وأجيب عن هذا بأجوبة كثيرة :
[ ص: 439 ] منها أن في الكلام حذفا أي : إن نفعت الذكرى ، وإن لم تنفع ، كقوله : سرابيل تقيكم الحر [ 16 \ 81 ] ، أي والبرد ، وهو قول الفراء والنحاس والجرجاني وغيرهم .
ومنها أنها بمعنى : إذ ، وإتيان : " إن " بمعنى : إذ مذهب الكوفيين خلافا للبصريين .
وجعل منه الكوفيون قوله تعالى : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين [ 5 \ 112 ] .
وقوله تعالى : وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 139 ] ، وقوله تعالى : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين [ 5 \ 23 ] ، وقوله : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [ 48 \ 27 ] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : وإنا إن شاء الله بكم لاحقون .
وقول الفرزدق :
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا جهارا ولم تغضب لقتل ابن حازم
وأجاب البصريون عن آيات إن كنتم مؤمنين ، بأن فيها معنى الشرط ، جيء به للتهييج ، وعن آية إن شاء الله ، والحديث بأنهما تعليم للعباد كيف يتكلمون ، إذا أخبروا عن المستقبل ، وعن البيت بجوابين :
أحدهما : أنه من إقامة السبب مقام المسبب ، والأصل : أتغضب إن افتخر مفتخر بحز أذني قتيبة ، إذ الافتخار بذلك يكون سببا للغضب ، ومسببا عن الحز .
الثاني : تغضب إن تبين في المستقبل ، أن أذني قتيبة حزتا .
ومنها أن معنى إن نفعت الذكرى الإرشاد إلى التذكير بالأهم ، أي ذكر بالمهم الذي فيه النفع دون ما لا نفع فيه ، فيكون المعنى ذكر الكفار مثلا بالأصول التي هي التوحيد ، لا بالفروع ، لأنها لا تنفع دون الأصول ، وذكر المؤمن التارك لفرض مثلا بذلك الفرض المتروك لا بالعقائد ونحو ذلك لأنه أنفع .
ومنها أن " إن " ، بمعنى : قد وهو قول قطرب .
[ ص: 440 ] ومنها أنها صيغة شرط أريد بها ذم الكفار واستبعاد تذكرهم ، كما قال الشاعر :
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
ومنها غير ذلك .
والذي يظهر لمقيد هذه الحروف عفا الله عنه ، هو بقاء الآية الكريمة على ظاهرها ، وأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن يكرر لذكري تكريرا تقوم به حجة الله على خلقه مأمور بالتذكير عند ظن الفائدة ، أما إذا علم الفائدة فلا يؤمر بشيء هو عالم أنه لا فائدة فيه ، لأن العاقل لا يسعى إلى ما لا فائدة فيه .
وقد قال الشاعر :
لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن لشيء بعيد نفعه الدهر ساعيا
وهذا ظاهر ولكن الخفاء في تحقيق المناط ، وإيضاحه أن يقال : بأي وجه يتيقن عدم إفادة الذكرى ، حتى يباح تركها .
وبيان ذلك أنه تارة يعلمه بإعلام الله به ، كما وقع في أبي لهب ، حيث قال تعالى فيه : سيصلى نارا ذات لهب وامرأته الآية [ 111 \ 3 - 4 ] .
فأبو لهب هذا وامرأته لا تنفع فيهما الذكرى ، لأن القرءان نزل بأنهما من أهل النار بعد تكرار التذكير لهما تكرارا تقوم عليهما به الحجة ، فلا يلزم النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك أن يذكرهما بشيء ، لقوله تعالى في هذه الآية : فذكر إن نفعت الذكرى .
وتارة يعلم ذلك بقرينة الحال ، بحيث يبلغ على أكمل وجه ، ويأتي بالمعجزات الواضحة ، فيعلم أن بعض الأشخاص عالم بصحة نبوته ، وأنه مصر على الكفر عنادا ولجاجا ، فمثل هذا لا يجب تكرير الذكرى له دائما ، بعد أن تكرر عليه تكريرا تلزمه به الحجة .
وحاصل إيضاح هذا الجواب أن الذكرى تشتمل على ثلاث حكم :
الأولى : خروج فاعلها من عهدة الأمر بها .
الثانية : رجاء النفع لمن يوعظ بها ، وبين الله تعالى هاتين الحكمتين بقوله تعالى : [ ص: 441 ] قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [ 7 \ 164 ] ، وبين الأولى منهما بقوله تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم [ 51 \ 54 ] ، وقوله تعالى : إن عليك إلا البلاغ [ 42 \ 48 ] ، ونحوها من الآيات . وبين الثانية بقوله : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 ] .
الثالثة : إقامة الحجة على الخلق ، وبينها تعالى بقوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] وبقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا الآية [ 20 \ 134 ] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كرر الذكرى حصلت الحكمة الأولى والثالثة ، فإن كان في الثانية طمع استمر على التذكير وإلا لم يكلف بالدوام ، والعلم عند الله تعالى .
