-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(137)
الحلقة (151)
صــ 346إلى صــ 351
1548 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يحيى بن يمان قال : حدثنا سفيان ، [ ص: 346 ] عن أبي بكير ، عن عكرمة : ( فباءوا بغضب على غضب ) ، قال : كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم
1549 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي بكير ، عن عكرمة مثله .
1550 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : الناس يوم القيامة على أربعة منازل : رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما ، فله أجران . ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فله أجر ، ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد ، فباء بغضب على غضب ، ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب ، فمات بكفره قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فباء بغضب .
1551 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( فباءوا بغضب على غضب ) ، غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى ، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم .
1552 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فباءوا بغضب ) ، اليهود بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ، ( على غضب ) : جحودهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفرهم بما جاء به .
1553 - حدثنا المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( فباءوا بغضب على غضب ) ، يقول : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ، ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن .
1554 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( فباءوا بغضب على غضب ) : أما الغضب الأول ؛ فهو حين غضب الله عليهم في العجل ; وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 347 ] 1555 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله : ( فباءوا بغضب على غضب ) ، قال : غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم - من تبديلهم وكفرهم - ، ثم غضب عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم - إذ خرج ، فكفروا به .
قال أبو جعفر : وقد بينا معنى "الغضب " من الله على من غضب عليه من خلقه - واختلاف المختلفين في صفته - فيما مضى من كتابنا هذا ، بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وللكافرين عذاب مهين ( 90 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وللكافرين عذاب مهين ) ، وللجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم ، عذاب من الله ، إما في الآخرة ، وإما في الدنيا والآخرة ، ( مهين ) هو المذل صاحبه ، المخزي ، الملبسه هوانا وذلة .
فإن قال قائل : أي عذاب هو غير مهين صاحبه ، فيكون للكافرين المهين منه؟!
قيل : إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلة وهوانا ، الذي يخلد فيه صاحبه ، لا ينتقل من هوانه إلى عز وكرامة أبدا ، وهو الذي خص الله به أهل الكفر به وبرسله . وأما الذي هو غير مهين صاحبه ، فهو ما كان تمحيصا لصاحبه . وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام ، يسرق ما يجب عليه به القطع فتقطع يده ، والزاني منهم يزني فيقام عليه الحد ، وما أشبه ذلك من العذاب والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب التي عذب بها أهلها ، وكأهل الكبائر من أهل [ ص: 348 ] الإسلام الذين يعذبون في الآخرة بمقادير جرائمهم التي ارتكبوها ، ليمحصوا من ذنوبهم ، ثم يدخلون الجنة! فإن كل ذلك ، وإن كان عذابا ، فغير مهين من عذب به ؛ إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه ، ثم يورده معدن العز والكرامة ، ويخلده في نعيم الجنان .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وإذا قيل لهم ) ، وإذا قيل لليهود من بني إسرائيل - للذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم - : ( آمنوا ) ، أي صدقوا ، ( بما أنزل الله ) ، يعني بما أنزل الله من القرآن علىمحمد صلى الله عليه وسلم ، ( قالوا : نؤمن ) ، أي نصدق ، ( بما أنزل علينا ) ، يعني بالتوراة التي أنزلها الله على موسى .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ويكفرون بما وراءه )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ويكفرون بما وراءه ) ، ويجحدون ، "بما وراءه " ، يعني : بما وراء التوراة .
قال أبو جعفر : وتأويل "وراءه " في هذا الموضع : "سوى " ، كما يقال للرجل المتكلم بالحسن : "ما وراء هذا الكلام شيء " يراد به : ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام . فكذلك معنى قوله : ( ويكفرون بما وراءه ) ، أي [ ص: 349 ] بما سوى التوراة ، وبما بعدها من كتب الله التي أنزلها إلى رسله ، كما : -
1556 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ويكفرون بما وراءه ) ، يقول : بما بعده .
1557 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( ويكفرون بما وراءه ) ، أي بما بعده - يعني : بما بعد التوراة .
1558 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( ويكفرون بما وراءه ) ، يقول : بما بعده .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وهو الحق مصدقا لما معهم )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وهو الحق مصدقا ) ، أي : ما وراء الكتاب - الذي أنزل عليهم من الكتب [ ص: 350 ] التي أنزلها الله إلى أنبيائه - الحق : وإنما يعني بذلك تعالى ذكره القرآن الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، كما : -
1559 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه ) ، وهو القرآن . يقول الله جل ثناؤه : ( وهو الحق مصدقا لما معهم ) . وإنما قال جل ثناؤه : ( مصدقا لما معهم ) ؛ لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا . ففي الإنجيل والقرآن من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به وبما جاء به ، مثل الذي من ذلك في توراة موسى عليه السلام . فلذلك قال جل ثناؤه لليهود - إذ أخبرهم عما وراء كتابهم الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه ، من الكتب التي أنزلها إلى أنبيائه - : إنه الحق مصدقا للكتاب الذي معهم ، يعني : أنه له موافق فيما اليهود به مكذبون .
قال : وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بالتوراة ، على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والفرقان ، عنادا لله ، وخلافا لأمره ، وبغيا على رسله صلوات الله عليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : ( قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ( 91 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ذكره بقوله : ( قل فلم تقتلون أنبياء الله ) ، قل يا محمد ، ليهود بني إسرائيل - الذين إذا قلت لهم : آمنوا بما أنزل الله قالوا : نؤمن بما أنزل علينا - : لم تقتلون - إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم - أنبياءه ، وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم ، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؟ وذلك من الله جل ثناؤه تكذيب لهم في قولهم : ( نؤمن بما أنزل علينا ) وتعيير لهم ، كما : -
1560 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال الله تعالى ذكره - وهو يعيرهم - يعني اليهود : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ) ؟
فإن قال قائل : وكيف قيل لهم : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل ، ثم أخبر أنه قد مضى؟
قيل : إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك . فقال بعض البصريين : معنى [ ص: 351 ] ذلك : فلم قتلتم أنبياء الله من قبل ، كما قال جل ثناؤه : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) [ سورة البقرة : 102 ] ، أي : ما تلت ، وكما قال الشاعر :
ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت عنه وقلت لا يعنيني
يريد بقوله : "ولقد أمر " ولقد مررت . واستدل على أن ذلك كذلك ، بقوله : "فمضيت عنه " ، ولم يقل : فأمضي عنه . وزعم أن "فعل " و"يفعل " قد تشترك في معنى واحد ، واستشهد على ذلك بقول الشاعر :
وإني لآتيكم تشكر ما مضى من الأمر ، واستيجاب ما كان في غد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(138)
الحلقة (152)
صــ 352إلى صــ 357
يعني بذلك : ما يكون في غد ، وبقول الحطيئة :
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر
[ ص: 352 ]
يعني : يشهد . وكما قال الآخر :
فما أضحي ولا أمسيت إلا أراني منكم في كوفان
فقال : أضحي ، ثم قال : "ولا أمسيت " .
وقال بعض نحويي الكوفيين : إنما قيل : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، فخاطبهم بالمستقبل من الفعل ، ومعناه الماضي ، كما يعنف الرجل الرجل على ما سلف منه من فعل فيقول له : ويحك ، لم تكذب؟ ولم تبغض نفسك إلى الناس؟ كما قال الشاعر :
[ ص: 353 ]
إذا ما انتسبنا ، لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري به بدا
فالجزاء للمستقبل ، والولادة كلها قد مضت . وذلك أن المعنى معروف ، فجاز ذلك . قال : ومثله في الكلام : "إذا نظرت في سيرة عمر ، لم تجده يسيء " . المعنى : لم تجده أساء . فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيه ، لم يقع في الوهم أنه مستقبل ؛ فلذلك صلحت "من قبل " مع قوله : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) . قال : وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة ، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا ، فتولوهم على ذلك ورضوا به ، فنسب القتل إليهم .
قال أبو جعفر : والصواب فيه من القول عندنا ، أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل - بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور - بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم ، وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه ، وارتكابهم معاصيه ، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه ، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به ، نظير قول العرب بعضها لبعض : فعلنا بكم يوم كذا كذا وكذا ، وفعلتم بنا يوم كذا كذا وكذا - على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا - ، يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم ، وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم . فكذلك ذلك في قوله : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، إذ كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن [ ص: 354 ] فعل السالفين منهم - على نحو الذي بينا - جاز أن يقال : "من قبل " ؛ إذ كان معناه : قل : فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل "؟ وكان معلوما بأن قوله : ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، إنما هو خبر عن فعل سلفهم .
وتأويل قوله : ( من قبل ) ، أي : من قبل اليوم .
وأما قوله : ( إن كنتم مؤمنين ) ، فإنه يعني : إن كنتم مؤمنين بما نزل الله عليكم كما زعمتم . وإنما عنى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم - إن كانوا وكنتم ، كما تزعمون أيها اليهود ، مؤمنين . وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه ، عند قولهم حين قيل لهم : ( آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ) ؛ لأنهم كانوا لأوائلهم - الذين تولوا قتل أنبياء الله ، مع قيلهم : نؤمن بما أنزل علينا - متولين ، وبفعلهم راضين . فقال لهم : إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم ، فلم تتولون قتلة أنبياء الله؟ أي : ترضون أفعالهم .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ( 92 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ولقد جاءكم موسى بالبينات ) ، أي جاءكم بالبينات الدالة على صدقه وصحة نبوته ، كالعصا التي تحولت ثعبانا مبينا ، ويده التي [ ص: 355 ] أخرجها بيضاء للناظرين ، وفلق البحر ومصير أرضه له طريقا يبسا ، والجراد والقمل والضفادع ، وسائر الآيات التي بينت صدقه وصحة نبوته .
وإنما سماها الله "بينات " لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر ، إلا بتسخير الله ذلك له . وإنما هي جمع "بينة " ، مثل "طيبة وطيبات " .
قال أبو جعفر : ومعنى الكلام : ولقد جاءكم - يا معشر يهود بني إسرائيل - موسى بالآيات البينات على أمره وصدقه وصحة نبوته .
وقوله : "ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون " يقول جل ثناؤه لهم : ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها . فالهاء التي في قوله : "من بعده " ، من ذكر موسى . وإنما قال : من بعد موسى ، لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لموعده - على ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا .
وقد يجوز أن تكون "الهاء " التي في "بعده " إلى ذكر المجيء . فيكون تأويل الكلام حينئذ : ولقد جاءكم موسى بالبينات ، ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات وأنتم ظالمون . كما تقول : جئتني فكرهته ، يعني كرهت مجيئك .
وأما قوله : ( وأنتم ظالمون ) ، فإنه يعني بذلك أنكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل وليس ذلك لكم ، وعبدتم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه ؛ لأن العبادة لا تنبغي لغير الله . وهذا توبيخ من الله لليهود ، وتعيير منه لهم ، وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا - من اتخاذ العجل إلها وهو لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، بعد الذي علموا أن ربهم هو الرب الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال [ ص: 356 ] ما أجراه على يدي موسى صلوات الله عليه ، من الأمور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله ، ولم يقدر عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه ، وقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب حكم الله - فهم إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وجحود ما في كتبهم التي زعموا أنهم بها مؤمنون من صفته ونعته ، مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة - أسرع ، وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) ، واذكروا إذ أخذنا عهودكم ، بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة - التي أنزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري ، وتنتهوا عما نهيتكم فيها - بجد منكم في ذلك ونشاط ، فأعطيتم على العمل بذلك ميثاقكم ، إذ رفعنا فوقكم الجبل .
وأما قوله : ( واسمعوا ) ، فإن معناه : واسمعوا ما أمرتكم به وتقبلوه بالطاعة ، كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر : "سمعت وأطعت " ، يعني بذلك : سمعت قولك ، وأطعت أمرك ، كما قال الراجز :
السمع والطاعة والتسليم خير وأعفى لبني تميم
[ ص: 357 ]
يعني بقوله : "السمع " ، قبول ما يسمع ، و "الطاعة " لما يؤمر . فكذلك معنى قوله : ( واسمعوا ) ، اقبلوا ما سمعتم واعملوا به .
قال أبو جعفر : فمعنى الآية : وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم بقوة ، واعملوا بما سمعتم ، وأطيعوا الله ، ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك .
وأما قوله : ( قالوا سمعنا ) ، فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب ، فإن ذلك كما وصفنا ، من أن ابتداء الكلام ، إذا كان حكاية ، فالعرب تخاطب فيه ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب ، وتخبر عن الغائب ثم تخاطب ، كما بينا ذلك فيما مضى قبل . فكذلك ذلك في هذه الآية ؛ لأن قوله : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) ، بمعنى : قلنا لكم ، فأجبتمونا .
وأما قوله : ( قالوا سمعنا ) ، فإنه خبر من الله - عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة ، وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها - أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فقال بعضهم : وأشربوا في قلوبهم حب العجل .
ذكر من قال ذلك :
1561 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، قال : أشربوا حبه ، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(139)
الحلقة (153)
صــ 358إلى صــ 363
1562 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، قال : أشربوا حب العجل بكفرهم .
1563 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، قال : أشربوا حب العجل في قلوبهم .
وقال آخرون : معنى ذلك أنهم سقوا الماء الذي ذري فيه سحالة العجل .
ذكر من قال ذلك :
1564 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لما رجع موسى إلى قومه ، أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه ، فذبحه ، ثم حرقه بالمبرد ، ثم ذراه في اليم ، فلم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فيه شيء منه . ثم قال لهم موسى : اشربوا منه ، فشربوا منه ، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب . فذلك حين يقول الله عز وجل : ( وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) .
1565 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج قال : لما سحل فألقي في اليم ، استقبلوا جرية الماء ، فشربوا حتى ملئوا بطونهم ، فأورث ذلك من فعله منهم جبنا .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه : ( وأشربوا [ ص: 159 ] في قلوبهم العجل ) تأويل من قال : وأشربوا في قلوبهم حب العجل ؛ لأن الماء لا يقال منه : أشرب فلان في قلبه ، وإنما يقال ذلك في حب الشيء ، فيقال منه : "أشرب قلب فلان حب كذا " ، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه ، كما قال زهير :
فصحوت عنها بعد حب داخل والحب يشربه فؤادك داء
قال أبو جعفر : ولكنه ترك ذكر "الحب " اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام . إذ كان معلوما أن العجل لا يشرب القلب ، وأن الذي يشرب القلب منه حبه ، كما قال جل ثناؤه : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ) [ سورة الأعراف : 163 ] ، ( واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها ) [ يوسف : 82 ] ، وكما قال الشاعر :
ألا إنني سقيت أسود حالكا ألا بجلي من الشراب ألا بجل
[ ص: 360 ] يعني بذلك سما أسود ، فاكتفى بذكر "أسود " عن ذكر "السم " لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله : "سقيت أسود " . ويروى :
ألا إنني سقيت أسود سالخا
وقد تقول العرب : "إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم ، أو إلى حاتم " ،
فتجتزئ بذكر الاسم من ذكر فعله ، إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات ، ومنه قول الشاعر :
يقولون جاهد يا جميل بغزوة وإن جهادا طيئ وقتالها
القول في تأويل قوله تعالى : ( قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ( 93 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد ليهود بني إسرائيل : بئس الشيء يأمركم به إيمانكم; إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله [ ص: 361 ] والتكذيب بكتبه ، وجحود ما جاء من عنده . ومعنى "إيمانهم " : تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدقون من كتاب الله ، إذ قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله ، فقالوا : نؤمن بما أنزل علينا . وقوله : ( إن كنتم مؤمنين ) ، أي : إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم ، وإنما كذبهم الله بذلك - لأن التوراة تنهى عن ذلك كله ، وتأمر بخلافه ، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة ، إن كان يأمرهم بذلك ، فبئس الأمر تأمر به . وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن التوراة ، أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم ، وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله ، وإعلام منه - جل ثناؤه - أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم ، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان .
القول في تأويل قوله تعالى : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ( 94 ) )
قال أبو جعفر : وهذه الآية مما احتج الله بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره ، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم ، وذلك أن الله - جل ثناؤه - أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم ، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف . كما أمره الله أن يدعو الفريق الآخر من النصارى - إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه - إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة . وقال لفريق اليهود : إن كنتم محقين فتمنوا الموت ، فإن ذلك غير ضاركم ، إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة [ ص: 362 ] من الله ، بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم ، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها ، والفوز بجوار الله في جنانه ، إن كان الأمر كما تزعمون : من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا ، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا ، وانكشف أمرنا وأمركم لهم . فامتنعت اليهود من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ، لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت ، فذهبت دنياها ، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها . كما امتنع فريق النصارى - الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى ، إذ دعوا إلى المباهلة - من المباهلة .
فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار . ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا " .
1566 - حدثنا بذلك أبو كريب قال : حدثنا زكريا بن عدي قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 363 ] 1567 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثام بن علي ، عن الأعمش ، عن ابن عباس في قوله : ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، قال : لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه .
1568 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة في قوله : ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، قال : قال ابن عباس : لو تمنى اليهود الموت لماتوا .
1569 - حدثني موسى قال : أخبرنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن ابن عباس مثله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(140)
الحلقة (154)
صــ 364إلى صــ 369
1570 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد - قال أبو جعفر : فيما أروي : أنبأنا - عن سعيد ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : لو تمنوه يوم قال ذلك لهم ، ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلا مات .
قال أبو جعفر : فانكشف - لمن كان مشكلا عليه أمر اليهود يومئذ - كذبهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم ، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل . [ ص: 364 ]
وإنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم : ( تمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ؛ لأنهم - فيما ذكر لنا - قالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) [ المائدة : 18 ] ، وقالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] . فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون ، فتمنوا الموت ؛ فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك ، وأفلج حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت ، وعلى أي وجه أمروا أن يتمنوه . فقال بعضهم : أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما .
ذكر من قال ذلك :
1571 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، أي : ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب .
وقال آخرون بما : -
1572 - حدثني بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس ) ، وذلك أنهم قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] ، وقالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) [ المائدة : 18 ] فقيل لهم : ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) .
1573 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن [ ص: 365 ] الربيع ، عن أبي العالية قال : قالت اليهود : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، وقالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) فقال الله : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، فلم يفعلوا .
1574 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ) الآية ، وذلك بأنهم قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، وقالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) . .
وأما تأويل قوله : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ) ، فإنه يقول : قل يا محمد : إن كان نعيم الدار الآخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله ، فاكتفى بذكر "الدار " ، من ذكر نعيمها ، لمعرفة المخاطبين بالآية معناها . وقد بينا معنى "الدار الآخرة " . فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما تأويل قوله : ( خالصة ) ، فإنه يعني به : صافية . كما يقال : "خلص لي فلان " بمعنى صار لي وحدي وصفا لي ؛ يقال منه : "خلص لي هذا الشيء فهو يخلص خلوصا وخالصة ، و"الخالصة " مصدر مثل "العافية " . ويقال للرجل : "هذا خلصاني " ، يعني خالصتي من دون أصحابي .
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله : ( خالصة ) : خاصة . وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك .
1575 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( قل إن كانت لكم [ ص: 366 ] الدار الآخرة ) ، قال : "قل " يا محمد لهم - يعني اليهود - : إن كانت لكم الدار الآخرة " - يعني : الجنة - ( عند الله خالصة ) ، يقول : خاصة لكم .
وأما قوله : ( من دون الناس ) ، فإن الذي يدل عليه ظاهر التنزيل أنهم قالوا : لنا الدار الآخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس ، ويبين أن ذلك كان قولهم - من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم - إخبار الله عنهم أنهم قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، إلا أنه روي عن ابن عباس قول غير ذلك :
1576 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( من دون الناس ) ، يقول : من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم ، وزعمتم أن الحق في أيديكم ، وأن الدار الآخرة لكم دونهم .
وأما قوله : ( فتمنوا الموت ) فإن تأويله : تشهوه وأريدوه ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تأويله : فسلوا الموت ، ولا يعرف "التمني " بمعنى "المسألة " في كلام العرب . ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى "الأمنية " - إذ كانت محبة النفس وشهوتها - إلى معنى الرغبة والمسألة ، إذ كانت المسألة ، هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله .
1577 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس : ( فتمنوا الموت ) ، فسلوا الموت ، ( إن كنتم صادقين ) .
[ ص: 367 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ( 95 ) )
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله - جل ثناؤه - عن اليهود وكراهتهم الموت ، وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت ، لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل ، والموت بهم حال; ولمعرفتهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أنه رسول من الله ، إليهم مرسل ، وهم به مكذبون ، وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر ، فهم يحذرون أن يتمنوا الموت ، خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب ، كالذي : -
1578 - حدثني محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر ، عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة ) الآية ، أي : ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب ، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ) ، أي : لعلمهم بما عندهم من العلم بك ، والكفر بذلك .
1579 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( ولن يتمنوه أبدا ) ، يقول : يا محمد ، ولن يتمنوه أبدا ؛ لأنهم يعلمون أنهم كاذبون ، ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي ، فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم .
1580 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 368 ] ابن جريج قوله : ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، وكانت اليهود أشد فرارا من الموت ، ولم يكونوا ليتمنوه أبدا .
وأما قوله : ( بما قدمت أيديهم ) ، فإنه يعني به : بما أسلفته أيديهم . وإنما ذلك مثل ، على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها ، فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها ؛ فيعاقب عليها : "نالك هذا بما جنت يداك ، وبما كسبت يداك ، وبما قدمت يداك " ، فتضيف ذلك إلى "اليد " . ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة ، كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد .
قال أبو جعفر : وإنما قيل ذلك بإضافته إلى "اليد " ، لأن عظم جنايات الناس بأيديهم ، فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى "أيديهم " ، حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده ، إلى أنها عقوبة على ما جنته يده .
فلذلك قاله - جل ثناؤه - للعرب : ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ) ، يعني به : ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله ، في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة ، ويعلمون أنه نبي مبعوث . فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم ، وأضمرته أنفسهم ، ونطقت به ألسنتهم - من حسد محمد صلى الله عليه وسلم ، والبغي عليه ، وتكذيبه وجحود رسالته - إلى أيديهم ، وأنه مما قدمته أيديهم ، لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها؛ إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها . وروي عن ابن عباس في ذلك ما : -
1581 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( بما قدمت أيديهم ) ، يقول : بما أسلفت أيديهم .
[ ص: 369 ] 1582 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( بما قدمت أيديهم ) ، قال : إنهم عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي فكتموه .
وأما قوله : ( والله عليم بالظالمين ) ، فإنه يعني جل ثناؤه : والله ذو علم بظلمة بني آدم - يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها - وما يعملون .
وظلم اليهود : كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه ، وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم .
وقد دللنا على معنى "الظلم " فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) - اليهود - . يقول : يا محمد ، لتجدن أشد الناس حرصا على الحياة في الدنيا ، وأشدهم كراهة للموت ، اليهود كما : -
1583 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد - فيما يروي أبو جعفر - عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ، يعني اليهود .
1584 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، حدثنا الربيع ، عن أبي العالية : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ، يعني اليهود .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(141)
الحلقة (155)
صــ 370إلى صــ 375
1585 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن [ ص: 370 ] أبيه ، عن الربيع مثله .
1586 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
وإنما كراهتهم الموت ؛ لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ومن الذين أشركوا )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ومن الذين أشركوا ) ، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة ، كما يقال : "هو أشجع الناس ومن عنترة " بمعنى : هو أشجع من الناس ومن عنترة ، فكذلك قوله : ( ومن الذين أشركوا ) ؛ لأن معنى الكلام : ولتجدن - يا محمد - اليهود من بني إسرائيل ، أحرص [ من ] الناس على حياة ، ومن الذين أشركوا . فلما أضيف "أحرص " إلى "الناس " وفيه تأويل "من " أظهرت بعد حرف العطف ، ردا - على التأويل الذي ذكرنا .
وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة ، لعلمهم بما قد أعد لهم في الآخرة على كفرهم بما لا يقر به أهل الشرك ، فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث ؛ لأنهم يؤمنون بالبعث ، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب . والمشركون لا يصدقون بالبعث ولا العقاب ، فاليهود أحرص [ ص: 371 ] منهم على الحياة وأكره للموت .
وقيل : إن الذين أشركوا - الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة - هم المجوس الذين لا يصدقون بالبعث ذكر من قال هم المجوس :
1587 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، يعني المجوس .
1588 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال : المجوس .
1589 - حدثني يونس قال ، أخبرني ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( ومن الذين أشركوا ) ، قال : يهود ، أحرص من هؤلاء على الحياة .
ذكر من قال : هم الذين ينكرون البعث :
1590 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد - فيما يروي أبو جعفر - عن سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ) ، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة; وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي ، بما ضيع مما عنده من العلم .
[ ص: 372 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة )
قال أبو جعفر : هذا خبر من الله - جل ثناؤه - بقوله عن الذين أشركوا - الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة . يقول جل ثناؤه : يود أحد هؤلاء الذين أشركوا - الآيس ، بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته ، أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور - لو يعمر ألف سنة ، حتى جعل بعضهم تحية بعض : "عشرة آلاف عام" حرصا منهم على الحياة ، كما : -
1591 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، سمعت أبي عليا ، أخبرنا أبو حمزة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال : هو قول الأعاجم : "سال زه نوروز مهرجان حر" . [ ص: 373 ]
1592 - وحدثت عن نعيم النحوي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال : هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس : "زه هزار سال" .
1593 - حدثنا إبراهيم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم قالا : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن قتادة في قوله : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال : حببت إليهم الخطيئة طول العمر .
1594 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : حدثني علي بن معبد ، عن ابن علية ، عن ابن أبي نجيح في قوله : ( يود أحدهم ) ، فذكر مثله .
1595 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) حتى بلغ : ( لو يعمر ألف سنة ) ، يهود ، أحرص من هؤلاء على الحياة . وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة .
1596 - وحدثت عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال : هو قول أحدهم إذا عطس : "زه هزار سال" ، يقول : عشرة آلاف سنة .
[ ص: 374 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، وما التعمير - وهو طول البقاء - بمزحزحه من عذاب الله .
وقوله : ( هو ) عماد لطلب "ما" الاسم أكثر من طلبها الفعل ، كما قال الشاعر :
فهل هو مرفوع بما ههنا رأس
و"أن" التي في : ( أن يعمر ) ، رفع ، ب "مزحزحه" ، و"هو" الذي مع "ما" تكرير ، عماد للفعل ، لاستقباح العرب النكرة قبل المعرفة .
وقد قال بعضهم : إن "هو" الذي مع "ما" كناية ذكر العمر ، كأنه قال : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب . وجعل "أن يعمر" مترجما عن "هو" يريد ما هو بمزحزحه التعمير .
وقال بعضهم : قوله : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، نظير قولك : ما زيد بمزحزحه أن يعمر .
قال أبو جعفر : وأقرب هذه الأقوال عندنا إلى الصواب ما قلنا ، وهو أن يكون "هو" عمادا ، نظير قولك : "ما هو قائم عمرو" . [ ص: 375 ]
وقد قال قوم من أهل التأويل : إن "أن" التي في قوله : "أن يعمر" بمعنى : وإن عمر ، وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف .
ذكر من قال ذلك :
1597 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، يقول : وإن عمر .
1598 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(142)
الحلقة (156)
صــ 376إلى صــ 381
1599 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "أن يعمر" - ولو عمر .
وأما تأويل قوله : ( بمزحزحه ) ، فإنه بمبعده ومنحيه ، كما قال الحطيئة :
وقالوا : تزحزح ما بنا فضل حاجة إليك ، وما منا لوهيك راقع
يعني بقوله : "تزحزح" ، تباعد ، يقال منه : "زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا ، "وهو عنك متزحزح" ، أي متباعد .
فتأويل الآية - وما طول العمر بمبعده من عذاب الله ، ولا منحيه منه؛ لأنه لا بد للعمر من الفناء ، ومصيره إلى الله ، كما : - [ ص: 376 ]
1600 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد - فيما أروي - عن سعيد بن جبير ، أو عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، أي : ما هو بمنحيه من العذاب .
1601 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، يقول : وإن عمر ، فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجيه .
1602 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
1603 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب ) ، فهم الذين عادوا جبريل عليه السلام .
1604 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء . وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة ، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب ، لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه ذلك ، إذ كان كافرا ، ولم يزحزحه ذلك عن العذاب .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( والله بصير بما يعملون ( 96 ) )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( والله بصير بما يعملون ) ، والله ذو إبصار بما يعملون ، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، بل هو بجميعها محيط ، ولها حافظ ذاكر ، حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها . [ ص: 377 ]
وأصل "بصير" "مبصر" - من قول القائل : "أبصرت فأنا مبصر" ، ولكن صرف إلى "فعيل" ، كما صرف "مسمع" إلى "سميع" ، و"عذاب مؤلم" إلى"أليم" ، "ومبدع السماوات" إلى بديع ، وما أشبه ذلك .
القول في تأويل قوله جل ثناؤه ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله )
قال أبو جعفر : أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل ، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ، وأن ميكائيل ولي لهم ، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك . فقال بعضهم : إنما كان سبب قيلهم ذلك ، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته .
ذكر من قال ذلك :
1605 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس أنه قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن ، لا يعلمهن إلا نبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوا عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي ذمة الله ، وما أخذ يعقوب على بنيه ، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه ، لتتابعني على الإسلام ، فقالوا : ذلك لك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوني عما شئتم . فقالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن : أخبرنا ، أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا [ ص: 378 ] كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني! فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق . فقال : "نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه ، فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل - قال أبو جعفر : فيما أروي : وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا : اللهم نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد الله عليكم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله ، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟ قالوا : اللهم نعم . قال : اللهم اشهد! قال : وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا : اللهم نعم! قال : اللهم اشهد! قالوا : أنت الآن تحدثنا من وليك من الملائكة ، فعندها نتابعك أو نفارقك ، قال : فإن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه . قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليك سواه من الملائكة ، تابعناك وصدقناك . قال : "فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا : إنه عدونا . فأنزل الله عز وجل : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) إلى قوله ( كأنهم لا يعلمون ) ، فعندها باءوا بغضب على غضب . [ ص: 379 ]
1606 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين - يعني المكي - ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرا من اليهود جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن ، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني؟ قالوا : نعم . قال : فاسألوا عما بدا لكم . فقالوا : أخبرنا كيف يشبه الولد أمه ، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة ، ونطفة المرأة صفراء رقيقة ، فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه؟ قالوا : نعم . قالوا : فأخبرنا كيف نومك؟ قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ [ ص: 380 ] قالوا : اللهم نعم . قال : اللهم اشهد! قالوا : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ قال : هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها ، وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها ، فحرم أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله ، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا : اللهم نعم . قالوا : فأخبرنا عن الروح . قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه جبريل ، وهو الذي يأتيني؟ قالوا : نعم ، ولكنه لنا عدو ، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ، فلولا ذلك اتبعناك . فأنزل الله فيهم : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ) إلى قوله ( كأنهم لا يعلمون ) .
1607 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : حدثني القاسم بن أبي بزة : أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم : من صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي؟ فقال : جبريل . قالوا : فإنه لنا عدو ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال! فنزل : ( من كان عدوا لجبريل ) الآية . قال ابن جريج : وقال مجاهد : قالت يهود : يا محمد ، ما ينزل جبريل إلا بشدة وحرب! وقالوا : إنه لنا عدو! فنزل : ( من كان عدوا لجبريل ) الآية .
وقال آخرون : بل كان سبب قيلهم ذلك ، من أجل مناظرة جرت بين [ ص: 381 ] عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم ، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(143)
الحلقة (157)
صــ 382إلى صــ 387
1608 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا ربعي بن علية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : نزل عمر الروحاء ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها ، فقال : ما هؤلاء؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . فكره ذلك وقال : أيما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى ، ثم ارتحل فتركه! ثم أنشأ يحدثهم فقال : كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ، ومن الفرقان كيف يصدق التوراة! فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا : يا ابن الخطاب ، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك ، قلت : ولم ذلك؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال : قلت : إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان! قال : ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ، ذاك صاحبكم فالحق به . قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله؟ قال : فسكتوا ، قال : فقال عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظم عليكم فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أما إذ نشدتنا به ، فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت : ويحكم! إذا هلكتم! قالوا إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذاك ، وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟ [ ص: 382 ] قالوا : إن لدينا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة ، وإنه قرن به عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم؟ ومن سلمكم؟ قالوا : عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا ، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا : أحدهما عن يمينه ، والآخر عن يساره . قال : قلت : فوالله الذي لا إله إلا هو ، إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما ، وسلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل ، ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل ! قال : ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم ، فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان ، فقال لي : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن؟ فقرأ علي : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) حتى قرأ الآيات . قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر ! [ ص: 383 ]
1609 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي قال : قال عمر : كنت رجلا أغشى اليهود في يوم مدراسهم ، ثم ذكر نحو حديث ربعي .
1610 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود ، فلما أبصروه رحبوا به . فقال لهم عمر : أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم ، ولكن جئت لأسمع منكم ، فسألهم وسألوه ، فقالوا : من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم : جبريل . فقالوا : ذاك عدونا من أهل السماء ، يطلع محمدا على سرنا ، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل ، وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم ، فقال لهم عمر : أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا؟ ففارقهم عمر عند ذلك ، وتوجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم ، فوجده قد أنزل عليه هذه الآية : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) .
1611 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن قتادة قال : بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود يوما ، فذكر نحوه .
1612 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( من كان عدوا لجبريل ) ، قال : قالت اليهود : [ ص: 384 ] إن جبريل هو عدونا؛ لأنه ينزل بالشدة والحرب والسنة ، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب ، فجبريل عدونا . فقال الله جل ثناؤه : ( من كان عدوا لجبريل ) .
1613 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) ، قال : كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة ، فكان يأتيها ، وكان ممره على طريق مدراس اليهود ، وكان كلما دخل عليهم سمع منهم . وإنه دخل عليهم ذات يوم فقالوا : يا عمر ما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد أحب إلينا منك ، إنهم يمرون بنا فيؤذوننا ، وتمر بنا فلا تؤذينا ، وإنا لنطمع فيك ، فقال لهم عمر : أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا : الرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء . فقال لهم عمر : فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء ، أتجدون محمدا صلى الله عليه وسلم عندكم؟ فأسكتوا ، فقال : تكلموا ، ما شأنكم؟ فوالله ما سألتكم وأنا شاك في شيء من ديني . فنظر بعضهم إلى بعض ، فقام رجل منهم فقال : أخبروا الرجل ، لتخبرنه أو لأخبرنه ، قالوا : نعم ، إنا نجده مكتوبا عندنا ، ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل ، وجبريل عدونا ، وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف ، ولو أنه كان وليه ميكائيل ، إذا لآمنا به ، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث . فقال لهم عمر : فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء ، أين مكان جبريل من الله؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره . قال عمر : فأشهدكم أن الذي هو عدو للذي عن يمينه ، عدو للذي هو عن يساره; والذي هو عدو للذي هو عن يساره; عدو للذي هو عن يمينه; وأنه من كان عدوهما ، فإنه عدو لله . ثم رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 385 ] فوجد جبريل قد سبقه بالوحي ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه ، فقال عمر : والذي بعثك بالحق ، لقد جئتك وما أريد إلا أن أخبرك !
1614 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج الرازي قال : حدثنا عبد الرحمن بن مغراء أبو زهير ، عن مجالد ، عن الشعبي قال : انطلق عمر إلى يهود فقال : إني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم؟ قالوا : نعم . قال : فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا : إن الله لم يبعث رسولا إلا كان له كفل من الملائكة ، وإن جبريل هو الذي يتكفل لمحمد ، وهو عدونا من الملائكة ، وميكائيل سلمنا ، فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه . قال : فإني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، ما منزلتهما من رب العالمين؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن جانبه الآخر . فقال : إني أشهد ما يقولان إلا بإذن الله ، وما كان لميكائيل أن يعادي سلم جبريل ، وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل . [ فبينما هو عندهم ] ، إذ مر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : هذا صاحبك يا ابن الخطاب . فقام إليه ، فأتاه وقد أنزل عليه : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) إلى قوله : ( فإن الله عدو للكافرين ) . [ ص: 386 ]
1615 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ليلى في قوله : ( من كان عدوا لجبريل ) . قال : قالت اليهود للمسلمين : لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم لتبعناكم ، فإنه ينزل بالرحمة والغيث ، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة ، وهو لنا عدو ، قال : فنزلت هذه الآية : ( من كان عدوا لجبريل ) .
1616 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء بنحو ذلك .
قال أبو جعفر : وأما تأويل الآية - أعني قوله : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) - فهو : أن الله يقول لنبيه : قل يا محمد - لمعاشر اليهود من بني إسرائيل ، الذين زعموا أن جبريل لهم عدو ، من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات ، لا صاحب وحي وتنزيل ورحمة؛ فأبوا اتباعك ، وجحدوا نبوتك ، وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي ، من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك ، وزعموا أنه عدو لهم - : من يكن من الناس [ ص: 387 ] لجبريل عدوا ، ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه ، وصاحب رحمته ، فإني له ولي وخليل ، ومقر بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله ، وأنه هو الذي ينزل وحي الله على قلبي من عند ربي ، بإذن ربي له بذلك ، يربط به على قلبي ، ويشد فؤادي ، كما : -
1617 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( قل من كان عدوا لجبريل ) ، قال : وذلك أن اليهود قالت - حين سألت محمدا صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة ، فأخبرهم بها على ما هي عندهم - "إلا جبريل " ، فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة ، ولم يكن عندهم صاحب وحي - يعني : تنزيل من الله على رسله - ولا صاحب رحمة ، فأخبرهم - رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما سألوه عنه : أن جبريل صاحب وحي الله ، وصاحب نقمته ، وصاحب رحمته ، فقالوا : ليس بصاحب وحي ولا رحمة ، هو لنا عدو! فأنزل الله عز وجل إكذابا لهم : ( قل ) يا محمد : ( من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك ) ، يقول : فإن جبريل نزله . يقول : نزل القرآن - بأمر الله يشد به فؤادك ، ويربط به على قلبك" ، يعني : بوحينا الذي نزل به جبريل عليك من عند الله - وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك .
1618 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) ، يقول : أنزل الكتاب على قلبك بإذن الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(144)
الحلقة (158)
صــ 388إلى صــ 393
1619 - وحدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( فإنه نزله على قلبك ) ، يقول : نزل الكتاب على قلبك جبريل .
قال أبو جعفر : وإنما قال جل ثناؤه : ( فإنه نزله على قلبك ) - وهو يعني [ ص: 388 ] بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه - ولم يقل : فإنه نزله على قلبي ولو قيل : "على قلبي" كان صوابا من القول؛ لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلا أن يحكي ما قيل له عن نفسه ، أن تخرج فعل المأمور مرة مضافا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه ، إذ كان المخبر عن نفسه; ومرة مضافا إلى اسمه ، كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه به مخاطب . فتقول في نظير ذلك : "قل للقوم إن الخير عندي كثير" - فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه؛ لأنه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه - : و"قل للقوم إن الخير عندك كثير" - فتخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب؛ لأنه وإن كان مأمورا بقيل ذلك ، فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له . وكذلك : "لا تقل للقوم : إني قائم" ، و"لا تقل لهم : إنك قائم" ، و"الياء" من "إني" اسم المأمور بقول ذلك ، على ما وصفنا . ومن ذلك قول الله عز وجل : ( قل للذين كفروا سيغلبون ) و ( تغلبون ) [ آل عمران : 12 ] ، بالياء والتاء .
وأما" جبريل " فإن للعرب فيه لغات . فأما أهل الحجاز فإنهم يقولون : "جبريل ، وميكال" بغير همز ، بكسر الجيم والراء من" جبريل " وبالتخفيف ، وعلى القراءة بذلك عامة قرأة أهل المدينة والبصرة .
أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون : "جبرئيل وميكائيل" على مثال "جبرعيل وميكاعيل" ، بفتح الجيم والراء ، وبهمز ، وزيادة ياء بعد الهمزة ، وعلى القراءة بذلك عامة قرأة أهل الكوفة ، كما قال جرير بن عطية :
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد وبجبرئيل وكذبوا ميكالا
[ ص: 389 ]
وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما كانا يقرآن : " جبريل " بفتح الجيم ، وترك الهمز .
قال أبو جعفر : وهي قراءة غير جائزة القراءة بها؛ لأن "فعليل" في كلام العرب غير موجود . وقد اختار ذلك بعضهم ، وزعم أنه اسم أعجمي ، كما يقال : "سمويل" ، وأنشد في ذلك :
بحيث لو وزنت لخم بأجمعها ما وازنت ريشة من ريش سمويلا
وأما بنو أسد فإنها تقول : "جبرين" بالنون . وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في" جبريل " "ألفا" فتقول : جبراييل وميكاييل .
وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ : "جبرئل" بفتح الجيم ، والهمز ، وترك المد ، وتشديد اللام .
فأما "جبر" و"ميك" ، فإنهما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى : "عبد" ، والآخر بمعنى : "عبيد" . [ ص: 390 ]
وأما "إيل" فهو الله تعالى ذكره ، كما : -
1620 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جرير بن نوح الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : " جبريل " و" ميكائيل " ، كقولك : عبد الله .
1621 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : "جبريل" عبد الله; و"ميكائيل" ، عبيد الله . وكل اسم "إيل" فهو : الله .
1622 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس : أن "إسرائيل ، وميكائيل وجبريل ، وإسرافيل " كقولك : عبد الله .
1623 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث قال : "إيل" ، الله ، بالعبرانية .
1624 - حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك قال : حدثنا إسحاق بن منصور قال : حدثنا قيس ، عن عاصم ، عن عكرمة ، قال : " جبريل " اسمه : عبد الله; و" ميكائيل " اسمه : عبيد الله ، "إيل" : الله .
1625 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن علي بن حسين قال : اسم" جبريل " عبد الله ، واسم" ميكائيل " عبيد الله ، واسم" إسرافيل " : عبد الرحمن ، وكل معبد : "إيل" ، فهو عبد الله .
1626 - حدثنا المثنى قال : حدثنا قبيصة بن عقبة قال : حدثنا سفيان ، عن [ ص: 391 ] محمد المدني - قال المثنى : قال قبيصة : أراه محمد بن إسحاق - عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن علي بن حسين ، قال : ما تعدون" جبريل " في أسمائكم؟ قال : " جبريل " عبد الله ، و" ميكائيل " عبيد الله ، وكل اسم فيه "إيل" ، فهو معبد لله .
1627 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن علي بن حسين قال : قال لي : هل تدري ما اسم " جبريل " من أسمائكم؟ قلت : لا . قال : عبد الله . قال : فهل تدري ما اسم " ميكائيل " من أسمائكم؟ قلت : لا . قال : عبيد الله . وقد سمى لي "إسرائيل" باسم نحو ذلك فنسيته ، إلا أنه قد قال لي : أرأيت ، كل اسم يرجع إلى "إيل" فهو معبد له .
1628 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قوله : ( جبريل ) قال : "جبر" عبد ، "إيل" الله ، و"ميكا" قال : عبد ، "إيل" : الله .
قال أبو جعفر : فهذا تأويل من قرأ" جبرائيل " بالفتح ، والهمز ، والمد . وهو - إن شاء الله - معنى من قرأ بالكسر ، وترك الهمز .
وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز ، وترك المد ، وتشديد اللام ، فإنه قصد بقوله ذلك كذلك ، إلى إضافة "جبر" و"ميكا" إلى اسم الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني ، وذلك أن "الإل" بلسان العرب : الله ، كما قال : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) [ التوبة : 10 ] . فقال جماعة من أهل العلم : "الإل" هو الله . ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه - لوفد بني حنيفة ، حين سألهم عما كان مسيلمة يقول ، فأخبروه - فقال لهم : ويحكم! " [ ص: 392 ] أين ذهب بكم؟ والله ، إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر . يعني "من إل" : من الله وقد : -
1629 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) قال : قول " جبريل " و"ميكائيل" و"إسرافيل" .
كأنه يقول : حين يضيف "جبر" و"ميكا" و"إسرا" إلى "إيل" يقول : عبد الله . ( لا يرقبون في مؤمن إلا ) ، كأنه يقول : لا يرقبون الله عز وجل .
القول في تأويل قوله تعالى : ( مصدقا لما بين يديه )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( مصدقا لما بين يديه ) ، القرآن ، ونصب "مصدقا" على القطع من "الهاء" التي في قوله : ( نزله على قلبك ) .
فمعنى الكلام : فإن جبريل نزل القرآن على قلبك يا محمد ، مصدقا لما بين يدي القرآن ، يعني بذلك : مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه ، ونزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه إياها ، موافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله ، وهي تصدقه . كما : -
1630 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس . ( مصدقا لما بين [ ص: 393 ] يديه ) ، يقول : لما قبله من الكتب التي أنزلها الله ، والآيات ، والرسل الذين بعثهم الله بالآيات ، نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح ، وأشباههم من الرسل صلى الله عليهم .
1631 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( مصدقا لما بين يديه ) ، من التوراة والإنجيل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(145)
الحلقة (159)
صــ 394إلى صــ 399
1632 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وهدى وبشرى للمؤمنين ( 97 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وهدى ) ودليل وبرهان . وإنما سماه الله جل ثناؤه "هدى" ، لاهتداء المؤمن به ، و"اهتداؤه به" : اتخاذه إياه هاديا يتبعه ، وقائدا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه . و"الهادي" من كل شيء : ما تقدم أمامه . ومن ذلك قيل لأوائل الخيل : "هواديها" ، وهو ما تقدم أمامها ، وكذلك قيل للعنق : "الهادي"؛ لتقدمها أمام سائر الجسد .
وأما "البشرى" فإنها البشارة . أخبر الله عباده المؤمنين جل ثناؤه ، أن القرآن لهم بشرى منه ، لأنه أعلمهم بما أعد لهم من الكرامة عنده في جناته ، وما هم إليه صائرون في معادهم من ثوابه ، وذلك هو "البشرى" التي بشر الله بها المؤمنين في كتابه؛ لأن البشارة في كلام العرب ، هي : إعلام الرجل بما لم يكن به عالما مما يسره من الخبر ، قبل أن يسمعه من غيره ، أو يعلمه من قبل غيره .
وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه : [ ص: 394 ]
1633 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( هدى وبشرى للمؤمنين ) ، لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه ، وانتفع به واطمأن إليه ، وصدق بموعود الله الذي وعد فيه ، وكان على يقين من ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ( 98 ) )
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ثناؤه من كان عدوا لله ، من عاداه ، وعادى جميع ملائكته ورسله; وإعلام منه أن من عادى جبريل فقد عاداه وعادى ميكائيل ، وعادى جميع ملائكته ورسله؛ لأن الذين سماهم الله في هذه الآية هم أولياء الله وأهل طاعته ، ومن عادى لله وليا فقد عادى الله وبارزه بالمحاربة ، ومن عادى الله فقد عادى جميع أهل طاعته وولايته؛ لأن العدو لله عدو لأوليائه ، والعدو لأولياء الله عدو له ، فكذلك قال لليهود - الذين قالوا : إن جبريل عدونا من الملائكة ، وميكائيل ولينا منهم - : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) ، من أجل أن عدو جبريل عدو كل ولي لله ، فأخبرهم جل ثناؤه أن من كان عدوا لجبريل ، فهو لكل من ذكره - من ملائكته ورسله وميكال - عدو ، وكذلك عدو بعض رسل الله ، عدو لله ولكل ولي . وقد : -
1634 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا عبيد الله - يعني العتكي - ، عن رجل من قريش قال : سأل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود [ ص: 395 ] فقال : أسألكم بكتابكم الذي تقرأون ، هل تجدون به قد بشر بي عيسى ابن مريم أن يأتيكم رسول اسمه أحمد؟ فقالوا : اللهم وجدناك في كتابنا ، ولكنا كرهناك؛ لأنك تستحل الأموال وتهريق الدماء . فأنزل الله : ( من كان عدوا لله وملائكته ) الآية .
1635 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : إن يهوديا لقي عمر فقال له : إن جبريل الذي يذكره صاحبك ، هو عدو لنا . فقال له عمر : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) . قال : فنزلت على لسان عمر .
وهذا الخبر يدل على أن الله أنزل هذه الآية توبيخا لليهود في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإخبارا منه لهم أن من كان عدوا لمحمد فالله له عدو ، وأن عدو محمد من الناس كلهم ، لمن الكافرين بالله ، الجاحدين آياته .
فإن قال قائل : أوليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟
قيل : بلى .
فإن قال : فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما ، وقد مضى ذكرهما في الآية في جملة أسماء الملائكة؟
قيل : معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما ، أن اليهود لما قالت : " جبريل عدونا ، وميكائيل ولينا" - وزعمت أنها كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم ، من أجل أن [ ص: 396 ] جبريل صاحب محمد صلى الله عليه وسلم - أعلمهم الله أن من كان لجبريل عدوا ، فإن الله له عدو ، وأنه من الكافرين ، فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه ، لئلا يقول منهم قائل : إنما قال الله : من كان عدوا لله وملائكته ورسله ، ولسنا لله ولا لملائكته ورسله أعداء؛ لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصا ، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه . وكذلك قوله : ( ورسله ) ، فلست يا محمد داخلا فيهم ، فنص الله تعالى على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم ، ليقطع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم ، ويحسم تمويههم أمورهم على المنافقين .
وأما إظهار اسم الله في قوله : ( فإن الله عدو للكافرين ) ، وتكريره فيه - وقد ابتدأ أول الخبر بذكره فقال : ( من كان عدوا لله وملائكته ) - فلئلا يلتبس لو ظهر ذلك بكناية ، فقيل : "فإنه عدو للكافرين" ، على سامعه ، من المعني ب "الهاء" التي في "فإنه" : آلله ، أم رسل الله جل ثناؤه ، أم جبريل ، أم ميكائيل؟ إذ لو جاء ذلك بكناية على ما وصفت ، فإنه يلتبس معنى ذلك على من لم يوقف على المعني بذلك؛ لاحتمال الكلام ما وصفت ، وقد كان بعض أهل العربية يوجه ذلك إلى نحو قول الشاعر :
ليت الغراب غداة ينعب دائما كان الغراب مقطع الأوداج
وأنه إظهار الاسم الذي حظه الكناية عنه . والأمر في ذلك بخلاف ما قال . وذلك أن "الغراب" الثاني لو كان مكنى عنه ، لما التبس على أحد يعقل كلام العرب أنه كناية اسم "الغراب" الأول ، إذ كان لا شيء قبله يحتمل الكلام أن يوجه إليه [ ص: 397 ] غير كناية اسم "الغراب" الأول - وأن قبل قوله : ( فإن الله عدو للكافرين ) أسماء ، لو جاء اسم الله تعالى ذكره مكنيا عنه ، لم يعلم من المقصود إليه بكناية الاسم ، إلا بتوقيف من حجة . فلذلك اختلف أمراهما .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( ولقد أنزلنا إليك آيات ) ، أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك ، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم من خفايا علوم اليهود ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم - وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه ، من أحكامهم التي كانت في التوراة ، فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . فكان ، في ذلك من أمره ، الآيات البينات لمن أنصف نفسه ، ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي ، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة ، تصديق من أتى بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر ، ولا أخذ شيء منه عن آدمي ، وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس .
1636 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( ولقد أنزلنا إليك [ ص: 398 ] آيات بينات ) يقول : فأنت تتلوه عليهم ، وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك ، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا ، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه . يقول الله : ففي ذلك لهم عبرة وبيان ، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون .
1637 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال ابن صوريا الفطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها! فأنزل الله عز وجل : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ) !
1638 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله .
[ ص: 399 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وما يكفر بها إلا الفاسقون ( 99 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وما يكفر بها إلا الفاسقون ) ، وما يجحد بها . وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى "الكفر" الجحود ، بما أغنى عن إعادته هنا . وكذلك بينا معنى "الفسق" ، وأنه الخروج عن الشيء إلى غيره .
فتأويل الآية : ولقد أنزلنا إليك ، فيما أوحينا إليك من الكتاب علامات واضحات تبين لعلماء بني إسرائيل وأحبارهم - الجاحدين نبوتك ، والمكذبين رسالتك - أنك لي رسول إليهم ، ونبي مبعوث ، وما يجحد تلك الآيات الدالات على صدقك ونبوتك ، التي أنزلتها إليك في كتابي فيكذب بها منهم إلا الخارج منهم من دينه ، التارك منهم فرائضي عليه في الكتاب الذي يدين بتصديقه . فأما المتمسك منهم بدينه ، والمتبع منهم حكم كتابه ، فإنه بالذي أنزلت إليك من آياتي مصدق وهم الذين كانوا آمنوا بالله وصدقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل .
القول في تأويل قوله تعالى : ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ( 100 ) )
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(146)
الحلقة (160)
صــ 400إلى صــ 405
قال أبو جعفر : اختلف أهل العربية في حكم "الواو" التي في قوله : ( أوكلما عاهدوا عهدا ) . فقال بعض نحويي البصريين : هي "واو" تجعل مع حروف الاستفهام ، وهي مثل "الفاء" في قوله : ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ) [ البقرة : 87 ] ، قال : وهما زائدتان في هذا الوجه ، [ ص: 400 ] وهي مثل "الفاء" التي في قوله : فالله لتصنعن كذا وكذا ، وكقولك للرجل : "أفلا تقوم"؟ وإن شئت جعلت "الفاء" و"الواو" هاهنا حرف عطف .
وقال بعض نحويي الكوفيين : هي حرف عطف أدخل عليها حرف الاستفهام .
والصواب في ذلك عندي من القول أنها "واو" عطف ، أدخلت عليها "ألف" الاستفهام ، كأنه قال جل ثناؤه : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا ) ، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ، ثم أدخل "ألف" الاستفهام على "وكلما" فقال : ( قالوا سمعنا وعصينا ) ، ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ) .
وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له ، فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول من زعم أن "الواو" و"الفاء" من قوله : ( أوكلما ) و ( أفكلما ) زائدتان لا معنى لهما .
وأما "العهد" ، فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بما في التوراة مرة بعد أخرى ، ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى ، فوبخهم - جل ذكره - بما كان منهم من ذلك ، وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان - جل ذكره - أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق ، فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته ، فقال تعالى ذكره : أوكلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا ، نبذه فريق منهم ، فتركه ونقضه؟ كما : -
1639 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال مالك بن الصيف - حين بعث [ ص: 401 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق ، وما عهد الله إليهم فيه - : والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أخذ له علينا ميثاقا! فأنزل الله جل ثناؤه : ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ) .
1640 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله .
قال أبو جعفر : وأما "النبذ" فإن أصله - في كلام العرب - الطرح ، ولذلك قيل للملقوط : "المنبوذ"؛ لأنه مطروح مرمي به ، ومنه سمي النبيذ "نبيذا" ، لأنه زبيب أو تمر يطرح في وعاء ، ثم يعالج بالماء . وأصله "مفعول" صرف إلى "فعيل" ، أعني أن "النبيذ" أصله "منبوذ" ثم صرف إلى "فعيل" فقيل : "نبيذ" ، كما قيل : "كف خضيب ، ولحية دهين" - يعني : مخضوبة ومدهونة . يقال منه : "نبذته أنبذه نبذا" ، كما قال أبو الأسود الدؤلي :
نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
فمعنى قوله جل ذكره : ( نبذه فريق منهم ) ، طرحه فريق منهم ، فتركه ورفضه ونقضه . كما : - [ ص: 402 ]
1641 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( نبذه فريق منهم ) يقول : نقضه فريق منهم .
1642 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : ( نبذه فريق منهم ) ، قال : لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ، ويعاهدون اليوم ، وينقضون غدا . قال : وفي قراءة عبد الله : ( نقضه فريق منهم ) .
و"الهاء" التي في قوله : ( نبذه ) ، من ذكر العهد ، فمعناه أوكلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم .
و"الفريق" الجماعة ، لا واحد له من لفظه ، بمنزلة "الجيش" و"الرهط" الذي لا واحد له من لفظه .
و"الهاء والميم" اللتان في قوله : ( فريق منهم ) : من ذكر اليهود من بني إسرائيل .
وأما قوله : ( بل أكثرهم لا يؤمنون ) فإنه يعني جل ثناؤه : بل أكثر هؤلاء - الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا ، نقضه فريق منهم - لا يؤمنون .
ولذلك وجهان من التأويل : أحدهما : أن يكون الكلام دلالة على الزيادة والتكثير في عدد المكذبين الناقضين عهد الله ، على عدد الفريق . فيكون الكلام حينئذ معناه : أوكلما عاهدت اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد؟ لا - ما ينقض ذلك فريق منهم ، ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر بالله ، أكثرهم ، لا القليل منهم . فهذا أحد وجهيه .
والوجه الآخر : أن يكون معناه : أوكلما عاهدت اليهود ربها عهدا ، نبذ ذلك [ ص: 403 ] العهد فريق منهم؟ لا - ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فينقضه على الإيمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم ، ولكن أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله ، ولا وعده ووعيده . وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى "الإيمان" ، وأنه التصديق .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ( 101 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ولما جاءهم ) ، أحبار اليهود وعلماءها من بني إسرائيل - ( رسول ) ، يعني بالرسول : محمدا صلى الله عليه وسلم . كما : -
1643 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : ( ولما جاءهم رسول ) ، قال : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : ( مصدق لما معهم ) ، فإنه يعني به أن محمدا صلى الله عليه وسلم يصدق التوراة والتوراة تصدقه في أنه لله نبي مبعوث إلى خلقه .
وأما تأويل قوله : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ) ، فإنه للذي هو مع اليهود ، وهو التوراة ، فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة ، أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي لله ، ( نبذ فريق ) ، يعني بذلك : أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين؛ حسدا منهم له وبغيا عليه . وقوله : ( من الذين أوتوا الكتاب ) . وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها . ويعني بقوله : ( كتاب الله ) ، التوراة . [ ص: 404 ]
وقوله : ( وراء ظهورهم ) ، جعلوه وراء ظهورهم . وهذا مثل ، يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال : "قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر ، وجعله وراء ظهره" ، يعني به : أعرض عنه وصد وانصرف ، كما : -
1644 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ) ، قال : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن ، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف ، وسحر هاروت وماروت . فذلك قول الله : ( كأنهم لا يعلمون ) .
ومعنى قوله : ( كأنهم لا يعلمون ) ، كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود - فنقضوا عهد الله بتركهم العمل بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه - لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه . وهذا من الله - جل ثناؤه - إخبار عنهم أنهم جحدوا الحق على علم منهم به ومعرفة ، وأنهم عاندوا أمر الله فخالفوا على علم منهم بوجوبه عليهم ، كما : -
1645 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب ) ، يقول : نقض فريق من الذين أوتوا الكتاب" كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ) : أي أن القوم كانوا يعلمون ، ولكنهم أفسدوا علمهم ، وجحدوا وكفروا وكتموا .
[ ص: 405 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان )
قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) ، الفريق من أحبار اليهود وعلمائها ، الذين وصفهم الله - جل ثناؤه - بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى ، وراء ظهورهم ، تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون ، كأنهم لا يعلمون . فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه ، وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه ، وذلك هو الخسار والضلال المبين .
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) . فقال بعضهم : عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة ، فوجدوا التوراة للقرآن موافقة ، تأمر من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، بمثل الذي يأمر به القرآن ، فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(147)
الحلقة (161)
صــ 406إلى صــ 411
ذكر من قال ذلك :
1646 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) - على عهد سليمان - قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم ، فتحدث الكهنة الناس ، فيجدونه كما قالوا . حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم فأدخلوا فيه غيره ، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة ، فاكتتب [ ص: 406 ] الناس ذلك الحديث في الكتب ، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب ، فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب ، فجعلها في صندوق ، ثم دفنها تحت كرسيه ، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق ، وقال : لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه! فلما مات سليمان ، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ، وخلف بعد ذلك خلف ، تمثل الشيطان في صورة إنسان ، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل ، فقال : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا : نعم . قال : فاحفروا تحت الكرسي ، وذهب معهم فأراهم المكان ، وقام ناحية ، فقالوا له : فادن! قال : لا ولكني هاهنا في أيديكم ، فإن لم تجدوه فاقتلوني! فحفروا فوجدوا تلك الكتب ، فلما أخرجوها قال الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ، ثم طار فذهب ، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا ، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب ، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها ، فذلك حين يقول : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .
1647 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، قالوا : إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة ، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه ، فيخصمهم ، فلما رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل إلينا منا! وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله جل وعز : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر [ ص: 407 ] والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان - وكان سليمان لا يعلم الغيب ، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس ، وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه! فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث ، فرجعوا من عنده وقد حزنوا ، وأدحض الله حجتهم .
1648 - وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، قال : لما جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدقا لما معهم ، ( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب ) الآية ، قال : اتبعوا السحر ، وهم أهل الكتاب . فقرأ حتى بلغ : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان .
ذكر من قال ذلك :
1649 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان ، فاتبعته اليهود على ملكه ، يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان .
1650 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق قال : عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام ، فكتبوا أصناف السحر : "من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا ، فليفعل كذا وكذا" . حتى إذا صنعوا أصناف السحر ، جعلوه في كتاب ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان ، وكتبوا في عنوانه : "هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم" ، ثم دفنوه تحت كرسيه ، فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا ، فلما عثروا عليه قالوا : ما كان سليمان [ ص: 408 ] بن داود إلا بهذا! فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه ، فليس في أحد أكثر منه في يهود . فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما نزل عليه من الله ، سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين ، قال من كان بالمدينة من يهود : ألا تعجبون لمحمد ! يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) .
قال : كان حين ذهب ملك سليمان ، ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات ، فلما رجع الله إلى سليمان ملكه ، قام الناس على الدين كما كانوا ، وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ، وتوفي سليمان حدثان ذلك ، فظهرت الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان ، وقالوا : هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه منا! فأخذوا به فجعلوه دينا ، فأنزل الله : ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين ) ، وهي المعازف واللعب ، وكل شيء يصد عن ذكر الله .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا نبوته ، وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل ، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله ، وهجرهم العمل به ، وهو في أيديهم يعلمونه [ ص: 409 ] ويعرفون أنه كتاب الله ، واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان . وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وإنما اخترنا هذا التأويل ، لأن المتبعة ما تلته الشياطين ، في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق ، وأمر السحر لم يزل في اليهود . ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله : ( واتبعوا ) بعضا منهم دون بعض . إذ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا - من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) - إلى أخلافهم بعدهم ، ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول ، ولا حجة تدل عليه؛ فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال : كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود ، داخل في معنى الآية ، على النحو الذي قلنا .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ما تتلو الشياطين )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( ما تتلو الشياطين ) ، الذي تتلو . فتأويل الكلام إذا : واتبعوا الذي تتلو الشياطين .
واختلف في تأويل قوله : ( تتلو ) . فقال بعضهم : يعني بقوله : ( تتلو ) ، تحدث وتروي ، وتتكلم به وتخبر ، نحو "تلاوة" الرجل للقرآن ، وهي قراءته . ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك ، إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم .
ذكر من قال ذلك :
1651 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن عمرو ، عن مجاهد في قول الله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، قال : كانت الشياطين تسمع الوحي ، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها [ ص: 410 ] مائتين مثلها . فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه ، فلما توفي سليمان وجدته الشياطين ، فعلمته الناس ، وهو السحر .
1652 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، من الكهانة والسحر . وذكر لنا ، والله أعلم ، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم ، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه .
1653 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عطاء : قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) ، قال : نراه ما تحدث .
1654 - حدثني سلم بن جنادة السوائي قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان ، فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر ، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس .
وقال آخرون : معنى قوله : ( ما تتلو ) ، ما تتبعه وترويه وتعمل به .
ذكر من قال ذلك :
1655 - حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي قال : حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : ( تتلو ) ، قال : تتبع .
1656 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ، عن أبي رزين مثله . [ ص: 411 ]
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان ، باتباعهم ما تلته الشياطين .
ولقول القائل : "هو يتلو كذا" في كلام العرب معنيان . أحدهما : الاتباع ، كما يقال : "تلوت فلانا" إذا مشيت خلفه وتبعت أثره ، كما قال جل ثناؤه : ( هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت ) [ يونس : 30 ] ، يعني بذلك تتبع .
والآخر : القراءة والدراسة ، كما تقول : "فلان يتلو القرآن" ، بمعنى أنه يقرأه ويدرسه ، كما قال حسان بن ثابت :
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مشهد
ولم يخبرنا الله جل ثناؤه - بأى معنى"التلاوة" كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان - بخبر يقطع العذر . وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا فتكون كانت متبعته بالعمل ، ودارسته بالرواية ، فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك ، وعملت به ، وروته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(148)
الحلقة (162)
صــ 412إلى صــ 417
القول في تأويل قوله تعالى : ( ملك سليمان )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( على ملك سليمان ) ، في ملك سليمان . وذلك أن العرب تضع "في" موضع "على" و"على" في موضع "في" . [ ص: 412 ] من ذلك قول الله جل ثناؤه : ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) [ سورة طه : 71 ] يعني به : على جذوع النخل ، وكما قالوا : "فعلت كذا في عهد كذا ، وعلى عهد كذا" ، بمعنى واحد . وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله :
1657 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال ابن جريج : ( على ملك سليمان ) ، يقول : في ملك سليمان .
1658 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال ابن أبي إسحاق في قوله : ( على ملك سليمان ) ، أي : في ملك سليمان .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر )
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وما هذا الكلام ، من قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان ، بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان ، بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟
قيل : وجه ذلك ، أن الذين أضاف الله - جل ثناؤه - إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود ، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى [ ص: 413 ] الشياطين من ذلك ، إلى سليمان بن داود . وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته ، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر؛ فحسنوا بذلك - من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر - أنفسهم ، عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه ، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة ، وتبرأ بإضافة ذلك إلىسليمان - من سليمان ، وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم - منهم بشر ، وأنكروا أن يكون كان لله رسولا وقالوا : بل كان ساحرا ، فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها ، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها ، وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك ، بأن سليمان كان يعمله ، فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا ، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا - في عملهم بالسحر - ما تلته الشياطين في عهد سليمان ، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله ، واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه .
ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والآثار :
1659 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر ، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته ، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه ، فدنت إلى الإنس فقالوا لهم : أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا : نعم . قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه ، فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به . فقال أهل الحجاز : كان سليمان [ ص: 414 ] يعمل بهذا ، وهذا سحر! فأنزل الله - جل ثناؤه - على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان . فقال : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) الآية ، فأنزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام .
1660 - حدثني أبو السائب السوائي قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الذي أصاب سليمان بن داود ، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة ، وكانت من أكرم نسائه عليه ، قال : فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم ، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا . قال : وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء ، أو يأتي شيئا من نسائه ، أعطى الجرادة خاتمه ، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به ، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي! فأخذه فلبسه . فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس ، قال : فجاءها سليمان فقال : هاتي خاتمي! فقالت : كذبت ، لست بسليمان ! قال : فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به . قال : فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر ، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها فقرأوها على الناس وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب! قال : فبرئ الناس من سليمان وأكفروه ، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنزل جل ثناؤه : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) - يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر - ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، فأنزل الله جل وعز عذره .
1661 - حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال ، سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مجلز قال : أخذ سليمان من كل [ ص: 415 ] دابة عهدا ، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد ، خلي عنه ، فرأى الناس السجع والسحر ، وقالوا : هذا كان يعمل به سليمان! فقال الله جل ثناؤه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .
1662 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمران بن الحارث قال : بينا نحن عند ابن عباس إذ جاءه رجل فقال له ابن عباس : من أين جئت؟ قال : من العراق . قال : من أيه؟ قال : من الكوفة . قال : فما الخبر؟ قال : تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم! ففزع فقال : ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه ، ولا قسمنا ميراثه! أما إني أحدثكم من ذلك : إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء ، فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها ، فإذا حدث منه صدق ، كذب معها سبعين كذبة ، قال : فتشربها قلوب الناس . فأطلع الله عليها سليمان ، فدفنها تحت كرسيه ، فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز مثله؟ تحت الكرسي! فأخرجوه ، فقالوا : هذا سحر! فتناسخها الأمم - حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل العراق - فأنزل الله عذر سليمان : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . .
1663 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا ، والله أعلم ، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم ، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه ، فلما سمع بذلك سليمان نبي الله صلى [ ص: 416 ] الله عليه وسلم تتبع تلك الكتب ، فأتى بها فدفنها تحت كرسيه ، كراهية أن يتعلمها الناس ، فلما قبض الله نبيه سليمان ، عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس ، فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به ، فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك ، فقال جل ثناؤه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) .
1664 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك ، ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان . فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب ، فقالوا : هذا علم كتمناه سليمان ! فقال الله جل وعز : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .
1665 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، قال : كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء ، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها ، وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه ، فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس .
1666 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن شهر بن حوشب قال : لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان . فكتبت : "من أراد أن يأتي كذا وكذا ، فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا ، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا ، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا" ، فكتبته وجعلت عنوانه : "هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [ ص: 417 ] بن داود من ذخائر كنوز العلم" ، ثم دفنته تحت كرسيه ، فلما مات سليمان ، قام إبليس خطيبا فقال : يا أيها الناس ، إن سليمان لم يكن نبيا ، وإنما كان ساحرا ، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ، ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه؛ فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرا! هذا سحره! بهذا تعبدنا ، وبهذا قهرنا! فقال المؤمنون : بل كان نبيا مؤمنا! فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم ، جعل يذكر الأنبياء ، حتى ذكر داود وسليمان ، فقالت اليهود : انظروا إلى محمد ! يخلط الحق بالباطل! يذكر سليمان مع الأنبياء ، وإنما كان ساحرا يركب الريح! فأنزل الله عذر سليمان : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(149)
الحلقة (163)
صــ 418إلى صــ 423
1667 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين ، قال بعض أحبار اليهود : ألا تعجبون من محمد ! يزعم أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله في ذلك من قولهم : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، - أي باتباعهم السحر وعملهم به - ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) .
قال أبو جعفر : فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ، وتأويل قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ما ذكرنا فبين أن في الكلام متروكا ، ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه ، وأن معنى الكلام : واتبعوا ما تتلو الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى سليمان ، وما كفر سليمان ، فيعمل بالسحر ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس [ ص: 418 ] السحر . وقد كان قتادة يتأول قوله : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) على ما قلنا .
1668 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، يقول : ما كان عن مشورته ولا عن رضا منه ، ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه .
وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى "تتلو" ، وتوجيه من وجه ذلك إلى أن "تتلو" بمعنى "تلت"؛ إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله : ( واتبعوا ) ، وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك . وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وأما معنى قوله : ( ما تتلو ) ، فإنه بمعنى : الذي تتلو ، وهو السحر .
1669 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، أي السحر .
قال أبو جعفر : ولعل قائلا أن يقول : أوما كان السحر إلا أيام سليمان؟
قيل له : بلى ، قد كان ذلك قبل ذلك ، وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم ، وقد كانوا قبل سليمان ، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح : إنه ساحر .
[ فإن ] قال : فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟ [ ص: 419 ] قيل : لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان ، على ما قد قدمنا البيان عنه ، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه ، مما كانوا وجدوه ، إما في خزائنه ، وإما تحت كرسيه ، على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك ، فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته ، فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب ، وإن كانت الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت )
قال أبو جعفر : اختلف أهل العلم في تأويل "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) . فقال بعضهم : معناه الجحد ، وهي بمعنى "لم" .
ذكر من قال ذلك :
1670 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) فإنه يقول : لم ينزل الله السحر .
1671 - حدثنا ابن حميد قال : حدثني حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس : ( وما أنزل على الملكين ) ، قال : ما أنزل الله عليهما السحر .
فتأويل الآية - على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع ، من توجيههما معنى قوله : ( وما أنزل على الملكين ) إلى : ولم ينزل على الملكين - : واتبعوا الذي تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر ، وما كفر سليمان ، ولا أنزل الله السحر على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر "ببابل هاروت وماروت" . فيكون حينئذ قوله : " ( ببابل هاروت وماروت ) ، من المؤخر الذي معناه التقديم . [ ص: 420 ]
فإن قال لنا قائل : وكيف - وجه تقديم ذلك؟
قيل : وجه تقديمه أن يقال : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [ من السحر ] ، وما أنزل [ الله السحر ] على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت - فيكون معنيا ب "الملكين" : جبريل وميكائيل ، لأن سحرة اليهود ، فيما ذكر ، كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبها الله بذلك ، وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط ، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر ، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس [ ذلك ] ببابل ، وأن اللذين يعلمانهم ذلك رجلان : اسم أحدهما هاروت ، واسم الآخر ماروت . فيكون " هاروت وماروت " ، على هذا التأويل ، ترجمة على "الناس" وردا عليهم .
وقال آخرون : بل تأويل "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) - "الذي" .
ذكر من قال ذلك :
1672 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : قال معمر ، قال قتادة والزهري عن عبد الله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، كانا ملكين من الملائكة ، فأهبطا ليحكما بين الناس ، وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم . قال : فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ، ثم ذهبا يصعدان ، فحيل بينهما وبين ذلك ، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . قال معمر ، قال قتادة : فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : "إنما نحن فتنة فلا تكفر" . [ ص: 421 ]
1673 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا . يقول : خاصموه بما أنزل على الملكين ، وأن كلام الملائكة فيما بينهم ، إذا علمته الإنس فصنع وعمل به ، كان سحرا .
1674 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) . فالسحر سحران : سحر تعلمه الشياطين ، وسحر يعلمه هاروت وماروت .
1675 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، قال : التفريق بين المرء وزوجه .
1676 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ) ، فقرأ حتى بلغ : ( فلا تكفر ) ، قال : الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر .
قال أبو جعفر : فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه : واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت ، وهما ملكان من ملائكة الله ، سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى .
قال أبو جعفر إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن ينزل الله السحر ، أم [ ص: 422 ] هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس ؟
قلنا له : إن الله عز وجل قد أنزل الخير والشر كله ، وبين جميع ذلك لعباده ، فأوحاه إلى رسله ، وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم . وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها ، ونهاهم عن ركوبها . فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها ، ونهاهم عن العمل بها .
وليس في العلم بالسحر إثم ، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب . وإنما الإثم في عمله وتسويته . وكذلك لا إثم في العلم بالسحر ، وإنما الإثم في العمل به ، وأن يضر به ، من لا يحل ضره به .
فليس في إنزال الله إياه على الملكين ، ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس ، إثم ، إذ كان تعليمهما من علماه ذلك ، بإذن الله لهما بتعليمه ، بعد أن يخبراه بأنهما فتنة ، وينهاه عن السحر والعمل به والكفر . وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به ، إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به . ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك ، لم يكن من تعلمه حرجا ، كما لم يكونا حرجين لعلمهما [ ص: 423 ] به؛ إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما .
وقال آخرون : معنى "ما" معنى "الذي" ، وهي عطف على "ما" الأولى . غير أن الأولى في معنى السحر ، والآخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه .
فتأويل الآية على هذا القول : واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان ، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت .
ذكر من قال ذلك :
1677 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك قول الله جل ثناؤه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) . وكان يقول : أما السحر ، فإنما يعلمه الشياطين ، وأما الذي يعلم الملكان ، فالتفريق بين المرء وزوجه ، كما قال الله تعالى .
وقال آخرون : جائز أن تكون "ما" بمعنى "الذي" ، وجائز أن تكون "ما" بمعنى "لم" .
ذكر من قال ذلك :
1678 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد - وسأله رجل عن قول الله : ( يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) فقال الرجل : يعلمان الناس ما أنزل عليهما ، أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؟ قال القاسم : ما أبالي أيتهما كانت .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(150)
الحلقة (164)
صــ 424إلى صــ 429
1679 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : حدثنا أنس بن عياض ، عن [ ص: 424 ] بعض أصحابه ، أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله تعالى ذكره : ( وما أنزل على الملكين ) ، فقيل له : أأنزل أو لم ينزل؟ فقال : لا أبالي أي ذلك كان ، إلا أني آمنت به . .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، قول من وجه "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) إلى معنى "الذي" ، دون معنى "ما" التي هي بمعنى الجحد . وإنما اخترت ذلك ، من أجل أن "ما" إن وجهت إلى معنى الجحد ، تنفي عن "الملكين" أن يكونا منزلا إليهما ، ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما - أعني "هاروت وماروت" - من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما أو بدلا من "الناس" في قوله : ( يعلمون الناس السحر ) ، وترجمة عنهم . فإن جعلا بدلا من "الملكين" وترجمة عنهما ، بطل معنى قوله : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) ؛ لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه ، فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه؟ [ ص: 425 ]
وبعد ، فإن "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) ، إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله : ( وما كفر سليمان ) ، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله : ( وما كفر سليمان ) ، عن سليمان أن يكون السحر من عمله أو من علمه أو تعليمه ، فإن كان الذي نفي عن الملكين من ذلك نظير الذي نفي عنسليمان منه - وهاروت وماروت هما الملكان - فمن المتعلم منه إذا ما يفرق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين .
وإن كان قوله "هاروت وماروت" ترجمة عن "الناس" الذين في قوله : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) ، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر ، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما! فإن يكن ذلك كذلك ، فلن يخلو "هاروت وماروت" - عند قائل هذه المقالة - من أحد أمرين :
إما أن يكونا ملكين ، فإن كانا عنده ملكين ، فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس ، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه - أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب! وفي خبر الله عز وجل عنهما - أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول .
أو أن يكونا رجلين من بني آدم . فإن يكن ذلك كذلك ، فقد كان يجب أن يكونا بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل - من بني آدم ؛ لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم ، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما ، عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما . [ ص: 426 ] وفي وجود السحر في كل زمان ووقت ، أبين الدلالة على فساد هذا القول . وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم ، لم يعدما من الأرض منذ خلقت ، ولا يعدمان بعدما وجد السحر في الناس ، فيدعي ما لا يخفى بطوله .
فإذ فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها ، فبين أن معنى ( ما ) التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين ) بمعنى "الذي" ، وأن "هاروت وماروت" ، مترجم بهما عن الملكين ، ولذلك فتحت أواخر أسمائهما ، لأنهما في موضع خفض على الرد على "الملكين" . ولكنهما لما كانا لا يجران ، فتحت أواخر أسمائهما .
فإن التبس على ذي غباء ما قلنا فقال : وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟
قيل له : إن الله - جل ثناؤه - عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه ، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه . ولو كان الأمر على غير ذلك ، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم . فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه ، فغير منكر أن يكون - جل ثناؤه - علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله ، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم - كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما : ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) - ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه ، وعن السحر ، فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما ، ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما ، ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك - لله مطيعين ، إذ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان . وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله ، فلم يكن ذلك لهم ضائرا ، [ ص: 427 ] إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به ، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه ، فكذلك الملكان ، غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما ، بعد نهيهما إياه عنه ، وعظتهما له بقولهما : ( إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ، إذ كانا قد أديا ما أمرا به بقيلهما ذلك ، كما : -
1680 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) إلى قوله : ( فلا تكفر ) ، أخذ عليهما ذلك .
ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين ، ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله : ( ببابل ) :
1681 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثني أبي ، عن قتادة قال : حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب ، عن ابن عباس قال : إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم ، فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا : يا رب ، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك ، وأسجدت له ملائكتك ، وعلمته أسماء كل شيء ، يعملون بالخطايا! قال : أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم . قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال : فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض ، قال : فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وأحل لهما ما فيها من شيء ، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا ، ولا يزنيا ، ولا يشربا الخمر ، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق . قال : فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن ، يقال لها : " بيذخت " فلما أبصراها أرادا بها زنا ، فقالت : لا إلا أن تشركا بالله ، وتشربا الخمر ، وتقتلا النفس ، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا : ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما [ ص: 428 ] للآخر : ارجع إليها . فقالت : لا إلا أن تشربا الخمر ، فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه ، فلما وقعا فيما وقع من الشر ، أفرج الله السماء لملائكته ، فقالوا : سبحانك! كنت أعلم! قال : فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت ، وجعلا ببابل .
1682 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا حجاج ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا : لما كثر بنو آدم وعصوا ، دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال : ربنا ألا تهلكهم! فأوحى الله إلى الملائكة : إني لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتم لفعلتم أيضا! قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا ، فأوحى الله إليهم : أن اختاروا ملكين من أفضلكم ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض ، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس ، وكان أهل فارس يسمونها " بيذخت " . قال : فوقعا بالخطيئة ، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا . ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا ) . فلما وقعا بالخطيئة ، استغفروا لمن في الأرض ، ألا إن الله هو الغفور الرحيم . فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . [ ص: 429 ]
1683 - حدثني المثنى قال : حدثني الحجاج قال : حدثنا حماد ، عن خالد الحذاء ، عن عمير بن سعيد قال ، سمعت عليا يقول : كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس ، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ، فراوداها عن نفسها ، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به يعرج به إلى السماء . فعلماها ، فتكلمت به ، فعرجت إلى السماء ، فمسخت كوكبا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(151)
الحلقة (165)
صــ 430إلى صــ 435
1684 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا : حدثنا مؤمل بن إسماعيل - وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق - جميعا ، عن الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن كعب قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب ، فقيل لهم : اختاروا منكم اثنين - وقال الحسن بن يحيى في حديثه : اختاروا ملكين - فاختاروا هاروت وماروت ، فقيل لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول ، انزلا لا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا ، ولا تشربا الخمر . قال كعب : فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الأرض حتى استكملا جميع ما نهيا عنه - وقال الحسن بن يحيى في حديثه : فما استكملا يومهما الذي أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما . [ ص: 430 ]
1685 - حدثني المثنى قال : حدثنا معلى بن أسد قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن موسى بن عقبة قال : حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار أنه حدث : أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي ، فقال الله لهم : إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب ، فاختاروا منكم ملكين . فاختاروا هاروت وماروت ، فقال الله لهما : إني أرسل رسلي إلى الناس ، وليس بيني وبينكما رسول ، انزلا إلى الأرض ، ولا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا . فقال كعب : والذي نفس كعب بيده ، ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما . [ ص: 431 ]
1686 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم ، فقيل لهما : إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات ، فبها يعصونني . قال هاروت وماروت : ربنا ، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل ، فقال لهما : انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر ، فاحكما بين الناس . فنزلا ببابل دنباوند ، فكانا يحكمان ، حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا ، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ، فأعجبهما حسنها - واسمها بالعربية ، " الزهرة " ، وبالنبطية "بيذخت" ، واسمها بالفارسية "أناهيذ" - فقال أحدهما لصاحبه : إنها لتعجبني! فقال الآخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك! فقال : الآخر : هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال : نعم ، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر : إنا نرجو رحمة الله! فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي ، فقضيا لها على زوجها ، ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها ، فأتياها لذلك ، فلما أراد الذي يواقعها ، قالت : ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء ، وبأي كلام تنزلان منها؟ فأخبراها ، فتكلمت فصعدت ، فأنساها الله ما تنزل به فبقيت مكانها ، وجعلها الله كوكبا - فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال : هذه التي فتنت هاروت وماروت ! - فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا ، فعرفا الهلك ، فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة ، فعلقا ببابل ، فجعلا يكلمان الناس كلامهما ، وهو السحر .
1687 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من [ ص: 432 ] المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : أي رب ، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ، وقد ركبوا الكفر ، وقتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، والسرقة ، والزنا ، وشرب الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم ، فقيل لهم : إنهم في غيب؛ فلم يعذروهم ، فقيل لهم : اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض ، وجعل بهما شهوات بني آدم ، وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا ، ونهيا عن قتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، والسرقة ، والزنا ، وشرب الخمر ، فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق - وذلك في زمان إدريس . وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب ، وأنها أتت عليهما ، فخضعا لها بالقول ، وأراداها على نفسها ، وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها ، وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه ، فأخرجت لهما صنما وقالت : هذا أعبد . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء الله ، ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها ، فقالت : لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا! فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم ، قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا الصنم ، أو تقتلا النفس ، أو تشربا الخمر . فقالا : كل هذا لا ينبغي ، وأهون الثلاثة شرب الخمر ، فسقتهما الخمر ، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها ، فمر بهما إنسان ، وهما في ذلك ، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه . فلما أن ذهب عنهما السكر ، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة ، وأرادا أن يصعدا إلى السماء ، فلم يستطيعا ، [ ص: 433 ] فحيل بينهما وبين ذلك ، وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب ، فعجبوا كل العجب ، وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل خشية فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض - وأنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة ، قيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا : أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له؛ فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا ببابل ، فهما يعذبان .
1688 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا فرج بن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن نافع قال : سافرت مع ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع انظر ، طلعت الحمراء؟ قلت : لا - مرتين أو ثلاثا - ثم قلت : قد طلعت! قال : لا مرحبا ولا أهلا! قلت : سبحان الله ، نجم مسخر سامع مطيع! قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الملائكة قالت : يا رب ، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال : إني ابتليتهم وعافيتكم ، قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال : فاختاروا ملكين منكم! قال : فلم يألوا أن يختاروا ، فاختاروا هاروت وماروت . [ ص: 434 ]
1689 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأما شأن هاروت وماروت ، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم ، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات . فقال لهم ربهم : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم . فاختاروا هاروت وماروت . فقال لهما حين أنزلهما : عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم ، وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء ، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول ، فافعلا كذا وكذا ، ودعا كذا وكذا . فأمرهما بأمر ونهاهما . ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما . فحكما [ ص: 435 ] فعدلا . فكانا يحكمان النهار بين بني آدم ، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة ، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان ، حتى أنزلت عليهما الزهرة - في أحسن صورة امرأة - تخاصم ، فقضيا عليها ، فلما قامت ، وجد كل واحد منهما في نفسه ، فقال أحدهما لصاحبه : وجدت مثل ما وجدت؟ قال : نعم ، فبعثا إليها : أن ائتينا نقض لك ، فلما رجعت ، قالا لها - وقضيا لها - : ائتينا! فأتتهما ، فكشفا لها عن عورتهما ، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما ، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذاتها ، فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا ، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت ، فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما ، ولم تحملهما أجنحتهما ، فاستغاثا برجل من بني آدم ، فأتياه فقالا ادع لنا ربك! فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا : سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء! فوعدهما يوما ، وغدا يدعو لهما ، فدعا لهما فاستجيب له ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فنظر أحدهما إلى صاحبه ، فقالا : نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد ، ومع الدنيا سبع مرات مثلها ، فأمرا أن ينزلا ببابل ، فثم عذابهما . وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان ، يصفقان بأجنحتهما .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(152)
الحلقة (166)
صــ 436إلى صــ 441
قال أبو جعفر : وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ : ) وما أنزل على الملكين ) ، يعني به رجلين من بني آدم . وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال ، فأما من جهة النقل ، فإجماع الحجة - على خطأ القراءة بها - من [ ص: 436 ] الصحابة والتابعين وقراء الأمصار ، وكفى بذلك شاهدا على خطئها .
وأما قوله ( ببابل ) ، فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض . وقد اختلف أهل التأويل فيها ، فقال بعضهم : إنها " بابل دنباوند " .
1690 - حدثني بذلك موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي .
وقال بعضهم : بل ذلك" بابل العراق " .
ذكر من قال ذلك :
1691 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة ، فذكرت أنها صارت في العراق ببابل ، فأتت بها هاروت وماروت ، فتعلمت منهما السحر .
قال أبو جعفر : واختلف في معنى السحر ، فقال بعضهم : هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر ، حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به ، نظير الذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء ، ويرى الشيء من بعيد فيثبته بخلاف ما هو على حقيقته ، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه! قالوا : فكذلك المسحور ذلك صفته ، يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر ، أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته ، كالذي : - [ ص: 437 ]
1692 - حدثني أحمد بن الوليد وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر ، كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله .
1693 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن نمير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت ، سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله . [ ص: 438 ]
1694 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان : أن يهود بني زريق عقدوا عقد سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلوها في بئر حزم ، حتى كان رسول الله ينكر بصره ، ودله الله على ما صنعوا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر حزم التي فيها العقد فانتزعها ، فكان [ ص: 439 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سحرتني يهود بني زريق .
وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته ، واستسخار شيء من خلق الله - إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم - أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناطرين بخلاف حقائقها التي وصفنا . وقالوا : لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب حقائق الأعيان عما هي به من الهيئات ، لم يكن بين الحق والباطل فصل ، ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها . قالوا : وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون بقوله : ( فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) [ سورة طه : 66 ] ، وفي خبر عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله ، أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين : أن الساحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره ، ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم ، كالموات والجماد والحيوان ، وصحة ما قلنا .
وقال آخرون : قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا ، وأن يسحر الإنسان والحمار ، وينشئ أعيانا وأجساما ، واعتلوا في ذلك بما : -
1695 - حدثنا به الربيع بن سليمان قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرنا ابن أبي الزناد قال : حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج [ ص: 440 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل ، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك ، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به . قالت عائشة لعروة : يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها ، كانت تبكي حتى إني لأرحمها! وتقول : إني لأخاف أن أكون قد هلكت! كان لي زوج فغاب عني ، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به ، فأجعله يأتيك! فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبت أحدهما وركبت الآخر ، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، فإذا برجلين معلقين بأرجلهما ، فقالا : ما جاء بك؟ فقلت : أتعلم السحر؟ فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي ، فأبيت وقلت : لا ، قالا : فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ، فذهبت ففزعت فلم أفعل ، فرجعت إليهما ، فقالا : أفعلت؟ قلت : نعم . فقالا : فهل رأيت شيئا؟ قلت : لم أر شيئا! فقالا لي : لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأرببت وأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ، فذهبت ، فاقشعررت ، ثم رجعت إليهما فقلت : قد فعلت ، فقالا : فما رأيت؟ [ ص: 441 ] فقلت : لم أر شيئا . فقالا : كذبت لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري ، فإنك على رأس أمرك! فأرببت وأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه . فذهبت إليه فبلت فيه ، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء ، وغاب عني حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت : قد فعلت! فقالا : ما رأيت؟ فقلت : فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه ، فقالا : صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي! فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئا! وما قالا لي شيئا! فقالت : بلى ، لن تريدي شيئا إلا كان! خذي هذا القمح فابذري ، فبذرت ، وقلت : أطلعي! فأطلعت ، وقلت : أحقلي! فأحقلت ، ثم قلت : أفركي! فأفركت ، ثم قلت : أيبسي! فأيبست ، ثم قلت : أطحني! فأطحنت ، ثم قلت : أخبزي ، فأخبزت ، فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان ، سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين! والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(153)
الحلقة (167)
صــ 442إلى صــ 447
قال أهل هذه المقالة بما وصفنا ، واعتلوا بما ذكرنا ، وقالوا : لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله ، ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه . قالوا : وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك لو كان على غير الحقيقة ، وكان على وجه التخييل والحسبان ، لم يكن تفريقا على صحة ، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة .
وقال آخرون : بل "السحر" أخذ بالعين .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر )
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه ، حتى يقولا له : إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم ، فلا تكفر بربك ، كما : -
1696 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن [ ص: 443 ] السدي قال : إذا أتاهما - يعني هاروت وماروت - إنسان يريد السحر ، وعظاه وقالا له : لا تكفر ، إنما نحن فتنة! فإن أبى ، قالا له : ائت هذا الرماد فبل عليه ، فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء - وذلك الإيمان - وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه ، فذلك غضب الله ، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر ، فذلك قول الله : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) الآية .
1697 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة والحسن : ( حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ، قال : أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر .
1698 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : قال قتادة : كانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : "إنما نحن فتنة فلا تكفر" .
1699 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر قال : قال غير قتادة : أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه فيقولا : "إنما نحن فتنة فلا تكفر" .
1700 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن قال : أخذ عليهما أن يقولا ذلك .
1701 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : "إنما نحن فتنة فلا تكفر" . لا يجترئ على السحر إلا كافر . [ ص: 444 ]
وأما الفتنة في هذا الموضع ، فإن معناها : الاختبار والابتلاء ، من ذلك قول الشاعر .
وقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شرا طويلا
ومنه قوله : "فتنت الذهب في النار" ، إذا امتحنتها لتعرف جودتها من رداءتها ، "أفتنها فتنة وفتونا" ، كما : -
1702 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ( إنما نحن فتنة ) ، أي بلاء .
[ ص: 445 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه )
قال أبو جعفر : وقوله جل ثناؤه : ( فيتعلمون منهما ) ، خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنزل عليهما ، وليس بجواب لقوله : ( وما يعلمان من أحد ) ، بل هو خبر مستأنف ، ولذلك رفع فقيل : "فيتعلمون" ، فمعنى الكلام إذا : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة ، فيأبون قبول ذلك منهما ، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه .
وقد قيل : إن قوله : ( فيتعلمون ) ، خبر عن اليهود معطوف على قوله "ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت" ، " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) . وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم .
والذي قلنا أشبه بتأويل الآية؛ لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام ، ما كان للتأويل وجه صحيح ، أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام .
و"الهاء" و"الميم" و"الألف" من قوله : ( منهما ) ، من ذكر الملكين ، ومعنى ذلك : فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرقون به بين المرء وزوجه .
و"ما" التي مع "يفرقون" بمعنى "الذي" . وقيل : معنى ذلك : السحر الذي يفرقون به . وقيل : هو معنى غير السحر . وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى قبل . [ ص: 446 ]
وأما "المرء" ، فإنه بمعنى : رجل من أسماء بني آدم ، والأنثى منه "المرأة" . يوحد ويثنى ، ولا تجمع ثلاثته على صورته ، يقال منه : "هذا امرؤ صالح ، وهذان امرآن صالحان" ، ولا يقال : هؤلاء امرؤو صدق ، ولكن يقال : "هؤلاء رجال صدق" ، وقوم صدق . وكذلك المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها . يقال : هذه امرأة ، وهاتان امرأتان" ، ولا يقال : هؤلاء امرآت ، ولكن : "هؤلاء نسوة" .
وأما "الزوج" ، فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل : "هي زوجه" بمنزلة الزوج الذكر ، ومن ذلك قول الله تعالى ذكره : ( أمسك عليك زوجك ) [ سورة الأحزاب : 37 ] ، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون : "هي زوجته" ، كما قال الشاعر :
وإن الذي يمشي يحرش زوجتي كماش إلى أسد الشرى يستبيلها
فإن قال قائل : وكيف يفرق الساحر بين المرء وزوجه؟ قيل : قد دللنا فيما مضى على أن معنى "السحر" : تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته ، بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه . فإن كان [ ص: 447 ] ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه ، فتفريقه بين المرء وزوجه : تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخص الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته ، من حسن وجمال ، حتى يقبحه عنده ، فينصرف بوجهه ويعرض عنه ، حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا ، فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذي كان منه فرقة ما بينهما ، وقد دللنا ، في غير موضع من كتابنا هذا ، على أن العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه ، وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قاله عدد من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(154)
الحلقة (168)
صــ 448إلى صــ 453
1703 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) ، وتفريقهما : أن يؤخذ كل واحد منهما عن صاحبه ، ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه .
وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه ، فإنهم وجهوا تأويل قوله : ( فيتعلمون منهما ) إلى "فيتعلمون مكان ما علماهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، كقول القائل : ليت لنا كذا من كذا" ، أي مكان كذا ، كما قال الشاعر :
جمعت من الخيرات وطبا وعلبة وصرا لأخلاف المزنمة البزل
[ ص: 448 ] ومن كل أخلاق الكرام نميمة وسعيا على الجار المجاور بالنجل
يريد بقوله : "جمعت من الخيرات" ، مكان خيرات الدنيا ، هذه الأخلاق الرديئة والأفعال الدنيئة ، ومنه قول الآخر :
صلدت صفاتك أن تلين حيودها وورثت من سلف الكرام عقوقا
يعني : ورثت مكان سلف الكرام عقوقا من والديك .
[ ص: 449 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) ، وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، بضارين - بالذي تعلموه منهما ، من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه - من أحد من الناس إلا من قد قضى الله عليه أن ذلك يضره . فأما من دفع الله عنه ضره ، وحفظه من مكروه السحر والنفث والرقى ، فإن ذلك غير ضاره ، ولا نائله أذاه .
ول "الإذن" في كلام العرب أوجه ، منها : الأمر على غير وجه الإلزام ، وغير جائز أن يكون منه قوله : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) ؛ لأن الله - جل ثناؤه - قد حرم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر - فكيف به على وجه السحر؟ - على لسان الأمة .
ومنها : التخلية بين المأذون له ، والمخلى بينه وبينه .
ومنها العلم بالشيء ، يقال منه : "قد أذنت بهذا الأمر" إذا علمت به "آذن به إذنا" ، ومنه قول الحطيئة :
ألا يا هند إن جددت وصلا وإلا فأذنيني بانصرام
يعني فأعلميني . ومنه قوله جل ثناؤه : ( فأذنوا بحرب من الله ) [ سورة البقرة : 279 ] ، وهذا هو معنى الآية ، كأنه قال جل ثناؤه : وما هم بضارين ، [ ص: 450 ] بالذي تعلموا من الملكين ، من أحد إلا بعلم الله . يعني : بالذي سبق له في علم الله أنه يضره . كما : -
1704 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان في قوله : ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) ، قال : بقضاء الله .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ( ويتعلمون ) ، الناس الذين يتعلمون من الملكين ما أنزل عليهما من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه ، يتعلمون منهما السحر الذي يضرهم في دينهم ، ولا ينفعهم في معادهم . فأما في العاجل في الدنيا ، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ، فقال جل ثناؤه : لقد علم النابذون - من يهود بني [ ص: 451 ] إسرائيل - كتابي وراء ظهورهم تجاهلا منهم ، التاركون العمل بما فيه من اتباعك يا محمد واتباع ما جئت به ، بعد إنزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم ، وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم ، المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان ، والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت - لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنزلته على رسولي فآثره عليه ما له في الآخرة من خلاق . كما : -
1705 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، يقول : قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم : أن الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة .
1706 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، يعني اليهود . يقول : لقد علمت اليهود أن من تعلمه أو اختاره ، ما له في الآخرة من خلاق .
1707 - وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، لمن اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه .
1708 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، قال : قد علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة : أن من اشترى السحر وترك دين الله ، ما له في الآخرة من خلاق ، فالنار مثواه ومأواه .
قال أبو جعفر : وأما قوله : ( لمن اشتراه ) ، فإن "من" في موضع رفع ، وليس [ ص: 452 ] قوله : ( ولقد علموا ) بعامل فيها؛ لأن قوله : ( ولقد علموا ) ، بمعنى اليمين ، فلذلك كانت في موضع رفع؛ لأن الكلام بمعنى : والله لمن اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق . ولكون قوله : ( قد علموا ) بمعنى اليمين ، حققت ب "لام اليمين" ، فقيل : ( لمن اشتراه ) ، كما يقال : "أقسم لمن قام خير ممن قعد" . وكما يقال : "قد علمت ، لعمرو خير من أبيك" .
وأما "من" فهو حرف جزاء . وإنما قيل : "اشتراه" ولم يقل : "يشتروه" ، لدخول "لام القسم" على "من" . ومن شأن العرب - إذا أحدثت على حرف الجزاء لام القسم - أن لا ينطقوا في الفعل معه إلا ب "فعل" دون "يفعل" ، إلا قليلا كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثا وهو مجزوم ، كما قال الله جل ثناؤه : ( لإن أخرجوا لا يخرجون معهم ) [ سورة الحشر : 12 ] ، وقد يجوز إظهار فعله بعده على "يفعل" مجزوما ،
كما قال الشاعر :
لإن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ليعلم ربي أن بيتي واسع
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ما له في الآخرة من خلاق ) . فقال بعضهم : "الخلاق" في هذا الموضع : النصيب .
ذكر من قال ذلك :
1709 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، يقول : من نصيب . [ ص: 453 ]
1710 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، من نصيب .
1711 - حدثني المثنى قال : حدثني إسحاق قال : حدثنا وكيع ، قال سفيان : سمعنا في : ( وما له في الآخرة من خلاق ) ، أنه ما له في الآخرة من نصيب .
وقال بعضهم : "الخلاق" ههنا الحجة .
ذكر من قال ذلك :
1712 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( وما له في الآخرة من خلاق ) ، قال : ليس له في الآخرة حجة .
وقال آخرون : الخلاق : الدين .
ذكر من قال ذلك :
1713 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : قال الحسن : ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، قال : ليس له دين .
وقال آخرون : "الخلاق" ههنا القوام .
ذكر من قال ذلك :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(155)
الحلقة (169)
صــ 454إلى صــ 459
1714 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، قال : قوام .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى"الخلاق " في هذا الموضع : النصيب . وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب .
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 454 ]
1715 - "ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم" .
يعني لا نصيب لهم ولا حظ في الإسلام والدين . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم إلا سرابيل من قطر وأغلال
يعني بذلك : لا نصيب لهم ولا حظ ، إلا السرابيل والأغلال .
فكذلك قوله : ( ما له في الآخرة من خلاق ) : ما له في الدار الآخرة حظ من الجنة ، من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يجازى به في الجنة ويثاب عليه ، فيكون له حظ ونصيب من الجنة . وإنما قال جل ثناؤه : ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، فوصفه بأنه لا نصيب له في الآخرة ، وهو يعني به : لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار ، إذ كان قد دل ذمه - جل ثناؤه - أفعالهم - التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب - على مراده من الخبر ، وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات ، وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا .
[ ص: 455 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ( 102 ) )
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى "شروا" : "باعوا" ، فمعنى الكلام إذا : ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته ، كما :
1716 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ( ولبئس ما شروا به أنفسهم ) ، يقول : بئس ما باعوا به أنفسهم .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قال جل ثناؤه : ( ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) ؟ وقد قال قبل : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم ، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم؟
قيل : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته ، من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به ، ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وإنما معنى الكلام : وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله ، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق . فقوله : ( لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) ، ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه ، وخبر منه - جل ثناؤه - عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم ، برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة ، جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم ، وخسارة صفقة بيعهم؛ إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله ، ولا يعرف حلاله وحرامه ، [ ص: 456 ] وأمره ونهيه . ثم عاد إلى الفريق - الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين - فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر ، ما له في الآخرة من خلاق; ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها ، ويكفرون بالله ورسله ، ويؤثرون اتباع الشياطين والعمل بما أحدثته من السحر ، على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله ، عنادا منهم ، وبغيا على رسله ، وتعديا منهم لحدوده ، على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب ، فذلك تأويل قوله .
وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، يعني به الشياطين ، وأن قوله : ( لو كانوا يعلمون ) ، يعني به الناس . وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف؛ وذلك أنهم مجمعون على أن قوله : ( ولقد علموا لمن اشتراه ) ، معني به اليهود دون الشياطين : ثم هو - مع ذلك - خلاف ما دل عليه التنزيل؛ لأن الآيات قبل قوله : ( ولقد علموا لمن اشتراه ) ، وبعد قوله : ( لو كانوا يعلمون ) ، جاءت من الله بذم اليهود وتوبيخهم على ضلالهم ، وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم ، مع علمهم بخطأ فعلهم ، فقوله : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، أحد تلك الأخبار عنهم .
وقال بعضهم : إن الذين وصف الله - جل ثناؤه - بقوله : ( ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) ، فنفى عنهم العلم ، هم الذين وصفهم الله بقوله : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) . وإنما نفى عنهم - جل ثناؤه - العلم بقوله : ( لو كانوا يعلمون ) - بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله : ( ولقد علموا ) - من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا ، وإنما العالم العامل بعلمه ، وأما إذا خالف عمله علمه ، فهو في معاني الجهال . قال : وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل ، وإن كان بفعله عالما : "لو علمت لأقصرت" كما قال كعب بن زهير المزني ، وهو [ ص: 457 ] يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده :
إذ حضراني قلت : لو تعلمانه! ألم تعلما أني من الزاد مرمل
فأخبر أنه قال لهما : "لو تعلمانه" ، فنفى عنهما العلم ، ثم استخبرهما فقال : ألم تعلما؟ قالوا : فكذلك قوله : ( ولقد علموا لمن اشتراه ) و ( لو كانوا يعلمون )
وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووجه فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب ، أعني بقوله : ( ولقد علموا ) وقوله : ( لو كانوا يعلمون ) ، وإنما هو استخراج ، وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفي الباطن منه ، حتى تأتي دلالة - من الوجه الذي يجب التسليم له - بمعنى خلاف دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن - أولى .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ( 103 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا ) ، لو أن الذين يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، "آمنوا" فصدقوا الله ورسوله وما جاءهم به من عند ربهم ، و"اتقوا" ربهم فخافوه فخافوا عقابه ، فأطاعوه بأداء فرائضه وتجنبوا معاصيه - لكان جزاء الله إياهم ، وثوابه لهم على إيمانهم به وتقواهم إياه ، خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا به ، "لو كانوا يعلمون" أن ثواب الله إياهم على ذلك [ ص: 458 ] خير لهم من السحر ومما اكتسبوا به . وإنما نفى بقوله : ( لو كانوا يعلمون ) العلم عنهم : أن يكونوا عالمين بمبلغ ثواب الله ، وقدر جزائه على طاعته .
و"المثوبة" في كلام العرب ، مصدر من قول القائل : أثبتك إثابة وثوابا ومثوبة" ، فأصل ذلك من : "ثاب إليك الشيء" بمعنى : رجع . ثم يقال : "أثبته إليك " أي ، رجعته إليك ورددته ، فكان معنى "إثابة الرجل الرجل على الهدية وغيرها" : إرجاعه إليه منها بدلا ورده عليه منها عوضا ، ثم جعل كل معوض غيره من عمله أو هديته أو يد له سلفت منه إليه : مثيبا له . ومنه "ثواب" الله عز وجل عباده على أعمالهم ، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه ، حتى يرجع إليهم بدل من عملهم الذي عملوا له .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير ) مما اكتفي - بدلالة الكلام على معناه - عن ذكر جوابه ، وأن معناه : ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا ، ولكنه استغنى - بدلالة الخبر عن المثوبة - عن قوله : لأثيبوا .
وكان بعض نحويي أهل البصرة ينكر ذلك ، ويرى أن جواب قوله : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا ) ، ( لمثوبة ) ، وأن "لو" إنما أجيبت "بالمثوبة" ، وإن كانت أخبر عنها بالماضي من الفعل لتقارب معناه من معنى "لإن" في أنهما جزاءان ، فإنهما جوابان للإيمان ، فأدخل جواب كل واحدة منهما على صاحبتها - فأجيبت "لو" بجواب "لإن" ، و"لإن" بجواب "لو" ، لذلك ، وإن اختلفت أجوبتهما ، فكانت "لو" من حكمها وحظها أن تجاب بالماضي من الفعل ، وكانت "لإن" من حكمها وحظها أن تجاب بالمستقبل من الفعل - لما وصفنا من تقاربهما؛ فكان يتأول معنى قوله : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا ) : ولإن آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير . [ ص: 459 ]
وبما قلنا في تأويل "المثوبة" قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
1717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( لمثوبة من عند الله ) ، يقول : ثواب من عند الله .
1718 - حدثني يونس قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله ) ، أما "المثوبة" فهو الثواب .
1719 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير ) ، يقول : لثواب من عند الله .
القول في تأويل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( لا تقولوا راعنا ) . فقال بعضهم : تأويله : لا تقولوا خلافا .
ذكر من قال ذلك :
1720 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : لا تقولوا خلافا .
1721 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( لا تقولوا راعنا ) ، لا تقولوا خلافا .
1722 - وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
1723 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا سفيان ، عن رجل عن مجاهد مثله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(156)
الحلقة (170)
صــ 460إلى صــ 465
1724 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد مثله . [ ص: 460 ]
وقال آخرون : تأويله : أرعنا سمعك . أي : اسمع منا ونسمع منك .
ذكر من قال ذلك :
1725 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : ( راعنا ) ، أي : أرعنا سمعك .
1726 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) ، لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك .
1727 - وحدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : ( راعنا ) ، قال : كان الرجل من المشركين يقول : أرعني سمعك .
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا : "راعنا" . فقال بعضهم : هي كلمة كانت اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والمسبة ، فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
1728 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) قول كانت تقوله اليهود استهزاء ، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم .
1729 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : كان أناس من اليهود يقولون أرعنا سمعك! حتى قالها أناس من المسلمين : فكره الله لهم ما قالت اليهود فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) ، كما قالت اليهود والنصارى . [ ص: 461 ]
1730 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) ، قال : كانوا يقولون : راعنا سمعك! فكان اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين ، فقال الله : ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا )
. 1731 - وحدثت عن المنجاب قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك! وإنما "راعنا" كقولك ، عاطنا .
1732 - وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) قال : "راعنا" القول الذي قاله القوم ، قالوا : ( سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) [ سورة النساء : 46 ] قال : "قال : هذا الراعن" - والراعن : الخطاء - قال : فقال للمؤمنين : لا تقولوا خطاء ، كما قال القوم ، وقولوا : انظرنا واسمعوا . قال : كانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمونه ، ويسمع منهم ، ويسألونه ويجيبهم .
وقال آخرون : بل هي كلمة كانت الأنصار في الجاهلية تقولها ، فنهاهم الله في الإسلام أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
1733 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثني هشيم قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن عطاء في قوله : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : كانت لغة في الأنصار في الجاهلية ، فنزلت هذه الآية : ( لا تقولوا راعنا ) ولكن قولوا انظرنا ) إلى آخر الآية . [ ص: 462 ]
1734 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن عطاء قال : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : كانت لغة في الأنصار .
1735 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء مثله .
1736 - وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : ( لا تقولوا راعنا ) ، قال : إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه : أرعني سمعك! فنهوا عن ذلك .
1737 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : "راعنا" : قول الساخر . فنهاهم أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : بل كان ذلك كلام يهودي من اليهود بعينه ، يقال له : رفاعة بن زيد ، كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم به على وجه السب له ، وكان المسلمون أخذوا ذلك عنه ، فنهى الله المؤمنين عن قيله للنبي صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
1738 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) ، كان رجل من اليهود - من قبيلة من اليهود يقال لهم بنو قينقاع - كان يدعى رفاعة بن زيد بن السائب - قال أبو جعفر : هذا خطأ ، إنما هو ابن التابوت ، ليس ابن السائب - كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا لقيه فكلمه قال : أرعني سمعك ، واسمع غير مسمع ، فكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا ، فكان [ ص: 463 ] ناس منهم يقولون : "اسمع غير مسمع" ، كقولك اسمع غير صاغر ، وهي التي في النساء ( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) [ سورة النساء : 46 ] ، يقول : إنما يريد بقوله طعنا في الدين . ثم تقدم إلى المؤمنين فقال : "لا تقولوا راعنا" .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في نهي الله - جل ثناؤه - المؤمنين أن يقولوا لنبيه : "راعنا" أن يقال : إنها كلمة كرهها الله لهم أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم ، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
1739 - "لا تقولوا للعنب الكرم ، ولكن قولوا : الحبلة" .
1740 - و"لا تقولوا : عبدي ، ولكن قولوا : فتاي" .
وما أشبه ذلك ، من الكلمتين اللتين تكونان مستعملتين بمعنى واحد في كلام العرب ، فتأتي الكراهة أو النهي باستعمال إحداهما ، واختيار الأخرى عليها في المخاطبات .
فإن قال لنا قائل : فإنا قد علمنا معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم في "العنب" أن يقال له : "كرم" ، وفي "العبد" أن يقال له : "عبد" ، فما المعنى الذي في قوله : ( راعنا ) حينئذ ، الذي من أجله كان النهي من الله - جل ثناؤه - للمؤمنين [ ص: 464 ] عن أن يقولوه ، حتى أمرهم أن يؤثروا قوله : ( انظرنا ) ؟
قيل : الذي فيه من ذلك ، نظير الذي في قول القائل : "الكرم" للعنب ، و"العبد" للمملوك . وذلك أن قول القائل : "عبدي" لجميع عباد الله ، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضاف بعض عباد الله - بمعنى العبودية - إلى غير الله ، وأمر أن يضاف ذلك إلى غيره ، بغير المعنى الذي يضاف إلى الله عز وجل ، فيقال : "فتاي" . وكذلك وجه نهيه في "العنب" أن يقال : "كرم" خوفا من توهم وصفه بالكرم ، وإن كانت مسكنة ، فإن العرب قد تسكن بعض الحركات إذا تتابعت على نوع واحد؛ فكره أن يتصف بذلك العنب ، فكذلك نهى الله - عز وجل - المؤمنين أن يقولوا : "راعنا"؛ لما كان قول القائل : "راعنا" محتملا أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك ، وارقبنا ونرقبك . من قول العرب بعضهم لبعض : "رعاك الله" : بمعنى حفظك الله وكلأك - ومحتملا أن يكون بمعنى : أرعنا سمعك ، من قولهم : "أرعيت سمعي إرعاء - أو راعيته - سمعي رعاء أو مراعاة" ، بمعنى : فرغته لسماع كلامه . كما قال الأعشى ميمون بن قيس :
يرعي إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا
يعني بقوله : "يرعي" يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك .
وكان الله - جل ثناؤه - قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه ، حتى نهاهم - جل ذكره - فيما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته ، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض ، وخوفهم على ذلك حبوط أعمالهم . فتقدم [ ص: 465 ] إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فيه جفاء ، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها ، ومن المعاني أرقها؛ فكان من ذلك قولهم : ( راعنا ) لما فيه من احتمال معنى : ارعنا نرعاك ، إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين ، كما يقول القائل : "عاطنا ، وحادثنا ، وجالسنا" ، بمعنى : افعل بنا ونفعل بك - ومعنى : أرعنا سمعك ، حتى نفهمك وتفهم عنا ، فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك ، وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم ، ليعقلوا عنه بتبجيل منهم له وتعظيم ، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له ، ولا بالفظاظة والغلظة ، تشبها منهم باليهود في خطابهم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، بقولهم له : ( اسمع غير مسمع وراعنا ) .
يدل على صحة ما قلنا في ذلك قوله : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ) ، فدل بذلك أن الذي عاتبهم عليه ، مما يسر اليهود والمشركين .
فأما التأويل الذي حكي عن مجاهد في قوله : ( راعنا ) أنه بمعنى : خلافا ، فمما لا يعقل في كلام العرب؛ لأن "راعيت" في كلام العرب إنما هو على أحد وجهين : أحدهما بمعنى "فاعلت" من "الرعية" وهي الرقبة والكلاءة . والآخر بمعنى إفراغ السمع ، بمعنى "أرعيته سمعي" . وأما "راعيت" بمعنى "خالفت" ، فلا وجه له مفهوم في كلام العرب ، إلا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين ، ثم وجهه إلى معنى الرعونة والجهل والخطأ ، على النحو الذي قال في ذلك عبد الرحمن بن زيد ، فيكون لذلك - وإن كان مخالفا قراءة القراء - معنى مفهوم حينئذ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(157)
الحلقة (171)
صــ 466إلى صــ 471
وأما القول الآخر الذي حكي عن عطية ومن حكي ذلك عنه : أن قوله : ( راعنا ) [ ص: 466 ] كانت كلمة لليهود بمعنى السب والسخرية ، فاستعملها المؤمنون أخذا منهم ذلك عنهم ، فإن ذلك غير جائز في صفة المؤمنين : أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون معناه ، ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم . ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن قتادة ، أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب ، وافقت كلمة من كلام اليهود بغير اللسان العربي ، هي عند اليهود سب ، وهي عند العرب : أرعني سمعك وفرغه لتفهم عني ، فعلم الله - جل ثناؤه - معنى اليهود في قيلهم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن معناها منهم خلاف معناها في كلام العرب ، فنهى الله - عز وجل - المؤمنين عن قيلها للنبي صلى الله عليه وسلم ، لئلا يجترئ من كان معناه في ذلك غير معنى المؤمنين فيه ، أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم به . وهذا تأويل لم يأت الخبر بأنه كذلك ، من الوجه الذي تقوم به الحجة . وإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفنا ، إذ كان ذلك هو الظاهر المفهوم بالآية دون غيره .
وقد حكي عن الحسن البصري أنه كان يقرأه : ( لا تقولوا راعنا ) بالتنوين ، بمعنى : لا تقولوا قولا "راعنا" ، من "الرعونة" وهي الحمق والجهل . وهذه قراءة لقراء المسلمين مخالفة ، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين ، وخلافها ما جاءت به الحجة من المسلمين .
ومن نون "راعنا" نونه بقوله : ( لا تقولوا ) ، لأنه حينئذ عامل فيه ، ومن لم ينونه فإنه ترك تنوينه ، لأنه أمر محكي؛ لأن القوم كأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : ( راعنا ) ، بمعنى مسألته : إما أن يرعيهم سمعه ، وإما أن يرعاهم ويرقبهم - على ما قد بينت فيما قد مضى - فقيل لهم : لا تقولوا في مسألتكم إياه "راعنا" . فتكون الدلالة على معنى الأمر في"راعنا" حينئذ سقوط الياء التي كانت [ ص: 467 ] تكون في "يراعيه" ويدل عليها - أعني على"الياء" الساقطة - كسرة "العين" من "راعنا" .
وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود : ( لا تقولوا راعونا ) ، بمعنى حكاية أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم ، فإن كان ذلك من قراءته صحيحا ، وجه أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بينهم في خطاب بعضهم بعضا ، كان خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره . ولا نعلم ذلك صحيحا من الوجه الذي تصح منه الأخبار .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقولوا انظرنا )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وقولوا انظرنا ) ، وقولوا يا أيها المؤمنون لنبيكم صلى الله عليه وسلم : انظرنا وارقبنا ، نفهم ونتبين ما تقول لنا ، وتعلمنا ، كما :
1741 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وقولوا انظرنا ) فهمنا ، بين لنا يا محمد .
1742 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وقولوا انظرنا ) فهمنا ، بين لنا يا محمد .
1743 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .
يقال منه : "نظرت الرجل أنظره نظرة" بمعنى انتظرته ورقبته ، ومنه قول الحطيئة :
[ ص: 468 ] وقد نظرتكم أعشاء صادرة للخمس ، طال بها حوزي وتنساسي
ومنه قول الله عز وجل : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم ) [ سورة الحديد : 13 ] ، يعني به : انتظرونا .
وقد قرئ : "أنظرنا" و"أنظرونا" بقطع "الألف" في الموضعين جميعا فمن قرأ ذلك كذلك أراد : أخرنا ، كما قال الله - جل ثناؤه : ( قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ) [ سورة ص : 79 ] ، أي أخرني . ولا وجه لقراءة ذلك كذلك في هذا الموضع؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمروا بالدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاستماع منه ، وإلطاف الخطاب له ، وخفض الجناح - لا بالتأخر عنه ، ولا بمسألته تأخيرهم عنه . فالصواب - إذ كان ذلك كذلك - من القراءة قراءة من وصل الألف من قوله : ( انظرنا ) ، ولم يقطعها بمعنى : انتظرنا .
وقد قيل : إن معنى ( أنظرنا ) بقطع الألف بمعنى : أمهلنا . حكي عن بعض [ ص: 469 ] العرب سماعا : "أنظرني أكلمك" ، وذكر سامع ذلك من بعضهم أنه استثبته في معناه ، فأخبره أنه أراد أمهلني ، فإن يكن ذلك صحيحا عنهم "فانظرنا" و"أنظرنا" - بقطع "الألف" ووصلها - متقاربا المعنى غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن القراءة التي لا أستجيز غيرها ، قراءة من قرأ : ( وقولوا انظرنا ) ، بوصل "الألف" بمعنى : انتظرنا ، لإجماع الحجة على تصويبها ، ورفضهم غيرها من القراءات .
القول في تأويل قوله تعالى : ( واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ( 104 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( واسمعوا ) ، واسمعوا ما يقال لكم ويتلى عليكم من كتاب ربكم ، وعوه وافهموه ، كما : -
1744 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( واسمعوا ) ، اسمعوا ما يقال لكم .
فمعنى الآية إذا : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبيكم : راعنا سمعك وفرغه لنا نفهمك وتفهم عنا ما نقول ، ولكن قولوا : انتظرنا وترقبنا حتى نفهم عنك ما تعلمنا وتبينه لنا . واسمعوا منه ما يقول لكم ، فعوه واحفظوه وافهموه ، ثم أخبرهم - جل ثناؤه - أن لمن جحد منهم ومن غيرهم آياته ، وخالف أمره ونهيه ، وكذب رسوله ، العذاب الموجع في الآخرة ، فقال : وللكافرين بي وبرسولي عذاب أليم . يعني بقوله : "الأليم" ، الموجع . وقد ذكرنا الدلالة على ذلك فيما مضى قبل ، وما فيه من الآثار .
[ ص: 470 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم )
قال أبو جعفر : يعني بقوله : ( ما يود ) ، ما يحب ، أي : ليس يحب كثير من أهل الكتاب . يقال منه : "ود فلان كذا يوده ودا وودا ومودة" .
وأما "المشركين" فإنهم في موضع خفض بالعطف على"أهل الكتاب" . ومعنى الكلام : ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم .
وأما ( أن ) في قوله : ( أن ينزل ) فنصب بقوله : ( يود ) . وقد دللنا على وجه دخول "من" في قوله : ( من خير ) وما أشبه ذلك من الكلام الذي يكون في أوله جحد ، فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
فتأويل الكلام : ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان ، أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله فنزله عليكم ، فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته ، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك ، حسدا وبغيا منهم على المؤمنين .
وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين ، والاستماع من قولهم ، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم ، بإطلاعه - جل ثناؤه - إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد ، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون .
[ ص: 471 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( 105 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( والله يختص برحمته من يشاء ) : والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته ، فيرسله إلى من يشاء من خلقه ، فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له ، و"اختصاصه" إياهم بها ، إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه . وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه ، وهدايته من هدى من عباده ، رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها بالجنة ، واستحقاقه بها ثناءه . وكل ذلك رحمة من الله له .
وأما قوله : ( والله ذو الفضل العظيم ) . فإنه خبر من الله - جل ثناؤه - عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم ، فإنه من عنده ابتداء وتفضلا منه عليهم ، من غير استحقاق منهم ذلك عليه .
وفي قوله : ( والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ، تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب : أن الذي آتى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية ، تفضل منه ، وأن نعمه لا تدرك بالأماني ، ولكنها مواهب منه يختص بها من يشاء من خلقه .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية )
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(158)
الحلقة (172)
صــ 472إلى صــ 477
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ما ننسخ من آية ) : ما ننقل من حكم آية ، إلى غيره فنبدله ونغيره ، وذلك أن يحول الحلال حراما ، والحرام [ ص: 472 ] حلالا والمباح محظورا ، والمحظور مباحا ، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي ، والحظر والإطلاق ، والمنع والإباحة . فأما الأخبار ، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ .
وأصل "النسخ" من "نسخ الكتاب" ، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها . فكذلك معنى "نسخ" الحكم إلى غيره ، إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها ، فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية ، فسواء - إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها ، ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها - أأقر خطها فترك ، أو محي أثرها ، فعفي ونسي؛ إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة ، والحكم الحادث المبدل به الحكم الأول ، والمنقول إليه فرض العباد ، هو الناسخ . يقال منه : "نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا ، و "النسخة" : الاسم . وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول :
1745 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال : حدثنا خالد بن الحارث قال : حدثنا عوف ، عن الحسن أنه قال في قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) ، قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ، ثم نسيه فلم يكن شيئا ، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ما ننسخ ) فقال بعضهم بما : - [ ص: 473 ]
1746 - حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ما ننسخ من آية ) ، أما نسخها ، فقبضها .
وقال آخرون بما : -
1747 - حدثني به المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( ما ننسخ من آية ) ، يقول : ما نبدل من آية .
وقال آخرون بما :
1748 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم قالوا : ( ما ننسخ من آية ) ، نثبت خطها ، [ ونبدل حكمها ] .
1749 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ما ننسخ من آية ) ، نثبت خطها ، ونبدل حكمها . حدثت به عن أصحاب ابن مسعود .
1750 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثني بكر بن شوذب ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أصحاب ابن مسعود : ( ما ننسخ من آية ) نثبت خطها ، [ ونبدل حكمها ] .
القول في تأويل قوله تعالى : ( أو ننسها )
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قوله ذلك؛ فقرأها أهل المدينة والكوفة : ( أو ننسها ) . ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل . [ ص: 474 ]
أحدهما : أن يكون تأويله : ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها . وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله : ( ما ننسك من آية أو ننسخها نجئ بمثلها ) ، فذلك تأويل : "النسيان" . وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
1751 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) ، كان ينسخ الآية بالآية بعدها ، ويقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك ، ثم تنسى وترفع .
1752 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، قال : كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء ، وينسخ ما شاء .
1753 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان عبيد بن عمير يقول : ( ننسها ) ، نرفعها من عندكم .
1754 - حدثنا سوار بن عبد الله قال : حدثنا خالد بن الحارث قال : حدثنا عوف ، عن الحسن أنه قال في قوله : ( أو ننسها ) ، قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا ، ثم نسيه .
وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأول الآية ، إلا أنه كان يقرأها : ( أو تنسها ) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنه عنى أو تنسها أنت يا محمد ذكر الأخبار بذلك :
1755 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا يعلى [ ص: 475 ] بن عطاء ، عن القاسم [ بن ربيعة ] قال ، سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) ، قلت له : فإن سعيد بن المسيب يقرأها : ( أو تنسها ) ، قال : فقال سعد : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ! قال الله : ( سنقرئك فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] ( واذكر ربك إذا نسيت ) [ سورة الكهف : 24 ] .
