل الأشياء ليس بحيث يصفونه من الربوبية، وأنه هو الله ومن جوهر أبيه، تعالى الله الخالق لكل شيء علوا كبيرا، ولو كان إلها كما يقولون، لعلم ما يعلمه الله من سائر الأشياء وسرائر الأمور وعلانيتها، إذا كان هذا المعنى ليس من الكلام الذي إذا سئلتم عنه تعلقتم بأنه قيل للناسوت دون اللاهوت.
قلت: مقصوده بذلك أنه صرح بأنه لا يعلمه أحد، ثم خص الملائكة بالذكر لئلا يظن أن أحدا منهم يعلمه، فقال: (ولا الملائكة الذين في السماء)، ثم قال: (ولا الابن يعرفه، وأن الأب وحده يعرفه)، فنفى معرفة الابن، وأثبت أن الأب وحده يعرفه، ومراده بالابن المسيح، فعرف أن المسيح لا يعرفه، وأثبت أن الرب يعرفه دون الابن، ودل ذلك على أن لفظ الابن عند المسيح إنما يراد بها الناسوت وحده، إذ كان لا يجوز نفي العلم عن اللاهوت، فإن اللاهوت يعلم كل شيء، وقد دل ذلك على أن قوله: (عمدوا الناس باسم الأب والابن)، المراد به الناسوت وحده، كما أريد بلفظ الابن في سائر كلامه وكلام غيره لم يرد قط أحد منهم بلفظ الابن اللاهوت، بل إطلاق الابن على اللاهوت مما ابتدعته النصارى وحملوا عليها كلام المسيح، فابتدعوا لصفات الله أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وحملوا عليها كلام المسيح، وإنما يحمل كلام الأنبياء عليهم السلام وغيرهم على معنى لغتهم التي جرت عادتهم بالتكليم بها، لا على لغة يحدثها من بعدهم ويحمل كلامهم عليها.
قلت: فإن هذا الذي فعلته النصارى وأشباههم يفتح باب الإلحاد في كتب الله المنزلة وقد قال تعالى:" {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة} [فصلت: 40] ".
وذلك أن كل من اعتقد معاني برأيه يمكنه أن يعبر عنها بألفاظ تناسبها بنوع مناسبة، وتلك الألفاظ موجودة في كلام الأنبياء عليهم السلام لها معان أخر، ويجعل تلك الألفاظ دالة على معانيه التي رآها، ثم يجعل الألفاظ التي تكلمت بها الأنبياء وجاءت بها الكتب الإلهية أرادوا بها معانيه هو، وهكذا فعل سائر أهل الإلحاد في سائر الكتب الإلهية، كما فعلته النصارى مثل ما عمدت الملاحدة المتبعون لفلاسفة اليونان القائلون بأن هذه الأفلاك قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، وأن الله لم يتكلم بالتوراة ولا غيرها من الكتب الإلهية، ولا هو عالم بالجزئيات لا بموسى بن عمران ولا بغيره، ولا هو قادر أن يفعل بمشيئة، ولا يقيم الناس من قبورهم، فقالوا: خلق وأحدث وفعل وصنع ونحو ذلك يقال على الإحداث الذاتي، والإحداث الزماني.
فالأول: هو إيجاب العلة لمعلولها المقارن لها في الزمان.
والثاني: إيجاد الشيء بعد أن لم يكن، ثم قالوا: ونحن نقول: إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما، وأحدث ذلك وأبدعه وصنعه، كما أخبرت بذلك الأنبياء عليهم السلام، لكن مرادهم بذلك الإحداث الذاتي، وهو أن ذلك معلول له لم يزل معه.
فيقال لهم: لم يستعمل أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل ولا أحد من سائر الأمم لفظ الخلق والإحداث إلا فيما كان بعد عدمه، وهو ما كان مسبوقا بعدمه ووجود غيره، ومعنى هذا اللفظ معلوم بالاضطرار في جميع لغات الأمم، وأيضا فاللفظ المستعمل في لغة العامة والخاصة لا يجوز أن يكون معناه ما لا يعرفه إلا بعض الناس، وهذا المعنى الذي يدعونه لو كان حقا لم يتصوره إلا بعض الناس، فلا يجوز أن يكون اللفظ العام الذي تداوله العامة والخاصة موضوعا له إذا كان هذا يبطل مقصود اللغات، ويبطل تعريف الأنبياء للناس، فكيف وهو باطل في صريح المعقول؟ كما هو باطل في صحيح المنقول، فإنه لم يعرف أن أحدا قط عبر عن القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا ولا يزال بأنه محدث أو مخلوق أو مصنوع أو مفعول، فهذا الذي ذكرتموه كذب صريح على الأنبياء عليهم السلام لتوهموا الناس أنكم موافقون لهم، والكتب الإلهية كالتوراة والقرآن مصرحة بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والقديم الأزلي لا يكون مخلوقا في ستة أيام، وكذلك الكتب الإلهية كالتوراة والقرآن قد أخبرت بتكليم الله لموسى وبندائه إياه من الطور من الشجرة، وفي التوراة أنها شجرة العليق.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 289)
من صــ 31 الى صـ 45
وأخبرت بأن موسى عليه السلام كان يلقي عصاه فتصير حية
تسعى، ويخبر بأن الله فلق البحر، فقالت الملاحدة: إن الشيء الثابت يسمى طورا، فإنه ثابت كالجبل، والقلوب تسمى أودية، وإظهار العلوم بتفجير ينابيع العلم، والحجة المبتلعة كلام أهل الباطل هي عصا معنوية، فمراد الكتب بالطور العقل الفعال الذي فاض منه العلم على قلب موسى عليه السلام، والوادي قلب موسى، والكلام الذي سمعه موسى سمعه من سماء عقله، وتلك الأصوات كانت في نفسه لا في الخارج، والملائكة التي رآها كانت أشخاصا نورانية تمثلت في نفسه لا في الخارج، والبحر الذي فلقه هو بحر العلم، والعصا كانت حجته، غلب على السحرة بحجته العلمية فابتلعت حجته شبههم التي جعلوها حبالا يتوسلون بها إلى نيل أغراضهم، وعصيا يقهرون بها من يجادلونه.
أفليس من قال مثل هذا الكلام يعلم بالاضطرار أنه يكذب على الكتب الإلهية التي أخبرت بقصة موسى كالتوراة والقرآن، وأنه ليس مراد الرسل بما أخبروا به من قصة موسى هذا، بل صرحوا بأن موسى سمع نداء الله له، وأنه كلمه من الطور طور سينا الذي هو الجبل، وقلب عصاه التي كان يهش بها على غنمه ثعبانا عظيما، وفلق له البحر وأغرق فيه آل فرعون فغرقوا وماتوا فيه وهلكوا، وأمثال هذا من تحريفات الملاحدة كثير.
فهكذا النصارى حرفوا كتب الله وسموا صفة الله القديمة الأزلية
التي هي علمه أو حكمته ابنا، وسموها أيضا كلمة، وسموا صفته القديمة الأزلية، التي هي حياته روح القدس، وتسمية هذه الصفات بهذه الأسماء لا توجد في شيء من كلام الأنبياء ولا غيرهم ولا يعرف أن أحدا قط لا من الأنبياء ولا غيرهم سمى علم الله القائم به ابنه، بل وسمى علم أحد من العالمين القائم به ابنه، ولكن لفظ الابن يعبر به عمن ولد الولادة المعروفة، ويعبر به عمن كان هو سببا في وجوده، كما يقال: ابن السبيل، لمن ولدته الطريق، فإنه لما جاء من جهة الطريق جعل كأنه ولده.
ويقال لبعض الطير: ابن الماء، لأنه يجيء من جهة الماء، ويقال: كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن الابن ينتسب إلى أبيه ويحبه ويضاف إليه، أي كونوا ممن ينتسب إلى الآخرة ويحبها ويضاف إليها، وهذا اللفظ موجود في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب في حق الصالحين الذين يحبهم الله ويربيهم، كما ذكروا أن المسيح قال: (أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم). وفي التوراة: أن الله قال ليعقوب: (أنت ابني بكري).
ونحو ذلك مما يراد به إذا كان صحيحا له معنى صحيح، وهو المحبة له والاصطفاء له، والرحمة له، وكان المعنى مفهوما عند
الأنبياء عليهم السلام ومن يخاطبونه، وهو من الألفاظ المتشابهة، فصار كثير من أتباعهم يريدون به المعنى الباطل.
وزعم كثير من الكفار أن لله سبحانه وتعالى بنين وبنات، وأن الملائكة بناته، وبعض من يقول بقدم العالم من المتفلسفة يقولون: العقول العشرة هي بنوه، والنفوس الفلكية هي بناته وهي متولدة عنه لازمة لذاته، فجاء القرآن الذي هو أفضل الكتب وأكملها بإبطال هذه المعاني ومنع استعمال هذا اللفظ في حق الله تعالى، فنزه الله عن أن يتخذ ولدا، كما نزهه عن أن يكون له ولد، والأول من باب تنزيهه عن الأفعال المذمومة، وهذا على قول جماهير المسلمين وغيرهم الذين ينزهون الله ويقدسونه عن الأفعال القبيحة التي لا تليق به، بل تنافي ما وجب له من الكمال في أفعاله، كما وجب له الكمال في ذاته وصفاته، وأما من كان من المسلمين وغيرهم لا ينزه الله عن فعل من الأفعال إلا ما كان ممتنعا لذاته، فأما الممكن المقدور فيقول: لا يعلم انتفاؤه إلا بالخبر أو بالعادة المطردة التي يمكن انتقاضها، فهذا لا يبقى معه ما ينفي به عن الله الأفعال المذمومة القبيحة، والكتب الإلهية قد نزهت الرب عز وجل عن الأفعال المذمومة، كما نزهته عن صفات النقص، كقوله تعالى:{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 26].
وقال تعالى:
{إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171].
كما قال تعالى:
{وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} [الأنعام: 100]
وقال تعالى:
{وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [الإسراء: 111].
وقال تعالى عن المؤمنين:
{ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا} [آل عمران: 191].
وقال تعالى:
{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا - الذي له ملك
السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: 1 - 2].
وقال تعالى:
{ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون - عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون} [المؤمنون: 91 - 92].
وقال تعالى:
{ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون} [الصافات: 151].
وقال تعالى:{قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 1]
فكما نزه نفسه عن الولادة، نزه نفسه عن اتخاذ الولد.
وقال تعالى:
{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا - لقد جئتم شيئا إدا - تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا - أن دعوا للرحمن ولدا} [مريم: 88 - 91]
{وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا - إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا - لقد أحصاهم وعدهم عدا - وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} [مريم: 92 - 95].
وقال تعالى:
{لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} [النساء: 172].
وقال تعالى:
{ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} [آل عمران: 80].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " "يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: أنى يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: أني اتخذت ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد".
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليجعلون له ولدا وشريكا، وهو يرزقهم ويعافيهم".
ولهذا كان معاذ بن جبل يقول: لا ترحموا النصارى، فإنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر. فجاءت هذه الشريعة الحنيفية القرآنية وحرمت أن يتكلم في حق الله باسم ابن أو ولد، سدا للذريعة، كما منعت أن يسجد أحد لغير الله وإن كان على وجه التحية، كما منعت أن يصلي أحد عند طلوع الشمس وغروبها، لئلا يشبه عباد الشمس والقمر، فكانت بسدها للأبواب التي يجعل لله فيها
الشريك والولد أكمل من غيرها من الشرائع، كما سدت غير ذلك من الذرائع، مثل تحريمها قليل المسكر ; لأنه يجر إلى كثيره، فإن أصول المحرمات التي قال الله فيها:
{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33].
مما اتفقت عليه شرائع الأنبياء بخلاف تحريم الطيبات عقوبة، فإن هذا جاء في شرع التوراة دون شرع القرآن، فإن الله أحل لأمة محمد الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وكذلك تكميل التوحيد من كل الوجوه وسد أبواب الشرك من كل الوجوه، جاءت به هذه الشريعة مع اتفاق الأنبياء على إيجاب التوحيد وتحريم أن يجعل لله شريك أو ولد.
فإذا كان مراد المسيح عليه السلام بالابن هو الناسوت، وهو لم يسم اللاهوت ابنا، وقد ذكر أن الابن لا يعلم الساعة، فتبين بذلك أن المسيح هو الناسوت وحده، وأنه لا يعلم الساعة وهذا هو الحق، وإن قالوا: مراده بالابن اللاهوت أو اللاهوت والناسوت لزم من ذلك أن اللاهوت أو اللاهوت والناسوت لا يعلم الساعة وهذا باطل،
وكذب، وهو أيضا مناقض لقولهم.
فدل هذا النص من المسيح مع سائر نصوصه ونصوص الأنبياء على أن مسمى الابن هو الناسوت وحده، وأنه لا يعلم ما يعلمه الله، وذلك صريح في أنه مخلوق ليس بخالق، ولا يجوز أن يكون هذا خطابا للناسوت المتحد باللاهوت دون اللاهوت، كما يتأوله عليه بعض النصارى، لأن كل ما علمه اللاهوت المتحد بالمسيح علمه الناسوت، ولأن الناسوت ليس هو الابن عندهم دون اللاهوت المتحد به، بل اسم الابن عندهم هو اللاهوت، ولأجل الاتحاد دخل فيه الناسوت، ولأنه لم يثبت إلا علم الأب وحده لم يستثن علم الابن الأزلي عندهم، بل نفى علم ما سوى الأب به، وهذا مناقض لقولهم من كل وجه.
(لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73)
[فصل: النصارى بدلوا دين المسيح قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم]
والمقصود هنا: أن الذي يدين به المسلمون من أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول إلى الثقلين: الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله مستحق للجهاد، وهو مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه ; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك، وذكره الله في كتابه، وبينه الرسول أيضا في الحكمة المنزلة عليه من غير الكتاب، فإنه تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة، ولم يبتدع المسلمون شيئا من ذلك من تلقاء أنفسهم، كما ابتدعت النصارى كثيرا من دينهم بل أكثر دينهم.
وبدلوا دين المسيح وغيروه ; ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم مثل كفر اليهود لما بعث المسيح عليه السلام، فإن اليهود كانوا قد بدلوا شرع التوراة قبل مجيء المسيح، فكفروا بذلك، ولما بعث المسيح إليهم كذبوه فصاروا كفارا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه، وبتكذيب الكتاب الثاني.
وكذلك النصارى كانوا بدلوا دين المسيح قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فابتدعوا من التثليث والاتحاد وتغيير شرائع الإنجيل أشياء لم يبعث بها المسيح عليه السلام، بل تخالف ما بعث به، وافترقوا في ذلك فرقا متعددة، وكفر فيها بعضهم بعضا، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كذبوه، فصاروا كفارا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه، وتكذيب الكتاب الثاني، كما يقول علماء المسلمين: إن دينهم مبدل منسوخ، وإن كان قليل من النصارى كانوا عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم متمسكين بدين المسيح، كما كان الذين لم يبدلوا دين المسيح كله على الحق، فهذا كما أن من كان متبعا شرع التوراة عند مبعث المسيح كان متمسكا بالحق كسائر من اتبع موسى، فلما بعث المسيح صار كل من لم يؤمن به كافرا، وكذلك لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم صار كل من لم يؤمن به كافرا.
والمقصود في هذا المقام: بيان ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم من عموم رسالته، وأنه نفسه الذي أخبر أن الله تعالى أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم، وأنه نفسه صلى الله عليه وسلم دعا أهل الكتاب، وجاهدهم وأمر بجهادهم، فمن قال بعد هذا من أهل الكتاب اليهود والنصارى: أنه لم يبعث إلينا، بمعنى أنه لم يقل إنه مبعوث إلينا، كان مكابرا جاحدا للضرورة مفتريا على الرسول فرية ظاهرة تعرفها الخاصة والعامة.
وكان جحده لهذا كما لو جحد أنه جاء بالقرآن، أو شرع الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام؛ وجحد محمد صلى الله عليه وسلم، وما تواتر عنه أعظم من جحد أتباع الحواريين المسيح عليه السلام، وإرساله لهم إلى الأمم، ومجيئه بالإنجيل، وجحد مجيء موسى عليه السلام بالتوراة، وجحد أنه كان يسبت ; فإن النقل عن محمد صلى الله عليه وسلم مدته قريبة، والناقلون عنه أضعاف أضعاف من نقل دين المسيح عنه، وأضعاف أضعاف أضعاف من اتصل به نقل دين موسى عليه السلام، فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما زالوا كثيرين منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، وما زال فيهم من هو ظاهر بالدين منصور على الأعداء، بخلاف بني إسرائيل، فإنهم زال ملكهم في أثناء الأمر لما خرب بيت المقدس الخراب الأول بعد داود عليه السلام ونقص عدد من نقل دينهم حتى قد قيل إنه لم يبق من يحفظ التوراة إلا واحد.
والمسيح عليه السلام لم ينقل دينه عنه إلا عدد قليل لكن النصارى يزعمون أنهم رسل الله معصمون مثل: إبراهيم وموسى، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله تعالى إذا وصلنا إليه، إذ المقصود هنا بيان من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يقول: إنه لم يبعث إلا إلى مشركي العرب، فإنه في غاية الجهل والضلال أو غاية المكابرة والمعاندة، فإن هذا أعظم جهلا وعنادا ممن ينكر أنه كان يأمر بالطهارة والغسل من الجنابة، ويحرم الخمر والخنزير، وأعظم جهلا وعنادا ممن ينكر ما تواتر من أمر المسيح، وموسى عليهما السلام، وقد ظهر بهذا بطلان قولهم: علمنا أنه لم يأت إلينا بل إلى جاهلية العرب.
[فصل: بيان أن تفسيرهم للتثليث تفسير باطل]
قال الحاكي عنهم: فقلت: إنهم ينكرون علينا في قولنا، أب وابن، وروح قدس، وأيضا في قولنا إنهم ثلاثة أقانيم، وأيضا في قولنا إن المسيح رب وإله وخالق، وأيضا يطلبون منا إيضاح تجسيد تجسم كلمة الله الخالق بإنسان مخلوق.
أجابوا قائلين: لو علموا قولنا هذا إنما نريد به القول الذي يعني أن الله شيء حي ناطق لما أنكروا علينا ذلك، لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها، إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب.
فقلنا: إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء، وذلك لننفي عنه العدم، ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين: شيء حي، وشيء غير حي، فوصفناه بأجملهما، فقلنا: هو شيء حي، لننفي الموت عنه، ورأينا الحي ينقسم قسمين: حي ناطق، وحي غير ناطق، فوصفناه بأفضلهما، فقلنا: هو شيء حي ناطق لننفي الجهل عنه.
والثلاثة أسماء وهي إله واحد، مسمى واحد، ورب واحد، خالق واحد شيء حي ناطق، أي الذات والنطق والحياة، فالذات عندنا الأب الذي هو ابتداء الاثنين، والنطق الابن الذي هو مولود منه لولادة النطق من العقل، والحياة روح القدس، وهذه أسماء لم نسمه نحن بها.
والجواب من وجوه:
أحدها: قولهم: أما قولنا أب، وابن، وروح قدس، فلو علموا قولنا هذا إنما نريد به تصحيح القول بأن الله حي ناطق لما أنكروا ذلك علينا، فيقال: ليس الأمر كما ادعوه فإن النصارى يقولون: إن هذا القول تلقوه عن الإنجيل، وإن في الإنجيل عن المسيح - صلوات الله عليه وسلامه - أنه قال: عمدوا الناس باسم الأب، والابن وروح القدس فكان أصل قولهم هو ما يذكرونه من أنه متلقى من الشرع المنزل لا أنهم أثبتوا الحياة والنطق بمعقولهم، ثم عبروا عنها بهذه العبارات، كما ادعوه في مناظرتهم.
ولو كان الأمر كذلك لما احتاجوا إلى هذه العبارة، ولا إلى جعل الأقانيم ثلاثة، بل معلوم عندهم، وعند سائر أهل الملل أن الله موجود حي عليم، قدير متكلم لا تختص صفاته بثلاثة، ولا يعبر عن ثلاثة منها بعبارة لا تدل على ذلك، وهو لفظ: الأب، والابن، وروح القدس، فإن هذه الألفاظ لا تدل على ما فسروها به في لغة أحد من الأمم، ولا يوجد في كلام الأنبياء أنه عبر بهذه الألفاظ عما ذكروه من المعاني، بل إثبات ما ادعوه من التثليث والتعبير عنه بهذه الألفاظ هو مما ابتدعوه لم يدل عليه لا شرع ولا عقل.