وإنما اخترنا بقاء الآية على ظاهرها مع أن أكثر المفسرين على صرفها عن ظاهرها المتبادر منها ، وأن معناها : فذكر مطلقا إن نفعت الذكرى ، وإن لم تنفع ، لأننا نرى أنه لا يجوز صرف كتاب الله عن ظواهره المتبادرة منه ؟ إلا لدليل يجب الرجوع له ، وإلى بقاء هذه الآية على ظاهرها .
جنح ابن كثير حيث قال في تفسيرها : أي ذكر حيث تنفع التذكرة ، ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم ، فلا يضعه في غير أهله ، كما قال علي رضي الله عنه : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم ، إلا كان فتنة لبعضهم ، وقال : حدث الله الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله .
تنبيه
هذا الإشكال الذي في هذه الآية ، إنما هو على قول من يقول باعتبار دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة ، وأما على قول من لا يعتبر مفهوم المخالفة شرطا كان أو غيره ، كأبي حنيفة ؟ فلا إشكال في الآية ، وكذلك لا إشكال فيها على قول من لا يعتبر مفهوم الشرط كالباقلاني ، فتكون الآية نصت على الأمر بالتذكير عند مظنة النفع ، وسكتت عن حكمه عند عدم مظنة النفع فيطلب من دليل آخر ، فلا تعارض الآية الآيات الدالة على التذكير مطلقا .
[ ص: 442 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الغاشية
قوله تعالى : ليس لهم طعام إلا من ضريع .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : ولا طعام إلا من غسلين [ 69 \ 36 ] ، وقوله تعالى : فيها عين جارية الآية [ 88 \ 12 ] .
ظاهر هذه الآية أن الجنة فيها عين واحدة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله : إن المتقين في جنات وعيون [ 15 \ 45 ] .
والجواب هو ما تقدم في الجمع بين قوله : إن المتقين في جنات ونهر [ 54 \ 54 ] ، مع قوله : فيها أنهار من ماء غير آسن الآية [ 47 \ 15 ] .
فالمراد بالعين العيون ، كما تقدم نظيره في سورة " البقرة " وغيرها .
[ ص: 443 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفجر
قوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا .
يوهم أنه ملك واحد ، وقوله " صفا صفا " : يقتضي أنه غير ملك واحد بل صفوف من جماعات الملائكة .
والجواب أن قوله تعالى : " والملك " ، معناه : والملائكة ، ونظيره قوله تعالى : والملك على أرجائها [ 69 \ 17 ] ، وتقدم بيانه بشواهده العربية في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن الآية [ 2 \ 29 ] .سورة البلد
قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد .
هذه الآية الكريمة يتبادر من ظاهرها أنه تعالى أخبر بأنه لا يقسم بهذا البلد الذي هو مكة المكرمة ، مع أنه تعالى أقسم به في قوله : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] .
الأول : وعليه الجمهور ، أن " لا " هنا صلة على عادة العرب ، فإنها ربما لفظت " لا " من غير قصد معناها الأصلي ، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله : " ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني [ 20 \ 92 - 93 ] ، يعني أن تتبعني ، وقوله : ما منعك ألا تسجد [ 7 \ 12 ] ، أي أن تسجد على أحد القولين .
ويدل له قوله في سورة " ص " : ما منعك أن تسجد لما خلقت الآية [ 38 ] ، وقوله : لئلا يعلم أهل الكتاب [ 57 \ 29 ] ، أي ليعلم أهل الكتاب ، وقوله : فلا وربك لا يؤمنون [ 4 \ 65 ] ، أي فوربك ، وقوله : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة [ ص: 444 ] [ 21 ] ، أي والسيئة وقوله : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ 21 \ 95 ] على أحد القولين .
وقوله : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] ، على أحد القولين ، وقوله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا [ 6 \ 151 ] ، على أحد الأقوال الماضية .
وكقول أبي النجم :
فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا
يعني أن تسخر ، وكقول الشاعر :
وتلحينني في اللهو أن لا أحبه وللهو داع دائب غير غافل
يعني أن أحبه و : لا ، زائدة .
وقول الآخر :
أبى جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
يعني أبى جوده البخل ، و " لا " ، زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير ، ولا سيما على رواية " البخل " بالجر لأن : لا ، عليها مضاف بمعنى لفظة لا ، فليست زائدة على رواية الجر .
وقول امرئ القيس :
فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أنى أفر
يعني وأبيك .
وأنشد الفراء لزيادة " لا " في الكلام الذي فيه معنى الجحد قول الشاعر :
ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر
يعني وعمر ، و : لا ، صلة .
وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج :
[ ص: 445 ]
في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح جشر
فالحور الهلكة يعني في بئر هلكة ، و " لا " صلة ، قاله أبو عبيدة وغيره .
وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي :
أفعنك لا برق كأن وميضه غاب تسنمه ضرام مثقب
ويروى أفمنك ، وتشيمه بدل أفعنك ، وتسنمه .
يعني أعنك برق و " لا " ، صلة .
ومن شواهد زيادتها قول الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يقطع
يعني كاد يتقطع .
وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ :
أعائش ما لقومك لا أراهم يضيعون الهجان مع المضيع
فغلط منه لأن : لا ، في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله مع أن أهلها يحفظون مالهم ، أي لا أرى قومك يضيعون مالهم ، وأنت تعاتبينني في حفظ مالي .
وما ذكره الفراء من أن لفظة : لا ، لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، فهو أغلبني لا يصح على الإطلاق ، بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها ، كهذه الآية على القول بأن " لا " فيها صلة ، وكبيت ساعدة الهذلي .
وما ذكره الزمخشري من زيادة " لا " في أول الكلام دون غيره فلا دليل عليه .
الوجه الثاني : أن " لا نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : " أقسم " إثبات مستأنف ، وهذا القول وإن قال به كثير من العلماء فليس بوجيه عندي لقوله تعالى في سورة " القيامة " : ولا أقسم بالنفس اللوامة [ 75 ] ، لأن قوله تعالى : [ ص: 446 ] ولا أقسم بالنفس اللوامة يدلا على أنه لم يرد الإثبات المؤتنف بعد النفي بقوله : " أقسم " ، والله تعالى أعلم .
الوجه الثالث : أنها حرف نفي أيضا ، ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به ، فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية ، والمراد أنه لا يعظم بالقسم بل هو نفسه عظيم أقسم به أولا .
وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني ، ولا يخلو عندي من بعد .
الوجه الرابع : أن اللام لام الابتداء أشبعت فتحتها ، والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو .
فمثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي :
وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترا قبلي أسيرا يمانيا
فالأصل كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت .
وقول الراجز :
إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملقي
فالأصل ترضها ، لأن الفعل مجزوم بلا الناهية .
وقول عنترة في معلقته :
ينباع من ذفرى غضوب جسرة زيافة مثل الفنـيق المكدم
فالأصل ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته ، فأشبع الفتحة فصار ينباع على الصحيح .
وقول الراجز :
قلت وقد خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجالي
فقوله : " الكلكال " ، يعني الكلكل ، وليس إشباع الفتحة في هذه الشواهد من ضرورة [ ص: 447 ] الشعر ، لتصريح علماء العربية بأن إشباع الحركة بحرف يناسبها أسلوب من أساليب اللغة العربية ، ولأنه مسموع في النثر كقولهم : كلكال ، وخاتام ، وداناق ، يعنون : كلكلا وخاتما ودانقا .
ومثله في إشباع الضمة بالواو ، وقولهم : برقوع ومعلوق ، يعنون : برقعا ومعلقا .
ومثال إشباع الكسرة بالياء قول قيس بن زهير :
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
فالأصل يأتك لمكان الجازم ، وأنشد له الفراء :
لا عهد لي بنيضال أصبحت كالشن البال
ومنه قول امرئ القيس :
كأني بفتخاء الجناحين لقوة على عجل مني أطأطئ شيمالي
ويروى : " صيود من العقبان طأطأن شيمالي " .
ويروى " دفوف من العقبان " . إلخ .
ويروى " شملال " بدل شيمال " ، وعليه فلا شاهد في البيت ، إلا أن رواية الياء مشهورة . ومثال إشباع الضمة بالواو قول الشاعر :
هجوت زبان ثم جئت معتذرا من هجو زبان لم تهج ولم تدع
وقول الآخر :
الله أعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى إخواننا صور
وإنني حيثما يثني الهوى بصري من حيثما سلكوا أدنو فأنظور
يعني فأنظر ، وقول الراجز :
لو أن عمرا هم أن يرقودا فانهض فشد المئزر المعقودا
يعني " يرقد " ، ويدل لهذا الوجه قراءة قنبل : " لأقسم بهذا البلد " بلام الابتداء ، وهو مروي عن البزي والحسن ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 448 ] قوله تعالى : أو مسكينا ذا متربة .
يدل ظاهره على أن المسكين لاصق بالتراب ليس عنده شيء ، فهو أشد فقرا من مطلق الفقير ، كما ذهب إليهمالك وكثير من العلماء .
وقوله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون الآية [ 18 \ 79 ] ، يدل على خلاف ذلك لأنه سماهم مساكين مع أن لهم سفينة عاملة للإيجار .
والجواب عن هذا محتاج إليه عن كلا القولين .