1756 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا هشيم قال : حدثنا يعلى بن عطاء قال : حدثنا القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي قال ، سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه .
1757 - حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا ، عن شعبة ، عن يعلى بن عطاء قال ، سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول : قلت لسعد بن أبي وقاص : إني سمعت ابن المسيب يقرأ : ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) فقال سعد : إن الله لم ينزل القرآن على المسيب ولا على ابنه! إنما هي : ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) يا محمد . ثم قرأ : ( سنقرئك فلا تنسى ) و ( واذكر ربك إذا نسيت ) .
1758 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن [ ص: 476 ] أبيه ، عن الربيع في قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، يقول : "ننسها" : نرفعها . وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها .
والوجه الآخر منهما ، أن يكون بمعنى "الترك" ، من قول الله جل ثناؤه : ( نسوا الله فنسيهم ) [ التوبة : 67 ] ، يعني به : تركوا الله فتركهم . فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل : ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها ، نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها . وعلى هذا التأويل تأول جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
1759 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( أو ننسها ) ، يقول : أو نتركها لا نبدلها .
1760 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : ( أو ننسها ) ، نتركها لا ننسخها .
1761 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، قال : الناسخ والمنسوخ .
قال أبو جعفر : وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما : -
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(159)
الحلقة (173)
صــ 478إلى صــ 483
1762 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ننسها ) ، نمحها .
وقرأ ذلك آخرون : ( أو ننسأها ) بفتح النون وهمزة بعد السين ، بمعنى نؤخرها ، من قولك : "نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأ ونساء" ، إذا أخرته ، وهو من قولهم : "بعته [ ص: 477 ] بنساء ، يعني بتأخير ، ومن ذلك قول طرفة بن العبد :
لعمرك إن الموت ما أنسأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد
يعني بقوله : "أنسأ" ، أخر .
وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ، وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين ، وتأوله كذلك جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
1763 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء في قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسأها ) ، قال : نؤخرها .
1764 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى قال ، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله : ( أو ننسأها ) ، قال : نرجئها .
1765 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( أو ننسأها ) ، نرجئها ونؤخرها .
1766 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا فضيل ، عن عطية : ( أو ننسأها ) ، قال : نؤخرها فلا ننسخها .
1767 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن عبيد الأزدي ، عن عبيد بن عمير ( أو ننسأها ) ، إرجاؤها وتأخيرها .
هكذا حدثنا القاسم ، عن عبد الله بن كثير ، "عن عبيد الأزدي " ، وإنما هو عن " علي الأزدي " .
1768 - حدثني أحمد بن يوسف قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن علي الأزدي ، عن عبيد [ ص: 478 ] بن عمير أنه قرأها : ( ننسأها ) .
قال أبو جعفر : فتأويل من قرأ ذلك كذلك : ما نبدل من آية أنزلناها إليك يا محمد ، فنبطل حكمها ونثبت خطها ، أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها ، نأت بخير منها أو مثلها .
وقد قرأ بعضهم ذلك : ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) . وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ : ( أو ننسها ) ، إلا أن معنى ( أو تنسها ) ، أنت يا محمد .
وقد قرأ بعضهم : ( ما ننسخ من آية ) ، بضم النون وكسر السين ، بمعنى : ما ننسخك يا محمد نحن من آية - من "أنسختك فأنا أنسخك" . وذلك خطأ من القراءة عندنا ، لخروجه عما جاءت به الحجة من القرأة بالنقل المستفيض . وكذلك قراءة من قرأ ( تنسها ) أو ( تنسها ) لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة .
وأولى القراءات في قوله : ( أو ننسها ) بالصواب ، من قرأ : ( أو ننسها ) بمعنى : نتركها؛ لأن الله - جل ثناؤه - أخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه مهما بدل حكما أو غيره ، أو لم يبدله ولم يغيره ، فهو آتيه بخير منه أو بمثله؛ فالذي هو أولى بالآية ، إذ كان ذلك معناها ، أن يكون - إذ قدم الخبر [ ص: 479 ] عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع ، إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير ، فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله : ( ما ننسخ من آية ) . قوله : أو نترك نسخها ، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس ، مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت ، فهو يشتمل على معنى"الإنساء" الذي هو بمعنى الترك ، ومعنى "النساء" الذي هو بمعنى التأخير؛ إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك .
وقد أنكر قوم قراءة من قرأ : ( أو تنسها ) ، إذا عني به النسيان ، وقالوا : غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ ، إلا أن يكون نسي منه شيئا ، ثم ذكره . قالوا : وبعد ، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرأوه وحفظوه من أصحابه ، بجائز على جميعهم أن ينسوه . قالوا : وفي قول الله جل ثناؤه : ( ولإن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) [ الإسراء : 86 ] ، ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من العلم .
قال أبو جعفر : وهذا قول يشهد على بطوله وفساده ، الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا .
1769 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك : أن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة ، قرأنا بهم وفيهم كتابا : "بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" ، ثم إن ذلك رفع . [ ص: 480 ]
1770 - والذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرأون : "لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" . ثم رفع .
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب .
وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح ، ولا بحجة خبر أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه ، فإذ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين ، فغير جائز لقائل أن يقول : ذلك غير جائز .
وأما قوله : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) ، فإنه - جل ثناؤه - لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه ، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه ، فلم يذهب به والحمد لله ، بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه ، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه . وقد قال الله تعالى ذكره : ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) [ الأعلى : 6 - 7 ] ، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء ، فالذي ذهب منه الذي استثناه الله .
فأما نحن ، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى ، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله .
[ ص: 481 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( نأت بخير منها أو مثلها )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( نأت بخير منها أو مثلها ) . فقال بعضهم بما : -
1771 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( نأت بخير منها أو مثلها ) ، يقول : خير لكم في المنفعة ، وأرفق بكم .
وقال آخرون بما :
1772 - حدثني به الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( نأت بخير منها أو مثلها ) ، يقول : آية فيها تخفيف ، فيها رحمة ، فيها أمر ، فيها نهي .
وقال آخرون : نأت بخير من التي نسخناها ، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها .
ذكر من قال ذلك :
1773 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( نأت بخير منها ) ، يقول : نأت بخير من التي نسخناها ، أو مثلها ، أو مثل التي تركناها .
"فالهاء والألف" اللتان في قوله : ( منها ) - عائدتان على هذه المقالة - على الآية في قوله : ( ما ننسخ من آية ) . و"الهاء والألف" اللتان في قوله : ( أو مثلها ) ، عائدتان على"الهاء والألف" اللتين في قوله : ( أو ننسها ) .
وقال آخرون بما : -
1774 - حدثني به المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن [ ص: 482 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : كان عبيد بن عمير يقول : ( ننسها ) : نرفعها من عندكم ، نأت بمثلها أو خير منها .
1775 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( أو ننسها ) ، نرفعها ، نأت بخير منها أو بمثلها .
1776 - وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا بكر بن شوذب ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أصحاب ابن مسعود مثله .
والصواب من القول في معنى ذلك عندنا : ما نبدل من حكم آية فنغيره ، أو نترك تبديله فنقره بحاله ، نأت بخير منها لكم - من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها - إما في العاجل لخفته عليكم ، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم ، فأسقط ثقله عنكم ، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل ، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم ، فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم ، لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم ، وإما في الآجل لعظم ثوابه ، من أجل مشقة حمله ، وثقل عبئه على الأبدان ، كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة ، فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول ، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات غير أن ذلك ، وإن كان كذلك ، فالثواب عليه أجزل ، والأجر عليه أكثر؛ لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات ، فذلك وإن كان على الأبدان أشق ، فهو خير من الأول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره ، الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات ، فذلك معنى قوله : ( نأت بخير منها ) ؛ لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه ، أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره .
أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه ، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس ، إلى فرضها شطر المسجد الحرام . [ ص: 483 ] فالتوجه شطر بيت المقدس ، وإن خالف التوجه شطر المسجد ، فكلفة التوجه - شطر أيهما توجه شطره - واحدة؛ لأن الذي على المتوجه شطر بيت المقدس من مئونة توجهه شطره ، نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة ، سواء ، فذلك هو معنى "المثل" الذي قال جل ثناؤه : ( أو مثلها ) .
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) : ما ننسخ من حكم آية أو ننسه ، غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها ، اكتفي بدلالة ذكر "الآية" من ذكر "حكمها" ، وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا ، كقوله : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) [ البقرة : 93 ] ، بمعنى حب العجل ، ونحو ذلك .
فتأويل الآية إذا : ما نغير من حكم آية فنبدله ، أو نتركه فلا نبدله ، نأت بخير لكم - أيها المؤمنون - حكما منها ، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب .
فإن قال قائل : فإنا قد علمنا أن العجل لا يشرب في القلوب ، وأنه لا يلتبس على من سمع قوله : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، أن معناه : وأشربوا في قلوبهم حب العجل ، فما الذي يدل على أن قوله : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) - لذلك نظير؟
قيل : الذي دل على أن ذلك كذلك قوله : ( نأت بخير منها أو مثلها ) ، وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء؛ لأن جميعه كلام الله ، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال : بعضها أفضل من بعض ، وبعضها خير من بعض .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(160)
الحلقة (174)
صــ 474إلى صــ 489
[ ص: 484 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ( 106 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) ، ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي ، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ، ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك ، وأنفع لك ولهم ، إما عاجلا في الدنيا ، وإما آجلا في الآخرة - أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة وشبيهه في الخفة عليك وعليهم؟ فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير .
ومعنى قوله : ( قدير ) في هذا الموضع : قوي . يقال منه : "قد قدرت على كذا وكذا" ، إذا قويت عليه ، "أقدر عليه وأقدر عليه قدرة وقدرانا ومقدرة" ، وبنو مرة من غطفان تقول : "قدرت عليه" بكسر الدال .
فأما من "التقدير" من قول القائل : "قدرت الشيء" ، فإنه يقال منه "قدرته أقدره قدرا وقدرا" .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( 107 ) )
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : أولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله على كل شيء قدير ، وأنه له ملك السماوات والأرض ، حتى قيل له ذلك؟ [ ص: 485 ]
قيل : بلى! فقد كان بعضهم يقول : إنما ذلك من الله - جل ثناؤه - خبر عن أن محمدا قد علم ذلك ، ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير ، كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا ، فيقول أحدهما لصاحبه : "ألم أكرمك؟ ألم أتفضل عليك؟" بمعنى إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه ، يريد : أليس قد أكرمتك؟ أليس قد تفضلت عليك؟ بمعنى قد علمت ذلك .
قال أبو جعفر : وهذا لا وجه له عندنا . وذلك أن قوله جل ثناؤه : ( ألم تعلم ) ، إنما معناه : أما علمت؟ وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام ، وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات ، وإما بمعنى النفي ، فأما بمعنى الإثبات ، فذلك غير معروف في كلام العرب ، ولا سيما إذا دخلت على حروف الجحد . ولكن ذلك عندي ، وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنما هو معني به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه : ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ) . والذي يدل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه : ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) ، فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم ، وقد ابتدأ أولها بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) ؛ لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه . وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح : أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره ، وعلى وجه الخطاب لواحد وهو يقصد به جماعة غيره ، أو جماعة والمخاطب به أحدهم - وعلى وجه الخطاب للجماعة ، والمقصود به أحدهم . من ذلك قول الله جل ثناؤه : ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ) [ الأحزاب : 1 - 2 ] ، فرجع إلى خطاب الجماعة ، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ونظير ذلك قول الكميت بن زيد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :
[ ص: 486 ]
إلى السراج المنير أحمد ، لا يعدلني رغبة ولا رهب عنه إلى غيره ولو رفع الن
اس إلى العيون وارتقبوا وقيل : أفرطت! بل قصدت ولو
عنفني القائلون أو ثلبوا لج بتفضيلك اللسان ، ولو
أكثر فيك الضجاج واللجب أنت المصفى المحض المهذب في الن
سبة ، إن نص قومك النسب
فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قاصد بذلك أهل بيته ، فكنى عن وصفهم ومدحهم ، بذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن بني أمية ، بالقائلين المعنفين؛ لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبي صلى الله عليه وسلم وتفضيله ، ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله . [ ص: 487 ]
وكما قال جميل بن معمر :
ألا إن جيراني العشية رائح دعتهم دواع من هوى ومنادح
فقال : "ألا إن جيراني العشية" فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه ، ثم قال : "رائح" ، لأن قصده - في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه - الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم ، وكما قال جميل أيضا في كلمته الأخرى :
خليلي فيما عشتما ، هل رأيتما قتيلا بكى من حب قاتله قبلي؟
وهو يريد قاتلته ، لأنه إنما يصف امرأة ، فكنى باسم الرجل عنها ، وهو يعنيها . فكذلك قوله : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) ، وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه مقصود به قصد أصحابه . وذلك بين بدلالة قوله : ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل ) الآيات الثلاث بعدها - على أن ذلك كذلك .
أما قوله : ( له ملك السماوات والأرض ) ولم يقل : ملك السماوات ، فإنه عنى بذلك "ملك" السلطان والمملكة دون "الملك" . والعرب إذا أرادت الخبر عن "المملكة" التي هي مملكة سلطان ، قالت : "ملك الله الخلق ملكا" ، وإذا أرادت الخبر عن "الملك" قالت : "ملك فلان هذا الشيء فهو يملكه ملكا وملكة وملكا .
فتأويل الآية إذا : ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري ، أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء ، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وأنهى عما أشاء ، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء ، وأقر منها ما أشاء؟
وهذا الخبر وإن كان من الله - عز وجل - خطابا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته ، فإنه منه - جل ثناؤه - تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ، وأنكروا محمدا صلى الله عليه وسلم ، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة ، فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما ، فإن الخلق أهل مملكته وطاعته ، عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما شاء ونهيهم عما شاء ، ونسخ ما شاء ، وإقرار ما شاء ، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه : انقادوا لأمري ، وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك فلا أنسخ ، من أحكامي وحدودي وفرائضي ، ولا يهولنكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي ، فإنه لا قيم بأمركم سواي ، ولا ناصر لكم غيري ، وأنا المنفرد بولايتكم ، والدفاع عنكم ، والمتوحد بنصرتكم بعزي وسلطاني وقوتي على من ناوأكم وحادكم ، ونصب حرب العداوة بينه وبينكم ، حتى أعلي حجتكم ، [ ص: 489 ] وأجعلها عليهم لكم .
و"الولي" معناه "فعيل" من قول القائل : "وليت أمر فلان" ، إذا صرت قيما به ، "فأنا أليه ، فهو وليه" وقيمه . ومن ذلك قيل : "فلان ولي عهد المسلمين" ، يعني به : القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين .
وأما "النصير" فإنه "فعيل" من قولك : "نصرتك أنصرك ، فأنا ناصرك ونصيرك" ، وهو المؤيد والمقوي .
وأما معنى قوله : ( من دون الله ) ، فإنه سوى الله ، وبعد الله ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
يا نفس ما لك دون الله من واقي وما على حدثان الدهر من باقي
يريد : ما لك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره .
فمعنى الكلام إذا : وليس لكم ، أيها المؤمنون ، بعد الله من قيم بأمركم ، ولا نصير فيؤيدكم ويقويكم ، فيعينكم على أعدائكم .
القول في تأويل قوله تعالى : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية . فقال بعضهم بما :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(161)
الحلقة (175)
صــ 490إلى صــ 495
1777 - حدثنا به أبو كريب قال : حدثني يونس بن بكير - وحدثنا [ ص: 490 ] ابن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل - قالا : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة عن ابن عباس : قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه ، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك! فأنزل الله في ذلك من قولهما : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، الآية .
وقال آخرون بما : -
1778 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، وكان موسى يسأل ، فقيل له : ( أرنا الله جهرة ) .
1889 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة ، فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة .
وقال آخرون بما : -
1780 - حدثني به محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة! فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا ، قال : نعم! وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا .
1781 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 491 ] ابن جريج ، عن مجاهد قال : سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، فقال : "نعم! وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا ، فأنزل الله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة .
1782 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
وقال آخرون بما : -
1783 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : قال رجل : يا رسول الله ، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم لا نبغيها! ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل ، كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها ، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة ، وقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل ، قال : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) [ النساء : 110 ] . قال : وقال : "الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، كفارات لما بينهن" .
وقال : "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ، ولا يهلك على الله إلا هالك" .
فأنزل الله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) . [ ص: 492 ]
واختلف أهل العربية في معنى ( أم ) التي في قوله : ( أم تريدون ) . فقال بعض البصريين : هي بمعنى الاستفهام . وتأويل الكلام : أتريدون أن تسألوا رسولكم؟
وقال آخرون منهم : هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام ، كأنك تميل بها إلى أوله ، كقول العرب : إنها لإبل يا قوم أم شاء" و"لقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي؟" قال : وليس قوله : ( أم تريدون ) على الشك ، ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم . واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
وقال بعض نحويي الكوفيين : إن شئت جعلت قوله : ( أم تريدون ) استفهاما على كلام قد سبقه ، كما قال جل ثناؤه : ( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه ) [ السجدة : 1 - 3 ] ، فجاءت "أم" وليس قبلها استفهام ، فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه . وقال قائل هذه المقالة : "أم" في المعنى تكون ردا على الاستفهام على جهتين : إحداهما أن تفرق معنى "أي" ، والأخرى : أن يستفهم بها فتكون على جهة النسق ، والذي ينوى بها الابتداء ، إلا أنه ابتداء متصل بكلام ، فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت ، لم يكن إلا ب "الألف" أو ب "هل" . [ ص: 493 ]
قال : وإن شئت قلت في قوله : ( أم تريدون ) ، قبله استفهام ، فرد عليه وهو في قوله : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، على ما جاءت به الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل : أنه استفهام مبتدأ ، بمعنى : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟ وإنما جاز ، أن يستفهم القوم ب "أم" ، وإن كانت "أم" أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام ، لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام . ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام . ونظيره قوله جل ثناؤه : ( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه ) [ السجدة : 1 - 3 ] وقد تكون "أم" بمعنى "بل" ، إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه "أي" ، فيقولون : "هل لك قبلنا حق ، أم أنت رجل معروف بالظلم؟" وقال الشاعر :
فوالله ما أدري أسلمى تغولت أم النوم أم كل إلي حبيب
يعني : بل كل إلي حبيب .
وقد كان بعضهم يقول - منكرا قول من زعم أن "أم" في قوله : ( أم تريدون ) [ ص: 494 ] استفهام مستقبل منقطع من الكلام ، يميل بها إلى أوله - : إن الأول خبر ، والثاني استفهام ، والاستفهام لا يكون في الخبر ، والخبر لا يكون في الاستفهام ، ولكن أدركه الشك - بزعمه - بعد مضي الخبر ، فاستفهم .
قال أبو جعفر : فإذا كان معنى "أم" ما وصفنا ، فتأويل الكلام : أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم ، فتكفروا - إن منعتموه - في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه ، أو أن تهلكوا إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه ، فأعطاكموه ، ثم كفرتم من بعد ذلك ، كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم ، فلما أعطيت كفرت ، فعوجلت بالعقوبات لكفرها ، بعد إعطاء الله إياها سؤلها .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ومن يتبدل ) ، ومن يستبدل "الكفر" ، ويعني ب "الكفر" ، الجحود بالله وبآياته ، ( بالإيمان ) ، يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به .
وقد قيل : عنى ب "الكفر" في هذا الموضع : الشدة ، وب "الإيمان" الرخاء . ولا أعرف الشدة في معاني "الكفر" ، ولا الرخاء في معنى "الإيمان" ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله "الكفر" بمعنى الشدة في هذا الموضع ، وبتأويله "الإيمان" في معنى الرخاء - : ما أعد الله للكفار في الآخرة من الشدائد ، وما أعد الله لأهل [ ص: 495 ] الإيمان فيها من النعيم ، فيكون ذلك وجها ، وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب .
ذكر من قال ذلك :
1784 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن أبي العالية : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) ، يقول : يتبدل الشدة بالرخاء .
1785 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسن قال : حدثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية بمثله .
وفي قوله : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) ، دليل واضح على ما قلنا : من أن هذه الآيات من قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) ، خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم ، مما سر به اليهود ، وكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ، فكرهه الله لهم ، فعاتبهم على ذلك ، وأعلمهم أن اليهود أهل غش لهم وحسد وبغي ، وأنهم يتمنون لهم المكاره ، ويبغونهم الغوائل ، ونهاهم أن ينتصحوهم ، وأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا ، فقد أخطأ قصد السبيل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(162)
الحلقة (176)
صــ 496إلى صــ 501
القول في تأويل قوله تعالى : ( فقد ضل سواء السبيل ( 108 ) )
قال أبو جعفر : أما قوله : ( فقد ضل ) ، فإنه يعني به ذهب وحاد . وأصل "الضلال عن الشيء" ، الذهاب عنه والحيد ، ثم يستعمل في الشيء الهالك ، [ ص: 496 ] والشيء الذي لا يؤبه له ، كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة : "ضل بن ضل" ، و "قل بن قل" ، وكقول الأخطل ، في الشيء الهالك :
كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتي به فضل ضلالا
يعني : هلك فذهب .
والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله : ( فقد ضل سواء السبيل ) ، فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه .
وأما تأويل قوله : ( سواء السبيل ) ، فإنه يعني ب "السواء" ، القصد والمنهج .
وأصل "السواء" الوسط . ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال : "ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي" ، يعني : وسطي . وقال حسان بن ثابت :
يا ويح أنصار النبي ونسله بعد المغيب في سواء الملحد
[ ص: 497 ]
يعني بالسواء : الوسط . والعرب تقول : "هو في سواء السبيل" ، يعني في مستوى السبيل ، "وسواء الأرض" : مستواها ، عندهم .
وأما "السبيل" ، فإنها الطريق المسبول ، صرف من "مسبول" إلى"سبيل" .
فتأويل الكلام إذا : ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر ، فيرتد عن دينه ، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول .
وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق ، والمعني به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده ، وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه ، وسبيلا يركبونها إلى محبته والفوز بجناته . فجعل - جل ثناؤه - الطريق - الذي إذا ركب محجته السائر فيه ، ولزم وسطه المجتاز فيه ، نجا وبلغ حاجته ، وأدرك طلبته - لدينه الذي دعا إليه عباده ، مثلا لإدراكهم بلزومه واتباعه ، طلباتهم في آخرتهم ، كالذي يدرك اللازم محجة السبيل بلزومه إياها طلبته من النجاة منها ، والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده . وجعل مثل الحائد عن دينه ، الجائر عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته - في إخطائه ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده ، وذهابه عما أمل من ثواب عمله ، وبعده به من ربه - مثل الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل ، الذي لا يزداد وغولا في الوجه الذي سلكه ، إلا ازداد من موضع حاجته بعدا ، [ ص: 498 ] وعن المكان الذي أمه وأراده نأيا .
وهذه السبيل التي أخبر الله عنها ، أن من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواءها ، هي الصراط المستقيم" ، الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا )
قال أبو جعفر : وقد صرح هذا القول من قول الله جل ثناؤه ، بأن خطابه بجميع هذه الآيات من قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) - وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما هو خطاب منه للمؤمنين من أصحابه ، وعتاب منه لهم ، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم - ودليل على أنهم كانوا استعملوا أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله صلى الله عليه وسلم الجفاء ، وما لم يكن له استعماله معه ، تأسيا باليهود في ذلك أو ببعضهم . فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك : لا تقولوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول له اليهود : "راعنا" ، تأسيا منكم بهم ، ولكن قولوا : "انظرنا واسمعوا"؛ فإن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بي ، وجحود لحقي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره ، ولمن كفر بي عذاب أليم; فإن اليهود والمشركين ما يودون أن ينزل عليكم [ ص: 499 ] من خير من ربكم ، ولكن كثيرا منهم ودوا أنهم يردونكم من بعد إيمانكم كفارا ، حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، من بعد ما تبين لهم الحق في أمر محمد ، وأنه نبي إليهم وإلى خلقي كافة .
وقد قيل إن الله - جل ثناؤه - عنى بقوله : ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، كعب بن الأشرف .
1786 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، هو كعب بن الأشرف .
1787 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان العمري ، عن معمر ، عن الزهري وقتادة : ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، قال : كعب بن الأشرف .
وقال بعضهم بما : -
1788 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني ابن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا ، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم ، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم ) الآية .
قال أبو جعفر : وليس لقول القائل : عنى بقوله : ( ود كثير من أهل الكتاب ) [ ص: 500 ] كعب بن الأشرف ، معنى مفهوم؛ لأن كعب بن الأشرف واحد ، وقد أخبر الله - جل ثناؤه - أن كثيرا منهم يودون لو يردون المؤمنين كفارا بعد إيمانهم ، والواحد لا يقال له : "كثير" ، بمعنى الكثرة في العدد ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية ، الكثرة في العز ورفعة المنزلة في قومه وعشيرته ، كما يقال : "فلان في الناس كثير" ، يراد به كثرة المنزلة والقدر . فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ ، لأن الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة فقال : ( لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا ) ، فذلك دليل على أنه عنى الكثرة في العدد أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة ، والمقصود بالخبر عنه الواحد ، نظير ما قلنا آنفا في بيت جميل ، فيكون ذلك أيضا خطأ؛ وذلك أن الكلام إذا كان بذلك المعنى ، فلا بد من دلالة فيه تدل على أن ذلك معناه ، ولا دلالة تدل في قوله : ( ود كثير من أهل الكتاب ) أن المراد به واحد دون جماعة كثيرة ، فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك ، وإحالة دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال .
القول في تأويل قوله تعالى : ( حسدا من عند أنفسهم )
قال أبو جعفر : ويعني جل ثناؤه بقوله : ( حسدا من عند أنفسهم ) ، أن كثيرا من أهل الكتاب يودون للمؤمنين ما أخبر الله - جل ثناؤه - عنهم أنهم يودونه لهم ، من الردة عن إيمانهم إلى الكفر ، حسدا منهم وبغيا عليهم .
و"الحسد" إذا منصوب على غير النعت للكفار ، ولكن على وجه المصدر الذي يأتي خارجا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ المصدر ، كقول القائل لغيره : "تمنيت لك ما تمنيت من السوء حسدا مني لك" ، فيكون "الحسد" مصدرا [ ص: 501 ] من معنى قوله : "تمنيت من السوء"؛ لأن في قوله تمنيت لك ذلك ، معنى : حسدتك على ذلك . فعلى هذا نصب "الحسد"؛ لأن في قوله : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا ) ، معنى : حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله من التوفيق ، ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيمان برسوله ، وخصكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلا منكم رءوفا بكم رحيما ، ولم يجعله منهم ، فتكونوا لهم تبعا؛ فكان قوله : ( حسدا ) ، مصدرا من ذلك المعنى .
وأما قوله : ( من عند أنفسهم ) ، فإنه يعني بذلك : من قبل أنفسهم ، كما يقول القائل : "لي عندك كذا وكذا" ، بمعنى : لي قبلك ، وكما :
1789 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قوله : ( من عند أنفسهم ) ، قال : من قبل أنفسهم .
وإنما أخبر الله - جل ثناؤه - عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين ، من عند أنفسهم ، إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم ، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(163)
الحلقة (177)
صــ 502إلى صــ 507
القول في تأويل قوله تعالى : ( من بعد ما تبين لهم الحق )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب - الذين يودون أنهم يردونكم كفارا من بعد إيمانكم - الحق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من عند ربه ، والملة التي دعا إليها فأضاء لهم : أن ذلك الحق الذي لا يمترون فيه ، كما : - [ ص: 502 ]
1790 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإسلام دين الله .
1791 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، يقول : تبين لهم أن محمدا رسول الله ، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
1792 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله - وزاد فيه : فكفروا به حسدا وبغيا ، إذ كان من غيرهم .
1793 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، قال : الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فتبين لهم أنه هو الرسول .
1794 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، قال : قد تبين لهم أنه رسول الله .
قال أبو جعفر : فدل بقوله ذلك : أن كفر الذين قص قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله ، عناد ، وعلى علم منهم ومعرفة بأنهم على الله مفترون ، كما : -
1795 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، يقول الله تعالى ذكره : من بعد ما أضاء لهم الحق ، لم يجهلوا منه شيئا ، ولكن الحسد حملهم على الجحد . فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشد الملامة .
[ ص: 503 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( فاعفوا ) فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم ، إرادة صدكم عنه ، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم - وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم : ( واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) ، [ النساء : 46 ] ، واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره ، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء ، ويقضي فيهم ما يريد ، فقضى فيهم تعالى ذكره ، وأتى بأمره ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وللمؤمنين به : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) . [ التوبة : 29 ] . فنسخ الله - جل ثناؤه - العفو عنهم والصفح ، بفرض قتالهم على المؤمنين ، حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة ، أو يؤدوا الجزية عن يد صغارا ، كما : -
1796 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ) ، ونسخ ذلك قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، [ التوبة : 5 ]
1797 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) ، فأتى الله بأمره فقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ، حتى بلغ ( وهم صاغرون ) ، أي : صغارا [ ص: 504 ] ونقمة لهم . فنسخت هذه الآية ما كان قبلها : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) .
1798 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) ، قال : اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرا ، فأحدث الله بعد فقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ، إلى : ( وهم صاغرون ) .
1799 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) قال : نسختها : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) .
1800 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) ، قال : هذا منسوخ ، نسخه ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ، إلى قوله : ( وهم صاغرون ) .
القول في تأويل قوله : ( إن الله على كل شيء قدير ( 109 ) )
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على معنى "القدير" ، وأنه القوي .
فمعنى الآية ههنا : إن الله - على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم - قدير ، إن شاء انتقم منهم بعنادهم ربهم ، وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان ، لا يتعذر عليه شيء أراده ، ولا يتعذر عليه أمر شاء قضاءه؛ لأن له الخلق والأمر .
[ ص: 505 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله )
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على معنى : "إقامة الصلاة" ، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها ، وعلى تأويل "الصلاة" وما أصلها ، وعلى معنى "إيتاء الزكاة" ، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فرضت ووجبت ، وعلى معنى "الزكاة" واختلاف المختلفين فيها ، والشواهد الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله : ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) ، فإنه - يعني جل ثناؤه - بذلك : ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم ، فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم ، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة ، فيجازيكم به .
و"الخير" هو العمل الذي يرضاه الله . وإنما قال : ( تجدوه ) ، والمعنى : تجدوا ثوابه ، كما : -
1801 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( تجدوه ) يعني : تجدوا ثوابه عند الله .
قال أبو جعفر : لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد منه ، كما قال عمر بن لجأ :
وسبحت المدينة لا تلمها رأت قمرا بسوقهم نهارا
وإنما أراد : وسبح أهل المدينة . [ ص: 506 ]
وإنما أمرهم - جل ثناؤه - في هذا الموضع بما أمرهم به ، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسهم ، ليطهروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود ، وركون من كان ركن منهم إليهم ، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( راعنا ) ، إذ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب ، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الآثام ، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله .
القول في تأويل قوله تعالى : ( إن الله بما تعملون بصير ( 110 ) )
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله - جل ثناؤه - للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين ، أنهم مهما فعلوا من خير وشر سرا وعلانية ، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان خيرا ، وبالإساءة مثلها .
وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعدا ووعيدا ، وأمرا وزجرا . وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ، ليجدوا في طاعته ، إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه ، كما قال : ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) ، وليحذروا معصيته ، إذ كان مطلعا على راكبها ، بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها ، وما أوعد عليه ربنا - جل ثناؤه - فمنهي عنه ، وما وعد عليه فمأمور به .
وأما قوله : ( بصير ) ، فإنه "مبصر" صرف إلى "بصير" ، كما صرف "مبدع" إلى"بديع" ، و"مؤلم" إلى"أليم" .
[ ص: 507 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( وقالوا ) ، وقالت اليهود والنصارى : ( لن يدخل الجنة ) .
فإن قال قائل : وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين ; واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب ، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك؟
قيل : إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه . وإنما عنى به : وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا النصارى . ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به معناه ، جمع الفريقان في الخبر عنهما ، فقيل : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) الآية - أي قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا .
وأما قوله : ( من كان هودا ) ، فإن في"الهود" قولين : أحدهما أن يكون جمع "هائد" ، كما جاء "عوط" جمع "عائط" ، و "عوذ" جمع "عائذ" ، و "حول" جمع "حائل" ، فيكون جمعا للمذكر والمؤنث بلفظ واحد ، و"الهائد" التائب الراجع إلى الحق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(164)
الحلقة (178)
صــ 508إلى صــ 513
والآخر أن يكون مصدرا عن الجميع ، كما يقال : "رجل صوم وقوم [ ص: 508 ] صوم" ، و "رجل فطر وقوم فطر ، ونسوة فطر" .
وقد قيل : إن قوله : ( إلا من كان هودا ) ، إنما هو قوله ، إلا من كان يهودا ، ولكنه حذف الياء الزائدة ، ورجع إلى الفعل من اليهودية . وقيل : إنه في قراءة أبي : "إلا من كان يهوديا أو نصرانيا" .
وقد بينا فيما مضى معنى " النصارى " ، ولم سميت بذلك ، وجمعت كذلك ، بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : ( تلك أمانيهم ) ، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن قول الذين قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، أنه أماني منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا حجة ولا برهان ، ولا يقين علم بصحة ما يدعون ، ولكن بادعاء الأباطيل وأماني النفوس الكاذبة ، كما : -
1802 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( تلك أمانيهم ) ، أماني يتمنونها على الله كاذبة .
1803 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( تلك أمانيهم ) ، قال : أماني تمنوا على الله بغير الحق .
[ ص: 509 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( 111 ) )
قال أبو جعفر : وهذا أمر من الله - جل ثناؤه - لنبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الذين قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ ص: 510 ] - إلى أمر عدل بين جميع الفرق : مسلمها ويهودها ونصاراها ، وهو إقامة الحجة على دعواهم التي ادعوا : من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، قل للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، دون غيرهم من سائر البشر : ( هاتوا برهانكم ) ، على ما تزعمون من ذلك ، فنسلم لكم دعواكم إن كنتم في دعواكم - من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى - محقين .
والبرهان : هو البيان والحجة والبينة . كما : -
1804 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( هاتوا برهانكم ) ، هاتوا بينتكم .
1805 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( هاتوا برهانكم ) ، هاتوا حجتكم .
1806 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( قل هاتوا برهانكم ) ، قال : حجتكم .
1807 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( قل هاتوا برهانكم ) ، أي : حجتكم .
قال أبو جعفر : وهذا الكلام ، وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) - إلى إحضار حجة على دعواهم ما ادعوا من ذلك ، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم ، لأنهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا . وقد أبان قوله : ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ) ، عن أن الذي ذكرنا من الكلام ، بمعنى التكذيب لليهود والنصارى في دعواهم ما ذكر الله عنهم .
وأما تأويل قوله : ( قل هاتوا برهانكم ) فإنه : أحضروا وأتوا به .
القول في تأويل قوله تعالى : ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن )
قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه : ( بلى من أسلم ) ، أنه ليس كما قال الزاعمون ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، ولكن من أسلم وجهه لله وهو محسن ، فهو الذي يدخلها وينعم فيها ، كما : -
1809 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال ، أخبرهم أن من يدخل الجنة هو من أسلم وجهه لله . الآية .
وقد بينا معنى ( بلى ) فيما مضى قبل .
وأما قوله : ( من أسلم وجهه لله ) ، فإنه يعني ب "إسلام الوجه" : التذلل لطاعته والإذعان لأمره ، وأصل "الإسلام" : الاستسلام؛ لأنه "من استسلمت لأمره" ، وهو الخضوع لأمره . وإنما سمي "المسلم" مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه . كما : -
1810 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( بلى من أسلم وجهه ) ، يقول : أخلص لله . [ ص: 511 ] وكما قال زيد بن عمرو بن نفيل :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا
يعني بذلك : استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له .
وخص الله - جل ثناؤه - بالخبر عمن أخبر عنه بقوله : ( بلى من أسلم وجهه لله ) ، بإسلام وجهه له دون سائر جوارحه؛ لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه ، وهو أعظمها عليه حرمة وحقا ، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له؛ ولذلك تذكر العرب في منطقها الخبر عن الشيء ، فتضيفه إلى "وجهه" وهي تعني بذلك نفس الشيء وعينه ، كقول الأعشى :
أؤول الحكم على وجهه ليس قضائي بالهوى الجائر
يعني بقوله : "على وجهه" : على ما هو به من صحته وصوابه ، وكما قال ذو الرمة :
فطاوعت همي وانجلى وجه بازل من الأمر ، لم يترك خلاجا بزولها
. [ ص: 512 ]
يريد : وانجلى البازل من الأمر فتبين - وما أشبه ذلك ، إذ كان حسن كل شيء وقبحه في وجهه ، وكان في وصفها من الشيء وجهه بما تصفه به ، إبانة عن عين الشيء ونفسه . فكذلك معنى قوله جل ثناؤه : ( بلى من أسلم وجهه لله ) ، إنما يعني : بلى من أسلم لله بدنه ، فخضع له بالطاعة جسده ، وهو محسن في إسلامه له جسده ، فله أجره عند ربه ، فاكتفى بذكر "الوجه" من ذكر"جسده" لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به بذكر "الوجه" .
وأما قوله : ( وهو محسن ) ، فإنه يعني به : في حال إحسانه . وتأويل الكلام : بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له ، محسنا في فعله ذلك .
القول في تأويل قوله ( فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 112 ) )
قال أبو جعفر : يعنى بقوله جل ثناؤه : ( فله أجره عند ربه ) ، فللمسلم وجهه لله محسنا ، جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته ربه ، عند الله في معاده .
ويعني بقوله : ( ولا خوف عليهم ) ، على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون ، [ ص: 513 ] المخلصين له الدين في الآخرة - من عقابه وعذاب جحيمه ، وما قدموا عليه من أعمالهم .
ويعني بقوله : ( ولا هم يحزنون ) ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا ، ولا أن يمنعوا ما قدموا عليه من نعيم ما أعد الله لأهل طاعته .
وإنما قال جل ثناؤه : ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، وقد قال قبل : ( فله أجره عند ربه ) ، لأن "من" التي في قوله : ( بلى من أسلم وجهه لله ) ، في لفظ واحد ومعنى جميع ، فالتوحيد في قوله : ( فله أجره ) للفظ ، والجمع في قوله : ( ولا خوف عليهم ) ، للمعنى .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب )
قال أبو جعفر : ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتابين تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم لبعض . . .
ذكر من قال ذلك :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(165)
الحلقة (179)
صــ 514إلى صــ 519
1811 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، وحدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، قالا جميعا - حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال ، لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حريملة : [ ص: 514 ] ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى ابن مريم وبالإنجيل ، فقال رجل من أهل نجران من النصارى : ما أنتم على شيء ، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة . فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، إلى قوله : ( فيما كانوا فيه يختلفون )
1812 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، قال : هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو جعفر : وأما تأويل الآية ، فإن قالت اليهود : ليست النصارى في دينها على صواب! ، وقالت النصارى : ليست اليهود في دينها على صواب! وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين ، إعلاما ، منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله ، وجحودهم مع ذلك ما أنزل الله فيه من فروضه ، لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيته النصارى ، يحقق ما في التوراة من نبوة موسى عليه السلام ، وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض ، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيتها اليهود تحقق نبوة عيسى عليه السلام ، وما جاء به من الله من الأحكام والفرائض .
ثم قال كل فريق منهم للفريق الآخر ما أخبر الله عنهم في قوله : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك ، فأخبر - جل ثناؤه - أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك ، على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون ; وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون . [ ص: 515 ]
فإن قال لنا قائل : أوكانت اليهود والنصارى بعد أن بعث الله رسوله على شيء ، فيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الآخر مبطلا في قيله ما قال من ذلك؟
قيل : قد روينا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس قبل ، من أن إنكار كل فريق منهم ، إنما كان إنكارا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي ينتحل التصديق به ، وبما جاء به الفريق الآخر ، لا دفعا منهم أن يكون الفريق الآخر في الحال التي بعث الله فيها نبينا صلى الله عليه وسلم على شيء من دينه ، بسبب جحوده نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الآخر على شيء بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وكلا الفريقين كان جاحدا نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحال التي أنزل الله فيها هذه الآية؟ ولكن معنى ذلك : وقالت اليهود : ليست النصارى على شيء من دينها منذ دانت دينها ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء منذ دانت دينها . وذلك هو معنى الخبر الذي رويناه عن ابن عباس آنفا ، فكذب الله الفريقين في قيلهما ما قالا . كما : -
1813 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ) ، قال : بلى ! قد كانت أوائل النصارى على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا ، وقالت النصارى : ( ليست اليهود على شيء ) ، ولكن القوم ابتدعوا وتفرقوا .
1814 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، قال : قال مجاهد : قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء .
وأما قوله : ( وهم يتلون الكتاب ) ، فإنه يعني به كتاب الله التوراة والإنجيل ، [ ص: 516 ] وهما شاهدان على فريقي اليهود والنصارى بالكفر ، وخلافهم أمر الله الذي أمرهم به فيه . كما : -
1815 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل - قالا جميعا ، حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : ( وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، أي : كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به : أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام ، وفي الإنجيل مما جاء به عيسى تصديق موسى ، وما جاء به من التوراة من عند الله ; وكل يكفر بما في يد صاحبه .
القول في تأويل قوله تعالى : ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله : ( كذلك قال الذين لا يعلمون ) . فقال بعضهم بما : -
1816 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، ( قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، قال : وقالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم .
1817 - حدثنا بشر بن سعيد ، عن قتادة : ( قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، قال : قالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم .
وقال آخرون بما : - [ ص: 517 ]
1818 - حدثنا به القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : قلت لعطاء : من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال : أمم كانت قبل اليهود والنصارى ، وقبل التوراة والإنجيل .
وقال بعضهم : عنى بذلك مشركي العرب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب فنسبوا إلى الجهل ، ونفي عنهم من أجل ذلك العلم .
ذكر من قال ذلك :
1819 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، فهم العرب ، قالوا : ليس محمد صلى الله عليه وسلم على شيء .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تبارك وتعالى أخبر عن قوم وصفهم بالجهل ، ونفى عنهم العلم بما كانت اليهود والنصارى به عالمين - أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال اليهود والنصارى بعضها لبعض مما أخبر الله عنهم أنهم قالوه في قوله : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) . وجائز أن يكونوا هم المشركين من العرب ، وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل اليهود والنصارى . ولا أمة أولى أن يقال هي التي عنيت بذلك من أخرى ، إذ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي ، ولا خبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل ، ولا من جهة النقل المستفيض .
وإنما قصد الله - جل ثناؤه - بقوله : ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، إعلام المؤمنين أن اليهود والنصارى قد أتوا من قيل الباطل ، وافتراء الكذب على الله ، وجحود نبوة الأنبياء والرسل ، وهم أهل كتاب! يعلمون أنهم فيما يقولون مبطلون ، وبجحودهم ما يجحدون من ملتهم خارجون ، وعلى الله مفترون ، مثل الذي قاله أهل الجهل بالله وكتبه ورسله ، الذين لم يبعث الله لهم رسولا ولا أوحى إليهم كتابا . [ ص: 518 ]
وهذه الآية تنبئ عن أن من أتى شيئا من معاصي الله على علم منه بنهي الله عنها ، فمصيبته في دينه أعظم من مصيبة من أتى ذلك جاهلا به؛ لأن الله تعالى ذكره عظم توبيخ اليهود والنصارى بما وبخهم به في قيلهم ما أخبر عنهم بقوله : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك على علم منهم أنهم مبطلون .
القول في تأويل قوله تعالى : ( فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( 113 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : فالله يقضي فيفصل بين هؤلاء المختلفين ، القائل بعضهم لبعض : لستم على شيء من دينكم - يوم قيام الخلق لربهم من قبورهم - فيتبين المحق منهم من المبطل ، بإثابة المحق ما وعد أهل طاعته على أعماله الصالحة ، ومجازاته المبطل منهم بما أوعد أهل الكفر به على كفرهم به فيما كانوا فيه يختلفون من أديانهم ومللهم في دار الدنيا .
وأما "القيامة " فهي مصدر من قول القائل : "قمت قياما وقيامة" ، كما يقال : "عدت فلانا عيادة" و"صنت هذا الأمر صيانة" .
وإنما عنى "بالقيامة" قيام الخلق من قبورهم لربهم ، فمعنى "يوم القيامة" : يوم قيام الخلائق من قبورهم لمحشرهم .
[ ص: 519 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها )
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى قبل على أن تأويل الظلم : وضع الشيء في غير موضعه . وتأويل قوله : ( ومن أظلم ) : وأي امرئ أشد تعديا وجراءة على الله وخلافا لأمره ، من امرئ منع مساجد الله أن يعبد الله فيها؟
و"المساجد" جمع مسجد : وهو كل موضع عبد الله فيه . وقد بينا معنى السجود فيما مضى ، فمعنى "المسجد" : الموضع الذي يسجد لله فيه ، كما يقال للموضع الذي يجلس فيه : "المجلس" ، وللموضع الذي ينزل فيه : "منزل" ، ثم يجمع : "منازل ومجالس" نظير مسجد ومساجد . وقد حكي سماعا من بعض العرب : "مساجد" في واحد المساجد ، وذلك كالخطأ من قائله .
وأما قوله : ( أن يذكر فيها اسمه ) ، فإن فيه وجهين من التأويل : أحدهما : أن يكون معناه : ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه ، فتكون "أن" حينئذ نصبا من قول بعض أهل العربية بفقد الخافض ، وتعلق الفعل بها .
والوجه الآخر : أن يكون معناه : ومن أظلم ممن منع أن يذكر اسم الله في مساجده ، فتكون "أن" حينئذ في موضع نصب ، تكريرا على موضع المساجد وردا عليه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(166)
الحلقة (180)
صــ 520إلى صــ 525
وأما قوله : ( وسعى في خرابها ) ، فإن معناه : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن [ ص: 520 ] يذكر فيها اسمه ، وممن سعى في خراب مساجد الله ، ف "سعى" إذا عطف على "منع" .
فإن قال قائل : ومن الذي عني بقوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ؟ وأي المساجد هي؟
قيل : إن أهل التأويل في ذلك مختلفون ، فقال بعضهم : الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم النصارى ، والمسجد بيت المقدس .
ذكر من قال ذلك :
1820 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، أنهم النصارى .
1821 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه .
1822 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : هو بختنصر وجنده ومن أعانهم من النصارى ، والمسجد : مسجد بيت المقدس .
ذكر من قال ذلك : -
1823 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، الآية ، أولئك أعداء الله النصارى ، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس .
1824 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا [ ص: 521 ] معمر ، عن قتادة في قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال : هو بختنصر وأصحابه ، خرب بيت المقدس ، وأعانه على ذلك النصارى .
1825 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال : الروم ، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس ، حتى خربه ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وإنما أعانه الروم على خرابه ، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا .
وقال آخرون : بلى عنى الله - عز وجل - بهذه الآية مشركي قريش ، إذ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام .
ذكر من قال ذلك :
1826 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال ، حدثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال : هؤلاء المشركون ، حين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم ، وقال لهم : "ما كان أحد يرد عن هذا البيت ، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فما يصده ، وقالوا : لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق!
وفي قوله : ( وسعى في خرابها ) قال : إذ قطعوا من يعمرها بذكره ، ويأتيها للحج والعمرة .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال : عنى الله - عز وجل - بقوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) النصارى . وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس ، وأعانوا بختنصر [ ص: 522 ] على ذلك ، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده .
والدليل على صحة ما قلنا في ذلك ، قيام الحجة بأن لا قول في معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها ، وأن لا مسجد عنى الله عز وجل بقوله : ( وسعى في خرابها ) ، إلا أحد المسجدين ، إما مسجد بيت المقدس ، وإما المسجد الحرام . وإذ كان ذلك كذلك وكان معلوما أن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام ، وإن كانوا قد منعوا في بعض الأوقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصلاة فيه صح وثبت أن الذين وصفهم الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده ، غير الذين وصفهم الله بعمارتها؛ إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في الجاهلية ، وبعمارته كان افتخارهم ، وإن كان بعض أفعالهم فيه ، كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه الله منهم .
وأخرى ، أن الآية التي قبل قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم ، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم ، ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر ، ولا للمسجد الحرام قبلها ، فيوجه الخبر - بقول الله عز وجل : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) - إليهم وإلى المسجد الحرام .
وإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه ، وهو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها ، إذ كان خبرها لخبرهما نظيرا وشكلا إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك ، وإن اتفقت قصصها فاشتبهت .
فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك ، إذ كان المسلمون لم يلزمهم [ ص: 523 ] قط فرض الصلاة في [ المسجد المقدس ، فمنعوا من الصلاة فيه فيلجئون ] توجيه قوله ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس - فقد أخطأ فيما ظن من ذلك . وذلك أن الله - جل ذكره - إنما ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني إسرائيل ، [ ص: 524 ] وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب المسجد . وإن كان قد دل بعموم قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، أن كل مانع مصليا في مسجد لله ، فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا - ، وكل ساع في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين .
القول في تأويل قوله جل ذكره ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين )
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز وجل عمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، أنه قد حرم عليهم دخول المساجد التي سعوا في تخريبها ، ومنعوا عباد الله المؤمنين من ذكر الله عز وجل فيها ، ما داموا على مناصبة الحرب ، إلا على خوف ووجل من العقوبة على دخولهموها ، كالذي : -
1827 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، وهم اليوم كذلك ، لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا نهك ضربا ، وأبلغ إليه في العقوبة .
1828 - حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : قال الله عز وجل : ( ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، وهم النصارى ، فلا يدخلون المسجد إلا مسارقة ، إن قدر عليهم عوقبوا .
1829 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، فليس في الأرض رومي يدخلها [ ص: 525 ] اليوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه ، أو قد أخيف بأداء الجزية ، فهو يؤديها .
1830 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، قال : نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . قال : فجعل المشركون يقولون : اللهم إنا منعنا أن ننزل! .
وإنما قيل : ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، فأخرج على وجه الخبر عن الجميع ، وهو خبر عن ( من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ؛ لأن "من" في معنى الجميع ، وإن كان لفظه واحدا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(167)
الحلقة (181)
صــ 526إلى صــ 5232
القول في تأويل قوله تعالى : ( لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( 114 ) )
قال أبو جعفر : أما قوله عز وجل : ( لهم ) ، فإنه يعني : الذين أخبر عنهم أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه . أما قوله : ( لهم في الدنيا خزي ) ، فإنه يعني ب "الخزي" : العار والشر ، والذلة إما القتل والسباء ، وإما الذلة والصغار بأداء الجزية ، كما : -
1831 - حدثنا الحسن قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( لهم في الدنيا خزي ) ، قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .
1832 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : ( لهم في الدنيا خزي ) ، أما خزيهم في الدنيا ، فإنهم إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم ، فذلك الخزي ، وأما العذاب العظيم ، فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله ، ولا يقضى عليهم فيها فيموتوا . وتأويل الآية : لهم في الدنيا الذلة والهوان والقتل والسبي - على منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعيهم [ ص: 526 ] في خرابها ، ولهم على معصيتهم وكفرهم بربهم وسعيهم في الأرض فسادا عذاب جهنم ، وهو العذاب العظيم .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( ولله المشرق والمغرب ) ، لله ملكهما وتدبيرهما ، كما يقال : "لفلان هذه الدار" ، يعني بها : أنها له ، ملكا . فذلك قوله : ( ولله المشرق والمغرب ) ، يعني أنهما له ، ملكا وخلقا .
و"المشرق" هو موضع شروق الشمس ، وهو موضع طلوعها ، كما يقال لموضع طلوعها منه : "مطلع" بكسر اللام ، وكما بينا في معنى"المساجد" آنفا .
فإن قال قائل : أوما كان لله إلا مشرق واحد ومغرب واحد ، حتى قيل : ( ولله المشرق والمغرب ) ؟ قيل : إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إليه ، وإنما معنى ذلك : ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم ، والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم . فتأويله إذ كان ذلك معناه : ولله ما بين قطري المشرق ، وما بين قطري المغرب ، إذ كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده ، وكذلك غروبها كل يوم .
فإن قال : أوليس وإن كان تأويل ذلك ما ذكرت ، فلله كل ما دونه؟ الخلق خلقه! [ ص: 527 ] قيل : بلى!
فإن قال : فكيف خص المشارق والمغارب بالخبر عنها أنها له في هذا الموضع ، دون سائر الأشياء غيرها؟
قيل : قد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله خص الله ذكر ذلك بما خصه به في هذا الموضع . ونحن مبينو الذي هو أولى بتأويل الآية بعد ذكرنا أقوالهم في ذلك . فقال بعضهم : خص الله - جل ثناؤه - ذلك بالخبر ، من أجل أن اليهود كانت توجه في صلاتها وجوهها قبل بيت المقدس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مدة ، ثم حولوا إلى الكعبة ، فاستنكرت اليهود ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال الله تبارك وتعالى لهم : المشارق والمغارب كلها لي ، أصرف وجوه عبادي كيف أشاء منها ، فحيثما تولوا فثم وجه الله .
ذكر من قال ذلك :
1833 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قال ، كان أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود . فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام ، فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) [ سورة البقرة : 144 ] إلى قوله : ( فولوا وجوهكم شطره ) [ سورة البقرة : 144 - 150 ] ، فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) [ سورة البقرة : 142 ] ، فأنزل الله عز وجل : ( قل لله المشرق والمغرب ) ، وقال : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) . [ ص: 528 ]
1834 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي نحوه .
وقال آخرون : بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين به التوجه شطر المسجد الحرام . وإنما أنزلها عليه معلما نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب ، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية ، إلا كان - جل ثناؤه - في ذلك الوجه وتلك الناحية ، لأن له المشارق والمغارب ، وأنه لا يخلو منه مكان ، كما قال جل وعز : ( ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ) [ سورة المجادلة : 7 ] قالوا : ثم نسخ ذلك بالفرض الذي [ ص: 529 ] فرض عليهم في التوجه شطر المسجد الحرام .
ذكر من قال ذلك :
1835 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد عن قتادة : قوله جل وعز : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك ، فقال الله : ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ) [ سورة البقرة : 149 - 150 ]
1836 - حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، قال : هي القبلة ، ثم نسختها القبلة إلى المسجد الحرام .
1837 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا همام قال : حدثنا يحيى قال ، سمعت قتادة في قول الله : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، قال : كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة ، وبعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام . فنسخها الله في آية أخرى : ( فلنولينك قبلة ترضاها ) إلى ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) [ سورة البقرة : 144 ] ، قال : فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة .
1838 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال ، سمعته - يعني زيدا - يقول : قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله لو أنا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا ، فبلغه أن يهود تقول : والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم ! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفع وجهه إلى السماء ، فقال الله عز وجل : [ ص: 530 ] ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) الآية [ سورة البقرة : 144 ] .
وقال آخرون : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم ، إذنا من الله - عز وجل - له أن يصلي التطوع حيث توجه وجهه من شرق أو غرب ، في مسيره في سفره ، وفي حال المسايفة ، وفي شدة الخوف ، والتقاء الزحوف في الفرائض . وأعلمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك ، بقوله : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) .
ذكر من قال ذلك :
1839 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال : حدثنا عبد الملك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، ويتأول هذه الآية : ( أينما تولوا فثم وجه الله ) .
1840 - حدثني أبو السائب قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه قال : "إنما نزلت هذه الآية : ( أينما تولوا فثم وجه الله ) أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعا ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعا يومئ برأسه نحو المدينة " . [ ص: 531 ]
وقال آخرون بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها ، فصلوا على أنحاء مختلفة ، فقال الله عز وجل لهم : لي المشارق والمغارب ، فأنى وليتم وجوهكم فهنالك وجهي ، وهو قبلتكم - معلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية .
ذكر من قال ذلك :
1841 - حدثنا أحمد قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا أبو الربيع السمان ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه قال : "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة ، فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه ، فلما أصبحنا ، إذا نحن قد صلينا على غير القبلة ، فقلنا : يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ، فأنزل الله عز وجل : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) . [ ص: 532 ]
1842 - حدثني المثنى قال : حدثني الحجاج قال : حدثنا حماد قال ، قلت للنخعي : إني كنت استيقظت - أو قال أيقظت ، شك الطبري - فكان في السماء سحاب ، فصليت لغير القبلة . قال : مضت صلاتك ، يقول الله عز وجل : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) .
1843 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن أشعث السمان ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه قال ، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة في سفر ، فلم ندر أين القبلة فصلينا ، فصلى كل واحد منا على حياله ، ثم أصبحنا فذكرنا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي ، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنازعوا في أمره ، من أجل أنه مات قبل أن يصلي إلى القبلة ، فقال الله عز وجل : المشارق والمغارب كلها لي ، فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريدني به ويبتغي به طاعتي ، وجدني هنالك ، يعني بذلك أن النجاشي وإن لم يكن صلى إلى القبلة ، فإنه قد كان يوجه إلى بعض وجوه المشارق والمغارب وجهه ، يبتغي بذلك رضا الله عز وجل في صلاته .
ذكر من قال ذلك :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(168)
الحلقة (182)
صــ 533إلى صــ 539
1844 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا هشام بن معاذ قال : حدثني أبي ، عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه . قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم ! قال فنزلت ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ) [ سورة [ ص: 533 ] آل عمران : 199 ] ، قال : قتادة ، فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة ، فأنزل الله عز وجل : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك : أن الله تعالى ذكره إنما خص الخبر عن المشرق والمغرب في هذه الآية بأنهما له ملكا ، وإن كان لا شيء إلا وهو له ملك - إعلاما منه عباده المؤمنين أن له ملكهما وملك ما بينهما من الخلق ، وأن على جميعهم إذ كان له ملكهم طاعته فيما أمرهم ونهاهم ، وفيما فرض عليهم من الفرائض ، والتوجه نحو الوجه الذي وجهوا إليه ، إذ كان من حكم المماليك طاعة مالكهم؛ فأخرج الخبر عن المشرق والمغرب ، والمراد به من بينهما من الخلق ، على النحو الذي قد بينت من الاكتفاء بالخبر عن سبب الشيء من ذكره والخبر عنه ، كما قيل : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، وما أشبه ذلك .
ومعنى الآية إذا : ولله ملك الخلق الذي بين المشرق والمغرب يتعبدهم بما شاء ، ويحكم فيهم ما يريد ، عليهم طاعته ، فولوا وجوهكم - أيها المؤمنون - نحو وجهي ، فإنكم أينما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي .
فأما القول في هذه الآية : ناسخة أم منسوخة ، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة؟ فالصواب فيه من القول أن يقال : إنها جاءت مجيء العموم ، والمراد الخاص ، وذلك أن قوله : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، محتمل : أينما تولوا - في حال سيركم في أسفاركم ، في صلاتكم التطوع ، وفي حال مسايفتكم عدوكم ، في تطوعكم ومكتوبتكم ، فثم وجه الله ، كما قال ابن عمر والنخعي ، ومن قال ذلك ممن ذكرنا عنه آنفا . [ ص: 534 ]
ومحتمل : فأينما تولوا - من أرض الله فتكونوا بها - فثم قبلة الله التي توجهون وجوهكم إليها؛ لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها . كما قال : -
1845 - أبو كريب قال حدثنا وكيع ، عن أبي سنان ، عن الضحاك ، والنضر بن عربي ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، قال : قبلة الله ، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها .
1846 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني إبراهيم ، عن ابن أبي بكر ، عن مجاهد قال ، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها قال ، الكعبة .
ومحتمل : فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم ، كما : -
1847 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : لما نزلت : ( ادعوني أستجب لكم ) [ سورة غافر : 60 ] ، قالوا : إلى أين؟ فنزلت : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) .
فإذ كان قوله عز وجل : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، محتملا ما ذكرنا من الأوجه ، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها .
؛ لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، معني به : فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم ، ولا أنها نزلت بعد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس ، أمرا من الله عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نحو الكعبة ، فيجوز أن يقال : هي ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس ، إذ كان من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة التابعين ، من ينكر أن تكون نزلت في ذلك المعنى ، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بأنها نزلت فيه ، وكان الاختلاف في أمرها موجودا على ما وصفت . [ ص: 535 ]
ولا هي - إذ لم تكن ناسخة لما وصفنا - قامت حجتها بأنها منسوخة ، إذ كانت محتملة ما وصفنا : بأن تكون جاءت بعموم ، ومعناها : في حال دون حال - إن كان عني بها التوجه في الصلاة ، وفي كل حال إن كان عني بها الدعاء ، وغير ذلك من المعاني التي ذكرنا .
وقد دللنا في كتابنا : "كتاب البيان عن أصول الأحكام" ، على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما نفى حكما ثابتا ، وألزم العباد فرضه ، غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك . فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم ، أو المجمل ، أو المفسر ، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل ، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع ، ولا منسوخ إلا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه .
ولم يصح واحد من هذين المعنيين لقوله : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، بحجة يجب التسليم لها ، فيقال فيه : هو ناسخ أو منسوخ .
وأما قوله : ( فأينما ) ، فإن معناه : حيثما .
وأما قوله : ( تولوا ) فإن الذي هو أولى بتأويله أن يكون : تولون نحوه وإليه ، كما يقول القائل : "وليته وجهي ووليته إليه" ، بمعنى : قابلته وواجهته . وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ، لإجماع الحجة على أن ذلك تأويله ، وشذوذ من تأوله بمعنى : تولون عنه فتستدبرونه ، فالذي تتوجهون إليه وجه الله ، بمعنى قبلة الله .
وأما قوله : ( فثم ) فإنه بمعنى : هنالك . [ ص: 536 ]
واختلف في تأويل قوله : ( فثم وجه الله ) فقال بعضهم : تأويل ذلك : فثم قبلة الله ، يعني بذلك وجهه الذي وجههم إليه .
ذكر من قال ذلك :
1848 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد : ( فثم وجه الله ) قال : قبلة الله .
1849 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني إبراهيم ، عن مجاهد قال ، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها .
وقال آخرون : معنى قول الله عز وجل : ( فثم وجه الله ) ، فثم الله تبارك وتعالى .
وقال آخرون : معنى قوله : ( فثم وجه الله ) ، فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم .
وقال آخرون : عنى ب "الوجه" ذا الوجه . وقال قائلو هذه المقالة : وجه الله صفة له .
فإن قال قائل : وما هذه الآية من التي قبلها؟
قيل : هي لها مواصلة ، وإنما معنى ذلك : ومن أظلم من النصارى الذين منعوا عباد الله مساجده أن يذكر فيها اسمه ، وسعوا في خرابها ، ولله المشرق والمغرب ، فأينما توجهوا وجوهكم فاذكروه ، فإن وجهه هنالك ، يسعكم فضله وأرضه وبلاده ، ويعلم ما تعملون ، ولا يمنعكم تخريب من خرب مسجد بيت المقدس ، ومنعهم من منعوا من ذكر الله فيه - أن تذكروا الله حيث كنتم من أرض الله ، تبتغون به وجهه .
[ ص: 537 ] القول في تأويل قوله : ( إن الله واسع عليم ( 115 ) )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( واسع ) يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال والجود والتدبير .
وأما قوله : ( عليم ) ، فإنه يعني أنه عليم بأفعالهم لا يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه ، بل هو بجميعها عليم .
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض ( 116 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وقالوا اتخذ الله ولدا ) ، الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، ( وقالوا ) : معطوف على قوله : ( وسعى في خرابها ) .
وتأويل الآية : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ، وقالوا اتخذ الله ولدا ، وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله؟ فقال الله - جل ثناؤه - مكذبا قيلهم ما قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم : ( سبحانه ) ، يعني بها : تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد ، وعلوا وارتفاعا عن ذلك ، وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل : "سبحان الله" ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
ثم أخبر - جل ثناؤه - أن له ما في السماوات والأرض ملكا وخلقا ، ومعنى ذلك : [ ص: 538 ] وكيف يكون المسيح لله ولدا ، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الأماكن ، إما في السماوات ، وإما في الأرض ، ولله ملك ما فيهما . ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم ، لم يكن كسائر ما في السماوات والأرض من خلقه وعبيده ، في ظهور آيات الصنعة فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : ( كل له قانتون ( 116 ) )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : مطيعون .
ذكر من قال ذلك :
1850 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( كل له قانتون ) ، مطيعون .
1851 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ( كل له قانتون ) ، قال : مطيعون . قال : طاعة الكافر في سجود ظله .
1852 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بمثله ، إلا أنه زاد : بسجود ظله وهو كاره .
1853 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( كل له قانتون ) ، يقول : كل له مطيعون يوم القيامة .
1854 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثني يحيى بن سعيد ، عمن ذكره ، عن عكرمة : ( كل له قانتون ) ، قال : الطاعة .
1855 - حدثت عن المنجاب بن الحارث قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( قانتون ) ، مطيعون . [ ص: 539 ]
وقال آخرون : معنى ذلك كل له مقرون بالعبودية .
ذكر من قال ذلك :
1856 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة : ( كل له قانتون ) ، كل مقر له بالعبودية .
وقال آخرون بما : -
1857 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : ( كل له قانتون ) ، قال : كل له قائم يوم القيامة .
ول " القنوت " في كلام العرب معان : أحدها الطاعة ، والآخر القيام ، والثالث الكف عن الكلام والإمساك عنه .
وأولى معاني "القنوت" في قوله : ( كل له قانتون ) ، الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية ، بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة ، والدلالة على وحدانية الله عز وجل ، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها . وذلك أن الله - جل ثناؤه - أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله : ( بل له ما في السماوات والأرض ) ، ملكا وخلقا ، ثم أخبر عن جميع ما في السماوات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها ، وأن الله تعالى بارئها وصانعها . وإن جحد ذلك بعضهم ، فألسنتهم مذعنة له بالطاعة ، بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك ، وأن المسيح أحدهم ، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته؟
وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وجهته ، أن قوله : ( كل له قانتون ) ، خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة ، وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها ، إلا بحجة يجب التسليم لها ، لما قد بينا في كتابنا : "كتاب البيان عن أصول الأحكام" .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(169)
الحلقة (183)
صــ 540إلى صــ 546
وهذا خبر من الله - جل وعز - عن أن المسيح - الذي زعمت النصارى أنه ابن الله - [ ص: 540 ] مكذبهم هو والسماوات والأرض وما فيها ، إما باللسان ، وإما بالدلالة ، وذلك أن الله - جل ثناؤه - أخبر عن جميعهم ، بطاعتهم إياه ، وإقرارهم له بالعبودية ، عقيب قوله : ( وقالوا اتخذ الله ولدا ) ، فدل ذلك على صحة ما قلنا .
القول في تأويل قوله تعالى : ( بديع السماوات والأرض )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( بديع السماوات والأرض ) ، مبدعها .
وإنما هو "مفعل" صرف إلى "فعيل" كما صرف "المؤلم" إلى "أليم" ، و"المسمع" إلى "سميع" . ومعنى"المبدع" : المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد ، ولذلك سمي المبتدع في الدين "مبتدعا" ، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره . وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم ، فإن العرب تسميه مبتدعا ، ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة ، في مدح هوذة بن علي الحنفي :
يرعي إلى قول سادات الرجال إذا أبدوا له الحزم ، أو ما شاءه ابتدعا
أي يحدث ما شاء ، ومنه قول رؤبة بن العجاج :
فأيها الغاشي القذاف الأتيعا إن كنت لله التقي الأطوعا
فليس وجه الحق أن تبدعا
يعني : أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه . [ ص: 541 ]
فمعنى الكلام : سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما في السماوات والأرض ، تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية ، وتقر له بالطاعة ، وهو بارئها وخالقها ، وموجدها من غير أصل ، ولا مثال احتذاها عليه؟
وهذا إعلام من الله - جل ثناؤه - عباده ، أن مما يشهد له بذلك : المسيح ، الذي أضافوا إلى الله - جل ثناؤه - بنوته ، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال ، هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
1858 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( بديع السماوات والأرض ) ، يقول : ابتدع خلقها ، ولم يشركه في خلقها أحد .
1859 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( بديع السماوات والأرض ) ، يقول : ابتدعها فخلقها ، ولم يخلق قبلها شيء فيتمثل به .
[ ص: 542 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( 117 ) )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( وإذا قضى أمرا ) ، وإذا أحكم أمرا وحتمه .
وأصل كل "قضاء أمر" الإحكام ، والفراغ منه ، ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس : "القاضي" بينهم ، لفصله القضاء بين الخصوم ، وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه به . ومنه قيل للميت : "قد قضى" ، يراد به قد فرغ من الدنيا ، وفصل منها . ومنه قيل : "ما ينقضي عجبي من فلان" ، يراد : ما ينقطع . ومنه قيل : "تقضى النهار" ، إذا انصرم ، ومنه قول الله عز وجل : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ سورة الإسراء : 23 ] أي : فصل الحكم فيه بين عباده ، بأمره إياهم بذلك ، وكذلك قوله : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ) [ سورة الإسراء : 4 ] ، أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به ، ففرغنا إليهم منه . ومنه قول أبي ذؤيب :
وعليهما مسرودتان ، قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع
[ ص: 543 ]
ويروى :
وتعاورا مسرودتين قضاهما
ويعني بقوله : "قضاهما" ، أحكمهما . ومنه قول الآخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بوائق في أكمامها لم تفتق
ويروى : "بوائج" . [ ص: 544 ]
وأما قوله : ( فإنما يقول له كن فيكون ) ، فإنه يعني بذلك : وإذا أحكم أمرا فحتمه ، فإنما يقول لذلك الأمر "كن" ، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ؟ وفي أي حال يقول للأمر الذي يقضيه : "كن"؟ أفي حال عدمه ، وتلك حال لا يجوز فيها أمره ، إذ كان محالا أن يأمر إلا المأمور ، فإذا لم يكن المأمور استحال الأمر ، ; وكما محال الأمر من غير آمر ، فكذلك محال الأمر من آمر إلا لمأمور ، أم يقول له ذلك في حال وجوده ؟ وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث ، لأنه حادث موجود ، ولا يقال للموجود : "كن موجودا" إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه؟
قيل : قد تنازع المتأولون في معنى ذلك ، ونحن مخبرون بما قالوا فيه ، والعلل التي اعتل بها كل فريق منهم لقوله في ذلك :
قال بعضهم : ذلك خبر من الله - جل ثناؤه - عن أمره المحتوم - على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه [ ص: 545 ] قضاؤه ، ومضى فيه أمره ، نظير أمره من أمر من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين ، وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك ، وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم ، وكالذي خسف به وبداره الأرض ، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه .
فوجه قائلو هذا القول قوله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، إلى الخصوص دون العموم .
وقال آخرون : بل الآية عام ظاهرها ، فليس لأحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها . وقال : إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه ، فلما كان ذلك كذلك ، كانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها ، نظائر التي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : "كوني" ، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ، لتصور جميعها له ، ولعلمه بها في حال العدم .
وقال آخرون : بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهر عموم ، فتأويلها الخصوص؛ لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور ، على ما وصفت قبل . قالوا : وإذ كان ذلك كذلك ، فالآية تأويلها : وإذا قضى أمرا من إحياء ميت ، أو إماتة حي ، ونحو ذلك ، فإنما يقول لحي : "كن ميتا ، أو لميت : كن حيا" ، وما أشبه ذلك من الأمر .
وقال آخرون : بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكونه ، أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه ، كان ووجد - ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة ، إلا وجود المخلوق وحدوث المقضي - . وقالوا : إنما قول الله عز وجل : ( السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، نظير قول القائل : "قال فلان برأسه" و"قال بيده" ، إذا حرك رأسه ، أو أومأ بيده ولم يقل شيئا ، وكما قال أبو النجم :
وقالت الأنساع للبطن الحق الحق قدما فآضت كالفنيق المحنق
ولا قول هنالك ، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن . وكما قال عمرو بن حممة الدوسي :
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطيارا يقال له : قع
ولا قول هناك ، وإنما معناه : إذا رام طيرانا وقع ، وكما قال الآخر :
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(170)
الحلقة (184)
صــ 547إلى صــ 553
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في قوله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) [ ص: 547 ] ، أن يقال : هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه؛ لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم ، وغير جائزة إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا : "كتاب البيان عن أصول الأحكام" . وإذ كان ذلك كذلك ، فأمر الله - جل وعز - لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله : ( كن ) في حال إرادته إياه مكونا ، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه ، إرادته إياه ، ولا أمره بالكون والوجود ، ولا يتأخر عنه ، فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود ، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك! ونظير قوله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) قوله : ( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ) [ سورة الروم : 25 ] بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ، ولا يتأخر عنه .
ويسأل من زعم أن قوله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) خاص في التأويل اعتلالا بأن أمر غير الموجود غير جائز ، عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم ، أم بعده؟ أم هي في خاص من الخلق؟ فلن يقول في ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله .
ويسأل الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه : ( فإنما يقول له كن فيكون ) ، نظير قول القائل : "قال فلان برأسه أو بيده" ، إذا حركه وأومأ ، ونظير قول الشاعر : [ ص: 548 ]
تقول إذا درأت لها وضيني : : أهذا دينه أبدا وديني
وما أشبه ذلك - : فإنهم لا صواب اللغة أصابوا ، ولا كتاب الله ، وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا - فيقال لقائلي ذلك : إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له : "كن" ، أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن ، وخرجوا من الملة .
وإن قالوا : بل نقر به ، ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل : "قال الحائط فمال" ولا قول هنالك ، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط .
قيل لهم : أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول : إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل؟
فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب ، وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها .
وإن قالوا : ذلك غير جائز .
قيل لهم : إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون ، فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء ووصفه ووكده . وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل : "قال الحائط فمال" ، فكيف لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، وقول القائل : "قال الحائط فمال"؟ [ ص: 549 ] وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله .
وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه : ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بالوجود حال وجود المأمور بالوجود ، فبين بذلك أن الذي هو أولى بقوله : ( فيكون ) الرفع على العطف على قوله ( يقول ) لأن "القول" و"الكون" حالهما واحد ، وهو نظير قول القائل : "تاب فلان فاهتدى" ، و"اهتدى فلان فتاب" ، لأنه لا يكون تائبا إلا وهو مهتد ، ولا مهتديا إلا وهو تائب؛ فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود ، ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود .
ولذلك استجاز من استجاز نصب "فيكون" من قرأ : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ] ، بالمعنى الذي وصفنا على معنى : أن نقول فيكون .
وأما رفع من رفع ذلك ، فإنه رأى أن الخبر قد تم عند قوله : ( إذا أردناه أن نقول له كن ) . إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا ، ثم ابتدأ بقوله : فيكون ، كما قال جل ثناؤه : ( لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء ) ، [ سورة الحج : 5 ] وكما قال ابن أحمر :
يعالج عاقرا أعيت عليه ليلقحها فينتجها حوارا
[ ص: 550 ]
يريد : فإذا هو ينتجها حوارا .
فمعنى الآية إذا : وقالوا اتخذ الله ولدا ، سبحانه أن يكون له ولد! بل هو مالك السماوات والأرض وما فيهما ، كل ذلك مقر له بالعبودية بدلالته على وحدانيته ، وأنى يكون له ولد ، وهو الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل ، كالذي ابتدع المسيح من غير والد بمقدرته وسلطانه ، الذي لا يتعذر عليه به شيء أراده! بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه : "كن" ، فيكون موجودا كما أراده وشاءه . فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاؤه ، إذ أراد خلقه من غير والد .
القول في تأويل قوله ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله : ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله ) ، فقال بعضهم : عنى بذلك النصارى .
ذكر من قال ذلك :
1860 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا [ ص: 551 ] عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز : ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ) ، قال : النصارى تقوله .
1861 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله - وزاد فيه ( وقال الذين لا يعلمون ) ، النصارى .
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
1862 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير . وحدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قالا جميعا : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت رسولا من عند الله كما تقول ، فقل لله عز وجل فليكلمنا حتى نسمع كلامه! فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله : ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ) ، الآية كلها .
وقال آخرون : بل عنى بذلك مشركي العرب .
ذكر من قال ذلك :
1863 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ) ، وهم كفار العرب .
1864 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله ) ، قال : هم كفار العرب .
1865 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن [ ص: 552 ] السدي : ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله ) ، أما الذين لا يعلمون : فهم العرب .
وأولى هذه الأقوال بالصحة والصواب قول القائل : إن الله تعالى عنى بقوله : ( وقال الذين لا يعلمون ) ، النصارى دون غيرهم؛ لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم ، وعن افترائهم عليه وادعائهم له ولدا ، فقال - جل ثناؤه - ، مخبرا عنهم فيما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم على الله الكذب بقولهم : ( اتخذ الله ولدا ) ، تمنوا على الله الأباطيل ، فقالوا جهلا منهم بالله وبمنزلتهم عنده وهم بالله مشركون : ( لولا يكلمنا الله ) ، كما يكلم رسله وأنبياءه ، أو تأتينا آية كما أتتهم؟ ولا ينبغي لله أن يكلم إلا أولياءه ، ولا يؤتي آية معجزة على دعوى مدع إلا لمن كان محقا في دعواه وداعيا إلى الله وتوحيده ، فأما من كان كاذبا في دعواه وداعيا إلى الفرية عليه وادعاء البنين والبنات له ، فغير جائز أن يكلمه الله - جل ثناؤه - ، أو يؤتيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته عليه .
وأما الزاعم : أن الله عنى بقوله : ( وقال الذين لا يعلمون ) العرب ، فإنه قائل قولا لا خبر بصحته ، ولا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب . والقول إذا صار إلى ذلك كان واضحا خطأه؛ لأنه ادعى ما لا برهان على صحته ، وادعاء مثل ذلك لن يتعذر على أحد .
وأما معنى قوله : ( لولا يكلمنا الله ) ، فإنه بمعنى : هلا يكلمنا الله! كما قال الأشهب بن رميلة : [ ص: 553 ]
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى ، لولا الكمي المقنعا
بمعنى : فهلا تعدون الكمي المقنع! كما :
1866 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( لولا يكلمنا الله ) قال : فهلا يكلمنا الله!
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(171)
الحلقة (185)
صــ 554إلى صــ 560
قال أبو جعفر : فأما "الآية" فقد ثبت فيما قبل معنى الآية أنها العلامة . وإنما أخبر الله عنهم أنهم قالوا : هلا تأتينا آية على ما نريد ونسأل ، كما [ ص: 554 ] أتت الأنبياء والرسل! فقال عز وجل : ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) .
القول في تأويل قوله تعالى : ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله : ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) ، فقال بعضهم في ذلك بما : -
1867 - حدثني به محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) ، هم اليهود .
1868 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( قال الذين من قبلهم ) ، اليهود .
وقال آخرون : هم اليهود والنصارى ، لأن الذين لا يعلمون هم العرب .
ذكر من قال ذلك :
1869 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : ( قال الذين من قبلهم ) ، يعني اليهود والنصارى وغيرهم .
1870 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال ، قالوا يعني - العرب - كما قالت اليهود والنصارى من قبلهم .
1871 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ ص: 555 ] عن أبيه ، عن الربيع : ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) ، يعني اليهود والنصارى .
قال أبو جعفر : قد دللنا على أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله : ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله ) ، هم النصارى ، والذين قالوا مثل قولهم هم اليهود سألت موسى صلى الله عليه وسلم أن يريهم ربهم جهرة ، وأن يسمعهم كلام ربهم ، كما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا - وسألوا من الآيات ما ليس لهم مسألته تحكما منهم على ربهم ، وكذلك تمنت النصارى على ربها تحكما منها عليه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الآيات . فأخبر الله - جل ثناؤه - عنهم أنهم قالوا من القول في ذلك ، مثل الذي قالته اليهود وتمنت على ربها مثل أمانيها ، وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنما يشابه قول اليهود من أجل تشابه قلوبهم في الضلالة والكفر بالله؛ فهم وإن اختلفت مذاهبهم في كذبهم على الله وافترائهم عليه ، فقلوبهم متشابهة في الكفر بربهم والفرية عليه ، وتحكمهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام . وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد .
1872 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( تشابهت قلوبهم ) قلوب النصارى واليهود .
وقال غيره : معنى ذلك تشابهت قلوب كفار العرب واليهود والنصارى وغيرهم .
ذكر من قال ذلك :
1873 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن [ ص: 556 ] قتادة : ( تشابهت قلوبهم ) ، يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم .
1874 - حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( تشابهت قلوبهم ) ، يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم .
قال أبو جعفر : وغير جائز في قوله : ( تشابهت ) التثقيل ، لأن التاء التي في أولها زائدة أدخلت في قوله : "تفاعل" ، وإن ثقلت صارت تاءين ، ولا يجوز إدخال تاءين زائدتين علامة لمعنى واحد ، وإنما يجوز ذلك في الاستقبال لاختلاف معنى دخولهما؛ لأن إحداهما تدخل علما للاستقبال ، والأخرى منها التي في "تفاعل" ، ثم تدغم إحداهما في الأخرى فتثقل ، فيقال : تشابه بعد اليوم قلوبنا .
فمعنى الآية : وقالت النصارى ، الجهال بالله وبعظمته : هلا يكلمنا الله ربنا ، كما كلم أنبياءه ورسله ، أو تجيئنا علامة من الله نعرف بها صدق ما نحن عليه على ما نسأل ونريد؟ قال الله جل ثناؤه : فكما قال هؤلاء الجهال من النصارى وتمنوا على ربهم ، قال من قبلهم من اليهود ، فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة ، ويؤتيهم آية ، واحتكموا عليه وعلى رسله ، وتمنوا الأماني ، فاشتبهت قلوب اليهود والنصارى في تمردهم على الله وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم على أنبيائه ورسله ، كما اشتبهت أقوالهم التي قالوها .
[ ص: 557 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ( 118 ) )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) ، قد بينا العلامات التي من أجلها غضب الله على اليهود ، وجعل منهم القردة والخنازير ، وأعد لهم العذاب المهين في معادهم ، والتي من أجلها أخزى الله النصارى في الدنيا ، وأعد لهم الخزي والعذاب الأليم في الآخرة ، والتي من أجلها جعل سكان الجنان الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون في هذه السورة وغيرها ، فأعلموا الأسباب التي من أجلها استحق كل فريق منهم من الله ما فعل به من ذلك ، وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون؛ لأنهم أهل التثبت في الأمور ، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة ، فأخبر الله - جل ثناؤه - أنه بين لمن كانت هذه الصفة صفته ما بين من ذلك ليزول شكه ، ويعلم حقيقة الأمر ، إذ كان ذلك خبرا من الله - جل ثناؤه - ، وخبر الله الخبر الذي لا يعذر سامعه بالشك فيه . وقد يحتمل غيره من الأخبار ما يحتمل من الأسباب العارضة فيه من السهو والغلط والكذب ، وذلك منفي عن خبر الله عز وجل .
القول في تأويل قوله تعالى : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا )
قال أبو جعفر : ومعنى قوله جل ثناؤه : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ) ، إنا أرسلناك يا محمد بالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان ، وهو الحق ; مبشرا من اتبعك فأطاعك ، وقبل منك ما دعوته إليه من الحق - بالنصر في الدنيا ، والظفر بالثواب في الآخرة ، والنعيم المقيم فيها ، ومنذرا من عصاك فخالفك ، ورد [ ص: 558 ] عليك ما دعوته إليه من الحق - بالخزي في الدنيا ، والذل فيها ، والعذاب المهين في الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ( 119 ) )
قال أبو جعفر : قرأت عامة القرأة : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) ، بضم "التاء" من "تسأل" ، ورفع "اللام" منها على الخبر ، بمعنى : يا محمد إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، فبلغت ما أرسلت به ، وإنما عليك البلاغ والإنذار ، ولست مسئولا عمن كفر بما أتيته به من الحق ، وكان من أهل الجحيم .
وقرأ ذلك بعض أهل المدينة : ( ولا تسأل ) جزما . بمعنى النهي ، مفتوح "التاء" من "تسأل" ، وجزم "اللام" منها . ومعنى ذلك على قراءة هؤلاء : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به ، لا لتسأل عن أصحاب الجحيم ، فلا تسأل عن حالهم . وتأول الذين قرءوا هذه القراءة ما : -
1875 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) .
1876 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟" ثلاثا ، فنزلت : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) ، فما ذكرهما حتى توفاه الله . [ ص: 559 ]
1877 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني داود بن أبي عاصم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : "ليت شعري أين أبواي؟" فنزلت : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) .
قال أبو جعفر : والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ بالرفع ، على الخبر؛ لأن الله - جل ثناؤه - قص قصص أقوام من اليهود والنصارى ، وذكر ضلالتهم ، وكفرهم بالله ، وجراءتهم على أنبيائه ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( إنا أرسلناك ) يا محمد ( بالحق بشيرا ) ، من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه ، ( ونذيرا ) من كفر بك وخالفك ، فبلغ رسالتي ، فليس عليك من أعمال من كفر بك - بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة ، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك . ولم يجر - لمسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عن أصحاب الجحيم ذكر ، فيكون لقوله : ( ولا تسأل عن [ ص: 560 ] أصحاب الجحيم ) وجه يوجه إليه ، وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دل عليه ظاهره المفهوم ، حتى تأتي دلالة بينة تقوم بها الحجة ، على أن المراد به غير ما دل عليه ظاهره ، فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك! ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن أن يسأل - في هذه الآية عن أصحاب الجحيم ، ولا دلالة تدل على أن ذلك كذلك في ظاهر التنزيل . والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية ، وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر ، دون النهي عن المسألة عنهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(172)
الحلقة (186)
صــ 554إلى صــ 567
فإن ظن ظان أن الخبر الذي روي عن محمد بن كعب صحيح ، فإن في استحالة الشك من الرسول عليه السلام - في أن أهل الشرك من أهل الجحيم ، وأن أبويه كانا منهم ، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب ، إن كان الخبر عنه صحيحا ، مع أن ابتداء الله الخبر بعد قوله : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ) ، ب "الواو" - بقوله : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) ، وتركه وصل ذلك بأوله ب "الفاء" ، وأن يكون : "إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا فلا تسأل عن أصحاب الجحيم" - أوضح الدلالة على أن الخبر بقوله : "ولا تسأل" ، أولى من النهي ، والرفع به أولى من الجزم . وقد ذكر أنها في قراءة أبي : ( وما تسأل ) ، وفي قراءة ابن مسعود : ( ولن تسأل ) ، وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه ، دون النهي . [ ص: 561 ]
وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) إلى الحال ، كأنه كان يرى أن معناه : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم . وذلك إذا ضم "التاء" ، وقرأه على معنى الخبر ، وكان يجيز على ذلك قراءته : "ولا تسأل" ، بفتح "التاء" وضم "اللام" على وجه الخبر بمعنى : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، غير سائل عن أصحاب الجحيم . وقد بينا الصواب عندنا في ذلك .
وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك ، يدفعهما ما روي عن ابن [ ص: 562 ] مسعود وأبي من القراءة؛ لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من "ما" و"لن" يدل على انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله : ( ولا تسأل ) ، وإذا كان ابتداء لم يكن حالا .
وأما ( أصحاب الجحيم ) ، ف "الجحيم" ، هي النار بعينها إذا شبت وقودها ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
إذا شبت جهنم ثم دارت وأعرض عن قوابسها الجحيم
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) ، وليست اليهود ، يا محمد ، ولا النصارى براضية عنك أبدا ، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم ، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق ، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم ، ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم؛ لأن اليهودية ضد النصرانية ، والنصرانية ضد اليهودية ، ولا تجتمع النصرانية واليهودية [ ص: 563 ] في شخص واحد في حال واحدة ، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك ، إلا أن تكون يهوديا نصرانيا ، وذلك مما لا يكون منك أبدا ، لأنك شخص واحد ، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة . وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل ، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل . وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل ، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الألفة عليه سبيل .
وأما "الملة" فإنها الدين ، وجمعها الملل .
ثم قال - جل ثناؤه - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد - لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) - ( إن هدى الله هو الهدى ) ، يعني إن بيان الله هو البيان المقنع ، والقضاء الفاصل بيننا ، فهلموا إلى كتاب الله وبيانه - الذي بين فيه لعباده ما اختلفوا فيه ، وهو التوراة التي تقرون جميعا بأنها من عند الله ، يتضح لكم فيها المحق منا من المبطل ، وأينا أهل الجنة ، وأينا أهل النار ، وأينا على الصواب ، وأينا على الخطأ .
وإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى هدى الله وبيانه؛ لأن فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، وبيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن المكذب به من أهل النار دون المصدق به .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولإن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ( 120 ) )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( ولإن اتبعت ) ، يا محمد ، هوى هؤلاء اليهود والنصارى - فيما يرضيهم عنك - من تهود وتنصر ، فصرت من ذلك [ ص: 564 ] إلى إرضائهم ، ووافقت فيه محبتهم - من بعد الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم ، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبإهم في هذه السورة - ما لك من الله من ولي يعني بذلك : ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك ، وقيم يقوم به ولا نصير ، ينصرك من الله ، فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته ، ويمنعك من ذلك ، إن أحل بك ذلك ربك ، وقد بينا معنى "الولي" و"النصير" فيما مضى قبل .
وقد قيل : إن الله تعالى ذكره أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن اليهود والنصارى دعته إلى أديانها ، وقال كل حزب منهم : إن الهدى هو ما نحن عليه دون ما عليه ، غيرنا من سائر الملل ، فوعظه الله أن يفعل ذلك ، وعلمه الحجة الفاصلة بينهم فيما ادعى كل فريق منهم .
القول في تأويل قوله تعالى : ( الذين آتيناهم الكتاب )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في الذين عناهم الله - جل ثناؤه - بقوله : ( الذين آتيناهم الكتاب ) فقال بعضهم : هم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من أصحابه .
ذكر من قال ذلك :
1878 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : ( الذين آتيناهم الكتاب ) ، هؤلاء أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ، آمنوا بكتاب الله وصدقوا به .
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل ، الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله ، فأقروا بحكم التوراة ، فعملوا بما أمر الله فيها من اتباع محمد صلى [ ص: 565 ] الله عليه وسلم ، والإيمان به ، والتصديق بما جاء به من عند الله .
ذكر من قال ذلك :
1879 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ) ، قال : من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود فأولئك هم الخاسرون .
وهذا القول أولى بالصواب من القول الذي قاله قتادة ؛ لأن الآيات قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين ، وتبديل من بدل منهم كتاب الله ، وتأولهم إياه على غير تأويله ، وادعائهم على الله الأباطيل ، ولم يجر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الآية التي قبلها ذكر ، فيكون قوله : ( الذين آتيناهم الكتاب ) ، موجها إلى الخبر عنهم ، ولا لهم بعدها ذكر في الآية التي تتلوها ، فيكون موجها ذلك إلى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد انقضاء قصص غيرهم ، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسليم له .
فإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بمعنى الآية أن يكون موجها إلى أنه خبر عمن قص الله - جل ثناؤه - [ قصصهم ] في الآية قبلها والآية بعدها ، وهم أهل الكتابين : التوراة والإنجيل . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : الذين آتيناهم الكتاب الذي قد عرفته يا محمد - وهو التوراة - فقرأوه واتبعوا ما فيه ، فصدقوك وآمنوا بك ، وبما جئت به من عندي ، أولئك يتلونه حق تلاوته . [ ص: 566 ]
وإنما أدخلت الألف واللام في"الكتاب" لأنه معرفة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عرفوا أي الكتب عنى به .
القول في تأويل قوله تعالى : ( يتلونه حق تلاوته )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل : ( يتلونه حق تلاوته ) ، فقال بعضهم : معنى ذلك يتبعونه حق اتباعه .
ذكر من قال ذلك :
1880 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثني ابن أبي عدي ، وعبد الأعلى ، وحدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا ابن أبي عدي جميعا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( يتلونه حق تلاوته ) ، يتبعونه حق اتباعه .
1881 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن عكرمة بمثله .
1880 - وحدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة بمثله .
1883 - حدثني الحسن بن عمرو العنقزي قال : حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في قول الله عز وجل : ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه .
1884 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال أبو مالك : إن ابن عباس قال في : ( يتلونه حق تلاوته ) ، فذكر مثله ، إلا أنه قال : ولا يحرفونه عن مواضعه .
1885 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا المؤمل قال : حدثنا سفيان قال : [ ص: 567 ] حدثنا يزيد ، عن مرة ، عن عبد الله في قول الله عز وجل : ( يتلونه حق تلاوته ) : قال : يتبعونه حق اتباعه .
1886 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال : قال عبد الله بن مسعود : والذي نفسي بيده ، إن حق تلاوته : أن يحل حلاله ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله .
1887 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ومنصور بن المعتمر ، عن ابن مسعود في قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) ، أن يحل حلاله ويحرم حرامه ، ولا يحرفه عن مواضعه .
1888 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا [ أبو أحمد ] الزبيري قال : حدثنا عباد بن العوام عمن ذكره ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( يتلونه حق تلاوته ) يتبعونه حق اتباعه .
1889 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا عباد بن العوام ، عن الحجاج ، عن عطاء ، بمثله .
1890 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين في قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال : يتبعونه حق اتباعه .
1891 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان - وحدثني المثنى قال : حدثني أبو نعيم قال : حدثنا سفيان وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم ، عن سفيان - قالوا جميعا : عن منصور ، عن أبي رزين ، مثله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(173)
الحلقة (187)
صــ 568إلى صــ 574
1892 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد : ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال : عملا به . [ ص: 568 ]
1893 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن قيس بن سعد : ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال : يتبعونه حق اتباعه ، ألم تر إلى قوله : ( والقمر إذا تلاها ) [ سورة الشمس : 2 ] ، يعني الشمس إذا تبعها القمر .
1894 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء وقيس بن سعد ، عن مجاهد في قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال : يعملون به حق عمله .
1895 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد قال ، يتبعونه حق اتباعه .
1896 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
1897 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( يتلونه حق تلاوته ) ، يعملون به حق عمله .
1898 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن مجاهد في قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال : يتبعونه حق اتباعه .
1899 - حدثني عمرو قال : حدثنا أبو قتيبة قال : حدثنا الحسن بن أبي جعفر ، عن أبي أيوب ، عن أبي الخليل ، عن مجاهد : ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال : يتبعونه حق اتباعه . [ ص: 569 ]
1900 - حدثنا عمرو قال : حدثنا يحيى القطان ، عن عبد الملك ، عن عطاء قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) قال : يتبعونه حق اتباعه ، يعملون به حق عمله .
1901 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثني أبي ، عن المبارك ، عن الحسن : ( يتلونه حق تلاوته ) قال : يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه .
1902 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال : أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وعملوا بما فيه ، ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول : إن حق تلاوته : أن يحل حلاله ، ويحرم حرامه ، وأن يقرأه كما أنزله الله عز وجل ، ولا يحرفه عن مواضعه .
1903 - حدثنا عمرو قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحكم بن عطية ، سمعت قتادة يقول : ( يتلونه حق تلاوته ) قال : يتبعونه حق اتباعه . قال : اتباعه : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ويقرأونه كما أنزل .
1904 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم عن داود ، عن عكرمة في قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال : يتبعونه حق اتباعه ، أما سمعت قول الله عز وجل : ( والقمر إذا تلاها ) [ سورة الشمس : 2 ] ، قال : إذا تبعها .
وقال آخرون : ( يتلونه حق تلاوته ) ، يقرأونه حق قراءته .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى : يتبعونه حق اتباعه ، من قول القائل : ما زلت أتلو أثره ، إذا اتبع أثره ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله . [ ص: 570 ]
وإذ كان ذلك تأويله ، فمعنى الكلام : الذين آتيناهم الكتاب ، يا محمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبما جئتهم به من الحق من عندي ، يتبعون كتابي الذي أنزلته على رسولي موسى صلوات الله عليه ، فيؤمنون به ويقرون بما فيه من نعتك وصفتك ، وأنك رسولي ، فرض عليهم طاعتي في الإيمان بك والتصديق بما جئتهم به من عندي ، ويعملون بما أحللت لهم ، ويجتنبون ما حرمت عليهم فيه ، ولا يحرفونه عن مواضعه ولا يبدلونه ولا يغيرونه - كما أنزلته عليهم - بتأويل ولا غيره .
أما قوله : ( حق تلاوته ) ، فمبالغة في صفة اتباعهم الكتاب ولزومهم العمل به ، كما يقال : "إن فلانا لعالم حق عالم" ، وكما يقال : "إن فلانا لفاضل كل فاضل"
وقد اختلف أهل العربية في إضافة "حق" إلى المعرفة ، فقال بعض نحويي الكوفة : غير جائزة إضافته إلى معرفة لأنه بمعنى "أي" ، وبمعنى قولك : "أفضل رجل فلان" ، و"أفعل" لا يضاف إلى واحد معرفة؛ لأنه مبعض ، ولا يكون الواحد المبعض معرفة؛ فأحالوا أن يقال : "مررت بالرجل حق الرجل" ، و"مررت بالرجل جد الرجل" ، كما أحالوا "مررت بالرجل أي الرجل" ، وأجازوا ذلك في "كل الرجل" و"عين الرجل" و"نفس الرجل" . وقالوا : إنما أجزنا ذلك لأن هذه الحروف كانت في الأصل توكيدا ، فلما صرن مدوحا ، تركن مدوحا على أصولهن في المعرفة .
وزعموا أن قوله : ( يتلونه حق تلاوته ) ، إنما جازت إضافته إلى التلاوة ، وهي مضافة إلى معرفة؛ لأن العرب تعتد ب "الهاء" - إذا عادت إلى نكرة - بالنكرة ، فيقولون : "مررت برجل واحد أمه ، ونسيج وحده ، وسيد قومه" ، قالوا : فكذلك قوله : ( حق تلاوته ) ، إنما جازت إضافة "حق" إلى "التلاوة" وهي مضافة إلى [ ص: 571 ] "الهاء" ، لاعتداد العرب ب "الهاء" التي في نظائرها في عداد النكرات . قالوا : ولو كان ذلك "حق التلاوة" ، لوجب أن يكون جائزا : "مررت بالرجل حق الرجل" .
فعلى هذا القول تأويل الكلام : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوة .
وقال بعض نحويي البصرة : جائزة إضافة "حق" إلى النكرات مع النكرات ، ومع المعارف إلى المعارف ، وإنما ذلك نظير قول القائل : "مررت بالرجل غلام الرجل" ، و"برجل غلام رجل" .
فتأويل الآية على قول هؤلاء : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته
وأولى ذلك بالصواب عندنا القول الأول؛ لأن معنى قوله : ( حق تلاوته ) ، أي تلاوة ، بمعنى مدح التلاوة التي تلوها وتفضيلها . "وأي" غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة عند جميعهم . وكذلك "حق" غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة .
وإنما أضيف في ( حق تلاوته ) إلى ما فيه "الهاء" لما وصفت علة التي تقدم بيانها .
القول في تأويل قوله تعالى : ( أولئك يؤمنون به )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( أولئك ) ، هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته ، وأما قوله : ( يؤمنون ) ، فإنه يعني : يصدقون به . و"الهاء" التي في قوله : "به" عائدة على "الهاء" التي في "تلاوته" ، وهما جميعا من ذكر الكتاب الذي قاله الله : ( الذين آتيناهم الكتاب ) .
فأخبر الله - جل ثناؤه - أن المؤمن بالتوراة ، هو المتبع ما فيها من حلالها وحرامها ، والعامل بما فيها من فرائض الله التي فرضها فيها على أهلها ، وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته ، دون من كان محرفا لها مبدلا تأويلها ، مغيرا [ ص: 572 ] سننها تاركا ما فرض الله فيها عليه .
وإنما وصف - جل ثناؤه - من وصف بما وصف به من متبعي التوراة ، وأثنى عليهم بما أثنى به عليهم؛ لأن في اتباعها اتباع محمد نبي الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه؛ لأن التوراة تأمر أهلها بذلك ، وتخبرهم عن الله تعالى ذكره بنبوته ، وفرض طاعته على جميع خلق الله من بني آدم ، وأن في التكذيب بمحمد التكذيب لها . فأخبر - جل ثناؤه - أن متبعي التوراة هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم العاملون بما فيها ، كما : -
1905 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( أولئك يؤمنون به ) ، قال : من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل ، وبالتوراة ، وإن الكافر بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الكافر بها الخاسر ، كما قال جل ثناؤه : ( ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ) .
القول في تأويل قوله تعالى : ( ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ( 121 ) )
قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله : ( ومن يكفر به ) ، ومن يكفر بالكتاب الذي أخبر أنه يتلوه - من آتاه من المؤمنين - حق تلاوته . ويعني بقوله جل ثناؤه : ( يكفر ) ، يجحد ما فيه من فرائض الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه ، ويبدله فيحرف تأويله ، أولئك هم الذين خسروا علمهم وعملهم ، فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله ، واستبدلوا بها سخط الله وغضبه . وقال ابن زيد في قوله ، بما : -
1906 - حدثني به يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : [ ص: 573 ] ( ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ) ، قال : من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود ، ( فأولئك هم الخاسرون ) .
القول في تأويل قوله تعالى : ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ( 122 ) )
قال أبو جعفر : وهذه الآية عظة من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتذكير منه لهم ما سلف من أياديه إليهم في صنعه بأوائلهم ، استعطافا منه لهم على دينه وتصديق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا بني إسرائيل اذكروا أيادي لديكم ، وصنائعي عندكم ، واستنقاذي إياكم من أيدي عدوكم فرعون وقومه ، وإنزالي عليكم المن والسلوى في تيهكم ، وتمكيني لكم في البلاد ، بعد أن كنتم مذللين مقهورين ، واختصاصي الرسل منكم ، وتفضيلي إياكم على عالم من كنتم بين ظهرانيه ، أيام أنتم في طاعتي - باتباع رسولي إليكم ، وتصديقه وتصديق ما جاءكم به من عندي ، ودعوا التمادي في الضلال والغي .
وقد ذكرنا فيما مضى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل ، والمعاني التي ذكرهم - جل ثناؤه - من آلاءه عندهم ، والعالم الذي فضلوا عليه - فيما مضى قبل ، بالروايات والشواهد ، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته ، إذ كان المعنى في ذلك في هذا الموضع وهنالك واحدا .
[ ص: 574 ] القول في تأويل قوله ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ( 123 ) )
قال أبو جعفر : وهذه الآية ترهيب من الله - جل ثناؤه - للذين سلفت عظته إياهم بما وعظهم به في الآية قبلها . يقول الله لهم : واتقوا - يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي وتنزيلي ، المحرفين تأويله عن وجهه ، المكذبين برسولي محمد صلى الله عليه وسلم - عذاب يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا ، ولا تغني عنها غناء ، أن تهلكوا على ما أنتم عليه من كفركم بي ، وتكذيبكم رسولي ، فتموتوا عليه ، فإنه يوم لا يقبل من نفس فيما لزمها فدية ، ولا يشفع فيما وجب عليها من حق لها شافع ، ولا هي ينصرها ناصر من الله إذا انتقم منها بمعصيتها إياه .
وقد مضى البيان عن كل معاني هذه الآية في نظيرتها قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(174)
الحلقة (188)
صــ 7إلى صــ 13
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الجزء الثالث
[ ص: 7 ] الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ )
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : ( وَإِذِ ابْتَلَى ) ، وَإِذِ اخْتَبَرَ .
يقال منه : "ابتليت فلانا أبتليه ابتلاء" ، ومنه قول الله عز وجل : ( وابتلوا اليتامى ) [ سورة النساء : 6 ] ، يعني به : اختبروهم .
وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم ، اختبارا بفرائض فرضها عليه ، وأمر أمره به . وذلك هو "الكلمات" التي أوحاهن إليه ، وكلفه العمل بهن ، امتحانا منه له واختبارا .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة "الكلمات" التي ابتلى الله بها إبراهيم نبيه وخليله صلوات الله عليه .
فقال بعضهم : هي شرائع الإسلام ، وهي ثلاثون سهما .
ذكر من قال ذلك :
1907 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال ، [ ص: 8 ] قال ابن عباس : لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم ، ابتلاه الله بكلمات ، فأتمهن . قال : فكتب الله له البراءة فقال : ( وإبراهيم الذي وفى ) [ سورة النجم : 37 ] . قال : عشر منها في"الأحزاب" ، وعشر منها في "براءة" ، وعشر منها في "المؤمنون" و "سأل سائل" ، وقال : إن هذا الإسلام ثلاثون سهما .
1908 - حدثنا إسحاق بن شاهين قال : حدثنا خالد الطحان ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم ، ابتلي بالإسلام فأتمه ، فكتب الله له البراءة فقال : "وإبراهيم الذي وفى" ، فذكر عشرا في "براءة" [ 112 ] فقال : ( التائبون العابدون الحامدون ) إلى آخر الآية ، وعشرا في "الأحزاب" [ 35 ] ، ( إن المسلمين والمسلمات ) ، وعشرا في "سورة المؤمنون" [ 1 - 9 ] إلى قوله : ( والذين هم على صلواتهم يحافظون ) ، وعشرا في "سأل سائل" [ 22 - 34 ] ( والذين هم على صلاتهم يحافظون ) .
1909 - حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال : حدثنا علي بن الحسن قال : حدثنا خارجة بن مصعب ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الإسلام ثلاثون سهما ، وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم ، قال الله : ( وإبراهيم الذي وفى ) ، فكتب الله له براءة من النار .
[ ص: 9 ] وقال آخرون : هي خصال عشر من سنن الإسلام .
ذكر من قال ذلك :
1910 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال : ابتلاه الله بالطهارة : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد . في الرأس : قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الرأس . وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، وغسل أثر الغائط والبول بالماء .
1911 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحكم بن أبان ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن ابن عباس ، بمثله - ولم يذكر أثر البول .
1912 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا سليمان قال : حدثنا أبو هلال قال : حدثنا قتادة في قوله : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال : ابتلاه بالختان ، وحلق العانة ، وغسل القبل والدبر ، والسواك ، وقص الشارب ، وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط . قال أبو هلال : ونسيت خصلة .
1913 - حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن مطر ، عن أبي الخلد قال : ابتلي إبراهيم بعشرة أشياء ، هن في الإنسان سنة : [ ص: 10 ] الاستنشاق ، وقص الشارب ، والسواك ، ونتف الإبط ، وقلم الأظفار ، وغسل البراجم ، والختان ، وحلق العانة ، وغسل الدبر والفرج .
وقال بعضهم : بل "الكلمات" التي ابتلي بهن عشر خلال ؛ بعضهن في تطهير الجسد ، وبعضهن في مناسك الحج .
ذكر من قال ذلك :
1914 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا محمد بن حرب قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن ابن هبيرة ، عن حنش ، عن ابن عباس في قوله : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " قال : ستة في الإنسان ، وأربعة في المشاعر . فالتي في الإنسان : حلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، والغسل يوم الجمعة . وأربعة في المشاعر : الطواف ، والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ، والإفاضة .
وقال آخرون : بل ذلك : "إني جاعلك للناس إماما" ، في مناسك الحج .
ذكر من قال ذلك :
1915 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال : سمعت إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" ، فمنهن : "إني جاعلك للناس إماما" ، وآيات النسك .
1916 - حدثنا أبو السائب قال : حدثنا ابن إدريس قال : سمعت إسماعيل [ ص: 11 ] بن أبي خالد ، عن أبي صالح مولى أم هانئ في قوله : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال : منهن "إني جاعلك للناس إماما" ومنهن آيات النسك : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) [ سورة البقرة : 127 ] .
1917 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال الله لإبراهيم : إني مبتليك بأمر فما هو ؟ قال : تجعلني للناس إماما! قال : نعم . قال : ومن ذريتي . قال : لا ينال عهدي الظالمين . قال : تجعل البيت مثابة للناس . قال : نعم . [ قال ] : وأمنا . قال : نعم . [ قال ] : وتجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك . قال : نعم . [ قال ] : وترينا مناسكنا وتتوب علينا . قال : نعم . قال : وتجعل هذا البلد آمنا . قال : نعم . قال : وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم . قال : نعم .
1918 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
1919 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، أخبره به عن عكرمة ، فعرضته على مجاهد فلم ينكره .
1920 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بنحوه . قال ابن جريج : فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة جميعا .
1921 - حدثنا سفيان قال : حدثني أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال : ابتلي بالآيات التي بعدها : "إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" .
1922 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن [ ص: 12 ] الربيع في قوله : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" ، فالكلمات : "إني جاعلك للناس إماما" ، وقوله : "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" ، وقوله : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقوله : "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" الآية ، وقوله : "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" الآية . قال : فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهنإبراهيم .
1923 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" ، فمنهن : "إني جاعلك للناس إماما" ، ومنهن : "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" ، ومنهن الآيات في شأن النسك ، والمقام الذي جعل لإبراهيم ، والرزق الذي رزق ساكنو البيت ، ومحمد صلى الله عليه وسلم في ذريتهما عليهما السلام .
وقال آخرون : بل ذلك مناسك الحج خاصة .
ذكر من قال ذلك :
1924 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا سلم بن قتيبة قال : حدثنا عمر بن نبهان ، عن قتادة ، عن ابن عباس في قوله : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال : مناسك الحج .
1925 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان ابن عباس يقول في قوله : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال : المناسك . [ ص: 13 ]
1926 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : قال ابن عباس : ابتلاه بالمناسك .
1927 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : بلغنا عن ابن عباس أنه قال : إن الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم ، المناسك .
1928 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : قوله : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال : مناسك الحج .
1929 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس في قوله : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال : منهن مناسك الحج .
وقال آخرون : هي أمور ، منهن الختان .
ذكر من قال ذلك :
1930 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا سلم بن قتيبة ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن الشعبي : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال : منهن الختان .
1931 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، قال : سمعت الشعبي يقول ، فذكر مثله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(175)
الحلقة (189)
صــ 14إلى صــ 20
1932 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال : سمعت الشعبي - وسأله أبو إسحاق عن قول الله : "وإذ ابتلى [ ص: 14 ] إبراهيم ربه بكلمات" - قال : منهن الختان ، يا أبا إسحاق .
وقال آخرون : بل ذلك الخلال الست : الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان ، التي ابتلي بهن فصبر عليهن .
ذكر من قال ذلك :
1933 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : قلت للحسن : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" . قال : ابتلاه بالكوكب ، فرضي عنه ؛ وابتلاه بالقمر ، فرضي عنه ؛ وابتلاه بالشمس ، فرضي عنه ؛ وابتلاه بالنار ، فرضي عنه ؛ وابتلاه بالهجرة ، وابتلاه بالختان .
1934 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول : إي والله ، ابتلاه بأمر فصبر عليه : ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر ، فأحسن في ذلك ، وعرف أن ربه دائم لا يزول ، فوجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما كان من المشركين ؛ ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله ؛ ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة ، فصبر على ذلك ؛ فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان ، فصبر على ذلك .
1935 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عمن سمع الحسن يقول في قوله : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال : ابتلاه الله بذبح ولده ، وبالنار ، وبالكوكب ، والشمس ، والقمر .
1936 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا سلم بن قتيبة قال : حدثنا أبو هلال ، عن الحسن : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال : ابتلاه بالكوكب ، وبالشمس والقمر ، فوجده صابرا .
وقال آخرون بما :
1937 - حدثنا به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا [ ص: 15 ] أسباط ، عن السدي : الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) [ سورة البقرة : 127 - 129 ]
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن إليه ، وأمره أن يعمل بهن فأتمهن ، كما أخبر الله جل ثناؤه عنه أنه فعل . وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله في تأويل "الكلمات" ، وجائز أن تكون بعضه . لأن إبراهيم صلوات الله عليه قد كان امتحن فيما بلغنا بكل ذلك ، فعمل به ، وقام فيه بطاعة الله وأمره الواجب عليه فيه . وإذ كان ذلك كذلك ، فغير جائز لأحد أن يقول : عنى الله بالكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم شيئا من ذلك بعينه دون شيء ، ولا عنى به كل ذلك ، إلا بحجة يجب التسليم لها : من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع من الحجة . ولم يصح في شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد ، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته . غير أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران ، لو ثبتا ، أو أحدهما ، كان القول به في تأويل ذلك هو الصواب . أحدهما ، ما : -
1938 - حدثنا به أبو كريب قال : حدثنا رشدين بن سعد قال : حدثني زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله : ( الذي وفى ) ؟ [ سورة النجم : 37 ] لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) [ سورة الروم : 17 ] حتى يختم الآية . [ ص: 16 ]
والآخر منهما ما : -
1939 - حدثنا به أبو كريب قال : حدثنا الحسن بن عطية قال : حدثنا إسرائيل ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وإبراهيم الذي وفى" قال : أتدرون ما "وفى" ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : وفى عمل يومه ، أربع ركعات في النهار .
[ ص: 17 ] قال أبو جعفر : فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبيه صحيحا سنده ، كان بينا أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فقام بهن ، هو قوله كلما أصبح وأمسى : " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون " - أو كان خبر أبي أمامة عدولا نقلته ، كان معلوما أن الكلمات التي أوحين إلى إبراهيم فابتلي بالعمل بهن : أن يصلي كل يوم أربع ركعات . غير أنهما خبران في أسانيدهما نظر .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في معنى "الكلمات" التي أخبر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم ، ما بينا آنفا .
ولو قال قائل في ذلك : إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس ، أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم ، كان مذهبا . لأن قوله : " إني جاعلك للناس إماما ، وقوله : " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين وسائر الآيات التي هي نظير ذلك ، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم .
القول في تأويل قوله تعالى ( فأتمهن )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "فأتمهن" ، فأتم إبراهيم الكلمات . وإتمامه إياهن إكماله إياهن ، بالقيام لله بما أوجب عليه فيهن ، وهو الوفاء الذي [ ص: 18 ] قال الله جل ثناؤه : ( وإبراهيم الذي وفى ) [ سورة النجم : 37 ] ، يعني وفى بما عهد إليه بالكلمات ، بما أمره به من فرائضه ومحنته فيها ، كما : -
1940 - حدثني محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : "فأتمهن" ، أي فأداهن .
1941 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "فأتمهن" ، أي عمل بهن فأتمهن .
1942 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "فأتمهن" ، أي عمل بهن فأتمهن .
القول في تأويل قوله تعالى ( قال إني جاعلك للناس إماما )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "إني جاعلك للناس إماما" ، فقال الله : يا إبراهيم ، إني مصيرك للناس إماما ، يؤتم به ويقتدى به ، كما : -
1943 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "إني جاعلك للناس إماما" ، ليؤتم به ويقتدى به .
يقال منه : "أممت القوم فأنا أؤمهم أما وإمامة" ، إذا كنت إمامهم .
وإنما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيم : "إني جاعلك للناس إماما" ، إني مصيرك تؤم من بعدك من أهل الإيمان بي وبرسلي ، تتقدمهم أنت ، ويتبعون هديك ، ويستنون بسنتك التي تعمل بها ، بأمري إياك ووحيي إليك .
[ ص: 19 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قال ومن ذريتي )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : قال إبراهيم - لما رفع الله منزلته وكرمه ، فأعلمه ما هو صانع به ، من تصييره إماما في الخيرات لمن في عصره ، ولمن جاء بعده من ذريته وسائر الناس غيرهم ، يهتدى بهديه ويقتدى بأفعاله وأخلاقه - : يا رب ، ومن ذريتي فاجعل أئمة يقتدى بهم ، كالذي جعلتني إماما يؤتم بي ويقتدى بي . مسألة من إبراهيم ربه سأله إياها ، كما : -
1944 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال إبراهيم : "ومن ذريتي" ، يقول : فاجعل من ذريتي من يؤتم به ويقتدى به .
وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيم : "ومن ذريتي" ، مسألة منه ربه لعقبه أن يكونوا على عهده ودينه ، كما قال : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) [ سورة إبراهيم : 35 ] ، فأخبر الله جل ثناؤه أن في عقبه الظالم المخالف له في دينه ، بقوله : "لا ينال عهدي الظالمين" .
والظاهر من التنزيل يدل على غير الذي قاله صاحب هذه المقالة . لأن قول إبراهيم صلوات الله عليه : "ومن ذريتي" ، في إثر قول الله جل ثناؤه : "إني جاعلك للناس إماما" . فمعلوم أن الذي سأله إبراهيم لذريته ، لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه ، لكان مبينا . ولكن المسألة لما كانت مما جرى ذكره ، اكتفى بالذكر الذي قد مضى ، من تكريره وإعادته ، فقال : "ومن ذريتي" ، بمعنى : ومن ذريتي فاجعل مثل الذي جعلتني به ، من الإمامة للناس .
[ ص: 20 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قال لا ينال عهدي الظالمين ( 124 ) )
قال أبو جعفر : هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماما يقتدي به أهل الخير . وهو من الله جل ثناؤه جواب لما يتوهم في مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة مثله . فأخبر أنه فاعل ذلك ، إلا بمن كان من أهل الظلم منهم ، فإنه غير مصيره كذلك ، ولا جاعله في محل أوليائه عنده ، بالتكرمة بالإمامة . لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته ، دون أعدائه والكافرين به .
واختلف أهل التأويل في العهد الذي حرم الله جل ثناؤه الظالمين أن ينالوه .
فقال بعضهم : ذلك العهد هو النبوة .
ذكر من قال ذلك :
1945 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " قال لا ينال عهدي الظالمين " ، يقول : عهدي ، نبوتي .
فمعنى قائل هذا القول في تأويل الآية : لا ينال النبوة أهل الظلم والشرك .
وقال آخرون : معنى "العهد" : عهد الإمامة .
فتأويل الآية على قولهم : لا أجعل من كان من ذريتك بأسرهم ظالما ، إماما لعبادي يقتدى به .
ذكر من قال ذلك :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(176)
الحلقة (190)
صــ 21إلى صــ 27
1946 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " قال لا ينال عهدي الظالمين " قال : لا يكون إمام ظالما . [ ص: 21 ]
1947 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قال الله : " لا ينال عهدي الظالمين " قال : لا يكون إمام ظالما .
1948 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة بمثله .
1949 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد في قوله : "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال : لا يكون إمام ظالم يقتدى به .
1950 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
1951 - حدثنا مشرف بن أبان الحطاب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد في قوله : "لا ينال عهدي الظالمين" قال : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به .
1952 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال : حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "لا ينال عهدي الظالمين" قال : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به .
1953 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 22 ] ابن جريج ، عن مجاهد : "لا ينال عهدي الظالمين" : قال : لا يكون إماما ظالم .
قال ابن جريج : وأما عطاء فإنه قال : " إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي " ، فأبى أن يجعل من ذريته ظالما إماما . قلت لعطاء : ما عهده ؟ قال : أمره .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه .
ذكر من قال ذلك :
1954 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "لا ينال عهدي الظالمين" ، يعني : لا عهد لظالم عليك في ظلمه ، أن تطيعه فيه .
1955 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ، عن إسرائيل ، عن مسلم الأعور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : " قال لا ينال عهدي الظالمين " قال : ليس للظالمين عهد ، وإن عاهدته فانقضه .
1956 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن سفيان ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ليس لظالم عهد .
وقال آخرون : معنى "العهد" في هذا الموضع : الأمان .
فتأويل الكلام على معنى قولهم : قال الله : لا ينال أماني أعدائي ، وأهل الظلم لعبادي . أي : لا أؤمنهم من عذابي في الآخرة .
ذكر من قال ذلك :
1957 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " قال لا ينال عهدي الظالمين ، ذلكم عند الله يوم القيامة ، لا ينال عهده ظالم ، فأما في الدنيا ، فقد نالوا عهد الله ، فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم به . فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه . [ ص: 23 ]
1958 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " لا ينال عهدي الظالمين " قال : لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون ، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم ، وأكل به وعاش .
1959 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم : "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال : لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون . فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به ، وأكل وأبصر وعاش .
وقال آخرون : بل "العهد" الذي ذكره الله في هذا الموضع : دين الله .
ذكر من قال ذلك :
1960 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : قال الله لإبراهيم : "لا ينال عهدي الظالمين" فقال : فعهد الله الذي عهد إلى عباده ، دينه . يقول : لا ينال دينه الظالمين . ألا ترى أنه قال : ( وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ) [ سورة الصافات : 113 ] ، يقول : ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق .
1961 - حدثني يحيى بن جعفر قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لا ينال عهدي الظالمين قال : لا ينال عهدي عدو لي يعصيني ، ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني .
قال أبو جعفر : وهذا الكلام ، وإن كان ظاهره ظاهر خبر عن أنه لا ينال من ولد إبراهيم صلوات الله عليه ، عهد الله - الذي هو النبوة والإمامة لأهل الخير ، [ ص: 24 ] بمعنى الاقتداء به في الدنيا ، والعهد الذي بالوفاء به ينجو في الآخرة ، من وفى لله به في الدنيا - من كان منهم ظالما متعديا جائرا عن قصد سبيل الحق . فهو إعلام من الله تعالى ذكره لإبراهيم : أن من ولده من يشرك به ، ويجور عن قصد السبيل ، ويظلم نفسه وعباده ، كالذي : -
1962 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن مجاهد في قوله : " لا ينال عهدي الظالمين " قال : إنه سيكون في ذريتك ظالمون
وأما نصب "الظالمين" ، فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالمين .
وذكر أنه في قراءة ابن مسعود : "لا ينال عهدي الظالمون" ، بمعنى : أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله .
وإنما جاز الرفع في "الظالمين" والنصب ، وكذلك في "العهد" ، لأن كل ما نال المرء فقد ناله المرء ، كما يقال : "نالني خير فلان ، ونلت خيره" ، فيوجه الفعل مرة إلى الخير ومرة إلى نفسه .
وقد بينا معنى "الظلم" فيما مضى ، فكرهنا إعادته
القول في تأويل قوله تعالى ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس )
قال أبو جعفر : أما قوله : "وإذ جعلنا البيت مثابة" ، فإنه عطف ب"إذ" على قوله : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" . وقوله : "وإذ ابتلى إبراهيم" معطوف على قوله : " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي " ، واذكروا" إذ ابتلى إبراهيم ربه " ، " وإذ جعلنا البيت مثابة " .
و"البيت" الذي جعله الله مثابة للناس ، هو البيت الحرام .
وأما" المثابة " ، فإن أهل العربية مختلفون في معناها ، والسبب الذي من أجله أنثت .
فقال بعض نحويي البصرة : ألحقت الهاء في "المثابة" ، لما كثر من يثوب إليه ، كما يقال : "سيارة" لمن يكثر ذلك ، "ونسابة" .
وقال بعض نحويي الكوفة : بل "المثاب" و"المثابة" بمعنى واحد ، نظيره "المقام" و"المقامة" . و"المقام" ، ذكر - على قوله - لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه ، وأنثت "المقامة" ، لأنه أريد بها البقعة . وأنكر هؤلاء أن تكون"المثابة" ك"السيارة ، والنسابة" . وقالوا : إنما أدخلت الهاء في "السيارة والنسابة" تشبيها لها ب"الداعية" .
و"المثابة" "مفعلة" من "ثاب القوم إلى الموضع" ، إذا رجعوا إليه ، فهم يثوبون إليه مثابا ومثابة وثوابا . [ ص: 26 ]
فمعنى قوله : "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" : وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا ، يأتونه كل عام ويرجعون إليه ، فلا يقضون منه وطرا . ومن "المثاب" ، قول ورقة بن نوفل في صفة الحرم :
مثاب لأفناء القبائل كلها تخب إليه اليعملات الطلائح
ومنه قيل : "ثاب إليه عقله" ، إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
1963 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا [ أبو عاصم قال : حدثنا ] عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "وإذ جعلنا البيت مثابة [ ص: 27 ] للناس" قال : لا يقضون منه وطرا .
1964 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
1965 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال : يثوبون إليه ، لا يقضون منه وطرا .
1966 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال : أما المثابة ، فهو الذي يثوبون إليه كل سنة ، لا يدعه الإنسان إذا أتاه مرة أن يعود إليه .
1967 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي ، قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال : لا يقضون منه وطرا ، يأتونه ، ثم يرجعون إلى أهليهم ، ثم يعودون إليه .
1968 - حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال : حدثني الوليد بن مسلم قال : قال أبو عمرو : حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله : " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال : لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا .
1969 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء في قوله : " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال : يثوبون إليه من كل مكان ، ولا يقضون منه وطرا .
1970 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء مثله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(177)
الحلقة (191)
صــ 28إلى صــ 35
1971 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال : حدثنا سهل بن عامر قال : [ ص: 28 ] حدثنا مالك بن مغول ، عن عطية في قوله : " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال : لا يقضون منه وطرا .
1972 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن : قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهذيل قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال : يحجون ويثوبون .
1973 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال أخبرنا الثوري ، عن أبي الهذيل ، عن سعيد بن جبير في قوله : "مثابة للناس" قال : يحجون ، ثم يحجون ، ولا يقضون منه وطرا .
1974 - حدثني المثنى قال : حدثنا ابن بكير قال : حدثنا مسعر ، عن غالب ، عن سعيد بن جبير : "مثابة للناس" قال : يثوبون إليه .
1975 - - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا " قال : مجمعا .
1976 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "مثابة للناس" قال : يثوبون إليه . [ ص: 29 ]
1977 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "مثابة للناس" قال : يثوبون إليه .
1978 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال : يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه .
القول في تأويل قوله تعالى ( وأمنا )
قال أبو جعفر : و"الأمن" مصدر من قول القائل : "أمن يأمن أمنا" .
وإنما سماه الله "أمنا" ، لأنه كان في الجاهلية معاذا لمن استعاذ به ، وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه ، لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه ، وكان كما قال الله جل ثناؤه : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) . [ سورة العنكبوت : 67 ]
1979 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "وأمنا" قال : من أم إليه فهو آمن ، كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له .
1980 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما "أمنا" ، فمن دخله كان آمنا .
1981 - حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "وأمنا" قال : تحريمه ، لا يخاف فيه من دخله .
1982 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "وأمنا" ، يقول : أمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح ، وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون . [ ص: 30 ]
1983 - حدثت عن المنجاب قال : أخبرنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : "وأمنا" قال : أمنا للناس .
1984 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : "وأمنا" قال : تحريمه ، لا يخاف فيه من دخله .
القول في تأويل قوله تعالى ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأه بعضهم : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" بكسر"الخاء" ، على وجه الأمر باتخاذه مصلى . وهي قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة ، وقراءة عامة قرأة أهل مكة وبعض قرأة أهل المدينة . وذهب إليه الذين قرأوه كذلك ، من الخبر الذي : -
1985 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال : أخبرنا حميد ، عن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت المقام مصلى! فأنزل الله : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" .
1986 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي - وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية - جميعا ، عن حميد ، عن أنس ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله . [ ص: 31 ]
1987 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا حميد ، عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله ، فذكر مثله .
قالوا : فإنما أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيه صلى الله عليه وسلم باتخاذ مقام إبراهيم مصلى . فغير جائز قراءتها - وهي أمر - على وجه الخبر .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " معطوف على قوله : "يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي" و" واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " . فكان الأمر بهذه الآية ، وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم - على قول هذا القائل - لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، . . . . . كما حدثنا [ عن ] الربيع بن أنس . بما : -
1988 - حدثت [ به ] عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قال : من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قوله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " ، فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، فهم يصلون خلف المقام . [ ص: 32 ]
فتأويل قائل هذا القول : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال : إني جاعلك للناس إماما ، وقال : اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى .
قال أبو جعفر : والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ، يدل على خلاف الذي قاله هؤلاء ، وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين .
وقرأه بعض قرأة أهل المدينة والشام : ( واتخذوا ) بفتح "الخاء" على وجه الخبر .
ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله : "واتخذوا" إذ قرئ كذلك ، على وجه الخبر ،
فقال بعض نحويي البصرة : تأويله ، إذا قرئ كذلك : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ، [ وإذ ] اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى .
وقال بعض نحويي الكوفة : بل ذلك معطوف على قوله : "جعلنا" ، فكان معنى الكلام على قوله : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ، واتخذوه مصلى .
قال أبو جعفر : والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا : "واتخذوا" [ ص: 33 ] بكسر"الخاء" ، على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى ، للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا ، وأن :
1989 - عمرو بن علي حدثنا قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثني أبي ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" ، وفي "مقام إبراهيم" . فقال بعضهم : " مقام إبراهيم " ، هو الحج كله .
ذكر من قال ذلك :
1990 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : "مقام إبراهيم" ، قال : الحج كله مقام إبراهيم .
1991 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال : الحج كله .
1992 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : الحج كله" مقام إبراهيم " .
وقال آخرون : " مقام إبراهيم " عرفة والمزدلفة والجمار .
ذكر من قال ذلك :
1993 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء بن أبي رباح : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال : لأني قد جعلته إماما ، فمقامه عرفة والمزدلفة والجمار . [ ص: 34 ]
1994 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال : مقامه : جمع وعرفة ومنى - لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة .
1995 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال : مقامه عرفة .
1996 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا داود ، عن الشعبي قال : نزلت عليه وهو واقف بعرفة ، مقام إبراهيم : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) [ سورة المائدة : 3 ] ، الآية .
1997 - حدثنا عمرو قال : حدثنا بشر بن المفضل قال : حدثنا داود ، عن الشعبي مثله
وقال آخرون : " مقام إبراهيم " ، الحرم .
ذكر من قال ذلك :
1998 - حدثت عن حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال : الحرم كله "مقام إبراهيم" .
وقال آخرون : "مقام إبراهيم" الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه ، وضعف عن [ ص: 35 ] رفع الحجارة .
ذكر من قال ذلك :
1999 - حدثنا سنان القزاز قال : حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي قال : حدثنا إبراهيم بن نافع قال : سمعت كثير بن كثير يحدث ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جعل إبراهيم يبنيه ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " . فلما ارتفع البنيان ، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة ، قام على حجر ، فهو " مقام إبراهيم "
وقال آخرون : بل " مقام إبراهيم " ، هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام .
ذكر من قال ذلك :
2000 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " ، إنما أمروا أن يصلوا عنده ، ولم يؤمروا بمسحه . ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها . ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه ، فما زالت هذه الأمم يمسحونه حتى اخلولق وانمحى .
2001 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " ، فهم يصلون خلف المقام .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(178)
الحلقة (192)
صــ 36إلى صــ 42
2002 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " ، وهو الصلاة عند مقامه في الحج .
و"المقام" هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه ، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب ، فغسلت شقه ، ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر ، فوضعته تحت الشق الآخر ، فغسلته ، فغابت رجله [ ص: 36 ] أيضا فيه ، فجعلها الله من شعائره ، فقال : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا ، ما قاله القائلون : إن" مقام إبراهيم " ، هو المقام المعروف بهذا الاسم ، الذي هو في المسجد الحرام ، لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب ، ولما : -
2003 - حدثنا يوسف بن سلمان قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر قال : استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن ، فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" . فجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين .
فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى ب" مقام إبراهيم " الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى - هو الذي وصفنا .
ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه [ ص: 37 ] وسلم ، لكان الواجب فيه من القول ما قلنا . وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف ، دون باطنه المجهول ، حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك ، مما يجب التسليم له . ولا شك أن المعروف في الناس ب" مقام إبراهيم " هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"
[ قال أبو جعفر : وأما قوله تعالى : "مصلى" ] ، فإن أهل التأويل مختلفون في معناه . فقال بعضهم : هو المدعى .
ذكر من قال ذلك :
2004 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال : مصلى إبراهيم مدعى .
وقال آخرون : معنى ذلك : اتخذوا مصلى تصلون عنده .
ذكر من قال ذلك :
2005 - حدثني بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : أمروا أن يصلوا عنده .
2006 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : هو الصلاة عنده .
قال أبو جعفر : فكأن الذين قالوا : تأويل : "المصلى" ههنا ، المدعى ، وجهوا "المصلى" إلى أنه "مفعل" ، من قول القائل : "صليت" بمعنى دعوت .
[ ص: 38 ] وقائلو هذه المقالة ، هم الذين قالوا : إن مقام إبراهيم هو الحج كله .
فكان معناه في تأويل هذه الآية : واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار ، وسائر أماكن الحج التي كان إبراهيم يقوم بها مداعي تدعوني عندها ، وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها ، فإني قد جعلته لمن بعده - من أوليائي وأهل طاعتي - إماما يقتدون به وبآثاره ، فاقتدوا به .
وأما تأويل القائلين القول الآخر ، فإنه : اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده ، عبادة منكم ، وتكرمة مني لإبراهيم .
وهذا القول هو أولى بالصواب ، لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وعهدنا" ؛ وأمرنا ، كما : -
2007 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : ما عهده ؟ قال : أمره .
2008 - حدثني يونس قال : أخبرني ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "وعهدنا إلى إبراهيم" قال : أمرناه .
فمعنى الآية : وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين . "والتطهير" الذي أمرهما الله به في البيت ، هو تطهيره من الأصنام ، وعبادة الأوثان فيه ، ومن الشرك بالله . [ ص: 39 ]
فإن قال قائل : وما معنى قوله : "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين" ؟ وهل كان أيام إبراهيم - قبل بنائه البيت - بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم ، فيجوز أن يكونا أمرا بتطهيره ؟
قيل : لذلك وجهان من التأويل ، قد قال بكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل .
أحدهما : أن يكون معناه : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مطهرا من الشرك والريب كما قال تعالى ذكره : ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار ) ، [ سورة التوبة : 109 ] ، فكذلك قوله : " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي " ، أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب ، كما : -
2009 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي " ، يقول : ابنيا بيتي [ للطائفين ] .
فهذا أحد وجهيه .
والوجه الآخر منهما : أن يكونا أمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه ، والبيت بعد بنيانه ، مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه - على عهد نوح ومن قبله - من الأوثان ، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما ، إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به من بعده ، كما : -
2010 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : [ ص: 40 ] "أن طهرا" قال : من الأصنام التي يعبدون ، التي كان المشركون يعظمونها .
2011 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير : " أن طهرا بيتي للطائفين " قال : من الأوثان والريب .
2012 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، مثله .
2013 - حدثني أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : من الشرك .
2014 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا أبو إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن مجاهد : "طهرا بيتي للطائفين" قال : من الأوثان .
2015 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "طهرا بيتي للطائفين" قال : من الشرك وعبادة الأوثان .
2016 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، بمثله - وزاد فيه : وقول الزور .
القول في تأويل قوله تعالى ( للطائفين )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى "الطائفين" في هذا الموضع . فقال بعضهم : هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غربة .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 41 ]
2017 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو بكر بن عياش قال : حدثنا أبو حصين ، عن سعيد بن جبير في قوله : "للطائفين" قال : من أتاه من غربة .
وقال آخرون : بل "الطائفون" هم الذين يطوفون به ، غرباء كانوا أو من أهله .
ذكر من قال ذلك :
2018 - حدثنا محمد بن العلاء قال : حدثنا وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عطاء : "للطائفين" قال : إذا كان طائفا بالبيت فهو من"الطائفين" .
وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء . لأن "الطائف" هو الذي يطوف بالشيء دون غيره . والطارئ من غربة لا يستحق اسم "طائف بالبيت" ، إن لم يطف به .
القول في تأويل قوله تعالى ( والعاكفين )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "والعاكفين" ، والمقيمين به . "والعاكف على الشيء" ، هو المقيم عليه ، كما قال نابغة بني ذبيان :
عكوفا لدى أبياتهم يثمدونهم رمى الله في تلك الأكف الكوانع
[ ص: 42 ]
وإنما قيل للمعتكف"معتكف" ، من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى .
ثم اختلف أهل التأويل في من عنى الله بقوله : "والعاكفين" .
فقال بعضهم : عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة .
ذكر من قال ذلك :
2019 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عطاء قال : إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين ، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين .
وقال بعضهم : "العاكفون" ، هم المعتكفون المجاورون .
ذكر من قال ذلك :
2020 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة : "طهرا بيتي للطائفين والعاكفين" قال : المجاورون .
وقال بعضهم : "العاكفون" ، هم أهل البلد الحرام .
ذكر من قال ذلك :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
2021 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو بكر بن عياش قال : حدثنا [ ص: 43 ] أبو حصين ، عن سعيد بن جبير في قوله : "والعاكفين" قال : أهل البلد .
2022 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "والعاكفين" قال : العاكفون : أهله .
وقال آخرون : "العاكفون" ، هم المصلون .
ذكر من قال ذلك :
2023 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في قوله : "طهرا بيتي للطائفين والعاكفين" قال : العاكفون : المصلون .
قال أبو جعفر : وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء ، وهو أن "العاكف" في هذا الموضع ، المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة . لأن صفة "العكوف" ما وصفنا : من الإقامة بالمكان . والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصل وطائف وقائم ، وعلى غير ذلك من الأحوال . فلما كان تعالى ذكره قد ذكر - في قوله : " أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود - المصلين والطائفين ، علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من "العاكف" ، غير حال المصلي والطائف ، وأن التي عنى من أحواله ، هو العكوف بالبيت ، على سبيل الجوار فيه ، وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا .
القول في تأويل قوله تعالى ( والركع السجود ( 125 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "والركع" ، جماعة القوم الراكعين فيه له ، واحدهم "راكع" . وكذلك "السجود" هم جماعة القوم الساجدين فيه له ، [ ص: 44 ] واحدهم "ساجد" - كما يقال : "رجل قاعد ورجال قعود" و"رجل جالس ورجال جلوس" ، فكذلك "رجل ساجد ورجال سجود" .
وقيل : بل عنى "بالركع السجود" ، المصلين .
ذكر من قال ذلك :
2024 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن عطاء : "والركع السجود" قال : إذا كان يصلي فهو من "الركع السجود" .
2025 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "والركع السجود" ، أهل الصلاة .
وقد بينا فيما مضى بيان معنى "الركوع" و"السجود" ، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا .
القول في تأويل قوله تعالى ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا" ، واذكروا إذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا .
قال أبو جعفر : يعني بقوله : "آمنا" : آمنا من الجبابرة وغيرهم ، أن يسلطوا [ ص: 45 ] عليه ، ومن عقوبة الله أن تناله ، كما تنال سائر البلدان ، من خسف ، وائتفاك ، وغرق ، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره ، كما :
2026 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن الحرم حرم بحياله إلى العرش . وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط . قال الله له : أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي . فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين ، حتى إذا كان زمان الطوفان - حين أغرق الله قوم نوح - رفعه وطهره ، ولم تصبه عقوبة أهل الأرض . فتتبع منه إبراهيم أثرا ، فبناه على أساس قديم كان قبله .
فإن قال لنا قائل : أوما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الأمان ؟
قيل له : لقد اختلف في ذلك . فقال بعضهم : لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه ، منذ خلقت السماوات والأرض . واعتلوا في ذلك بما : -
2027 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، قال سمعت أبا شريح الخزاعي يقول : لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلا من هذيل ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال : "يا أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأض ، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، أو يعضد بها شجرا . ألا وإنها لا تحل لأحد بعدي ، [ ص: 46 ] ولم تحل لي إلا هذه الساعة ، غضبا على أهلها . ألا فهي قد رجعت على حالها بالأمس . ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فمن قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها! فقولوا : إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لك " .
2028 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان - وحدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير - جميعا ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لمكة حين افتتحها : "هذه حرم حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، وخلق الشمس والقمر ، ووضع هذين الأخشبين ، لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، أحلت لي ساعة من نهار . [ ص: 47 ]
قالوا : فمكة منذ خلقت حرم آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة . قالوا : وقد أخبرت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها . قالوا : ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة ، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجدوب والقحوط ، وأن يرزق ساكنه من الثمرات ، كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله : " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قالوا : وإنما سأل ربه ذلك لأنه أسكن فيه ذريته ، وهو غير ذي زرع ولا ضرع ، فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا ، فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه .
قالوا : وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم ، وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه ، وهو القائل - حين حله ، ونزله بأهله وولده : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) [ سورة إبراهيم : 37 ] ؟ قالوا : فلو كان إبراهيم هو الذي حرم الحرم أو سأل ربه [ ص: 48 ] تحريمه لما قال : "عند بيتك المحرم" عند نزوله به ، ولكنه حرم قبله ، وحرم بعده .
وقال آخرون : كان الحرم حلالا قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره ، وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه ، كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالا قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها . قالوا : والدليل على ما قلنا من ذلك ، ما : -
2029 - حدثنا به ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه ، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها ، لا يصاد صيدها ، ولا تقطع عضاهها .
2030 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا [ حدثنا ابن إدريس - وأخبرنا أبو كريب قال ] ، حدثنا عبد الرحيم الرازي ، [ قالا جميعا ] : سمعنا أشعث ، عن نافع ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن إبراهيم كان عبد الله وخليله ، وإني عبد الله ورسوله ، وإن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها ، عضاهها وصيدها ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يقطع منها شجر إلا لعلف بعير . [ ص: 49 ]
2031 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا بكر بن مضر ، عن ابن الهاد ، عن أبي بكر بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن رافع بن خديج ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن إبراهيم حرم مكة ، وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(180)
الحلقة (194)
صــ 50إلى صــ 56
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب .
قالوا : "وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال : "رب اجعل هذا بلدا آمنا" ، ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض ، فليس لأحد أن يدعي أن الذي سأله من ذلك ، الأمان له من بعض الأشياء دون بعض ، إلا بحجة يجب التسليم لها . قالوا : وأما خبر أبي شريح وابن عباس ، فخبران لا تثبت بهما حجة ، لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أنه حرمها يوم خلق السماوات والأرض" ، بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله ، ولكن بمنعه من أرادها بسوء ، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات ، وعن ساكنيها ، ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من النقمات . فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله ، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل . فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه ، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه ، يستنون به فيها ، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلا وأخبره أنه جاعله ، للناس إماما يقتدى به ، فأجابه ربه إلى ما سأله ، وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه ،
فصارت مكة - بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها ، بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده ، ومحرمة بدفع الله عنها ، بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله - فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام ، وواجب على عباده الامتناع من استحلالها ، واستحلال صيدها وعضاهها لها بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم . [ ص: 51 ]
فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله حرم مكة " . لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به - دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكلاءة والحفظ لها قبل ذلك - كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه ، [ وهو الذي ] لزم العباد فرضه دون غيره .
فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين - أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "وإن الله حرم مكة يوم خلق الشمس والقمر" - وخبر جابر وأبى هريرة ورافع بن خديج وغيرهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اللهم إن إبراهيم حرم مكة " ؛ وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الآخر ، كما ظنه بعض الجهال .
وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا ، إذا ثبت صحتها . وقد جاء الخبران اللذان رويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه .
وأما قول إبراهيم عليه السلام ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) [ سورة إبراهيم : 37 ] فإنه ، إن يكن قاله قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه ، فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلاءته ، من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد لهم بذلك - وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على خلقه على وجه التعبد فلا مسألة لأحد علينا في ذلك .
[ ص: 52 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر )
قال أبو جعفر : وهذه مسألة من إبراهيم ربه : أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات ، دون كافريهم . وخص بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين ، لما أعلمه الله - عند مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة يقتدى بهم - أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده ، والظالم الذي لا يدرك ولايته . فلما أن علم أن من ذريته الظالم والكافر ، خص بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة ، المؤمن منهم دون الكافر . وقال الله له : إني قد أجبت دعاءك ، وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم ، فأمتعه به قليلا .
وأما "من" من قوله : "من آمن منهم بالله واليوم الآخر" ، فإنه نصب على الترجمة والبيان عن "الأهل" ، كما قال تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) [ سورة البقرة : 217 ] ، بمعنى : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام ، وكما قال تعالى ذكره : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) [ سورة آل عمران : 97 ] : بمعنى : ولله حج البيت على من ستطاع إليه سبيلا .
وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك ، لأنه حل بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل ، فسأل أن يرزق أهله ثمرا ، وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم . فذكر أن إبراهيم لما سأل ذلك ربه ، نقل الله الطائف من فلسطين .
2032 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج قال : حدثنا هشام قال : قرأت على محمد بن مسلم أن إبراهيم لما دعا للحرم : "وارزق أهله من الثمرات" ، نقل الله الطائف من فلسطين .
[ ص: 53 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قال ومن كفر فأمتعه قليلا )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول ، وفي وجه قراءته . فقال بعضهم : قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره ، وتأويله على قولهم : قال : ومن كفر فأمتعه قليلا برزقي من الثمرات في الدنيا ، إلى أن يأتيه أجله . وقرأ قائل هذه المقالة ذلك : "فأمتعه قليلا" ، بتشديد "التاء" ورفع "العين" .
ذكر من قال ذلك :
2033 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع ، قال : حدثني أبو العالية ، عن أبي بن كعب في قوله : "ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار" ، قال هو قول الرب تعالى ذكره .
2034 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال ابن إسحاق : لما قال إبراهيم : "رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر" ، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية ، انقطاعا إلى الله ، ومحبة وفراقا لمن خالف أمره ، وإن كانوا من ذريته ، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا ينال عهده ، بخبره عن ذلك حين أخبره فقال الله : ومن كفر - فإني أرزق البر والفاجر - فأمتعه قليلا .
وقال آخرون : بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمن ، على وجه المسألة منه ربه أن [ ص: 54 ] يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام ، مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلا "ثم اضطره إلى عذاب النار" - بتخفيف "التاء" وجزم "العين" ، وفتح "الراء" من اضطره ، وفصل "ثم اضطره" بغير قطع ألفها - على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة .
ذكر من قال ذلك :
2035 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع قال : قال أبو العالية : كان ابن عباس يقول : ذلك قول إبراهيم ، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا .
2036 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ليث ، عن مجاهد : "ومن كفر فأمتعه قليلا" ، يقول : ومن كفر فأرزقه أيضا ، ثم أضطره إلى عذاب النار .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل ، ما قاله أبي بن كعب وقراءته ، لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك ، وشذوذ ما خالفه من القراءة . وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهو ، على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : قال الله : يا إبراهيم ، قد أجبت دعوتك ، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم ، متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم ، ثم أضطر كفارهم بعد ذلك إلى النار .
وأما قوله : "فأمتعه قليلا" يعني : فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته [ ص: 55 ] متاعا يتمتع به إلى وقت مماته .
وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لإبراهيم ، جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة . فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره . وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه .
وقال بعضهم : تأويله : فأمتعه بالبقاء في الدنيا .
وقال غيره : فأمتعه قليلا في كفره ما أقام بمكة ، حتى أبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيقتله ، إن أقام على كفره ، أو يجليه عنها . وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام ، فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه ، لما وصفنا .
القول في تأويل قوله تعالى ( ثم أضطره إلى عذاب النار )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "ثم أضطره إلى عذاب النار" ، ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها ، كما قال تعالى ذكره : ( يوم يدعون إلى نار [ ص: 56 ] جهنم دعا ) [ سورة الطور : 13 ] .
ومعنى"الاضطرار" ، الإكراه . يقال : "اضطررت فلانا إلى هذا الأمر" ، إذا ألجأته إليه وحملته عليه .
فذلك معنى قوله : "ثم أضطره إلى عذاب النار" ، أدفعه إليها وأسوقه ، سحبا وجرا على وجهه .
القول في تأويل قوله تعالى ( وبئس المصير ( 126 ) )
قال أبو جعفر : قد دللنا على أن"بئس" أصله "بئس" من "البؤس" سكن ثانيه ، ونقلت حركة ثانيه إلى أوله ، كما قيل للكبد كبد ، وما أشبه ذلك .
ومعنى الكلام : وساء المصير عذاب النار ، بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(181)
الحلقة (195)
صــ 57إلى صــ 63
وأما"المصير" ، فإنه "مفعل" من قول القائل : "صرت مصيرا صالحا" ، وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار . [ ص: 57 ]
القول في تأويل قوله تعالى ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" ، واذكروا إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت .
و"القواعد" جمع "قاعدة" ، يقال للواحدة من "قواعد البيت" "قاعدة" ، وللواحدة من "قواعد النساء" وعجائزهن "قاعد" ، فتلغى هاء التأنيث ، لأنها "فاعل" من قول القائل : "قعدت عن الحيض" ، ولا حظ فيه للذكورة ، كما يقال : "امرأة طاهر وطامث" ، لأنه لا حظ في ذلك للذكور . ولو عنى به "القعود" الذي هو خلاف "القيام" ، لقيل : "قاعدة" ، ولم يجز حينئذ إسقاط هاء التأنيث . و"قواعد البيت" : إساسه .
ثم اختلف أهل التأويل في " القواعد" التي رفعها إبراهيم وإسماعيل من البيت . أهما أحدثا ذلك ، أم هي قواعد كانت له قبلهما ؟
فقال قوم : هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك ، ثم درس مكانه وتعفى أثره بعده ، حتى بوأه الله إبراهيم عليه السلام ، فبناه .
ذكر من قال ذلك :
2037 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : قال آدم : يا رب ، إني لا أسمع أصوات الملائكة! قال : بخطيئتك ، ولكن اهبط إلى الأرض ، وابن لي بيتا ، ثم احفف به كما رأيت [ ص: 58 ] الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء . فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل : من" حراء " و" طورزيتا " ، و" طورسينا " ، و" جبل لبنان " ، و" الجودي " ، وكان ربضه من حراء . فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم بعد .
2038 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال : القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك .
وقال آخرون : بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لآدم من السماء إلى الأرض ، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء ، ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان ، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت .
ذكر من قال ذلك :
2039 - حدثني محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن عمرو قال : لما أهبط الله آدم من الجنة قال : إني مهبط معك - أو منزل - معك بيتا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي ، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي . فلما كان زمن الطوفان رفع ، فكانت الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه ، حتى بوأه الله إبراهيم ، وأعلمه مكانه ، فبناه من خمسة أجبل : من" حراء " و" ثبير " و" لبنان " و" جبل الطور " و" جبل الخمر " . [ ص: 59 ]
2040 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا إسماعيل ابن علية قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : لما أهبط آدم ، ثم ذكر نحوه .
2041 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا هشام بن حسان ، عن سوار [ ختن عطاء ] ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : لما أهبط الله آدم من الجنة ، كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء ، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم ، يأنس إليهم ، فهابته الملائكة ، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها ، فخفضه إلى الأرض . فلما فقد ما كان يسمع منهم ، استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته ، فوجه إلى مكة ، فكان موضع قدمه قرية وخطوه مفازة ، حتى انتهى إلى مكة . وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة ، فكانت على موضع البيت الآن ، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان ، فرفعت تلك الياقوتة ، حتى بعث الله إبراهيم فبناه . فذلك قول الله : "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" .
2042 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : وضع الله البيت مع آدم ، حين أهبط الله آدم إلى الأرض ، وكان مهبطه بأرض الهند ، وكان رأسه في السماء ، ورجلاه في الأرض ، فكانت الملائكة تهابه ، فنقص إلى ستين ذراعا : فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم ، فشكا ذلك إلى الله تعالى ، فقال الله : يا آدم ، إني قد أهبطت إليك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي ، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي . [ ص: 60 ] فانطلق إليه آدم فخرج ، ومد له في خطوه ، فكان بين كل خطوتين مفازة ، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك . فأتى آدم البيت وطاف به ومن بعده من الأنبياء .
2043 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أبان : أن البيت أهبط ياقوتة واحدة - أو درة واحدة - حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه ، وبقي أساسه ، فبوأه الله لإبراهيم ، فبناه بعد ذلك .
وقال آخرون : بل كان موضع البيت ربوة حمراء كهيئة القبة . وذلك أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماء زبدة حمراء أو بيضاء ، وذلك في موضع البيت الحرام . ثم دحا الأرض من تحتها ، فلم يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم ، فبناه على أساسه . وقالوا : أساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة .
ذكر من قال ذلك :
2044 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال جرير بن حازم ، حدثني حميد بن قيس ، عن مجاهد قال : كان موضع البيت على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض ، مثل الزبدة البيضاء ، ومن تحته دحيت الأرض .
2045 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريج قال : قال عطاء وعمرو بن دينار : بعث الله رياحا فصفقت الماء ، فأبرزت في موضع البيت عن حشفة كأنها القبة ، فهذا البيت منها . فلذلك هي "أم القرى" . قال ابن جريج ، قال عطاء : ثم وتدها بالجبال كي لا تكفأ بميد ، فكان أول جبل "أبو قبيس" . [ ص: 61 ]
2046 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : وضع البيت على أركان الماء ، على أربعة أركان ، قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت .
2047 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب ، عن هارون بن عنترة ، عن عطاء بن أبي رباح قال : وجدوا بمكة حجرا مكتوبا عليه : "إني أنا الله ذو بكة ، بنيته يوم صنعت الشمس والقمر ، وحففته بسبعة أملاك حنفاء" .
2048 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد وغيره من أهل العلم : أن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام ، وخرج معه بإسماعيل وأمه هاجر ، وإسماعيل طفل صغير يرضع . وحملوا - فيما حدثني - على البراق ومعه جبريل يدله على [ ص: 62 ] موضع البيت ومعالم الحرم . فخرج وخرج معه جبريل ، فقال : كان لا يمر بقرية إلا قال : أبهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل : امضه! حتى قدم به مكة ، وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر ، وبها أناس يقال لهم "العماليق" خارج مكة وما حولها ، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة ، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما ؟ قال : نعم . فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه ، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا ، فقال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) إلى قوله : ( لعلهم يشكرون ) . [ سورة إبراهيم : 37 ]
قال ابن حميد : قال : سلمة قال : ابن إسحاق : ويزعمون - والله أعلم - أن ملكا من الملائكة أتى هاجر أم إسماعيل - حين أنزلهما إبراهيم مكة ، قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت - فأشار لها إلى البيت ، وهو ربوة حمراء مدرة ، فقال لها : هذا أول بيت وضع في الأرض ، وهو بيت الله العتيق ، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل هما يرفعانه للناس .
2049 - حدثني الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا هشام بن حسان قال : أخبرني حميد ، عن مجاهد قال : خلق الله موضع هذا [ ص: 63 ] البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة ، وأركانه في الأرض السابعة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(182)
الحلقة (196)
صــ 64إلى صــ 70
2050 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن عيينة قال : أخبرني بشر بن عاصم ، عن ابن المسيب قال : حدثنا كعب : إن البيت كان غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين سنة ، ومنه دحيت الأرض . قال [ سعيد ] : وحدثنا عن علي بن أبي طالب : أن إبراهيم أقبل من أرمينية معه السكينة ، تدله على تبوئ البيت ، كما تتبوأ العنكبوت بيتها . قال : فرفعت عن أحجار تطيقه - أو لا تطيقه - ثلاثون رجلا قال : قلت : يا أبا محمد فإن الله يقول : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت " قال : كان ذاك بعد . [ ص: 64 ]
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنه وابنه إسماعيل ، رفعا القواعد من البيت الحرام . وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم ، فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة . وجائز أن يكون ذلك كان القبة التي ذكرها عطاء ، مما أنشأه الله من زبد الماء . وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درة أهبطا من السماء . وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم ، حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل . ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي ، لأن حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالنقل المستفيض . ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها ، ولا هو - إذ لم يكن به خبر ، على ما وصفنا - مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس ، فيمثل بغيره ، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد ، فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب مما قلنا . والله تعالى أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى ( ربنا تقبل منا )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان : ربنا تقبل منا . وذكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود . وهو قول جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2051 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : يبنيان وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم ربه ، قال : "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا [ ص: 65 ] أمة مسلمة لك ، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" .
2052 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني ابن كثير قال : حدثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " قال : هما يرفعان القواعد من البيت ويقولان : "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" قال : وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته ، والشيخ يبني .
فتأويل الآية على هذا القول : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل قائلين : ربنا تقبل منا .
وقال آخرون : بل قائل ذلك كان إسماعيل . فتأويل الآية على هذا القول : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ، وإذ يقول ربنا تقبل منا . فيصير حينئذ" إسماعيل " مرفوعا بالجملة التي بعده . و"يقول " حينئذ ، خبر له دون إبراهيم .
ثم اختلف أهل التأويل في الذي رفع القواعد ، بعد إجماعهم على أن إبراهيم كان ممن رفعها .
فقال بعضهم : رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا .
ذكر من قال ذلك :
2053 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين" . [ ص: 66 ] قال : فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة ، فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول ، لا يدريان أين البيت . فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخجوج ، لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول ، واتبعاها بالمعاول يحفران ، حتى وضعا الأساس . فذلك حين يقول : ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) . [ سورة الحج : 26 ] . فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن ، قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني ، اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا . قال : يا أبت ، إني كسلان تعب . قال : علي بذلك . فانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر فلم يرضه ، فقال : ائتني بحجر أحسن من هذا . فانطلق يطلب له حجرا ، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند ، وكان أبيض ، ياقوتة بيضاء مثل الثغامة . وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس . فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن ، فقال : يا أبت من جاءك بهذا ؟ فقال : من هو أنشط منك! فبنياه .
2054 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عمر بن عبد الله بن عروة ، عن عبيد بن عمير الليثي قال : بلغني أن إبراهيم وإسماعيل هما رفعا قواعد البيت . [ ص: 67 ]
وقال آخرون : بل رفع قواعد البيت إبراهيم ، وكان إسماعيل يناوله الحجارة .
ذكر من قال ذلك :
2055 - حدثنا أحمد بن ثابت الرازي قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة - يزيد أحدهما على الآخر - ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاء إبراهيم ، وإسماعيل يبري نبلا قريبا من زمزم ، فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ، والولد بالوالد ، ثم قال : يا إسماعيل ، إن الله أمرني بأمر . قال : فاصنع ما أمرك ربك . قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا ! وأشار إلى الكعبة ، والكعبة مرتفعة على ما حولها . قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت . قال : فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة ، وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، حتى دور حول البيت . [ ص: 68 ]
2056 - حدثنا ابن سنان القزاز قال : حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي قال : حدثنا إبراهيم بن نافع قال : سمعت كثير بن كثير يحدث ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاء - يعني إبراهيم - فوجد إسماعيل يصلح نبلا من وراء زمزم . قال إبراهيم : يا إسماعيل ، إن الله ربك قد أمرني أن أبني له بيتا . فقال له إسماعيل : فأطع ربك فيما أمرك . فقال له إبراهيم : قد أمرك أن تعينني عليه . قال : إذا أفعل . قال : فقام معه ، فجعل إبراهيم يبنيه ، وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان : " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم فلما ارتفع البنيان ، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة ، قام على حجر ، فهو مقام إبراهيم ، فجعل يناوله ويقولان : " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " .
وقال آخرون : بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده ، وإسماعيل يومئذ طفل صغير .
ذكر من قال ذلك :
2057 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب ، عن علي قال : لما أمر إبراهيم ببناء البيت ، خرج معه إسماعيل وهاجر . قال : فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة ، فيه مثل الرأس ، فكلمه فقال : يا إبراهيم ، ابن على [ ص: 69 ] ظلي - أو على قدري - ولا تزد ولا تنقص . فلما بنى [ خرج ] وخلف إسماعيل وهاجر ، فقالت هاجر : يا إبراهيم ، إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله . قالت : انطلق فإنه لا يضيعنا . قال : فعطش إسماعيل عطشا شديدا قال : فصعدت هاجر الصفا ، فنظرت فلم تر شيئا . ثم أتت المروة ، فنظرت فلم تر شيئا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت ، فلم تر شيئا . حتى فعلت ذلك سبع مرات . فقالت : يا إسماعيل ، مت حيث لا أراك . فأتته وهو يفحص برجله من العطش . فناداها جبريل فقال لها : من أنت ؟ فقالت : أنا هاجر ، أم ولد إبراهيم . قال : إلى من وكلكما ؟ قالت : وكلنا إلى الله . قال : وكلكما إلى كاف! قال : ففحص [ الغلام ] الأرض بإصبعه ، فنبعت زمزم ، فجعلت تحبس الماء . فقال : دعيه فإنها رواء .
2058 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة : أن رجلا قام إلى علي فقال : ألا تخبرني عن البيت ؟ [ ص: 70 ] أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ فقال : لا ولكن هو أول بيت وضع فيه البركة ، مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، وإن شئت أنبأتك كيف بني : إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض . قال : فضاق إبراهيم بذلك ذرعا ، فأرسل الله السكينة - وهى ريح خجوج ، ولها رأسان - فأتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة ، فتطوت على موضع البيت كتطوي الحجفة ، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة . فبنى إبراهيم وبقي حجر ، فذهب الغلام يبغي شيئا ، فقال إبراهيم : لا! ابغني حجرا كما آمرك . قال : فانطلق الغلام يلتمس له حجرا ، فأتاه فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه ، فقال : يا أبت ، من أتاك بهذا الحجر ؟ قال : أتاني به من لم يتكل على بنائك ، جاء به جبريل من السماء . فأتماه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(183)
الحلقة (197)
صــ 71إلى صــ 77
2059 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا سعيد ، عن سماك قال : سمعت خالد بن عرعرة يحدث عن علي بنحوه .
2060 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، عن علي ، بنحوه .
قال أبو جعفر : فمن قال : رفع القواعد إبراهيم وإسماعيل ، أو قال : رفعها إبراهيم وكان إسماعيل يناوله الحجارة ، فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل . ويكون الكلام حينئذ : "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " يقولان : "ربنا تقبل منا" . وقد كان يحتمل على هذا التأويل ، أن يكون المضمر من القول لإسماعيل خاصة دون إبراهيم ، ولإبراهيم خاصة دون إسماعيل ، لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل جميعا .
وأما على التأويل الذي روي عن علي : - أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيل - فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا لإسماعيل خاصة .
والصواب من القول عندنا في ذلك : أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل ، وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا . وذلك أن إبراهيم وإسماعيل ، إن كانا هما بنياها ورفعاها فهو ما قلنا . وإن كان إبراهيم تفرد ببنائها ، وكان [ ص: 72 ] إسماعيل يناوله ، فهما أيضا رفعاها ، لأن رفعها كان بهما : من أحدهما البناء ، ومن الآخر نقل الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها . ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته .
وإنما قلنا ما قلنا من ذلك ، لإجماع جميع أهل التأويل على أن إسماعيل معني بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه ، أنهما كانا يقولانه ، وذلك قولهما : "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" . فمعلوم أن إسماعيل لم يكن ليقول ذلك ، إلا وهو : إما رجل كامل ، وإما غلام قد فهم مواضع الضر من النفع ، ولزمته فرائض الله وأحكامه . وإذا كان - في حال بناء أبيه ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله - كذلك ، فمعلوم أنه لم يكن تاركا معونة أبيه ، إما على البناء ، وإما على نقل الحجارة . وأي ذلك كان منه ، فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت ، وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام .
فتأويل الكلام : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان : ربنا تقبل منا عملنا ، وطاعتنا إياك ، وعبادتنا لك ، في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به ، في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه ، إنك أنت السميع العليم .
وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم - دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه ، ولا منزلا ينزلانه ، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقربا منهما إلى الله بذلك . ولذلك قالا "ربنا تقبل منا" . ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهم ، لم يكن لقولهما : "تقبل منا" وجه مفهوم . لأنه كانا [ ص: 73 ] يكونان - لو كان الأمر كذلك - سائلين أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه . وليس موضعهما مسألة الله قبول ما لا قربة إليه فيه .
القول في تأويل قوله : ( إنك أنت السميع العليم ( 127 ) )
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : "إنك أنت السميع العليم" ، إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا ، من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه - العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة ، والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة ، وما نبدي ونخفي من أعمالنا ، كما : -
2061 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، أخبرني أبو كثير قال : حدثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " تقبل منا إنك أنت السميع العليم " ، يقول : تقبل منا إنك سميع الدعاء .
القول في تأويل قوله تعالى ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك )
قال أبو جعفر : وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل : أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان : "ربنا واجعلنا مسلمين لك " ، يعنيان بذلك : واجعلنا مستسلمين لأمرك ، خاضعين لطاعتك ، لا نشرك معك [ ص: 74 ] في الطاعة أحدا سواك ، ولا في العبادة غيرك .
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى "الإسلام" : الخضوع لله بالطاعة .
وأما قوله : "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " ، فإنهما خصا بذلك بعض الذرية ، لأن الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم قبل مسألته هذه ، أن من ذريته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره . فخصا بالدعوة بعض ذريتهما .
وقد قيل : إنهما عنيا بذلك العرب .
ذكر من قال ذلك :
2062 - حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " يعنيان العرب .
قال أبو جعفر : وهذا قول يدل ظاهر الكتاب على خلافه . لأن ظاهره يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته ، والمستجيبين لأمره . وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب ، والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة ، من الفريقين . فلا وجه لقول من قال : عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم ، إلا التحكم الذي لا يعجز عنه أحد .
وأما "الأمة" في هذا الموضع ، فإنه يعني بها الجماعة من الناس ، من قول الله : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ سورة الأعراف : 159 ] . [ ص: 75 ]
القول في تأويل قوله تعالى ( وأرنا مناسكنا )
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأه بعضهم : "وأرنا مناسكنا" بمعنى رؤية العين ، أي أظهرها لأعيننا حتى نراها . وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة . [ ص: 76 ]
وكان بعض من يوجه تأويل ذلك إلى هذا التأويل ، يسكن الراء من "أرنا" ، غير أنه يشمها كسرة .
واختلف قائل هذه المقالة وقرأة هذه القراءة في تأويل قوله : "مناسكنا"
فقال بعضهم : هي مناسك الحج ومعالمه .
ذكر من قال ذلك :
2063 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "وأرنا مناسكنا" فأراهما الله مناسكهما : الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، والإفاضة من عرفات ، والإفاضة من جمع ، ورمي الجمار ، حتى أكمل الله الدين - أو دينه .
2064 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "وأرنا مناسكنا" قال : أرنا نسكنا وحجنا .
2065 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت ، أمره الله أن ينادي فقال : ( وأذن في الناس بالحج ) [ سورة الحج : 27 ] ، فنادى بين أخشبي مكة : يا أيها الناس! إن الله يأمركم أن تحجوا بيته . قال : فوقرت في قلب كل مؤمن ، فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة : "لبيك لبيك" . فأجابوه بالتلبية : "لبيك اللهم لبيك" ، وأتاه من أتاه . فأمره الله أن يخرج إلى عرفات ، ونعتها [ له ] ، فخرج . فلما بلغ الشجرة عند العقبة ، استقبله الشيطان ، فرماه بسبع حصيات [ ص: 77 ] يكبر مع كل حصاة ، فطار فوقع على الجمرة الثانية أيضا ، فصده ، فرماه وكبر ، فطار فوقع على الجمرة الثالثة ، فرماه وكبر . فلما رأى أنه لا يطيقه ، ولم يدر إبراهيم أين يذهب ، انطلق حتى أتى "ذا المجاز" ، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز ، فلذلك سمي : "ذا المجاز" . ثم انطلق حتى وقع بعرفات ، فلما نظر إليها عرف النعت . قال : قد عرفت! فسميت : "عرفات" . فوقف إبراهيم بعرفات ، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع ، فسميت "المزدلفة" ، فوقف بجمع . ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أول مرة فرماه بسبع حصيات سبع مرات ، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج وأمره . وذلك قوله : "وأرنا مناسكنا" .
وقال آخرون - ممن قرأ هذه القراءة - "المناسك" : المذابح . فكان تأويل هذه الآية ، على قول من قال ذلك : وأرنا كيف ننسك لك يا ربنا نسائكنا ، فنذبحها لك .
ذكر من قال ذلك :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(184)
الحلقة (198)
صــ 78إلى صــ 84
2066 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : "وأرنا مناسكنا" قال : ذبحنا . [ ص: 78 ]
2067 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن جريج ، عن عطاء قال : مذابحنا .
2067 م - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
2067 م - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
2067 م - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عطاء : سمعت عبيد بن عمير يقول : "وأرنا مناسكنا" قال : أرنا مذابحنا .
وقال آخرون : "وأرنا مناسكنا" بتسكين "الراء" ، وزعموا أن معنى ذلك : وعلمنا ، ودلنا عليها - لا أن معناه : أرناها بالأبصار . وزعموا أن ذلك نظير قول حطائط بن يعفر ، أخي الأسود بن يعفر :
أريني جوادا مات هزلا لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
يعني بقوله : "أريني" ، دليني عليه وعرفيني مكانه ، ولم يعن به رؤية العين . [ ص: 79 ]
وهذه قراءة رويت عن بعض المتقدمين .
ذكر من قال ذلك :
2068 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عطاء : "أرنا مناسكنا" ، أخرجها لنا ، علمناها .
2069 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن جريج قال : قال ابن المسيب : قال علي بن أبي طالب : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت ، قال : "فعلت أي رب ، فأرنا مناسكنا" - أبرزها لنا ، علمناها - فبعث الله جبريل ، فحج به .
قال أبو جعفر : والقول واحد ، فمن كسر "الراء" جعل علامة الجزم سقوط "الياء" التي في قول القائل : "أرينه" "أرنه" ، وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم . ومن سكن "الراء" من "أرنا" ، توهم أن إعراب الحرف في "الراء" ، فسكنها في الجزم ، كما فعلوا ذلك في "لم يكن" و"لم يك" .
وسواء كان ذلك من رؤية العين أو من رؤية القلب . ولا معنى لفرق من فرق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب .
وأما"المناسك" فإنها جمع "منسك" ، وهو الموضع الذي ينسك لله فيه ، ويتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح : إما بذبح ذبيحة له ، وإما بصلاة أو طواف أو سعي ، وغير ذلك من الأعمال الصالحة . ولذلك قيل لمشاعر الحج [ ص: 80 ] "مناسكه" ، لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس ، ويترددون إليها .
وأصل "المنسك" في كلام العرب : الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه ، يقال : "لفلان منسك" ، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شر . ولذلك سميت "المناسك" "مناسك" ، لأنها تعتاد ، ويتردد إليها بالحج والعمرة ، وبالأعمال التي يتقرب بها إلى الله .
وقد قيل : إن معنى "النسك" : عبادة الله . وأن"الناسك" إنما سمي"ناسكا" بعبادة ربه .
فتأول قائلو هذه المقالة قوله : "وأرنا مناسكنا" ، وعلمنا عبادتك ، كيف نعبدك ؟ وأين نعبدك ؟ وما يرضيك عنا فنفعله ؟
وهذا القول ، وإن كان مذهبا يحتمله الكلام ، فإن الغالب على معنى "المناسك" ما وصفنا قبل ، من أنها "مناسك الحج" التي ذكرنا معناها .
وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة منهما ربهما لأنفسهما . وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذريتهما المسلمين . فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما ، صارا كالمخبرين عن أنفسهما بذلك . وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قبل في أول الآية ، وتأخره بعد في الآية الأخرى . فأما الذي في أول الآية فقولهما : " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " ، ثم جمعا أنفسهما والأمة المسلمة من ذريتهما ، في مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا "وأرنا مناسكنا" . وأما التي في الآية التي بعدها : "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" ، فجعلا المسألة لذريتهما خاصة . [ ص: 81 ]
وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود : "وأرهم مناسكهم" ، يعني بذلك وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم .
القول في تأويل قوله تعالى ( وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ( 128 ) )
قال أبو جعفر : أما "التوبة" ، فأصلها الأوبة من مكروه إلى محبوب . فتوبة العبد إلى ربه ، أوبته مما يكرهه الله منه ، بالندم عليه ، والإقلاع عنه ، والعزم على ترك العود فيه . وتوبة الرب على عبده : عوده عليه بالعفو له عن جرمه ، والصفح له عن عقوبة ذنبه ، مغفرة له منه ، وتفضلا عليه .
فإن قال لنا قائل : وهل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة ؟
قيل : إنه ليس أحد من خلق الله ، إلا وله من العمل - فيما بينه وبين ربه - ما يجب عليه الإنابة منه والتوبة . فجائز أن يكون ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك ، وإنما خصا به الحال التي كانا عليها ، من رفع قواعد البيت . لأن ذلك كان أحرى الأماكن أن يستجيب الله فيها دعاءهما ، وليجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدى بها بعدهما ، وتتخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تنصل من الذنوب إلى الله . وجائز أن يكونا عنيا بقولهما : "وتب علينا" ، وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا - الذين أعلمتنا أمرهم - من ظلمهم وشركهم ، حتى ينيبوا إلى طاعتك . فيكون ظاهر الكلام على الدعاء لأنفسهما ، والمعني به ذريتهما . كما [ ص: 82 ] يقال : "أكرمني فلان في ولدي وأهلي ، وبرني فلان" ، إذا بر ولده .
وأما قوله : "إنك أنت التواب الرحيم" ، فإنه يعني به : إنك أنت العائد على عبادك بالفضل ، والمتفضل عليهم بالعفو والغفران - الرحيم بهم ، المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته ، المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك .
القول في تأويل قوله تعالى ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك )
قال أبو جعفر : وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهي الدعوة التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول : "أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى " : -
2070 - حدثنا بذلك ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان الكلاعي : أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك . قال : نعم ، أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، صلى الله عليه وسلم . [ ص: 83 ]
2071 - حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال : حدثنا أبو اليمان قال : حدثنا أبو كريب ، عن أبي مريم ، عن سعيد بن سويد ، عن العرباض بن سارية السلمي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إني عند الله في أم الكتاب ، خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته . وسوف أنبئكم بتأويل ذلك : أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى قومه ، ورؤيا أمي .
2072 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني معاوية - ، وحدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال : حدثني أبي قال : حدثنا [ ص: 84 ] الليث بن سعد ، عن معاوية بن صالح - قالا جميعا ، عن سعيد بن سويد ، عن عبد الله بن هلال السلمي ، عن عرباض بن سارية السلمي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(185)
الحلقة (199)
صــ 85إلى صــ 91
2073 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا معاوية ، عن سعيد بن سويد ، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي ، عن عرباض بن سارية : أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، فذكر نحوه . [ ص: 85 ]
وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2074 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" ، ففعل الله ذلك ، فبعث فيهم رسولا من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه ، يخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد . [ ص: 86 ]
2075 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" ، هو محمد صلى الله عليه وسلم .
2076 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع : "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" ، هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : قد استجيب ذلك ، وهو في آخر الزمان .
قال أبو جعفر : ويعني تعالى ذكره بقوله : "يتلو عليهم آياتك" : يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه .
القول في تأويل قوله تعالى ( ويعلمهم الكتاب والحكمة )
قال أبو جعفر : ويعني بالكتاب : القرآن .
وقد بينت فيما مضى لم سمي القرآن "كتابا" ، وما تأويله . وهو قول جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2077 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "ويعلمهم الكتاب" : القرآن .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى "الحكمة" التي ذكرها الله في هذا الموضع .
فقال بعضهم : هي السنة .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 87 ]
2078 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ""والحكمة" ، أي السنة .
وقال بعضهم : "الحكمة" ، هي المعرفة بالدين والفقه فيه .
ذكر من قال ذلك :
2079 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قلت لمالك : ما الحكمة ؟ قال : المعرفة بالدين ، والفقه في الدين ، والاتباع له .
2080 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "والحكمة" قال : "الحكمة" : الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم ، يعلمهم إياها . قال : و"الحكمة" ، العقل في الدين وقرأ : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) [ سورة البقرة : 269 ] ، وقال لعيسى ، ( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) [ سورة آل عمران : 48 ] قال : وقرأ ابن زيد : ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) [ سورة الأعراف : 175 ] قال : لم ينتفع بالآيات ، حيث لم تكن معها حكمة . قال : "والحكمة" شيء يجعله الله في القلب ، ينور له به .
قال أبو جعفر : والصواب من القول عندنا في "الحكمة" ، أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمعرفة بها ، وما دل عليه ذلك من نظائره . وهو عندي مأخوذ من "الحكم" الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل ، بمنزلة "الجلسة والقعدة" من "الجلوس والقعود" ، يقال منه : "إن فلانا لحكيم بين الحكمة" ، يعني به : إنه لبين الإصابة في القول والفعل .
وإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو [ ص: 88 ] عليهم آياتك ، ويعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم ، وفصل قضائك وأحكامك التي تعلمه إياها .
القول في تأويل قوله تعالى ( ويزكيهم )
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى "التزكية" : التطهير ، وأن معنى "الزكاة" ، النماء والزيادة .
فمعنى قوله : "ويزكيهم" في هذا الموضع : ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان ، وينميهم ويكثرهم بطاعة الله ، كما : -
2081 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "يتلو عليهم آياتك ويزكيهم" قال : يعني بالزكاة ، طاعة الله والإخلاص .
2082 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج قال : قال ابن جريج قوله : "ويزكيهم" قال : يطهرهم من الشرك ، ويخلصهم منه .
القول في تأويل قوله تعالى ( إنك أنت العزيز الحكيم ( 129 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : إنك يا رب أنت"العزيز" القوي الذي لا يعجزه شيء أراده ، فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك ؛ و"الحكيم" الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل ، فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا ، ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك . [ ص: 89 ]
القول في تأويل قوله تعالى ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ومن يرغب عن ملة إبراهيم " ، وأي الناس يزهد في ملة إبراهيم ، ويتركها رغبة عنها إلى غيرها ؟
وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى ، لاختيارهم ما اختاروا من اليهودية والنصرانية على الإسلام . لأن "ملة إبراهيم " هي الحنيفية المسلمة ، كما قال تعالى ذكره : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ) [ سورة آل عمران : 67 ] ، فقال تعالى ذكره لهم : ومن يزهد عن ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه ، كما : -
2083 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ، رغب عن ملته اليهود والنصارى ، واتخذوا اليهودية والنصرانية ، بدعة ليست من الله ، وتركوا ملة إبراهيم - يعني الإسلام - حنيفا ؛ كذلك بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم .
2084 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه" قال : رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم ، وابتدعوا اليهودية والنصرانية ، وليست من الله ، وتركوا ملة إبراهيم : الإسلام .
[ ص: 90 ] القول في تأويل قوله تعالى ( إلا من سفه نفسه )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "إلا من سفه نفسه" ، إلا من سفهت نفسه . وقد بينا فيما مضى أن معنى "السفه" ، الجهل .
فمعنى الكلام : وما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية ، إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها ، ويضرها في معادها ، كما : -
2085 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "إلا من سفه نفسه" قال : إلا من أخطأ حظه .
وإنما نصب"النفس" على معنى المفسر . ذلك أن "السفه" في الأصل للنفس ، فلما نقل إلى "من" ، نصبت"النفس" ، بمعنى التفسير . كما يقال : "هو أوسعكم دارا" ، فتدخل "الدار" في الكلام على أن السعة فيها ، لا في الرجل . فكذلك "النفس" أدخلت لأن السفه للنفس لا ل"من" . ولذلك لم يجز أن يقال : سفه أخوك . وإنما جاز أن يفسر بالنفس ، وهي مضافة إلى معرفة ، لأنها في تأويل نكرة .
وقال بعض نحويي البصرة : إن قوله : "سفه نفسه" جرت مجرى "سفه" إذا كان الفعل غير متعد ، وإنما عداه إلى "نفسه" و"رأيه" وأشباه ذلك مما هو في المعنى نحو "سفه" ، إذا هو لم يتعد . فأما "غبن" و"خسر" فقد يتعدى إلى غيره ، يقال : "غبن خمسين ، وخسر خمسين" .
[ ص: 91 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ولقد اصطفيناه في الدنيا )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "ولقد اصطفيناه في الدنيا" ، ولقد اصطفينا إبراهيم . و"الهاء" التي في قوله : "اصطفيناه" ، من ذكر إبراهيم .
و"الاصطفاء"
"الافتعال" من "الصفوة" ، وكذلك "اصطفينا" "افتعلنا" منه ، صيرت تاءها طاء لقرب مخرجها من مخرج الصاد .
ويعني بقوله : "اصطفيناه" : اخترناه واجتبيناه للخلة ، ونصيره في الدنيا لمن بعده إماما .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خالف إبراهيم فيما سن لمن بعده ، فهو لله مخالف ، وإعلام منه خلقه أن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو لإبراهيم مخالف . وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه اصطفاه لخلته ، وجعله للناس إماما ، وأخبر أن دينه كان الحنيفية المسلمة . ففي ذلك أوضح البيان من الله تعالى ذكره عن أن من خالفه فهو لله عدو لمخالفته الإمام الذي نصبه الله لعباده .
القول في تأويل قوله تعالى ( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( 130 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وإنه في الآخرة لمن الصالحين" ، وإن إبراهيم في الدار الآخرة لمن الصالحين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(186)
الحلقة (200)
صــ 92إلى صــ 98
و"الصالح" من بني آدم : هو المؤدي حقوق الله عليه . [ ص: 92 ]
فأخبر تعالى ذكره عن إبراهيم خليله ، أنه في الدنيا صفي ، وفي الآخرة ولي ، وأنه وارد موارد أوليائه الموفين بعهده .
القول في تأويل قوله تعالى ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ( 131 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " إذ قال له ربه أسلم " ، إذ قال له ربه : أخلص لي العبادة ، واخضع لي بالطاعة ، وقد دللنا فيما مضى على معنى "الإسلام" في كلام العرب ، فأغنى عن إعادته .
وأما معنى قوله : "قال أسلمت لرب العالمين" ، فإنه يعني تعالى ذكره ، قال إبراهيم مجيبا لربه : خضعت بالطاعة ، وأخلصت العبادة ، لمالك جميع الخلائق ومدبرها دون غيره .
فإن قال قائل : قد علمت أن "إذ" وقت ، فما الذي وقت به ؟ وما الذي هو له صلة .
قيل : هو صلة لقوله : "ولقد اصطفيناه في الدنيا" . وتأويل الكلام : ولقد اصطفيناه في الدنيا ، حين قال له ربه : أسلم . قال : أسلمت لرب العالمين . وإنما معنى الكلام : ولقد اصطفيناه في الدنيا حين قلنا له : أسلم . قال : أسلمت لرب العالمين . فأظهر اسم "الله" في قوله : " إذ قال له ربه أسلم " ، على وجه الخبر [ ص: 93 ] عن غائب ، وقد جرى ذكره قبل على وجه الخبر عن نفسه ، كما قال خفاف بن ندبة :
أقول له - والرمح يأطر متنه : تأمل خفافا إنني أنا ذالكا
فإن قال لنا قائل : وهل دعا الله إبراهيم إلى الإسلام ؟
قيل له : نعم ، قد دعاه إليه .
فإن قال : وفي أي حال دعاه إليه ؟
قيل حين قال : ( يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) [ سورة الأنعام : 78 - 79 ] ، وذلك هو الوقت الذي قال له ربه : أسلم - من بعد ما امتحنه بالكواكب والقمر والشمس .
القول في تأويل قوله تعالى ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "ووصى بها" ، ووصى بهذه الكلمة . عنى ب"الكلمة" قوله "أسلمت لرب العالمين" ، وهي "الإسلام" [ ص: 94 ] الذي أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو إخلاص العبادة والتوحيد لله ، وخضوع القلب والجوارح له .
ويعني بقوله : "ووصى بها إبراهيم بنيه" ، عهد إليهم بذلك وأمرهم به .
وأما قوله : "ويعقوب" ، فإنه يعني : ووصى بذلك أيضا يعقوب بنيه ، كما : -
2086 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب" ، يقول : ووصى بها يعقوب بنيه بعد إبراهيم .
2087 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "ووصى بها إبراهيم بنيه" ، وصاهم بالإسلام ، ووصى يعقوب بمثل ذلك .
قال أبو جعفر : وقال بعضهم : قوله : ( ووصى بها إبراهيم بنيه ) ، خبر منقض . وقوله : " ويعقوب " خبر مبتدأ . فإنه قال : " ووصى بها إبراهيم بنيه " . بأن يقولوا : أسلمنا لرب العالمين - ووصى يعقوب بنيه : أن : " يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " .
ولا معنى لقول من قال ذلك . لأن الذي أوصى به يعقوب بنيه ، نظير الذي أوصى به إبراهيم بنيه : من الحث على طاعة الله ، والخضوع له ، والإسلام .
فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت : من أن معناه : ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب : أن "يا بني" - فما بال "أن" محذوفة من الكلام ؟
قيل : لأن الوصية قول ، فحملت على معناها . وذلك أن ذلك لو جاء بلفظ [ ص: 95 ] القول ، لم تحسن معه"أن" ، وإنما كان يقال : وقال إبراهيم لبنيه ويعقوب : "يا بني" . فلما كانت الوصية قولا حملت على معناها دون لفظها ، فحذفت "أن" التي تحسن معها ، كما قال تعالى ذكره : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) [ سورة النساء : 11 ] ، وكما قال الشاعر :
إني سأبدي لك فيما أبدي لي شجنان شجن بنجد
وشجن لي ببلاد السند
فحذفت "أن" ، إذ كان الإبداء باللسان في المعنى قولا فحمله على معناه دون لفظه .
وقد قال بعض أهل العربية : إنما حذفت "أن" من قوله : " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " ، اكتفاء بالنداء - يعني بالنداء قوله : "يا بني" وزعم أن علته في ذلك أن من شأن العرب الاكتفاء بالأدوات عن "أن" ، كقولهم : "ناديت هل قمت ؟ - وناديت أين زيد ؟" . قال : وربما أدخلوها مع الأدوات . فقالوا : "ناديت ، أن هل قمت ؟" .
[ ص: 96 ] وقد قرأ جماعة من القرأة : "وأوصى بها إبراهيم" ، بمعنى : عهد .
وأما من قرأ "ووصى" مشددة ، فإنه يعني بذلك أنه عهد إليهم عهدا بعد عهد ، وأوصى وصية بعد وصية .
القول في تأويل قوله تعالى ( يا بني إن الله اصطفى لكم الدين )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " إن الله اصطفى لكم الدين " ، إن الله اختار لكم هذا الدين الذي عهد إليكم فيه ، واجتباه لكم .
وإنما أدخل"الألف واللام" في "الدين" ، لأن الذين خوطبوا من ولدهما وبنيهما بذلك ، كانوا قد عرفوه بوصيتهما إياهم به ، وعهدهما إليهم فيه ، ثم قالا لهم - بعد أن عرفاهموه - : إن الله اصطفى لكم هذا الدين الذي قد عهد إليكم فيه ، فاتقوا الله أن تموتوا إلا وأنتم عليه .
القول في تأويل قوله تعالى ( فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ( 132 ) )
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : أوإلى بني آدم الموت والحياة ، فينهى أحدهم أن يموت إلا على حالة دون حالة ؟
قيل له : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننت . وإنما معنى "فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" ، أي : فلا تفارقوا هذا الدين - وهو الإسلام - أيام حياتكم . وذلك أن أحدا لا يدري متى تأتيه منيته ، فلذلك قالا لهم : "فلا تموتن إلا وأنتم [ ص: 97 ] مسلمون" ، لأنكم لا تدرون متى تأتيكم مناياكم من ليل أو نهار ، فلا تفارقوا الإسلام ، فتأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم فتموتوا وربكم ساخط عليكم ، فتهلكوا .
القول في تأويل قوله تعالى ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "أم كنتم شهداء" ، أكنتم . ولكنه استفهم ب"أم" ، إذ كان استفهاما مستأنفا على كلام قد سبقه ، كما قيل : ( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه ) [ سورة السجدة : 1 - 3 ] وكذلك تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه ، تستفهم فيه ب"أم" .
"والشهداء" جمع"شهيد" ، كما "الشركاء" جمع "شريك" و"الخصماء" جمع "خصيم" .
قال أبو جعفر وتأويل الكلام : أكنتم - يا معشر اليهود والنصارى ، المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الجاحدين نبوته - ، حضور يعقوب وشهوده إذ حضره الموت ، أي إنكم لم تحضروا ذلك ، فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل ، وتنحلوهم اليهودية والنصرانية ، فإني ابتعثت خليلي إبراهيم - وولده إسحاق وإسماعيل وذريتهم - بالحنيفية المسلمة ، وبذلك وصوا بنيهم ، وبه عهدوا إلى أولادهم من بعدهم . فلو حضرتموهم [ ص: 98 ] فسمعتم منهم ، علمتم أنهم على غير ما نحلتموهم من الأديان والملل من بعدهم .
وهذه آيات نزلت ، تكذيبا من الله تعالى لليهود والنصارى في دعواهم في إبراهيم وولده يعقوب : أنهم كانوا على ملتهم ، فقال لهم في هذه الآية : "أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت" ، فتعلموا ما قال لولده وقال له ولده ؟ ثم أعلمهم ما قال لهم وما قالوا له . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2088 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "أم كنتم شهداء" ، يعني أهل الكتاب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(187)
الحلقة (201)
صــ 99إلى صــ 105
القول في تأويل قوله تعالى ( إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ( 133 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "إذ قال لبنيه" ، إذ قال يعقوب لبنيه" .
و"إذ" هذه مكررة إبدالا من "إذ" الأولى ، بمعنى : أم كنتم شهداء يعقوب ، إذ قال يعقوب لبنيه حين حضور موته .
ويعني بقوله : "ما تعبدون من بعدي" - أي شيء تعبدون "من بعدي" ؟ أي من بعد وفاتي ؟ قالوا : "نعبد إلهك" ، يعني به : قال بنوه له : نعبد معبودك الذي تعبده ، ومعبود آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، "إلها واحدا" أي : [ ص: 99 ] نخلص له العبادة ، ونوحد له الربوبية ، فلا نشرك به شيئا ، ولا نتخذ دونه ربا .
ويعني بقوله : "ونحن له مسلمون" ، ونحن له خاضعون بالعبودية والطاعة .
ويحتمل قوله : "ونحن له مسلمون" ، أن تكون بمعنى الحال ، كأنهم قالوا : نعبد إلهك مسلمين له بطاعتنا وعبادتنا إياه . ويحتمل أن يكون خبرا مستأنفا ، فيكون بمعنى : نعبد إلهك بعدك ، ونحن له الآن وفي كل حال مسلمون .
وأحسن هذين الوجهين - في تأويل ذلك - أن يكون بمعنى الحال ، وأن يكون بمعنى : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، مسلمين لعبادته .
وقيل : إنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق ، لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق .
ذكر من قال ذلك :
2089 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق" قال : يقال : بدأ بإسماعيل لأنه أكبر .
وقرأ بعض المتقدمين : "وإله أبيك إبراهيم" ، ظنا منه أن إسماعيل ، إذ كان عما ليعقوب ، فلا يجوز أن يكون في من ترجم به عن الآباء ، وداخلا في عدادهم . وذلك من قارئه كذلك ، قلة علم منه بمجاري كلام العرب . والعرب لا تمتنع من أن تجعل الأعمام بمعنى الآباء ، والأخوال بمعنى الأمهات . فلذلك دخل إسماعيل في من ترجم به عن الآباء . وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ترجمة عن الآباء في موضع جر ، ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون .
[ ص: 100 ] والصواب من القراءة عندنا في ذلك : "وإله آبائك" ، لإجماع القراء على تصويب ذلك ، وشذوذ من خالفه من القراء ممن قرأ خلاف ذلك .
ونصب قوله : "إلها" ، على الحال من قوله : "إلهك "
القول في تأويل قوله تعالى ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ( 134 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره . بقوله : "تلك أمة قد خلت " ، إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم .
يقول لليهود والنصارى : يا معشر اليهود والنصارى ، دعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله ، ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية ، فتضيفونها إليهم ، فإنهم أمة - ويعني : ب "الأمة " في هذا الموضع : الجماعة والقرن من الناس - قد خلت : مضت لسبيلها .
وإنما قيل للذي قد مات فذهب : "قد خلا " ، لتخليه من الدنيا وانفراده ، عما كان من الأنس بأهله وقرنائه في دنياه .
وأصله من قولهم : "خلا الرجل " ، إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له فيه ، وانفرد من الناس . فاستعمل ذلك في الذي يموت ، على ذلك الوجه .
ثم قال تعالى ذكره لليهود والنصارى : إن لمن نحلتموه - ضلالكم وكفركم الذي أنتم عليه - من أنبيائي ورسلي ، ما كسب . [ ص: 101 ]
"والهاء والألف " في قوله : "لها " ، عائدة إن شئت على "تلك " ، وإن شئت على "الأمة " .
ويعني بقوله : "لها ما كسبت " ، أي ما عملت من خير ، ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم ، ولا تؤاخذون أنتم - أيها الناحلون ما نحلتموهم من الملل - فتسألوا عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون . فيكسبون من خير وشر ، لأن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت . فدعوا انتحالهم وانتحال مللهم ، فإن الدعاوى غير مغنيتكم عند الله ، وإنما يغني عنكم عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم ، إن كنتم عملتموها وقدمتموها .
القول في تأويل قوله تعالى ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " ، وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين : كونوا هودا تهتدوا ؛ وقالت النصارى لهم : كونوا نصارى تهتدوا .
تعني بقولها : "تهتدوا " ، أي تصيبوا طريق الحق . كما : -
2090 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة - جميعا ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى [ ص: 102 ] زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه! فاتبعنا يا محمد تهتد! وقالت النصارى مثل ذلك . فأنزل الله عز وجل فيهم : "وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " .
قال أبو جعفر : احتج الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ حجة وأوجزها وأكملها ، وعلمها محمدا نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، قل - للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " - : بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي يجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه وأمر به - فإن دينه كان الحنيفية المسلمة - وندع سائر الملل التي نختلف فيها ، فينكرها بعضنا ، ويقر بها بعضنا . فإن ذلك - على اختلافه - لا سبيل لنا على الاجتماع عليه ، كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم .
وفي نصب قوله : "بل ملة إبراهيم " أوجه ثلاثة . أحدها : أن يوجه معنى قوله : "وقالوا كونوا هودا أو نصارى " ، إلى معنى : وقالوا اتبعوا اليهودية والنصرانية . لأنهم إذ قالوا : "كونوا هودا أو نصارى " ، إلى اليهودية والنصرانية دعوهم ، ثم يعطف على ذلك المعنى بالملة . فيكون معنى الكلام حينئذ : قل يا محمد ، لا نتبع اليهودية والنصرانية ، ولا نتخذها ملة ، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا ، ثم يحذف "نتبع " الثانية ، ويعطف ب "الملة " على إعراب اليهودية والنصرانية .
والآخر : أن يكون نصبه بفعل مضمر بمعنى "نتبع "
والثالث : أن يكون أريد : بل نكون أصحاب ملة إبراهيم ، أو أهل ملة [ ص: 103 ] إبراهيم . ثم حذف "الأهل " و "الأصحاب " ، وأقيمت "الملة " مقامهم ، إذ كانت مؤدية عن معنى الكلام ، كما قال الشاعر :
حسبت بغام راحلتي عناقا! وما هي ، ويب غيرك ، بالعناق
يعني : صوت عناق ، فتكون "الملة " حينئذ منصوبة ، عطفا في الإعراب على " اليهود والنصارى " .
وقد يجوز أن يكون منصوبا على وجه الإغراء ، باتباع ملة إبراهيم .
وقرأ بعض القراء ذلك رفعا ، فتأويله - على قراءة من قرأ رفعا : بل الهدى ملة إبراهيم .
[ ص: 104 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( 135 ) )
قال أبو جعفر : و"الملة " ، الدين
وأما "الحنيف " ، فإنه المستقيم من كل شيء . وقد قيل : إن الرجل الذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى ، إنما قيل له "أحنف " ، نظرا له إلى السلامة ، كما قيل للمهلكة من البلاد "المفازة " ، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة ، وكما قيل للديغ : "السليم " ، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك ، وما أشبه ذلك .
فمعنى الكلام إذا : قل يا محمد ، بل نتبع ملة إبراهيم مستقيما .
فيكون "الحنيف " حينئذ حالا من " إبراهيم " وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك . فقال بعضهم : "الحنيف" الحاج . وقيل : إنما سمي دين إبراهيم الإسلام "الحنيفية " ، لأنه أول إمام لزم العباد - الذين كانوا في عصره ، والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة - اتباعه في مناسك الحج ، والائتمام به فيه . قالوا : فكل من حج البيت فنسك مناسك إبراهيم على ملته ، فهو "حنيف " ، مسلم على دين إبراهيم .
ذكر من قال ذلك :
2091 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا القاسم بن الفضل ، عن كثير أبي سهل ، قال : سألت الحسن عن "الحنيفية " ، قال : حج البيت .
2092 - حدثني محمد بن عبادة الأسدي قال : حدثنا عبد الله بن موسى [ ص: 105 ] قال : أخبرنا فضيل ، عن عطية في قوله : "حنيفا " قال الحنيف : الحاج .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(188)
الحلقة (202)
صــ 106إلى صــ 112
2093 - حدثني الحسين بن علي الصدائي قال : حدثنا أبي ، عن الفضيل ، عن عطية مثله . [ ص: 106 ]
2094 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد قال : الحنيف الحاج .
2095 - حدثني الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا ابن التيمي ، عن كثير بن زياد قال : سألت الحسن عن "الحنيفية " ، قال : هو حج هذا البيت .
قال ابن التيمي : وأخبرني جويبر ، عن الضحاك بن مزاحم ، مثله .
2096 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن مهدي قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن مجاهد : "حنفاء " قال : حجاجا .
2097 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "حنيفا " قال : حاجا .
2098 - حدثت عن وكيع ، عن فضيل بن غزوان ، عن عبد الله بن القاسم قال : كان الناس من مضر يحجون البيت في الجاهلية يسمون "حنفاء " ، فأنزل الله تعالى ذكره ( حنفاء لله غير مشركين به ) . [ سورة الحج : 31 ]
وقال آخرون : " الحنيف " ، المتبع ، كما وصفنا قبل ، من قول الذين قالوا : إن معناه : الاستقامة .
ذكر من قال ذلك :
2099 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، [ ص: 107 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "حنفاء " قال : متبعين .
وقال آخرون : إنما سمي دين إبراهيم "الحنيفية " ، لأنه أول إمام سن للعباد الختان ، فاتبعه من بعده عليه . قالوا : فكل من اختتن على سبيل اختتان إبراهيم ، فهو على ما كان عليه إبراهيم من الإسلام ، فهو "حنيف " على ملة إبراهيم .
وقال آخرون : "بل ملة إبراهيم حنيفا " ، بل ملة إبراهيم مخلصا . "فالحنيف " على قولهم : المخلص دينه لله وحده .
ذكر من قال ذلك :
2100 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " واتبع ملة إبراهيم حنيفا " ، يقول : مخلصا .
وقال آخرون : بل "الحنيفية " الإسلام . فكل من ائتم بإبراهيم في ملته فاستقام عليها ، فهو "حنيف " .
قال أبو جعفر : "الحنف " عندي ، هو الاستقامة على دين إبراهيم ، واتباعه على ملته . . وذلك أن الحنيفية لو كانت حج البيت ، لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك كانوا حنفاء . وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله : ( ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ) [ سورة آل عمران : 67 ]
فكذلك القول في الختان . لأن "الحنيفية " لو كانت هي الختان ، لوجب أن يكون اليهود حنفاء . وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ) [ سورة آل عمران : 67 ] . [ ص: 108 ]
فقد صح إذا أن "الحنيفية " ليست الختان وحده ، ولا حج البيت وحده ، ولكنه هو ما وصفنا : من الاستقامة على ملة إبراهيم ، واتباعه عليها ، والائتمام به فيها .
فإن قال قائل : أوما كان من كان من قبل إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، من الأنبياء وأتباعهم ، مستقيمين على ما أمروا به من طاعة الله استقامة إبراهيم وأتباعه ؟
قيل : بلى .
فإن قال : فكيف أضيف "الحنيفية " إلى إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة ، دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم ؟
قيل : إن كل من كان قبل إبراهيم من الأنبياء كان حنيفا متبعا طاعة الله ، ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدا منهم إماما لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة ، كالذي فعل من ذلك بإبراهيم ، فجعله إماما فيما بينه من مناسك الحج والختان ، وغير ذلك من شرائع الإسلام ، تعبدا به أبدا إلى قيام الساعة . وجعل ما سن من ذلك علما مميزا بين مؤمني عباده وكفارهم ، والمطيع منهم له والعاصي . فسمي الحنيف من الناس "حنيفا " باتباعه ملته ، واستقامته على هديه ومنهاجه ، وسمي الضال من ملته بسائر أسماء الملل ، فقيل : "يهودي ، ونصراني ، ومجوسي " ، وغير ذلك من صنوف الملل
وأما قوله : "وما كان من المشركين " ، يقول : إنه لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان والأصنام ، ولا كان من اليهود ولا من النصارى ، بل كان حنيفا مسلما .
[ ص: 109 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( 136 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : "قولوا " - أيها المؤمنون ، لهؤلاء اليهود والنصارى ، الذين قالوا لكم : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " - : "آمنا " ، أي صدقنا "بالله " .
وقد دللنا فيما مضى أن معنى "الإيمان " ، التصديق ، بما أغنى عن إعادته .
"وما أنزل إلينا " ، يقول أيضا : صدقنا بالكتاب الذي أنزل الله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . فأضاف الخطاب بالتنزيل إليهم ، إذ كانوا متبعيه ، ومأمورين منهيين به . فكان - وإن كان تنزيلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمعنى التنزيل إليهم ، للذي لهم فيه من المعاني التي وصفت
ويعني بقوله : "وما أنزل إلى إبراهيم " ، صدقنا أيضا وآمنا بما أنزل إلى إبراهيم " وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " ، وهم الأنبياء من ولد يعقوب .
وقوله : "وما أوتي موسى وعيسى " ، يعني : وآمنا أيضا بالتوراة التي آتاها الله موسى ، وبالإنجيل الذي آتاه الله عيسى ، والكتب التي آتى النبيين كلهم ، وأقررنا وصدقنا أن ذلك كله حق وهدى ونور من عند الله ، وأن جميع من ذكر الله من أنبيائه كانوا على حق وهدى ، يصدق بعضهم بعضا ، على منهاج واحد في الدعاء إلى توحيد الله ، والعمل بطاعته ، "لا نفرق بين أحد منهم " ، يقول : [ ص: 110 ] لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض ، ونتبرأ من بعض ونتولى بعضا ، كما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرت بغيرهما من الأنبياء ، وكما تبرأت النصارى من محمد صلى الله عليه وسلم وأقرت بغيره من الأنبياء ، بل نشهد لجميعهم أنهم كانوا رسل الله وأنبياءه ، بعثوا بالحق والهدى .
وأما قوله : "ونحن له مسلمون " ، فإنه يعني تعالى ذكره : ونحن له خاضعون بالطاعة ، مذعنون له بالعبودية .
فذكر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك لليهود ، فكفروا بعيسى وبمن يؤمن به ، كما : -
2101 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من يهود ، فيهم أبو ياسر بن أخطب ، ورافع بن أبي رافع ، وعازر ، وخالد ، وزيد ، وأزار بن أبي أزار ، وأشيع ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال : أومن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون . فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، وقالوا : لا نؤمن بعيسى ، ولا نؤمن بمن آمن به . فأنزل الله فيهم : ( قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ) [ سورة المائدة : 59 ] [ ص: 111 ]
2102 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه - إلا أنه قال : " ونافع بن أبي نافع " مكان " رافع بن أبي رافع " .
وقال قتادة : أنزلت هذه الآية ، أمرا من الله تعالى ذكره للمؤمنين بتصديق رسله كلهم .
2103 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم " إلى قوله : "ونحن له مسلمون " ، أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم ، ولا يفرقوا بين أحد منهم .
وأما " الأسباط " الذين ذكرهم ، فهم اثنا عشر رجلا من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم . ولد كل رجل منهم أمة من الناس ، فسموا "أسباطا " . كما : -
2104 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : الأسباط ، يوسف وإخوته ، بنو يعقوب . ولد اثني عشر رجلا فولد كل رجل منهم أمة من الناس ، فسموا : "أسباطا " .
2105 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما الأسباط ، فهم بنو يعقوب : يوسف ، وبنيامين ، وروبيل ، [ ص: 112 ] ويهوذا ، وشمعون ، ولاوي ، ودان ، وقهاث .
2106 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : "الأسباط " يوسف وإخوته بنو يعقوب ، اثنا عشر رجلا فولد لكل رجل منهم أمة من الناس ، فسموا "الأسباط " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(189)
الحلقة (203)
صــ 113إلى صــ 119
2107 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال نكح يعقوب بن إسحاق - وهو إسرائيل - ابنة خاله "ليا " ابنة " ليان بن توبيل بن إلياس " ، فولدت له " روبيل بن يعقوب " ، وكان أكبر ولده ، و"شمعون بن يعقوب " ، و"لاوي بن يعقوب " و"يهوذا بن يعقوب " و"ريالون بن يعقوب " ، و"يشجر بن يعقوب " ، و"دينة بنت يعقوب " ، ثم توفيت " ليا بنت ليان " . فخلف يعقوب على أختها " راحيل بنت ليان بن توبيل بن إلياس " فولدت له " يوسف بن يعقوب " و"بنيامين " - وهو بالعربية أسد - وولد له من سريتين له : اسم إحداهما " زلفة " ، واسم الأخرى " بلهية " ، أربعة [ ص: 113 ] نفر : " دان بن يعقوب " ، و "نفثالي بن يعقوب " و "جاد بن يعقوب " ، و "إشرب بن يعقوب " فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا نشر الله منهم اثني عشر سبطا ، لا يحصي عددهم ولا يعلم أنسابهم إلا الله ، يقول الله تعالى : ( وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما ) . [ سورة الأعراف : 160 ]
القول في تأويل قوله تعالى ( فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به " ، فإن صدق اليهود والنصارى بالله ، وما أنزل إليكم ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم ، وأقروا بذلك ، مثل ما صدقتم أنتم به أيها المؤمنون وأقررتم ، فقد وفقوا ورشدوا ، ولزموا طريق الحق ، واهتدوا ، وهم حينئذ منكم وأنتم منهم ، بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك .
فدل تعالى ذكره بهذه الآية ، على أنه لم يقبل من أحد عملا إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدها قبلها ، كما : -
2108 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا " ونحو هذا ، قال : أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى ، وأنه لا يقبل عملا إلا به ، ولا تحرم الجنة إلا على من تركه . [ ص: 114 ]
وقد روي عن ابن عباس في ذلك قراءة ، جاءت مصاحف المسلمين بخلافها ، وأجمعت قرأة القرآن على تركها . وذلك ما : -
2109 - حدثنا به محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، قال : قال ابن عباس : لا تقولوا : "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا " - فإنه ليس لله مثل - ولكن قولوا : "فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا " - أو قال : "فإن آمنوا بما آمنتم به " .
فكأن ابن عباس - في هذه الرواية إن كانت صحيحة عنه - يوجه تأويل قراءة من قرأ : "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به " ، فإن آمنوا بمثل الله ، وبمثل ما أنزل على إبراهيم وإسماعيل . وذلك إذا صرف إلى هذا الوجه ، شرك لا شك بالله العظيم . لأنه لا مثل لله تعالى ذكره ، فنؤمن أو نكفر به .
ولكن تأويل ذلك على غير المعنى الذي وجه إليه تأويله . وإنما معناه ما وصفنا ، وهو : فإن صدقوا مثل تصديقكم بما صدقتم به - من جميع ما عددنا عليكم من كتب الله وأنبيائه - فقد اهتدوا . فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والإقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء . كقول القائل : "مر عمرو بأخيك مثل ما مررت به " ، يعني بذلك مر عمرو بأخيك مثل مروري به . والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين ، لا بين عمرو وبين المتكلم . فكذلك قوله : "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به " ، إنما وقع التمثيل بين الإيمانين ، لا بين المؤمن به .
[ ص: 115 ] القول في تأويل قوله تعالى ( وإن تولوا فإنما هم في شقاق )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وإن تولوا " ، وإن تولى - هؤلاء الذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه : "كونوا هودا أو نصارى " - فأعرضوا ، فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيها المؤمنون بالله ، وبما جاءت به الأنبياء ، وابتعثت به الرسل ، وفرقوا بين رسل الله وبين الله ورسله ، فصدقوا ببعض وكفروا ببعض فاعلموا ، أيها المؤمنون ، أنهم إنما هم في عصيان وفراق وحرب لله ولرسوله ولكم ، كما : -
2110 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : "وإنما هم في شقاق " ، أي : في فراق
2111 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "فإنما هم في شقاق " ، يعني فراق .
2112 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " وإن تولوا فإنما هم في شقاق " قال : الشقاق : الفراق والمحاربة . إذا شاق فقد حارب ، وإذا حارب فقد شاق ، وهما واحد في كلام العرب ، وقرأ : (ومن يشاقق الرسول ) [ سورة النساء : 115 ] .
قال أبو جعفر : وأصل "الشقاق " عندنا ، والله أعلم ، مأخوذ من قول القائل : "شق عليه هذا الأمر " ، إذا كربه وآذاه . ثم قيل : "شاق فلان فلانا " ، بمعنى : نال [ ص: 116 ] كل واحد منهما من صاحبه ما كربه وآذاه ، وأثقلته مساءته . ومنه قول الله تعالى ذكره : ( وإن خفتم شقاق بينهما ) [ سورة النساء : 35 ] بمعنى : فراق بينهما .
القول في تأويل قوله تعالى ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ( 137 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فسيكفيكهم الله " ، فسيكفيك الله يا محمد ، هؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " ، من اليهود والنصارى ، إن هم تولوا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله ، وبما أنزل إليك ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الأنبياء غيرهم ، وفرقوا بين الله ورسله - إما بقتل السيف ، وإما بجلاء عن جوارك ، وغير ذلك من العقوبات ؛ فإن الله هو "السميع " لما يقولون لك بألسنتهم ، ويبدون لك بأفواههم ، من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضالة - "العليم " بما يبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحسد والبغضاء .
ففعل الله بهم ذلك عاجلا وأنجز وعده ، فكفى نبيه صلى الله عليه وسلم بتسليطه إياه عليهم ، حتى قتل بعضهم ، وأجلى بعضا ، وأذل بعضا وأخزاه بالجزية والصغار .
[ ص: 117 ] القول في تأويل قوله تعالى ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ( 138 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره ب "الصبغة" : صبغة الإسلام . وذلك أن النصارى إذا أرادت أن تنصر أطفالهم ، جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس ، بمنزلة غسل الجنابة لأهل الإسلام ، وأنه صبغة لهم في النصرانية .
فقال الله تعالى ذكره - إذ قالوا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين به : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " - : قل لهم يا محمد : أيها اليهود والنصارى ، بل اتبعوا ملة إبراهيم ، صبغة الله التي هي أحسن الصبغ ، فإنها هي الحنيفية المسلمة ، ودعوا الشرك بالله ، والضلال عن محجة هداه .
ونصب "الصبغة " من قرأها نصبا على الرد على "الملة " . وكذلك رفع "الصبغة " من رفع "الملة " ، على ردها عليها .
وقد يجوز رفعها على غير هذا الوجه . وذلك على الابتداء ، بمعنى : هي صبغة الله .
وقد يجوز نصبها على غير وجه الرد على "الملة " ، ولكن على قوله : "قولوا آمنا بالله " إلى قوله "ونحن له مسلمون " ، "صبغة الله " ، بمعنى : آمنا هذا الإيمان ، فيكون الإيمان حينئذ هو صبغة الله .
وبمثل الذي قلنا في تأويل "الصبغة " قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2113 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : [ ص: 118 ] "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة " إن اليهود تصبغ أبناءها يهود ، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى ، وأن صبغة الله الإسلام ، فلا صبغة أحسن من الإسلام ، ولا أطهر ، وهو دين الله بعث به نوحا والأنبياء بعده .
2114 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال عطاء : "صبغة الله " صبغت اليهود أبناءهم خالفوا الفطرة .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "صبغة الله " . فقال بعضهم : دين الله .
ذكر من قال ذلك :
2115 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : "صبغة الله " قال : دين الله .
2116 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : "صبغة الله " قال : دين الله ، " ومن أحسن من الله صبغة " ، ومن أحسن من الله دينا .
2117 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع مثله .
2118 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد مثله .
2119 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد مثله .
2120 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
2121 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية قوله : "صبغة الله " قال : دين الله . [ ص: 119 ]
2122 - حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة " ، يقول : دين الله ، ومن أحسن من الله دينا .
2123 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "صبغة الله " قال : دين الله .
2124 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله : "صبغة الله " قال : دين الله .
2125 - حدثني ابن البرقي قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال : سألت ابن زيد عن قول الله : "صبغة الله " ، فذكر مثله .
وقال أخرون : "صبغة الله " فطرة الله .
ذكر من قال ذلك :
2126 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "صبغة الله " قال : فطرة الله التي فطر الناس عليها .
2127 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا محمد بن حرب قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن جعفر بن ربيعة ، عن مجاهد : "ومن أحسن من الله صبغة " قال : الصبغة ، الفطرة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(190)
الحلقة (204)
صــ 120إلى صــ 126
2128 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : "صبغة الله " ، الإسلام ، فطرة الله التي فطر الناس عليها . قال ابن جريج : قال لي عبد الله بن كثير : "صبغة الله " قال : دين الله ، ومن أحسن من الله دينا . قال : هي فطرة الله . [ ص: 120 ]
ومن قال هذا القول ، فوجه "الصبغة " إلى الفطرة ، فمعناه : بل نتبع فطرة الله وملته التي خلق عليها خلقه ، وذلك الدين القيم . من قول الله تعالى ذكره : ( فاطر السماوات والأرض ) [ سورة الأنعام : 14 ] . بمعنى خالق السماوات والأرض .
القول في تأويل قوله تعالى ( ونحن له عابدون ( 138 ) )
قال أبو جعفر : وقوله تعالى ذكره : "ونحن له عابدون " ، أمر من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود والنصارى ، الذين قالوا له ولمن تبعه من أصحابه : "كونوا هودا أو نصارى " . فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا ، صبغة الله ، ونحن له عابدون . يعني : ملة الخاضعين لله المستكينين له ، في اتباعنا ملة إبراهيم ، ودينونتنا له بذلك ، غير مستكبرين في اتباع أمره ، والإقرار برسالته رسله ، كما استكبرت اليهود والنصارى ، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم استكبارا وبغيا وحسدا .
القول في تأويل قوله تعالى ( قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ( 139 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "قل أتحاجوننا في الله " ، قل يا محمد لمعاشر اليهود والنصارى ، الذين قالوا لك ولأصحابك : "كونوا هودا [ ص: 121 ] أو نصارى تهتدوا " ، وزعموا أن دينهم خير من دينكم ، وكتابهم خير من كتابكم ، لأنه كان قبل كتابكم ، وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منكم : "أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم " ، بيده الخيرات ، وإليه الثواب والعقاب ، والجزاء على الأعمال - الحسنات منها والسيئات ، فتزعمون أنكم بالله أولى منا ، من أجل أن نبيكم قبل نبينا ، وكتابكم قبل كتابنا ، وربكم وربنا واحد ، وأن لكل فريق منا ما عمل واكتسب من صالح الأعمال وسيئها ، يجازى [ عليها ] فيثاب أو يعاقب ، - لا على الأنساب وقدم الدين والكتاب .
ويعني بقوله : "قل أتحاجوننا " ، قل أتخاصموننا وتجادلوننا ؟ كما -
2129 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "قل أتحاجوننا في الله " ، قل : أتخاصموننا ؟
2130 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "قل أتحاجوننا " ، أتخاصموننا ؟
2131 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "أتحاجوننا " ، أتجادلوننا ؟
فأما قوله : "ونحن له مخلصون " ، فإنه يعني : ونحن لله مخلصو العبادة والطاعة ، لا نشرك به شيئا ، ولا نعبد غيره أحدا ، كما عبد أهل الأوثان معه الأوثان ، وأصحاب العجل معه العجل .
وهذا من الله تعالى ذكره توبيخ لليهود ، واحتجاج لأهل الإيمان ، بقوله تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : قولوا - أيها المؤمنون ، لليهود [ ص: 122 ] والنصارى الذين قالوا لكم : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " - : "أتحاجوننا في الله " ؟ يعني بقوله : "في الله " ، في دين الله الذي أمرنا أن ندينه به ، وربنا وربكم واحد عدل لا يجور ، وإنما يجازي العباد على ما اكتسبوا . وتزعمون أنكم أولى بالله منا ، لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم ، ونحن مخلصون له العبادة ، لم نشرك به شيئا ، وقد أشركتم في عبادتكم إياه ، فعبد بعضكم العجل ، وبعضكم المسيح ، فأنى تكونون خيرا منا ، وأولى بالله منا ؟
القول في تأويل قوله تعالى ( أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله )
قال أبو جعفر : في قراءة ذلك وجهان . أحدهما : "أم تقولون " ب "التاء " . فمن قرأ كذلك ، فتأويله : قل يا محمد - للقائلين لك من اليهود والنصارى : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " - : أتجادلوننا في الله ، أم تقولون إن إبراهيم ؟ فيكون ذلك معطوفا على قوله : "أتحاجوننا في الله " .
والوجه الآخر منهما : "أم يقولون " ب "الياء " . ومن قرأ ذلك كذلك وجه قوله : "أم يقولون " إلى أنه استفهام مستأنف ، كقوله : ( أم يقولون افتراه ) [ سورة السجدة : 3 ] ، وكما يقال : "إنها لإبل أم شاء " . وإنما جعله استفهاما مستأنفا ، لمجيء خبر مستأنف ، كما يقال : "أتقوم أم يقوم أخوك ؟ " فيصير قوله : "أم يقوم أخوك " خبرا مستأنفا لجملة ليست من الأول واستفهاما [ ص: 123 ] مبتدأ . ولو كان نسقا على الاستفهام الأول ، لكان خبرا عن الأول ، فقيل : "أتقوم أم تقعد ؟ "
وقد زعم بعض أهل العربية أن ذلك ، إذا قرئ كذلك ب "الياء " ، فإن كان الذي بعد "أم " جملة تامة ، فهو عطف على الاستفهام الأول . لأن معنى الكلام : قيل : أي هذين الأمرين كائن ؟ هذا أم هذا ؟
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا في ذلك : "أم تقولون " "بالتاء " دون "الياء " عطفا على قوله : "قل أتحاجوننا " ، بمعنى : أي هذين الأمرين تفعلون ؟ أتجادلوننا في دين الله ، فتزعمون أنكم أولى منا وأهدى منا سبيلا - وأمرنا وأمركم ما وصفنا ، على ما قد بيناه آنفا - أم تزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، ومن سمى الله ، كانوا هودا أو نصارى على ملتكم ، فيصح للناس بهتكم وكذبكم ، لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سماهم الله من أنبيائه . وغير جائزة قراءة ذلك ب "الياء " ، لشذوذها عن قراءة القراء .
وهذه الآية أيضا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى ، الذين ذكر الله قصصهم . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد - لهؤلاء اليهود والنصارى - : أتحاجوننا في الله ، وتزعمون أن دينكم أفضل من ديننا ، وأنكم على هدى ونحن على ضلالة ، ببرهان من الله تعالى ذكره ، فتدعوننا إلى دينكم ؟ فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه ، أم تقولون : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى على دينكم ؟ فهاتوا - على دعواكم ما ادعيتم من ذلك - برهانا فنصدقكم ، فإن الله قد جعلهم أئمة يقتدى بهم . [ ص: 124 ]
ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد - إن ادعوا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى : أأنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الأديان ، أم الله ؟
القول في تأويل قوله تعالى ( ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله )
قال أبو جعفر : يعني : فإن زعمت يا محمد اليهود والنصارى - الذين قالوا لك ولأصحابك : "كونوا هودا أو نصارى " ، أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى ، فمن أظلم منهم ؟ يقول : وأي امرئ أظلم منهم ؟ وقد كتموا شهادة عندهم من الله بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا مسلمين ، فكتموا ذلك ، ونحلوهم اليهودية والنصرانية .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
2132 - فحدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " قال : في قول يهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما ، إنهم كانوا يهود أو نصارى . فيقول الله : لا تكتموا مني شهادة إن كانت عندكم فيهم . وقد علم أنهم كاذبون .
2133 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " ، في قول اليهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما : إنهم كانوا يهود أو نصارى . فقال الله لهم : لا تكتموا مني الشهادة فيهم ، إن كانت عندكم فيهم . وقد علم الله أنهم كانوا كاذبين . [ ص: 125 ]
2134 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني إسحاق ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن أنه تلا هذه الآية : "أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل " إلى قوله : "قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " ، قال الحسن : والله لقد كان عند القوم من الله شهادة أن أنبياءه برآء من اليهودية والنصرانية ، كما أن عند القوم من الله شهادة أن أموالكم ودماءكم بينكم حرام ، فبم استحلوها ؟
2135 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : قوله : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " ، أهل الكتاب ، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل : أنهم لم يكونوا يهود ولا نصارى ، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان .
وإنما عنى تعالى ذكره بذلك أن اليهود والنصارى ، إن ادعوا أن إبراهيم ومن سمي معه في هذه الآية ، كانوا هودا أو نصارى ، تبين لأهل الشرك الذين هم نصراءهم ، كذبهم وادعاءهم على أنبياء الله الباطل لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعدهم ، وإن هم نفوا عنهم اليهودية والنصرانية ، قيل لهم : فهلموا إلى ما كانوا عليه من الدين ، فإنا وأنتم مقرون جميعا بأنهم كانوا على حق ، ونحن مختلفون فيما خالف الدين الذي كانوا عليه .
وقال آخرون : بل عنى تعالى ذكره بقوله : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " ، اليهود في كتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ، وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم . [ ص: 126 ]
ذكر من قال ذلك :
2136 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى " ، أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله ، واتخذوا اليهودية والنصرانية ، وكتموا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
2137 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " قال : الشهادة ، النبي صلى الله عليه وسلم ، مكتوب عندهم ، وهو الذي كتموا .
2138 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحو حديث بشر بن معاذ ، عن يزيد .
2139 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " قال : هم يهود ، يسألون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صفته في كتاب الله عندهم ، فيكتمون الصفة .
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا القول الذي قلناه في تأويل ذلك ، لأن قوله تعالى ذكره : "ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " ، في إثر قصة من سمى الله من أنبيائه ، وأمام قصته لهم . فأولى بالذي هو بين ذلك أن يكون من قصصهم دون غيره .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(191)
الحلقة (205)
صــ 127إلى صــ 133
فإن قال قائل : وأية شهادة عند اليهود والنصارى من الله في أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ؟ [ ص: 127 ] قيل : الشهادة التي عندهم من الله في أمرهم ، ما أنزل الله إليهم في التوراة والإنجيل ، وأمرهم فيها بالاستنان بسنتهم واتباع ملتهم ، وأنهم كانوا حنفاء مسلمين . وهي الشهادة التي عندهم من الله التي كتموها ، حين دعاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقالوا له : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ سورة البقرة : 111 ] ، وقالوا له ولأصحابه : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " ، فأنزل الله فيهم هذه الآيات ، في تكذيبهم ، وكتمانهم الحق ، وافترائهم على أنبياء الله الباطل والزور .
القول في تأويل قوله تعالى ( وما الله بغافل عما تعملون ( 140 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وقل - لهؤلاء اليهود والنصارى ، الذين يحاجونك يا محمد - : "وما الله بغافل عما تعملون " ، من كتمانكم الحق فيما ألزمكم في كتابه بيانه للناس من أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط في أمر الإسلام ، وأنهم كانوا مسلمين ، وأن الحنيفية المسلمة دين الله الذي على جميع الخلق الدينونة به ، دون اليهودية والنصرانية وغيرهما من الملل - ولا هو ساه عن عقابكم على فعلكم ذلك ، بل هو محص عليكم حتى يجازيكم به من الجزاء ما أنتم له أهل في عاجل الدنيا وآجل الآخرة . فجازاهم عاجلا في الدنيا ، بقتل بعضهم ، وإجلائه عن وطنه وداره ، وهو مجازيهم في الآخرة العذاب المهين .
[ ص: 128 ] القول في تأويل قوله تعالى ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ( 141 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "تلك أمة " ، إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط . كما : -
2140 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله تعالى : "تلك أمة قد خلت " ، يعني : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط .
2141 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله .
قال أبو جعفر : وقد بينا فيما مضى أن "الأمة " : الجماعة .
فمعنى الآية إذا : قل يا محمد لهؤلاء الذين يجادلونك في الله من اليهود والنصارى ، إن كتموا ما عندهم من الشهادة في أمر إبراهيم ومن سمينا معه ، وأنهم كانوا مسلمين ، وزعموا أنهم كانوا هودا أو نصارى ، فكذبوا : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط أمة قد خلت - أي مضت لسبيلها - فصارت إلى ربها ، وخلت بأعمالها وآمالها ، لها عند الله ما كسبت من خير في أيام حياتها ، وعليها ما اكتسبت من شر ، لا ينفعها غير صالح أعمالها ، ولا يضرها إلا سيئها . فاعلموا أيها اليهود والنصارى ذلك ، فإنكم ، إن كان هؤلاء - وهم الذين [ ص: 129 ] بهم تفتخرون ، وتزعمون أن بهم ترجون النجاة من عذاب ربكم ، مع سيئاتكم وعظيم خطيئاتكم - لا ينفعهم عند الله غير ما قدموا من صالح الأعمال ، ولا يضرهم غير سيئها ، فأنتم كذلك أحرى أن لا ينفعكم عند الله غير ما قدمتم من صالح الأعمال ، ولا يضركم غير سيئها . فاحذروا على أنفسكم ، وبادروا خروجها بالتوبة والإنابة إلى الله مما أنتم عليه من الكفر والضلالة والفرية على الله وعلى أنبيائه ورسله ، ودعوا الاتكال على فضائل الآباء والأجداد ، فإنما لكم ما كسبتم ، وعليكم ما اكتسبتم ، ولا تسألون عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط يعملون من الأعمال ، لأن كل نفس قدمت على الله يوم القيامة ، فإنما تسأل عما كسبت وأسلفت ، دون ما أسلف غيرها .
القول في تأويل قوله تعالى ( سيقول السفهاء من الناس )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "سيقول السفهاء " ، سيقول الجهال "من الناس " ، وهم اليهود وأهل النفاق .
وإنما سماهم الله عز وجل "سفهاء " ، لأنهم سفهوا الحق . فتجاهلت أحبار اليهود ، وتعاظمت جهالهم وأهل الغباء منهم ، عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل ، وتحير المنافقون فتبلدوا .
وبما قلنا في " السفهاء " - أنهم هم اليهود وأهل النفاق - قال أهل التأويل .
ذكر من قال : هم اليهود : [ ص: 130 ]
2142 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم " قال : اليهود تقوله ، حين ترك بيت المقدس .
2143 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
2144 - حدثت عن أحمد بن يونس ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : "سيقول السفهاء من الناس " قال : اليهود .
2145 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : "سيقول السفهاء من الناس " قال : اليهود .
2146 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قوله : "سيقول السفهاء من الناس " قال : أهل الكتاب
2147 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : اليهود .
وقال آخرون : "السفهاء " ، المنافقون .
ذكر من قال ذلك .
2148 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : نزلت "سيقول السفهاء من الناس " ، في المنافقين .
[ ص: 131 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "ما ولاهم " : أي شيء صرفهم عن قبلتهم ؟ وهو من قول القائل : "ولاني فلان دبره " ، إذا حول وجهه عنه واستدبره ، فكذلك قوله : "ما ولاهم " ؟ أي شيء حول وجوههم ؟
وأما قوله : "عن قبلتهم " ، فإن قبلة كل شيء : ما قابل وجهه . وإنما هي "فعلة " بمنزلة "الجلسة والقعدة " ، من قول القائل . "قابلت فلانا " ، إذا صرت قبالته أقابله ، فهو لي "قبلة " وأنا له "قبلة " ، إذا قابل كل واحد منهما بوجهه وجه صاحبه .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذا - إذ كان ذلك معناه - : سيقول السفهاء من الناس لكم ، أيها المؤمنون بالله ورسوله ، - إذا حولتم وجوهكم عن قبلة اليهود التي كانت لكم قبلة قبل أمري إياكم بتحويل وجوهكم عنها شطر المسجد الحرام - : أي شيء حول وجوه هؤلاء ، فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم في صلاتهم ؟
فأعلم الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم ، ما اليهود والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشام إلى المسجد الحرام ، وعلمه ما ينبغي أن يكون من رده عليهم من الجواب . فقال له : إذا قالوا ذلك لك يا محمد ، فقل لهم : "لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " . [ ص: 132 ]
وكان سبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس مدة سنذكر مبلغها فيما بعد إن شاء الله تعالى ، ثم أراد الله تعالى صرف قبلة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام . فأخبره عما اليهود قائلوه من القول عند صرفه وجهه ووجه أصحابه شطره ، وما الذي ينبغي أن يكون من رده عليهم من الجواب .
ذكر المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس ، وما كان سبب صلاته نحوه ؟ وما الذي دعا اليهود والمنافقين إلى قيل ما قالوا عند تحويل الله قبلة المؤمنين عن بيت المقدس إلى الكعبة ؟
اختلف أهل العلم في المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة . فقال بعضهم بما : -
2149 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة - قالا جميعا : حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد قال : أخبرني سعيد بن جبير ، أو عكرمة - شك محمد - ، عن ابن عباس قال : لما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة - وصرفت في رجب ، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن قيس ، وقردم بن عمرو ، وكعب بن الأشرف ، ونافع بن أبي نافع - هكذا قال ابن حميد ، وقال أبو كريب : ورافع بن أبي رافع - والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف والربيع بن الربيع بن [ أبي ] الحقيق ، وكنانة بن أبي الحقيق ، فقالوا : يا محمد ، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها ، وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك! وإنما يريدون فتنته عن دينه . فأنزل [ ص: 133 ] الله فيهم : "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " إلى قوله : "إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " .
2150 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال البراء : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، وكان يشتهي أن يصرف إلى الكعبة . قال : فبينا نحن نصلي ذات يوم ، فمر بنا مار فقال : ألا هل علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرف إلى الكعبة ؟ قال : وقد صلينا ركعتين إلى هاهنا ، وصلينا ركعتين إلى هاهنا - قال أبو كريب : فقيل له : فيه أبو إسحاق ؟ فسكت .
2151 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : صلينا بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(192)
الحلقة (206)
صــ 134إلى صــ 140
2152 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو [ ص: 134 ] بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا - شك سفيان - ثم صرفنا إلى الكعبة .
2153 - حدثني المثنى قال : حدثنا النفيلي قال : حدثنا زهير قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة ، نزل على أجداده - أو أخواله - من الأنصار ، وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى صلاة العصر ومعه قوم . فخرج رجل ممن صلى معه ، فمر على أهل المسجد وهم ركوع فقال : أشهد لقد صليت مع رسول الله قبل مكة . فداروا كما هم قبل البيت . وكان يعجبه أن يحول قبل البيت . وكان اليهود أعجبهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب ، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك .
2154 - حدثني عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهرا ، ثم وجه نحو الكعبة قبل بدر بشهرين . [ ص: 135 ]
وقال آخرون بما : -
2155 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عثمان بن سعد الكاتب قال : حدثنا أنس بن مالك قال : صلى نبي الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر . فبينما هو قائم يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى ركعتين نحو بيت المقدس ، انصرف بوجهه إلى الكعبة ، فقال السفهاء : "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " . [ ص: 136 ]
وقال آخرون بما : -
2156 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا المسعودي ، عن عمرو بن مرة ، عن ابن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ثلاثة عشر شهرا . [ ص: 137 ]
2157 - حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال : سمعت أبي قال : حدثنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أن الأنصار صلت القبلة الأولى ، قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث حجج ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى القبلة الأولى بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا ، أو كما قال . وكلا الحديثين يحدث قتادة عن سعيد .
ذكر السبب الذي كان من أجله يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ، قبل أن يفرض عليه التوجه شطر الكعبة .
اختلف أهل العلم في ذلك .
فقال بعضهم : كان ذلك باختيار من النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر من قال ذلك : [ ص: 138 ]
2158 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح أبو تميلة قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن عكرمة - وعن يزيد النحوي ، عن عكرمة - والحسن البصري قالا : أول ما نسخ من القرآن القبلة . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صخرة بيت المقدس ، وهي قبلة اليهود ، فاستقبلها النبي صلى الله عليه وسلم سبعة عشر شهرا ، ليؤمنوا به ويتبعوه ، ويدعو بذلك الأميين من العرب . فقال الله عز وجل : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) [ سورة البقرة : 115 ] .
2159 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ، يعنون بيت المقدس . قال الربيع . قال أبو العالية : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم خير أن يوجه وجهه حيث شاء ، فاختار بيت المقدس لكي يتألف أهل الكتاب ، فكانت قبلته ستة عشر شهرا ، وهو في ذلك يقلب وجهه في السماء ، ثم وجهه الله إلى البيت الحرام .
وقال آخرون : بل كان فعل ذلك - من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - بفرض الله عز ذكره عليهم .
ذكر من قال ذلك :
2160 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان [ أكثر ] أهلها اليهود ، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس . ففرحت اليهود . فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام ، وكان يدعو وينظر إلى السماء . فأنزل الله عز وجل : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) [ ص: 139 ] [ سورة البقرة : 144 ] الآية . فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ؟ فأنزل الله عز وجل : "قل لله المشرق والمغرب " .
2161 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة ، ثم صرف إلى بيت المقدس . فصلت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه ثلاث حجج : وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرا ، ثم ولاه الله جل ثناؤه إلى الكعبة .
ذكر السبب الذي من أجله قال من قال "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ؟
اختلف أهل التأويل في ذلك . فروي عن ابن عباس فيه قولان . أحدهما ما : -
2162 - حدثنا به ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال ذلك قوم من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له : ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك! يريدون فتنته عن دينه .
والقول الآخر : ما ذكرت من حديث علي بن أبي طلحة عنه الذي مضى قبل .
2163 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ؟ قال : صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة مهاجرا ، نحو بيت [ ص: 140 ] المقدس ، ستة عشر شهرا ، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام . فقال في ذلك قائلون من الناس : "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ؟ لقد اشتاق الرجل إلى مولده! فقال الله عز وجل : "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " .
وقيل : قائل هذه المقالة المنافقون . وإنما قالوا ذلك استهزاء بالإسلام .
ذكر من قال ذلك :
2164 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم قبل المسجد الحرام ، اختلف الناس فيها فكانوا أصنافا . فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة زمانا ، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها ؟ فأنزل الله في المنافقين : "سيقول السفهاء من الناس " ، الآية كلها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(193)
الحلقة (207)
صــ 141إلى صــ 147
القول في تأويل قوله تعالى ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( 142 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك عز وجل : قل يا محمد - لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك : ما ولاكم عن قبلتكم من بيت المقدس ، التي كنتم على التوجه إليها ، إلى التوجه إلى شطر المسجد الحرام ؟ - : لله ملك المشرق والمغرب يعني بذلك : ملك ما بين قطري مشرق الشمس ، وقطري مغربها ، وما بينهما من العالم يهدي من يشاء من خلقه ، فيسدده ، ويوفقه إلى الطريق القويم ، وهو "الصراط [ ص: 141 ] المستقيم " - ويعني بذلك : إلى قبلة إبراهيم الذي جعله للناس إماما - ويخذل من يشاء منهم ، فيضله عن سبيل الحق .
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله : "يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ، قل يا محمد : إن الله هدانا بالتوجه شطر المسجد الحرام لقبلة إبراهيم ، وأضلكم - أيها اليهود والمنافقون وجماعة الشرك بالله - فخذلكم عما هدانا له من ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " ، كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد عليه السلام وبما جاءكم به من عند الله ، فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته ، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل ، كذلك خصصناكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان ، بأن جعلناكم أمة وسطا .
وقد بينا أن "الأمة " ، هي القرن من الناس والصنف منهم وغيرهم .
وأما "الوسط " ، فإنه في كلام العرب الخيار . يقال منه : "فلان وسط الحسب في قومه " ، أي متوسط الحسب ، إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه ، و "هو وسط في قومه ، وواسط " ،
كما يقال : "شاة يابسة اللبن ويبسة اللبن " ، وكما قال جل ثناؤه : [ ص: 142 ] ( فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ) [ سورة طه : 77 ] ، وقال زهير بن أبي سلمى في "الوسط " :
هم وسط ترضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
قال أبو جعفر : وأنا أرى أن "الوسط " في هذا الموضع ، هو "الوسط " الذي بمعنى : الجزء الذي هو بين الطرفين ، مثل "وسط الدار " محرك الوسط مثقله ، غير جائز في "سينه " التخفيف .
وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم "وسط " ، لتوسطهم في الدين ، فلا هم أهل غلو فيه ، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب ، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هم أهل تقصير فيه ، تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله ، وقتلوا أنبياءهم ، وكذبوا على ربهم ، وكفروا به ؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه . فوصفهم الله بذلك ، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها .
وأما التأويل ، فإنه جاء بأن "الوسط " العدل . وذلك معنى الخيار ، لأن الخيار من الناس عدولهم .
ذكر من قال : "الوسط " العدل .
2165 - حدثنا سلم بن جنادة ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله [ ص: 143 ] عليه وسلم في قوله : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال : عدولا .
2166 - حدثنا مجاهد بن موسى ومحمد بن بشار قالا : حدثنا جعفر بن عون ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
2167 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال : "عدولا .
2168 - حدثني علي بن عيسى قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، عن حفص بن غياث ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : "جعلناكم أمة وسطا " قال : عدولا . [ ص: 144 ]
2169 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال : عدولا .
2170 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال : عدولا .
2171 - حدثنا المثنى قال : حدثنا حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
2172 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "أمة وسطا " قال : عدولا .
2173 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "أمة وسطا " قال : عدولا .
2174 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "أمة وسطا " قال : عدولا . [ ص: 145 ]
2175 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " ، يقول : جعلكم أمة عدولا .
2176 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن رشدين بن سعد قال : أخبرنا ابن أنعم المعافري ، عن حبان بن أبي جبلة ، يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال : الوسط العدل .
2177 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء ومجاهد وعبد الله بن كثير : "أمة وسطا " ، قالوا : عدولا . قال مجاهد : عدلا .
2178 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال : هم وسط بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأمم .
القول في تأويل قوله تعالى ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا )
قال أبو جعفر : "والشهداء " جمع "شهيد " .
فمعنى ذلك : وكذلك جعلناكم أمة وسطا عدولا [ لتكونوا ] [ ص: 146 ] شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ ، أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها ، ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدا عليكم ، بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي ، كما : -
2179 - حدثني أبو السائب قال : حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدعى بنوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له : هل بلغت ما أرسلت به ؟ فيقول : نعم . فيقال لقومه : هل بلغكم ؟ فيقول : ما جاءنا من نذير! فيقال له : من يعلم ذاك ؟ فيقول : محمد وأمته . فهو قوله : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " .
2180 - حدثنا مجاهد بن موسى قال : حدثنا جعفر بن عون قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه - إلا أنه زاد فيه : فيدعون ويشهدون أنه قد بلغ .
2181 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " - بأن الرسل قد بلغوا - "ويكون الرسول عليكم [ ص: 147 ] شهيدا " . بما عملتم ، أو فعلتم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(194)
الحلقة (208)
صــ 148إلى صــ 154
2182 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن المغيرة بن عتيبة بن النهاس : أن مكاتبا لهم حدثهم عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني وأمتي لعلى كوم يوم القيامة ، مشرفين على الخلائق . ما أحد من الأمم إلا ود أنه منها أيتها الأمة ، وما من نبي كذبه قومه إلا نحن شهداءه يوم القيامة أنه قد بلغ رسالات ربه ونصح لهم . قال : "ويكون الرسول عليكم شهيدا " . [ ص: 148 ]
2183 - حدثني عصام بن رواد بن الجراح العسقلاني قال : حدثنا أبي قال : حدثنا الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي الفضل ، عن أبي هريرة قال : خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة ، فلما صلى على الميت قال الناس : نعم الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وجبت! ثم خرجت معه في جنازة أخرى ، فلما صلوا على الميت قال الناس : بئس الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وجبت . فقام إليه أبي بن كعب فقال : يا رسول الله ، ما قولك وجبت ؟ قال : " قول الله عز وجل : "لتكونوا شهداء على الناس " .
2184 - حدثني علي بن سهل الرملي قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : [ ص: 149 ] حدثني أبو عمرو ، عن يحيى قال : حدثني عبد الله بن أبي الفضل المديني قال : حدثني أبو هريرة قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة ، فقال الناس : نعم الرجل! ثم ذكر نحو حديث عصام عن أبيه .
2185 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا زيد بن حباب قال : حدثنا عكرمة بن عمار قال : حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع ، عن أبيه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر عليه بجنازة ، فأثني عليها بثناء حسن ، فقال : وجبت! ومر عليه بجنازة أخرى ، فأثني عليها دون ذلك ، فقال : وجبت! قالوا : يا رسول الله ، ما وجبت ؟ قال : الملائكة شهداء الله في السماء ، وأنتم شهداء الله في الأرض ، فما شهدتم عليه وجب . ثم قرأ : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) الآية [ سورة التوبة : 105 ] . [ ص: 150 ]
2186 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "لتكونوا شهداء على الناس " ، تكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم ، اليهود والنصارى والمجوس .
2187 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
2188 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا [ أبو ] عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح قال : يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ناديه ليس معه أحد ، فتشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغهم .
2189 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير مثله .
2190 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : حدثني ابن أبي نجيح ، عن أبيه قال : يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، فذكر مثله ، ولم يذكر عبيد بن عمير ، مثله .
2191 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن [ ص: 151 ] قتادة " لتكونوا شهداء على الناس " ، أي أن رسلهم قد بلغت قومها عن ربها ، " ويكون الرسول عليكم شهيدا " ، على أنه قد بلغ رسالات ربه إلى أمته .
2192 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أن قوم نوح يقولون يوم القيامة : لم يبلغنا نوح ! فيدعى نوح عليه السلام فيسأل : هل بلغتهم ؟ فيقول : نعم . فيقال : من شهودك ؟ فيقول : أحمد صلى الله عليه وسلم وأمته . فتدعون فتسألون فتقولون : نعم ، قد بلغهم . فتقول قوم نوح عليه السلام : كيف تشهدون علينا ولم تدركونا ؟ قالوا : قد جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم ، وأنزل عليه أنه قد بلغكم ، فصدقناه . قال : فيصدق نوح عليه السلام ويكذبونهم . قال : " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا
2193 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : "لتكونوا شهداء على الناس " ، لتكون هذه الأمة شهداء على الناس أن الرسل قد بلغتهم ، ويكون الرسول على هذه الأمة شهيدا ، أن قد بلغ ما أرسل به .
2194 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أن الأمم يقولون يوم القيامة : والله لقد كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلهم! لما يرون الله أعطاهم .
2195 - حدثنا المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : حدثنا ابن المبارك ، عن رشدين بن سعد ، قال أخبرني ابن أنعم المعافري ، عن حبان بن أبي جبلة يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا جمع الله عباده يوم القيامة ، كان أول من يدعى إسرافيل ، فيقول له ربه : ما فعلت في عهدي ؟ هل بلغت عهدي ؟ فيقول : نعم رب ، قد بلغته جبريل عليهما السلام ، فيدعى جبريل ، فيقال له : [ ص: 152 ] هل بلغك إسرافيل عهدي! فيقول : نعم رب ، قد بلغني . فيخلى عن إسرافيل ، ويقال لجبريل : هل بلغت عهدي ؟ فيقول : نعم ، قد بلغت الرسل . فتدعى الرسل فيقال لهم : هل بلغكم جبريل عهدي ؟ فيقولون : نعم ربنا . فيخلى عن جبريل ، ثم يقال للرسل : ما فعلتم بعهدي ؟ فيقولون : بلغنا أممنا . فتدعى الأمم ، فيقال : هل بلغكم الرسل عهدي ؟ فمنهم المكذب ومنهم المصدق ، فتقول الرسل : إن لنا عليهم شهودا يشهدون أن قد بلغنا مع شهادتك . فيقول : من يشهد لكم ؟ فيقولون : أمة محمد . فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقول : أتشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليه ؟ فيقولون : نعم ربنا شهدنا أن قد بلغوا . فتقول تلك الأمم : كيف يشهد علينا من لم يدركنا ؟ فيقول لهم الرب تبارك وتعالى : كيف تشهدون على من لم تدركوا ؟ فيقولون : ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك ، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا ، فشهدنا بما عهدت إلينا . فيقول الرب : صدقوا . فذلك قوله : "وكذلك جعلناكم أمة وسطا " - والوسط العدل - "لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " . قال ابن أنعم : فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، إلا من كان في قلبه حنة على أخيه . [ ص: 153 ]
2196 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : "لتكونوا شهداء على الناس " ، يعني بذلك . الذين استقاموا على الهدى ، فهم الذين يكونون شهداء على الناس يوم القيامة ، لتكذيبهم رسل الله وكفرهم بآيات الله . [ ص: 154 ]
2197 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "لتكونوا شهداء على الناس " ، يقول : لتكونوا شهداء على الأمم الذين خلوا من قبلكم ، بما جاءتهم رسلهم ، وبما كذبوهم ، فقالوا يوم القيامة وعجبوا : إن أمة لم يكونوا في زماننا ، فآمنوا بما جاءت به رسلنا ، وكذبنا نحن بما جاءوا به! فعجبوا كل العجب . قوله : "ويكون الرسول عليكم شهيدا " ، يعني بإيمانهم به ، وبما أنزل عليه .
2198 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "لتكونوا شهداء على الناس " ، يعني : أنهم شهدوا على القرون بما سمى الله عز وجل لهم .
2199 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : قلت لعطاء : ما قوله : "لتكونوا شهداء على الناس " ؟ قال : أمة محمد ، شهدوا على من ترك الحق حين جاءه الإيمان والهدى ، ممن كان قبلنا . قالها عبد الله بن كثير . قال : وقال عطاء : شهداء على من ترك الحق ممن تركه من الناس أجمعين ، جاء ذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم ، "ويكون الرسول عليكم شهيدا " على أنهم قد آمنوا بالحق حين جاءهم ، وصدقوا به .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(195)
الحلقة (209)
صــ 155إلى صــ 161
2200 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد على أمته ، وهم شهداء على الأمم ، وهم أحد الأشهاد الذين قال الله عز وجل : ( ويوم يقوم الأشهاد ) [ سورة غافر : 51 ] الأربعة : الملائكة الذين يحصون أعمالنا ، لنا وعلينا ، وقرأ قوله : ( وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) [ سورة ق : 21 ] ، وقال : هذا يوم القيامة . قال : والنبيون شهداء على أممهم . قال : وأمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على الأمم . قال : [ ص: 155 ] [ والأطوار ] الأجساد والجلود .
القول في تأويل قوله تعالى ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " ، ولم نجعل صرفك عن القبلة التي كنت على التوجه إليها يا محمد فصرفناك عنها ، إلا لنعلم من يتبعك ممن لا يتبعك ، ممن ينقلب على عقبيه .
والقبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ، التي عناها الله بقوله : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " ، هي القبلة التي كنت تتوجه إليها قبل أن يصرفك إلى الكعبة ، كما : -
2201 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " ، يعني : بيت المقدس .
2202 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 156 ] ابن جريج قال : قلت لعطاء : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " . قال : القبلة بيت المقدس .
قال أبو جعفر : وإنما ترك ذكر "الصرف عنها " ، اكتفاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام على معناه ، كسائر ما قد ذكرنا فيما مضى من نظائره .
وإنما قلنا : ذلك معناه ، لأن محنة الله أصحاب رسوله في القبلة ، إنما كانت - فيما تظاهرت به الأخبار - عند التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة ، حتى ارتد - فيما ذكر - رجال ممن كان قد أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم ، وقالوا : ما بال محمد يحولنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا! وقال المسلمون ، في من مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس : بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت! وقال المشركون : تحير محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في دينه! فكان ذلك فتنة للناس ، وتمحيصا للمؤمنين .
فلذلك قال جل ثناؤه : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " ، أي : وما جعلنا صرفك عن القبلة التي كنت عليها ، وتحويلك إلى غيرها ، كما قال جل ثناؤه : ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ) [ سورة الإسراء : 60 ] بمعنى : وما جعلنا خبرك عن الرؤيا التي أريناك . وذلك أنه لو لم يكن أخبر القوم بما كان أري ، لم يكن فيه على أحد فتنة ، وكذلك القبلة الأولى التي كانت نحو بيت المقدس ، لو لم يكن صرف عنها إلى الكعبة ، لم يكن فيها على أحد فتنة ولا محنة .
ذكر الأخبار التي رويت في ذلك بمعنى ما قلنا : [ ص: 157 ]
2203 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قال : كانت القبلة فيها بلاء وتمحيص . صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة مهاجرا نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام ، فقال في ذلك قائلون من الناس : "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ؟ لقد اشتاق الرجل إلى مولده! قال الله عز وجل : "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " . فقال أناس - لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام - : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟ فأنزل الله عز وجل : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " . وقد يبتلي الله العباد بما شاء من أمره ، الأمر بعد الأمر ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، وكل ذلك مقبول ، إذ كان في [ ذلك ] إيمان بالله ، وإخلاص له ، وتسليم لقضائه .
2204 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل بيت المقدس ، فنسختها الكعبة . فلما وجه قبل المسجد الحرام ، اختلف الناس فيها ، فكانوا أصنافا ، فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة زمانا ، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها ؟ وقال المسلمون : ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس ! هل تقبل الله منا ومنهم ، أو لا ؟ وقالت اليهود : إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! وقال [ ص: 158 ] المشركون من أهل مكة : تحير على محمد دينه ، فتوجه بقبلته إليكم ، وعلم أنكم كنتم أهدى منه ، ويوشك أن يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه في المنافقين : "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " إلى قوله : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " ، وأنزل في الآخرين الآيات بعدها .
2205 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : "إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " ؟ فقال عطاء : يبتليهم ، ليعلم من يسلم لأمره . قال ابن جريج : بلغني أن ناسا ممن أسلم رجعوا فقالوا : مرة هاهنا ومرة هاهنا!
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : أوما كان الله عالما بمن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، إلا بعد اتباع المتبع ، وانقلاب المنقلب على عقبيه ، حتى قال : ما فعلنا الذي فعلنا من تحويل القبلة إلا لنعلم المتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنقلب على عقبيه ؟
قيل : إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قبل كونها ، وليس قوله : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " يخبر [ عن ] أنه لم يعلم ذلك إلا بعد وجوده .
فإن قال : فما معنى ذلك ؟
قيل له : أما معناه عندنا ، فإنه : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، فقال جل ثناؤه : "إلا لنعلم " ، ومعناه : ليعلم رسولي وأوليائي . إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 159 ] وأولياءه من حزبه ، وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس إلى الرئيس ، وما فعل بهم إليه ، نحو قولهم : "فتح عمر بن الخطاب سواد العراق ، وجبى خراجها " ، وإنما فعل ذلك أصحابه ، عن سبب كان منه في ذلك . وكالذي روي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقول الله جل ثناؤه : مرضت فلم يعدني عبدي ، واستقرضته فلم يقرضني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني .
2206 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا خالد ، عن محمد بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله : استقرضت عبدي فلم يقرضني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني! يقول : وادهراه! وأنا الدهر ، أنا الدهر .
2207 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .
فأضاف تعالى ذكره الاستقراض والعيادة إلى نفسه ، وقد كان ذلك بغيره ، إذ كان ذلك عن سببه .
وقد حكي عن العرب سماعا : "أجوع في غير بطني ، وأعرى في غير [ ص: 160 ] ظهري " ، بمعنى : جوع أهله وعياله وعري ظهورهم ،
فكذلك قوله : "إلا لنعلم " ، بمعنى : يعلم أوليائي وحزبي .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2208 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " ، قال ابن عباس : لنميز أهل اليقين من أهل الشرك والريبة .
وقال بعضهم : إنما قيل ذلك ، من أجل أن العرب تضع "العلم " مكان "الرؤية " ، و"الرؤية " مكان "العلم " ، كما قال جل ذكره : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) [ سورة الفيل : 1 ] ، فزعم أن معنى "ألم تر " ، ألم تعلم ؟ وزعم أن معنى قوله : "إلا لنعلم " ، بمعنى : إلا لنرى من يتبع الرسول . وزعم أن قول القائل : "رأيت ، وعلمت ، وشهدت " ، حروف تتعاقب ، فيوضع بعضها موضع بعض ، كما قال جرير بن عطية
كأنك لم تشهد لقيطا وحاجبا وعمرو بن عمرو إذ دعا يال دارم
بمعنى : كأنك لم تعلم لقيطا ، لأن بين هلك لقيط وحاجب وزمان جرير ، ما لا يخفى بعده من المدة . وذلك أن الذين ذكرهم هلكوا في الجاهلية ، وجرير كان بعد برهة مضت من مجيء الإسلام . [ ص: 161 ]
قال أبو جعفر : وهذا تأويل بعيد ، من أجل أن "الرؤية " ، وإن استعملت في موضع "العلم " ، من أجل أنه مستحيل أن يرى أحد شيئا ، فلا توجب رؤيته إياه علما بأنه قد رآه ، إذا كان صحيح الفطرة . فجاز من الوجه الذي أثبته رؤية ، أن يضاف إليه إثباته إياه علما ، وصح أن يدل بذكر "الرؤية " على معنى "العلم " من أجل ذلك . فليس ذلك ، وإن كان [ جائزا ] في الرؤية - لما وصفنا - بجائز في العلم ، فيدل بذكر الخبر عن "العلم " على "الرؤية " . لأن المرء قد يعلم أشياء كثيرة لم يرها ولا يراها ، ويستحيل أن يرى شيئا إلا علمه ، كما قد قدمنا البيان [ عنه ] . مع أنه غير موجود في شيء من كلام العرب أن يقال : "علمت كذا " ، بمعنى رأيته . وإنما يجوز توجيه معاني ما في كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم من الكلام ، إلى ما كان موجودا مثله في كلام العرب ، دون ما لم يكن موجودا في كلامها . فموجود في كلامها "رأيت " بمعنى : علمت ، وغير موجود في كلامها "علمت " بمعنى : رأيت ، فيجوز توجيه : "إلا لنعلم " إلى معنى : إلا لنرى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(196)
الحلقة (210)
صــ 162إلى صــ 168
وقال آخرون : إنما قيل : "إلا لنعلم " ، من أجل أن المنافقين واليهود وأهل الكفر بالله ، أنكروا أن يكون الله تعالى ذكره يعلم الشيء قبل كونه . وقالوا - إذ قيل لهم : إن قوما من أهل القبلة سيرتدون على أعقابهم ، إذا حولت قبلة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة - : ذلك غير كائن! أو قالوا : ذلك باطل! فلما فعل الله ذلك ، وحول القبلة ، وكفر من أجل ذلك من كفر ، قال الله جل [ ص: 162 ] ثناؤه : ما فعلت إلا لنعلم ما علمه غيركم - أيها المشركون المنكرون علمي بما هو كائن من الأشياء قبل كونه - : أني عالم بما هو كائن مما لم يكن بعد .
فكأن معنى قائلي هذا القول في تأويل قوله : "إلا لنعلم " : إلا لنبين لكم أنا نعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه . وهذا وإن كان وجها له مخرج ، فبعيد من المفهوم .
وقال آخرون : إنما قيل : "إلا لنعلم " ، وهو بذلك عالم قبل كونه وفي كل حال ، على وجه الترفق بعباده ، واستمالتهم إلى طاعته ، كما قال جل ثناؤه : ( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) [ سورة سبأ : 24 ] ، وقد علم أنه على هدى ، وأنهم على ضلال مبين ، ولكنه رفق بهم في الخطاب ، فلم يقل : أنا على هدى ، وأنتم على ضلال . فكذلك قوله : "إلا لنعلم " ، معناه عندهم : إلا لتعلموا أنتم ، إذ كنتم جهالا به قبل أن يكون . فأضاف العلم إلى نفسه ، رفقا بخطابهم .
وقد بينا القول الذي هو أولى في ذلك بالحق .
وأما قوله : "من يتبع الرسول " . فإنه يعني : الذي يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم فيما يأمره الله به ، فيوجه نحو الوجه الذي يتوجه نحوه محمد صلى الله عليه وسلم . [ ص: 163 ]
وأما قوله : "ممن ينقلب على عقبيه " ، فإنه يعني : من الذي يرتد عن دينه ، فينافق ، أو يكفر ، أو يخالف محمدا صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ممن يظهر اتباعه ، كما : -
2209 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " قال : من إذا دخلته شبهة رجع عن الله ، وانقلب كافرا على عقبيه .
وأصل "المرتد على عقبيه " ، هو : "المنقلب على عقبيه " ، الراجع مستدبرا في الطريق الذي قد كان قطعه ، منصرفا عنه . فقيل ذلك لكل راجع عن أمر كان فيه ، من دين أو خير . ومن ذلك قوله : ( فارتدا على آثارهما قصصا ) [ سورة الكهف : 64 ] ، بمعنى : رجعا في الطريق الذي كانا سلكاه ، وإنما قيل للمرتد : "مرتد " ، لرجوعه عن دينه وملته التي كان عليها .
وإنما قيل : "رجع على عقبيه " ، لرجوعه دبرا على عقبه ، إلى الوجه الذي كان فيه بدء سيره قبل مرجعه عنه . فيجعل ذلك مثلا لكل تارك أمرا وآخذ آخر غيره ، إذا انصرف عما كان فيه ، إلى الذي كان له تاركا فأخذه . فقيل : "ارتد فلان على عقبه ، وانقلب على عقبيه " .
القول في تأويل قوله تعالى ( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في التي وصفها الله جل وعز بأنها كانت "كبيرة إلا على الذين هدى الله " . [ ص: 164 ]
فقال بعضهم : عنى جل ثناؤه ب "الكبيرة " ، التولية من بيت المقدس شطر المسجد الحرام والتحويل . وإنما أنث "الكبيرة " ، لتأنيث "التولية " .
ذكر من قال ذلك :
2210 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال الله : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " ، يعني : تحويلها .
2211 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " قال : ما أمروا به من التحول إلى الكعبة من بيت المقدس .
2212 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
2213 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "لكبيرة إلا على الذين هدى الله " قال : كبيرة ، حين حولت القبلة إلى المسجد الحرام ، فكانت كبيرة إلا على الذين هدى الله .
وقال آخرون : بل "الكبيرة " ، هي القبلة بعينها التي كان صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل .
ذكر من قال ذلك .
2214 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : "وإن كانت لكبيرة " ، أي : قبلة بيت المقدس - "إلا على الذين هدى الله " . [ ص: 165 ]
وقال بعضهم : بل "الكبيرة " هي الصلاة التي كانوا يصلونها إلى القبلة الأولى .
ذكر من قال ذلك .
2215 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " قال : صلاتكم حتى يهديكم الله عز وجل القبلة .
2216 - وقد حدثني به يونس مرة أخرى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وإن كانت لكبيرة " قال : صلاتك هاهنا - يعني إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا - وانحرافك هاهنا
وقال بعض نحويي البصرة : أنثت "الكبيرة " لتأنيث القبلة ، وإياها عنى جل ثناؤه بقوله : "وإن كانت لكبيرة " .
وقال بعض نحويي الكوفة : بل أنثت "الكبيرة " لتأنيث التولية والتحويلة
فتأويل الكلام على ما تأوله قائلو هذه المقالة : وما جعلنا تحويلتنا إياك عن القبلة التي كنت عليها وتوليتناك عنها ، إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، وإن كانت تحويلتنا إياك عنها وتوليتناك "لكبيرة إلا على الذين هدى الله " .
وهذا التأويل أولى التأويلات عندي بالصواب . لأن القوم إنما كبر عليهم تحويل النبي صلى الله عليه وسلم وجهه عن القبلة الأولى إلى الأخرى ، لا عين القبلة ، ولا الصلاة . لأن القبلة الأولى والصلاة ، قد كانت وهى غير كبيرة عليهم . إلا أن يوجه موجه تأنيث "الكبيرة " إلى "القبلة " ، ويقول : اجتزئ بذكر "القبلة " من ذكر "التولية والتحويلة " ، لدلالة الكلام على معنى ذلك ، كما قد وصفنا لك في نظائره . فيكون ذلك وجها صحيحا ، ومذهبا مفهوما . [ ص: 166 ]
ومعنى قوله : "كبيرة " ، عظيمة ، . كما : -
2217 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " قال : كبيرة في صدور الناس ، فيما يدخل الشيطان به ابن آدم . قال : ما لهم صلوا إلى هاهنا ستة عشر شهرا ثم انحرفوا! فكبر ذلك في صدور من لا يعرف ولا يعقل والمنافقين ، فقالوا : أي شيء هذا الدين ؟ وأما الذين آمنوا ، فثبت الله جل ثناؤه ذلك في قلوبهم ، وقرأ قول الله "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " قال : صلاتكم حتى يهديكم إلى القبلة .
قال أبو جعفر : وأما قوله : "إلا على الذين هدى الله " ، فإنه يعني به :
وإن كان تقليبتناك عن القبلة التي كنت عليها ، لعظيمة إلا على من وفقه الله جل ثناؤه ، فهداه لتصديقك والإيمان بك وبذلك ، واتباعك فيه ، وفي ما أنزل الله تعالى ذكره عليك ، كما : -
2218 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " ، يقول : إلا على الخاشعين ، يعني المصدقين بما أنزل الله تبارك وتعالى . [ ص: 167 ]
القول في تأويل قوله تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم )
قال أبو جعفر : قيل : عنى ب "الإيمان " ، في هذا الموضع : الصلاة .
ذكر الأخبار التي رويت بذلك ، وذكر قول من قاله :
2219 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع وعبيد الله - وحدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا عبيد الله بن موسى - جميعا ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك ، وهم يصلون نحو بيت المقدس ؟ فأنزل الله جل ثناؤه : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .
2220 - حدثني إسماعيل بن موسى قال : أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قول الله عز وجل : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " قال : صلاتكم نحو بيت المقدس .
2221 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء نحوه .
2222 - وحدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن نفيل الحراني قال : حدثنا زهير قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء قال : مات على القبلة قبل أن تحول إلى البيت [ ص: 168 ] رجال وقتلوا ، فلم ندر ما نقول فيهم . فأنزل الله تعالى ذكره : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .
2223 - حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : قال أناس من الناس - لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام - : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .
2224 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثني عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المسجد الحرام ، قال المسلمون : ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس ! هل تقبل الله منا ومنهم أم لا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " قال : صلاتكم قبل بيت المقدس : يقول : إن تلك طاعة وهذه طاعة .
2225 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : قال ناس - لما صرفت القبلة إلى البيت الحرام - : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(197)
الحلقة (211)
صــ 169إلى صــ 175
2226 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، أخبرني داود بن أبي عاصم قال : لما صرف رسول الله صلى الله [ ص: 169 ] عليه وسلم إلى الكعبة ، قال المسلمون : هلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس ! فنزلت : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " .
2227 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " ، يقول : صلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة . فكان المؤمنون قد أشفقوا على من صلى منهم أن لا تقبل صلاتهم .
2228 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " ، صلاتكم .
2229 - حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري قال : أخبرنا المؤمل قال : حدثنا سفيان ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " قال : صلاتكم نحو بيت المقدس .
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على أن "الإيمان " التصديق . وأن التصديق قد يكون بالقول وحده ، وبالفعل وحده ، وبهما جميعا .
فمعنى قوله : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " - على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة - : وما كان الله ليضيع تصديق رسوله عليه السلام ، بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره ، لأن ذلك كان منكم تصديقا لرسولي ، واتباعا لأمري ، وطاعة منكم لي .
قال : "وإضاعته إياه " جل ثناؤه - لو أضاعه - : ترك إثابة أصحابه وعامليه عليه ، فيذهب ضياعا ، ويصير باطلا كهيئة "إضاعة الرجل ماله " ، وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضا في عاجل ولا آجل . [ ص: 170 ]
فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يبطل عمل عامل عمل له عملا وهو له طاعة ، فلا يثيبه عليه ، وإن نسخ ذلك الفرض بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله .
فإن قال قائل : وكيف قال الله جل ثناؤه : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " ، فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين ، والقوم المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس ، وفي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية ؟
قيل : إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك ، فإنهم أيضا قد كانوا مشفقين من حبوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة ، وظنوا أن عملهم ذلك قد بطل وذهب ضياعا ؟ فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ ، فوجه الخطاب بها إلى الأحياء ودخل فيهم الموتى منهم . لأن من شأن العرب - إذا اجتمع في الخبر المخاطب والغائب - أن يغلبوا المخاطب فيدخل الغائب في الخطاب . فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر : "فعلنا بكما وصنعنا بكما " ، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران ، ولا يستجيزون أن يقولوا : "فعلنا بهما " ، وهم يخاطبون أحدهما ، فيردوا المخاطب إلى عداد الغيب .
القول في تأويل قوله تعالى ( إن الله بالناس لرءوف رحيم ( 143 ) )
قال أبو جعفر : ويعني بقوله جل ثناؤه : "إن الله بالناس لرءوف رحيم " : أن الله بجميع عباده ذو رأفة . [ ص: 171 ]
و"الرأفة " ، أعلى معاني الرحمة ، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ، ولبعضهم في الآخرة .
وأما " الرحيم " : فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة ، على ما قد بينا فيما مضى قبل .
وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أن الله عز وجل أرحم بعباده من أن يضيع لهم طاعة أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها ، وأرأف بهم من أن يؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم - أي ولا تأسوا على موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس - ، فإني لهم على طاعتهم إياي بصلاتهم التي صلوها كذلك مثيب ، لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملا عملوه لي ؛ ولا تحزنوا عليهم ، فإني غير مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة ، لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم ، وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله .
وفي "الرءوف " لغات . إحداها "رؤف " على مثال "فعل " ، كما قال الوليد بن عقبة :
وشر الطالبين - ولا تكنه - بقاتل عمه ، الرؤف الرحيم
[ ص: 172 ]
وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة . والأخرى "رءوف " على مثال "فعول" ، وهي قراءة عامة قراء المدينة ، و "رئف " ، وهي لغة غطفان ، على مثال "فعل " مثل حذر . و"رأف " على مثال "فعل" بجزم العين ، وهي لغة لبني أسد .
والقراءة على أحد الوجهين الأولين .
القول في تأويل قوله تعالى ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : قد نرى يا محمد نحن تقلب وجهك في السماء .
ويعني : ب"التقلب " ، التحول والتصرف .
ويعني بقوله : "في السماء" ، نحو السماء وقبلها .
وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - لأنه كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله جل ثناؤه أمره بالتحويل نحو الكعبة ، كما : -
2230 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "قد نرى تقلب وجهك في السماء " قال : كان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء ، يحب أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة ، حتى صرفه الله إليها .
2231 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" ، فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ، يهوى ويشتهي القبلة نحو البيت الحرام ، فوجهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها . [ ص: 173 ]
2232 - حدثنا المثنى قال : حدثني إسحاق قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" ، يقول : نظرك في السماء . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس ، وكان يهوى قبلة البيت الحرام ، فولاه الله قبلة كان يهواها .
2233 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : كان الناس يصلون قبل بيت المقدس ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره ، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر ، وكان يصلي قبل بيت المقدس ، فنسختها الكعبة . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يصلي قبل الكعبة ، فأنزل الله جل ثناؤه : "قد نرى تقلب وجهك في السماء " الآية .
ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة .
قال بعضهم : كره قبلة بيت المقدس ، من أجل أن اليهود قالوا : يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا!
ذكر من قال ذلك :
2234 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : قالت اليهود : يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا! فكان يدعو الله جل ثناؤه ، ويستفرض للقبلة ، فنزلت : "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" ، - وانقطع قول يهود : [ ص: 174 ] يخالفنا ويتبع قبلتنا! - في صلاة الظهر ، . فجعل الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال .
2235 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعته - يعني ابن زيد - يقول : قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : "فأينما تولوا فثم وجه الله " . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله - لبيت المقدس - ولو أنا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا ، فبلغه أن يهود تقول : والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفع وجهه إلى السماء ، فقال الله جل ثناؤه : "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" الآية .
وقال آخرون : بل كان يهوى ذلك ، من أجل أنه كان قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام .
ذكر من قال ذلك :
2236 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس . ففرحت اليهود . فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عز وجل : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" الآية . [ ص: 175 ]
فأما قوله : "فلنولينك قبلة ترضاها " ، فإنه يعني : فلنصرفنك عن بيت المقدس ، إلى قبلة "ترضاها " : تهواها وتحبها .
وأما قوله : "فول وجهك " ، يعني : اصرف وجهك وحوله .
وقوله : "شطر المسجد الحرام " ، يعني : ب"الشطر" ، النحو والقصد والتلقاء ، كما قال الهذلي :
إن العسير بها داء مخامرها فشطرها نظر العينين محسور
يعني بقوله : "شطرها" ، نحوها . وكما قال ابن أحمر :
تعدو بنا شطر جمع وهي عاقدة ، قد كارب العقد من إيفادها الحقبا
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(198)
الحلقة (212)
صــ 176إلى صــ 183
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2237 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية : "شطر المسجد الحرام" ، يعني : تلقاءه .
2238 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "شطر المسجد الحرام" : نحوه .
2239 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : " فول وجهك شطر المسجد الحرام " ، نحوه .
2240 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
2241 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " فول وجهك شطر المسجد الحرام " ، أي تلقاء المسجد الحرام .
2242 - حدثنا الحسين بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال : نحو المسجد الحرام . [ ص: 177 ]
2243 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فول وجهك شطر المسجد الحرام " ، أي تلقاءه .
2244 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه قال : "شطره" ، نحوه .
2245 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : "فولوا وجوهكم شطره" قال : قبله .
2246 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "شطره" ، ناحيته ، جانبه . قال : وجوانبه : "شطوره " .
ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه إليه من المسجد الحرام .
فقال بعضهم : القبلة التي حول إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، وعناها الله تعالى ذكره بقوله فلنولينك قبلة ترضاها ، حيال ميزاب الكعبة .
ذكر من قال ذلك :
2247 - حدثني عبد الله بن أبي زياد قال : حدثنا عثمان قال : أخبرنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة ، عن عبد الله بن عمرو : "فلنولينك قبلة ترضاها" ، حيال ميزاب الكعبة . [ ص: 178 ]
2248 - وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة قال : رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب ، وتلا هذه الآية : "فلنولينك قبلة ترضاها" قال : هذه القبلة ، هي هذه القبلة .
2249 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم - بإسناده عن عبد الله بن عمرو ، نحوه - إلا أنه قال : استقبل الميزاب فقال : هذه القبلة التي قال الله لنبيه : "فلنولينك قبلة ترضاها " .
وقال آخرون : بل ذلك البيت كله قبلة ، وقبلة البيت الباب .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 179 ]
2250 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : البيت كله قبلة ، وهذه قبلة البيت - يعني التي فيها الباب .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه : "فول وجهك شطر المسجد الحرام " ، فالمولي وجهه شطر المسجد الحرام ، هو المصيب القبلة . وإنما على من توجه إليه النية بقلبه أنه إليه متوجه ، كما أن على من ائتم بإمام فإنما عليه الائتمام به ، وإن لم يكن محاذيا بدنه بدنه ، وإن كان في طرف الصف والإمام في طرف آخر ، عن يمينه أو عن يساره ، بعد أن يكون من خلفه مؤتما به ، مصليا إلى الوجه الذي يصلي إليه الإمام . فكذلك حكم القبلة ، وإن لم يكن يحاذيها كل مصل ومتوجه إليها ببدنه ، غير أنه متوجه إليها . فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلها ، فهو مستقبلها ، بعد ما بينه وبينها ، أو قرب ، من عن يمينها أو عن يسارها ، بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووجهه ، كما :
2251 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عميرة بن زياد الكندي ، عن علي : " فول وجهك شطر المسجد الحرام " قال : شطره ، قبله . [ ص: 180 ]
قال أبو جعفر : وقبلة البيت : بابه ، كما : -
2252 - حدثني يعقوب بن إبراهيم والفضل بن الصباح قالا حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء قال : قال أسامة بن زيد : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب ، فقال : هذه القبلة ، هذه القبلة .
2253 - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : حدثني أسامة بن زيد قال : خرج النبي صلى [ ص: 181 ] الله عليه وسلم من البيت ، فصلى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة ، فقال : هذه القبلة مرتين .
2254 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن أسامة بن زيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه .
2255 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال : حدثنا أبي قال : حدثنا ابن جريج قال : قلت لعطاء : سمعت ابن عباس يقول : إنما أمرتم بالطواف ولم تؤمروا بدخوله . قال : قال : لم يكن ينهى عن دخوله ، ولكني سمعته يقول : أخبرني أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ، ولم يصل حتى خرج ، فلما خرج ركع في قبل القبلة ركعتين ، وقال : هذه القبلة . [ ص: 182 ]
قال أبو جعفر : فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البيت هو القبلة ، وأن قبلة البيت بابه .
القول في تأويل قوله تعالى ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحولوا وجوهكم في صلاتكم نحو المسجد الحرام وتلقاءه .
و"الهاء" التي في "شطره" ، عائدة إلى المسجد الحرام .
فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين ، فرض التوجه نحو المسجد الحرام [ ص: 183 ] في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى .
وأدخلت "الفاء " في قوله : "فولوا" ، جوابا للجزاء . وذلك أن قوله : "حيثما كنتم " جزاء ، ومعناه : حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره .
القول في تأويل قوله تعالى ( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم )
يعني بقوله جل ثناؤه : "وإن الذين أوتوا الكتاب" أحبار اليهود وعلماء النصارى .
وقد قيل : إنما عنى بذلك اليهود خاصة .
ذكر من قال ذلك :
2256 - حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "وإن الذين أوتوا الكتاب " ، أنزل ذلك في اليهود .
وقوله : "ليعلمون أنه الحق من ربهم" ، يعني هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب ، يعلمون أن التوجه نحو المسجد ، الحق الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده .
ويعني بقوله : "من ربهم" أنه الفرض الواجب على عباد الله تعالى ذكره ، وهو الحق من عند ربهم ، فرضه عليهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(199)
الحلقة (213)
صــ 184إلى صــ 191
[ ص: 184 ] القول في تأويل قوله تعالى "وما الله بغافل عما يعملون" ( 144 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك تبارك وتعالى : وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون ، في اتباعكم أمره ، وانتهائكم إلى طاعته ، فيما ألزمكم من فرائضه ، وإيمانكم به في صلاتكم نحو بيت المقدس ، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر المسجد الحرام ، ولا هو ساه عنه ، ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدخره لكم عنده ، حتى يجازيكم به أحسن جزاء ، ويثيبكم عليه أفضل ثواب .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولإن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض )
قال أبو جعفر : يعني بذلك تبارك اسمه : ولإن جئت ، يا محمد ، اليهود والنصارى ، بكل برهان وحجة - وهي "الآية" - بأن الحق هو ما جئتهم به ، من فرض التحول من قبلة بيت المقدس في الصلاة ، إلى قبلة المسجد الحرام ، ما صدقوا به ، ولا اتبعوا - مع قيام الحجة عليهم بذلك - قبلتك التي حولتك إليها ، وهي التوجه شطر المسجد الحرام .
قال أبو جعفر : وأجيبت "لإن" بالماضي من الفعل ، وحكمها الجواب بالمستقبل تشبيها لها ب "لو" ، فأجيبت بما تجاب به "لو" ، لتقارب معنييهما . [ ص: 185 ] وقد مضى البيان عن نظير ذلك فيما مضى . وأجيبت "لو" بجواب الأيمان . ولا تفعل العرب ذلك إلا في الجزاء خاصة ، لأن الجزاء مشابه اليمين : في أن كل واحد منهما لا يتم أوله إلا بآخره ، ولا يتم وحده ، ولا يصح إلا بما يؤكد به بعده . فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء ، صارت "اللام" الأولى بمنزلة يمين ، والثانية بمنزلة جواب لها ، كما قيل : "لعمرك لتقومن" إذ كثرت "اللام" من "لعمرك" ، حتى صارت كحرف من حروفه ، فأجيب بما يجاب به الأيمان ، إذ كانت "اللام" تنوب في الأيمان عن الأيمان ، دون سائر الحروف ، غير التي هي أحق به الأيمان . فتدل على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة ، ولا تدل سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان . فشبهت "اللام " التي في جواب الأيمان بالأيمان ، لما وصفنا ، فأجيبت بأجوبتها .
فكان معنى الكلام - إذ كان الأمر على ما وصفنا - : لو أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك .
وأما قوله : "وما أنت بتابع قبلتهم " ، يقول : وما لك من سبيل يا محمد إلى اتباع قبلتهم . وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها ، وأن النصارى تستقبل المشرق ، فأنى يكون لك السبيل إلى إتباع قبلتهم . مع اختلاف وجوهها ؟ يقول : فالزم قبلتك التي أمرت بالتوجه إليها ، ودع عنك ما تقوله اليهود والنصارى وتدعوك إليه من قبلتهم واستقبالها .
وأما قوله : "وما بعضهم بتابع قبلة بعض " ، فإنه يعني بقوله : وما اليهود بتابعة [ ص: 186 ] قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعة قبلة اليهود فمتوجهة نحوها ، كما : -
2257 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "وما بعضهم بتابع قبلة بعض " ، يقول : ما اليهود بتابعي قبلة النصارى ، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود . قال : وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حول إلى الكعبة ، قالت اليهود : إن محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده! ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! فأنزل الله عز وجل فيهم : "وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم " إلى قوله : "ليكتمون الحق وهم يعلمون " .
2258 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "وما بعضهم بتابع قبلة بعض" ، مثل ذلك .
وإنما يعني جل ثناؤه بذلك : أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة ، مع إقامة كل حزب منهم على ملتهم . فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، لا تشعر نفسك رضا هؤلاء اليهود والنصارى ، فإنه أمر لا سبيل إليه . لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لك إلى إرضاء كل حزب منهم . من أجل أنك إن اتبعت قبلة اليهود أسخطت النصارى ، وإن اتبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود ، فدع ما لا سبيل إليه ، وادعهم إلى ما لهم السبيل إليه ، من الاجتماع على ملتك الحنيفية المسلمة ، وقبلتك قبلة إبراهيم والأنبياء من بعده .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولإن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ( 145 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "ولإن اتبعت أهواءهم " ، ولإن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود والنصارى ، الذين قالوا لك ولأصحابك : "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " ، فاتبعت قبلتهم - يعني : فرجعت إلى قبلتهم . [ ص: 187 ]
ويعني بقوله : "من بعد ما جاءك من العلم" ، من بعد ما وصل إليك من العلم ، بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل ، وعلى عناد منهم للحق ، ومعرفة منهم أن القبلة التي وجهتك إليها هي القبلة التي فرضت على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل - التوجه نحوها ، "إنك إذا لمن الظالمين " ، يعني : إنك إذا فعلت ذلك ، من عبادي الظلمة أنفسهم ، المخالفين أمري ، والتاركين طاعتي ، وأحدهم وفي عدادهم .
القول في تأويل قوله تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه " ، أحبار اليهود وعلماء النصارى : يقول : يعرف هؤلاء الأحبار من اليهود ، والعلماء من النصارى : أن البيت الحرام قبلتهم وقبلة إبراهيم وقبلة الأنبياء قبلك ، كما يعرفون أبناءهم ، كما : -
2259 - حدثنا بشر بن معاذ : قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يقول : يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة .
2260 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قول الله عز وجل الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يعني : القبلة . [ ص: 188 ]
2261 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، عرفوا أن قبلة البيت الحرام هي قبلتهم التي أمروا بها ، كما عرفوا أبناءهم .
2262 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يعني بذلك : الكعبة البيت الحرام .
2263 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء ، كما يعرفون أبناءهم .
2264 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " قال : اليهود يعرفون أنها هي القبلة ، مكة .
2265 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج في قوله : " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " قال : القبلة والبيت .
القول في تأويل قوله تعالى ( وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ( 146 ) )
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : وإن طائفة من الذين أوتوا الكتاب - وهم اليهود والنصارى . وكان مجاهد يقول : هم أهل الكتاب .
2266 - حدثني محمد بن عمرو - يعني الباهلي - قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بذلك . [ ص: 189 ]
2267 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج مثله .
2268 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح مثله .
قال أبو جعفر : وقوله : "ليكتمون الحق " ، - وذلك الحق هو القبلة التي وجه الله عز وجل إليها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم . يقول : فول وجهك شطر المسجد الحرام التي كانت الأنبياء من قبل محمد صلى الله عليه وسلم يتوجهون إليها . فكتمتها اليهود والنصارى ، فتوجه بعضهم شرقا ، وبعضهم نحو بيت المقدس ، ورفضوا ما أمرهم الله به ، وكتموا مع ذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . فأطلع الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته على خيانتهم الله تبارك وتعالى ، وخيانتهم عباده ، وكتمانهم ذلك ، وأخبر أنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك على علم منهم بأن الحق غيره ، وأن الواجب عليهم من الله جل ثناؤه خلافه ، فقال : "ليكتمون الحق وهم يعلمون" ، أن ليس لهم كتمانه ، فيتعمدون معصية الله تبارك وتعالى ، كما : -
2269 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : "وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون" ، فكتموا محمدا صلى الله عليه وسلم .
2270 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ليكتمون الحق وهم يعلمون" قال : يكتمون محمدا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . [ ص: 190 ]
2271 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون" ، يعني القبلة .
القول في تأويل قوله تعالى ( الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ( 147 ) )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : اعلم يا محمد أن الحق ما أعلمك ربك وأتاك من عنده ، لا ما يقول لك اليهود والنصارى .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام : عن أن القبلة التي وجهه نحوها ، هي القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمن ومن بعده من أنبياء الله عز وجل .
يقول تعالى ذكره له : فاعمل بالحق الذي أتاك من ربك يا محمد ، ولا تكونن من الممترين .
يعني بقوله : "فلا تكونن من الممترين " ، أي : فلا تكونن من الشاكين في أن القبلة التي وجهتك نحوها قبلة إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره ، كما :
2272 - حدثني المثنى قال : حدثني إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام : "الحق من ربك فلا تكونن من الممترين" ، يقول : لا تكن في شك ، فإنها قبلتك وقبلة الأنبياء من قبلك . [ ص: 191 ]
2273 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "فلا تكونن من الممترين" قال : من الشاكين قال : لا تشكن في ذلك .
قال أبو جعفر : وإنما "الممتري " "مفتعل " ، من "المرية" ، و"المرية " هي الشك ، ومنه قول الأعشى :
تدر على أسوق الممترين ركضا إذا ما السراب ارجحن
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : أوكان النبي صلى الله عليه وسلم شاكا في أن الحق من ربه ، أو في أن القبلة التي وجهه الله إليها حق من الله تعالى ذكره ، حتى نهي عن الشك في ذلك ، فقيل له : "فلا تكونن من الممترين" ؟
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(200)
الحلقة (214)
صــ 192إلى صــ 199
قيل : ذلك من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب به ، والمراد به غيره ، كما قال جل ثناؤه : ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ) [ سورة الأحزاب : 1 ] ، ثم قال : ( واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ) [ ص: 192 ] [ سورة الأحزاب : 2 ] . فخرج الكلام مخرج الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم والنهي له ، والمراد به أصحابه المؤمنون به . وقد بينا نظير ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولكل وجهة هو موليها )
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : "ولكل" ، ولكل أهل ملة ، فحذف "أهل الملة" واكتفى بدلالة الكلام عليه ، كما : -
2274 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : "ولكل وجهة" قال : لكل صاحب ملة .
2275 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "ولكل وجهة هو موليها" ، فلليهودي وجهة هو موليها ، وللنصراني وجهة هو موليها ، وهداكم الله عز وجل أنتم أيها الأمة للقبلة التي هي قبلته .
2276 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : "ولكل وجهة هو موليها " قال : لكل أهل دين ، اليهود والنصارى . قال ابن جريج ، قال مجاهد : لكل صاحب ملة .
2277 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "ولكل وجهة هو موليها " قال : لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة ، ولكم قبلة . يريد المسلمين .
2278 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : [ ص: 193 ] حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "ولكل وجهة هو موليها " ، يعني بذلك أهل الأديان : يقول : لكل قبلة يرضونها ، ووجه الله تبارك وتعالى اسمه حيث توجه المؤمنون . وذلك أن الله تعالى ذكره قال : ( فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) [ سورة البقرة : 115 ]
2279 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "ولكل وجهة هو موليها " ، يقول : لكل قوم قبلة قد ولوها .
فتأويل أهل هذه المقالة في هذه الآية : ولكل أهل ملة قبلة هو مستقبلها ، ومول وجهه إليها .
وقال آخرون بما : -
2280 - حدثنا به الحسن بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : "ولكل وجهة هو موليها" قال : هي صلاتهم إلى بيت المقدس ، وصلاتهم إلى الكعبة .
وتأويل قائل هذه المقالة : ولكل ناحية وجهك إليها ربك يا محمد قبلة ، الله عز وجل موليها عباده .
وأما "الوجهة" ، فإنها مصدر مثل "القعدة " و"المشية " ، من "التوجه " . وتأويلها : متوجه ، يتوجه إليه بوجهه في صلاته ، كما : -
2281 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "وجهة " قبلة . [ ص: 194 ]
2282 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
2283 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "ولكل وجهة " قال : وجه .
2284 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : "وجهة " ، قبلة .
2285 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير قال : قلت لمنصور : " ولكل وجهة هو موليها " قال : نحن نقرأها ( ولكل جعلنا قبلة يرضونها ) .
وأما قوله : "هو موليها" ، فإنه يعني هو مول وجهه إليها ومستقبلها ، كما : -
2286 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "هو موليها " قال : هو مستقبلها .
2287 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
ومعنى "التولية" هاهنا الإقبال ، كما يقول القائل لغيره : "انصرف إلي" بمعنى : أقبل إلي . "والانصراف" المستعمل ، إنما هو الانصراف عن الشيء ، ثم يقال : "انصرف إلى الشيء" ، بمعنى : أقبل إليه منصرفا عن غيره . وكذلك يقال : "وليت عنه " ، إذا أدبرت عنه . ثم يقال : "وليت إليه" ، بمعنى أقبلت إليه موليا عن غيره . [ ص: 195 ]
والفعل - أعني "التولية" - في قوله : "هو موليها " لل "كل" . و"هو " التي مع "موليها" ، هو "الكل" ، وحدت للفظ "الكل" .
فمعنى الكلام إذا : ولكل أهل ملة وجهة ، الكل منهم مولوها وجوههم .
وقد روي عن ابن عباس وغيره أنهم قرأوها : "هو مولاها " ، بمعنى أنه موجه نحوها . ويكون "الكل " حينئذ غير مسمى فاعله ، ولو سمي فاعله ، لكان الكلام : ولكل ذي ملة وجهة ، الله موليه إياها ، بمعنى : موجهه إليها .
وقد ذكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك : "ولكل وجهة" بترك التنوين والإضافة . وذلك لحن ، ولا تجوز القراءة به . لأن ذلك - إذا قرئ كذلك - كان الخبر غير تام ، وكان كلاما لا معنى له . وذلك غير جائز أن يكون من الله جل ثناؤه .
والصواب عندنا من القراءة في ذلك : " ولكل وجهة هو موليها " ، بمعنى : ولكل وجهة وقبلة ، ذلك الكل مول وجهه نحوها . لإجماع الحجة من القراء على قراءة ذلك كذلك ، وتصويبها إياها ، وشذوذ من خالف ذلك إلى غيره . وما جاء به النقل مستفيضا فحجة ، وما انفرد به من كان جائزا عليه السهو والغلط ، فغير جائز الاعتراض به على الحجة .
[ ص: 196 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فاستبقوا الخيرات )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فاستبقوا" ، فبادروا وسارعوا ، من "الاستباق" ، وهو المبادرة والإسراع ، كما : -
2288 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "فاستبقوا الخيرات " ، يقول : فسارعوا في الخيرات .
وإنما يعني بقوله : "فاستبقوا الخيرات " ، أي : قد بينت لكم أيها المؤمنون الحق ، وهديتكم للقبلة التي ضلت عنها اليهود والنصارى وسائر أهل الملل غيركم ، فبادروا بالأعمال الصالحة ، شكرا لربكم ، وتزودوا في دنياكم لآخرتكم ، فإني قد بينت لكم سبل النجاة ، فلا عذر لكم في التفريط ، وحافظوا على قبلتكم ، فلا تضيعوها كما ضيعتها الأمم قبلكم ، فتضلوا كما ضلت ؛ كالذي : -
2289 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "فاستبقوا الخيرات" ، يقول : لا تغلبن على قبلتكم .
2290 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "فاستبقوا الخيرات " قال : الأعمال الصالحة . [ ص: 197 ]
القول في تأويل قوله تعالى ( أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ( 148 ) )
قال أبو جعفر : ومعنى قوله : "أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا " ، في أي مكان وبقعة تهلكون فيه ، يأت بكم الله جميعا يوم القيامة ، إن الله على كل شيء قدير ، كما : -
2291 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا" ، يقول : أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا يوم القيامة .
2291 م - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا " ، يعني : يوم القيامة .
قال أبو جعفر : وإنما حض الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية على طاعته والتزود في الدنيا للآخرة ، فقال جل ثناؤه لهم : استبقوا أيها المؤمنون إلى العمل بطاعة ربكم ، ولزوم ما هداكم له من قبلة إبراهيم خليله وشرائع دينه ، فإن الله تعالى ذكره يأتي بكم وبمن خالف قبلتكم ودينكم وشريعتكم جميعا يوم القيامة ، من حيث كنتم من بقاع الأرض ، حتى يوفي المحسن منكم جزاءه بإحسانه ، والمسيء عقابه بإساءته ، أو يتفضل فيصفح .
وأما قوله : "إن الله على كل شيء قدير" ، فإنه تعالى ذكره يعني : إن الله تعالى على جمعكم - بعد مماتكم - من قبوركم إليه ، من حيث كنتم وكانت قبوركم وعلى غير ذلك مما يشاء ، قدير . فبادروا خروج أنفسكم بالصالحات من الأعمال قبل مماتكم ليوم بعثكم وحشركم .
[ ص: 198 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ( 149 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "ومن حيث خرجت " ، ومن أي موضع خرجت إلى أي موضع وجهت ، فول يا محمد وجهك - يقول : حول وجهك . وقد دللنا على أن "التولية " في هذا الموضع شطر المسجد الحرام ، إنما هي : الإقبال بالوجه نحوه . وقد بينا معنى "الشطر" فيما مضى .
وأما قوله : "وإنه للحق من ربك" ، فإنه يعني تعالى ذكره : وإن التوجه شطره للحق الذي لا شك فيه من عند ربك ، فحافظوا عليه ، وأطيعوا الله في توجهكم قبله .
وأما قوله : "وما الله بغافل عما تعملون " ، فإنه يقول : فإن الله تعالى ذكره ليس بساه عن أعمالكم ، ولا بغافل عنها ، ولكنه محصيها لكم ، حتى يجازيكم بها يوم القيامة .
[ ص: 199 ]
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره )
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام من أي مكان وبقعة شخصت فخرجت يا محمد ، فول وجهك تلقاء المسجد الحرام ، وهو شطره .
ويعني بقوله : "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم " ، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله ، فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه وقبله وقصده .
القول في تأويل قوله تعالى ( لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني )
قال أبو جعفر : فقال جماعة من أهل التأويل : عنى الله تعالى ب "الناس" في قوله : "لئلا يكون للناس" ، أهل الكتاب .
ذكر من قال ذلك :
2292 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة" ، يعني بذلك أهل الكتاب . قالوا - حين صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة البيت الحرام - : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(201)
الحلقة (215)
صــ 200إلى صــ 207
2293 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ ص: 200 ] عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة " ، يعني بذلك أهل الكتاب ، قالوا - حين صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة - : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!
فإن قال قائل : فأية حجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟
قيل : قد ذكرنا فيما مضى ما روي في ذلك . قيل : إنهم كانوا يقولون : ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! وقولهم : يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا! فهي الحجة التي كانوا يحتجون بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، على وجه الخصومة منهم لهم ، والتمويه منهم بها على الجهال وأهل الغباء من المشركين .
وقد بينا فيما مضى أن معنى حجاج القوم إياه ، الذي ذكره الله تعالى ذكره في كتابه ، إنما هي الخصومات والجدال . فقطع الله جل ثناؤه ذلك من حجتهم ، وحسمه بتحويل قبلة نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، من قبلة اليهود إلى قبلة خليله إبراهيم عليه السلام . وذلك هو معنى قول الله جل ثناؤه : "لئلا يكون للناس عليكم حجة " ، يعني ب "الناس " ، الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصفت .
وأما قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، فإنهم مشركو العرب من قريش ، فيما تأوله أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2294 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "إلا الذين ظلموا منهم " ، قوم محمد صلى الله عليه وسلم . [ ص: 201 ]
2295 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هم المشركون من أهل مكة .
2296 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "إلا الذين ظلموا منهم " ، يعني مشركي قريش .
2297 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، وابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " قال : هم مشركو العرب .
2298 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، و"الذين ظلموا " : مشركو قريش .
2299 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال عطاء : هم مشركو قريش - قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول مثل قول عطاء .
فإن قال قائل : وأية حجة كانت لمشركي قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة ؟ وهل يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين - فيما أمرهم الله به أو نهاهم عنه - حجة ؟
قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت وذهبت إليه . وإنما "الحجة " في هذا الموضع ، الخصومة والجدال . ومعنى الكلام : لئلا يكون لأحد من الناس عليكم خصومة ودعوى باطل غير مشركي قريش ، فإن لهم عليكم دعوى باطلا وخصومة بغير حق ، بقيلهم لكم : "رجع محمد إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى [ ص: 202 ] ديننا " . فذلك من قولهم وأمانيهم الباطلة ، هي "الحجة " التي كانت لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره "الذين ظلموا " من قريش من سائر الناس غيرهم ، إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم التي وجههم إليها حجة .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2300 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ، قوم محمد صلى الله عليه وسلم . قال مجاهد : يقول : حجتهم ، قولهم : قد راجعت قبلتنا!
2301 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال : قولهم : قد رجعت إلى قبلتنا!
2302 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، عن قتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ، قالا : هم مشركو العرب ، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة : قد رجع إلى قبلتكم ، فيوشك أن يرجع إلى دينكم! قال الله عز وجل : "فلا تخشوهم واخشوني " .
2303 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، و"الذين ظلموا " : مشركو قريش . يقول : إنهم سيحتجون عليكم بذلك ، فكانت حجتهم على نبي الله صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أنهم قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا! فأنزل الله [ ص: 203 ] تعالى ذكره في ذلك كله .
2304 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
2305 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي فيما يذكر ، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لما صرف نبي الله صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة ، بعد صلاته إلى بيت المقدس ، قال المشركون من أهل مكة : تحير على محمد دينه! فتوجه بقبلته إليكم ، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلا ويوشك أن يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه فيهم : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني " .
2306 - حدثنا القاسم قال : حدثني الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : قوله : " لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " قال : قالت قريش - لما رجع إلى الكعبة وأمر بها : - ما كان يستغني عنا! قد استقبل قبلتنا! فهي حجتهم ، وهم "الذين ظلموا" - قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول مثل قول عطاء ، فقال مجاهد : حجتهم ، قولهم : رجعت إلى قبلتنا! [ ص: 204 ]
فقد أبان تأويل من ذكرنا تأويله من أهل التأويل قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " ، عن صحة ما قلنا في تأويله ، وأنه استثناء على معنى الاستثناء المعروف ، الذي ثبت فيهم لما بعد حرف الاستثناء ما كان منفيا عما قبله . كما قول القائل "ما سار من الناس أحد إلا أخوك " ، إثبات للأخ من السير ما هو منفي عن كل أحد من الناس . فكذلك قوله : "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ، نفى عن أن يكون لأحد خصومة وجدل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوى باطل عليه وعلى أصحابه ، بسبب توجههم في صلاتهم قبل الكعبة - إلا الذين ظلموا أنفسهم من قريش ، فإن لهم قبلهم خصومة ودعوى باطلا بأن يقولوا : إنما توجهتم إلينا وإلى قبلتنا ، لأنا كنا أهدى منكم سبيلا وأنكم كنتم بتوجهكم نحو بيت المقدس على ضلال وباطل .
وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل ، فبين خطأ قول من زعم أن معنى قوله : "إلا الذين ظلموا منهم " : ولا الذين ظلموا منهم ، وأن "إلا " بمعنى "الواو " . لأن ذلك لو كان معناه ، لكان النفي الأول عن جميع الناس - أن يكون لهم حجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحولهم نحو الكعبة بوجوههم - مبينا عن المعنى المراد ، ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك : "إلا الذين ظلموا منهم " إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يضاف إليه أو يوصف به .
هذا مع خروج معنى الكلام إذا وجهت "إلا " إلى معنى "الواو " ، ومعنى [ ص: 205 ] العطف من كلام العرب . وذلك أنه غير موجودة "إلا " في شيء من كلامها بمعنى "الواو " ، إلا مع استثناء سابق قد تقدمها . كقول القائل : "سار القوم إلا عمرا إلا أخاك " ، بمعنى : إلا عمرا وأخاك ، فتكون "إلا " حينئذ مؤدية عما تؤدي عنه "الواو " ، لتعلق "إلا " الثانية ب "إلا " الأولى . ويجمع فيها أيضا بين "إلا " و"الواو " فيقال : "سار القوم إلا عمرا وإلا أخاك " ، فتحذف إحداهما ، فتنوب الأخرى عنها ، فيقال : "سار القوم إلا عمرا وأخاك - أو إلا عمرا إلا أخاك " ، لما وصفنا قبل .
وإذ كان ذلك كذلك ، فغير جائز لمدع من الناس أن يدعي أن "إلا " في هذا الموضع بمعنى "الواو " التي تأتي بمعنى العطف .
وواضح فساد قول من زعم أن معنى ذلك : إلا الذين ظلموا منهم ، فإنهم لا حجة لهم ، فلا تخشوهم . كقول القائل في الكلام : "الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم [ لك ] المعتدي عليك " ، فإن ذلك لا يعتد بعداونه ولا بتركه الحمد ، لموضع العداوة . وكذلك الظالم لا حجة له ، وقد سمي ظالما لإجماع جميع أهل التأويل على تخطئة ما ادعى من التأويل في ذلك . وكفى شاهدا على خطأ مقالته إجماعهم على تخطئتها .
وظاهر بطول قول من زعم : أن "الذين ظلموا " هاهنا ، ناس من العرب [ ص: 206 ] كانوا يهودا ونصارى ، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأما سائر العرب ، فلم تكن لهم حجة ، وكانت حجة من يحتج منكسرة . لأنك تقول لمن تريد أن تكسر عليه حجته : "إن لك علي حجة ولكنها منكسرة ، وإنك لتحتج بلا حجة ، وحجتك ضعيفة " . ووجه معنى : "إلا الذين ظلموا منهم " إلى معنى : إلا الذين ظلموا منهم ، من أهل الكتاب ، فإن لهم عليكم حجة واهية أو حجة ضعيفة .
ووهي قول من قال : "إلا " في هذا الموضع بمعنى "لكن " .
وضعف قول من زعم أنه ابتداء بمعنى : إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم .
لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأن ذلك من الله عز وجل خبر عن الذين ظلموا منهم : أنهم يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما قد ذكرنا ، ولم يقصد في ذلك إلى الخبر عن صفة حجتهم بالضعف ولا بالقوة - وإن كانت ضعيفة لأنها باطلة - وإنما قصد فيه الإثبات للذين ظلموا ، ما قد نفى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة .
2307 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قال : قال الربيع : إن يهوديا خاصم أبا العالية فقال : إن موسى عليه السلام كان يصلي إلى صخرة بيت المقدس . فقال أبو العالية : كان يصلي عند الصخرة إلى البيت الحرام . قال : قال : فبيني وبينك مسجد صالح ، فإنه نحته من الجبل . قال أبو العالية : قد صليت فيه وقبلته إلى البيت الحرام . قال الربيع : وأخبرني أبو العالية أنه مر على مسجد ذي القرنين ، وقبلته إلى الكعبة .
وأما قوله : "فلا تخشوهم واخشوني " ، يعني : فلا تخشوا هؤلاء الذين وصفت لكم أمرهم من الظلمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون في أن محمدا صلى [ ص: 207 ] الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى ديننا! - أو أن يقدروا لكم على ضر في دينكم أو صدكم عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق ، ولكن اخشوني ، فخافوا عقابي ، في خلافكم أمري إن خالفتموه .
وذلك من الله جل ثناؤه تقدم إلى عباده المؤمنين ، بالحض على لزوم قبلتهم والصلاة إليها ، وبالنهي عن التوجه إلى غيرها . يقول جل ثناؤه : واخشوني أيها المؤمنون ، في ترك طاعتي فيما أمرتكم به من الصلاة شطر المسجد الحرام .
وقد حكي عن السدي في ذلك ما : -
2308 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "فلا تخشوهم واخشوني " ، يقول : لا تخشوا أن أردكم في دينهم
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(202)
الحلقة (216)
صــ 208إلى صــ 215
القول في تأويل قوله تعالى ( ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ( 150 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "ولأتم نعمتي عليكم " ، ومن حيث خرجت من البلاد والأرض ، وإلى أي بقعة شخصت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث كنت ، يا محمد والمؤمنون ، فولوا وجوهكم في صلاتكم شطره ، [ ص: 208 ] واتخذوه قبلة لكم ، كيلا يكون لأحد من الناس - سوى مشركي قريش - حجة ، ولأتم بذلك - من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السلام ، الذي جعلته إماما للناس - نعمتي ، فأكمل لكم به فضلي عليكم ، وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية المسلمة التي وصيت بها نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء غيرهم . وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أصحابه .
وقوله : "ولعلكم تهتدون " ، يعني : وكي ترشدوا للصواب من القبلة . و "لعلكم " عطف على قوله : "ولأتم نعمتي عليكم " ، "ولأتم نعمتي عليكم " عطف على قوله : "لئلا يكون " .
القول في تأويل قوله تعالى ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ( 151 ) )
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "كما أرسلنا فيكم رسولا " ، ولأتم نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية ، وأهديكم لدين خليلي إبراهيم عليه السلام ، فأجعل لكم دعوته التي دعاني بها ومسألته التي سألنيها فقال : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ) [ سورة البقرة : 128 ] ، كما جعلت لكم دعوته التي دعاني بها ، ومسألته التي سألنيها فقال : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) [ ص: 209 ] [ سورة البقرة : 129 ] ، فابتعثت منكم رسولي الذي سألني إبراهيم خليلي وابنه إسماعيل ، أن أبعثه من ذريتهما .
ف "كما " - إذ كان ذلك معنى الكلام - صلة لقول الله عز وجل : "ولأتم نعمتي عليكم " . ولا يكون قوله : "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " ، متعلقا بقوله : "فاذكروني أذكركم " .
وقد قال قوم : إن معنى ذلك : فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم . وزعموا أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير ، فأغرقوا النزع ، وبعدوا من الإصابة ، وحملوا الكلام على غير معناه المعروف ، وسوى وجهه المفهوم .
وذلك أن الجاري من الكلام على ألسن العرب ، المفهوم في خطابهم بينهم - إذا قال بعضهم لبعض : "كما أحسنت إليك يا فلان فأحسن " - أن لا يشترطوا للآخر ، لأن "الكاف " في "كما " شرط معناه : افعل كما فعلت . ففي مجيء جواب : "اذكروني " بعده ، وهو قوله : "أذكركم " ، أوضح دليل على أن قوله : "كما أرسلنا " من صلة الفعل الذي قبله ، وأن قوله : "اذكروني أذكركم " خبر مبتدأ منقطع عن الأول ، وأنه من سبب قوله : "كما أرسلنا فيكم " بمعزل .
وقد زعم بعض النحويين أن قوله : "فاذكروني " - إذا جعل قوله : "كما أرسلنا فيكم " جوابا له ، مع قوله : " أذكركم " - نظير الجزاء الذي يجاب بجوابين ، كقول القائل : إذا أتاك فلان فأته ترضه " ، فيصير قوله : "فأته " و "ترضه " جوابين لقوله : "إذا أتاك " ، وكقوله : "إن تأتني أحسن إليك أكرمك " . [ ص: 210 ]
وهذا القول وإن كان مذهبا من المذاهب ، فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب . والذي هو أولى بكتاب الله عز وجل أن يوجه إليه من اللغات ، الأفصح الأعرف من كلام العرب ، دون الأنكر الأجهل من منطقها . هذا ، مع بعد وجهه من المفهوم في التأويل .
ذكر من قال : إن قوله : "كما أرسلنا " ، جواب قوله : "فاذكروني " .
2309 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى قال : سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله عز وجل : " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " ، كما فعلت فاذكروني .
2310 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
قوله : " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " ، فإنه يعني بذلك العرب ، قال لهم جل ثناؤه : الزموا أيها العرب طاعتي ، وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجه إليها ، لتنقطع حجة اليهود عنكم ، فلا تكون لهم عليكم حجة ، ولأتم نعمتي عليكم ، وتهتدوا ، كما ابتدأتكم بنعمتي ، فأرسلت فيكم رسولا منكم . وذلك الرسول الذي أرسله إليهم منهم : محمد صلى الله عليه وسلم ، كما : -
2311 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم " ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : "يتلو عليكم آياتنا " ، فإنه يعني آيات القرآن ، وبقوله : "ويزكيكم " ويطهركم من دنس الذنوب ، و "يعلمكم الكتاب" وهو الفرقان ، يعني : أنه [ ص: 211 ] يعلمهم أحكامه . ويعني : ب "الحكمة " السنن والفقه في الدين . وقد بينا جميع ذلك فيما مضى قبل بشواهده .
وأما قوله : "ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون " ، فإنه يعني : ويعلمكم من أخبار الأنبياء ، وقصص الأمم الخالية ، والخبر عما هو حادث وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها ، فعلموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخبرهم جل ثناؤه أن ذلك كله إنما يدركونه برسوله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى ( فاذكروني أذكركم )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : فاذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفي ما أنهاكم عنه ، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم ، كما : -
2312 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير : "فاذكروني أذكركم " قال : اذكروني بطاعتي ، أذكركم بمغفرتي .
وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح .
ذكر من قال ذلك :
1313 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون " ، إن الله ذاكر من ذكره ، وزائد من شكره ، ومعذب من كفره . [ ص: 212 ]
2314 - حدثني موسى قال : حدثني عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "اذكروني أذكركم " قال : ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله . لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمة ، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب .
القول في تأويل قوله تعالى ( واشكروا لي ولا تكفرون ( 152 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : اشكروا لي أيها المؤمنون فيما أنعمت عليكم من الإسلام ، والهداية للدين الذي شرعته لأنبيائي وأصفيائي ، "ولا تكفرون " ، يقول : ولا تجحدوا إحساني إليكم ، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم ، ولكن اشكروا لي عليها ، وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم ، وأهديكم لما هديت له من رضيت عنه من عبادي ، فإني وعدت خلقي أن من شكر لي زدته ، ومن كفرني حرمته وسلبته ما أعطيته .
والعرب تقول : "نصحت لك وشكرت لك " ، ولا تكاد تقول : "نصحتك " ، وربما قالت : "شكرتك ونصحتك " ، من ذلك قول الشاعر :
هم جمعوا بؤسى ونعمى عليكم فهلا شكرت القوم إذ لم تقاتل
وقال النابغة في "نصحتك " :
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا رسولي ولم تنجح لديهم وسائلي
[ ص: 213 ]
وقد دللنا على أن معنى "الشكر " ، الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة ، وأن معنى "الكفر" تغطية الشيء ، فيما مضى قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا .
القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ( 153 ) )
قال أبو جعفر : وهذه الآية حض من الله تعالى ذكره على طاعته ، واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال ، فقال : " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " على القيام بطاعتي ، وأداء فرائضي في ناسخ أحكامي ، والانصراف عما أنسخه منها إلى الذي أحدثه لكم من فرائضي ، وأنقلكم إليه من أحكامي ، والتسليم لأمري فيما آمركم به في حين إلزامكم حكمه ، والتحول عنه بعد تحويلي إياكم عنه - وإن لحقكم في ذلك مكروه من مقالة أعدائكم من الكفار بقذفهم لكم الباطل ، أو مشقة على أبدانكم في قيامكم به ، أو نقص في أموالكم - وعلى جهاد أعدائكم وحربهم في سبيلي ، بالصبر منكم لي على مكروه ذلك ومشقته عليكم ، واحتمال عنائه وثقله ، ثم بالفزع منكم فيما ينوبكم من مفظعات الأمور إلى الصلاة لي ، فإنكم بالصبر على المكاره تدركون مرضاتي ، وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قبلي ، وتدركون حاجاتكم عندي ، فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصي ، أنصرهم وأرعاهم وأكلؤهم ، حتى يظفروا بما طلبوا وأملوا قبلي . [ ص: 214 ]
وقد بينت معنى "الصبر " و "الصلاة " فيما مضى قبل ، فكرهنا إعادته ، كما :
2315 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : "واستعينوا بالصبر والصلاة " ، يقول : استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله ، واعلموا أنهما من طاعة الله .
2316 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " ، اعلموا أنهما عون على طاعة الله .
وأما قوله : "إن الله مع الصابرين " ، فإن تأويله : فإن الله ناصره وظهيره وراض بفعله ، كقول القائل : "افعل يا فلان كذا وأنا معك " ، يعني : إني ناصرك على فعلك ذلك ومعينك عليه .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ( 154 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر على طاعتي في جهاد عدوكم ، وترك معاصي ، وأداء سائر فرائضي عليكم ، ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله : هو ميت ، فإن الميت من خلقي من سلبته حياته وأعدمته حواسه ، فلا يلتذ لذة ولا يدرك نعيما ، فإن من قتل منكم ومن سائر خلقي في سبيلي ، أحياء عندي ، في حياة ونعيم ، وعيش هني ، ورزق سني ، فرحين [ ص: 215 ] بما آتيتهم من فضلي ، وحبوتهم به من كرامتي ، كما : -
2317 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "بل أحياء " عند ربهم ، يرزقون من ثمر الجنة ، ويجدون ريحها ، وليسوا فيها .
2318 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
2319 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " ، كنا نحدث أن أرواح الشهداء تعارف في طير بيض يأكلن من ثمار الجنة ، وأن مساكنهم سدرة المنتهى ، وأن للمجاهد في سبيل الله ثلاث خصال من الخير : من قتل في سبيل الله منهم صار حيا مرزوقا ، ومن غلب آتاه الله أجرا عظيما ، ومن مات رزقه الله رزقا حسنا .
2320 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " قال : أرواح الشهداء في صور طير بيض .
2321 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، في صور طير خضر يطيرون في الجنه حيث شاءوا منها ، يأكلون من حيث شاءوا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(203)
الحلقة (217)
صــ 216إلى صــ 223
2322 - حدثني المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا عثمان بن غياث . قال : سمعت عكرمة يقول في قوله : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " قال : أرواح الشهداء في طير خضر في الجنة . [ ص: 216 ]
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وما في قوله : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، من خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعم به غيره ؟ وقد علمت تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم ، فأخبر عن المؤمنين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبواب إلى الجنة يشمون منها روحها ، ويستعجلون الله قيام الساعة ، ليصيروا إلى مساكنهم منها ، ويجمع بينهم وبين أهاليهم وأولادهم فيها ، وعن الكافرين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبواب إلى النار ينظرون إليها ، ويصيبهم من نتنها ومكروهها ، ويسلط عليهم فيها إلى قيام الساعة من يقمعهم فيها ، ويسألون الله فيها تأخير قيام الساعة ، حذارا من المصير إلى ما أعد الله لهم فيها ، مع أشباه ذلك من الأخبار . وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما الذي خص به القتيل في سبيل الله ، مما لم يعم به سائر البشر غيره من الحياة ، وسائر الكفار والمؤمنين غيره أحياء في البرزخ ، أما الكفار فمعذبون فيه بالمعيشة الضنك ، وأما المؤمنون فمنعمون بالروح والريحان ونسيم الجنان ؟
قيل : إن الذي خص الله به الشهداء في ذلك ، وأفاد المؤمنين بخبره عنهم تعالى ذكره ، إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الجنة ومطاعمها في برزخهم قبل بعثهم ، ومنعمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر ، من لذيذ مطاعمها الذي لم يطعمها الله أحدا غيرهم في برزخه قبل بعثه . فذلك هو الفضيلة التي فضلهم بها وخصهم بها من غيرهم ، والفائدة التي أفاد المؤمنين بالخبر عنهم ، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ) [ سورة آل عمران : 169 - 170 ] ، وبمثل الذي قلنا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2323 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وعبدة [ ص: 217 ] بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن الحارث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشهداء على بارق ، نهر بباب الجنة ، في قبة خضراء - وقال عبدة : في روضة خضراء - يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا .
2324 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح عن الإفريقي ، عن ابن بشار السلمي - أو أبي بشار ، شك أبو جعفر - قال : أرواح الشهداء في [ ص: 218 ] قباب بيض من قباب الجنة ، في كل قبة زوجتان ، رزقهم في كل يوم طلعت فيه الشمس ثور وحوت ، فأما الثور ، ففيه طعم كل ثمرة في الجنة ، وأما الحوت ففيه طعم كل شراب في الجنة .
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فإن الخبر عما ذكرت أن الله تعالى ذكره أفاد المؤمنين بخبره عن الشهداء من النعمة التي خصهم بها في البرزخ غير موجود في قوله : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، وإنما فيه الخبر عن حالهم ، أموات هم أم أحياء .
قيل : إن المقصود بذكر الخبر عن حياتهم ، إنما هو الخبر عما هم فيه من النعمة ، ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عباده عما خص به الشهداء في قوله : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ سورة آل عمران : 169 ] ، وعلموا حالهم بخبره ذلك ، ثم كان المراد من الله تعالى ذكره في قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، نهي خلقه عن أن يقولوا للشهداء أنهم موتى ترك إعادة ذكر ما قد بين لهم من خبرهم .
وأما قوله : "ولكن لا تشعرون" ، فإنه يعني به : ولكنكم لا ترونهم فتعلموا أنهم أحياء ، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به .
وإنما رفع قوله : "أموات " بإضمار مكني عن أسماء "من يقتل في سبيل الله " ، ومعنى ذلك : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات . ولا يجوز النصب في [ ص: 219 ] "الأموات " ، لأن القول لا يعمل فيهم ، وكذلك قوله : "بل أحياء " ، رفع ، بمعنى : هم أحياء .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ( 155 ) )
قال أبو جعفر : وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور ، ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، وكما امتحن أصفياءه قبلهم . ووعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) [ سورة البقرة : 214 ] ، وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وغيره يقول .
2325 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع " ، ونحو هذا ، قال : أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء ، وأنه مبتليهم فيها ، وأمرهم بالصبر وبشرهم فقال : "وبشر الصابرين " ، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصفوته ، لتطيب أنفسهم فقال : ( مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ) . [ ص: 220 ]
ومعنى قوله : "ولنبلونكم " ، ولنختبرنكم . وقد أتينا على البيان عن أن معنى "الابتلاء " الاختبار ، فيما مضى قبل .
وقوله : "بشيء من الخوف " ، يعني من الخوف من العدو ، وبالجوع - وهو القحط - يقول : لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم وبسنة تصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة ، وتتعذر المطالب عليكم ، فتنقص لذلك أموالكم ، وحروب تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار ، فينقص لها عددكم ، وموت ذراريكم وأولادكم ، وجدوب تحدث ، فتنقص لها ثماركم . كل ذلك امتحان مني لكم ، واختبار مني لكم ، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه ، ويعرف أهل البصائر في دينهم منكم ، من أهل النفاق فيه والشك والارتياب .
كل ذلك خطاب منه لأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، كما :
2326 - حدثني هارون بن إدريس الكوفي الأصم قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن عبد الملك ، عن عطاء في قوله : "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع " قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وإنما قال تعالى ذكره : "بشيء من الخوف " ولم يقل بأشياء ، لاختلاف أنواع ما أعلم عباده أنه ممتحنهم به . فلما كان ذلك مختلفا - وكانت "من " تدل على أن كل نوع منها مضمر "شيء " ، فإن معنى ذلك : ولنبلونكم بشيء من الخوف ، وبشيء من الجوع ، وبشيء من نقص الأموال - اكتفى بدلالة ذكر "الشيء " في أوله ، من إعادته مع كل نوع منها .
ففعل تعالى ذكره كل ذلك بهم ، وامتحنهم بضروب المحن ، كما : -
2327 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ ص: 221 ] عن أبيه ، عن الربيع في قوله ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات قال : قد كان ذلك ، وسيكون ما هو أشد من ذلك .
قال الله عند ذلك : " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " .
ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، بشر الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به ، والحافظين أنفسهم عن التقدم على نهيي عما أنهاهم عنه ، والآخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي ، مع ابتلائي إياهم بما أبتليهم به ، القائلين إذا أصابتهم مصيبة : "إنا لله وإنا إليه راجعون " . فأمره الله تعالى ذكره بأن يخص - بالبشارة على ما يمتحنهم به من الشدائد - أهل الصبر ، الذين وصف الله صفتهم .
وأصل "التبشير " : إخبار الرجل الرجل الخبر ، يسره أو يسوءه ، لم يسبقه به إلى غيره
القول في تأويل قوله تعالى ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ( 156 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : وبشر ، يا محمد ، الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمني ، فيقرون بعبوديتي ، ويوحدونني بالربوبية ، [ ص: 222 ] ويصدقون بالمعاد والرجوع إلي فيستسلمون لقضائي ، ويرجون ثوابي ، ويخافون عقابي ، ويقولون - عند امتحاني إياهم ببعض محني ، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أن أبتليهم به من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا ممتحنهم بها - إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياء ، ونحن عبيده وإنا إليه بعد مماتنا صائرون - تسليما لقضائي ورضا بأحكامي .
القول في تأويل قوله تعالى ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ( 157 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "أولئك " ، هؤلاء الصابرون ، الذين وصفهم ونعتهم - "عليهم " ، يعني : لهم ، "صلوات " ، يعني : مغفرة . "وصلوات الله " على عباده ، غفرانه لعباده ، كالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
2328 - "اللهم صل على آل أبي أوفى " .
يعني : اغفر لهم . وقد بينا "الصلاة " وما أصلها في غير هذا الموضع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(204)
الحلقة (218)
صــ 224إلى صــ 231
وقوله : "ورحمة " ، يعني : ولهم مع المغفرة ، التي بها صفح عن ذنوبهم وتغمدها ، رحمة من الله ورأفة . [ ص: 223 ]
ثم أخبر تعالى ذكره - مع الذي ذكر أنه معطيهم على اصطبارهم على محنه ، تسليما منهم لقضائه ، من المغفرة والرحمة - أنهم هم المهتدون ، المصيبون طريق الحق ، والقائلون ما يرضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب .
وقد بينا معنى "الاهتداء " ، فيما مضى ، فإنه بمعنى الرشد للصواب .
وبمعنى ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2329 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " قال : أخبر الله أن المؤمن إذا سلم الأمر إلى الله ، ورجع واسترجع عند المصيبة ، كتب له ثلاث خصال من الخير : الصلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبيل الهدى . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه .
2330 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، [ ص: 224 ] عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " ، يقول : الصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا .
2331 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان العصفري ، عن سعيد بن جبير قال : ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة "الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " ، ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام ، ألم تسمع إلى قوله : ( يا أسفى على يوسف ) [ سورة يوسف : 84 ] .
القول في تأويل قوله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله )
قال أبو جعفر : "والصفا " جمع "صفاة " ، وهي الصخرة الملساء ، ومنه قول الطرماح :
أبى لي ذو القوى والطول ألا يؤبس حافر أبدا صفاتي
[ ص: 225 ]
وقد قالوا إن "الصفا " واحد ، وأنه يثنى "صفوان " ، ويجمع "أصفاء " و"صفيا ، وصفيا " ، واستشهدوا على ذلك بقول الراجز
كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي
وقالوا : هو نظير "عصا وعصي [ وعصي ، وأعصاء ] ، ورحا ورحي [ ورحي ] وأرحاء " .
وأما "المروة " ، فإنها الحصاة الصغيرة ، يجمع قليلها "مروات " ، وكثيرها "المرو " ، مثل "تمرة وتمرات وتمر " ، قال الأعشى ميمون بن قيس : [ ص: 226 ]
وترى بالأرض خفا زائلا فإذا ما صادف المرو رضح
يعني ب "المرو " : الصخر الصغار ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي :
حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشرق كل يوم تقرع
ويقال " المشقر " .
وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله : "إن الصفا والمروة " ، في هذا الموضع : الجبلين المسميين بهذين الاسمين اللذين في حرمه ، دون سائر الصفا والمرو . ولذلك أدخل فيهما "الألف واللام " ، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين ، دون سائر الأصفاء والمرو .
وأما قوله : "من شعائر الله " ، فإنه يعني : من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده معلما ومشعرا يعبدونه عندها ، إما بالدعاء ، وإما بالذكر ، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها . ومنه قول الكميت :
نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بهم يتقرب
[ ص: 227 ]
وكان مجاهد يقول في الشعائر بما : -
2332 - حدثني به محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " قال : من الخبر الذي أخبركم عنه .
2333 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
فكأن مجاهدا كان يرى أن الشعائر ، إنما هو جمع "شعيرة " ، من إشعار الله عباده أمر الصفا والمروة ، وما عليهم في الطواف بهما . فمعناه : إعلامهم ذلك .
وذلك تأويل من المفهوم بعيد . وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحج التي سنها لهم ، وأمر بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، إذ سأله أن يريه مناسك الحج . وذلك وإن كان مخرجه مخرج الخبر ، فإنه مراد به الأمر . لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام ، فقال له : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) [ سورة النحل : 123 ] ، وجعل تعالى ذكره إبراهيم إماما لمن بعده . فإذ كان صحيحا أن الطواف والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مناسك الحج ، فمعلوم أن إبراهيم صلى الله [ ص: 228 ] عليه وسلم قد عمل به وسنه لمن بعده ، وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته باتباعه ، فعليهم العمل بذلك ، على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى ( فمن حج البيت أو اعتمر )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : "فمن حج البيت " ، فمن أتاه عائدا إليه بعد بدء . وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو "حاج إليه " ، ومنه قول الشاعر :
لأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا
[ ص: 229 ]
يعني بقوله : "يحجون " ، يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته . وإنما قيل للحاج "حاج " ، لأنه يأتي البيت قبل التعريف ، ثم يعود إليه لطواف يوم النحر بعد التعريف ، ثم ينصرف عنه إلى منى ، ثم يعود إليه لطواف الصدر . فلتكراره العود إليه مرة بعد أخرى قيل له : "حاج " .
وأما "المعتمر " ، فإنما قيل له : "معتمر " ، لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه . وإنما يعني تعالى ذكره بقوله : "أو اعتمر " ، أو اعتمر البيت ، ويعني ب "الاعتمار " الزيارة . فكل قاصد لشيء فهو له "معتمر " ، ومنه قول العجاج :
لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وضبر
يعني بقوله : "حين اعتمر " ، حين قصده وأمه .
[ ص: 230 ] القول في تأويل قوله تعالى ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، يقول : فلا حرج عليه ولا مأثم في طوافه بهما .
فإن قال قائل : وما وجه هذا الكلام ، وقد قلت لنا ، إن قوله : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، وإن كان ظاهره ظاهر الخبر ، فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما ؟ فكيف يكون أمرا بالطواف ، ثم يقال : لا جناح على من حج البيت أو اعتمر في الطواف بهما ؟ وإنما يوضع الجناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناح والحرج ؟ والأمر بالطواف بهما ، والترخيص في الطواف بهما ، غير جائز اجتماعهما في حال واحدة ؟
قيل : إن ذلك بخلاف ما إليه ذهبت . وإنما معنى ذلك عند أقوام : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عمرة القضية ، تخوف أقوام كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيما منهم لهما ، فقالوا : وكيف نطوف بهما ، وقد علمنا أن تعظيم الأصنام وجميع ما كان يعبد من ذلك من دون الله ، شرك ؟ ففي طوافنا بهذين الحجرين أحرج ذلك ، لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما ، وقد جاء الله بالإسلام اليوم ، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له!
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(205)
الحلقة (219)
صــ 232إلى صــ 239
فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، [ ص: 231 ] يعني : إن الطواف بهما ، فترك ذكر "الطواف بهما " ، اكتفاء بذكرهما عنه . وإذ كان معلوما عند المخاطبين به أن معناه : من معالم الله التي جعلها علما لعباده يعبدونه عندهما بالطواف بينهما ، ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل من الذكر ، "فمن حج البيت أو اعتمر " فلا يتخوفن الطواف بهما ، من أجل ما كان أهل الجاهلية يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما ، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرا ، وأنتم تطوفون بهما إيمانا ، وتصديقا لرسولي ، وطاعة لأمري ، فلا جناح عليكم في الطواف بهما .
و"الجناح " ، الإثم ، كما : -
2334 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، يقول : ليس عليه إثم ، ولكن له أجر .
وبمثل الذي قلنا في ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين .
ذكر الأخبار التي رويت بذلك :
2335 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا داود ، عن الشعبي : أن وثنا كان في الجاهلية على الصفا يسمى "إسافا " ، ووثنا على المروة يسمى "نائلة " ، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين . فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان ، قال المسلمون : إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين ، وليس الطواف بهما من الشعائر! قال : فأنزل الله : إنهما من الشعائر ، "فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " .
2336 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن عامر قال : كان صنم بالصفا يدعى "إسافا " ، ووثن بالمروة يدعى "نائلة " ، [ ص: 232 ] ثم ذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب - وزاد فيه ، قال : فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه ، وأنث المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثا .
2337 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، وذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب عن يزيد ، وزاد فيه - قال : فجعله الله تطوع خير .
2338 - حدثني يعقوب قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : أخبرني عاصم الأحول قال : قلت لأنس بن مالك : أكنتم تكرهون الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية ؟ فقال : نعم كنا نكره الطواف بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية ، حتى نزلت هذه الآية إن الصفا والمروة من شعائر الله
2339 - حدثني علي بن سهل الرملي قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم قال : سألت أنسا عن الصفا والمروة ، فقال : كانتا من مشاعر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما ، فنزلت : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " . [ ص: 233 ]
2340 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثني أبو الحسين المعلم قال : حدثنا شيبان أبو معاوية ، عن جابر الجعفي ، عن عمرو بن حبشي قال : قلت لابن عمر : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قال : انطلق إلى ابن عباس فاسأله ، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم . فأتيته فسألته ، فقال : إنه كان عندهما أصنام ، فلما حرمن أمسكوا عن الطواف بينهما ، حتى أنزلت : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " . [ ص: 234 ]
2341 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، وذلك أن ناسا كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فأخبر الله أنهما من شعائره ، والطواف بينهما أحب إليه ، فمضت السنة بالطواف بينهما .
2342 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قال : زعم أبو مالك ، عن ابن عباس : أنه كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة ، وكانت بينهما آلهة ، فلما جاء الإسلام وظهر ، قال المسلمون : يا رسول الله ، لا نطوف بين الصفا والمروة ، فإنه شرك كنا نفعله في الجاهلية! فأنزل الله : "فلا جناح عليه أن يطوف بهما " . [ ص: 235 ]
2343 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " قال : قالت الأنصار : إن السعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية! فأنزل الله تعالى ذكره : " إن الصفا والمروة من شعائر الله "
2344 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .
2345 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله فلا جناح عليه أن يطوف بهما قال : كان أهل الجاهلية قد وضعوا على كل واحد منهما صنما يعظمونهما ، فلما أسلم المسلمون كرهوا الطواف بالصفا والمروة لمكان الصنمين ، فقال الله تعالى : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، وقرأ : ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) [ سورة الحج : 32 ] ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما .
2346 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عاصم قال : قلت لأنس : الصفا والمروة ، أكنتم تكرهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التي نهيتم عنها ؟ قال : نعم ، حتى نزلت : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " .
2347 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير قال : أخبرنا عاصم قال : سمعت أنس بن مالك يقول : إن الصفا والمروة من مشاعر قريش في الجاهلية ، [ ص: 236 ] فلما كان الإسلام تركناهما .
وقال آخرون : بل أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية ، في سبب قوم كانوا في الجاهلية لا يسعون بينهما ، فلما جاء الإسلام تخوفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوفونه في الجاهلية .
ذكر من قال ذلك :
2348 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " الآية ، فكان حي من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما ، فأخبرهم الله أن الصفا والمروة من شعائر الله ، وكان من سنة إبراهيم وإسماعيل الطواف بينهما .
2349 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة ، فأنزل الله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " .
2350 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب قال : حدثني عروة بن الزبير قال : سألت عائشة فقلت لها : أرأيت قول الله : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ؟ وقلت لعائشة : والله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة ؟ فقالت عائشة : بئس ما قلت يا ابن أختي ، إن هذه الآية لو كانت كما أولتها كانت : لا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، ولكنها إنما أنزلت في الأنصار : كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة ، الطاغية التي كانوا يعبدون بالمشلل ، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بين [ ص: 237 ] الصفا والمروة ، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك - فقالوا : يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة - أنزل الله تعالى ذكره : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " . قالت عائشة : ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما . [ ص: 238 ]
2351 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان رجال من الأنصار ممن يهل لمناة في الجاهلية - و "مناة " صنم بين مكة والمدينة - قالوا : يا نبي الله ، إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة ، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" . قال عروة : فقلت لعائشة : ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة ! قال الله : "فلا جناح عليه " . قالت : يا ابن أختي ، ألا ترى أنه يقول : "إن الصفا والمروة من شعائر الله "! قال الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال : هذا العلم! قال أبو بكر : ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون : لما أنزل الله الطواف بالبيت ولم ينزل الطواف بين الصفا والمروة ، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة ، وإن الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة ، فهل علينا من حرج أن لا نطوف بهما ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " الآية كلها ، قال أبو بكر : فأسمع أن هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما ، في من طاف وفي من لم يطف . [ ص: 239 ]
2352 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة ، فأنزل الله : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله ، كما جعل الطواف بالبيت من شعائره .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(206)
الحلقة (220)
صــ 240إلى صــ 247
فأما قوله : " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، فجائز أن يكون قيل لكلا الفريقين اللذين تخوف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين اللذين ذكرهما الشعبي ، وبعضهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية ، على ما روي عن عائشة . [ ص: 240 ]
وأي الأمرين كان من ذلك ، فليس في قول الله تعالى ذكره : " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، الآية ، دلالة على أنه عنى به وضع الحرج عمن طاف بهما ، من أجل أن الطواف بهما كان غير جائز بحظر الله ذلك ، ثم جعل الطواف بهما رخصة ، لإجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يحظر ذلك في وقت ، ثم رخص فيه بقوله : " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " .
وإنما الاختلاف في ذلك بين أهل العلم على أوجه . فرأى بعضهم أن تارك الطواف بينهما تارك من مناسك حجه ما لا يجزيه منه غير قضائه بعينه ، كما لا يجزي تارك الطواف - الذي هو طواف الإفاضة - إلا قضاؤه بعينه . وقالوا : هما طوافان : أمر الله بأحدهما بالبيت ، والآخر بين الصفا والمروة .
ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يجزيه من تركه فدية ، ورأوا أن حكم الطواف بهما حكم رمي بعض الجمرات ، والوقوف بالمشعر ، وطواف الصدر وما أشبه ذلك ، مما يجزي تاركه من تركه فدية ، ولا يلزمه العود لقضائه بعينه .
ورأى آخرون أن الطواف بهما تطوع ، إن فعله صاحبه كان محسنا ، وإن تركه تارك لم يلزمه بتركه شيء .
ذكر من قال : إن السعي بين الصفا والمروة واجب ولا يجزي منه فدية ، ومن تركه فعليه العود . [ ص: 241 ]
2353 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لعمري ما حج من لم يسع بين الصفا والمروة ، لأن الله قال : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " .
2353 م - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال مالك بن أنس : من نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يستبعد من مكة ، فليرجع فليسع ، وإن كان قد أصاب النساء فعليه العمرة والهدي .
وكان الشافعي يقول : على من ترك السعي بين الصفا والمروة حتى رجع إلى بلده ، العود إلى مكة حتى يطوف بينهما ، لا يجزيه غير ذلك .
2354 - حدثنا بذلك عنه الربيع .
ذكر من قال : يجزي منه دم ، وليس عليه عود لقضائه .
قال الثوري بما : -
2355 - حدثني به علي بن سهل ، عن زيد بن أبي الزرقاء ، عنه ، وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إن عاد تارك الطواف بينهما لقضائه فحسن ، وإن لم يعد فعليه دم .
ذكر من قال : الطواف بينهما تطوع ، ولا شيء على من تركه ، ومن كان يقرأ : ( فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ) .
2356 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا ابن جريج قال : قال عطاء : لو أن حاجا أفاض بعدما رمى جمرة العقبة ، فطاف بالبيت ولم يسع ، فأصابها - يعني : امرأته - لم يكن عليه شيء ، لا حج ولا عمرة ، من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود : "فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " . فعاودته بعد ذلك فقلت : إنه قد ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ألا تسمعه يقول : "فمن تطوع خيرا " ، فأبى أن يجعل عليه شيئا ؟
2357 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، [ ص: 242 ] عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : "إن الصفا والمروة من شعائر الله " الآية "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " .
2358 - حدثني علي بن سهل قال : حدثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم قال : سمعت أنسا يقول : الطواف بينهما تطوع .
2359 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد قال : أخبرنا عاصم الأحول قال : قال أنس بن مالك : هما تطوع .
2360 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .
2361 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قال : فلم يحرج من لم يطف بهما .
2362 - حدثنا المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا أحمد ، عن عيسى بن قيس ، عن عطاء ، عن عبد الله بن الزبير قال : هما تطوع . [ ص: 243 ]
2364 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عاصم قال : قلت لأنس بن مالك : السعي بين الصفا والمروة تطوع ؟ قال : تطوع .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الطواف بهما فرض واجب ، وأن على من تركه العود لقضائه ، ناسيا كان ، أو عامدا . لأنه لا يجزيه غير ذلك ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج بالناس ، فكان مما علمهم من مناسك حجهم الطواف بهما .
ذكر الرواية عنه بذلك :
2365 - حدثني يوسف بن سلمان قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر قال : لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفا في حجه قال : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، ابدأوا بما بدأ الله بذكره . فبدأ بالصفا فرقي عليه .
2366 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا محمود بن ميمون أبو الحسن ، عن أبي بكر بن عياش ، عن ابن عطاء ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ، فأتى الصفا فبدأ بها ، فقام عليها ، ثم أتى المروة فقام عليها ، وطاف وسعى . [ ص: 244 ]
فإذ كان صحيحا بإجماع الجميع من الأمة - أن الطواف بهما على تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مناسكهم ، وعمله في حجه وعمرته وكان بيانه صلى الله عليه وسلم لأمته جمل ما نص الله في كتابه ، وفرضه في تنزيله ، وأمر به مما لم يدرك علمه إلا ببيانه ، لازما العمل به أمته ، كما قد بينا في كتابنا "كتاب البيان عن أصول الأحكام " - إذا اختلفت الأمة في وجوبه ، ثم كان مختلفا في الطواف بينهما : هل هو واجب أو غير واجب كان بينا وجوب فرضه على من حج أو اعتمر ، لما وصفنا .
وكذلك وجوب العود لقضاء الطواف بين الصفا والمروة - لما كان مختلفا فيما على من تركه ، مع إجماع جميعهم على أن ذلك مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علمهم مناسك حجهم - كما طاف بالبيت وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم ، إذ علمهم مناسك حجهم وعمرتهم - وأجمع الجميع على أن الطواف بالبيت لا تجزي منه فدية ولا بدل ، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه كان نظيرا له الطواف بالصفا والمروة ، ولا تجزي منه فدية ولا جزاء ، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه ، إذ كانا كلاهما طوافين : أحدهما بالبيت ، والآخر بالصفا والمروة . [ ص: 245 ]
ومن فرق بين حكمهما عكس عليه القول فيه ، ثم سئل البرهان على التفرقة بينهما .
فإن اعتل بقراءة من قرأ : "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " .
قيل : ذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين ، غير جائز لأحد أن يزيد في مصاحفهم ما ليس فيها . وسواء قرأ ذلك كذلك قارئ ، أو قرأ قارئ : ( ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ) [ سورة الحج : 29 ] ، "فلا جناح عليهم أن لا يطوفوا به " . فإن جازت إحدى الزيادتين اللتين ليستا في المصحف ، كانت الأخرى نظيرتها ، وإلا كان مجيز إحداهما - إذا منع الأخرى - متحكما ، والتحكم لا يعجز عنه أحد .
وقد روي إنكار هذه القراءة ، وأن يكون التنزيل بها ، عن عائشة .
2367 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني مالك بن أنس ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله عز وجل : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ، فما نرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما! فقالت عائشة : كلا! لو كانت كما تقول ، كانت : "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " ، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار ، كانوا يهلون لمناة - وكانت مناة حذو قديد - ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة . فلما جاء الإسلام ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج [ ص: 246 ] البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " .
قال أبو جعفر : وقد يحتمل قراءة من قرأ : "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما " ، أن تكون "لا " التي مع "أن " ، صلة في الكلام ، إذ كان قد تقدمها جحد في الكلام قبلها ، وهو قوله : ( فلا جناح عليه ) ، فيكون نظير قول الله تعالى ذكره : ( قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) [ سورة الأعراف : 12 ] ، بمعنى ما منعك أن تسجد ، وكما قال الشاعر :
ما كان يرضى رسول الله فعلهما والطيبان أبو بكر ولا عمر
ولو كان رسم المصحف كذلك ، لم يكن فيه لمحتج حجة ، مع احتمال الكلام ما وصفنا . لما بينا أن ذلك مما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مناسكهم ، على ما ذكرنا ، ولدلالة القياس على صحته ، فكيف وهو خلاف رسوم مصاحف المسلمين ، ومما لو قرأه اليوم قارئ كان مستحقا العقوبة لزيادته في كتاب الله عز وجل ما ليس منه ؟
[ ص: 247 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ( 158 ) )
قال أبو جعفر : اختلف القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة : "ومن تطوع خيرا " على لفظ المضي ب "التاء " وفتح "العين " . وقرأته عامة قراء الكوفيين : "ومن يطوع خيرا " ب "الياء " وجزم "العين " وتشديد "الطاء " ، بمعنى : ومن يتطوع . وذكر أنها في قراءة عبد الله : "ومن يتطوع " ، فقرأ ذلك قراء أهل الكوفة ، على ما وصفنا ، اعتبارا بالذي ذكرنا من قراءة عبد الله - سوى عاصم ، فإنه وافق المدنيين - فشددوا "الطاء " طلبا لإدغام "التاء " في "الطاء " . وكلتا القراءتين معروفة صحيحة ، متفق معنياهما غير مختلفين - لأن الماضي من الفعل مع حروف الجزاء بمعنى المستقبل . فبأي القراءتين قرأ ذلك قارئ فمصيب .
[ والصواب عندنا في ذلك ، أن ] معنى ذلك : ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه ، فإن الله شاكر له على تطوعه له بما تطوع به من ذلك ابتغاء وجهه ، فمجازيه به ، عليم بما قصد وأراد بتطوعه بما تطوع به .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(207)
الحلقة (221)
صــ 248إلى صــ 254
وإنما قلنا إن الصواب في معنى قوله : "فمن تطوع خيرا " هو ما وصفنا ، دون قول من زعم أنه معني به : فمن تطوع بالسعي والطواف بين الصفا والمروة ، لأن الساعي بينهما لا يكون متطوعا بالسعي بينهما ، إلا في حج تطوع أو عمرة تطوع ، لما وصفنا قبل . وإذ كان ذلك كذلك كان معلوما أنه إنما عنى بالتطوع بذلك ، التطوع بما يعمل ذلك فيه من حج أو عمرة . [ ص: 248 ]
وأما الذين زعموا أن الطواف بهما تطوع لا واجب ، فإن الصواب أن يكون تأويل ذلك على قولهم : فمن تطوع بالطواف بهما ، فإن الله شاكر لأن للحاج والمعتمر على قولهم الطواف بهما إن شاء ، وترك الطواف . فيكون معنى الكلام على تأويلهم : فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة ، فإن الله شاكر تطوعه ذلك عليم بما أراد ونوى الطائف بهما كذلك ، كما : -
2368 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم قال : من تطوع خيرا فهو خير له ، تطوع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت من السنن .
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن تطوع خيرا فاعتمر .
ذكر من قال ذلك :
2369 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ، من تطوع خيرا فاعتمر فإن الله شاكر عليم . قال : فالحج فريضة ، والعمرة تطوع ، ليست العمرة واجبة على أحد من الناس .
[ ص: 249 ] القول في تأويل قوله تعالى ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب )
قال أبو جعفر : يعني بقوله : "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات " ، علماء اليهود وأحبارها ، وعلماء النصارى ، لكتمانهم الناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
و"البينات " التي أنزلها الله : ما بين من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته ، في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره أن أهلهما يجدون صفته فيهما .
ويعني تعالى ذكره ب "الهدى " ما أوضح لهم من أمره في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم ، فقال تعالى ذكره : إن الذين يكتمون الناس الذي أنزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ، وصحة الملة التي أرسلته بها وحقيتها ، فلا يخبرونهم به ، ولا يعلنون من تبييني ذلك للناس وإيضاحيه لهم ، في الكتاب الذي أنزلته إلى أنبيائهم ، "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا " الآية . كما : -
2370 - حدثنا أبو كريب قال : وحدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن [ ص: 250 ] حميد قال : حدثنا سلمة - قالا جميعا ، حدثنا محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : سأل معاذ بن جبل أخو بنى سلمة ، وسعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج ، نفرا من أحبار يهود - قال أبو كريب : عما في التوراة ، وقال ابن حميد : عن بعض ما في التوراة - فكتموهم إياه ، وأبوا أن يخبروهم عنه ، فأنزل الله تعالى ذكره فيهم : " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " .
2371 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى " قال : هم أهل الكتاب .
2372 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
2373 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع في قوله "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى " قال : كتموا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم ، فكتموه حسدا وبغيا . [ ص: 251 ]
2374 - حدثنا بشر بن معاذ : قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب " أولئك أهل الكتاب ، كتموا الإسلام وهو دين الله ، وكتموا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
2374 م - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب" ، زعموا أن رجلا من اليهود كان له صديق من الأنصار يقال له ثعلبة بن غنمة ، قال له : هل تجدون محمدا عندكم ؟ قال : لا! قال : محمد : "البينات " .
القول في تأويل قوله تعالى ( من بعد ما بيناه للناس في الكتاب )
[ قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "من بعد ما بيناه للناس " ] ، بعض الناس ، لأن العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ومبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم ، وإياهم عنى تعالى ذكره بقوله : "للناس في الكتاب" ، ويعني بذلك : التوراة والإنجيل .
وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاص من الناس ، فإنها معني بها كل كاتم علما فرض الله تعالى بيانه للناس .
وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال [ ص: 252 ]
2375 - من سئل عن علم يعلمه فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار . "
وكان أبو هريرة يقول ما : -
2376 - حدثنا به نصر بن علي الجهضمي قال : حدثنا حاتم بن وردان قال : حدثنا أيوب السختياني ، عن أبي هريرة قال : لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم! وتلا "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " ،
2377 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، عن يونس قال : قال ابن شهاب ، قال ابن المسيب : قال أبو هريرة : لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات ) إلى آخر الآية ، والآية الأخرى : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ) إلى آخر الآية [ سورة آل عمران : 178 ] .
[ ص: 253 ] القول في تأويل قوله تعالى ( أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ( 159 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "أولئك يلعنهم الله " ، هؤلاء الذين يكتمون ما أنزله الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وأمر دينه ، أنه [ ص: 254 ] الحق - من بعد ما بينه الله لهم في كتبهم - يلعنهم بكتمانهم ذلك ، وتركهم تبيينه للناس .
و"اللعنة " "الفعلة " ، من "لعنه الله " بمعنى أقصاه وأبعده وأسحقه . وأصل "اللعن " : الطرد ، كما قال الشماخ بن ضرار ، وذكر ماء ورد عليه :
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين
يعني : مقام الذئب الطريد . و"اللعين " من نعت "الذئب " ، وإنما أراد : مقام الذئب الطريد واللعين كالرجل .
فمعنى الآية إذا : أولئك يبعدهم الله منه ومن رحمته ، ويسأل ربهم اللاعنون أن يلعنهم ، لأن لعنة بني آدم وسائر خلق الله ما لعنوا أن يقولوا : "اللهم العنه " إذ كان معنى "اللعن " هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد .
وإنما قلنا إن لعنة اللاعنين هي ما وصفنا : من مسألتهم ربهم أن يلعنهم ، وقولهم : "لعنه الله " أو "عليه لعنة الله " ، لأن : -
2378 - محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم حدثاني قالا : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " ، البهائم ، قال : إذا أسنتت السنة ، قالت البهائم : هذا من أجل عصاة بني آدم ، لعن الله عصاة بني آدم !
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(208)
الحلقة (222)
صــ 255إلى صــ 261
ثم اختلف أهل التأويل في من عنى الله تعالى ذكره ب "اللاعنين " . فقال بعضهم : عنى بذلك دواب الأرض وهوامها . [ ص: 255 ]
ذكر من قال ذلك :
2379 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد قال : تلعنهم دواب الأرض ، وما شاء الله من الخنافس والعقارب تقول : نمنع القطر بذنوبهم .
2380 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " قال : دواب الأرض ، العقارب والخنافس ، يقولون : منعنا القطر بخطايا بني آدم .
2381 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد : "ويلعنهم اللاعنون " قال : تلعنهم الهوام ودواب الأرض ، تقول : أمسك القطر عنا بخطايا بني آدم .
2382 - حدثنا مشرف بن أبان الحطاب البغدادي قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قوله أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون قال : يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقارب ، يقولون : منعنا القطر بذنوب بني آدم .
2383 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ويلعنهم اللاعنون " قال : اللاعنون : البهائم .
2383 م - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "ويلعنهم اللاعنون " ، البهائم ، تلعن عصاة بني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر ، فتخرج البهائم فتلعنهم .
2384 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "أولئك يلعنهم الله [ ص: 256 ] ويلعنهم اللاعنون " ، البهائم : الإبل والبقر والغنم ، فتلعن عصاة بني آدم إذا أجدبت الأرض .
فإن قال لنا قائل : وما وجه الذين وجهوا تأويل قوله : "ويلعنهم اللاعنون " ، إلى أن اللاعنين هم الخنافس والعقارب ونحو ذلك من هوام الأرض ، وقد علمت أنها إذا جمعت ما كان من نوع البهائم وغير بني آدم ، فإنما تجمعه بغير "الياء والنون " وغير "الواو والنون " ، وإنما تجمعه ب "التاء " ، وما خالف ما ذكرنا ، فتقول : "اللاعنات " ونحو ذلك ؟
قيل : الأمر وإن كان كذلك ، فإن من شأن العرب إذا وصفت شيئا من البهائم أو غيرها - مما حكم جمعه أن يكون ب"التاء " وبغير صورة جمع ذكران بني آدم - بما هو من صفة الآدميين ، أن يجمعوه جمع ذكورهم ، كما قال تعالى ذكره : ( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ) [ سورة فصلت : 21 ] ، فأخرج خطابهم على مثال خطاب بني آدم ، إذ كلمتهم وكلموها ، وكما قال : ( يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ) [ سورة النمل : 18 ] ، وكما قال : ( والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) [ سورة يوسف : 4 ] .
وقال آخرون : عنى الله تعالى ذكره بقوله : "ويلعنهم اللاعنون" ، الملائكة والمؤمنين .
ذكر من قال ذلك :
2385 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "ويلعنهم اللاعنون " ، قال : يقول : اللاعنون من ملائكة الله ومن المؤمنين . [ ص: 257 ]
2386 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "ويلعنهم اللاعنون " ، الملائكة .
2387 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : "اللاعنون " ، من ملائكة الله والمؤمنين .
وقال آخرون : يعني ب"اللاعنين " ، كل ما عدا بني آدم والجن .
ذكر من قال ذلك :
2388 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "ويلعنهم اللاعنون " قال : قال البراء بن عازب : إن الكافر إذا وضع في قبره أتته دابة كأن عينيها قدران من نحاس ، معها عمود من حديد ، فتضربه ضربة بين كتفيه ، فيصيح ، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه ، ولا يبقى شيء إلا سمع صوته ، إلا الثقلين الجن والإنس .
2389 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون قال : الكافر إذا وضع في حفرته ، ضرب ضربة بمطرق فيصيح صيحة ، يسمع صوته كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس ، فلا يسمع صيحته شيء إلا لعنه .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال : " اللاعنون " ، الملائكة والمؤمنون . لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحل بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين ، فقال تعالى ذكره : ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) ، فكذلك [ ص: 258 ] اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حالة بالفريق الآخر : الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس ، هي لعنة الله ، ولعنة الذين أخبر أن لعنتهم حالة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار ، وهم "اللاعنون " ، لأن الفريقين جميعا أهل كفر .
وأما قول من قال إن "اللاعنين " هم الخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبيب الأرض وهوامها ، فإنه قول لا تدرك حقيقته إلا بخبر عن الله أن ذلك من فعلها تقوم به الحجة ، ولا خبر بذلك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فيجوز أن يقال إن ذلك كذلك .
وإذ كان ذلك كذلك ، فالصواب من القول فيما قالوه أن يقال : إن الدليل من ظاهر كتاب الله موجود بخلاف [ قول ] أهل التأويل ، وهو ما وصفنا . فإن كان جائزا أن تكون البهائم وسائر خلق الله ، تلعن الذين يكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوته ، بعد علمهم به ، وتلعن معهم جميع الظلمة - فغير جائز قطع الشهادة في أن الله عنى ب"اللاعنين " البهائم والهوام ودبيب الأرض ، إلا بخبر للعذر قاطع . ولا خبر بذلك ، وظاهر كتاب الله الذي ذكرناه دال على خلافه .
[ ص: 259 ] القول في تأويل قوله تعالى ( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ( 160 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أن الله واللاعنين يلعنون الكاتمين الناس ما علموا من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته في الكتاب الذي أنزله الله وبينه للناس ، إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم ؛ وراجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والإقرار به وبنبوته ، وتصديقه فيما جاء به من عند الله ، وبيان ما أنزل الله في كتبه التي أنزل إلى أنبيائه ، من الأمر باتباعه ؛ وأصلح حال نفسه بالتقرب إلى الله من صالح الأعمال بما يرضيه عنه ؛ وبين الذي علم من وحي الله الذي أنزله إلى أنبيائه وعهد إليهم في كتبه فلم يكتمه ، وأظهره فلم يخفه "فأولئك " ، يعني : هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصفت منهم ، هم الذين أتوب عليهم ، فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي ، والإنابة إلى مرضاتي .
ثم قال تعالى ذكره : "وأنا التواب الرحيم " ، يقول : وأنا الذي أرجع بقلوب عبيدي المنصرفة عنى إلي ، والرادها بعد إدبارها عن طاعتي إلى طلب محبتي ، والرحيم بالمقبلين بعد إقبالهم إلي ، أتغمدهم مني بعفو ، وأصفح عن عظيم ما كانوا اجترموا فيما بيني وبينهم ، بفضل رحمتي لهم .
فإن قال قائل : وكيف يتاب على من تاب ؟ وما وجه قوله : "إلا الذين تابوا فأولئك أتوب عليهم " ؟ وهل يكون تائب إلا وهو متوب عليه ، أو متوب عليه إلا وهو تائب ؟
قيل : ذلك مما لا يكون أحدهما إلا والآخر معه ، فسواء قيل : إلا الذين تيب عليهم فتابوا - أو قيل : إلا الذين تابوا فإني أتوب عليهم . وقد بينا وجه ذلك [ ص: 260 ] فيما جاء من الكلام هذا المجيء ، في نظيره فيما مضى من كتابنا هذا ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2390 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا " ، يقول : أصلحوا فيما بينهم وبين الله ، وبينوا الذي جاءهم من الله ، فلم يكتموه ولم يجحدوا به : أولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم .
2391 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا " قال : بينوا ما في كتاب الله للمؤمنين ، وما سألوهم عنه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا كله في يهود .
قال أبو جعفر : وقد زعم بعضهم أن معنى قوله : "وبينوا " ، إنما هو : وبينوا التوبة بإخلاص العمل . ودليل ظاهر الكتاب والتنزيل بخلافه ؛ لأن القوم إنما عوتبوا قبل هذه الآية ، على كتمانهم ما أنزل الله تعالى ذكره وبينه في كتابه ، في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ، ثم استثنى منهم تعالى ذكره الذين يبينون أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ، فيتوبون مما كانوا عليه من الجحود والكتمان ، فأخرجهم من عداد من يلعنه الله ويلعنه اللاعنون ، ولم يكن العتاب على تركهم تبيين التوبة بإخلاص العمل .
والذين استثنى الله من الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد [ ص: 261 ] ما بينه للناس في الكتاب ، عبد الله بن سلام وذووه من أهل الكتاب ، الذين أسلموا فحسن إسلامهم ، واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ( 161 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "إن الذين كفروا " ، إن الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل ، والمشركين من عبدة الأوثان "وماتوا وهم كفار " ، يعني : وماتوا وهم على جحودهم ذلك وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، " أولئك عليهم لعنة الله والملائكة " ، يعني : فأولئك الذين كفروا وماتوا وهم كفار عليهم لعنة الله ، يقول : أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته ، "والملائكة " ، يعني ولعنهم الملائكة والناس أجمعون . ولعنة الملائكة والناس إياهم قولهم : "عليهم لعنة الله " .
وقد بينا معنى "اللعنة " فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(209)
الحلقة (223)
صــ 262إلى صــ 268
فإن قال قائل : وكيف تكون على الذي يموت كافرا بمحمد صلى الله عليه وسلم [ لعنة الناس أجمعين ] من أصناف الأمم ، وأكثرهم ممن لا يؤمن به ويصدقه ؟ [ ص: 262 ]
قيل : إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبت إليه . وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فقال بعضهم : عنى الله بقوله : "والناس أجمعين " ، أهل الإيمان به وبرسوله خاصة ، دون سائر البشر .
ذكر من قال ذلك :
2392 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "والناس أجمعين " ، يعني : ب "الناس أجمعين " ، المؤمنين .
2393 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : "والناس أجمعين " ، يعني ب "الناس أجمعين " ، المؤمنين .
وقال آخرون : بل ذلك يوم القيامة ، يوقف على رءوس الأشهاد الكافر فيلعنه الناس كلهم .
ذكر من قال ذلك :
2394 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : أن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ، ثم تلعنه الملائكة ، ثم يلعنه الناس أجمعون .
وقال آخرون : بل ذلك قول القائل كائنا من كان : "لعن الله الظالم " ، فيلحق ذلك كل كافر ، لأنه من الظلمة .
ذكر من قال ذلك :
2395 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : " أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " ، فإنه لا يتلاعن اثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما : "لعن الله الظالم " ، إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر ، لأنه ظالم ، فكل أحد من الخلق يلعنه . [ ص: 263 ]
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا قول من قال : عنى الله بذلك جميع الناس ، بمعنى لعنهم إياهم بقولهم : "لعن الله الظالم - أو الظالمين " .
فإن كل أحد من بني آدم لا يمتنع من قيل ذلك كائنا من كان ، ومن أي أهل ملة كان ، فيدخل بذلك في لعنته كل كافر كائنا من كان . وذلك بمعنى ما قاله أبو العالية . لأن الله تعالى ذكره أخبر عمن شهدهم يوم القيامة أنهم يلعنونهم فقال : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) [ هود : 18 ]
وأما ما قاله قتادة ، من أنه عنى به بعض الناس ، فقول ظاهر التنزيل بخلافه ، ولا برهان على حقيقته من خبر ولا نظر . فإن كان ظن أن المعني به المؤمنون ، من أجل أن الكفار لا يلعنون أنفسهم ولا أولياءهم ، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر أنهم يلعنونهم في الآخرة . ومعلوم منهم أنهم يلعنون الظلمة ، وداخل في الظلمة كل كافر ، بظلمه نفسه ، وجحوده نعمة ربه ، ومخالفته أمره .
القول في تأويل قوله تعالى ( خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ( 162 ) )
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : ما الذي نصب "خالدين فيها " ؟
قيل : نصب على الحال من "الهاء والميم " اللتين في "عليهم " . وذلك أن معنى قوله : "أولئك عليهم لعنة الله " ، أولئك يلعنهم الله والملائكة والناس أجمعون خالدين فيها . ولذلك قرأ ذلك : "أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعون " [ ص: 264 ] من قرأه كذلك ، توجيها منه إلى المعنى الذي وصفت . وذلك وإن كان جائزا في العربية ، فغير جائزة القراءة به ، لأنه خلاف لمصاحف المسلمين ، وما جاء به المسلمون من القراءة مستفيضا فيهم . فغير جائز الاعتراض بالشاذ من القول ، على ما قد ثبتت حجته بالنقل المستفيض .
وأما "الهاء والألف " اللتان في قوله : "فيها " ، فإنهما عائدتان على "اللعنة " ، والمراد بالكلام : ما صار إليه الكافر باللعنة من الله ومن ملائكته ومن الناس . والذي صار إليه بها ، نار جهنم . وأجرى الكلام على "اللعنة " ، والمراد بها ما صار إليه الكافر ، كما قد بينا من نظائر ذلك فيما مضى قبل ، كما : -
2396 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : "خالدين فيها " ، يقول : خالدين في جهنم ، في اللعنة .
وأما قوله : "لا يخفف عنهم العذاب " ، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن دوام العذاب أبدا من غير توقيت ولا تخفيف ، كما قال تعالى ذكره : ( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ) [ سورة فاطر : 36 ] ، وكما قال : ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ) [ سورة النساء : 56 ]
وأما قوله : "ولا هم ينظرون " ، فإنه يعني : ولا هم ينظرون بمعذرة يعتذرون ، كما : -
2397 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : "ولا هم ينظرون " ، يقول : لا ينظرون فيعتذرون ، [ ص: 265 ] كقوله : ( هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) . [ سورة المرسلات : 35 - 36
القول في تأويل قوله عز وجل ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ( 163 ) )
قال أبو جعفر : قد بينا فيما مضى معنى "الألوهية " ، وأنها اعتباد الخلق .
فمعنى قوله : "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " : والذي يستحق عليكم أيها الناس الطاعة له ، ويستوجب منكم العبادة ، معبود واحد ورب واحد ، فلا تعبدوا غيره ، ولا تشركوا معه سواه ، فإن من تشركونه معه في عبادتكم إياه ، هو خلق من خلق إلهكم مثلكم ، وإلهكم إله واحد ، لا مثل له ولا نظير .
واختلف في معنى وحدانيته تعالى ذكره ،
فقال بعضهم : معنى وحدانية الله ، معنى نفي الأشباه والأمثال عنه ، كما يقال : "فلان واحد الناس - وهو واحد قومه " ، يعني بذلك أنه ليس له في الناس مثل ، ولا له في قومه شبيه ولا نظير . فكذلك معنى قول : "الله واحد " ، يعني به : الله لا مثل له ولا نظير .
فزعموا أن الذي دلهم على صحة تأويلهم ذلك ، أن قول القائل : "واحد " يفهم لمعان أربعة . أحدها : أن يكون "واحدا " من جنس ، كالإنسان "الواحد " من الإنس . والآخر : أن يكون غير متفرق ، كالجزء الذي لا ينقسم . والثالث : [ ص: 266 ] أن يكون معنيا به : المثل والاتفاق ، كقول القائل : "هذان الشيئان واحد " ، يراد بذلك : أنهما متشابهان ، حتى صارا لاشتباههما في المعاني كالشيء الواحد .
والرابع : أن يكون مرادا به نفي النظير عنه والشبيه .
قالوا : فلما كانت المعاني الثلاثة من معاني "الواحد " منتفية عنه ، صح المعنى الرابع الذي وصفناه .
وقال آخرون : معنى "وحدانيته " تعالى ذكره ، معنى انفراده من الأشياء ، وانفراد الأشياء منه . قالوا : وإنما كان منفردا وحده ، لأنه غير داخل في شيء ولا داخل فيه شيء . قالوا : ولا صحة لقول القائل : "واحد " ، من جميع الأشياء إلا ذلك . وأنكر قائلو هذه المقالة المعاني الأربعة التي قالها الآخرون .
وأما قوله : "لا إله إلا هو " ، فإنه خبر منه تعالى ذكره أنه لا رب للعالمين غيره ، ولا يستوجب على العباد العبادة سواه ، وأن كل ما سواه فهم خلقه ، والواجب على جميعهم طاعته والانقياد لأمره ، وترك عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة ، وهجر الأوثان والأصنام . لأن جميع ذلك خلقه ، وعلى جميعهم الدينونة له بالوحدانية والألوهة ، ولا تنبغي الألوهة إلا له ، إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه ، دون ما يعبدونه من الأوثان ويشركون معه من الأشراك ؛ وما يصيرون إليه من نعمة في الآخرة فمنه ، وأن ما أشركوا معه من الأشراك لا يضر ولا ينفع في عاجل ولا في آجل ، ولا في دنيا ولا في آخرة .
وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهل الشرك به على ضلالهم ، ودعاء منه لهم إلى الأوبة من كفرهم ، والإنابة من شركهم . [ ص: 267 ]
ثم عرفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها ، موضع استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبههم عليه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عذرهم ، فقال تعالى ذكره : أيها المشركون ، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر : من أن إلهكم إله واحد ، دون ما تدعون ألوهيته من الأنداد والأوثان ، فتدبروا حججي وفكروا فيها ، فإن من حججي خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها ، وما بثثت فيها من كل دابة ، والسحاب الذي سخرته بين السماء والأرض . فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به ، إذا اجتمع جميعه فتظاهر أو انفرد بعضه دون بعض ، يقدر على أن يخلق نظير شيء من خلقي الذي سميت لكم ، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذر ، وإلا فلا عذر لكم في اتخاذ إله سواي ، ولا إله لكم ولما تعبدون غيري . فليتدبر أولو الألباب إيجاز الله احتجاجه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده ، في هذه الآية وفي التي بعدها ، بأوجز كلام ، وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على معرفة فضل حكمة الله وبيانه .
القول في المعنى الذي من أجله أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . [ ص: 268 ]
فقال بعضهم : أنزلها عليه احتجاجا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان . وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " فتلا ذلك على أصحابه ، وسمع به المشركون من عبدة الأوثان ، قال المشركون : وما الحجة والبرهان على أن ذلك كذلك ؟ ونحن ننكر ذلك ، ونحن نزعم أن لنا آلهة كثيرة ؟ فأنزل الله عند ذلك : "إن في خلق السماوات والأرض " ، احتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا ما ذكرنا عنهم .
ذكر من قال ذلك :
2398 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة : " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " ، فقال كفار قريش بمكة : كيف يسع الناس إله واحد ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار " ، إلى قوله : "لآيات لقوم يعقلون " ، فبهذا تعلمون أنه إله واحد ، وأنه إله كل شيء ، وخالق كل شيء .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم ، من أجل أن أهل الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ آية ] ، فأنزل الله هذه الآية ، يعلمهم فيها أن لهم في خلق السماوات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك ، آية بينة على وحدانية الله ، وأنه لا شريك له في ملكه ، لمن عقل وتدبر ذلك بفهم صحيح .
ذكر من قال ذلك :
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(210)
الحلقة (224)
صــ 269إلى صــ 275
2399 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبيه ، [ ص: 269 ] عن أبي الضحى قال : لما نزلت " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " ، قال المشركون : إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية! فأنزل الله تعالى ذكره : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار " ، الآية .
2400 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج قال حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال حدثني سعيد بن مسروق ، عن أبي الضحى قال : لما نزلت : " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " ، قال المشركون : إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية ، فأنزل الله تعالى ذكره : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار " ، الآية .
2401 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : حدثني سعيد بن مسروق ، عن أبي الضحى قال : لما نزلت هذه الآية ، جعل المشركون يعجبون ويقولون : تقول إلهكم إله واحد ، فلتأتنا بآية إن كنت من الصادقين! فأنزل الله : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار " ، الآية .
2402 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أرنا آية! فنزلت هذه الآية : "إن في خلق السماوات والأرض " .
2403 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد قال : سألت قريش اليهود فقالوا : حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات! فحدثوهم بالعصا وبيده البيضاء للناظرين . وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات ، فأخبروهم أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله . فقالت قريش عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا ، فنزداد يقينا ، ونتقوى به على عدونا . فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ، فأوحى إليه : [ ص: 270 ] إني معطيهم ، فأجعل لهم الصفا ذهبا ، ولكن إن كذبوا عذبتهم عذابا لم أعذبه أحدا من العالمين .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ذرني وقومي فأدعوهم يوما بيوم . فأنزل الله عليه : "إن في خلق السماوات والأرض " ، الآية : إن في ذلك لآية لهم ، إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبا ، فخلق الله السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، أعظم من أن أجعل لهم الصفا ذهبا ليزدادوا يقينا .
2404 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار " ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : غير لنا الصفا ذهبا إن كنت صادقا أنه منه! فقال الله : إن في هذه الآيات لآيات لقوم يعقلون . وقال : قد سأل الآيات قوم قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أن الله تعالى ذكره نبه عباده على الدلالة على وحدانيته وتفرده بالألوهية ، دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية . وجائز أن تكون نزلت فيما قاله عطاء ، وجائز أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى ، ولا خبر عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذر ، فيجوز أن يقضي أحد لأحد الفريقين بصحة قول على الآخر . وأي القولين كان صحيحا ، فالمراد من الآية ما قلت .
[ ص: 271 ] القول في تأويل قوله تعالى ( إن في خلق السماوات والأرض )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "إن في خلق السماوات والأرض " إن في إنشاء السماوات والأرض وابتداعهما .
ومعنى "خلق " الله الأشياء : ابتداعه وإيجاده إياها ، بعد أن لم تكن موجودة .
وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل : "الأرض " ، ولم تجمع كما جمعت السماوات ، فأغنى ذلك عن إعادته
فإن قال لنا قائل : وهل للسموات والأرض خلق هو غيرها فيقال : "إن في خلق السماوات والأرض " ؟
قيل : قد اختلف في ذلك . فقال بعض الناس : لها خلق هو غيرها . واعتلوا في ذلك بهذه الآية ، وبالتي في سورة : الكهف : ( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) [ سورة الكهف : 51 ] وقالوا : لم يخلق الله شيئا إلا والله له مريد . قالوا : فالأشياء كانت بإرادة الله ، والإرادة خلق لها . [ ص: 272 ]
وقال آخرون : خلق الشيء صفة له ، لا هي هو ، ولا غيره . قالوا : لو كان غيره لوجب أن يكون مثله موصوفا . قالوا : ولو جاز أن يكون خلقه غيره ، وأن يكون موصوفا ، لوجب أن تكون له صفة هي له خلق . ولو وجب ذلك كذلك ، لم يكن لذلك نهاية . قالوا : فكان معلوما بذلك أنه صفة للشيء . قالوا : فخلق السماوات والأرض صفة لهما ، على ما وصفنا . واعتلوا أيضا - بأن للشيء خلقا ليس هو به - من كتاب الله بنحو الذي اعتل به الأولون .
وقال آخرون : خلق السماوات والأرض ، وخلق كل مخلوق ، هو ذلك الشيء بعينه لا غيره .
فمعنى قوله : "إن في خلق السماوات والأرض " : إن في السماوات والأرض .
القول في تأويل قوله تعالى ( واختلاف الليل والنهار )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "واختلاف الليل والنهار " ، وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس .
وإنما "الاختلاف " في هذا الموضع "الافتعال " من "خلوف " كل واحد منهما الآخر ، كما قال تعالى ذكره : ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) [ سورة الفرقان : 62 ] .
بمعنى : أن كل واحد منهما يخلف مكان صاحبه ، إذا ذهب الليل جاء النهار بعده ، وإذا ذهب النهار جاء الليل خلفه . ومن ذلك قيل : "خلف فلان فلانا في أهله بسوء " ، ومنه قول زهير :
بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
[ ص: 273 ]
وأما "الليل " . فإنه جمع "ليلة " ، نظير "التمر " الذي هو جمع "تمرة " . وقد يجمع "ليال " ، فيزيدون في جمعها ما لم يكن في واحدتها . وزيادتهم "الياء " في ذلك نظير زيادتهم إياها في "رباعية وثمانية وكراهية " .
وأما "النهار " ، فإن العرب لا تكاد تجمعه ، لأنه بمنزلة الضوء . وقد سمع في جمعه "النهر " ، قال الشاعر :
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهر
ولو قيل في جمع قليله "أنهرة " كان قياسا .
القول في تأويل قوله تعالى ( والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : إن في الفلك التي تجري في البحر .
و"الفلك " هو السفن ، واحده وجمعه بلفظ واحد ، ويذكر ويؤنث ، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى : ( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ) [ سورة يس : 41 ] ، فذكره .
وقد قال في هذه الآية : "والفلك التي تجري في البحر " ، وهي مجراة ، لأنها [ ص: 274 ] إذا أجريت فهي "الجارية " ، فأضيف إليها من الصفة ما هو لها .
وأما قوله : "بما ينفع الناس " ، فإن معناه : ينفع الناس في البحر .
القول في تأويل قوله تعالى ( وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وما أنزل الله من السماء من ماء " ، وفي ما أنزله الله من السماء من ماء ، وهو المطر الذي ينزله الله من السماء .
وقوله : "فأحيا به الأرض بعد موتها " ، وإحياؤها : عمارتها ، وإخراج نباتها . و"الهاء " التي في "به " عائدة على "الماء " و"الهاء والألف " في قوله : "بعد موتها " على الأرض .
و"موت الأرض " ، خرابها ، ودثور عمارتها ، وانقطاع نباتها ، الذي هو للعباد أقوات ، وللأنام أرزاق .
القول في تأويل قوله تعالى ( وبث فيها من كل دابة )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وبث فيها من كل دابة " ، وإن فيما بث في الأرض من دابة . [ ص: 275 ]
ومعنى قوله : "وبث فيها " ، وفرق فيها ، من قول القائل : "بث الأمير سراياه " ، يعني : فرق .
و"الهاء والألف " في قوله : "فيها " ، عائدتان على "الأرض " .
"والدابة " "الفاعلة " ، من قول القائل : "دبت الدابة تدب دبيبا فهي دابة " . "والدابة " ، اسم لكل ذي روح كان غير طائر بجناحيه ، لدبيبه على الأرض .
القول في تأويل قوله تعالى ( وتصريف الرياح )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وتصريف الرياح " ، وفي تصريفه الرياح ، فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول ، كما تقول : "يعجبني إكرام أخيك " ، تريد : إكرامك أخاك .
"وتصريف " الله إياها ، أن يرسلها مرة لواقح ، ومرة يجعلها عقيما ، ويبعثها عذابا تدمر كل شيء بأمر ربها ، كما : -
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg
-
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/27.jpg
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثالث
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(211)
الحلقة (225)
صــ 276إلى صــ 282
2405 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "وتصريف الرياح والسحاب المسخر " قال : قادر والله ربنا على ذلك ، إذا شاء [ جعلها رحمة لواقح للسحاب ونشرا بين يدي رحمته ، وإذا شاء ] جعلها عذابا ريحا عقيما لا تلقح ، إنما هي عذاب على من أرسلت عليه . [ ص: 276 ]
وزعم بعض أهل العربية أن معنى قوله : "وتصريف الرياح " ، أنها تأتي مرة جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا . ثم قال : وذلك تصريفها . وهذه الصفة التي وصف الرياح بها ، صفة تصرفها لا صفة تصريفها ، لأن "تصريفها " تصريف الله لها ، "وتصرفها " اختلاف هبوبها .
وقد يجوز أن يكون معنى قوله : "وتصريف الرياح " ، تصريف الله تعالى ذكره هبوب الريح باختلاف مهابها .
القول في تأويل قوله تعالى ( والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ( 164 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "والسحاب المسخر " ، وفي السحاب ، جمع "سحابة " . يدل على ذلك قوله تعالى ذكره : ( وينشئ السحاب الثقال ) [ سورة الرعد : 12 ] فوحد المسخر وذكره ، كما قالوا : "هذه تمرة وهذا تمر كثير " . في جمعه ، "وهذه نخلة وهذا نخل " .
وإنما قيل للسحاب "سحاب " إن شاء الله ، لجر بعضه بعضا وسحبه إياه ، من قول القائل : "مر فلان يجر ذيله " ، يعني : "يسحبه " .
فأما معنى قوله : "لآيات " ، فإنه علامات ودلالات على أن خالق ذلك كله ومنشئه ، إله واحد . [ ص: 277 ]
"لقوم يعقلون " ، لمن عقل مواضع الحجج ، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته . فأعلم تعالى ذكره عباده ، بأن الأدلة والحجج إنما وضعت معتبرا لذوي العقول والتمييز ، دون غيرهم من الخلق ، إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي ، والمكلفين بالطاعة والعبادة ، ولهم الثواب ، وعليهم العقاب .
فإن قال قائل : وكيف احتج على أهل الكفر بقوله : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار " الآية ، في توحيد الله ؟ وقد علمت أن أصنافا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السماوات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقة ؟
قيل : إن إنكار من أنكر ذلك غير دافع أن يكون جميع ما ذكر تعالى ذكره في هذه الآية ، دليلا على خالقه وصانعه ، وأن له مدبرا لا يشبهه [ شيء ] ، وبارئا لا مثل له . وذلك وإن كان كذلك ، فإن الله إنما حاج بذلك قوما كانوا مقرين بأن الله خالقهم ، غير أنهم يشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان . فحاجهم تعالى ذكره فقال - إذ أنكروا قوله : "وإلهكم إله واحد " ، وزعموا أن له شركاء من الآلهة - : [ إن إلهكم الذي خلق السماوات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما . وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر ] وذلك هو معنى قوله : "والفلك التي تجري في البحر بما [ ص: 278 ] ينفع الناس " - وأنزل إليكم الغيث من السماء ، فأخصب به جنابكم بعد جدوبه ، وأمرعه بعد دثوره ، فنعشكم به بعد قنوطكم - ، وذلك هو معنى قوله : "وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها " - وسخر لكم الأنعام فيها لكم مطاعم ومآكل ، ومنها جمال ومراكب ، ومنها أثاث وملابس - وذلك هو معنى قوله : "وبث فيها من كل دابة " - وأرسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم ، وسير لكم السحاب الذي بودقه حياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم - وذلك هو معنى قوله : " وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض " .
فأخبرهم أن إلههم هو الله الذي أنعم عليهم بهذه النعم ، وتفرد لهم بها . ثم قال : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ، فتشركوه في عبادتكم إياي ، وتجعلوه لي ندا وعدلا ؟ فإن لم يكن من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ، ففي الذي عددت عليكم من نعمتي ، وتفردت لكم بأيادي ، دلالات لكم إن كنتم تعقلون مواقع الحق والباطل ، والجور والإنصاف . وذلك أنى لكم بالإحسان إليكم متفرد دون غيري ، وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادا . فهذا هو معنى الآية .
والذين ذكروا بهذه الآية واحتج عليهم بها ، هم القوم الذين وصفت صفتهم ، دون المعطلة والدهرية ، وإن كان في أصغر ما عد الله في هذه الآية ، من الحجج البالغة ، المقنع لجميع الأنام ، تركنا البيان عنه ، كراهة إطالة الكتاب بذكره .
[ ص: 279 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أن من الناس من يتخذ من دون الله أندادا له
وقد بينا فيما مضى أن "الند " ، العدل ، بما يدل على ذلك من الشواهد ، فكرهنا إعادته .
وأن الذين اتخذوا هذه "الأنداد " من دون الله ، يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله . ثم أخبرهم أن المؤمنين أشد حبا لله ، من متخذي هذه الأنداد لأندادهم .
واختلف أهل التأويل في "الأنداد " التي كان القوم اتخذوها . وما هي ؟
فقال بعضهم : هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله .
ذكر من قال ذلك .
2406 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ، من الكفار لأوثانهم .
2407 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله تعالى ذكره : "يحبونهم كحب الله " ، مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد ، "والذين آمنوا أشد حبا لله " ، من الكفار لأوثانهم .
2408 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله . [ ص: 280 ]
2409 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله " قال : هي الآلهة التي تعبد من دون الله ، يقول : يحبون أوثانهم كحب الله ، "والذين آمنوا أشد حبا لله " ، أي من الكفار لأوثانهم .
2410 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله " قال : هؤلاء المشركون . أندادهم : آلهتهم التي عبدوا مع الله ، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله ، والذين آمنوا أشد حبا لله من حبهم هم آلهتهم .
وقال آخرون : بل "الأنداد " في هذا الموضع ، إنما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره .
ذكر من قال ذلك :
2411 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله " قال : الأنداد من الرجال ، يطيعونهم كما يطيعون الله ، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله .
فإن قال قائل : وكيف قيل : "كحب الله " ؟ وهل يحب الله الأنداد ؟ وهل كان متخذو الأنداد يحبون الله ، فيقال : "يحبونهم كحب الله " ؟
قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه ، وإنما ذلك نظير قول القائل : "بعت غلامي كبيع غلامك " ، بمعنى : بعته كما بيع غلامك ، وكبيعك [ ص: 281 ] غلامك ، "واستوفيت حقي منه استيفاء حقك " ، بمعنى : استيفائك حقك ، فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطب ، اكتفاء بكنايته في "الغلام " و"الحق " ، كما قال الشاعر :
فلست مسلما ما دمت حيا على زيد بتسليم الأمير
يعني بذلك : كما يسلم على الأمير .
فمعنى الكلام إذا : ومن الناس من يتخذ ، أيها المؤمنون ، من دون الله أندادا يحبونهم كحبكم الله .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ( 165 ) )
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأه عامة أهل المدينة والشام : "ولو ترى الذين ظلموا " بالتاء "إذ يرون العذاب " بالياء " أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " بفتح "أن " و "أن " كلتيهما - بمعنى : ولو ترى يا محمد [ ص: 282 ] الذين كفروا وظلموا أنفسهم ، حين يرون عذاب الله ويعاينونه "أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " .
ثم في نصب "أن " و "أن " في هذه القراءة وجهان : أحدهما : أن تفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب الله ، لأقروا - ومعنى ترى : تبصر - أن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب . ويكون الجواب حينئذ - إذا فتحت "أن " على هذا الوجه - متروكا ، قد اكتفى بدلالة الكلام عليه ، ويكون المعنى ما وصفت . فهذا أحد وجهي فتح "أن " ، على قراءة من قرأ : "ولو ترى " ب "التاء " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/01/28.jpg