وهم يدعون أن التثليث والحلول والاتحاد إنما صاروا إليه من جهة الشرع، وهو نصوص الأنبياء والكتب المنزلة، لا من جهة العقل، وزعموا أن الكتب الإلهية نطقت بذلك، ثم تكلفوا لما ظنوه مدلول الكتاب طريقا عقلية، فسروه بها تفسيرا ظنوه جائزا في العقل ولهذا نجد النصارى لا يلجئون في التثليث والاتحاد إلا إلى الشرع والكتب وهم يجدون نفرة عقولهم وقلوبهم عن التثليث والاتحاد والحلول فإن فطرة الله التي فطر الناس عليها وما جعله الله في قلوب الناس من المعارف العقلية التي قد يسمونها ناموسا عقليا طبيعيا يدفع ذلك وينفيه وينفر عنه ولكن يزعمون أن الكتب الإلهية جاءت بذلك وأن ذلك أمر يفوق العقل وأن هذا الكلام من طور وراء طور العقل فينقلونه لظنهم أن الكتب الإلهية أخبرت به، لا لأن العقول دلت عليه، مع أنه ليس في الكتب الإلهية ما يدل على ذلك، بل فيها ما يدل على نقيضه كما سنذكره - إن شاء الله تعالى -، ولا يميزون بين ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع، وبين ما يعجز عنه العقل فلا يعرفه ولا يحكم فيه بنفي ولا إثبات، وأن الرسل أخبرت بالنوع الثاني: ولا يجوز أن تخبر بالنوع الأول، فلم يفرقوا بين محالات العقول ومحارات العقول، وقد ضاهوا في ذلك من قبلهم من المشركين الذين جعلوا لله ولدا شريكا.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/09/22.jpg فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 290)
من صــ 46 الى صـ 60
قال - تعالى -:
{وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30].
وقد ضاهاهم في ذلك أهل البدع والضلال المشبهون لهم من المنتسبين إلى الإسلام الذين يقولون: نحو قولهم من الغلو في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ وغيرهم، ومن يدعي الوحدة أو الحلول أو الاتحاد الخاص المعين كدعوى النصارى ودعوى الغالية من الشيعة في علي وطائفة من أهل البيت كالنصيرية ونحوهم ممن يدعي إلهية علي، وكدعوى بعض الإسماعيلية الإلهية في الحاكم وغيره من بني عبد الله بن ميمون القداح المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر.
ودعوى كثير من الناس نحو ذلك في بعض الشيوخ، إما المعروفين بالصلاح، وإما من يظن به الصلاح وليس من أهله، فإن لهم أقوالا من جنس أقوال النصارى، وبعضها شر من أقوال النصارى.
وعامة هؤلاء إذا خوطبوا ببيان فساد قولهم قالوا من جنس قول النصارى، هذا أمر فوق العقل، ويقول بعضهم ما كان يقوله التلمساني لشيخ أهل الوحدة، يقول: ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح النقل ويقولون: لمن أراد أن يسلك سبيلهم: دع العقل والنقل، أو اخرج من العقل والنقل.
وينشدون فيهم:
مجانين إلا أن سر جنونهم ... عزيز على أقدامه يسجد العقل
هم معشر حلوا النظام وحرقوا ... السياج فلا فرض لديهم ولا نقل
وهؤلاء مقلدون لمشايخهم متبعون لهم فيما يخرجون به عن شريعة الرسول، وما ابتدعوه مما لم يأذن به الله باتخاذ البدع عبادات، واستحلال المحرمات كتقليد بعض النصارى لشيوخهم، وإذا اعترض على أحد منهم يقولون: الشيخ يسلم له حاله، ولا يعترض عليه كما يقول النصارى لشيوخهم ومن هؤلاء من يقول نحن أولاد الله،ويقول: المسيح هو ولد الله، وينطق أيضا، بلفظ الشهوة، فيقول إنهم أولاد شهوة، ويقول: إنه زوج مريم، كما يقول ذلك من يقوله من النصارى.
وغاية ما عندهم أنهم يحكون عن شيوخهم نوعا من خرق العادات، قد يكون كذبا، وقد يكون صدقا، وإذا كانت صدقا فقد يكون من أحوال أولياء الشيطان كالسحرة والكهان، وقد يكون من أحوال أولياء الرحمن، وإذا كانت من أحوال أولياء الرحمن لم يكن في ذلك ما يوجب تقليد الولي في كل ما يقوله، إذ الولي لا يجب أن يكون معصوما، ولا يجب اتباعه في كل ما يقوله، ولا الإيمان بكل ما يقوله.
وإنما هذا من خصائص الأنبياء الذين يجب الإيمان بكل ما يقولونه فيجب تصديقهم في كل ما يخبرون به من الغيب، وطاعتهم فيما أوجبوه على الأمم، ومن كفر بشيء مما جاءوا به فهو كافر، ومن سب نبيا واحدا وجب قتله، وليس هذا لغير الأنبياء من الصالحين.
فهؤلاء المبتدعة الغلاة المشركون القائلون بنوع من الحلول هم مضاهئون للنصارى بقدر ما شابهوهم فيه، وخالفوا فيه دين المسلمين ومنهم من تكون موافقته لدين المسلمين أكثر، وأما الغلاة منهم فموافقتهم للنصارى أكثر، ومنهم من هو أكفر من النصارى، ولما كان مستند النصارى هو ما ينقلونه إما عن الأنبياء، وإما عن غيرهم ممن يوجبون اتباعه كانوا إذا أوردوا على علمائهم ما يقتضي امتناع ذلك قالوا هكذا في الكتاب، وبهذا نطق الكتاب وهذه الكتب جاءت بها الرسل، يعنون المؤيدين بالمعجزات، ويعنون بالرسل الحواريين فاعتصامهم بها إنما هو لما ظنوه مذكورا في الكتب الإلهية، وإن رأوه مخالفا لصريح المعقول.
ولهذا ينهون جمهورهم عن البحث والمناظرة في ذلك، لعلمهم بأن العقل الصريح متى تصور دينهم علم أنه باطل، فدعوى المدعين أنا إنما قلنا أب وابن وروح قدس لتصحيح القول بأن الله حي ناطق كذب ظاهر، وهم يعلمون أنه كذب، وتصحيح القول بأن الله حي متكلم، لا يقف على هذه العبارة، بل يمكنه تصحيح ذلك بالأدلة الشرعية والسمعية والعقلية، والتعبير عنه بالعبارات البينة كما يقوله المسلمون وغيرهم بدون قولنا أب وابن وروح قدس.
ومما يبين ذلك الوجه الثاني: وهو أن النصارى - المقرون بأن هذه العبارة في الإنجيل المأخوذ عن المسيح - مختلفون في تفسير هذا الكلام، فكثير منهم يقول الأب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو الحياة.
ومنهم من يقول: بل الأب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو القدرة.
وبعضهم يقول: إن الأقانيم الثلاثة: جواد حكيم قادر، فيجعل الأب هو الجواد، والابن هو الحكيم، وروح القدس هو القادر، ويزعمون أن جميع الصفات تدخل تحت هذه الثلاثة، ويقولون: إنا استدللنا على وجوده بإخراجه الأشياء من العدم إلى الوجود، وذلك من جوده.
وقد رأيت في كتب النصارى هذا وهذا وهذا، ومنهم من يعبر عن الكلمة بالعلم، فيقولون: موجود حي عالم، أو موجود عالم قادر، كما يقول بعضهم: ناطق، ومنهم من يقول موجود حي حكيم، ومنهم من يقول قائم بنفسه حي حكيم، وهم متفقون على أن المتحد بالمسيح والحال فيه هو أقنوم الكلمة، وهو الذي يسمونه الابن دون الأب، ومن أنكر الحلول والاتحاد منهم كالأريوسية يقول: إن المسيح - عليه السلام - عبد مرسل، كسائر الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه -، فوافقهم على لفظ: الأب، والابن، وروح القدس، ولا يفسر ذلك بما يقوله منازعوه من الحلول والاتحاد.
كما أن النسطورية يوافقونهم أيضا على هذا اللفظ، وينازعونهم في الاتحاد الذي يقوله اليعقوبية والملكية: فإذا كانوا متفقين على اللفظ متنازعين في معناه، علم أنهم صدقوا أولا باللفظ لأجل اعتقادهم مجيء الشرع به، ثم تنازعوا بعد ذلك في تفسير الكتاب، كما يختلفون هم وسائر أهل الملل في تفسير بعض الكلام الذي يعتقدون أنه منقول عن الأنبياء - عليهم السلام -، وعلم بذلك أن أصل قولهم: الأب، والابن، وروح القدس، لم يكن لأجل تصحيح القول بأن الله موجود حي ناطق الذي علموه أولا بالعقل.
يوضح هذا الوجه الثالث: وهو قولهم إنما لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها، إن كان المتكلم بهذا طائفة معينة من النصارى، فيقال لهؤلاء: القول بالأب، والابن، وروح القدس، موجود عند النصارى قبل وجودكم، وقبل نظركم هذا واستدلالكم، فلا يجوز أن يكون نظركم هو الموجب لقول النصارى هذا، وإن كان المراد به أن جميع النصارى من حين قالوا هذا الكلام نظروا واستدلوا حتى قالوا ذلك فهذا كذب بين، فإن هذا الكلام يقول النصارى إنهم تلقوه من الإنجيل، وأن المسيح - عليه السلام - قال: عمدوا الناس باسم الأب، والابن، وروح القدس.
والمسيح والحواريون لم يأمروهم بهذا النظر الموجب لهذا القول، ولا جعل المسيح هذا القول موقوفا عندهم على هذا البحث، فعلم أن جعلهم هذا القول ناشئا عن هذا البحث قول باطل يعلمون هم بطلانه.
الوجه الرابع: إن هذا القول: إن كان المسيح لم يقله فلا يجوز أن يقال، ولو عنى به الإنسان معنى صحيحا فإن هذه العبارة إنما يفهم منها عند الإطلاق المعاني الباطلة، ولهذا يوجد كثير من عوام النصارى يعتقدون أن المسيح ابن الله، البنوة المعروفة في المخلوقات، ويقولون: إن مريم زوجة الله وهذا لازم لعامة النصارى، وإن لم يقولوه فإن الذي يلد لابد له من زوجة.
ولهذا قال - تعالى -:
{أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 101].
وجعل الرب والد المولود أنكر في العقول من إثبات صاحبة له سواء فسرت الولادة بالولادة المعروفة، أو بالولادة العقلية التي يقولها علماء النصارى، فإن من أثبت صاحبة له يمكنه تأويل ذلك، كما تأولوا هم الولد، ويقولون: إن الأب ولدت منه الكلمة، ومريم ولد منها الناسوت واتحد الناسوت باللاهوت، فكما أن الأب أب باللاهوت لا بالناسوت، ومريم أم للناسوت لا للاهوت، فكذلك هي صاحبة للأب بالناسوت، واللاهوت زوج مريم، بلاهوته، كما أنه أب للمسيح بلاهوته، وإذا اتحد اللاهوت بناسوت المسيح مدة طويلة، فلماذا يمتنع أن يجتمع اللاهوت بناسوت مريم مدة قصيرة، وإذا جعل الناسوت الذي ولدته ابنا للاهوت، فلأي شيء لا تجعل هي صاحبة وزوجة للاهوت فإن المسيح عندهم اسم لمجموع اللاهوت والناسوت، وهو عندهم إله تام وإنسان تام، فلاهوته من الله، وناسوته من مريم، فهو من أصلين: لاهوت وناسوت، فإذا كان أحد الأصلين أباه والآخر أمه، فلماذا لا تكون أمه زوجة أبيه بهذا الاعتبار، مع أن المصاحبة قبل البنوة؟ فكيف يثبت الفرع الملزوم بدون ثبوت الأصل اللازم؟
وليس في ذلك من المحال على أصلهم إلا ما هو من جنس إثبات بنوة المسيح، وأقل امتناعا، وإن كان المسيح - عليه السلام - قال هذا الكلام، فقد علمنا أن المسيح - عليه السلام - وغيره من الأنبياء معصومون لا يقولون: إلا الحق، وإذا قالوا قولا فلابد له من معنى صحيح.
ويمتنع أن يريدوا بقولهم ما يمتنع بطلانه بسمع أو عقل فإذا كانت العقول، ونصوص الكتب المتقدمة مع نصوص القرآن تناقض ما ابتدعته النصارى في المسيح، علم أن المسيح لم يرد معنى باطلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول.
، بل نقول في الوجه الخامس: إن صحت هذه العبارة عن المسيح المعصوم عليه الصلاة والسلام، فإنه أراد بذلك ما يناسب سائر كلامه، وفي الموجود في كتبهم تسمية الرب أبا وتسمية عباده أبناء، كما يذكرون أنه قال في التوراة ليعقوب: " إسرائيل " " أنت ابني بكري "، وقال لداود في الزبور: " أنت ابني وحبيبي "، وفي الإنجيل في غير موضع يقول المسيح: " أبي وأبيكم " كقوله إني أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فيسميه أبا لهم كما يسميهم أبناء له، فإن كان هذا صحيحا، فالمراد بذلك أنه الرب المربي الرحيم، فإن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والابن هو المربى المرحوم، فإن تربية الله لعبده أكمل من تربية الوالدة لولدها فيكون المراد بالأب الرب، والمراد بالابن عنده المسيح الذي رباه.
وأما روح القدس: فهي لفظة موجودة في غير موضع من الكتب التي عندهم، وليس المراد بها حياة الله باتفاقهم، بل روح القدس عندهم تحل في إبراهيم وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء الصالحين.
والقرآن قد شهد أن الله أيد المسيح بروح القدس، كما قال - تعالى -:
{وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 87].
في موضعين من البقرة.
وقال - تعالى -:
{ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس} [المائدة: 110].
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: «إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه» وقال: «اللهم أيده بروح القدس» كما تقدم ذكره هذا كله مبسوطا.
وروح القدس: قد يراد بها الملك المقدس كجبريل، ويراد بها الوحي، والهدى والتأييد الذي ينزله الله بواسطة الملك أو بغير واسطته، وقد يكونان متلازمين، فإن الملك ينزل بالوحي، والوحي ينزل به الملك، والله - تعالى - يؤيد رسله بالملائكة وبالهدى، كما قال - تعالى -: عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -:
{فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها} [التوبة: 40].
في موضعين من سورة " براءة ".
وقال الله - تعالى -:
{فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها} [الأحزاب: 9].
وقال - تعالى -:
{إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال: 12].
وقال - تعالى -:
{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22].
وقال الله - تعالى -:
{ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده} [النحل: 2].
وقال - تعالى -:
{يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق} [غافر: 15].
وقال:
{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52]
وإذا كان روح القدس معروفا في كلام الأنبياء المتقدمين والمتأخرين أنها أمر ينزله الله على أنبيائه وصالحي عباده سواء كان ملائكة تنزل بالوحي والنصر أو وحيا وتأييدا مع الملك، وبدون الملك ليس المراد بروح القدس أنها حياة الله القائمة به كان المعصوم إن كان قال: عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس مراده مروا الناس أن يؤمنوا بالله ونبيه الذي أرسله وبالملك الذي أنزل عليه الوحي الذي جاء به، فيكون ذلك أمرا لهم بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا هو الحق الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول.
فتفسير كلام المعصوم بهذا التفسير الذي يوافق سائر ألفاظ الكتب التي عندهم، ويوافق القرآن، ويوافق العقل، أولى من تفسيره بما يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول.
وهذا تفسير ظاهر ليس فيه تكلف، ولا هو من التأويل الذي هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره، بل هو تفسير له بما يدل ظاهره عليه باللغة المعروفة والعبارة المألوفة في خطاب المسيح، وخطاب سائر الأنبياء.
أما تفسير النصارى بأن الابن مولود قديم أزلي هو العلم أو كلمة الله، فتفسير للفظ بما لم يستعمل هذا اللفظ فيه، لا في كلام أحد من الأنبياء ولا لغة أحد من الأنبياء، وكذلك تفسير روح القدس بحياة الله، فالذي فسر النصارى به ظاهر كلام المسيح هو تفسير لا تدل عليه لغة المسيح وعادته في كلامه، ولا لغة غيره من الأنبياء والأمم، بل المعروف في لغته وكلامه وكلام سائر الأنبياء تفسيره بما فسرناه، وبذلك فسره أكابر علماء النصارى.
وأما ضلال النصارى المحرفون لمعاني كتب الله عز وجل، فسروه بما يخالف معناه الظاهر وينكره العقل والشرع.
وتمام هذا بالوجه السادس: وهو أن النصارى لما كان عندهم في الكتب تسمية المسيح - عليه السلام - ابنا، وتسمية غيره من الأنبياء ابنا، كقوله ليعقوب: أنت ابني بكري، وتسمية الحواريين أبناء قالوا هو ابنه بالطبع، وغيره هو ابنه بالوضع، فجعلوا لفظ الابن مشتركا بين معنيين وأثبتوا لله طبعا، جعلوا المسيح ابنه باعتبار ذلك الطبع، وهذا يقرر قول من يفهم منهم أنه ابنه البنوة المعروفة في المخلوقين، وأن مريم زوجة الله.
وكذلك جعلوا روح القدس مشتركة بين حياة الله وبين روح القدس التي تنزل على الأنبياء والصالحين، ومعلوم أن الاشتراك على خلاف الأصل وأن اللفظ إذا استعمل في عدة مواضع كان جعله حقيقة متواطئا في القدر المشترك أولى من جعله مشتركا اشتراكا لفظيا بحيث يكون حقيقة في خصوص هذا، أو يكون مجازا في أحدهما، فإن المجاز والاشتراك على خلاف الأصل، هذا إن قدر أن لفظ الابن وروح القدس استعمل في نطق الله وحياته كما يزعم النصارى فكيف إذا لم يوجد في كلام الأنبياء أنهم قالوا لفظ الابن، ولفظ روح القدس، وأرادوا به شيئا من صفات الله لا كلامه ولا حياته ولا علمه ولا غير ذلك، بل لم يوجد استعمال لفظ الابن في كلام الأنبياء إلا في شيء مخلوق، ولم يوجد استعمال روح القدس كما هو من صفات الله القائمة به، ونحن إذا فسرنا الأب وروح القدس ببنوة التربية، وروح القدس بما ينزل على الأنبياء كنا قد جعلنا اللفظ مفردا متواطئا وهم يحتاجون أن يجعلوا اللفظ مشتركا أو مجازا في أحد المعنيين، فكان تفسيرهم مخالفا لظاهر اللغة التي خوطبوا بها، ولظاهر الكتب التي بأيديهم وتفسيرنا موافقا لظاهر لغتهم، وظاهر الكتب التي بأيديهم، وحينئذ فقد تبين أنه ليس معهم بالتثليث لا حجة سمعية ولا عقلية، بل هو باطل شرعا وعقلا.
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/08/51.jpg
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 291)
من صــ 61 الى صـ 75
ويؤيد هذا الوجه السابع: وهو أنهم في أمانتهم أثبتوا من المعاني ولفظ الأقانيم وغير ذلك ما لا تدل عليه الكتب التي بأيديهم البتة، بل فهموا منها معنى باطلا، وضموا إليه معاني باطلة من عند أنفسهم، فكانوا محرفين لكتب الله في ذلك، مفترين على الله الكذب، وهذا مبسوط في موضع آخر.
الوجه الثامن: أن قولهم بالأقانيم مع بطلانه في العقل والشرع لم ينطق به عندهم كتاب، ولم يوجد هذا اللفظ في شيء من كتب الأنبياء التي بأيديهم ولا في كلام الحواريين، بل هي لفظة ابتدعوها، ويقال: إنها رومية، وقد قيل: الأقنوم في لغتهم معناه الأصل، ولهذا يضطربون في تفسير الأقانيم تارة يقولون: أشخاص، وتارة خواص وتارة صفات وتارة جواهر وتارة يجعلون الأقنوم اسما للذات والصفة معا، وهذا تفسير حذاقهم.
الوجه التاسع: قولهم في المسيح - عليه السلام - إنه خالق، قول مع بطلانه في الشرع والعقل، قول لم ينطق به شيء من النبوات التي عندهم، ولكن يستدلون على ذلك بما لا يدل عليه كما سنبينه إن شاء الله - تعالى -.
الوجه العاشر: قولهم في تجسد اللاهوت - أيضا - هو قول مع بطلانه في العقل والشرع قول لا يدل عليه شيء من كلام المعصوم من النبيين والمرسلين الوجه الحادي عشر: إنا نقول: لا ريب أن الله حي عالم قادر متكلم، وللمسلمين على ذلك من الدلائل العقلية التي دل الرسول عليها وأرشد إليها فصارت معروفة بالعقل مدلولا عليها بالشرع ما هو مبسوط في موضعه، وأنتم مع دعواكم أنكم تثبتون ذلك بالعقل، لم تذكروا على ذلك دليلا عقليا.
فقولكم لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب، كلام قاصر من وجوه:
أحدها: أنكم لم تروا حدوث جميع المخلوقات، وإنما رأيتم حدوث ما يشهد حدوثه كالسحاب والمطر والحيوان والنبات ونحو ذلك، فأين دليلكم على حدوث سائر الأشياء؟
الثاني: أنه كان ينبغي أن تقولوا لما علم حدوث المحدثات، أو حدوث المخلوقات أو حدوث ما سوى الله ونحو ذلك مما يبين أن المحدث ما سوى الله، فأما إطلاق حدوث جميع الأشياء فباطل، فإن الله يسمى عندكم وعند جمهور المسلمين شيئا من الأشياء، وهذا بخلاف قوله - تعالى -: {قل الله خالق كل شيء} [الرعد: 16].
فإن هذا التركيب يبين أن الخالق غير المخلوق خلاف قول القائل حدوث الأشياء.
الثالث: أن العلم بأن المحدث لابد له من محدث، علم فطري ضروري، ولهذا قال الله - تعالى -: في القرآن:
{أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35].
«قال جبير بن مطعم: لما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع»، يقول - تعالى -: أخلقوا من غير خالق خلقهم أم هم الخالقون لأنفسهم.
ومعلوم بالفطرة التي فطر الله عليها عباده بصريح العقل أن الحادث لا يحدث إلا بمحدث أحدثه.
وإن حدوث الحادث بلا محدث أحدثه معلوم البطلان بضرورة العقل وهذا أمر مركوز في بني آدم حتى الصبيان، لو ضرب الصبي ضربة فقال: من ضربني؟ فقيل: ما ضربك أحد، لم يصدق عقله أن الضربة حدثت من غير فاعل.
ولهذا لو جوز مجوز أن يحدث كتابة أو بناء أو غراس ونحو ذلك من غير محدث لذلك، لكان عند العقلاء إما مجنونا وإما مسفسطا كالمنكر للعلوم البديهية والمعارف الضرورية، وكذلك معلوم أنه لم يحدث نفسه، فإن كان معدوما قبل حدوثه لم يكن شيئا فيمتنع أن يحدث غيره فضلا عن أن يحدث نفسه.
فقولكم لم يكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب، تعليل باطل فإن علمنا بأن حدوثها لم يكن من ذواتها ليس لأجل ما فيها من التضاد والتقلب، بل سواء كانت متماثلة أو مختلفة أو متضادة، نحن نعلم بصريح العقل أن المحدث لا يحدث نفسه، وهذا من أظهر المعارف وأبينها للعقل، كما يعلم أن العدم لا يخلق موجودا، وأن المحدث للحوادث الموجودة لا يكون معدوما.
الوجه الرابع: أنكم ذكرتم حجة على أنها لم تحدث نفسها، وهي حجة ضعيفة ولم تذكروا حجة على أنها حدثت، بلا محدث، لا أنفسها ولا غيرها، فإن كان امتناع كونها أحدثت نفسها محتاجا إلى دليل، فكذلك امتناع حدوثها، بلا محدث، وإن كان معلوما ببديهة العقل، وهو من العلوم الضرورية، فكذلك الآخر، فذكر الدليل على أحدهما دون الآخر خطأ لو كنتم ذكرتم دليلا صحيحا، فكيف إذا كان الدليل باطلا؟ ومن يكون مبلغهم من العلم بالأدلة العقلية التي يثبتون بها العلم بالصانع وصفاته هذا المبلغ؟ ثم يريدون مع ذلك أن يثبتوا معاني عقلية ويزعمون أنها موافقة لفهمهم الباطل من الكتب الإلهية، فهم ممن قال الله فيهم:
{والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور: 39] (39) {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور: 40].
الوجه الثاني عشر: قولكم: فقلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة، إذ هو الخالق لكل شيء، لننفي عنه العدم.
فيقال لهم: لا ريب أن الله كما وصف نفسه بقوله - تعالى -:
{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11].
وقوله: {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} [مريم: 65]
أي مثلا يستحق أن يسمى بأسمائه، وقوله - تعالى -:
{قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] (1) {الله الصمد} [الإخلاص: 2] (2) {لم يلد ولم يولد} [الإخلاص: 3] (3) {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4]. .
وقد دل على ذلك العقل، فإن المثلين اللذين يسد أحدهما مسد الآخر يجب لأحدهما ما يجب للآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجوز عليه ما يجوز عليه، فلو كان للخالق مثل للزم أن يشتركا فيما يجب، ويجوز ويمتنع.
والخالق يجب له الوجود والقدم، ويمتنع عليه العدم، فيلزم أن يكون المخلوق واجب الوجود قديما أزليا لم يعدم قط، وكونه محدثا مخلوقا يستلزم أن يكون كان معدوما، فيلزم أن يكون موجودا معدوما قديما محدثا، وهو جمع بين النقيضين يمتنع في بداية العقول، وأيضا فالمخلوق يمتنع عليه القدم، ويجب له سابقة العدم، فلو وجب للخالق القديم ما يجب له، لوجب كون الواجب للقدم واجب الحدوث بعد العدم وهذا جمع بين النقيضين، فالعقل الصريح يجزم بأن الله ليس كمثله شيء، والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر لكن أنتم لم تذكروا على ذلك حجة، (بل قلتم إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة، إذ هو الخالق لكل شيء فلم تذكروا حجة) على أنه خالق كل شيء، إذ كان عمدتكم على ما شهدتم حدوثه وليس ذلك كل شيء، ولم تذكروا حجة مع كونه خالق كل شيء على أنه ليس كمثله شيء، بل قلتم لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها لما فيها من التضاد والتقلب فقلنا: إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء، وذلك لننفي العدم عنه، ودليلكم لو دل على العلم بالصانع لم يدل إلا على أنه خالق فكيف إذا لم يدل؟
ولا ريب أن الخالق سبحانه يجب أن يكون موجودا لا معدوما، وهذا معلوم بالضرورة لا يحتاج إلى دليل عند جمهور العقلاء والنظار وإن كان بعضهم أثبت وجوده بالدليل النظري، لكن ليس في دليلكم ما يدل على أنه ليس كالأشياء المخلوقة، وقولكم: إذ هو الخالق لكل شيء يتضمن أنه خالق لكل ما سواه، ليس فيه بيان نفي للمماثلة عنه، ولكن بينتم بهذا الكلام جهلكم بالدلائل العقلية كجهلكم بالكتب المنزلة، وكذلك أخبر - تعالى - عن أهل النار بأنهم يقولون:
{وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10].
[فصل: دلائل وجود الله وحياته]
وأما قولكم: ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين: شيء حي، وشيء غير حي، فوصفناه بأجل القسمين فقلنا إنه حي لننفي الموت عنه.
فيقال: لا ريب أن الله حي كما نطقت بذلك كتبه المنزلة التي هي آياته القولية، ودلت على ذلك آياته كمخلوقاته، التي هي آياته الفعلية، قال - تعالى -:
{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53].
أي القرآن حق، وقد تقدم ذكر القرآن في قوله:
{قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد} [فصلت: 52].
فالله - تعالى - يري عباده من آياته المشاهدة المعاينة الفعلية، ما يبين صدق آياته المنزلة المسموعة القولية.
قال - تعالى -: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [آل عمران: 2]
وقال - تعالى -: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58].
والدلائل على حياته كثيرة:
منها: أنه قد ثبت أنه عالم، والعلم لا يقوم إلا بحي، وثبت أنه قادر مختار يفعل بمشيئته، والقادر المختار لا يكون إلا حيا.
ومنها: أنه خالق الأحياء وغيرهم، والخالق أكمل من المخلوق، فكل كمال ثبت للمخلوق فهو من الخالق، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من خالقه، وكماله أكمل منه.
والمتفلسفة القائلون بالموجب بالذات يسلمون هذا، ويقولون: كمال المعلول مستفاد من علته فإذا كان خالقا للأحياء كان حيا بطريق الأولى والأحرى.
ومنها: أن الحي أكمل من غير الحي، كما قال - تعالى -:
{وما يستوي الأحياء ولا الأموات} [فاطر: 22].
فلو كان الخالق غير حي لزم أن يكون الممكن المحدث المخلوق أكمل من الواجب القديم الخالق، فيكون أنقص الموجودين أكمل من أكملها، وهذا الوجه يتناول ما ذكروه من الدليل، وإن كانوا لم يبينوه بيانا تاما، لكن قولهم قلنا إنه حي لننفي الموت عنه.
كلام مستدرك فإن الله موصوف بصفات الكمال الثبوتية كالحياة والعلم والقدرة، فيلزم من ثبوتها سلب صفات النقص، وهو سبحانه لا يمدح بالصفات السلبية إلا لتضمنها المعاني الثبوتية، فإن العدم المحض والسلب الصرف لا مدح فيه ولا كمال، إذ كان المعدوم يوصف بالعدم المحض، والعدم نفي محض لا كمال فيه، إنما الكمال في الوجود.
ولهذا جاء كتاب الله - تعالى - على هذا الوجه فيصف سبحانه نفسه بالصفات الثبوتية صفات الكمال وبصفات السلب المتضمنة للثبوت كقوله:
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255].
فنفي أخذ السنة والنوم يتضمن كمال حياته وقيوميته، إذ النوم أخو الموت ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون مع كمال الراحة، كما لا يموتون.
والقيوم: القائم المقيم لما سواه، فلو جعلت له سنة أو نوم لنقصت حياته وقيوميته، فلم يكن قائما ولا قيوما، كما ضرب الله المثل لبني إسرائيل، لما سألوا موسى: هل ينام ربك؟ فأرقه ثلاثا، ثم أعطاه قوارير فأخذه النوم فتكسرت.
بين بهذا المثل أن خالق العالم لو نام لنفد العالم، ثم قال - تعالى -:
{له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255].
فإنكاره ونفيه أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه يتضمن كمال ملكه لما في السماوات وما في الأرض، وأنه ليس له شريك، فإن من شفع عنده غيره بغير إذنه وقبل شفاعته كان مشاركا له إذ صارت شفاعته سببا لتحريك المشفوع إليه، بخلاف من لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فإنه منفرد بالملك ليس له شريك بوجه من الوجوه.
ثم قال - تعالى -:
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255].
فنفى أن يعلم أحد شيئا من علمه إلا بمشيئته ليس إلا أنه منفرد بالتعليم، فهو العالم بالمعلومات، ولا يعلم أحد شيئا إلا بتعليمه، كما قالت الملائكة:
{لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة: 32] ثم قال - تعالى -:
{وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما} [البقرة: 255]
أي لا يكرثه ولا يثقل عليه، فبين بذلك كمال قدرته، وأنه لا يلحقه أدنى مشقة، ولا أيسر كلفة في حفظ المخلوقات، كما قال - تعالى - في الآية الأخرى:
{ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38].
بين بذلك كمال قدرته وأنه لا يلحقه اللغوب في الأعمال العظيمة مثل خلقه السماوات والأرض، كما يلحق المخلوق اللغوب إذا عمل عملا عظيما، واللغوب: الانقطاع والإعياء، وهذا باب واسع مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أنه موصوف بصفات الكمال التي يستحقها بذاته ويمتنع اتصافه بنقائضها، وإذا وصف بالسلوب، فالمقصود هو إثبات الكمال، وهؤلاء قالوا: قد وصفناه بالحياة لننفي عنه الموت، كما قالوا: هو شيء لننفي العدم عنه، والحياة صفة كمال يستحقها بذاته، والموت مناقض لها، فلم يوصف بالحياة لأجل نفي الموت، بل وصفه بالحياة يستلزم نفي الموت، فينفي عنه الموت لأنه حي، لا يثبت له الحياة لنفي الموت، وكذلك لتثبت له أنه شيء موجود، وذلك يستلزم نفي العدم عنه، لا أن إثبات وجوده لأجل نفي العدم، بل نفي العدم عنه لأجل وجوده، كما أن نفي الموت عنه لأجل حياته، وكذلك قولهم: قلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة وذلك لننفي العدم عنه، لكن كان مرادهم والله أعلم - وإن كانت عبارتهم قاصرة - إثبات الوجود، ونفي العدم، وإثبات الحياة ونفي الموت.
[فصل: طرق معرفة صفات الرب]
ثم قالوا: ورأينا الحي ينقسم قسمين: حيا ناطقا، وحيا غير ناطق فوصفناه بأفضل الوصفين، فقلنا: إنه ناطق لننفي الجهل عنه.
فيقال لهم: لا ريب أن الرب سبحانه موصوف بأنه حي عليم قدير متكلم مختار، لكن قولهم: فقلنا إنه ناطق لننفي الجهل عنه يقتضي أنكم أردتم النطق المناقض للجهل، وهذا هو العلم، فإن العلم يناقض الجهل لم تريدوا بذلك النطق الذي هو العبارة والبيان، ولم تريدوا بذلك ما جعله بعض النظار كلاما، وهي معاني قائمة بالنفس ليست من جنس العلوم، ولا من جنس الإرادات، وحينئذ فيقال لكم: ليس في الأحياء إلا ما هو شاعر، فكل حي فله شعور بحسبه.
وكلما قويت الحياة قوي شعورها، وشعور الحيوان قد يعبر عنه بلفظ العلم، كما يقول الناس: علم الفهد والبازي والكلب، ويقال: كلب معلم وغير معلم وبازي معلم.
وقال - تعالى -:
{وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله} [المائدة: 4].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله فقتل فكل» ولا ريب أن العلم صفة كمال، فالعالم أكمل من الجاهل، والدلائل الدالة على علم الله كثيرة، مثل أنه سبحانه خالق كل شيء بإرادته.
والإرادة تستلزم تصور المراد فلابد أن يعلم المخلوقات قبل أن يخلقها.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 292)
من صــ 76 الى صـ 90
وكل ما وجد في الخارج فهو موجود وجودا معينا يمتاز به عن غيره، فإذا خلقها كذلك فلابد أن يعلمها علما مفصلا يمتاز به كل معلوم عما سواه، ولو قدر أنه علمها على وجه كلي فقط لم يكن علم منها شيئا،لأن الكلي إنما يكون كليا في الأذهان، وأما ما هو موجود في الخارج فهو معين مختص بعينه ليس بكلي.
وكل واحد من الأفلاك معين، فلو لم يعلم إلا الكليات لم يكن عالما بشيء من الموجودات، وقد بسط في غير هذا الموضع تمام الكلام على هذا وبين فساد شبه نفاة ذلك بما ادعوه من لزوم التغيير أو التكثر، وبين أنه لا يلزم من ثبوت علم الله بالأشياء كلها على وجه التفصيل محذور ينفيه دليل صحيح.
فإن التكثر فيما يقوم به من المعاني هو مدلول الأدلة العقلية والسمعية فإنه عالم قادر حي، وليس العلم هو القدرة، ولا القدرة هي الحياة ولا الصفة هي الموصوف، ومن جعل كل صفة هي الأخرى، وجعل الصفات هي الموصوف، فهو قول في غاية السفسطة.
وأيضا فإنه خالق العالمين من الملائكة والجن والإنس، وجاعلهم علماء، فيمتنع أن يجعل غيره عالما من ليس هو في نفسه بعالم، فإن العلم صفة كمال، ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم، وكل كمال للمخلوق فهو من الخالق، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، وأيضا فإن في الممكنات المحدثة المخلوقة ما هو عالم، والواجب القديم الخالق أكمل من الممكن المحدث، فيمتنع أن يتصف بالكمال الموجود الناقص الخسيس دون الموجود الكامل الشريف، وهذا يتناول معنى حجتهم.
وأيضا فإنه حي، والحياة مستلزمة لجنس العلم، وإذا كانت حياته أكمل من كل حياة فعلمه أكمل من كل علم، لكن يقال لكم: كما أنه حي عالم فهو أيضا قادر، فما ذكرتم بأن الموجودات أو الأحياء تنقسم إلى قادر وغير قادر، فيجب أن يوصف بأجل القسمين، وهو القدرة.
لا سيما ودلائل كونه قادرا أظهر من دلائل كونه عالما، فإن نفس كونه خالقا فاعلا يستلزم كونه قادرا، فإن الفعل بدون القدرة ممتنع حتى إذا قيل: إن الجماد يفعل فإنما يفعل بقوة فيه كالقوى الطبيعية التي في الأجسام الطبيعية، فيمتنع في خالق العالم أن لا يكون له قوة، ولا قدرة، قال - تعالى -:
{إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 58].
وقال - تعالى -:
{أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت: 15].
وفي صحيح البخاري حديث الاستخارة: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب»
وكثير من نظار المسلمين المصنفين في أصول الدين الذين يقيمون الدليل على كونه قادرا قبل كونه عالما وحيا، ويقولون: العلم بذلك أسبق في السلوك الاستدلالي النظري لدلالة الأحداث والفعل على قدرة المحدث الفاعل فيجب أن يثبتوا له صفة القدرة مع العلم.
وكذلك يقولون: إن الحي لما كان ينقسم إلى سميع، وغير سميع، وبصير، وغير بصير، وصفناه بأشرف القسمين، وهو السميع والبصير.
وكذلك في النطق إذا أريد به البيان والعبارة، ولم يرد به مجرد العلم، أو معنى من جنس العلم فإن الحي ينقسم إلى متكلم، ومبين معبر عما في نفسه، وإلى ما ليس كذلك، فيجب أن تصفوه بأشرف القسمين، وهو الكلام المبين المعبر عنه عما في النفس من المعاني.
ومما يستدل به على ثبوت جميع صفات الكمال أنه لو لم يوصف بكونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما لوصف بضد ذلك، كالموت والجهل والعجز والصمم والبكم والخرس، ومعلوم وجوب تقدسه عن هذه النقائص، بل هذا معلوم بالضرورة العقلية، فإنه أكمل الموجودات، وأجلها وأعظمها، ورب كل ما سواه وخالقه ومالكه، وجاعل كل ما سواه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما، فيمتنع أن يكون هو شيئا عاجزا جاهلا أصم أبكم أخرس، بل من المعلوم بضرورة العقل أن المتصف بهذه النقائص يمتنع أن يكون فاعلا، فضلا عن أن يكون خالقا لكل شيء.
ولبعض الملاحدة من المتفلسفة ومن اتبعهم هنا سؤال مشهور وهو: أنه إنما يلزم إذا لم يتصف بصفات الكمال أن يوصف بأضدادها إذا كان قابلا لها، فأما إذا لم يكن قابلا لها لم يلزم.
قالوا: هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة، وهو عدم الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له كعدم الحياة والسمع والبصر.
والكلام عن الحيوان الذي هو القابل له، فإذا لم يكن قابلا له كالجماد، فلا يسمى مع عدم الحياة والسمع والبصر والكلام ميتا ولا أصم ولا أعمى ولا أخرس.
وجواب ذلك من أوجه:
أحدها: أنه إما أن يكون قابلا للاتصاف بصفات الكمال، وإما أن لا يكون.
فإن لم يكن قابلا لزم أن يكون أنقص ممن قبلها، ولم يتصف بها، فالجماد أنقص من الحيوان الذي لم يتصف بعد بصفات كماله، وإن كان قابلا لها لزم إذا عدمها أن يتصف بأضدادها.
وهؤلاء قد يقولون: في إثباتها تشبيه له بالحيوان، فيقال لهم: وفي نفيها تشبيه له بالجماد الذي هو أنقص من الحيوان، فإذا لم يكن في نفيها تشبيه له بالجماد، فكذلك لا يكون في إثباتها تشبيه له بالحيوان، وإن كان في ذلك تشبيه بالحيوان فهو محذور، فالمحذور في تشبيهه بالجماد أعظم وإن لم يكن مثل هذا التشبيه محذورا في ذلك، فأن لا يكون محذورا في هذا بطريق الأولى.
الوجه الثاني: أن جعلهم سلب الموت والصمم والبكم عن الجماد لزعمهم أنه غير قابل لها اصطلاح محض، فإنه موجود في كلام الله تسمية الجماد ميتا، كما قال - تعالى - في الأصنام:
{أموات غير أحياء} [النحل: 21].
الوجه الثالث: أنه يكفي عدم هذه الصفات، فإن مجرد عدم الحياة والعلم والقدرة صفة نقص سواء قدر الموصوف قابلا لها أو غير قابل، بل إذا قدر أنه غير قابل لها كان ذلك أبلغ في النقص.
فعلم أن نفي هذه الصفات عنه، ونفي قبولها يوجب أن يكون أنقص من الحيوان الأعمى الأصم الذي يقبلها، وإن لم يتصف بها.
الوجه الرابع: أن الكمال في الوجود، والنقص في العدم، فنفس ثبوت هذه الصفات كمال، ونفس نفيها نقص، وإن لم يتصف بها لزم نقصه، وأن يكون المفعول أكمل من الفاعل، وأن يكون المحدث الممكن المخلوق أكمل من القديم الأزلي الواجب الوجود الخالق، وهذا ممتنع في بداية العقول، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليها هنا لبيان بعض الطرق التي بها تعرف صفات الرب، وبيان أن هؤلاء القوم من أجهل أهل الملل بالرب.
والطرق التي يعرف بها كماله فيها العقلية والسمعية، وأن القوم عندهم من ألفاظ الأنبياء ما لم يفهموا كثيرا منه وما حرفوا كثيرا منه، وعندهم من المعقول في ذلك ما يفضلهم اليهود فيه، لكن اليهود، وإن كانوا أعلم منهم، فهم أعظم عنادا وكبرا وجحدا للحق، والنصارى أجهل وأضل من اليهود لكن هم أعبد وأزهد وأحسن أخلاقا، ولهذا كانوا أقرب مودة للذين آمنوا من اليهود والمشركين.
[فصل: بيان أسماء الله تعالى]
قالوا: والثلاثة أسماء فهي إله واحد ورب واحد، وخالق واحد، مسمى واحد لم يزل ولا يزال شيئا حيا ناطقا، أي الذات، والنطق، والحياة.
فالذات عندنا: الأب الذي هو ابتداء الاثنين.
والنطق: الابن الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل.
والحياة: هي الروح القدس.
والجواب عن هذا من وجوه:
الأول أن أسماء الله تبارك و - تعالى - متعددة كثيرة، فإنه:
{هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} [الحشر: 22] (22) {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون} [الحشر: 23] (23) {هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الحشر: 24]
وقال - تعالى -:
{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [الأعراف: 180].
وقال - تعالى -:
{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110].
وقال - تعالى -:
{طه} [طه: 1] (1) {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} [طه: 2] (2) {إلا تذكرة لمن يخشى} [طه: 3] (3) {تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا} [طه: 4] (4) {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] (5) {له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى} [طه: 6] (6) {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى} [طه: 7] (7) {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} [طه: 8].
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة»
وهذا معناه في أشهر قولي العلماء وأصحهما أن من أسمائه - تعالى - تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة، وإلا فأسماؤه تبارك و - تعالى -: أكثر من ذلك، كما في الحديث الآخر الذي رواه أحمد في مسنده، وأبو حاتم في صحيحه، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن وقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدل مكانه فرحا، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن، قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن».
وإذا كانت أسماء الله كثيرة، كالعزيز والقدير وغيرها، فالاقتصار على ثلاثة أسماء دون غيرها باطل، وأي شيء زعم الزاعم في اختصاص هذه الأسماء به دون غيرها فهو باطل، كما قد بسط في موضع آخر.
الوجه الثاني: قولهم الأب الذي هو ابتداء الاثنين، والابن: النطق الذي هو مولود منه، كولادة النطق من العقل، كلام باطل، فإن صفات الكمال لازمة لذات الرب عز وجل أولا وآخرا، ولم يزل ولا يزال حيا عالما قادرا، لم يصر حيا بعد أن لم يكن حيا، ولا عالما بعد أن لم يكن عالما.
فإذا قالوا: إن الأب الذي هو الذات، هو ابتداء الحياة والنطق اقتضى ذلك أن يكون الأب قبل الحياة والنطق، وأن يكون فاعلا للحياة والنطق، فإن ما كان ابتداء لغيره يكون متقدما عليه أو فاعلا له.
وهذا في حق الله باطل.
وكذلك قولهم: إن النطق مولود منه كولادة النطق من العقل، فإن المولود من غيره متولد منه، فيحدث بعد أن لم يكن، كما يحدث النطق شيئا فشيئا، سواء أريد بالنطق العلم أو البيان فكلاهما لم يكن لازما للنفس الناطقة، بل حدث فيها واتصفت به بعد أن لم يكن، وإن كانت قابلة له ناطقة بالقوة، فإذا مثلوا تولد النطق من الرب كتولده عن العقل لزم أن يكون الرب كان ناطقا بالقوة، ثم صار ناطقا بالفعل فيلزم أنه صار عالما بعد أن لم يكن عالما، وهذا من أعظم الكفر وأشده استحالة، فإنه لا شيء غيره يجعله متصفا بصفات الكمال بعد أن لم يكن متصفا بها، إذ كل ما سواه فهو مخلوق له وكماله منه، فيمتنع أن يكون هو جاعل الرب سبحانه و - تعالى - كاملا.
وذلك دور ممتنع في صريح العقل، إذ كان الشيء لا يجعل غيره متصفا بصفات الكمال، حتى يكون هو متصفا بها، فإذا لم يتصف بها حتى جعله غيره متصفا بها لزم الدور الممتنع، مثل كون كل من الشيئين فاعلا للآخر وعلة له أو لبعض صفاته المشروطة في الفعل فتبين بطلان كون نطقه متولدا منه، كتولد النطق من العقل، كما بطل أن يكون لصفاته اللازمة له ما هو مبدأ لها متقدم عليها أو فاعل لها.
الوجه الثالث: أن قولهم في الابن أنه مولود من الله إن أرادوا به أنه صفة لازمة له، فكذلك الحياة صفة لازمة لله، فيكون روح القدس أيضا ابنا ثانيا، وإن أرادوا به أنه حصل منه بعد أن لم يكن، صار عالما بعد أن لم يكن عالما، وهذا مع كونه باطلا وكفرا فيلزم مثله في الحياة، وهو أنه صار حيا بعد أن لم يكن حيا.
الوجه الرابع: أن تسمية حياة الله روح القدس أمر لم ينطق به شيء من كتب الله المنزلة، فإطلاق روح القدس على حياة الله من تبديلهم وتحريفهم.
الوجه الخامس: أنهم يدعون أن المتحد بالمسيح هو الكلمة الذي هو العلم، وهذا إن أرادوا به نفس الذات العالمة الناطقة، كان المسيح هو الأب، وكان المسيح نفسه هو الأب، وهو الابن، وهو روح القدس، وهذا عندهم وعند جميع الناس باطل وكفر.
وإن قالوا المتحد به هو العلم، فالعلم صفة لا تفارق العالم، ولا تفارق الصفة الأخرى التي هي حياة، فيمتنع أن يتحد به العلم دون الذات، ودون الحياة.
الوجه السادس: أن العلم أيضا صفة، والصفة لا تخلق ولا ترزق، والمسيح نفسه ليس هو صفة قائمة بغيرها باتفاق العقلاء، وأيضا فهو عندهم خالق السماوات والأرض، فامتنع أن يكون المتحد به صفة، فإن الإله المعبود هو الإله الحي العالم القادر، وليس هو نفس الحياة، ولا نفس العلم والكلام.
فلو قال قائل: يا حياة الله، أو يا علم الله، أو يا كلام الله، اغفر لي، وارحمني واهدني، كان هذا باطلا في صريح العقل، ولهذا لم يجوز أحد من أهل الملل أن يقال للتوراة أو الإنجيل وغير ذلك من كلام الله اغفر لي وارحمني، وإنما يقال للإله المتكلم بهذا الكلام: اغفر لي وارحمني.
والمسيح - عليه السلام - عندكم هو الإله الخالق الذي يقال له اغفر لنا وارحمنا، فلو كان هو نفس علم الله وكلامه لم يجز أن يكون إلها معبودا فكيف إذا لم يكن هو نفس علم الله وكلامه، بل هو مخلوق بكلامه حيث قال له: كن فيكون؟
فتبين من ذلك أن كلمات الله كثيرة لا نهاية لها، وفي الكتب الإلهية كالتوراة أنه خلق الأشياء بكلامه، وكان في أول التوراة أنه قال: ليكن كذا ليكن كذا.
ومعلوم أن المسيح ليس هو كلمات كثيرة، بل غايته أن يكون كلمة واحدة، إذ هو مخلوق بكلمة من كلمات الله عز وجل.
الوجه السابع: أن أمانتكم التي وضعها أكابركم بحضرة قسطنطين، وهي عقيدة إيمانكم التي جعلتموها أصل دينكم تناقض ما تدعونه من أن الإله واحد، وتبين أنكم تقولون لمن يناظركم خلاف ما تعتقدونه.
وهذان أمران معروفان في دينكم تناقضكم وإظهاركم في المناظرة بخلاف ما تقولونه من أصل دينكم، فإن الأمانة التي اتفق عليها جماهير النصارى يقولون فيها: أومن بإله واحد، أب ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء وتأنس وصلب وتألم وقبر، وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب المقدسة، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وأيضا سيأتي بمجده ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب والابن المسجود له، وممجد ناطق في الأنبياء، كنيسة واحدة جامعة رسولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وابن جاء لقيامة الموتى، وحياة الدهر العتيد كونه أمينا.
ففي هذه الأمانة التي جعلتموها أصل دينكم ذكر الإيمان بثلاثة أشياء بإله واحد خالق السماوات والأرض، خالق ما يرى وما لا يرى، فهذا هو رب العالمين الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، وهو إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسائر الأنبياء والمرسلين، وهو الذي دعت جميع الرسل إلى عبادته وحده لا شريك له ونهوا أن يعبد غيره، كما قال الله - تعالى -:
{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25].
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 293)
من صــ 91 الى صـ 105
وقال - تعالى -:
{وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45].
ثم قلتم: وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر، فصرحتم بالإيمان مع خالق السماوات والأرض برب واحد مخلوق، مساو الأب ابن الله الوحيد، وقلتم: هو إله حق من إله حق من جوهر أبيه.
وهذا تصريح بالإيمان بإلهين، أحدهما من الآخر، وعلم الله القائم به، أو كلامه أو حكمته القائمة به الذي سميتموه ابنا، ولم يسم أحد من الرسل صفة الله ابنا ليس هو إله حق من إله حق، بل إله واحد وهذا صفة الإله، وصفة الإله ليست بإله، كما أن قدرته وسمعه وبصره وسائر صفاته ليس بآلهة، ولأن الإله واحد، وصفاته متعددة، والإله ذات متصفة بالصفات قائمة بنفسها، والصفة قائمة بالموصوف، ولأنكم سميتم الإله جوهرا، وقلتم: هو القائم بنفسه، والصفة ليست جوهرا قائما بنفسه.
وهم في هذه الأمانة قد جعلوا الله والدا وهو الأب، ومولودا وهو الابن، وجعلوه مساويا له في الجوهر، وقد نزه الله نفسه عن الأنواع الثلاثة، فقالوا: مولود غير مخلوق مساو الأب في الجوهر، فصرحوا بأنه مساو له في الجوهر، والمساوي ليس هو المساوى.
ولا يساوي الأب في الجوهر إلا جوهر، فوجب أن يكون الابن جوهرا ثانيا، وروح القدس جوهرا ثالثا كما سيأتي.
وهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر، وثلاثة آلهة، ويقولون مع ذلك: إنما نثبت جوهرا واحدا وإلها واحدا، وهذا جمع بين النقيضين،فهو حقيقة قولهم يجمعون بين جعل الآلهة واحدا، وإثبات ثلاثة آلهة، وبين إثبات جوهر واحد، وبين إثباته ثلاثة جواهر، وقد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله:
{قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] (1) {الله الصمد} [الإخلاص: 2] (2) {لم يلد ولم يولد} [الإخلاص: 3] (3) {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4].
فنزه نفسه أن يلد كما يقولون: هو الأب، وأن يولد كما يقولون: هو الابن، وأن يكون له كفوا أحد، كما يقولون: إن له من يساويه في الجوهر.
وإذا قلتم نحن نقول أحدي الذات ثلاثي الصفات، قيل لكم: قد صرحتم بإثبات إله حق من إله حق وبأنه مساو للأب في الجوهر، وهذا تصريح بإثبات جوهر ثاني لا بصفة، فجمعتم بين القولين بين إثبات ثلاثة جواهر، وبين دعوى إثبات جوهر واحد، ولا ينجيكم من هذا اعتذار من اعتذر منكم كيحيى بن عدي ونحوه حيث قالوا: هذا بمنزلة قولك: زيد الطبيب الحاسب الكاتب، ثم تقول: زيد الطبيب وزيد الحاسب وزيد الكاتب.
فهو مع كل صفة له حكم خلاف حكمه مع الصفة الأخرى، وقد يفسرون الأقنوم بهذا، فيقولون: الأقنوم هو الذات مع الصفة، فالذات مع كل صفة أقنوم، فصارت الأقانيم ثلاثة، لأن هذا المثال لا يطابق قولكم، فإن زيدا هنا هو جوهر واحد له ثلاث صفات: الطب والحساب والكتابة، وليس هنا ثلاثة جواهر، ولكن لكل صفة حكم ليس للأخرى.
ولا يقول عاقل: إن الصفة مساوية للموصوف في الجوهر، ولا أن الذات مع هذه الصفة تساوي الذات مع الصفة الأخرى في الجوهر، لأن الذات واحدة والمساوي ليس هو المساوى، ولأن الذات مع الصفة هي الأب فإن كان هذا هو الذي اتحد بالمسيح فالمتحد به هو الأب، ولأنكم قلتم عن هذا الذي قلتم: (إنه إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي هو مساو الأب في الجوهر وأنه نزل، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء، وتأنس وصلب وتألم) فاقتضى ذلك أن يكون الإله الحق المساوي للأب في الجوهر صلب وتألم، فيكون اللاهوت مصلوبا متألما، وهذا تقر به طوائف منكم، وطوائف تنكره، لكن مقتضى أمانتكم هو الأول.
وأيضا فإذا كان تجسد من روح القدس ومريم، فإن كان روح القدس هو حياة الله، كما زعمتم فيكون المسيح كلمة الله وحياته، فيكون لاهوته أقنومين من الأقانيم الثلاثة، وعندهم إنما هو أقنوم الكلمة فقط وإن كان روح القدس ليس هو حياة الله بطل تفسيركم لروح القدس بأنه حياة الله.
وقيل لكم: لا يجب أن يكون روح القدس صفة لله ولا أقنوما.
ثم ذكرتم في عقيدة أمانتكم أنكم تؤمنون بروح القدس الرب المحيي، فأثبتم ربا ثالثا، قلتم المنبثق من الأب والانبثاق: الانفجار، كالاندفاق والانصباب، ونحو ذلك، يقال: بثق السيل موضع كذا يبثقه بثقا أي خرقه وشقه فانبثق أي انفجر، فاقتضى ذلك أن يكون هذا الرب المحيي انفجر من الأب واندفق منه.
ثم قلتم: هو مع الأب مسجود له وممجد ناطق في الأنبياء فجعلتموه مع الأب مسجودا له فأثبتم إلها ثالثا يسجد له.
ومعلوم أن حياة الله التي هي صفته ليست منبثقة منه، بل هي قائمة به لا تخرج عنه البتة، وهي صفة لازمة له لا تتعلق بغيره، فإن العلم يتعلق بالمعلومات، والقدرة بالمقدورات والتكليم بالمخاطبين بخلاف التكلم فإنه صفة لازمة، يقال: علم الله كذا، وقدر الله على كل شيء، وكلم الله موسى.
وأما الحياة: فاللفظ الدال عليها لازم لا يتعلق بغير الحي، يقال حيا يحيا حياة، ولا يقال حيا كذا ولا بكذا، وإنما يقال: أحيا كذا، والإحياء فعل غير كونه حيا، كما أن التعليم غير العلم، والإقدار غير القدرة، والتكليم غير التكلم، ثم جعلتم روح القدس هذا ناطقا في الأنبياء - عليهم السلام -، وحياة الله صفة قائمة به لا تحل في غيره، وروح القدس الذي تكون في الأنبياء والصالحين ليس هو حياة الله القائمة به، ولو كان روح القدس الذي في الأنبياء هو أحد الأقانيم الثلاثة لكان كل من الأنبياء إلها معبودا قد اتحد ناسوته باللاهوت كالمسيح عندكم، فإن المسيح لما اتحد به أحد الأقانيم صار ناسوتا ولاهوتا، فإذا كان روح القدس الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة ناطقا في الأنبياء كان كل منهم فيه لاهوت وناسوت كالمسيح وأنتم لا تقرون بالحلول والاتحاد إلا للمسيح وحده مع إثباتكم لغيره ما ثبت له.
وهم تارة يشبهون الأقنومين - العلم والحياة التي يسمونها الكلمة وروح القدس - بالضياء والحرارة التي للشمس، مع الشمس ويشبهون ذلك بالحياة والنطق الذي للنفس مع النفس، وهذا تشبيه فاسد، فإنهم إن أرادوا بالضياء والحرارة ما يقوم بذات الشمس، فذلك صفة للشمس قائمة بها لم تحل بغيرها ولم تتحد بغيرها، كما أن صفة النفس كذلك هذا إن قيل إن الشمس تقوم به حرارة، وإلا فهذا ممنوع.
والمقصود هنا: بيان فساد كلامهم وقياسهم.
وإن أرادوا ما هو بائن عن الشمس قائم بغيرها. كالشعاع القائم بالهواء والأرض، والحرارة القائمة بذلك كان هذا دليلا على فساد قولهم من وجوه:
منها: أن هذه أعراض منفصلة بائنة عن الشمس قائمة بغيرها لا بها، ونظير هذا ما يقوم بقلوب الأنبياء من العلم والحكمة والوحي الذي أنذروا به، وعلى هذا التقدير فليس في الناسوت شيئا من اللاهوت وإنما فيه آثار حكمته وقدرته.
ومنها: أن الحرارة والضوء القائم بالهواء والجدران أعراض قائمة بغير الشمس، والكلمة وروح القدس عندهم هما جوهران.
ومنها: أن هذا ليس هو الشمس، ولا صفة من صفات الشمس، وإنما هو أثر حاصل في غير الشمس بسبب الشمس، ومثل هذا لا ينكر قيامه بالأنبياء والصالحين، ولكن ليس للمسيح - عليه السلام - بذلك اختصاص، فما حل بالمسيح حل بغيره من المرسلين، وما لم يحل بغيره لم يحل به فلا اختصاص له بأمر يوجب أن يكون إلها دون غيره من الرسل، ولا هنا اتحاد بين اللاهوت والناسوت، كما لم تتحد الشمس ولا صفاتها القائمة بها بالهواء، والأرض التي حصل بها الشعاع والحرارة.
[فصل: رد دعواهم أن الله قد سمى نفسه أبا وابنا وروح قدس]
قالوا: وهذه الأسماء لم نسمه نحن معشر النصارى بها من ذات أنفسنا، بل الله سمى لاهوته بها، وذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطبا بني إسرائيل قائلا: أليس هذا الأب الذي صنعك وبراك واقتناك؟ وعلى لسانه أيضا قائلا: وكان روح الله ترف على الماء وقوله على لسان داود النبي: روحك القدس لا تنزع مني، وأيضا على لسانه بكلمة الله تشددت السماوات والأرض وبروح فاه جميع قواتهن.
وقوله: على لسان أشعيا: (ييبس القتاد ويجف العشب، وكلمة الله باقية إلى الأبد، وعلى لسان أيوب الصديق، روح الله خلقني وهو يعلمني).
وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس للتلاميذ الأطهار: (اذهبوا إلى جميع العالم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به)، وقد قال في هذا الكتاب:
{ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} [الصافات: 171].
وقال أيضا:
{ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس} [المائدة: 110].
وقال أيضا:
{وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164]
وقال في سورة التحريم:
{ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12].
وسائر المسلمين يقولون: إن الكتاب كلام الله ولا يكون كلام إلا لحي ناطق، وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء، وكل صفة منها غير الأخرى والإله واحد لا يتبعض ولا يتجزأ.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن تقول: إن كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يكون إلا حقا وصدقا، ولا يكون فيه شيء يعلم بطلانه بصريح العقل، وإن كان فيه ما يعجز العقل عن معرفته بدون إخبار الأنبياء، ولا يكون كلام النبي الذي يخبر به مناقضا لكلامه في موضع آخر، ولا لكلام سائر الأنبياء، بل كل ما أخبرت به الأنبياء فهو حق وصدق، يصدق بعضه بعضا.
وقد أوجب الله علينا أن نؤمن بكل ما أخبروا به، وحكم بكفر من آمن ببعض ذلك، وكفر ببعضه، فما علم بصريح العقل لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن الأنبياء وما علم بالنقل الصحيح عن بعضهم لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن غيره، ولكن قد يختلف بعض الشرع والمناهج في الأمر والنهي.
فأما ما يخبرون به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر،وغير ذلك، فلا يجوز أن يناقض بعضه بعضا.
وإذا كان كذلك فما ينقلونه عن الأنبياء إنما تتم الحجة به إذ علم إسناده ومتنه، فيعلم أنه منقول عنهم نقلا صحيحا، ونعلم أن ترجمته من العبرية إلى اللسان الآخر، كالرومية والعربية والسريانية ترجمة صحيحة ويعلم بعد ذلك أنهم أرادوا به ذلك المعنى.
وليس مع النصارى حجة عن الأنبياء تثبت فيها هذه المقدمات الثلاث ونحن في هذا المقام يكفينا المنع، والمطالبة لهم بتصحيح هذه المقدمات فإنهم ادعوا أن التثليث أخذوه عن الأنبياء، فنحن نطالبهم بتصحيح هذه المقدمات.
والجواب الثاني: أنا نبين تفسير ما ذكروه من الكلمات، أما قوله على لسان موسى - عليه السلام - مخاطبا بني إسرائيل قائلا: (أليس الأب الذي صنعك وبراك واقتناك)؟ فهذا فيه أنه سماه أبا لغير المسيح - عليه السلام -، وهذا نظير قوله لإسرائيل: (أنت ابني بكري)، وداود (ابني حبيبي)، وقول المسيح (أبي وأبيكم) وهم يسلمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب لا معنى التولد الذي يخصون به المسيح.
الثالث: أن هذا حجة عليهم، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أبا لغير المسيح وليس المراد بذلك إلا معنى الرب، علم أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب، فيجب حمله في حق المسيح على هذا المعنى، لأن الأصل عدم الاشتراك في الكلام.
الرابع: أن استعماله في المعنى الذي خصوا به المسيح، إنما يثبت إذا علم أنه أريد المعنى الذي ادعوه في المسيح فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب لزم الدور، فإنه لا يعلم أنه أريد به ذلك المعنى من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى ولا يثبت ذلك، حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح، فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر لم يعلم واحد منهما، فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح، بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع.
الوجه الخامس: أنه يوجد في كتب الأنبياء وكلامهم إطلاق اسم الأب، والمراد به أب اللاهوت، ولا إطلاق اسم الابن والمراد به شيء من اللاهوت لا كلمته ولا حياته، بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق، فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق.
وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مسمى الابن في حق المسيح هو الناسوت، وهذا يبطل قولهم: إن الابن وروح القدس أنهما صفتان لله وأن المسيح اسم للاهوت والناسوت، فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى، وتناقض أمانتهم، فهم بين أمرين:
بين الإيمان بكلام الأنبياء (وبطلان دينهم.
وبين تصحيح دينهم وتكذيب الأنبياء)، وهذا هو المطلوب.
[فصل: إبطال تمثيلهم الصفات بشعاع الشمس]
وأما قولهم: كل صفة منها غير الأخرى:
فهذا إن أرادوا به أن صفات الرب سبحانه وتعالى قد تباينه وتنفصل عنه، وهو حقيقة قولهم. ويقولون مع ذلك: إنها متصلة به، فهو جمع بين النقيضين، وتمثيلهم بشعاع الشمس تمثيل باطل، وهو حجة عليهم لا لهم.
فإن الشعاع القائم بالهواء والأرض والجبال والشجر والحيطان، ليس هو قائما بذات الشمس.
والقائم بذات الشمس، ليس هو قائما بالهواء والأرض.
فإن قالوا: بل ما يقوم به من العلم يفيض منه على قلوب الأنبياء علوم، كما يفيض الشعاع من الشمس.
قيل لهم: لا اختصاص للمسيح بهذا، بل هذا قدر مشترك بينه وبين غيره من الأنبياء، وليس في هذا حلول ذات الرب ولا صفته القائمة به بشيء من مخلوقاته، ولا أن العبد بما حل فيه من العلم والإيمان يصير إلها معبودا.
وإن أرادوا أنها قائمة به، وتسمى كل واحدة غير الأخرى، فهنا نزاع لفظي، هل تسمى غيرا أو لا تسمى غيرا؟
فإن من الناس من يقول: كل صفة للرب عز وجل فهي غير الأخرى، ويقول: الغيران ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر.
ومنهم من يقول ليست هي الأخرى، ولا هي هي؛ لأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود.
والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إذا قيل لهم: علم الله وكلام الله، هل هو غير الله أم لا؟ لم يطلقوا النفي ولا الإثبات، فإنه إذا قال: غيره؛ أوهم أنه مباين له.
وإذا قال: ليس غيره؛ أوهم أنه هو، بل يستفصل السائل، فإن أراد بقوله: غيره؛ أنه مباين له منفصل عنه - فصفات الموصوف لا تكون مباينة له منفصلة عنه، وإن كان مخلوقا، فكيف بصفات الخالق؟
وإن أراد بالغير أنها ليست هي هو، فليست الصفة هي الموصوف، فهي غيره بهذا الاعتبار، واسم الرب تعالى إذا أطلق يتناول الذات المقدسة بما يستحقه من صفات الكمال، فيمتنع وجود الذات عرية عن صفات الكمال.
فاسم الله يتناول الذات الموصوفة بصفات الكمال، وهذه الصفات ليست زائدة على هذا المسمى،، بل هي داخلة في المسمى، ولكنها زائدة على الذات المجردة التي تثبتها نفاة الصفات، فأولئك لما زعموا أنه ذات مجردة قال هؤلاء: بل الصفات زائدة على ما أثبتموه من الذات.
وأما في نفس الأمر، فليس هناك ذات مجردة تكون الصفات زائدة عليها، بل الرب تعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال، وصفاته داخلة في مسمى أسمائه سبحانه وتعالى.
[فصل: بيان تناقض قول النصارى في عقيدة إيمانهم]
وقولهم: فالإله واحد، خالق واحد، رب واحد.
هو حق في نفسه، لكن قد نقضوه بقولهم في عقيدة إيمانهم: (نؤمن برب واحد، يسوع المسيح ابن الله الوحيد، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مساو الأب في الجوهر) فأثبتوا هنا إلهين، ثم أثبتوا روح القدس إلها ثالثا، وقالوا إنه مسجود له، فصاروا يثبتون ثلاثة آلهة، ويقولون: إنما نثبت إلها واحدا، وهو تناقض ظاهر، وجمع بين النقيضين، بين الإثبات والنفي.
ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين، ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولا، وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولا، وامرأته قولا آخر، وابنه قولا ثالثا.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 294)
من صــ 106 الى صـ 120
[فصل: تناقض قولهم لا يتبعض ولا يتجزأ]
وقولهم: (لا يتبعض ولا يتجزأ) مناقض لما ذكروه في أمانتهم، ولما يمثلونه به.
فإنهم يمثلونه بشعاع الشمس، والشعاع يتبعض ويتجزأ، فإن ما يقوم منه بهذا الموضع بعض وجزء منه، ويمكن زوال بعضه مع بقاء بعض، فإنه إذا وضع على مطرح الشعاع شيء فصل ما بين جانبيه، وصار الشعاع الذي كان بينهما على ذلك الفوقاني فاصلا بين الشعاعين السافلين.
يبين ذلك أن الشعاع قائم بالأرض والهواء، وكل منهما متجزئ متبعض، وما قام بالمتبعض فهو متبعض، فإن الحال يتبع المحل، وذلك يستلزم التبعض والتجزيء فيما قام به.
ويقولون أيضا: إنه اتحد بالمسيح وأنه صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وعندهم أن اللاهوت منذ اتحد بالناسوت لم يفارقه،، بل لما صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب كان الصاعد عندهم هو المسيح الذي هو ناسوت ولاهوت إله تام، وإنسان تام، فهم لا يقولون: إن الجالس عن يمين الأب هو الناسوت فقط، بل اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا؟
وليس هذا من كلام الأنبياء حتى يقال: إن له معنى لا نفهمه، بل هو من كلام أكابرهم الذي وضعوه وجعلوه عقيدة إيمانهم، فإن كانوا تكلموا بما لا يعقلونه، فهم جهال لا يجوز أن يتبعوا، وإن كانوا يعقلون ما قالوه، فلا يعقل أحد من كون اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت المجرد عن الاتحاد، إلا أن هذا اللاهوت المجرد منفصل مباين للاهوت المتحد، وليس هو متصلا به، بل غايته أن يكون مماسا له، بل يجب أن يكون الذي يماس اللاهوت المجرد هو الناسوت مع اللاهوت المتحد به، فهذا حقيقة التبعيض والتجزئة مع انفصال أحد البعضين عن الآخر.
وأيضا فيقال لهم: المتحد بالمسيح أهو ذات رب العالمين، أم صفة من صفاته؟ فإن كان هو الذات، فهو الأب نفسه، ويكون المسيح هو الأب نفسه، وهذا مما اتفق النصارى على بطلانه؛ فإنهم يقولون: هو الله، وهو ابن الله، كما حكى الله عنهم، ولا يقولون هو الأب والابن، والأب عندهم هو الله، وهذا من تناقضهم.
وإن قالوا: المتحد بالمسيح صفة الرب فصفة الرب لا تفارقه، ولا يمكن اتحادها ولا حلولها في شيء دون الذات.
وأيضا فالصفة نفسها ليست هي الإله الخالق رب العالمين، بل هي صفته، ولا يقول عاقل: إن كلام الله أو علم الله أو حياة الله، هي رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض، فلو قدر أن المسيح هو صفة الله نفسها لم يكن هو الله، ولم يكن هو رب العالمين، ولا خالق السماوات والأرض.
والنصارى يقولون: إن المسيح رب العالمين خالق كل شيء، وهو خالق آدم ومريم، وإن كان ابن آدم ومريم، فإنه خالق ذلك بلاهوته، وهو ابن آدم ومريم بناسوته.
فلو قدر أن المسيح هو صفة الرب لم تكن الصفة هي الخالق، فكيف والمسيح ليس هو صفة الله نفسها، بل هو مخلوق بكلمة الله، وسمي كلمة الله، لأن الله كونه (بكن)؟
وقال تعالى:
{ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} [مريم: 34] (34) {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [مريم: 35].
وسماه روحه، لأنه خلقه من نفخ روح القدس في أمه، لم يخلقه كما خلق غيره من أب آدمي.
قال الله تعالى:
{إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} [آل عمران: 45] (45) {ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين} [آل عمران: 46] (46) {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47]
وإن قالوا: المتحد به بعض ذلك دون بعض، فقد قالوا بالتبعيض والتجزئة، فهم بين أمرين: إما بطلان مذهبهم، وإما اعترافهم بالتبعيض والتجزئة مع بطلانه.
وأيضا فقولهم: (إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر، ابن الله الوحيد، المولود قبل كل الدهور).
يقال لهم: هذا الابن المولود المساوي للأب في الجوهر، الذي هو إله حق من إله حق، هل هو صفة قائمة بغيرها؟ أو عين قائمة بنفسها؟
فإن كان الأول، فالصفة ليست إلها ولا هي خالقة، ولا يقال لها: مولودة من الله، ولا إنها مساوية لله في الجوهر، ولم يسم قط أحد من الأنبياء، ولا أتباع الأنبياء صفات الله لا ابنا له ولا ولدا، ولا قال: إن صفة الله تولدت منه، ولا قال عاقل: إن الصفة القديمة تولدت من الذات القديمة.
وهم يقولون: إن المسيح إله خلق السماوات والأرض لاتحاد ناسوته بهذا الابن المولود قبل كل الدهور، المساوي الأب في الجوهر.
وهذا كله نعت عين قائمة بنفسها، كالجواهر القائمة بنفسها، لا نعت صفات قائمة بغيرها، وإذا كان كذلك كان التبعيض والتجزئة لازمة لقولهم، فإن القول بالولادة الطبيعية مستلزم لأن يكون خرج منه جزء، قال تعالى:
{وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين} [الزخرف: 15] (15) {أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين} [الزخرف: 16] (16) {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم} [الزخرف: 17] (17) {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف: 18] (18) {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} [الزخرف: 19].
وأما هذا المعنى الذي يثبته من يثبته من علماء النصارى ويسمونه ولادة وبنوة فيسمونه الصفة القديمة الأزلية القائمة بالموصوف ابنا، ويسمونها تارة النطق، وتارة الكلمة، وتارة العلم، وتارة الحكمة، ويقولون: هذا مولود من الله، وابن الله.
فهذا لم يقله أحد من الأنبياء وأتباعهم، ولا من سائر العقلاء غير هؤلاء المبتدعة من النصارى، ولا يفهم أحد من العقلاء من اسم الولادة والبنوة هذا المعنى.
والأنبياء لم يطلقوا لفظ الابن إلا على مخلوق، وهم يقولون: هو أب للمسيح بالطبع، ولغيره بالوضع، فلا يعقل جمهور العقلاء وغيرهم من هذا المعنى إلا البنوة المعقولة بانفصال جزء من الوالد، وهذا ينكره من ينكره من علمائهم.
لكنهم لم يتبعوا الأنبياء، ولم يقولوا ما تعقله العقلاء، فضلوا فيما نقلوه عن الأنبياء، وأضلوا أتباعهم فيما قالوه، وعوامهم، وإن كانوا لا يقولون: إن ولادة الله مثل ولادة الحيوان بانفصال شيء يوجد، فيقولون: ولادة لاهوتية بانفصال جزء من اللاهوت حل في الناسوت، لا يعقل من الولادة غير هذا.
وأيضا فقولهم: (ونؤمن بروح القدس الرب المحي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له، وممجد ناطق في الأنبياء، فقولهم: المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له وممجد، يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب القائمة به، فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات، إذ لو كان القائم بنفسه منبثقا لكان علمه وقدرته، وسائر صفاته منبثقة منه، بل الانبثاق في الكلام أظهر منه في الحياة، فإن الكلام يخرج من المتكلم، وأما الحياة فلا تخرج من الحي، فلو كان في الصفات ما هو منبثق لكان الصفة التي يسمونها الابن، ويقولون: هي العلم والكلام أو النطق والحكمة - أولى بأن تكون منبثقة من الحياة التي هي أبعد عن ذلك من الكلام.
وقد قالوا أيضا: إنه مع الأب مسجود له وممجد، والصفة القائمة بالرب ليست معه مسجود لها، وقالوا: هو ناطق في الأنبياء، وصفة الرب القائمة به لا تنطق في الأنبياء،، بل هذا كله صفة روح القدس الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء، أو صفة ملك من الملائكة كجبريل، فإذا كان هذا منبثقا من الأب، والانبثاق الخروج، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا.
وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من الشمس كان هذا باطلا من وجوه:
منها: أن الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض، وليس جوهرا قائما بنفسه، وهذا عندهم حي مسجود له، وهو جوهر.
ومنها: أن ذلك الشعاع القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس، ولا قائما بها، وحياة الرب صفة قائمة به.
ومنها: أن الانبثاق خصوا به روح القدس، ولم يقولوا في الكلمة: إنها منبثقة.
والانبثاق لو كان حقا لكان بالكلمة أشبه منه بالحياة، وكلما تدبر العاقل كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد ما لا يخفى إلا على أجهل العباد، ووجد فيه من مناقضته التوراة والإنجيل، وسائر كتب الله - ما لا يخفى من تدبر هذا وهذا.
ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا يخفى إلا على معاند أو جهول، فقولهم متناقض في نفسه، مخالف لصريح المعقول، وصحيح المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين.
[فصل: رد زعمهم أنه لا يلزمهم عبادة ثلاثة آلهة وأنه لا لوم عليهم في التثليث لما سبق لهم من شهادات الأنبياء]
قالوا: وقد علمنا أنه لا يلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة، بل إله واحد، كما لا يلزمنا إذا قلنا: الإنسان ونطقه وروحه ثلاثة أناسي، بل إنسان واحد، ولا إذا قلنا: لهيب النار وضوء النار وحرارة النار ثلاثة نيران، ولا إذا قلنا: قرص الشمس، وضوء الشمس وشعاع الشمس ثلاثة شموس، وإذا كان هذا رأينا في الله تقدست أسماؤه، وجلت آلاؤه فلا لوم علينا، ولا ذنب لنا إذ لم نهمل ما تسلمناه ولا نرفض ما تقلدناه ونتبع ما سواه، (ولا سيما أن لنا هذه الشهادات البينات والدلائل الواضحات من الكتاب الذي أتى به هذا الرجل).
والجواب من وجوه:
أحدها أنكم صرحتم بتعدد الآلهة والأرباب في عقيدة إيمانكم وفي استدلالكم وغير ذلك من كلامكم، فليس ذلك شيئا ألزمكم الناس به، بل أنتم تصرحون بذلك، كما تقدم من قولكم: نؤمن بإله واحد، أب، ضابط الكل، خالق ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور إله حق من إله حق، من جوهر أبيه يولد، غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي مع الأب، مسجود له وممجد.
فهذا تصريح بالثلاثة أرباب، وأن الابن إله حق من إله حق، ومع تصريحكم بثلاثة أرباب وتصريحكم بأن هذا إله حق من إله حق، تقولون: إن ذلك إله واحد، وهذا تصريح بتعدد الآلهة مع القول بإله واحد.
ولو لم تذكروا ما يقتضي أنه جوهر آخر، لأمكن أن يحمل كلامكم على عطف الصفة، لكن يكون كلامكم أعظم كفرا، فتكونون قد جعلتم المسيح هو نفس الإله الواحد الأب، خالق ما يرى وما لا يرى، وهذا أعظم من كفركم مع أن هذا حقيقة قولكم، فإنكم تقولون: المسيح هو الله، وتقولون: هو ابن الله (كما ذكر الله القولين عنكم في كلامه، وكفركم بذلك، وليس هذا قول طائفة وهذا قول طائفة) كما يقوله بعض الناس، بل القولان جميعا يقولهما فرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية ونحوهم، وهذا أيضا من تناقضكم فإنه إن كان هو الله لم يكن هو ابن الله، سواء عبر بالابن عن الصفة أو غيرها فإن الأب هو الذات، والذات ليست هي الصفة، وإن عنى بالابن الذات مع صفة الكلام، كما تفسرون الأقنوم بذلك - فهذه الذات متصفة مع ذلك بالحياة، والكلام - سواء عنوا به العلم أو البيان مع العلم - هو مع الحياة قائم بالأب، والصفة ليست عين الموصوف، بل ولا يعبر عنها بأنها ابن الموصوف، ولا عبر بذلك أحد من الأنبياء عليهم السلام.
والمقصود أنهم لم يريدوا بقولهم: وبرب واحد يسوع المسيح - عطف الصفة، وأن هذا هو الأب كما قال: إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب فهذا إله واحد، والعطف لتغاير الصفة، فلو كان المراد بالابن نفس الأب لكان هذا خلاف مذهبهم، ويكونون قد جعلوه إلها من نفسه فقالوا: إلهان، بل ثلاثة، وهو واحد.
فهذا لو أرادوه لكان أعظم في الكفر، بل قالوا: وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق. فصرحوا بأنه رب، وأنه إله حق من إله حق، وصرحوا بإله ثان مع الإله الأول.
وقالوا مع ذلك: إنه مولود من الأب قبل كل الدهور، وإنه مولود غير مخلوق، فامتنع أن يريدوا بذلك الناسوت، فإن الناسوت مخلوق.
وهم يقولون: إن الكلمة هي المتولدة من الأب. والكلمة صفة المتكلم وقائمة به، والكلام ليس برب ولا بإله، بل هو كلام الرب الإله، كما أن سائر كلام الله كالتوراة والإنجيل والقرآن ليس هو الرب والإله، ثم قلتم: مساو الأب في الجوهر فاقتضى هذا أن يكون المولود الذي هو الكلمة جوهرا، وأنه مساو الأب في الجوهر، والمساوى ليس هو المساوي.
وهذا يقتضي إثبات جوهر ثان مساو الجوهر الأول، وهو صريح بإثبات إلهين، ويقولون مع ذلك: إنه إله واحد جوهر واحد، ولا يقال الجوهر مع العلم الذي يعبرون عنه بالأقنوم مساو الجوهر الذي هو الذات؛ فإن الجوهر هو الذات، وليس هنا جوهران، أحدهما مجرد عن العلم، والآخر متصف به، حتى يقال: إن أحدهما مساو للآخر، بل الرب تعالى هو الذات المتصفة بالعلم، فإن كان الأب هو الذات المجردة، فالابن أكمل من الأب، وهو الذات مع العلم، والأب بعض الابن.
وكذلك يلزمهم أن يكون الابن هو بعض روح القدس؛ فإنهم في أمانتهم جعلوا روح القدس هو الرب المحيي، والرب المحيي هو الذات المتصفة بالحياة، والذات المجردة بعض ذلك، فإن كان الأب هو الذات المجردة فالابن بعض روح القدس.
ثم قلتم في أقنوم روح القدس الذي جعلتموه الرب المحيي -: إنه منبثق من الأب مسجود له ممجد، ناطق في الأنبياء، فإن كان المنبثق ربا حيا، فهذا إثبات إله ثالث، وقد جعلتم الذات الحية منبثقة من الذات المجردة، وفي كل منهما من الكفر والتناقض ما لا يخفى.
ثم جعلتم هذا الثالث مسجودا له، والمسجود له هو الإله المعبود، وهذا تصريح بالسجود لإله ثالث مع ما فيه من التناقض، ثم جعلتموه ناطقا بالأنبياء، وهذا تصريح بحلول هذا الأقنوم الثالث بجميع الأنبياء، فيلزمكم أن تجعلوا كل نبي مركبا من لاهوت وناسوت، وأنه إله تام وإنسان تام، كما قلتم في المسيح إذ لا فرق بين حلول الكلمة وحلول روح القدس، كلاهما أقنوم.
وأيضا فيمتنع حلول إحدى الصفتين دون الأخرى، وحلول الصفة دون الذات، فيلزم أن يكون الإله الحي الناطق بأقانيمه الثلاثة حالا في كل نبي، ويكون كل نبي هو رب العالمين، ويقال مع ذلك: هو ابنه، وفي هذا من الكفر الكبير والتناقض العظيم ما لا يخفى، وهذا لازم للنصارى لزوما لا محيد عنه، فإن ما ثبت للشيء ثبت لنظيره، ولا يجوز التفريق بين المتماثلين، وليس لهم أن يقولوا: الحلول أو الاتحاد في المسيح ثبت بالنص، ولا نص في غيره، لوجوه:
أحدها: أن النصوص لم تدل على شيء من ذلك، كما قد تبين.
الثاني: أن في غير المسيح من النصوص ما شابه النصوص الواردة فيه، كلفظ الابن، ولفظ حلول روح القدس فيه، ونحو ذلك.
الثالث: أن الدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول، وليس كل ما علمه الله وأكرم به أنبياءه أعلم به الخلق بنص صريح، بل من جملة الدلالات دلالة الالتزام.
وإذا ثبت الحلول والاتحاد في أحد النبيين بمعنى مشترك بينه وبين النبي الآخر - وجب التسوية بين المتماثلين، كما إذا ثبت أن النبي يجب تصديقه لأنه نبي.
ويكفر من كذبه لأنه نبي، فيلزم من ذلك أنه يجب تصديق كل نبي وتكفير من كذبه.
الرابع: هب أنه لا دليل على ثبوت ذلك في الغير، فيلزم تجويز ذلك في الغير؛ إذ لا دليل على انتفائه، كما يقولون: إن ذلك كان ثابتا في المسيح قبل إظهاره الآيات على قولهم، وحينئذ فيلزمهم أن يجوزوا في كل نبي أن يكون الله قد جعله إلها تاما وإنسانا تاما كالمسيح وإن لم يعلم ذلك.
الخامس: أنه لو لم يقع ذلك، لكنه جائز عندهم، إذ لا فرق في قدرة الله بين اتحاده بالمسيح واتحاده بسائر الآدميين، فيلزمهم تجويز أن يجعل الله كل إنسان إلها تاما وإنسانا تاما، ويكون كل إنسان مركبا من لاهوت وناسوت، وقد تقرب إلى هذا اللازم الباطل من قال بأن أرواح بني آدم من ذات الله، وأنها لاهوت قديم أزلي، فيجعلون نصف كل آدمي لاهوتا، ونصفه ناسوتا، وهؤلاء يلزمهم من المحالات أكثر مما يلزم النصارى من بعض الوجوه، والمحالات التي تلزم النصارى أكثر، من بعض الوجوه.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 295)
من صــ 121 الى صـ 135
الوجه الثاني: قولهم: ولا يلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة بل إله واحد، كما لا يلزمنا إذا قلنا: الإنسان وروحه ونطقه ثلاثة أناسي، ولا إذا قلنا: النار وحرها وضوءها ثلاث نيران، ولا إذا قلنا: الشمس وضوءها وشعاعها ثلاث شموس.
فيقال: هذا تمثيل باطل لوجوه:
أحدها: أن حر النار وضوءها القائم بها ليس نارا من نار، ولا جوهرا من جوهر، ولا هو مساوي النار والشمس في الجوهر، وكذلك نطق الإنسان، ليس هو إنسانا من إنسان، ولا هو مساو الإنسان في الجوهر، وكذلك الشمس وضوءها القائم بها وشعاعها القائم بها - ليس شمسا ولا جوهرا قائما بنفسه، وأنتم قلتم: إله حق من إله حق، فقلتم في الأمانة: (نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مساوي الأب في الجوهر)، وقلتم في روح القدس: (إنه رب ممجد مسجود له) فأثبتم ثلاثة أرباب.
والثاني: أن الضوء في الشمس والنار يراد به نفس الضوء القائم بها، ويراد به الشعاع القائم بالأرض والجدران، وهذا مباين لها ليس قائما بها، ولفظ النور يعبر به عن هذا وهذا، وكلاهما صفة قائمة بغيرها وعرض، وقد يراد بلفظ النور نفس النار ونفس الشمس والقمر،فيكون النور جوهرا قائما بنفسه، وإذا كان كذلك فهم جعلوا الأب ربا جوهرا قائما بنفسه، والابن أيضا ربا جوهرا قائما بنفسه، وروح القدس ربا جوهرا قائما بنفسه.
ومعلوم أن ضوء النار والشمس وحرارتها ليس كل منهما شمسا ونارا قائما بنفسها، ولا جوهرا قائما بنفسه، فلو أثبتوا حياة الله وعلمه أو كلامه صفتين قائمتين به، ولم يجعلوا هذا ربا جوهرا قائما بنفسه، وهذا ربا جوهرا قائما بنفسه - لكان قولهم حقا وتمثيلهم مطابقا، ولكنهم لم يقتصروا على مجرد جعلهما صفتين لله حتى جعلوا كلا منهما ربا وجوهرا وخالقا، بل صرحوا بأن المسيح الذي يزعمون اتحاد أحدهما به إلها واحدا وخالقا، فلو كان نفس كلمة الله وعلمه لم يكن إلها خالقا، فإن كلام الله وعلمه ليس إلها خالقا، فكيف والمسيح مخلوق بكلمة الله، ليس هو نفس كلمة الله؟
الوجه الثالث: أن قولهم: الشمس وشعاعها وضوءها، إن أرادوا بالضوء ما يقوم بها، وبالشعاع ما ينفصل عنها - فليس هذا مثال النار وحرها ولهبها؛ إذ كلاهما يقوم بها، وعلى هذا فالشمس لم تقم بها إلا صفة واحدة لا صفتين، فلا يكون التمثيل بها مطابقا، وإن أرادوا بالضوء والشعاع كلاهما؛ ما يقوم بها، أو كلاهما؛ ما ينفصل عنها - فكلاهما صفة واحدة ليس هما صفتان كالحياة والعلم، فعلم أن تمثيلهم بالشمس خطأ، وبعضهم يقول: الشمس وحرها وضوءها، كما يقولون مثل ذلك في النار.
وهذا التمثيل أصح لو ثبت أن في جرم الشمس حرارة تقوم بها، فإن هذا لم يقم عليه دليل، وكثير من العقلاء ينكره، ويزعم أن جرم الشمس والقمر والكواكب لا توصف بحرارة ولا برودة، وهو قول أرسطو وأتباعه.
وأما تمثيلهم بروح الإنسان ونطقه، فإن أرادوا بالروح حياته، فليس هذا هو مفهوم الروح، وإن أرادوا بالروح التي تفارق بدنه بالموت وتسمى النفس الناطقة - فهذه جوهر قائم بنفسه ليس عرضا من أعراضه، وحينئذ فيلزم أن تكون روح الله جوهرا قائما بنفسه مع جوهر آخر نظير بدن الإنسان، ويكون الرب سبحانه وتعالى مركبا من بدن وروح كالإنسان، وليس هذا قول أهل الملل، لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى، بل هو كفر عندهم، فتبين أن تمثيلهم بالثلاثة باطل.
والوجه الرابع: أن التمثيل إما أن يقع بصفات الشمس والنار والإنسان، أو النفس القائمة بهذه الجواهر، أو بما هو مباين لذلك، كالضوء الذي يقع على الأرض والحيطان والهواء، وغير ذلك من الأجسام إذا قابلت الشمس أو النار أو الإنسان أو النفس القائمة بهذه الجواهر، فإن أريد هذا فهذا شعاع منعكس، وضوء منقلب، وليس صفة قائمة بالشمس والنار.
وإذا أريد بما حل في المسيح هذا، وهذا يسمى نورا وروحا ويسمى نور الله كما قال تعالى:
{الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء} [النور: 35].
وقال تعالى:
{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52].
فأخبرنا أنه جعل الروح الذي أوحاه نورا يهدي به من يشاء.
وقال تعالى:
{أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22].
وقال تعالى:
{فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه} [الأعراف: 157].
وقال تعالى:
{ويجعل لكم نورا تمشون به} [الحديد: 28].
وقال تعالى:
{ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور: 40].
، فإذا أريد ما حل في المسيح من الروح والكلمة بهذا المعنى فلا اختصاص للمسيح بذلك، فإن هذا يحل في جميع الأنبياء والمؤمنين، وإن كانوا متفاضلين فيه بحسب درجاتهم، وليس هذا الحال فيهم نفس صفة الله القائمة به، وإن كان ذلك حاصلا عنها ومسببا عنها، لكن ليس هو نفس صفة الله، وإن كان من الناس من يقول: بل صفة الله التي اتصف بها حلت في العبد، فهذا القول خطأ، فإن صفة الموصوف القائمة به يمتنع قيامها بعينها بغيره، ولكن الإنسان إذا تعلم علم غيره، وبلغ كلام غيره يقال: هذا علم فلان وكلامه؛ لأن هذا الثاني بلغه عنه، والمقصود هو علم الأول وكلامه، مع العلم بأن نفس ما قام بذات الأول ليس هو عين ما قام بذات الثاني، وإن كان قد يكون مثله، وقد يكون الأول هو المقصود بالثاني، مثل من بلغ كلام غيره، فكلام المبلغ هو المقصود بالتبليغ.
وصفات المبلغ - كحركته وصوته - التي بها يحصل التبليغ؛ ليس هو نفس المقصود، وإذا قيل هذا كلام المبلغ عنه، فالإشارة إلى حقيقة الكلام المقصود بالتبليغ، لا إلى ما يختص به المبلغ من أفعاله وصفاته، ولهذا شبه الناس من قال بحلول صفة الرب في عبده بالنصارى القائلين بالحلول وهو شبيه بهم من بعض الوجوه.
لكن النصارى لا يقولون بحلول صفة مجردة، بل بحلول الأقنوم الذي هو ذات متصفة بالصفة، ويقولون: إن المسيح خالق ورازق، وهو خالق آدم ومريم، وهو ولد آدم ومريم، وهو خالق لهما بلاهوته ابن لهما بناسوته.
ويقولون: هو ابن الله، وهو الله بلاهوته، ويقولون أيضا باللاهوت والناسوت لأجل الاتحاد، والله كفرهم بقولهم: {إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] ونحو ذلك.
وإن أرادوا بتمثيلهم بصفات الشمس والنار والنفس التمثيل بنفس ما يقوم بالشمس والنار والنفس من الضوء والحياة والنطق، وجعلوا ما يثبتونه من الأب والابن وروح القدس - صفات الله، كما أن هذه صفات لهذه المخلوقات.
قيل لهم أولا: لم يعبر أحد من الأنبياء عليهم السلام عن صفات الله باسم الأب والابن وروح القدس، فليس لكم إذا وجدتم في كلام المسيح عليه السلام، أو غيره من الأنبياء ذكر الإيمان بالأب والابن وروح القدس - أن تقولوا: مرادهم بذلك صفة الله التي هي الكلمة والعلم، ولا حياة الله، إذ كانوا لم يريدوا هذا المعنى بهذا اللفظ، وإنما أرادوا باسم الابن وروح القدس ما هو بائن عن الله عز وجل.
والبائن عن الله ليس صفة لله، فضلا عن أن يكون هو الخالق، فضلا عن أن يكون البشر المتحد به خالقا، فقد ضللتم ضلالا بعد ضلال، ضلالا حيث جعلتم مراد المسيح وغيره بالابن وروح القدس - صفة الرب، ثم ضلالا ثانيا حيث جعلتم الصفة خالقا وربا، ثم ضلالا ثالثا حيث جعلتم الصفة تتحد ببشر هو عيسى، ويسمى المسيح ويكون هو الخالق رب العالمين فضللتم في الحلول ضلالا مثلثا بعد ضلالكم في التثليث أيضا ضلالات أخر، حيث أثبتم ثلاث صفات دون غيرها، وجعلتموها جواهر أربابا، ثم قلتم: إله واحد، فضللتم ضلالا مثلثا في التثليث، وضلالا مثلثا في الاتحاد.
وقيل لكم ثانيا: إذا جعلتم ذلك صفات لله، كما أن الضوء والنطق والحرارة صفات لما تقوم بها - امتنع أن تحل بغيرها، وامتنع مع الحلول أن تكون فاعلة فعل النار والشمس والنفس، وأنتم جعلتم الكلمة والحياة حالة بغير الله، وجعلتم ما يحل به إلها خالقا، بل هو الإله الخالق، ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا يجعل ما يحصل فيه ضوء النار - نارا، ولا ما يحصل فيه شعاع الشمس - شمسا، ولا ما يحصل فيه نطق زيد وعلمه - هو نفس زيد، فكان جعلكم المسيح هو الخالق للعالم - مخالفا لتمثيلكم.
وتبين بذلك أن ما ذكرتموه لا يطابقه شيء من الأمثلة، إذ كان كاملا باطلا متناقضا يمتنع تحققه، فلا تمثيل بشيء من الموجودات الثابتة المعلومة، إلا إذا كان تمثيلا غير مطابق.
ولهذا يشبهون الحلول والاتحاد تارة بحلول الماء في الظرف، وتارة بحلول النار في الحديد، وتارة بالنفس والبدن، وتارة يقولون بأنهما جوهر واحد اختلطا كاختلاط الماء واللبن، وكل هذه الأمثال التي ضربوها لله أمثال باطلة، فإن الماء في الظرف وغيره من الأوعية محتاج إلى وعائه، لو انخرق وعاؤه لتبدد، وهو محيط به، ولا يتصف الظرف بشيء من صفات الماء، والرب تعالى يمتنع أن يحتاج إلى شيء من مخلوقاته لا إلى العرش، ولا إلى غيره، أو يحيط به شيء من الموجودات؛ إذ هو الظاهر، فليس فوقه شيء.
كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: («أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء،وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء»، فهو غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، ولهذا لم يكن ما وصف الله به نفسه مماثلا لصفات المخلوقين، كما لم تكن ذاته كذوات المخلوقين، فهو مستو على عرشه، كما أخبرنا عن نفسه مع غناه عن العرش.
والمخلوق المستوي على السرير أو الفلك أو الدابة لو ذهب ما تحته لسقط؛ لحاجته إليه، والله غني عن كل ما سواه، وهو الحامل بقدرته للعرش ولحملة العرش.
وفرق النصارى الثلاثة يقولون بالاتحاد، فلا ينفعهم التمثيل بحلول الماء في الظرف، ولو قدر أنهم قالوا بالحلول المجرد مع أن الرب لا يحتاج إلى الناسوت لا يحويه ولا يمسه، بل كما خاطب موسى من الشجرة، فهذا يوجب أن الناسوت لا يتصف بشيء من الإلهية كالشجرة،ثم إنه معلوم بالضرورة أن الصوت الذي كان يسمع هو صوت الناسوت، فالتمثيل بالشجرة أيضا باطل، كما بسط في موضعه.
وأما الحديد والخشب وغيرهما إذا ألقي في النار فإنه يستحيل نارا لاتصاله بالنار، لا أن النار الذي استحال إليها كانت موجودة فحلت به، فهذا استحالة بلا حلول، والنار الذي صارت في الحديد حادثة عن تلك النار ليست إياها، ثم تلك الحديدة إذا طرقت وقع التطريق على النار، وكذلك إذا ألقيت في الماء، فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لكان الضرب والصلب والإهانة وقع على اللاهوت، وكان اللاهوت هو الذي يغتسل بالماء، وهو الذي يأكل ويشرب، وهذا من أعظم الكفر.
ويحكى عن بعض طائفة منهم كاليعقوبية أنه يقول بهذا الكفر، وإن كان كثير منهم كالملكية والنسطورية ينكره، فهو لازم لهم، وكذلك إذا شبهوه بالنفس والبدن، فإن النفس تتألم تألم البدن، وتستحيل صفاتها بكونها في البدن، وتكتسب عن البدن أخلاقا وصفات، فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لزم تألم اللاهوت بآلام البدن، وأن يكون متألما بجوع البدن وعطشه وضربه وصلبه، وأن يكون مستحيلا لما اكتسبه من صفات الناسوت الذي هو عندهم بمنزلة البدن للنفس، وأما قولهم: إذ لم نهمل ما تسلمناه، ولم نرفض ما تقلدناه، فقولهم في ذلك بمنزلة قول اليهود للمسيح: إنا لا نهمل ما تسلمناه، ولا نرفض ما تقلدناه من موسى عليه السلام.
وجواب الطائفتين من وجهين:
أحدهما: أنكم بدلتم وحرفتم الكتاب الذي أنزل إليكم، والشرع الذي شرع لكم، وتبديل المعاني والأحكام لا ريب فيه عند جميع عقلاء الأنام، وما كان عليه اليهود بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه موسى عليه السلام، وما كان عليه النصارى بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه المسيح عليه السلام.
والثاني: أنكم كذبتم بالكتاب الآخر، والرسول الآخر الذي أرسل إليكم، ومن كذب ما أنزل إليه من ربه، والرسول الذي أرسل إليه - كان كافرا مستحقا لعذاب الدنيا والآخرة، وإن كان قبل ذلك متبعا لشرع رسول، وكتاب غير مبدل، فكيف إذا كان قد بدل ما بدل من أحكامه ومعانيه؟ (قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)
وقال شيخ الإسلام:
فصل:
ومما يتعلق بالثلاث المهلكات والمنجيات التي ذكر أنه عند المهلكات عليك بخويصة نفسك. أنه قال: {شح مطاع وهوى متبع} فجعل هذا مطاعا وهذا متبعا وهذا - والله أعلم - لأن الهوى هوى النفس وهو محبتها للشيء وشهوتها له سواء أريد به المصدر أو المفعول. فصاحب الهوى يأمره هواه ويدعوه فيتبعه كما تتبع حركات الجوارح إرادة القلب ولهذا قال الله تعالى: {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا} وقال: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وهذا يعم الهوى في الدين كالنصارى وأهل البدع في المقال والقدر. كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء: من الرافضة والخوارج وهذا الهوى موجود في كثير من الفقراء والفقهاء إلا من عصمه الله.
وقد اختلف أصحابنا هل يدخل الفقهاء المختلفون في اسم أهل الأهواء. على وجهين أدخلهم في التقسيم القاضي أبو يعلى وكذلك قبله الشيخ أبو حامد الإسفراييني فيما أظن وأنكره ابن عقيل.
وأما " الشح المطاع " فقد ذكرنا أن مفسدته عائدة إلى منع الخير وهذا في الأصل ليس هو محبوبا وإنما يحمل عليه الحرص على المشحوح به فإنه من باب النفرة والبغض فهو يأمر صاحبه فيطيعه وليس كل مطاع متبعا وإن كان كل متبع مطاعا فإن الإنسان يطيع الطبيب والأمير وغيرهما في أمور خاصة وليس متبعا لهم أما التابع لغيره فهو مطيع وزيادة فإنه يذهب معه حيثما ذهب.
وفرق ثان أن المتبع الذي يطلب في نفسه فغاية المتبع إدراكه ونيله وهذا شأن الهوى.
وأما المطاع فغاية لغيره وهذا شأن الشح.
(ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون (80) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81)
فذكر " جملة شرطية " تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف " لو " التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط فقال: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء}. فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء؛ ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه.
(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والنصارى نذمهم على الغلو والشرك الذي ابتدعوه وعلى تكذيب الرسول والرهبانية التي ابتدعوها ولا نحمدهم عليها إذ كانوا قد ابتدعوها وكل بدعة ضلالة لكن إذا كان صاحبها قاصدا للحق فقد يعفى عنه فيبقى عمله ضائعا لا فائدة فيه وهذا هو الضلال الذي يعذر صاحبه فلا يعاقب ولا يثاب؛ ولهذا قال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فإن المغضوب عليه يعاقب بنفس الغضب والضال فاته المقصود وهو الرحمة والثواب ولكن قد لا يعاقب كما عوقب ذلك بل يكون ملعونا مطرودا ولهذا جاء في حديث زيد بن عمرو بن نفيل: أن اليهود قالوا له: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله. وقال له النصارى: حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 296)
من صــ 136 الى صـ 150
وقال الضحاك وطائفة: إن جهنم طبقات فالعليا لعصاة هذه الأمة والتي تليها للنصارى والتي تليها لليهود. فجعلوا اليهود تحت النصارى والقرآن قد شهد بأن المشركين واليهود يوجدون أشد عداوة للذين آمنوا من الذين قالوا: إنا نصارى وشدة العداوة زيادة في الكفر فاليهود أقوى كفرا من النصارى وإن كان النصارى أجهل وأضل لكن أولئك يعاقبون على عملهم إذ كانوا عرفوا الحق وتركوه عنادا فكانوا مغضوبا عليهم وهؤلاء بالضلال حرموا أجر المهتدين ولعنوا وطردوا عما يستحقه المهتدون ثم إذا قامت عليهم الحجة فلم يؤمنوا استحقوا العقاب إذ كان اسم الضلال عاما. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح {في خطبة يوم الجمعة: خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة} ولم يقل: وكل ضلالة في النار بل يضل عن الحق من قصد الحق وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له. وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم.
وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وفي الصحيح أن الله قال: " قد فعلت " وبسط هذا له موضع آخر.
[فصل: رد دعوى النصارى أن القرآن نفى عنهم الشرك]
ثم قالوا: وكذلك جاء في هذا الكتاب يقول:
{لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} [المائدة: 82].
فذكر القسيسين والرهبان، لئلا يقال: إن هذا قيل عن غيرنا، ودل بهذا على أفعالنا وحسن نياتنا، ونفى عنا اسم الشرك بقوله اليهود والذين أشركوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا، والذين قالوا إنا نصارى أقربهم مودة.
والجواب أن يقال: تمام الكلام:
{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين} [المائدة: 83]
فهو سبحانه لم يعد بالثواب في الآخرة إلا لهؤلاء الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذين قال فيهم:
{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} [المائدة: 83].
والشاهدون هم الذين شهدوا له بالرسالة فشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الشهداء الذين قال فيهم:
{وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة: 143].
ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله:{فاكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران: 53].
قال مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته.
وكل من شهد للرسل بالتصديق فهو من الشاهدين كما قال الحواريون:
{ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران: 53].
وقال - تعالى -:
{ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} [الحج: 77] (77) {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} [الحج: 78].
وأما قوله في أول الآية:
{لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} [المائدة: 82].
فهو كما أخبر - سبحانه وتعالى - فإن عداوة المشركين واليهود للمؤمنين أشد من عداوة النصارى، والنصارى أقرب مودة لهم، وهذا معروف من أخلاق اليهود، فإن اليهود فيهم من البغض والحسد والعداوة ما ليس في النصارى.
وفي النصارى من الرحمة والمودة ما ليس في اليهود، والعداوة أصلها البغض فاليهود كانوا يبغضون أنبياءهم، فكيف ببغضهم للمؤمنين.
وأما النصارى فليس في الدين الذي يدينون به عداوة ولا بغض لأعداء الله الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا، فكيف بعداوتهم وبغضهم للمؤمنين المعتدلين أهل ملة إبراهيم، المؤمنين بجميع الكتب والرسل؟
وليس في هذا مدح للنصارى بالإيمان بالله، ولا وعد لهم بالنجاة من العذاب، واستحقاق الثواب وإنما فيه أنهم أقرب مودة، وقوله - تعالى -:
{ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} [المائدة: 82].
أي بسبب هؤلاء، وسبب ترك الاستكبار يصير فيهم من المودة ما يصيرهم بذلك خيرا من المشركين وأقرب مودة من اليهود والمشركين.
ثم قال - تعالى -:
{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} [المائدة: 83].
فهؤلاء الذين مدحهم بالإيمان ووعدهم بثواب الآخرة، والضمير وإن عاد إلى المتقدمين، فالمراد جنس المتقدمين لا كل واحد منهم، كقوله - تعالى -:{الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173].
وكأن جنس الناس، قالوا لهم: إن جنس الناس، قد جمعوا ويمتنع العموم، فإن القائل من الناس، والمقول له من الناس، والمقول عنه من الناس، ويمتنع أن يكون جميع الناس قال لجميع الناس: إنه قد جمع لكم جميع الناس.
ومثل ذلك قوله - تعالى -:
{وقالت اليهود عزير ابن الله} [التوبة: 30].
أي جنس اليهود قال هذا، لم يقل هذا كل يهودي، ومن هذا أن في النصارى من رقة القلوب التي توجب لهم الإيمان ما ليس في اليهود، وهذا حق، وأما قولهم: ونفى عنا اسم الشرك، فلا ريب أن الله فرق بين المشركين، وأهل الكتاب في عدة مواضع، ووصف من أشرك منهم في بعض المواضع، بل قد ميز بين الصابئين والمجوس وبين المشركين في بعض المواضع وكلا الأمرين حق، فالأول كقوله - تعالى -:
{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1].
وقوله - تعالى -:
{إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17].
وقال - تعالى -:
{لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} [المائدة: 82].
وأما وصفهم بالشرك ففي قوله:
{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].
فنزه نفسه عن شركهم، وذلك أن أصل دينهم ليس فيه شرك، فإن الله إنما بعث رسله بالتوحيد، والنهي عن الشرك، كما قال - تعالى -:
{واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45].
وقال - تعالى -:
{ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36].
وقال - تعالى -:
{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25].
فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه، لم يأمر أحد الأنبياء بأن يعبد ملك ولا نبي ولا كوكب ولا وثن، ولا أن تسأل ولا تطلب الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب، لا نبي ولا ملك، فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة، ويقول: اشفعوا لنا إلى الله ولا يدعو الأنبياء والصالحين الموتى والغائبين، ويقول: اشفعوا لنا إلى الله ولا تصور تماثيلهم لا مجسدة ذات ظل، ولا مصورة في الحيطان، ولا بجعل دعاء تماثيلهم وتعظيمها قربة وطاعة، سواء قصدوا دعاء أصحاب التماثيل، وتعظيمهم والاستشفاع بهم، وطلبوا منهم أن يسألوا الله - تعالى -، وجعلوا تلك التماثيل تذكرة بأصحابها، أو قصدوا دعاء التماثيل ولم يستشعروا أن المقصود دعاء أصحابها، كما فعله جهال المشركين، وإن كان في هذا جميعه إنما يعبدون الشيطان وإن كانوا لا يقصدون عبادته، فإنه قد يتصور لهم في صورة ما يظنون أنها صورة الذي يعظمونه، ويقول: أنا الخضر، أنا المسيح، أنا جرجس، أنا الشيخ فلان.
كما قد وقع هذا لغير واحد من المنتسبين إلى المسلمين والنصارى، وقد يدخل الشيطان في بعض التماثيل فيخاطبهم، وقد يقضي بعض حاجاتهم، فبهذا السبب وأمثاله ظهر الشرك قديما وحديثا، وفعل النصارى وأشباههم ما فعلوه من الشرك.
وأما الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - فنهوا عن هذا كله ولم يشرع أحد منهم شيئا من ذلك، والنصارى لا يأمرون بتعظيم الأوثان المجسدة، ولكن بتعظيم التماثيل المصورة، فليسوا على التوحيد المحض، وليسوا كالمشركين الذين يعبدون الأوثان ويكذبون الرسل، فلهذا جعلهم الله نوعا من غير المشركين تارة، وذمهم على ما أحدثوه من الشرك تارة.
وإذا أطلق لفظ الشرك فطائفة من المسلمين تدخل فيه جميع الكفار من أهل الكتاب، وغيرهم كقوله - تعالى -:
{ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221].
فمن الناس من يجعل اللفظ عاما لجميع الكفار، ولا سيما النصارى ثم من هؤلاء من ينهى عن نكاح هؤلاء، كما كان عبد الله بن عمر، ينهى عن نكاح النصرانية، ويقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول: إن عيسى ربها.
وهذا قول طائفة من الشيعة وغيرهم.
وأما جمهور السلف والخلف، فيجوزون نكاح الكتابيات ويبيحون ذبائحهم لكن إذا قالوا لفظ المشركين عام قالوا: هذه الآية مخصوصة أو منسوخة بآية المائدة وهو قوله - تعالى -:
{وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} [المائدة: 5].
وطائفة أخرى تجعل لفظ المشركين إذا أطلق لا يدخل فيه أهل الكتاب.
وأما كون النصارى فيهم شرك كما ذكره الله فهذا متفق عليه بين المسلمين، كما نطق به القرآن كما أن المسلمين متفقون على أن قوله:
{لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} [المائدة: 82].
أن النصارى لم يدخلوا في لفظ الذين أشركوا كما لم يدخلوا في لفظ اليهود.
وكذلك قوله:
{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1].
ونحو ذلك، وهذا لأن اللفظ الواحد تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران فيدخل فيه مع الإفراد والتجريد ما لا يدخل فيه عند الاقتران بغيره، كلفظ المعروف والمنكر في قوله - تعالى -:
{يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} [الأعراف: 157].
فإنه هنا يتناول جميع ما أمر الله به فإنه معروف، وجميع ما نهى عنه فإنه منكر.
وفي قوله: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} [النساء: 114].
فهنا قرن الصدقة بالمعروف والإصلاح بين الناس.
وكذلك المنكر في قوله:
{إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45].
قرن الفحشاء بالمنكر، وقوله:
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90].
قرن الفحشاء بالمنكر والبغي.
وكذلك لفظ البر والإيمان، إذا أفرده أدخل فيه الأعمال الصالحة والتقوى، كقوله:{ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177].
وقال:
{إن الأبرار لفي نعيم} [الانفطار: 13].
وقوله:
{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} [الأنفال: 2].
وقد يقرنه بغيره كقوله:
{وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2].
وقوله:
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [البقرة: 277].
وكذلك لفظ الفقير، والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه معنى الآخر.
وقد يجمع بينهما في قوله:
{إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60].
فيكونان هنا صنفين، وفي تلك المواضع صنف واحد، فكذلك لفظ الشرك في مثل قوله:
{إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28].
يدخل فيه جميع الكفار، أهل الكتاب وغيرهم عند عامة العلماء لأنه أفرده وجرده، وإن كانوا إذا قرن بأهل الكتاب كانا صنفين.
وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كان إذا أرسل أميرا على سرية، أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا، وقال لهم: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث - فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم - ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك إلى ذلك، فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الغنيمة والفيء نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم».
وهذا الحديث كان بعد نزول آية الجزية، وهي إنما نزلت عام تبوك لما قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - النصارى بالشام، واليهود باليمن.
وهذا الحكم ثابت في أهل الكتاب باتفاق المسلمين، كما دل عليه الكتاب والسنة، ولكن تنازعوا في الجزية: هل تؤخذ من غير أهل الكتاب؟ وهذا مبسوط في موضعه.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 297)
من صــ 151 الى صـ 165
(ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (87) وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} الآية. ومن المشهور في التفسير: أنها نزلت بسبب جماعة من الصحابة كانوا قد عزموا على الترهب وفي الصحيحين عن أنس: {أن رجالا سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادته في السر فتقالوا ذلك} وذكر الحديث. وفي الصحيحين عن سعد قال: {رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا}. وعن عكرمة أن علي بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد وسالما مولى أبي حذيفة في أصحاب لهم تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا الطيبات من الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل وهموا بالاختصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت هذه الآية. وكذلك ذكر سائر المفسرين ما يشبه هذا المعنى. وقد ذم الله الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وذم الذين يتبعون الشهوات والذين يريدون أن تميلوا ميلا عظيما ويريدون ميل المؤمنين ميلا عظيما. وذم الذين اتبعوا ما أترفوا فيه والذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام.
وأكثر الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات شربة الخمر كما قال تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} فجمعوا بين الشهوة المحرمة وترك ذكر الله وإضاعة الصلاة وكذلك غيرهم من أهل الشهوات. ثم نهى سبحانه عن تحريم ما أحل من الطيبات وعن الاعتداء في تناولها وهو مجاوزة الحد وقد فسر الاعتداء في الزهد والعبادة بأن يحرموا الحلال ويفعلوا من العبادة ما يضرهم فيكونوا قد تجاوزوا الحد وأسرفوا.
وقيل: لا يحملنكم أكل الطيبات على الإسراف وتناول الحرام من أموال الناس فإن آكل الطيبات والشهوات المعتدي فيها لا بد أن يقع في الحرام لأجل الإسراف في ذلك. والمقصود بالزهد ترك ما يضر العبد في الآخرة وبالعبادة فعل ما ينفع في الآخرة فإذا ترك الإنسان ما ينفعه في دينه وينفعه في آخرته وفعل من العبادة ما يضر فقد اعتدى وأسرف وإن ظن ذلك زهدا نافعا وعبادة نافعة.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والنخعي: {ولا تعتدوا} أي لا تجبوا أنفسكم وقال عكرمة لا تسيروا بغير سيرة المسلمين: من ترك النساء ودوام الصيام والقيام. وقال مقاتل: لا تحرموا الحلال وعن الحسن لا تأتوا ما نهى الله عنه وهذا ما أريد به لا تحرموا الحلال ولا تفعلوا الحرام؛ فيكون قد نهى عن النوعين؛ لكن سبب نزول الآية وسياقها يدل على قول الجمهور وقد يقال هذا مثل قوله: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} وقوله في تمام الآية: {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} الآية. وكذلك الأحاديث الصحيحة كقول أحدهم: لا أتزوج النساء وقول الآخر لا آكل اللحم. كما في حديث أنس المتقدم وهذا مما يدل على أن صوم الدهر مكروه وكذلك مداومة قيام الليل.
فصل:
وهذا الذي جاءت به شريعة الإسلام هو الصراط المستقيم وهو الذي يصلح به دين الإنسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أعدل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما} وفي رواية صحيحة: " أفضل " والأفضل هو الأعدل الأقوم. وهذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وهي وسط بين هذين الصنفين: أصحاب البدع وأصحاب الفجور أهل الإسراف والتقشف الزائد. ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين. قال الحسن: هو المبتدع في دينه والفاجر في دنياه وكانوا يقولون: احذروا صاحب الدنيا أغوته دنياه وصاحب هوى متبع لهواه وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور.
فـ " القسم الأول " أهل الفجور وهم المترفون المنعمون أوقعهم في الفجور ما هم فيه. و " القسم الثاني " المترهبون أوقعهم في البدع غلوهم وتشديدهم هؤلاء استمتعوا بخلاقهم وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهي عنها أو يسرفون في المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم الله والدار الآخرة ويفسد حالهم كما هو مشاهد كثيرا منهم. والذين يحرمون ما أحل الله من الطيبات - وإن كانوا يقولون: إن الله لم يحرم هذا؛ بل يلتزمون ألا يفعلوه إما بالنذر وإما باليمين كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء - يقول أحدهم: لله علي ألا آكل طعاما بالنهار أبدا ويعاهد أحدهم ألا يأكل الشهوة الملائمة ويلتزم ذلك بقصده وعزمه وإن لم يحلف ولم ينذر.
فهذا يلتزم أن لا يشرب الماء وهذا يلتزم ألا يأكل الخبز وهذا يلتزم ألا يشرب الفقاع وهذا يلتزم ألا يتكلم قط وهذا يجب نفسه وهذا يلتزم ألا ينكح ولا يذبح. وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التي ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس وقهر الهوى والشهوة.
ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها وكذلك قهر الهوى والشهوة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله} لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه الله ورسوله فلا يحرم الحلال ولا يسرف في تناوله؛ بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح ويقتصد في ذلك ويقتصد في العبادة؛ فلا يحمل نفسه ما لا تطيق. فهذا تجده يحصل له من مجاهدات النفس وقهر الهوى ما هو أنفع له من تلك الطريق المبتدعة الوعرة القليلة المنفعة التي غالب من سلكها ارتد على حافره ونقض عهده ولم يرعها حق رعايتها. وهذا يثاب على ذلك ما لا يثاب على سلوك تلك الطريق وتزكو به نفسه وتسير به إلى ربه ويجد بذلك من المزيد في إيمانه ما لا يجده أصحاب تلك الطريق فإنهم لا بد أن تدعوهم أنفسهم إلى الشهوات المحرمة؛ فإنه ما من بني آدم إلا من أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا وقد قال تعالى:
{وخلق الإنسان ضعيفا}. قال طاوس في أمر النساء وقلة صبره عنهن كما تقدم فميل النفس إلى النساء عام في طبع جميع بني آدم وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران كما هو المذكور عنهم؛ فيبتلى بالميل إلى المردان وإن لم يفعل الفاحشة الكبرى ابتلي بما هو دون ذلك من المباشرة والمشاهدة ولا يكاد أن يسلم أحدهم من الفاحشة إما في سره وإما بينه وبين الأمرد ويحصل للنفس من ذلك ما هو معروف عند الناس. وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه فإذا ابتلي المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه في الله وهو مأمور بهذا الجهاد ليس أمرا أوجبه وحرمه هو على نفسه فيكون في طاعة نفسه وهواه؛ بل هو أمر حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه؛ فيصير بالمجاهدة في طاعة الله ورسوله. وفي حديث رواه أبو يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا: {من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات فهو شهيد} وأبو يحيى في حديثه نظر؛ لكن المعنى الذي ذكره دل عليه الكتاب والسنة؛ فإن الله أمر بالتقوى والصبر فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرمه الله من نظر بعين ومن لفظ بلسان ومن حركة بيد ورجل ومن الصبر أن يصبر عن شكوى ما به إلى غير الله عز وجل.
فإن هذا هو الصبر الجميل. وأما الكتمان فيراد به شيئان: " أحدهما " أن يكتم بثه وألمه فلا يشكو إلى غير الله فمتى شكا إلى غير الله نقص صبره وهذا أعلى الكتمانين؛ لكن هذا لا يقدر عليه كل أحد؛ بل كثير من الناس يشكو ما به وهذا على وجهين: فإن شكا ذلك إلى طبيب يعرف طب الأديان ومضرات النفوس ومنافعها؛ ليعالج نفسه بعلاج الإيمان؛ فهذا بمنزلة المستفتي وهذا حسن. وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام وإن شكا إلى غيره لما في الشكوى من الراحة كما يشكو المصاب مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد تعلم ما ينفعه ولا الاستعانة على مصيبته فهذا ينقص صبره؛ ولكن لا يأثم مطلقا إلا إذا اقترن به ما يحرم كالمصاب الذي يتسخط.
و " الثاني " أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما في ذلك من إظهار السوء والفاحشة فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت وتشهت وتمنت وتتيمت والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعيا له إلى الفعل والتشبه به والنساء متى رأين البهائم تنزو الذكور منها على الإناث ملن إلى الباءة والمجامعة والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء ورأى ذلك أو تخيله في نفسه دعاه ذلك إلى الفعل وإذا ذكر للإنسان طعام اشتهاه ومال إليه وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غيره مالت نفسه إليه والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حن إليه وكل ما في نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب؛ إما إلى وصفه وإما إلى مشاهدته وكلاهما يحصل به تخيل في النفس وقد يحصل التخيل بالسماع أو الرؤية أو الفكر في بعض الأمور المتعلقة به فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت إلى ما تخيلته فتحركت داعية المحبة سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة.
ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز أو كان أوان الحج أو رأى من يذهب إلى الحج من أهله وأقاربه أو أصحابه أو غيرهم ولو لم يسمع ذلك ويراه لما تحرك ولا حدث منه داعية قوته إلى ذلك فتتحرك بذكر الأبرق والأجرع والعلي ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهبا إلى محبوبه فصار ذكرها يذكره بالمحبوب.
وكذلك أصحاب المتاجر والأموال إذا سمع أحدهم بالمكاسب تحركت داعيته إلى ذلك وكذلك أهل الفرج والتنزه إذا رأوا من يقصد ذلك تحركوا إليه وهذه الدواعي كلها مركوزة في نفوس بني آدم والإنسان ظلوم جهول. وكذلك ذكر آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر به وتحرك محبته فالمبتلى بالفاحشة والعشق إذا ذكر ما به لغيره تحركت نفس ذلك الغير إلى جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة فإذا تصورت جنسا تحرك إليها المحبوب. ولهذا نهى الله تعالى عن إشاعة الفاحشة.
وكذلك أمر بستر الفواحش كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله} وقال: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يتحدث به} فما دام الذنب مستورا فعقوبته على صاحبه خاصة وإذا ظهر ولم ينكر كان ضرره عاما فكيف إذا كان في ظهوره تحريك لغيره إليه. ولهذا كره الإمام أحمد وغيره إنشاد الأشعار: الغزل الرقيق؛ لأنه يحرك النفوس إلى الفواحش؛ فلهذا أمر من يبتلى بالعشق أن يعف ويكتم ويصبر فيكون حينئذ ممن قال الله فيه: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.
والمقصود أنه يثاب على هذه المجاهدة والمجاهد من جاهد نفسه في الله. وأما المبتدعون في الزهد والعبادة السالكون طريق الرهبان فإنهم قد يزهدون في النكاح وفضول الطعام والمال ونحو ذلك. وهذا محمود؛ لكن عامة هؤلاء لا بد أن يقعوا في ذنوب من هذا الجنس كما نجد كثيرا منهم يبتلى بصحبة الأحداث وإرفاق النساء؛ فيبتلون بالميل إلى الصور المحرمة من النساء والصبيان ما لا يبتلى به أهل السنة المتبعون للشريعة المحمدية. وحكاياتهم في هذا أكثر من أن يحكى بسطها في كتاب وعندهم من الفواحش الباطنة والظاهرة ما لا يوجد عند غيرهم وخيار من فيهم يميل إلى الأحداث والغناء والسماع؛ لما يجدون في ذلك من راحة النفوس ولو اتبعوا السنة لاستراحوا من ذلك. قال أبو سعيد الخراز لما قال له الشيطان في المنام: لي فيكم لطيفتان السماع وصحبة الأحداث قال أبو سعيد: قل من ينجو منهما من أصحابنا حتى إنهم لقوة محبة نفوسهم له صار ذلك ممتزجا بطريقهم إلى الله فإن أحدهم يجد في نفسه عند مشاهدة الشاهد من الرغبة فيما اعتاده من العبادة والزهادة ما لا يجدها بدون ذلك وعنده في نفسه عند سماع القصائد من الشوق والرغبة والنشاط ما لا يجده عند سماع القرآن فصاروا في شبهة وشهوة لم يكتف الشيطان منهم بوقوعهم في الأمور المحرمة التي تفتنهم حتى جعلهم يعتبرون ذلك عبادة كالذين قال الله فيهم: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} الآية.
وهؤلاء هم الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. وإذا وقعوا في السماع وقعوا فيه بشوق ورغبة قوية ومحبة تامة وبذلوا فيه أنفسهم وأموالهم. فقد يبذلون فيه نساءهم وأبناءهم ويدخلون في الدياثة لأغراضهم فيأتي أحدهم بولده فيهبه للشيخ يفعل ما أراد هو ومن يلوذ به ويسمونه حوارا وإن كان حسن الصورة استأثر به الشيخ دونهم ويعد أهله ذلك بركة حصلت له من الشيخ ويرتفع الحياء بين أم الصبي وأبيه وبين الفقراء. وإذا صلوا صلوا صلاة المنافقين يقومون إليها وهم كسالى {يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}.
فقد أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ومع هذا فهم قد يزهدون في بعض الطيبات التي أحلها الله لهم ويجتهدون في عبادات وأذكار لكن مع بدعة وأفعال لا تجوز مما تقدم ذكره فتلك البدعة هي التي أوقعتهم في اتباع الشهوات وإضاعة الصلوات؛ لأن الشريعة مثالها مثال سفينة نوح؛ من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. وهؤلاء تخلفوا عنها فغرقوا بحبهم ويتوب الله على من تاب. والسالكون للشريعة المحمدية إذا ابتلوا بالذنوب لم تكن التوبة عليهم من الآصار والأغلال؛ بل من الحنيفية السمحة وأما أهل البدع فقد تكون التوبة عليهم آصارا وأغلالا كما كانت على من قبلنا من الرهبان فإنهم إذا وقع أحدهم في الذنب لم يخلص من شره إلا ببلاء شديد من أجل خروجه عن السنة.
وهؤلاء قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه السلوك إلى الله تعالى إلا ببدعة. وكذلك أهل الفجور المترفين قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه فعل الواجبات إلا بما يفعله من الذنوب ولا يمكنه ترك المحرمات إلا بذلك وهذا يقع لبشر كثير من الناس. منهم من يقول: إنه لا يمكن أداء الصلوات واجتناب الكلام المحرم - من الغيبة وغيرها - إلا بأكل الحشيشة. ويقول الآخر: إن أكلها يعينه على استنباط العلوم وتصفية الذهن حتى يسميها بعضهم معدن الفكر والذكر ومحركة العزم الساكن وكل هذا من خدع النفس ومكر الشيطان بهؤلاء وغيرهم وإنها لعمى الذهن ويصير آكلها أبكم مجنونا لا يعي ما يقول. وكذلك في هؤلاء من يقول: إن محبته لله ورغبته في العبادة وحركته ووجده وشوقه وغير ذلك لا يتم إلا بسماع القصائد ومعاشرة الشاهد من الصبيان وغيرهم وسماع الأصوات والنغمات ويزعمون أنهم بسماع هذه الأصوات ورؤية الصور المحركات تتحرك عندهم من دواعي الزهد والعبادة ما لا تتحرك بدون ذلك وأنهم بدون ذلك قد يتركون الصلوات ويفعلون المحرمات الكبار كقطع الطريق وقتل النفوس ويظنون أنهم بهذا ترتاض نفوسهم وتلتذ بذلك لذة تصدها عن ارتكاب المحارم والكبائر وتحملها على الصلاة والصوم والحج. وهذا مستند كثير من الشيوخ الذين يدعون الناس إلى طريقهم بالسماع المبتدع على اختلاف ألوانه وأنواعه. منهم من يدعو إليه بالدف والرقص ومنهم من يضيف إلى ذلك الشبابات ومنهم من يعمله بالنساء والصبيان ومنهم من يعمله بالدف والكف ومنهم من يعمله بأذكار واجتماع وتسبيحات وقيام وإنشاد أشعار وغير ذلك من سائر أنواعه وألوانه. وربما ضموا إليه من معاشرة النساء والمردان ونحو ذلك. ويقولون هؤلاء الذين توبناهم وقد كانوا لا يصلون ولا يحجون ولا يصومون بل كانوا يقطعون الطريق ويقتلون النفس ويزنون؛ فتوبناهم عن ذلك بهذا السماع. وما أمكن أحدهم استتابتهم بغير هذا. وقد يعترفون أن ما فعلوه بدعة منهي عنها أو محرمة؛ ولكن يقولون ما أمكننا إلا هذا وإن لم نفعل هذا القليل من المحرم حصل الوقوع فيما هو أشد منه تحريما وفي ترك الواجبات ما يزيد إثمه على إثم هذا المحرم القليل في جنب ما كانوا فيه من المحرم الكثير.
ويقولون: إن الإنسان يجد في نفسه نشاطا وقوة في كثير من الطاعات إذا حصل له ما يحبه وإن كان مكروها حراما. وأما بدون ذلك فلا يجد شيئا ولا يفعله. وهو أيضا يمتنع عن المحرمات إذا عوض بما يحبه وإن كان مكروها وإلا لم يمتنع وهذه الشبهة واقعة لكثير من الناس وجوابها مبني على ثلاث مقامات: " أحدها " أن المحرمات قسمان: " أحدهما " ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئا لا لضرورة ولا لغير ضرورة: كالشرك والفواحش والقول على الله بغير علم. والظلم المحض وهي الأربعة المذكورة في قوله تعالى {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}. فهذه الأشياء محرمة في جميع الشرائع وبتحريمها بعث الله جميع الرسل ولم يبح منها شيئا قط ولا في حال من الأحوال ولهذا أنزلت في هذه السورة المكية ونفي التحريم عما سواها؛ فإنما حرمه بعدها كالدم والميتة ولحم الخنزير حرمه في حال دون حال وليس تحريمه مطلقا.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif
-
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
https://i.imgur.com/kxnohpf.gif
فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 298)
من صــ 166 الى صـ 180
وكذلك " الخمر " يباح لدفع الغصة بالاتفاق ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء ومن لم يبحها قال: إنها لا تدفع العطش وهذا مأخذ أحمد. فحينئذ فالأمر موقوف على دفع العطش بها فإن علم أنها تدفعه أبيحت بلا ريب كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة وضرورة العطش الذي يرى أنه يهلكه أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحة في شيء من ذلك. وكذلك " الميسر " فإن الشارع أباح السبق فيه بمعنى الميسر للحاجة في مصلحة الجهاد. وقد قيل إنه ليس منه وهو قول من لم يبح العوض من الجانبين مطلقا إلا المحلل ولا ريب أن الميسر أخف من أمر الخمر وإذا أبيحت الخمر للحاجة فالميسر أولى. والميسر لم يحرم لذاته إلا لأنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء. فإذا كان فيه تعاون على الرمي الذي هو من جنس الصلاة وعلى الجهاد الذي فيه تعاون وتتألف به القلوب على الجهاد زالت هذه المفسدة. وكذلك بيع الغرر هو من جنس الميسر ويباح منه أنواع عند الحاجة ورجحان المصلحة.
وكذلك " الربا " حرم لما فيه من الظلم وأوجب ألا يباع الشيء إلا بمثله ثم أبيح بيعه بجنسه خرصا عند الحاجة بخلاف غيرها من المحرمات فإنها تحرم في حال دون حال. ولهذا - والله أعلم - نفى التحريم عما سواها وهو التحريم المطلق العام فإن المنفي من جنس المثبت فلما أثبت فيها التحريم العام المطلق نفاه عما سواها. و " المقام الثاني " أن يفرق بين ما يفعل في الإنسان ويأمر به ويبيحه وبين ما يسكت عن نهي غيره عنه وتحريمه عليه فإذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريما منه لم ينه عنه ولم يبحه أيضا. ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب وإذا كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ولم يمكن منعهم منه ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه. بخلاف ما أمر الله به الأنبياء وأتباعهم من دعوة الخلق؛ فإن دعوتهم يحصل بها مصلحة راجحة على مفسدتها كدعوة موسى لفرعون ونوح لقومه فإنه حصل لموسى من الجهاد وطاعة الله وحصل لقومه من الصبر والاستعانة بالله ما كانت عاقبتهم به حميدة وحصل أيضا من تغريق فرعون وقومه ما كانت مصلحته عظيمة.
وكذلك نوح حصل له ما أوجب أن يكون ذريته هم الباقين وأهلك الله قومه أجمعين فكان هلاكهم مصلحة. فالمنهي عنه إذا زاد شره بالنهي وكان النهي مصلحة راجحة كان حسنا وأما إذا زاد شره وعظم وليس في مقابلته خير يفوته لم يشرع إلا أن يكون في مقابلته مصلحة زائدة فإن أدى ذلك إلى شر أعظم منه لم يشرع مثل أن يكون الآمر لا صبر له فيؤذى فيجزع جزعا شديدا يصير به مذنبا وينتقص به إيمانه ودينه. فهذا لم يحصل به خير لا له ولا لأولئك؛ بخلاف ما إذا صبر واتقى الله وجاهد ولم يتعد حدود الله بل استعمل التقوى والصبر؛ فإن هذا تكون عاقبته حميدة.
وأولئك قد يتوبون فيتوب الله عليهم ببركته وقد يهلكهم ببغيهم ويكون ذلك مصلحة كما قال تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}
وأما الإنسان في نفسه فلا يحل له أن يفعل الذي يعلم أنه محرم لظنه أنه يعينه على طاعة الله فإن هذا لا يكون إلا مفسدة أو مفسدته راجحة على مصلحته وقد تنقلب تلك الطاعة مفسدة؛ فإن الشارع حكيم فلو علم أن في ذلك مصلحة لم يحرمه لكن قد يفعل الإنسان المحرم ثم يتوب وتكون مصلحته أنه يتوب منه ويحصل له بالتوبة خشوع ورقة وإنابة إلى الله تعالى؛ فإن الذنوب قد يكون فيها مصلحة مع التوبة منها فإن الإنسان قد يحصل له بعدم الذنوب كبر وعجب وقسوة فإذا وقع في ذنب أذله ذلك وكسر قلبه ولين قلبه بما يحصل له من التوبة.
ولهذا قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار ويفعل السيئة فيدخل بها الجنة وهذا هو الحكمة في ابتلاء من ابتلي بالذنوب من الأنبياء والصالحين وأما بدون التوبة فلا يكون المحرم إلا مفسدته راجحة فليس للإنسان أن يعتقد حل ما يعلم أن الله حرمه قطعا وليس له أن يفعله قطعا فإن غلبته نفسه وشيطانه فوقع فيه تاب منه فإن تاب فصار بالتوبة خيرا مما كان قبله فهذا من رحمة الله به حين تاب عليه وإلا فلو لم يتب لفسد حاله بالذنب وليس له أن يقول أنا أفعل ثم أتوب ولا يبيح الشارع له ذلك لأنه بمنزلة من يقول أنا أطعم نفسي ما يمرضني ثم أتداوى أو آكل السم ثم أشرب الترياق.
والشارع حكيم فإنه لا يدري هل يتمكن من التوبة أم لا؟ وهل يحصل الدواء بالترياق وغيره أم لا؟ وهل يتمكن من الشرب أم لا؟ لكن لو وقع هذا وكانت آخرته إلى التوبة النصوح كان الله قد أحسن إليه بالتوبة وبالعفو عما سلف من ذنوبه وقد يكون مثل هذا ليس صلاحه إلا في أن يذنب ويتوب ولو لم يفعل ذلك كان شرا منه لو لم يذنب ويتب؛ لكن هذا أمر يتعلق بخلق الله وقدره وحكمته لا يمكن أحد أن يأمر به الإنسان؛ لأنه لا يدري أن ذلك خير له وليس ما يفعله خلقا - لعلمه وحكمته - يجوز للرسل وللعباد أن يفعلوه ويأمروا به. وقصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره ولا فعل الخضر ما فعله لكونه مقدرا كما يظنه بعض الناس؛ بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر؛ فإنه لم يفعل محرما مطلقا؛ ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار فإن إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما.
وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع وصبر الإنسان على الجوع مع إحسانه إلى غيره أمر مشروع. فهذه القضية تدل على أنه يكون من الأمور ما ظاهره فساد فيحرمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل وهو مباح في الشرع باطنا وظاهرا لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته. وهذا لا يجيء في الأنواع الأربعة فإن الشرك والقول على الله بلا علم والفواحش ما ظهر منها وما بطن والظلم: لا يكون فيها شيء من المصلحة وقتل النفس أبيح في حال دون حال؛ فليس من الأربعة.
وكذلك إتلاف المال يباح في حال دون حال وكذلك الصبر على المجاعة؛ ولذلك قال: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} فإخلاص الدين له والعدل واجب مطلقا في كل حال وفي كل شرع؛ فعلى العبد أن يعبد الله مخلصا له الدين ويدعوه مخلصا له لا يسقط هذا عنه بحال ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد وهم أهل " لا إله إلا الله ". فهذا حق الله على كل عبد من عباده كما في الصحيحين من حديث {معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا} الحديث. فلا ينجون من عذاب الله إلا من أخلص لله دينه وعبادته ودعاه مخلصا له الدين ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره: كفرعون وأمثاله فهو أسوأ حالا من المشرك؛ فلا بد من عبادة الله وحده وهذا واجب على كل أحد فلا يسقط عن أحد ألبتة وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره. ولكن لا يعذب الله أحدا حتى يبعث إليه رسولا وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان فمن لا ذنب له لا يدخل النار ولا يعذب الله بالنار أحدا إلا بعد أن يبعث إليه رسولا فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون والميت في الفترة المحضة فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار.
فيجب الفرق في الواجبات والمحرمات - والتمييز بينهما هو اللازم لكل أحد على كل حال وهو العدل في حق الله وحق عباده بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين ولا يظلم الناس شيئا وما هو محرم على كل أحد في كل حال لا يباح منه شيء وهو الفواحش والظلم والشرك والقول على الله بلا علم - وبين ما سوى ذلك. قال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا} فهذا محرم مطلقا لا يجوز منه شيء {وبالوالدين إحسانا} فهذا فيه تقييد. فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه وهذا الأمر والنهي للوالد هو من الإحسان إليه.
وإذا كان مشركا جاز للولد قتله وفي كراهته نزاع بين العلماء. قوله: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} فهذا تحريم خاص {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} هذا مطلق {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} هذا مقيد فإن يتامى المشركين أهل الحرب يجوز غنيمة أموالهم؛ لكن قد يقال: هذا أخذ وقربان بالتي هي أحسن إذا فسر الأحسن بأمر الله ورسوله {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} هذا مقيد بمن يستحق ذلك {وإذا قلتم فاعدلوا} هذا مطلق. {وبعهد الله أوفوا} فالوفاء واجب؛ لكن يميز بين عهد الله وغيره ويفرق بين ما يسكت عنه الإنسان وبين ما يلفظ به ويفعله ويأمر به ويفرق بين ما قدره الله فحصل بسببه خير وبين ما يؤمر به العبد فيحصل بسببه خير.
(لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون (89)
فصل:
وأما أنواع الأيمان الثلاثة " فالأول ". أن يعقد اليمين بالله.
و " الثاني " أن يعقدها لله.
" والثالث " أن يعقدها بغير الله أو لغير الله.
فأما " الأول " فهو الحلف بالله. فهذه يمين منعقدة مكفرة بالكتاب والسنة والإجماع.
وأما " الثالث " وهو أن يعقدها بمخلوق أو لمخلوق مثل: أن يحلف بالطواغيت؛ أو بأبيه. أو الكعبة: أو غير ذلك من المخلوقات: فهذه يمين غير محترمة لا تنعقد ولا كفارة بالحنث فيها باتفاق العلماء؛ لكن نفس الحلف بها منهي عنه فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى. فليقل لا إله إلا الله} وسواء في ذلك الحلف بالملائكة والأنبياء وغيرهم باتفاق العلماء؛ إلا أن في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم " قولين " في مذهب أحمد وقول الجمهور أنها يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها.
وأما عقدها لغير الله فمثل أن ينذر للأوثان والكنائس أو يحلف بذلك فيقول: إن فعلت كذا فعلي للكنيسة كذا أو لقبر فلان كذا ونحو ذلك. فهذا إن كان نذرا فهو شرك وإن كان يمينا: فهو شرك إذا كان يقول ذلك على وجه التعظيم كما يقول المسلم: إن فعلت كذا فعلي هدي وأما إذا قاله على وجه البغض لذلك كما يقول المسلم: إن فعلت كذا فأنا يهودي. أو نصراني فهذا ليس مشركا وفي لزوم الكفارة له قولان معروفان للعلماء. وما كان من نذر شرك أو يمين شرك فعليه أن يتوب إلى الله من عقدها؛ ليس فيها وفاء ولا كفارة إنما ذلك فيما كان لله أو بالله.
وأما المعقود لله فعلى وجهين. " أحدهما " أن يكون قصده التقرب إلى الله؛ لا مجرد أن يحض أو يمنع. وهذا هو النذر فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:{كفارة النذر كفارة يمين} وثبت عنه أن قال: {من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه}. فإذا كان قصد الإنسان أن ينذر لله طاعة فعليه الوفاء به وإن نذر ما ليس بطاعة لم يكن عليه الوفاء به. وما كان محرما لا يجوز الوفاء به؛ لكن إذا لم يوف بالنذر لله فعليه كفارة يمين عند أكثر السلف وهو قول أحمد وهو قول أبي حنيفة. قيل: مطلقا. وقيل: إذا كان في معنى اليمين.
" والثاني " أن يكون مقصوده الحض أو المنع أو التصديق أو التكذيب فهذا هو الحلف بالنذر والطلاق والعتاق والظهار والحرام كقوله: إن فعلت كذا فعلي الحج وصوم سنة ومالي صدقة وعبيدي أحرار ونسائي طوالق. فهذا الصنف يدخل في مسائل " الأيمان " ويدخل في مسائل " الطلاق والعتاق والنذر والظهار ".
وللعلماء فيه ثلاثة أقوال. " أحدها " أنه يلزمه ما حلف به إذا حنث؛ لأنه التزم الجزاء عند وجود الشرط وقد وجد الشرط فيلزمه: كنذر التبرر المعلق بالشرط. " والقول الثاني ": هذه يمين غير منعقدة فلا شيء فيها إذا حنث؛ لا كفارة ولا وقوع؛ لأن هذا حلف بغير الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت} وفي رواية في الصحيح {: لا تحلفوا إلا بالله} "
والقول الثالث " أن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان. ومن العلماء من فرق بين ما عقده لله من الوجوب - وهو الحلف بالنذر - وما عقده لله من تحريم - وهو الحلف بالطلاق والعتاق - فقالوا في الأول: عليه كفارة يمين إذا حنث. وقالوا في الثاني: يلزمه ما علقه وهو الذي حلف به إذا حنث؛ لأن الملتزم في الأول فعل واجب فلا يبرأ إلا بفعله فيمكنه التكفير قبل ذلك والملتزم في الثاني وقوع حرمة. وهذا يحصل بالشرط فلا يرتفع بالكفارة.
و " القول الثالث " هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار وعليه تدل أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة كما قد بسط في موضعه. وذلك أن الله قال في كتابه: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين} إلى قوله: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وقال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} وهذا يتناول جميع أيمان المسلمين لفظا ومعنى. أما اللفظ فلقوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وقوله: {ذلك كفارة أيمانكم} وهذا خطاب للمؤمنين فكل ما كان من أيمانهم فهو داخل في هذا
والحلف بالمخلوقات شرك ليس من أيمانهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم {من حلف بغير الله فقد أشرك} رواه أهل السنن أبو داود وغيره فلا تدخل هذه في أيمان المسلمين.
وأما ما عقده بالله أو لله فهو من أيمان المسلمين فيدخل في ذلك؛ ولهذا لو قال: أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني ونوى دخول الطلاق والعتاق: دخل في ذلك كما ذكر ذلك الفقهاء ولا أعلم فيه نزاعا ولا يدخل في ذلك الحلف بالكعبة وغيرها من المخلوقات وإذا كانت من أيمان المسلمين تناولها الخطاب.
وأما من جهة المعنى فهو أن الله فرض الكفارة في أيمان المسلمين؛ لئلا تكون اليمين موجبة عليهم أو محرمة عليهم لا مخرج لهم كما كانوا عليه في أول الإسلام قبل أن تشرع الكفارة؛ لم يكن للحالف مخرج إلا الوفاء باليمين فلو كان من الأيمان ما لا كفارة فيه كانت هذه المفسدة موجودة.
وأيضا فقد قال الله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} نهاهم الله أن يجعلوا الحلف بالله مانعا لهم من فعل ما أمر به؛ لئلا يمتنعوا عن طاعته باليمين التي حلفوها فلو كان في الأيمان ما ينعقد ولا كفارة فيه لكان ذلك مانعا لهم من طاعة الله إذا حلفوا به.
وأيضا فقد قال تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}، " والإيلاء " هو الحلف والقسم والمراد بالإيلاء هنا أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته وهو إذا حلف بما عقده بالله كان موليا وإن حلف بما عقده لله كالحلف بالنذر والظهار والطلاق والعتاق كان موليا عند جماهير العلماء: كأبي حنيفة ومالك والشافعي في قوله الجديد وأحمد. ومن العلماء من لم يذكر في هذه المسألة نزاعا كابن المنذر وغيره وذكر عن ابن عباس أنه قال: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء والله سبحانه وتعالى قد جعل المولي بين خيرتين: إما أن يفيء وإما أن يطلق. والفيئة هي الوطء: خير بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان.
فإن فاء فوطئها حصل مقصودها وقد أمسك بمعروف وقد قال تعالى: {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} ومغفرته ورحمته للمولي توجب رفع الإثم عنه وبقاء امرأته. ولا تسقط الكفارة كما في قوله: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} فبين أنه غفور رحيم بما فرضه من تحلة الأيمان حيث رحم عباده بما فرضه لهم من الكفارة وغفر لهم بذلك نقضهم لليمين التي عقدوها؛ فإن موجب العقد الوفاء لولا ما فرضه من التحلة التي جعلها تحل عقدة اليمين. وإن كان المولي لا يفيء؛ بل قد عزم على الطلاق؛ فإن الله سميع عليم. فحكم المولي في كتاب الله: أنه إما أن يفيء وإما أن يعزم الطلاق. فإن فاء فإن الله غفور رحيم لا يقع به طلاق وهذا متفق عليه في اليمين بالله تعالى.
وسئل - رحمه الله تعالى -:
عن الفرق بين الطلاق والحلف " وإيضاح الحكم في ذلك؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام " ثلاثة أنواع ".
" النوع الأول " صيغة التنجيز مثل أن يقول: امرأتي طالق. أو: أنت طالق. أو: فلانة طالق. أو هي مطلقة. ونحو ذلك: فهذا يقع به الطلاق ولا تنفع فيه الكفارة بإجماع المسلمين. ومن قال: إن هذا فيه كفارة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وكذلك إذا قال: عبدي حر. أو علي صيام شهر. أو: عتق رقبة. أو: الحل علي حرام. أو: أنت علي كظهر أمي: فهذه كلها إيقاعات لهذه العقود بصيغ التنجيز والإطلاق.
" والنوع الثاني " أن يحلف بذلك فيقول: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا. أو لا أفعل كذا. أو يحلف على غيره - كعبده وصديقه الذي يرى أنه يبر قسمه - ليفعلن كذا. أو لا يفعل كذا. أو يقول: الحل علي حرام لأفعلن كذا. أو لا أفعله. أو يقول: علي الحج لأفعلن كذا. أو لا أفعله ونحو ذلك: فهذه صيغ قسم وهو حالف بهذه الأمور؛ لا موقع لها. وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال.
https://i.imgur.com/pi7HcGp.gif