أما على قول من قال إن المسكين من عنده ما لا يكفيه كالشافعي ، فالذي يظهر لي أن الجواب أنه يقول : المسكين عند الإطلاق ينصرف إلى من عنده شيء لا يكفيه ، فإذا قيد بما يقتضي أنه لا شيء عنده ، فذلك يعلم من القيد الزائد لا من مطلق لفظ المسكين .
وعليه ، فالله في هذه الآية قيد المسكين بكونه : ذا متربة ، فلو لم يقيده لانصرف إلى من عنده ما لا يكفيه ، فمدلول اللفظ حالة الإطلاق لا يعارض بمدلوله حالة التقييد .
وأما على قول من قال : بأن المسكين أحوج من مطلق الفقير ، وأنه لا شيء عنده فيجاب عن آية الكهف بأجوبة : منها أن المراد بقوله : " مساكين " ؛ أنهم قوم ضعاف لا يقدرون على مدافعة الظلمة ، ويزعمون أنهم عشرة ، خمسة منهم زمنى .
ومنها أن السفينة لم تكن ملكا لهم ، بل كانوا أجراء فيها أو أنها عارية واللام للاختصاص .
ومنها أن اسم المساكين أطلق عليهم ترحما لضعفهم .
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن هذه الأجوبة لا دليل على شيء منها ، فليس فيها حجة يجب الرجوع إليها ، وما احتج به بعضهم - من قراءة علي رضي الله عنه " لمساكين " ، بتشديد السين جمع تصحيح لمساك بمعنى الملاح أو دابة المسوك التي هي الجلود ، فلا يخفى سقوطه لضعف هذه القراءة وشذوذها . والذي يتبادر إلى ذهن المنصف أن مجموع الآيتين دل على أن لفظ المسكين مشكك لتفاوت أفراده فيصدق بمن عنده ما لا يكفيه بدليل آية " الكهف " ، ومن هو لاصق بالتراب لا شيء عنده بدليل آية " البلد " ، [ ص: 449 ] كاشتراك الشمس والسراج في النور مع تفاوتهما ، واشتراك الثلج والعاج في البياض مع تفاوتهما .
والمشكك إذا أطلق ولم يقيد بوصف الأشدية انصرف إلى مطلقه ، هذا ما ظهر ، والعلم عند الله تعالى .
والفقير أيضا قد تطلقه العرب على من عنده بعض المال ، كقول مالك ، ومن شواهده قول راعي نمير :
أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد
فسماه فقيرا مع أن عنده حلوبة قدر عياله .[ ص: 450 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشمس
قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها .
يدل على أن الله هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب ، وقد جاءت آيات تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته كقوله تعالى : فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .
وقوله تعالى : اشتروا الضلالة بالهدى [ 2 \ 16 ] ، ونحو ذلك ، وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية .
أما القدرية فضلوا بالتفريط حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا من غير تأثير لقدرة الله فيه .
وأما الجبرية فضلوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به .
وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا ، فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية ، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الاتعاشية ليست كالحركة الاختيارية ، وأثبتوا أن الله خالق كل شيء فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته ، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى .
فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى ؛ مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب .
ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا فقال الجبري : حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل ، وإني لا بد أن تنفذ في مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي ، فأنا مجبور ، فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه ؟ فإن السني يقول له : كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك ، جعل لك سمعا تسمع به ، وبصرا تبصر به ، وعقلا تعقل به ، [ ص: 451 ] وأرسل لك رسولا ، وجعل لك اختيارا وقدرة ، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض ، إن أعطاه ففضل ، وإن منعه فعدل .
كما أشار له تعالى بقوله : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] ، يعني أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق ، فمن أعطيه ففضل ، ومن منعه فعدل .
ولما تناظر أبو إسحاق الاسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي ، قال عبد الجبار : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله ، لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم .
فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل ، ثم قال : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء .
فقال عبد الجبار : أتراه يخلقه ويعاقبني عليه ؟
فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبرا عليه ؟ أأنت الرب وهو العبد ؟
فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى علي بالردى أتراه أحسن إلي أم أساء ؟
فقال أبو إسحاق : إن كان الذي منعك منه ملكا لك فقد أساء ، وإن كان له فإن أعطاك ففضل ، وإن منعك فعدل . فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب .
وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال له : ادع الله لي أن يرد علي حمارة سرقت مني ، فقال : اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه ، فقال له الأعرابي : يا هذا كف عني دعائك الخبيث ، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد .
وقد رفع الله إشكال هذه المسألة بقوله تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] ، فأثبت للعبد مشيئة ، وصرح بأنه لا مشيئة للعبد إلا بمشيئة الله جل وعلا ، فكل شيء صادر عن قدرته ومشيئته جل وعلا .
وقوله : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين .
[ ص: 452 ] وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى : فألهمها فجورها وتقواها أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر ، فلا إشكال في الآية : وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg