-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
كان زكريا نبياً من أنبياء الله امتد به العمر ولم يرزقه الله الذرية، وقد كان كفل مريم بنت عمران عليهما السلام ورباها في كنفه، ولما كان يرى الكرامات التي يحف بها الله مريم علم أنه ما من شيء يمنعه من سؤال الله أن يهبه ذرية صالحة، فقام في المحراب متوسلاً إلى الله رافعاً أكف الضراعة، فما برح أن بشرته الملائكة بأن الله وهبه يحيى وجعله سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سابق عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.أولاً: نسمعكم الآيات التي درسناها ثم نذكر هدايتها، وبعد ذلك ننتقل إلى درس اليوم.لنصغ ونستمع وسوف تلوح لكم أنوار تلك الهداية وتعرفون مصادرها من هذه الآيات التي هي كالكواكب النورانية، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:33-37].درسنا هذا، وعرفنا كيف اصطفى الله آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، وعرفنا عن حنة أم مريم وكيف تاقت نفسها للولد وكانت لا تلد، فنذرت لربها أن يرزقها ولداً وتجعله له لا تأنس به ولا يخدمها، فتهبه لله يعبد الله، كل ما في الأمر أن تلد ولداً، واستجاب الله، وحملت بـمريم، ومات بعلها عليه السلام وولدت مريم، وسمتها مريم أي: خادمة الله، ما إن وضعتها لفتها في قماطها، ثم بعثت بها إلى صلحاء بني إسرائيل، فأيهم يظفر بأن تتربى هذه النذيرة في بيته، فاختلفوا وتنازعوا كل يريدها، ثم ألهمهم الله رشداً وهو القرعة، ففاز بها زكريا بالقرعة، تدبير الله؛ لأن زكريا تحته خالتها أخت حنة، ففاز بها زكريا، قال تعالى: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:37]، زكريا عليه السلام سيأتي ما منَّ الله به عليه.
هداية الآيات
قال المصنف غفر الله لنا وله: [هداية الآيات: من هداية الآيات] أي: التي سمعنا تلاوتها.
إفضال الله تعالى على من يشاء من عباده
قال: [ أولاً: بيان إفضال الله تعالى وإنعامه على من يشاء ] من عباده، فالله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين إفضال وإنعام وإحسان منه، وقد أنعم علينا وأحسن إلينا وآتانا ما لم يؤت غيرنا، إلا أننا ناسون أو غافلون. اذكر ما أفضل الله عليك من الآلاء والنعم لتشكره وتحمده وتقول: الحمد لله.
إثبات عبودية عيسى لله تعالى وحده
قال: [ ثانياً: بيان أن عيسى عليه السلام ليس بابن لله، ولا هو الله، ولا هو ثالث ثلاثة ] كما يعتقد النصارى [ بل هو عبد الله ورسوله، أمه مريم ] عليها السلام [وجدته حنة وجده عمران من بيت شرف وصلاح في بني إسرائيل ].أين فهوم النصارى وعقولهم؟ يسخر منهم اليهود ويستهزئون بهم ويصورون لهم هذا التصوير الباطل؟! عيسى عرفنا أمه، مريم أمه عرفنا أباها وأمها، فكيف يكون ابن الله؟ الذي يقول للشيء: كن فيكون يحتاج إلى ولد؟! أين زوجة الله؟! والتزوج يكون بالتجانس بالجنس، والله ليس كمثله شيء، فكيف تكون له زوجة من البشر؟ أين عقول البشر؟ أين يهبطون؟ الحيوانات تفوقهم وتعلو فوقهم، يسخر منهم اليهود، انتقموا منهم فحولوهم إلى وثنيين مشركين يعيشون على عقيدة يسخر منها الإنس والجن.
استجابة الله تعالى لدعاء أوليائه
قال: [ ثالثاً: استجابة الله تعالى لدعاء أوليائه ] أولياء الله إذا رفعوا أكفهم إليه والله لا يردها صفرًا خائبة أبداً[ استجابة الله تعالى لدعاء أوليائه كما استجاب لـحنة ورزقها الولد، وأعاذ بنتها وولدها من الشيطان الرجيم ].أما قالت: أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]؟! فحفظ الله مريم حفظاً لا نظير له.واذكروا لما جاء جبريل يريد أن ينفخ في كمها: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:18-20]، هذه العذراء البتول، هذه مريم خادمة الله حفظها الله من أن تذنب ذنباً بدعوة حنة أمها، وولدها عيسى كما علمتم لم يقارف ذنباً قط، حفظ من؟ حفظ الله، وفي هذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود يلد أو يولد إلا ينخس الشيطان في خاصرته إلا ما كان من ابن مريم )، استجابة الله لها.
مشروعية النذر واختصاصه بالله تعالى
قال: [رابعاً: مشروعية النذر لله تعالى، وهو التزام المؤمن الطاعة تقرباً إلى الله تعالى ].النذر مشروع لكن لمن؟ ليس لسيدي عبد القادر .. مولاي إدريس.. رجال البلاد.. سيدي إبراهيم، لمن النذر؟ لله، إخوانكم وآباؤكم وأجدادكم طيلة خمسة قرون أو ستة ما يعرفون النذر لله، ينذرون للأولياء والصالحين، يا سيدي فلان إذا ولدت امرأتي ولداً أفعل لك كذا وكذا، كأنهم لا يعرفون الله، إيه ما يعرفون، من عرفهم بالله؟ سلوهم، هل جلسوا جلسة كهذه؟ والله ما كان، من أين يتعلمون؟ أيوحى إليهم؟ أهملهم الحكام والمسئولون وأضاعهم العلماء فتاهوا في أودية الضلال، فهم ينذرون لغير الله، لمن نذرت حنة لله وإلا لسيدها إبراهيم أو جدها إسحاق أو يعقوب؟ لمن نذرت؟ لله، إني نذرت لله، النذر أصله تملق وتزلف إلى الله عز وجل، لله علي أن أصوم هذا الشهر بكامله، لم؟ ليحبني ليرضى عني ليقضي حاجتي، لله علي ألا أنام بعد هذه الليلة أسبوعاً كاملاً أعبد الله في الليل، لم أتيت بهذا النذر يا عبد الله؟ أتزلف إلى الله، أتقرب إليه ليحبني ويرضى عني ويحقق ولايتي، أما أن ينذروا لسيدي فلان وفلان يشركون بالله غيره في عبادته وتتعلق قلوبهم بغير ربهم؛ فما السبب؟الجهل، ما درسنا كتاب الله، نقرؤه على الموتى فقط، ما درسنا سنة رسول الله، نقرؤها للتبرك بها لا للعلم ولا للعمل، طيلة ثمانمائة سنة تقريباً، كيف نعلم؟ وإلى الآن هل أفقنا؟ هل صحونا؟ مررنا الآن بقرب المسجد والأولاد يلعبون والأطفال والصياح بالألاعيب كأننا في لندن أو في تشيكوسلوفاكيا؛ لأن أولئك أولادهم ونساؤهم وأطفالهم لا يعرفون الله، آيسون قانطون، إذا فرغوا من العمل أو جاء يوم الراحة ماذا يصنعون؟ يذكرون الله؟ ما عرفوه، ماذا يصنعون؟ يلعبون على البغال والحمير والصياح والضجيج، هذه حالهم، فهل نكون نحن مثلهم؟نحن ننادي بأعلى أصواتنا: أيها المسلمون إذا دقت الساعة السادسة ائتوا بنسائكم وأطفالكم إلى بيوت ربكم، وتعلموا الكتاب والحكمة؛ لأنكم أمة ممتازة تتأهلون إلى السماء واختراقها للنزول بدار السلام، لستم كاليهود ولا النصارى ولا المشركين، ولكن كما قال الشاعر:لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تنادينحن ربانيون أولياء الله، إذا فرغنا من العمل الدنيوي الضروري للإبقاء على حياتنا نفزع إلى بيوت ربنا نناجيه نتملقه نتعلم الهدى والسير إليه، فيقل الشر والشره والطمع والتكالب على الدنيا والأوساخ والقاذورات والجرائم والموبقات، قالوا بلسان الحال: لا لا. دعنا نلعب ونفرفش.أنا أبكي من هذه البربرية، والله الذي لا إله غيره لن يستقيم أمر هذه الأمة إلا أن تعود إلى هذا المنهج المحمدي، يوم ملكت كل شيء، لن تطيب ولن تطهر ولن تصفو ولن تكمل ولن تسود ولن تسعد إلا أن تعود إلى منهج الله عز وجل، تملك ما تملك وتزداد بعداً عن الله وهبوطاً إلى الحضيض، هل سنة الله تتبدل؟ هل أصبح الطعام لا يشبع، تغيرت السنة؟ لا والله، أصبحت النار ما تحرق؟ تبدلت سنة الله؟ أصبح الحديد لا يقطع؟ مستحيل، إذاً: فلن تصفو النفوس ولن تزكو الأرواح إلا على الكتاب والحكمة، كيف نتلقى هذا؟ نتلقاه في بيوت الله من أولياء الله، إعراض هكذا هيهات هيهات أن تكمل هذه الأمة أو تسعد وهي كل يوم تهبط إلى الحضيض، والفتن تغشاها وتحل ديارها في الشرق والغرب، متى نفيق؟
فضل الذكر على الأنثى في النهوض بالأعمال والواجبات
قال: [ خامساً: بيان فضل الذكر على الأنثى في باب النهوض بالأعمال والواجبات ]. تأسفت وتحسرت حنة : رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ [آل عمران:36] هي لا تخبر الله، والله أعلم بما وضعت، ولكن متحسرة: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36] ماذا تشغل هذه البنت؟ أرادت رجلاً يجاهد يؤم الناس يهدي البشرية، على الأقل يصلح المسجد المقدس، لكن البنت ماذا تصنع؟ تتكلم مع الرجال حرام، كيف تعمل؟ عرفت الحقيقة أم لا؟ ليس الذكر كالأنثى في باب التكاليف والنهوض بالواجبات والقيام بالدعوة إلى الله، هذا وجه تحسرها؛ فلهذا في هذه الآية بيان فضل الذكر على الأنثى في باب النهوض بالأعمال والتكاليف والواجبات.
جواز التأسف على فوات الخير
قال: [ سادساً: جواز التحسر والتأسف ] كما تشاهدون نتأسف ونتحسر ونبكي، جائز [ جواز التحسر والتأسف لما يفوت العبد من الخير الذي كان يأمله ].ويرجوه ويريد أن يحققه، تأسفت حنة وتحسرت أم لا؟ كانت ترجو أن يكون في بطنها ذكر فإذا به أنثى.
إثبات كرامات الأولياء
قال: [ سابعاً: ثبوت كرامات الأولياء كما تم لـمريم في محرابها ].كرامات الأولياء من يكرمهم بها؟ الله وليهم ومولاهم يعطيهم العجائب، مريم في المقصورة في المحراب في المسجد يدخل زكريا بطعامها يجد الملائكة سبقته فبين يديها الطعام والشراب، أَنَّى لَكِ هَذَا [آل عمران:37] يا مريم، هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37].جيش محمد صلى الله عليه وسلم في سرية سيف البحر خرجوا بمائة من التمر فأصبح قائدهم يوزع عليهم تمرة تمرة في كل يوم، يلوكونها ساعة يمتصونها وتبقى النواة في أفواههم، ورفعوا أيديهم فرمى الله تعالى إليهم بحوت لم تر الدنيا مثله على ساحل البحر، أخذوا يأكلون اللحم ويستظلون تحت عظامه، آية الله وكرامته.و خبيب مسجون في بيت بمكة أيامًا، المشركون حكموا عليه بالموت، قالوا لامرأة: اتركيه عندك حتى نأخذه يوم يجتمع الناس، تدخل على خبيب فتجده يأكل العنب في الشتاء، عجب هذا، خبيب استشهد أم لا؟ صلبوه، قتلوه على الأعواد خارج الحرم، لما وضعوه على الأعواد جاءه رئيس مكة أبو سفيان رضي الله عنه في ذلك الوقت فقال: اذكر محمدًا فقط هنا بسوء، سبه الآن نطلقك، اذكر آلهتنا فقط والناس يتفرجون ويسمعون، اذكرها بخير الآن نطلقك لتعود إلى أهلك، قال: لا أحب أن يشاك محمد بشوكة وتطلقونني، قال: إذاً اسمحوا لي أن أصلي ركعتين أودع الحياة، فقالوا صل، لو كان جماعتكم اليوم أيها العرب والله ما يسمحون له، إلا من رحم الله، نعم في ديارنا هذه، بل يطلبون منه أن يصلي أولاً والحمد لله. صلى ركعتين وما أطال، خفف، لم؟ قال: خشيت أن تقولوا: خوفاً من الموت يطول في الصلاة، ولولا هذا القول لكنت مددتها؛ لأني أناجي ربي.إذاً: [ثبوت كرامات الأولياء كما تم ] ذلك [ لمريم عليها السلام في محرابها].
تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
قال: [ ثامناً: تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ] إثباتها وتقريرها [ إذ مثل هذه القصص لا يتأتى لأمي أن يقصه إلا أن يكون رسولاً يوحى إليه ].مستحيل أن يتكلم عربي في مكة أو في يثرب أو في أي مكان عن تاريخ بني إسرائيل قبل سبعمائة سنة، ثم لا يستطيع يهودي ولا نصراني أن يرد كلمة، كيف يتم هذا؟ ممكن؟ مستحيل، إلا أن يكون وحي الله ينزل عليه، أو ما فهمتم هذا؟كيف عرفت أن محمداً رسول الله؟ كيف شهدت على أنه رسول الله؟ بماذا؟ كيف يتحدث بهذه الأنباء، بهذه الأخبار الصادقة؟ من أين تأتيه؟ لولا أنه وحي الله يوحى إليه، أكبر آية على نبوته صلى الله عليه وسلم، والله قال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف:3]، وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120]؛ فلهذا قلنا: تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ مثل هذا القصص لا يتأتى لأمي لا يقرأ ولا يكتب أن يقصه إلا أن يكون رسولاً يوحى إليه. [ ولهذا ختمه بقوله: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ [آل عمران: 44]. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ [آل عمران:44] أخبار الغيب العظيمة، نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران:44]، قولوا: آمنا بالله.
تفسير قوله تعالى: (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة...)
الآن مع هذه الآيات الأربع التي نريد دراستها إن شاء الله، إليكم تلاوتها وتأملوا؛ لأنكم تدرسون كتاب الله والرحمة قد غشيتكم، يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:38-41].قوله: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38]، بعض طلبة العلم يقولون: الشيخ لا يأتي بالتجويد، والتجويد لا يدع العوام يفهمون وهو ليس بفريضة. ومقولة: (من لم يجود القرآن آثم) ما قالها رسول الله ولا مالك بن أنس، ولكن معناها: اللحن في كلام الله حرام، (سبحانه) يقول: سبحان، حرام عليه، لكن إذا نطق بالآيات كما هي على لغة العرب واضحة بينة فلا حرج أبداً؛ لأن بعض الطلاب قد يقولون: الشيخ لا يجود القرآن، فقطعنا عليهم الطريق فنحن نريد البيان والإفهام والتعليم.
ذكر سبب دعوة زكريا وطلبه من الله الولد
هُنَالِكَ [آل عمران:38] أين هذا؟ الله أكبر! لما وجد زكريا مريم تأكل فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء: أين الفواكه في هذا الصيف؟ قالت: من عند الله، قال: إذاً: ما هناك مستحيل على الله، أنا كبير السن وامرأتي عاقر يعطيني إذاً، أليس قادرًا على أن يوقف السنن أم لا؟أما أوقف النار على إبراهيم، نار أججت أكثر من أربعين يوماً حتى علت السماء، ومع هذا لما صدر أمر الله: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، لولا قوله: وَسَلامًا [الأنبياء:69] لمات بالثلج، لتحولت إلى ثلج كامل، أبطل هذه السنة أم لا؟ الحديد يقطع، وضع على عنق إسماعيل فهل قطع؟ ما قطع، أوقفه الله عز وجل.إذاً: هنالك تنبه زكريا وهو رسول الله ونبيه، عرف أنه كبر سنه وامرأته عقيم وهو عاقر، لكن لما شاهد أن السنن أوقفها الذي وضعها هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] سأله: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38].
توسل زكريا عليه السلام بأسماء الله تعالى وصفاته
توسل إلى الله بماذا؟ بسيدي يعقوب.. بنبي الله إسحاق؟ توسل بماذا؟ توسل بأسماء الله وصفاته إذ قال: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، تملقه بذكر هذه الصفة له، ما قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة بجاه نبيك وخليلك إبراهيم وهو جده.ونحن من أين جاءنا بجاه السيد فلان؟ من الثالوث؛ ليصرفونا عن التوسل النافع ويحملونا على توسلات باطلة، لو تبقى طول حياتك: اللهم إني أسألك بجاه فلان، أعطني بحق فلان، الملائكة تسخر منك، بهلول أنت؟! تطالب بماذا؟ ما تعطى بهذه التوسلات، تعلم كيف تتوسل إلى الله، قم في آخر الليل واغتسل والجو بارد وابك بين يدي الله وصل واطلب تعط، أما أن تقول: أعطني بحق فلان فبمن تستهزئ؟يروى عن أبي حنيفة النعمان رحمه الله: أن هذا من الكفر، والذي يتأمل وكل واع يفهم، بدل أن تقول: اللهم إني أسألك من فضلك.. من جودك.. من كرمك، يا أكرم الأكرمين يا أرحم الراحمين يا رب العالمين أعطني كذا؛ تقول: أعطني بحق فلان عليك! أعوذ بالله، من هذا الذي له حق على الله؟ في الملكوت الأعلى وفي الأرض هل هناك من له حق على الله، وما تستحي أن تقول له: إذا لم تعطني أنت أعطني من حق فلان؟ أعوذ بالله، فهمتم هذا أم لا؟ علماء في هذه الأمة لما هبطت يعتقدون هذا الاعتقاد، أعطني بحق فلان، أوما فهمتم؟أليس من الأدب أن تقول: أعطني من فضلك أم لا؟ من إحسانك يا رب.. من جودك.. من كرمك، أما أن تقول: أسألك بحق فلان؛ فالمعنى باللغة العامية: إذا لم تعطني من عندك أعطني من حق فلان عليك، هذا يواجه به الله؟! يمسخ العبد ويكفر، ومع هذا يفعل ذلك الناس، إلى الآن ما زالوا غافلين ونائمين.بم توسل زكريا؟ بقوله: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38] وقد دعوتك وأنت السميع فأعطني.
تفسير قوله تعالى: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ...)
قال تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39] نادته الملائكة بصوتها وسمعه وفهمه؛ لأنهم نادوه بلغته التي يعيش عليها بين أمه وأبيه، الملائكة نادته وهو أين؟ في المقهى.. على سرير النوم؟ وهو قائم يفعل ماذا؟ يصلي، أين؟ أمام الناس؟ لا، في المقصورة؛ لأن المحراب في لغة بني إسرائيل البيت الملتصق بالمسجد، انتبهتم؟ غرفة يصعد إليها بدرجتين عند المسجد تابعة له، يتعبد فيها المتعبدون. فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39]، ماذا قالت له؟ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39].أول اسم وضع في الدنيا، لم تسمع البشرية باسم يحيى هذا الأول وسموا أنتم بعده، يحيا لا يموت، فيه معنى الحياة، أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى [آل عمران:39] والبشارة الكلمة السارة المفرحة التي يتهلل لها البشر بالوجه والطلاقة.
معنى قوله تعالى: (مصدقاً بكلمة من الله)
يبشر بماذا؟ بيحيى، ما وصفه؟ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:39]مصدقاً، هو يصدق بكلمة من الله قد أنكرها غيره وهي عيسى عليه السلام، عيسى من أسمائه: كلمة الله، لم سمي: كلمة الله؟ لأنه وجد على غير سنن الولادة في البشر، وجد بكلمة الله: (كن) فكان، فسمي عيسى بكلمة الله، يحيى يكبر إن شاء الله ويولد عيسى من مريم وينكر اليهود كلهم ويكذبون ويقولون: زانية، وهو يصدق به، بشارة قبل أن تقع الأسباب كلها.
معنى قوله تعالى: (وسيداً)
قوله: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا [آل عمران:39] ويكون سيد الناس. هل سيد يملك الناس؟ ما معنى سيد؟ (سيداً) معناها: أنه يدعو إلى الله، يهدي البشرية، يزكي أرواحها، يهذب أخلاقها، يساعد على طيبة الحياة وسعادتها بدعوته وكماله، إذ علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بأن من خدمك فقد ساد عليك فقال: ( خادم القوم سيدهم )، من سيدنا؟ خادمنا، لم؟ لأننا احتجنا إليه وافتقرناه وعجزنا وهو يسقينا ويطعمنا، ويوقف السيارة لنا عند بابنا، أصبح سيدنا أم لا؟ أحببنا أم كرهنا.ومن هنا قيل لأحد الأعراب في قبيلة من القبائل: بم ساد فيكم فلان يا بني عوف.. يا بني خالد.. بم ساد فيكم فلان وأصبح سيدكم؟ قال: احتجنا إليه واستغنى عنا. وهذا هو السيد، أليس الله هو السيد؟ ( إنما السيد الله )، ما وجه ذلك؟ الخليقة كلها مفتقرة إليه وهو مستغن عنها غنى مطلقاً، ساد أم لا؟ سيد القوم خادمهم، من وضع هذه القاعدة؟ رسول الله، سيد الحكماء وأستاذهم، أوما فهمتم هذه؟الذي يخدمك هو سيدك، فلهذا تطلق على العبد: سيدي خادمي، الله أكبر! إذاً: كيف ساد بني إسرائيل؟ بالدعوة والإصلاح والخدمة لوجه الله تعالى، ما هو كسول ولا جهول ولا ظالم ولا طماع يأكل أموال الناس، عرفتم؟ بشره بأنه سيد.
معنى قوله تعالى: (وحصوراً)
قوله: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا [آل عمران:39] عازفاً عن شهوات النساء والقاذورات وأوساخها، وليس معناه أنه لا يأتي النساء، بل معصوماً ما يتلقاه ويقع فيه عامة الناس. ولهذا قال المفسرون في الحصور أقوالاً كثيرة: منها: أنه كان معصوماً من الفواحش والقاذورات، وهو كذلك، وليس معنى ذلك أنه ممنوع من تزوج النساء للإنجاب والزواج الحلال. وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39]نبياً ينبئه الله وهو نبي ورسول أيضاً.وهل تسمعون عن عجائب بني عمكم اليهود؟ قتلوا زكريا وقتلوا يحيى، شهيدان، والعرب والحمد لله ما قتلوا نبياً، والله ما قتلوا نبياً، وأما اليهود فورد أن زكريا ويحيى قتلوهما وعيسى ادعوا أنهم صلبوه. لما حاصرته الشرطة ليخرجوه ما خرج، دخل قائد الشرطة فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى كأنه هو، فاقتحموا وأخذوه وقيدوه باليدين وخرجوا به، وعيسى رفعه الله من الروزنة، وصلبوا رئيس شرطتهم، والذي يشك يسأل النصارى: الصليب في أعناقهم لماذا؟ وهذه من المهازل! إله رب يصلب ويقتل ويعلق صليبه في عنقه، مجانين هؤلاء، عميان هؤلاء، ماذا أصابهم؟ الناس يعبدون حجرة لينتفعوا بها مثلاً، أما هذا فمصلوب مقتول ويعطيك ويمنعك من الشر؟ أين يذهب بعقلك؟ من فعل هذا بالنصارى؟ بنو عمنا اليهود، حولوهم إلى وثنيين، ما إن انتشرت دعوة عيسى في الحواريين وخرجت من فلسطين إلى ضفاف شرق أوروبا ودخلت في بلاد الروم، سبعين سنة فقط عبد النصارى الله عبادة شرعية ربانية، ما إن انتهت السبعين حتى جاء أكبر قس شيطاني يهودي وادعى النصرانية ودخل معهم وأفسد عليهم دينهم، وفعلوا هذا بنا، بدل ما كنا على مذهب رسول الله وأصحابه أصبحنا مذاهب، كنا جماعة واحدة فأصبحنا جماعات، كنا دولة واحدة فأصبحنا دويلات، من فعل هذا؟ اليهود، لم تعملون هذا يا بني عمنا؟ لأنكم سلبتمونا السيادة والقيادة وفزتم بها، لن نسمح بها، هذا لنا ليس لكم، نجحوا أم لا؟ أما أوجدوا دولة بني إسرائيل وها نحن نعترف بها أم لا؟ نجحوا أم لا؟ نجحوا، ولولا حماية الله لكنا الآن تحت أرجلهم، وهم قادرون على هذا لأننا نحن مرضنا وهبطنا، نسينا الله وما عرفناه، أما ننزل إلى الأولياء والقبور؟ يكفي، لا إله إلا الله، من حول القرآن عن هذه المجالس الربانية إلى الموتى؟ أصابعهم وتخطيطاتهم.
معنى قوله تعالى: (ونبياً من الصالحين)
قال: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39].نبي ومن الصالحين أيضاً، هذه بشرى لكم، من هم الصالحون؟ موكب من أربعة مواكب هو الأخير في آية من سورة النساء، يقول تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، كم موكبًا؟ أربعة، هناك موكب خامس؟ لا، نبي صديق شهيد صالح، قال أهل العلم: أتدرون من الصالح؟ الصالح من أدى حقوق الله كاملة لم يبخس منها حقا ولم ينقصه، وأدى حقوق العباد كذلك كاملة لم يبخس ولم ينقص، ذلكم العبد الصالح، والذي ينقص حقوق الله ويسرقها ويعبث بها لن يكون صالحاً، والذي يأخذ حقوق الناس ولا يعترف بها لن يكون صالحاً، الصالح: من أدى حقوق الله وحقوق عباده، ما نقص منها ولا بخس، ذلكم العبد الصالح، اللهم اجعلنا منهم.
تفسير قوله تعالى: (قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر...)
قال تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ [آل عمران:40] تجاوز الثمانين أو المائة. وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران:40] والعقر هو القطع، عقر الناقة، كأن التي ما تلد قطعت رحمها، أصبحت عاقرًا، عقرته فهي عاقر، عقر الناقة: قطع عنقها.إذاً: كيف قال زكريا هذا؟تقول الأخبار السليمة الصحيحة: لما بشرته الملائكة وهو يصلي جاءه أبو مرة، تعرفونه؟ إبليس: إيه يا زكريا! هذا الشيطان يضحك عليك، ويبشرك بغلام كذا وكذا وأنت شيخ كبير وامرأتك عاقر، أين يذهب بعقلك يا زكريا؟ يفعل إبليس هذا أم لا؟ أو ما يستطيع؟ أما فعله مع الخليل أبي الأنبياء إبراهيم؟ لم ترمون الجمرات الثلاث؟ تلك مواقفه، لما رأى إبراهيم الرؤيا بأن يذبح إسماعيل تقرباً إلى الله وتزلفاً، وخرج به استقبله في جمرة العقبة: أين تذهب يا إبراهيم؟ تذهب بهذا الطفل تذبحه! حاشا لله أن يأمرك بهذا، ما حاجة الله بذبح هذا الطفل أو الغلام، أمه تتحسر في بيتها، كيف هذا؟ وعرف إبراهيم فرجم الشيطان، ثم مشى كيلو متر: يا إبراهيم! أين يذهب بعقلك؟ تذبح ولدك؟ الله بحاجة إليه؟ راجع نفسك، هذه رؤيا منامية من الشيطان. فرجمه، حتى الجمرة الثالثة تعرفونها أم لا؟ ثم آيس إبليس قنط، وعرف أن إبراهيم صَلْب، وبالفعل تله للجبين ليذبحه، وإذا بنداء الله: يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:105]، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، كبش لم تر الدنيا نظيره، اترك هذا وخذ هذا.فلا عجب أن الشيطان جاء لزكريا يفتنه: هذا الذي ناداك شيطان فقط، أو جان من الجن، أبداً ما هو بملك، من أين الملك؟ كيف هذا؟إذاً: هنا قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]، هو راجع ربه في ندائه ومناجاته.
تفسير قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً...)
قال تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41] أعطني آية وعلامة كالشمس حتى أحرج العدو الذي يكذبني اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [آل عمران:41]، لن تستطيع أن تتكلم، ثلاثة أيام وهو يرمز، وذكر الله على لسانه أعلى من صوته، لا إله إلا الله! يذكر الله: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، رب اغفر لي، رب ارحمني، ويعجز أن يقول: يا أم فلان أعطيني الماء، والله ما يقدر، سبحان الله! ليس هناك علامة وآية أكثر من هذه آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [آل عمران:41] سوياً، في آية مريم: ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10]، انتبهتم؟ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41] يرمز بيده وبرأسه كذا كذا فيفهمون عنه، وذكر الله ما ينساه؛ ولهذا قال العلماء: ذكر الله غذاء الأرواح، ما يستغني عنه ذو إيمان أبداً، ولو كان الله يرخص في شيء لرخص فيه لزكريا، وأعظم من هذا عندما تلتقي الصفوف وتقتحم خيل الله جيوش العدو في نفس الوقت الذكر لا يجوز السكوت عنه؛ فلهذا لا يجوز السكوت عن ذكر الله إلا في حالة واحدة والعبد على كرسي المرحاض يتغوط فقط، أما حين يمشي في السوق.. في الطيارة.. يسوق السيارة.. يأكل دائماً يذكر الله، إلا في حال التبرز والتغوط يسكت، وانظر كيف أذن له أن يذكر الله ليكون علامة على أنه قد وهبه الله هذا الولد. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ [آل عمران:41] هي: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41].بالصباح والمساء، (بالعشي والإبكار) عندكم أنتم في هذا شيء؟ اسمعوا الجائزة المحمدية: ( من صلى البردين دخل الجنة )، ( من صلى البردين ) أي: صلاة الصبح وصلاة العصر، ( دخل الجنة ) جائزة محمدية.(وسبح بالعشي) العصر، (والإبكار) الصبح.معاشر المستمعين! نترك هذا إلى غد إن شاء الله، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
اختار الله عز وجل مريم بنت عمران واصطفاها من بين نساء العالمين لتكون آية للناس، وتحمل في جوفها آية أخرى ألا وهي عيسى عليه السلام الذي أوجده الله دون أب، وقد بعث الله ملائكته إلى مريم ليبشروها بهذا الاصطفاء، ويرشدونها إلى ما يؤهلها لاستحقاق هذا الاصطفاء، من الاطراح بين يدي الله، وتعفير الوجه على عتبات فضله ورحمته، والانكسار بين يديه سبحانه وتعالى.
أهمية الارتباط بالمسجد والجلوس فيه للذكر وسماع العلم
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سابق عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ فداه أبي وأمي والعالم أجمع قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الخير واجعلنا من أهله يا رب العالمين.وأزيدك : يقول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).كيف نعتزل بيوت الله؟ كيف نشرد إلى المقاهي والملاهي والأباطيل؟( وما من مؤمن يصلي الفريضة ويجلس في مسجده ينتظر الفريضة الثانية إلا والملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث )، فإن انتقض وضوؤه خرج إلى خارج المسجد فتقف الملائكة عن الصلاة عليه.هل أنتم معي في هذا الفهم أو تظنونه شبه خرافات؟ والله لو يرزق أحدنا اليقين لما استطاع أن يفارق بيت الله بين المغرب والعشاء حتى الموت؛ لأن الوقت ما هو وقت تجارة، ما هو وقت سياحة، ما هو وقت وظيفة، إذا كان الكفار أهل النار يذهبون إلى المقاهي والملاهي والمراقص والمقاصف ودور الباطل والسينما أين يذهب أولياء الله، دلوني؟ يذهبون إلى بيوت ربهم، يجلسون بين يديه، يستمطرون رحماته، يطلبون رضاه.وشيء آخر: يتعلمون الكتاب والحكمة ويزكون أنفسهم؛ لأنهم يريدون أن ينزلوا منازل الأبرار، والمسافة بعيدة حتى تصل إلى دار السلام. كيف تخترق هذه المسافة؟ بأن تربط نفسك في بيت الله ساعة ونصفًا، ولكنك يا عبد الله تأبى ذلك.
عاقبة الإعراض عن القرآن الكريم والانسلاخ من آياته
لا يجدينا البكاء ولا ينفعنا، هذه آثار الجهل الذي أصابنا، والذي جر إلينا هذه الظلمة وساقنا إليها، وصبها علينا أعداء الله ورسوله والمؤمنين: المجوس واليهود والنصارى، حولونا من طلب السماء إلى طلب الأرض، وأصبحت حالنا كذلكم المثل الذي ذكر ربنا من سورة الأعراف، اسمعوا تأملوا، يقول تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175]، ما أعطانا الله آياته، ها هي هذه بين أيدينا في سطورنا وصدورنا، آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175]، كيف ينسلخ منها؟ يتركها في الرفوف.. في المساجد، ويخرج يعيش بدون نورها وهدايتها، فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]؛ لأن المناعة والحصانة والحفظ في ولاية الله التي يحصل عليها العبد بالإيمان والتقوى، ولا بد للإيمان والتقوى من معرفة ما يتقي الله فيه وكيف يتقيه؟ ومصدر هذا الكتاب والحكمة، فلما انسلخ من الآيات أتبعه الشيطان وأدركه، فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175] الفاسدين. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176] إذا كانت لديكم روافع ترفع الحجارة والصخور وأطنان الإسمنت إلى شاهق العمارات، ترفع الأطنان من ظهر السفينة إلى البر والشاطئ، فما هي الرافعة التي ترفع هذا الإنسان إلى الملكوت الأعلى؟قولوا: القرآن، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176] لا وحي الله ولا هدي رسول الله، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] وها هم المسلمون عرباً وعجماً يلهثون ولن ينتهي لهثهم أبداً، هذا قرآن أم ماذا؟ هذا القرآن الذي يقرأ على الموتى يا عباد الله، أسألكم بالله يوبخ به الميت هذا أم يقرأ على الحي؟ والله يقول وقوله الحق: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] ماذا؟ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:69-70] وقراءة سبعية: (لتنذر من كان حياً)، أين الميت؟ من ثمانمائة سنة والقرآن لا يقرأ إلا على الموتى، لا يجتمع اثنان في ظل شجر أو حائط أو في بيته يقول له: أسمعني شيئاً من كلام ربي، اقرأ علي شيئاً من القرآن ،أبداً، ومن قال: كيف؟ يرفع يده، هل مر بكم أحد وقال: تعالوا أسمعوني كلام الله؟ حصل هذا؟ يقرأ على الموتى، أي نعم، أليس هذا الواقع؟ما هي الرافعة التي ترفع البشرية إلى مستويات الكمال البشري؟ القرآن والحكمة المحمدية، الحكمة تبين القرآن وتظهر مراد الله منه، لا بد من رسول الله، والقرآن هو مصدر الهداية الإلهية.إذاً: واحر قلباه ممن قلبه شبم. بعد هذا البكاء نعود إلى درسنا وتلاوة كتاب ربنا.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الآيات التي درسناها بالأمس ما استخرجنا منها هداياتها، فهيا نعيد تلاوة الآيات الثلاث واسمعوا، وإذا أخذنا في استنتاج الهداية تذكرون من أين أخذت فكونوا بصراء.
التوسل بين اتباع الشرع ومخالفة المتوسلين
يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]. هذه هي الوسيلة، ما قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة بجاه خليلك إبراهيم، قال: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، توسل إلى الله بأسمائه وصفاته، وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، وقضت أمتنا قرابة ألف سنة وهم لا يعرفون من الوسيلة إلا ما يغضب المتوسل إليه: أعطني بحق فلان، وأعطني بجاه فلان، عرفتم هذا؟ وما زلنا نائمين، أعطني بحق فلان، أسألك بحق فلان، أصبح الله بهذه المثابة: إن لم تعطني أنت أعطني بحق فلان عليك، أليس هذا هو الكفر؟! إي والله، قاله الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان ، بدل أن تتملق الله وتتزلف إليه تناديه بأسمائه: يا رب، يا رحيم، يا ولي المؤمنين، يا سميع، تقول: أعطني بحق فلان عليك، سمعتم أوما سمعتم؟ أعطني بجاه فلان، بدل أن يقوم وهو صاحب حاجة والآلام في نفسه والدموع على خديه ولا يقضيها إلا الله فيقوم فيصلي ويبكي ويسأل الله؛ يقول: أعطني بحق فلان، أسألك بحق فاطمة ، من علمنا هذه الوسيلة؟المجوس واليهود والنصارى الثالوث الأسود، أبعدونا عن روح الحياة، يا أيها الزائرون هل بلغكم أن القرآن بمثابة الروح أم لا؟ قالوا: ما بلغنا ما سمعنا، إيه ما بلغهم، أما قال تعالى في سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]؟ سماه روحاً أم لا؟ وهل يحيا مخلوق كائن بدون روح؟ ولا بعوضة، القرآن روح لا حياة بدونه أبداً.نظر العدو إلى حياة تلك الأمة الطاهرة النقية في قرونها الذهبية الثلاثة فعرف أنها والله ما حييت إلا بالقرآن، ولا اهتدت إلى كمالها إلا بالقرآن؛ لأن القرآن روح ونور، نحلف لكم بالله العظيم إنه لنور، خالق النور وواهبه يقول: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، وفي هذه الآية: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].قالوا: أبعدوهم عن القرآن فيموتون ويعيشون في الظلام، وفعلوا ونجحوا، كيف تقول يا شيخ: نجحوا؟ أنا أسألكم: استعمرونا أم لا؟ أين ممالك الهند الإسلامية؟ أصبحت مستعمرات بريطانية أم لا؟ أين جزر جاوى الإسلامية؟ أصبحت مستعمرات بلجيكية أم لا؟ أين الشرق الأنور الأوسط؟ أصبح مستعمرة بريطانيا أم لا؟ أين شمال العروبة والأفريقية والإسلام؟ أصبح مستعمرات إيطالية وفرنسية وأسبانية، هل هناك من يرد علي؟ لو كانوا أحياء مهتدين أيستعمرهم كافرون ميتون؟ والله ما كان ولن يكون.وما زلنا على حالنا ما أفقنا أبداً، القرآن نجتمع عليه في الموت فقط، والآن حتى العرس لا بأس أيضاً؛ لأنهم يفرفشون، لا ليتدبروا فتلوح الأنوار ويمشون وراءها لهدايتهم وكمالهم.هيا نتلو هذه الآيات لنقف على ثمارها الناضجة، وهدايتها القرآنية؛ لأن القرآن كل آية منه تحمل هداية إلهية، ستة آلاف ومائتان وأربعون آية، كل آية علامة كالشمس تدل على وجود الرب وعلمه وحكمته وقدرته ورحمته.
ذكر ما كان من زكريا عليه السلام في طلب الولد وما كان منه بعد بشارة الملائكة له بيحيى
قال: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] ماذا قال؟ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران:38] طيبة أم خبيثة؟ تسرق وتسلب وتنهب؟ طيبة، ما نريد غير الطيبين: ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38] . فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ [آل عمران:39] أين؟ يصلي أم يرقص؟ أين نادته الملائكة؟ أين كان؟ في المحراب: وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران:39-40] كيف يقول زكريا؟ لأن العدو ما إن سمع البشرى حتى قال: إيه يا زكريا! هذا الشيطان يضحك عليك. كيف هذا؟ أنت رجل كبير وامرأتك عاقر ويقول لك ويبشرك؟ ما هو من الملائكة، هذا الشيطان. فاضطرب نبي الله زكريا، وطلب من ربه أن يعطيه آية. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41] لا تقل: كيف جاء الشيطان ليفتن نبي الله؟ هل عرفت أنه جاء لإبراهيم أم لا؟ من أجَلُّ: زكريا أو إبراهيم؟ إبراهيم. لما رأى في منامه أن يذبح إسماعيل تقرباً إلى ربه وطيبته هاجر وغسلته ونظفته وخرج به إلى منى؛ ما إن وصل إلى العقبة الفاصلة بين منى ومكة حتى وقف العدو: أي إبراهيم! ماذا يفعل ربك بهذا الغلام؟ أين يذهب بعقلك يا إبراهيم؟ إن الله في غنى عن أن تذبح هذا الطفل، ارجع، رجمه بالحصا، عرف أنه عدو الله، وتقدم فاعترضه في المرة الثانية، تعرفون هذا أم لا؟ ماذا ترمون في الحج؟ الأماكن التي وقف فيها العدو أم لا؟ ذكرى خالدة إلى يوم القيامة، فلعنه ورماه وتقدم إبراهيم حتى الجمرة الأخيرة، أيس العدو، فلا عجب أن يقف الآن هذا العدو على زكريا ويقول: كيف تفهم هذا الفهم وتقول: الملائكة بشرتني؟ هذا الشيطان يضحك عليك. هنا: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41] علامة. قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [آل عمران:41]هل المعنى: حرمت عليك الكلام؟ لا، لن تستطيع أن تنطق، مع كمال فصاحته ورجولته وبشريته، ثلاثة أيام والله ما يقدر على أن يقول: قف أو اجلس، ولا يطلب حاجات إلا بالرمز، وفي نفس الوقت لسانه من الذاكرين إلى عنان السماء، يذكر الله، يمجده، يسبحه، يهلل كأفصح ما يكون، ولا يقدر أن يقول: أعطني يا فلان الماء .. أين ذهب فلان؟ من يقوى على إعطائه هذه الآية؟ والله لو تجتمع البشرية كلها ما استطاعت أن تعطيها لرجل، نعم. يقطعون لسانه وما يتكلم، هذا يذكر الله بأعلى صوته، أما أن يقول: فلان ذهب، والمرأة عند الباب، والماء موجود فلا.قال: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41] واضح هذا القرآن أم لا؟ هذا يقرأ على الموتى، أيقومون يتوضئون ويصلون، أو يتوبون من ذنوبهم ويستغفرون؟ انتهى أمرهم. هذا يقرأ على الأحياء فقط.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
هذه الآية درسناها واستنارت قلوبنا بها، فهيا نذكر ما فيها من أنواع الهداية كالامتحان للدارسين والسامعين، قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ هداية الآيات: من هداية الآيات:]
الاعتبار بالغير وما يحصل له من الخير والشر
قال: [ أولاً: الاعتبار بالغير ] مشروع أم لا؟ أن تعتبر بغيرك، غيرك رمى بنفسه، رمى في بنك بأمواله فاحترق، ما تعتبر أنت؟ غيرك قال كلمة سوء فسجن ما تعتبر أنت فتسكت عن هذه الكلمة؟ العقلاء يعتبرون، تعرفون العَبَّارات أم لا؟ يعبرون بها الأنهار والبحار، كلمة وحدها تعبر بها أخطأت فيها، ونحن مأمورون بالاعتبار إن كان لنا قلوب.قال: [ الاعتبار بالغير؛ إذ زكريا دعا بالولد لما رأى كرامة الله تعالى لـمريم ] زكريا في عمر ثمانين سنة أو تسعين ما يلد، امرأته عاقر، قطعت رحمها ما هناك شيء، ولما سمع مريم، من مريم هذه؟ خادمة الله. بنت من؟ عمران، أمها ما اسمها؟ حنة. مريم نذيرة الله، خادمة الله، أمها نذرتها لله. رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:35] لا أستأنس به ولا يخدمني ولا يبيت ولا يظل معي، هو لك يا رب، فقط أكرمني بوجود ولد، واستجاب الله وأعطاها الولد، أعطاها مريم، ومعنى مريم: خادمة الله، فلما ولدتها لفتها في القماطة في لفافة من قطن أو كتان وخرجت بها إلى المسجد تعرضها على صلحاء بني إسرائيل، من يأخذ هذه النذيرة؟ واشرأبت النفوس وتطاولت الأعناق وكل يريد أن تكون في بيته لأنها نذيرة الله، مستواهم كان عالياً رفيعاً، فاضطروا إلى القرعة، من يظفر بهذه النذيرة وتعيش في بيته وهي لله، فاقترعوا ففاز بها زكريا، وتدبير الله أن امرأة زكريا خالة مريم لتعيش في بيت خالتها، والخالة بمنزلة الأم، يقول هذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( الخالة بمنزلة الأم ) فهي أولى القريبات بالحضانة بعد الجدة والأم، الخالة بمنزلة الأم. واستأجر لها زكريا ضئراً مرضعاً سنتين كاملتين، لما أصبحت تعقل وضعها في المسجد؛ لأنها منذورة لله، أين في المسجد؟ غرفة ملتصقة به وبابها مفتوح إلى المسجد وهي فيها تعبد الله.إذاً: فكان عليه السلام وهو نبي الله ورسوله إذا أتاها بالغداء أو العشاء أو تأخر يجد عندها فاكهة الجنة، فاكهة في الصيف لا توجد في الصيف وأخرى في الشتاء لا توجد في الشتاء، فسألها قال: أنى لك هذا يا مريم؟ كيف؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37] هنالك دعا زكريا ربه، ما دامت السنن يتجاوز الله عنها ويتركها إذاً سيعطيني ولداً وإن كنت كبير السن وامرأتي عاقراً. هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] ماذا قال؟ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران:38] هنا اعتبر زكريا بمريم أم لا؟ هذا الاعتبار، ما دام رأى أن الله قادر على أن يبطل السنن بكاملها، أتاها بفواكه الشتاء في الصيف والصيف في الشتاء؛ فكذلك يعطيه الولد وإن كان كبير السن وكانت امرأته عاقراً. هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ [آل عمران:38] هذا هو الاعتبار أم لا؟
مشروعية الدعاء والتزام آدابه
قال: [ ثانياً: مشروعية الدعاء ] الدعاء مشروع أم لا؟ مأمور به، مدعو إليه، مرغب فيه؛ لأن الدعاء هو العبادة، ومن دعا غير الله أشرك وكفر ومات وانتهى وجوده، قطع عنقه؛ لأنه جعل مثل الله مخلوقاً من مخلوقاته يسمع نداءه ويعرف حاله ويقدر على إعطائه ما طلب، سلب صفات الله ووضعها إلى مخلوق فهو كافر مشرك، أحب أم كره. ( الدعاء هو العبادة ) ومضت على أمتنا قرون لا يدعون الله إلا مع الصالحين، الله وحده، يا الله، يا رجال البلاد، يا رب، يا رسول الله، ما هناك دعاء لله وحده. وربما يقول البعض: لعل الشيخ واهم، خرّف! اسألوا أهليكم عن: يا رسول الله يا رسول الله، يا مولاي فلان، أين الله؟ حتى في السيارات: يا فاطمة، يا حسين ، أما الله فلا.الدعاء مخ العبادة، وقد مثلنا غير ما مرة للعبرة، حيث نقول لشخص: ارفع يديك على هيئة الدعاء وتمسكن، فسنرى أن هذا العبد -والله- لفقير، والله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [فاطر:15] هذا والله فقير، ما الدليل؟ ها هو يشحت، هل رفع أكفه أم لا؟ أعلن عن فقره؟ ثانياً: ربه فوق أم عن يمينه أو شماله؟ فوق، ذلك أنه رفع يديه هكذا إلى السماء.ثالثاً: هذا مؤمن بأن الله تعالى يسمع كلامه وهو على عرشه بائن من خلقه، والمسافة لا تقادر والله يسمعه، مؤمن بسماع دعائه. رابعاً: شعور كامل بأن الله غني وقدير على أن يعطيه حاجته، لو لم يعرف هذا والله ما رفع كفيه إليه ولا سأله. عرفتم هذا؟ إذاً: الدعاء هو العبادة، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة ) ( من لم يسأل الله يغضب عليه )، ألحوا في الدعاء.إذاً: [ مشروعية الدعاء وكونه سراً أقرب إلى الإجابة ] وزكريا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3] ما معنى خفي؟ سر لا يطلع عليه أحد حتى في بيته، فالدعاء كونه سراً أقرب إلى الإجابة من كونه علناً. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم:3-4]، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم:5].فيستحب أن يكون الدعاء سراً كالذكر، نحن لا نعرف نذكر الله سراً، بل نرفع أصواتنا: الله، الله، الله، هو هو هو. لا إله إلا الله. هكذا كان آباؤنا وأمهاتنا، قروناً ما نعرف كيف نعبد الله. من فعل بنا هذا؟ الثالوث الأسود، صرفنا عن كل سلم يرقى بنا إلى الكمال، أبعدنا عن كل طريق تصل بنا إلى الفوز والفلاح؛ لأنه عدو ونحن له عدو، ولكن ما أفقنا ولا عرفنا.قال: [ مشروعية الدعاء، وكونه سراً أقرب إلى الإجابة، وكونه في الصلاة كذلك ]، الدعاء في الصلاة أقرب إلى الإجابة منه خارج الصلاة، كونك تصلي وتدعو أفضل، والدليل: لما قنت أبو القاسم شهرين كان يقنت في الصلاة أو خارجها؟ لم ما طلع المنبر ودعا بالناس؟ يدعو وهو في الصلاة، وقال: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) والله يقول: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]. من أين أخذنا هذا؟ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ [آل عمران:39].
إمكان حصول تلبيس إبليس على المؤمن
قال: [ ثالثاً: جواز تلبيس إبليس على المؤمن، ولكن الله تعالى يذهب كيده ووسوسته ]، لا بد أن يمكر بنا، لكن الله يحمي أولياءه. من أين عرفنا هذا؟ لأن الملائكة بشرت زكريا أم لا؟ ومع هذا يقول: أعطني دليلاً. اجعل لي آية، علامة تدل على ما أعلمت به.
ثبوت كرامة الأولياء باستجابة دعوتهم
قال: [ خامساً: كرامات الله تعالى لأوليائه باستجابة دعائهم ] كرامة هذه أم لا؟ أكرمه الله فأعطاه يحيى كما طلب.
فضل الإكثار من الذكر
قال: [ سادساً: فضل الإكثار من الذكر ] من أين أخذناه؟ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، فلو لم يكن الإكثار محمودًا مطلوبًا لله محبوبًا أيقول له: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]؟
فضل صلاتي الصبح والعصر
قال: [ سابعاً: فيه فضيلة صلاتي الصبح والعصر ] الإبكار أليس هو الصبح؟ والعشي أليس هو بعد العصر؟ إذاً: فضيلة صلاة الصبح والعصر، ويبين هذا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فيقول: ( من صلى البردين دخل الجنة ) أي: لازم هذه الصلاة حتى مات، صلاة البرد الأولى: الصبح، والبرد الثاني: العصر.ما نحفظ هذا الحديث: ( من صلى البردين دخل الجنة ) قلها يا بني: ( من صلى البردين دخل الجنة ) لم لا نحفظه حتى ندعو الناس إلى صلاة الصبح وصلاة العصر؟ لأن الصبح وقت نوم والعصر وقت راحة.( من صلى البردين دخل الجنة ) والله يقول: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [غافر:55].إذاً: في هذه الآيات هدايات عظيمة أم لا؟ أنوار تلوح لأولي الأبصار، للذين يقرءون القرآن للهداية، لطلب المعرفة والسير في طريق الله الموصل إلى رضاه.
تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك ...)
بعد هذا معنا الآن هذه الآيات الكريمة، والسورة هي سورة آل عمران، والسورة أولها نزل بعد آخرها، آخرها نزل قبل أولها. الأول نزل فيم؟ في غزوة أحد ومعركتها، والثاني في وفد نجران، هذه الآيات أوحاها الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليبين لنصارى نجران الذين وفدوا عليهم من نجران إلى المدينة في ستين فارساً من أغنياء وأعيان تلك البلاد، وكانوا يأخذون أموالهم من بلاد الروم؛ لأنهم ينشرون الصليبية في ديار العرب.ستون فارساً جاءوا للجدال، للمحاجة، تريدون خبرًا عن عيسى؟ أنا أعلمكم بجدته إن كنتم لا تعرفون، كيف حملت جدته بأمه وأنتم لا علم لكم، ما سبق: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران:33-36] إيه! تحاجون محمدًا؟ أنتم جهال ما تعرفون عن عيسى شيئاً، محمد الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب اسألوه يقص عليكم تاريخ عيسى من عهد جدته، أفحمهم، قطعهم، ورضوا بدفع الجزية وانهزموا.وما زال السياق الكريم، قال تعالى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ [آل عمران:42] اذكر يا رسولنا لهذا الوفد الطائش. وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:42] يا خادمة الله. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ [آل عمران:42] اختاركِ من بين نساء العالم عالم زمانها. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ [آل عمران:42] لا ذنب تقارفه أبداً، لا إثم ولا ذنب، من أين يأتيها؟ أليست هي محبوسة في المحراب ملازمة للمسجد تذكر الله طول الليل والنهار، طهرها أم لا؟ بهذه الأسباب العجيبة. وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42] اختارها اختيارًا على علم لأن تظهر آيات الله فيها، فينفخ جبريل في كم درعها فتسير النفخة إلى بطنها، فإذا عيسى عبد الله ورسوله يهتز في بطنها، فألجأها الطلق إلى جذع النخلة في ساعة، هل لنساء العالم أن يفزن بهذا؟ مستحيل. مختارة هذه: وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42].
طريق تحصيل الاصطفاء
ما تقولون إذاً في خديجة وفاطمة وعائشة وآسية بنت مزاحم ؟ أخبرنا أبو القاسم قال: ( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ، وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) خمس الآن زد عليهن أمك وزوجتك وأختك وبنتك إذا والت الله بعد أن عرفته فلم يتقلب قلبها إلا في طلب حبه ورضاه، وزكت نفسها بالعبادات وطهرتها بالبعد من الذنوب والآثام هي في هذا الكمال، واقرأ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ وَالْمُؤْمِنِين َ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّق ِينَ وَالْمُتَصَدِّق َاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ... [الأحزاب:35] إلى آخر الآية. فقط قلبك تعطيه لله، لا لـسلمى يا رجل، ولا لـفريد الأطرش يا امرأة، قلبك لله لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، ووجهك لا تقبل به إلا على الله، والجوارح تابعة تؤدي الواجب وتبتعد عن الحرام، وتعيش على ذكر الله حتى يوافيك الأجل فتحتفل بموتك الملائكة في حفل عظيم، واقرءوا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31].آه! ما للمسلمين ما عرفوا هذا؟ لأنهم هجروا كتاب الله وبيوت الله، سحروهم فأبعدوهم، وملئوا قلوبهم بحب أوساخ الدنيا وقاذوراتها فنسوا هذا كله وهجروه.
تفسير قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين)
قال تعالى: يَا مَرْيَمُ [آل عمران:43] يا خادمة الله اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] هذا هو الشكر، هذا هو طريقه، ما دمتِ قد أهلتِ لهذا الخير وهذا الكمال اشكري الله عز وجل، ماذا أصنع يا رب؟ قال: اقْنُتِي لِرَبِّكِ [آل عمران:43] والقنوت الخضوع والخشوع والعبادة. اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] فكانت تصلي مع الرجال في بيت المقدس. وأبو القاسم أذن للنساء منا كذلك فقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )، وكان عمر يمنع عروسه وهو فحل، يا عمر ! نصلي العشاء؟ فيغضب، يا عمر ! نصلي الصبح في الظلام؟ فلا يجيب، قالت: أما والله قد أمر رسوله أن يقول: (لا تمنعوا) فلأصلين حتى تقول: لا تخرجي، وما استطاع أن يقول لها: لا تخرجي. قالت: إذاً سوف أصلي الصبح والعشاء في المسجد. وقد كانت نساء الصحابة يحضرن الصبح في الظلام والعشاء في الظلام، وأما في النهار فلا، لماذا؟ حتى لا يفتن الفحول من الرجال، وحتى لا يفتتن هن بالرجال. وهنا قد يسأل سائل: يا شيخ! كيف تقع هذه الفتنة؟والجواب: إذا نظر إليها فتن، وإذا نظرت إليه فتنت، وإذا مسها بأي شيء .. يصافحها أو يقدمها بعلها هذه مدام فلان. لا تعجبن بني فإن القوم جهال، ما عرفوا أن النظرة هكذا تلقيها عمداً ينعكس دخانها ونتنها على روحك وأنت لا تشعر؛ لأننا نحافظ أشد المحافظة على طهارة أرواحنا وزكاتها، فكل ما يلوث تلك الطهارة أو يصيبها بدخن حرام نبتعد عنه؛ لأن سعادتنا موقوفة على زكاة نفوسنا، ما سمعتم حكم الله الصادر علينا؟ أما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]؟ فالنظرة الأولى معفو عنها، ما ينعكس دخانها؛ لأنك غير قاصد، التفت فوجدت امرأة فنظرت، والثانية سهم من سهام إبليس مسموم أيضاً. فلهذا إما أن نحجب الرجال عن الشوارع والأسواق وإما أن نحجب النساء، لا محالة، خيروا. ماذا ترون؟ نحجب الرجال؟ يا رجال! غطوا وجوهكم ودعوا النساء يكشفن وجوههن، هذا مخالف للفطرة أم لا؟ لأننا نحن الفحول لنا مجالات: المزرعة والمتجر والبناء والشوارع، والمؤمنات لهن البيوتات لتربية البنين والبنات، مصادر البشرية، ما هن في حاجة إلى أن يخرجن إلى الشوارع، هذه هي الفطرة البشرية أم لا؟ هذا دين الله، والماسونية الخبيثة قلبت أوضاع الحياة من أجل أن يكونوا دولة بني إسرائيل وكونوها.وبعض الناس يشبك يديه مع امرأته في الشارع ، فهذا يحملها على ظهره أحسن! المرأة ظل الرجل تمشي وراءه في ظله، لا إلى جنبه ولا أمامه، فإن قدمها أمامه أصبح ديوثاً، تقوده إلى حيث تشاء، وإلى جنبه أصبحت مساوية له، أين تمشي المرأة؟ وراء الرجل، هو حاميها، هو الأسد وهي كاللبؤة وراءه، هو الذي يدفع عنها، أما إذا كانت هي أمامه وهو وراءها فلا يستقيم ذلك، فآه مما فعل بنا اليهود! يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] هذه هي الصلاة أم لا؟ ما قال: صل، بل ذكر ما هو أعظم، وهو الاطراح بين يدي الله، تعفير الوجه على التربة في الأرض، والانكسار بين يدي الله، وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43].
تفسير قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ...)
قال تعالى بعد نهاية القصة: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران:44] القائل هو الله تعالى والمخاطب هو رسول الله: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران:44] هل كان العرب يعرفونها؟ والله ما يعرفون شيئاً لا عبد المطلب ولا عدنان، إذاً: من أين جاء هذا العلم؟ من الله. كيف ينكر الله إذاً؟ كيف يكفر أهل القرآن بالله؟ عرف هذا العدو عن القرآن حتى نكفر، وإلا فعندنا مناعة نحلف بالله أن صاحبها لن يكفر ولو مات جوعاً، ولو قتل وصلب ما يكفر، مناعة وهي فقط أن نعيش على كتاب الله وسنة رسول الله، لا نفارقهما ليلاً ولا نهاراً. ما الدليل يا شيخ؟ أهل الحلقة يعرفون هذا حتى المؤمنات، لكن زوارنا ما جلسوا هذا المجلس قط. يقول تعالى في هذه السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100] لبيك اللهم لبيك. اسمعوا: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]. إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] من هم أهل الكتاب؟ اليهود والنصارى، أساتذتنا ومعلمونا. أكثر من درسوا عليهم وتخرجوا على أيديهم وأصبحوا وزراء وفنيين في العالم الإسلامي من هذا النوع، هبطوا. ويقول تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] مستحيل.وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (11)
الحلقة (152)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
تفسير سورة آل عمران (19)
فضّل الله عز وجل مريم على نساء العالمين، وجعلها صديقة وكلمتها الملائكة، إلا أنها لم تكن نبية كما يدعيه البعض، وإنما جعل الله من ذريتها نبياً وهو عيسى عليه السلام، فهي كانت من أهل القرب من الله لطاعتها له وقنوتها بين يديه وتضرعها إليه، واتصالها بربها بالوسيلة المتاحة لكل عباد الله الصالحين وهي الصلاة.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات، وقد درسنا بعضها في الليلة الماضية.تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:42-46].
مجادلة نصارى نجران في شأن عيسى عليه السلام
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن هذه الآيات النورانية القرآنية نزلت في وفد نجران، ذلكم الوفد المكون من ستين فارساً، قدموا من مدينة نجران جنوب مكة المكرمة ليحاوروا الرسول ويجادلوه في شأن عيسى بن مريم عليه السلام، إذ النصارى من ذلك العهد وإلى اليوم يؤلهون عيسى ويعبدونه مع الله، واختلفت عقيدتهم فيه، فمنهم من يقول: عيسى ابن الله، ومنهم من يقول: إنه ثالث ثلاثة مع الله، ومنهم من يقول: هو في حد ذاته إله، وهذا شأن من ضلوا الطريق، وهم والله ضالون، وشهادة الله كافية، إذ قال تعالى لنا: سلوني، قولوا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، فالمغضوب عليهم هم اليهود والله العظيم، والضالون منهم: النصارى، ضلوا الطريق وتاهوا في متاهات عرفنا منها: أن عيسى عبد الله ورسول الله فألهوه وجعلوه إلهاً، ومن عجيب فهمهم: أنهم يعتقدون أن اليهود صلبوا عيسى عليه السلام، وهل الرب الخالق المدبر يصلب ويقتل؟ ويكرهون اليهود كرهاً عجباً لأنهم قتلوا وصلبوا عيسى، والله يقول: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157].على كل حال جاء الوفد يجادل وإذا بالحق جل جلاله وعظم سلطانه ينزل نيفاً وثمانين آية على رسوله الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، فتقوم الحجة لله ورسوله على هؤلاء المشركين الكافرين الضالين.
بشارة الملائكة لمريم عليها السلام بالاصطفاء وحثها على العبادة والقنوت لله تعالى
يقول الله: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ [آل عمران:42] اذكر يا رسولنا لهذا الوفد. وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42] من أين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا العلم؟ وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، وعاش في مكة أربعين سنة لم يعرف ما الكتاب ولا الإيمان، من علمه هذا؟ الملائكة تقول لـمريم البتول العذراء أم عيسى، مريم بنت من؟ عمران، أمها من هي؟ حنة. مريم تخاطبها الملائكة، مَن مِن الملائكة؟ هذا جبريل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ [آل عمران:42] واختاركِ واجتباكِ لأمر عظيم، وهو أن يخرج منكِ عيسى عليه السلام، وطهركِ من سائر الذنوب، فلن تقارف ذنباً أبداً كولدها استجابة لدعوة أمها، أمها لما نذرت لله ما في بطنها ما كانت تدري أنه مريم، لكن قالت لما وضعتها متحسرة متأسفة: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران:36] أي: خادمة الله. وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36] فـمريم لم تقارف ذنباً، طهرها الله، وولدها عيسى أيضاً لم يقارف ذنباً، طهره الله؛ لأن جدته قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا [آل عمران:36] وعيسى أحد ذريتها. وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42] أي: عالمي زمانها، فلم توجد امرأة أفضل من مريم في ذلك الزمان أبداً، اختيار الله واصطفاؤه لها.وقالت الملائكة لها: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] لأن والدتها نذرتها لله، لا ترى منها شيئاً ولا تنتفع منها بشيء، فلهذا أخذها زكريا الكفيل بحق عليه السلام وتركها في المحراب في مقصورة في المسجد تعبد الله فقط، لا هم لها إلا ذاك، والملائكة تشجعها وتقول: يا مريم! اقنتي، اعبدي ربكِ واسجدي واركعي مع الراكعين، فكانت تصلي مع المؤمنين في بيت المقدس وهي في محرابها.
تفسير قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك...)
قال تعالى هنا: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ [آل عمران:44] ذلك الذي سمعتم من أمر حنة ونذرها وولادتها مريم وكفالة مريم ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ [آل عمران:44] الذي لا يعلمه إلا الله. نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران:44] فأنت رسول الله، أنت نبي الله، كيف يوحي إليه بهذا الغيب من العلوم والمعارف ولا يكون رسوله؟ مستحيل، هذا تقرير للنبوة المحمدية، ولا ينكرها إلا كافر أحمق ضال أشبه بالمجانين؛ إذ نبوته أكثر من الشمس سطوعاً وظهوراً، فكيف تنكر؟ والله ما ينكرها إلا ذو غرض هابط مادي يريد البقاء على سلطانه أو مادته، آيات النبوة أكثر من ألف آية، كيف؟ يكفي هذا: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ [آل عمران:44] أي: بين يديهم حاضرًا في مجلسهم وهم يقترعون أيهم يكفل مريم، والزمن أكثر من حوالي سبعمائة سنة أو ستمائة سنة بين هذه الأحداث وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
معنى قوله تعالى: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم...)
يقول تعالى له: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، سبق أن عرفتم أن حنة عليها السلام لما وضعت مريم لفتها في القماطة وبعثت بها إلى علماء وصلحاء بني إسرائيل في المسجد ليكفلوا هذه النذيرة؛ لأنه لا حق لأمها فيها، نذرتها لله، ما إن رآها أولياء الله صلحاء بني إسرائيل وعلماؤهم حتى تاقت نفس كل واحد منهم وهشت روحه لأن تكون في بيته، فهذه نذيرة الله، إذاً: فاختلفوا أيهم يظفر بها ويفوز. هل كنت يا محمد بن عبد الله - صلى الله عليك وسلم - حاضراً معهم؟ من علمك إذاً؟ كيف عرفت هذا؟ إذاً: أنت رسول الله يوحي إليك بهذه الأنباء والأخبار. وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [آل عمران:44] كيف يلقونها؟ قالوا: نستهم ونقترع، الذي تخرج قرعته يأخذ هذه الفتاة، هذه النذيرة، فجمعوا أقلامهم التي يكتبون بها التوراة، هذه الأقلام ليست كأقلامكم أيها الصحفيون والدجالون، هذه أقلام ما تكتب إلا الحق ولا تكتب إلا ما هو رضا الله عز وجل، فهي صالحة إذاً لأن تتحقق بها المعجزة، جمعوا أقلامهم ولا أدري كم هي بحسب عددهم، أقلام كانوا يكتبون بها الحق، يكتبون أحكام الله، يأخذون من التوراة.إذاً: جمعوها وألقوها قلماً بعد قلم في نهر الأردن والماء يسير، من وقف قلمه هو الذي يأخذ مريم، باسم الله يلقي القلم، يدحرجه الماء ويمشي، ثم قلم ثان، وثالث .. حتى رموا قلم زكريا فوقف في الماء، خذها يا زكريا، هل كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حاضراً في هذه الحادثة؟ لم يكن حاضرًا هو ولا أبوه ولا جده ولا عمه، فكيف عرف هذا؟ بالوحي الإلهي، إذاً: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه آيات النبوة: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44].
مشروعية القرعة
ومن هنا كانت القرعة في شرع من قبلنا ونقلها الله إلينا، فإذا اختلف اثنان في قسمة شيء قابل للقسمة يقترعونها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الخروج إلى الغزو والجهاد يقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتها أخذها معه، والتي ما لها قرعة تبقى في بيتها مطمئنة. وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44].
تفسير قوله تعالى: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح ...)
ثم قال تعالى وقوله الحق: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:45] أي: اذكر لهذا الوفد الغافل الجاهل الضائع الضال، اذكر لهم: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:45] جبريل عليه السلام هو الذي خاطبها، وجاء هذا من سورة مريم، مريم لها سورة كاملة؟ إي والله، ما بين الكهف وطه سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:16-33] قال تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:34] أو يشكون. هذه من سورتها عليها السلام، ونحن الآن في سورة آل عمران.قال تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:45] يا خادمة الله إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45] بكلمة؟! ما هذه الكلمة؟ الجواب: هي قوله تعالى: (كن) فكان. كان بكلمة التكوين أم لا؟ يسمى كلمة إذاً، هو كلمة. بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45] المسيح كـالصديق، ومن معاني المسيح: الصديق أيضاً، عيسى هكذا سمته أمه، بل سماه الله لها.
ذكر ما حبا الله تعالى به عيسى من فضل الوجاهة والقرب
قال تعالى: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا [آل عمران:45] أي: ذو جاه في الدنيا حقاً في العرب والعجم، وفي الآخرة أيضاً ذو جاه. وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45] إلى الله تعالى، والمقربون هم الطبقة العالية الممتازة، ومن أراد أن يقف على ذلك فليستعرض سورة الواقعة؛ إذ قال تعالى: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:1-3] متى؟ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:4-11] عيسى من المقربين، الطبقة الممتازة، أما أصحاب اليمين فعليهم السلام، ولكن المقربين فوق أصحاب اليمين، عيسى من أي طبقة؟ من المقربين، بشرى لمريم بالولد وبجاهه العظيم العريض الطويل في الدنيا والآخرة، وبمنزلته في دار السلام أنه من المقربين.
بيان ما أكرم الله تعالى به عيسى عليه السلام من تكليم الناس في المهد
ثانياً: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ [آل عمران:46]، كيف يكلم الناس في المهد؟ ما المهد؟ المهد: سرير الطفل، سلوا النساء يعلمنكم المهد ما هو، فراش يمهد للطفل، قد يكون من خشب، قد يكون من حديد، قد يكون فقط من كتان وقماش، تمهده المرأة لطفلها وتهيئه قبل أن تولد، أليس كذلك؟ تهيئه وتمهده قبل أن يكون مهداً. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ [آل عمران:46]، هل جرت سنة الله أن الأطفال يتكلمون؟ الطفل يزعق كما هو معروف، أما أن يتكلم فهذا يحتاج إلى سنتين أو ثلاث، وهذا يكلم الناس في المهد كلامًا ما هو بخاص بالأولياء، بالعلماء، بالأنبياء، بل يكلم عامة الناس.
المعنى البلاغي في الاحتراس بذكر تكليم عيسى للناس في الكهولة
وَكَهْلًا [آل عمران:46] أي: ويكلمهم وهو كهل. لم هذا الاحتراس؟ لو لم يقل: وَكَهْلًا [آل عمران:46] لفهموا أن عيسى يموت وهو صغير، لولا قوله تعالى: وَكَهْلًا [آل عمران:46] أيضاً لفهم أن عيسى يموت وهو صغير، فقط يكلم الناس وهو في المهد وبعد ذلك يموت.إذاً: فلكي يطيب خاطرها وتطمئن نفسها على أنه لا يموت وهو صبي، بل يكبر حتى يكتمل ويكلم، وهنا اعلموا أن عيسى عليه السلام عاش ثلاثًا وثلاثين سنة، لما أكملها ودخل في سن الكهولة رفع إلى الملكوت الأعلى، وهو والله هناك؛ لأن الصبا ينتهي بالخامسة عشرة بالبلوغ ويدخل سن الشبيبة، يستمر سن الشبيبة إلى الثالثة والثلاثين، فيدخل في الكهولة حتى يتجاوز الأربعين ويدخل في سن الشيخوخة، أو تستمر الكهولة إلى الستين ويدخل سن الشيخوخة والكبر ثم الهرم ثم الوداع، انتهت الحياة. فعيسى عليه السلام والله لينزلن من السماء، ويعيش فترة الكهولة كاملة، ولما يصل إلى الشيخوخة ويكون صاحب ثلاث وستين سنة يموت كما كان عمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأين يدفن؟ غالب الظن أنه في الحجرة الشريفة، الرسول ما أخبر بذلك، ولكن قال: ( كأني بابن مريم في فجاج الروحاء يلبي: لبيك اللهم لبيك حجاً أو عمرة )، فإن مات فأي مكان يكون أفضل مكان؟ هنا، ودليل آخر: الحجرة الآن بقي فيها قبر فقط، فيها القبور الثلاثة الطاهرة: قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر ، وبقي مكان قدر قبر فقط، لن يتأهل له غير عيسى، لا يتأهل له الملوك، ولا الأولياء.. العلماء.. الأشراف، محفوظ بحفظ الله مدخر لعيسى عليه السلام. هذا الكلام ما هو سياسة، هذا قاله أهل العلم من السلف، ونحن ما نجزم ولكن نقول: ما دام أنه يحج ويعتمر ويأتي المدينة ويزور مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو مات فأين يدفن؟ في البقيع؟ لا، لا ندفنه إلا في الحجرة، فهذا المكان أليق به.إذاً: فهمتم سبب الاحتراس: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران:46]؟ يكلمهم وهو طفل، ويكبر ويشب ويكلمهم وهو كهل.
فضيلة عيسى عليه السلام بدخوله في عباد الله الصالحين
قوله: وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:46] عرفنا نحن الصالحين، ولكن ملايين من المسلمين ما عرفوا، لا يعرفون الصالح إلا الولي الذي يدعى ويستغاث به ويذبح له ويعكف حول قبره وينقل إليه المريض، هؤلاء هم الصالحون. تذكرون هذا أم لا تذكرون؟ من هم الصالحون؟ موكب من أربعة مواكب في دار السلام، جاء بيان ذلك في القرآن العظيم، وبين تعالى الطريق الموصلة إلى أن تكون مع مواكب الصالحين وهو في كلمة واحدة، اسمع عبد الله! اسمعي أمة الله! يا من يرغب أن يكون مع الصالحين أطع الله والرسول فقط، إذ قال تعالى في سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69] أي: المطيعون فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] أما أن تكون نبياً فهذا لا يطمع فيه أحد، أغلق الباب وختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، مهما بلغت من الكمال لا تطمعن في النبوة، لكن تريد أن تكون في المواكب الثلاثة؟ نعم. ما هو الموكب الثاني؟ الصديقون، مريم والله منهم، أما قال تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75]؟ شهادة الله هذه أم لا؟ وأبو بكر الصديق من الصديقين أم لا؟
طريق تحقيق الصلاح ورتبة الصديقية
من منكم يرغب أن يكون منهم؟ إن باب الله مفتوح فتحه الرسول على مصراعيه؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بالصدق ) الزموه، لا تفرطوا فيه، لا تتخلوا عنه، عليكم بالصدق في القول والعمل والتفكير والحياة كلها، ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة )، أما قال تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]؟أعيد الكلام: يقول النبي صلى الله عليه وسلم معلماً مربياً مزكياً للنفوس: ( عليكم بالصدق ) يا عباد الله! الزموه، لا تفارقوا الصدق أبداً، إذا قلت أو عملت أو اعتقدت أو فكرت - حتى التفكير - فالزم الصدق.( فإن الصدق يهدي إلى البر ) والله العظيم. ( والبر يهدي ) إلى أين؟ ( إلى الجنة، ولا يزال الرجل -والمرأة كذلك- يصدق ويتحرى الصدق -بعناية يطلبه- حتى يكتب عند الله صديقاً ) .الآن تفضلوا، باب الله مفتوح، من الليلة اصدق إذا قلت، اصدق إذا عملت، لا كذب ولا غش ولا تضليل ولا خداع، واطلب الصدق بعناية، وتحراه طول كلامك وطول أعمالك، ولا تزال تصدق وتتحرى الصدق حتى يكتبك الله مع الصديقين، فلان صديق من الصديقين، أما مريم فقد شهد الله لها بذلك.وقول الله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ [الزمر:32] من سورة الزمر حتى قال: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33] قال العلماء: هذه الآية تشير إلى أبي بكر الصديق . فالذي جاء بالصدق من هو؟ رسول الله، والذي صدق به أول واحد؟ أبو بكر الصديق ، إذ ثبت باليقينيات أن أول من أسلم من الفحول من الرجال هو أبو بكر الصديق ، وأول من أسلم من نساء العالم هي خديجة بنت خويلد ، وأول من أسلم من العبيد الأرقاء بلال بن رباح ، وأول من أسلم من الأطفال الصغار علي بن أبي طالب ، ففازوا بالأولية والأسبقية.إذاً: أنتم الآن مخيرون، قولوا: إن شاء الله نكون كلنا من الصديقين، فقط لا تكذب أبداً لا في قولك ولا عملك، ليكن الصدق طبعك، لا تزال تطلب الصدق وتتحراه في حياتك حتى يسجل اسمك في ديوان الصديقين، إذ هذا الحديث من أصح الأحاديث. ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل ) وكلمة (الرجل) ليس معناها أن النساء لا يدخلن، فهذه مريم صديقة، وإنما لعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بآداب الفحول وأخلاقهم لا يذكر النساء بينهم، عرفتم؟ والدليل: هل بيننا امرأة جالسة؟ أبداً، النساء وراء الستار، تلك منازلهن، والفحول هذا هو منزلهم، فمن هنا يراعي الله عز وجل ورسوله آداب وأخلاق المؤمنين، ما يقحم النساء في كل ميدان من الميادين؛ لأن الرجال لا يرضون بهذا، لم؟ لشرفهن.إذاً: قال: ( ولا يزال الرجل ) والمرأة كذلك.( يصدق ) في قوله وعمله ( ويتحرى الصدق -ويطلبه- حتى يكتب عند الله صديقاً ) حتى يفوز بالجائزة المسماة بالصديقية ويصبح فلان صديقاً. إذاً: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:46] هل عرفتم من هم الصالحون؟ بينا هذا وعرفه السامعون والسامعات، لكن إخوان لنا زائرون ما عرفوا، من يرغب أن يكون من الصالحين؟ كلنا، يا راغبًا في أن تكون من الصالحين! أد حقوق الله كاملة، لا تبخس ولا تنقص منها حقاً وأنت قادر على أدائه، وأد حقوق الناس أبيضهم وأسودهم، كافرهم ومؤمنهم، أد حقوقهم وافية، لا تنقص حقاً من حقوقهم يسجل اسمك في ديوان الصالحين، كـعبد القادر الجيلاني ومولاي إدريس وسيدي العيدروس . عرفتم؟ أد حقوق الله التي أوجبها عليك وأنت قادر على أدائها، وإذا عجزت فقل: رب عجزت سامحني، ما استطعت، والله يسامحك ويعفو عنك. أد حقوق الناس، امرأتك، أولادك، جيرانك، إخوانك، أي إنسان له حق عليك أعطه حقه، لا تستهن به ولا تحتقره ولا تحتل عليه، أد حقوقه، وبذلك لا تزال هكذا حتى يأتيك القبول وتصبح في عداد الصالحين، فالأولياء والأنبياء صالحون والله العظيم، والشهداء صالحون، والصديقون صالحون، إذ كل المواكب تعود إلى أنهم من الصالحين، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ هداية الآيات: من هداية الآيات:]
أولاً: فضل مريم عليها السلام وكونها ولية صديقة
قال: [أولاً: فضل مريم عليها السلام وأنها ولية صديقة ]، ولكن هل هناك من يقول: مريم نبية؟ أي نعم. منهم من يقول: نبية؛ لأن جبريل أرسل إليها والله يوحي إليها ويكلمها، فكيف لا تكون نبية؟ والجمهور من أئمة الإسلام أن المرأة لا تنبأ؛ لأن النبي مأمور بإبلاغ الرسالة والنبوة، والمرأة ليست متأهلة لأن تخاطب الرجال وتدخل في صفوفهم حتى تعلم وتبلغ.إذاً: فهي ولية صديقة ولكن ليست نبية، وإن كلمها ملك وهتف بها الملائكة كأم موسى، أما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي [القصص:7]؟لتبقى النبوة والرسالة محصورة في الذين يستطيعون البلاغ والبيان والتعليم، فيكفيها أن تكون صديقة ولية، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع ) من هن؟ آسية بنت مزاحم امرأة فرعون. سبحان الله! امرأة فرعون ولية؟ أي نعم. وحسبها أنه قتلها في المشنقة، آسية بنت مزاحم ، مريم بنت عمران ، خديجة بنت خويلد ، رابعاً: فاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم. ( وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام )، سمت لأن رسول الله يحبها، هذه بنت الصديق ، هذه أعلم نساء العالمين، أخذت معارف رسول الله وكانت تفتي وراء الستار، ويأتي كبار الصحابة يسألونها وتعلمهم، من لم يحب عائشة ما أحب رسول الله، ومن لم يحب رسول الله كافر عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. تعرفون من عائشة هذه؟ هذه بنت أبي بكر الصديق .إذاً: من هداية الآيات كما سمعتم: [ فضل مريم عليها السلام وأنها ولية صديقة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من كمل النساء، ففي الصحيح: ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) ].وفي رواية أخرى: ( وخير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أما أمي وأمك فإن شاء الله صديقة ولية، أمهاتنا وليات أم لا؟ كل مؤمن تقي هو لله ولي، وإذا لم يكن وليًا الله ماذا يكون؟ يكون عدوًا لله؟ إذاً: هل يوجد من المؤمنين عدو لله؟ لا أبداً، كل مؤمن تقي فهو لله ولي، ولو لم تظهر الكرامات على يديه، المهم أن يكون مؤمناً صادق الإيمان تقياً لم يفجر ولم يفسق ولم يخرج عن طاعة الله ورسوله، وإن زلت قدمه وفجر يوماً أو فسق عاد وغسل وطاب وطهر بتوبته.
ثانياً: أهل القرب هم المطيعون القانتون
قال: [ ثانياً: أهل القرب من الله هم أهل طاعته القانتون له ] من هم أهل القرب من الله القريبون من الله؟ أهل الطاعة القانتون له؛ لأن هذا مأخوذ من قوله تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، فمن أراد أن يقرب من الله فالله يقول: ( من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ) أليس كذلك؟ تقرب إلى الله ولو بخفض صوتك، لا ترفع صوتك على المؤمنين، تقرب إلى الله ولو بشوكة تجدها في طريق المؤمنين، أبعدها عنهم، تقرب إلى الله ولو بلقمة تضعها في في جائع من المؤمنين، القرب إلى الله سهل جداً، قم صل ركعتين وابك، تقرب إلى الله عز وجل، واقرءوا لذلك أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ولا يزال المرء يتقرب إلى الله حتى يحبه ) فإذا أحبك نم فالمخاوف أمان.
علامات معرفة حصول الولاية ومحبة الله تعالى للعبد
أهل الحلقة يعرفون من هم أولياء الله؟ من هم؟ هم المؤمنون المتقون، كل مؤمن تقي هو لله ولي.وأخرى أيضاً: من منكم يعرف أن الله يحبه أو لا يحبه؟ من يرغب في أن يعرف أن الله يحبه؟ كلنا يرغب. وهل يوجد بينكم من يحبه الله؟ أي نعم. وكيف لا؟ إذاً لماذا نصوم ونصلي؟ لماذا نحن عاكفون هنا؟ نريد أن يحبنا أم لا؟ من لم يحبه الله خسر خسراناً أبدياً.إذاً: العلامة هي أن تنظر: فإذا ما كنت تستطيع أن تسمع السوء والباطل والمنكر والكذب والحرام فهذه خطوة إلى حب الله.ثانياً: إذا أصبحت لا تستطيع أن تنظر إلى ما حرم الله عليك فهذه علامة أن الله قد أحبك، إذا أصبحت لا تستطيع أن تنطق بكلمة مما يغضب الله؛ فهذه علامة أنك محبوب، إذا أصبحت لا تستطيع أن تتناول بيدك أو تعمل بها أي شيء يغضب الله؛ فهذه علامة أنك محبوب، إذا أصبحت لا تستطيع أن تمشي خطوة ولا خطوتين ولا عشرًا في طريق غضب الله اعلم أنك محبوب، واسمعوا الخبر الصادق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري عن أبي هريرة -والحديث قدسي شريف-: ( يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) الذي يعادي ولياً من أولياء الله أعلن الله الحرب عليه، فليحمل سلاحه.( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) التقرب إلى الله أي: طلب القرب من الله بفعل الفرائض أعظم شيء، بنص كلامه تعالى، ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلي ) أي: يطلب القرب مني بالعبادات والصالحات( حتى أحبه ).إذا كنت عسكريًا فهل تكون عقيداً أو عميداً في يوم واحد؟لا بد من التأخر، تعمل وتعمل في مراحل حتى تصبح عميداً أو جنرالاً، فبعض الرجال يصل إلى هذا في أربع سنوات، وبعضهم في سبع سنين، وبعضهم يمكث عشرين عامًا وهو عُسكري ما تقدم، عشرين سنة ما تقدم، فكذلك الولاية، فبعض الناس من سنة واحدة وهو ولي لله، أقرب الناس إلى الله منا؛ لأن الله قال: ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )، فما ندري: في عام أو عامين أو عشرة أو خمسين سنة؟ المهم أن تتقرب إلى أن يحبك الله، فإذا أحبك فما علامة حبه لك؟ هو هذا: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، ولئن استنصرني لأنصرنّه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي؛ يكره الموت وأكره مساءته ) .الآن عرفنا المحبوبين لله، إذا صدقك صديقك وقال: والله ما نستطيع أن نسمع الباطل، إذا تحدث الناس أقوم أنا، ما نستطيع أن ننظر إلى ما حرم الله، كأنما لهب النار في وجهي، ما نقوى على أن ننظر إلى امرأة لا تحل لنا، ما نقدر على أن نلطم مؤمنًا بكف، يدي ملكها الله، ما نستطيع أن نمشي خطوة واحدة إلى منكر أو إلى باطل، ما نقوى، ما نستطيع سماع الحرام، لم؟ لأن الله ملك هذه الآذان: ( كنت سمعه الذين يسمع به ) ، وهل الله يستخدم سمعه في ضده؟! حاشا لله، يستعمل الله هذا البصر الذي ملكه ليشيع الباطل والزنا؟! لا، وهكذا أيما واحد منا - معشر المستمعين والمستمعات - أصبح لا يقدر على أن يسمع باطلاً ولا أن ينظر إلى حرام ولا أن يتناول منكراً أو حراما، ولا يمشي إلى باطل؛ فليعلم أن الله قد أحبه، هل هناك أوضح من هذا الطريق؟
ثالثاً: الصلاة سلم العروج إلى الملكوت الأعلى
قال: [ثالثاً: الصلاة سلم العروج إلى الملكوت الأعلى]، كيف هذا؟سبحان الله! توضأ وتطيب وقف بين يدي الله، الله أكبر! أنت مع الله، اخترقت الملكوت كاملاً وأنت تتكلم مع الله.والله تعالى أسأل أن يحقق لنا ذلك؛ إنه وليه والقادر عليه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (12)
الحلقة (153)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
تفسير سورة آل عمران (2)
الله عز وجل هو خالق الخلق، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى عليه شيء في كونه الفسيح، فهو يصور عباده في أرحام أمهاتهم كيف يشاء، ويعلم ما سيكسبه كل واحد من عباده طيلة حياته، وما ستئول إليه نهايته، ومصيره في الآخرة، فهو العليم بعباده، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا! ها نحن في فاتحة سورة آل عمران، وهي السورة الثالثة من كتاب الله، سبقتها البقرة والفاتحة، وهذه السورة مدنية، والسور المكية ما نزلت في مكة والمدنية ما نزلت بالمدينة. وهناك ضابط آخر: ما نزل بعد الهجرة فهو مدني، وما نزل قبل الهجرة فهو مكي.والذي أرى هنا: أن السورة المكية تعالج العقيدة وتضع لها قواعدها وأسسها، وأما السورة المدنية فإنها بالإضافة إلى العقيدة تقرر الأحكام الشرعية، وتبين الحلال والحرام، وتبين الواجبات والمتطلبات لهذه الحياة. من عجيب هذه السورة المدنية: أن آخرها نزل قبل أولها. كيف ذلك؟ القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ في الإمام المبين وينزل بحسب الأحداث والمتطلبات، فينزل آيات.. أحياناً تنزل آية واحدة ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لكتبة الوحي: ضعوها عند كذا في مكان كذا فيكتبونها، حتى إذا انتهت السورة ختمت، وقد يبدو لهم أن السورة قد كملت وتأتي آيات فيؤمرون بكتابتها بين كذا وكذا. ومن هذا: أن حوالي ثمانين آية من سورة آل عمران نزلت في وفد نجران كما علمنا، ووفد نجران وفد في سنة الوفود في السنة التاسعة للهجرة، وآخر آل عمران نزل في أحد، وأحد كانت في السنة الرابعة أو الثالثة. إذاً: أول هذه السورة متأخر النزول وأولها متقدم. ولا تحفلوا بهذا كثيراً فإنما هو مزيد علم فقط.
معنى قوله تعالى: (الم)
هذه السورة مفتتحة بقول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الم [آل عمران:1]. فماذا عرفنا وعلمنا عن فواتح السور؟ الجواب: علمنا أن هذا من المتشابه، فيفوض أمر فهمه إلى الله، فقل: الله أعلم بمراده به، الله أعلم بمراده من هذا اللفظ، وستأتي الآية التي انتهينا إليها في الدرس الماضي وهي: أن القرآن الكريم منه المحكم ومنه المتشابه، والمتشابه لا يعلمه إلا الله، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)، يبتغون تأويله من أجل الفتنة فاحذروه.
فوائد الحروف المقطعة في فواتح السور
هناك لطيفة ثانية وهي أن لهذه الحروف حكمتين ذكرناهما ولكن لا بأس أن نذكرهما مرة ثانية:الأولى: أن هذه الحروف بهذه الصيغة وهذا واللحن هذا الجرس ما كان معروفاً عند العرب، وهم أهل اللسان، أهل اللغة، أهل البيان، والقرآن نزل بلسانهم لكنهم لم يكونوا يسمعون: كهيعص [مريم:1] أبداً، هذا الصوت ما سمعوه أبداً، المر [الرعد:1]، طسم [الشعراء:1].إذاً: لما كانوا معرضين عن سماع القرآن وكانوا يسدون آذانهم حتى لا يسمعون، بل صدر أمر حكومي في مكة من رئيس مكة أبي سفيان : ممنوع على المواطن أن يسمع قراءة القرآن. لم؟ حفاظاً على معتقد الشعب، حفاظاً على وحدته، هذه الدعوة تريد أن تزلزله وتزعزعه. إذاً: ممنوع سماع القرآن، وإذا قدر لك وقرأ رسول الله أو فلان فاصرخ بأعلى صوتك حتى لا يتسرب صوته إلى سمعك.ذكر الله عنهم هذا في سورة فصلت إذ قال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26] باللغو والكلام الباطل، عندما يقرأ أبو بكر أو فلان أو فلان الغوا فيه؛ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26] فتبقى لكم عقيدة الشرك والباطل. من زين هذا لهم؟ إنه أبو مرة عدو الإنسانية إبليس، هو الذي يخترع هذه الاختراعات ويوسوس بهذه الوساوس!فلما كانوا معرضين عن سماعه شاء الله أن ينزل فواتح بعض سور القرآن بهذه الحروف، فإذا سمع الذي لا يريد أن يسمع: حم * عسق [الشورى:1-2]، اضطر إلى أن يصبر، فلا بد يسمع ليعلم ما بعد هذا، فهذا شيء جديد، ونغم لم يسمعه، فلما يسمع يتسرب النور إلى قلبه. هذه فائدة جليلة وعظيمة من فواتح السور عرفها المؤمنون.ثاني فائدة:: لقد عقد أهل مؤتمراتهم في دار ندوتهم وقالوا وقالوا، قالوا: هذا سحر، وقالوا في صاحبه: مجنون، وقالوا: هذا كلام الكهنة، وغير ذلك مما قالوه ظلماً وعدواناً؛ حتى لا يقتنع مواطن بأن هذا وحي الله وكلامه، فيؤمن ويدخل في رحمة الله، فرد الله عليهم بقوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:221-224]، فأبطل دعوى: أن محمد شاعر. أين الشعر؟ وأبطل أنه كاهن تتنزل عليه الشياطين، فأبطل الله هذه بالمرة، فقال لهم: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ [الشعراء:221] الجواب: تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:222]، ذاك الكذاب الذي يقلب الحقائق ويبطل الحق ويحق الباطل. (الأثيم): المغموس في الإثم من الخمر.. القمار.. الباطل.. الكذب، هذا الذي تهيأ لأن تنزل عليه الشياطين؛ لأنه أصبح مثيلاً لهم، أخاً من إخوانهم، أما صاحب القلب الطيب والروح الزكية فلا تستطيع الشياطين أن تستقر فيها، فهم ينزلون في المراحيض والمزابل والقمائم والحشش، فإذا كان القلب خبيثاً يستقر إبليس وينزل فيه وكأنه قصر، وأما إذا كان القلب طيب ورائحته زكية فلا يستطيع. افتتح الله نيفاً وعشرين سورة بهذه الحروف وكأنما يقول لهم: إن هذا القرآن المعجز الذي تحداكم منزله على الإتيان بمثله.. بعشر سور.. بسورة واحدة، فحزنتم وبكيتم وما استطعتم، هذا الكلام الإلهي مؤلف من هذه الحروف: حم [الشورى:1]، ق [ق:1]، يس [يس:1]، طه [طه:1]، ص [ص:1]، ن [القلم:1]، فألفوا مثله أنتم! إن كنتم تدعون أن هذا ليس كلام الله فأتوا بمثله، فهذه ليست بحروف أعجمية، وإنما هي حروف لغتكم: الم [البقرة:1]، ص [ص:1]، فألفوا من هذه الحروف كلاماً آخر وحادوا الله به إن استطعتم! ويشهد لهذه اللطيفة في الغالب: أنه ما ذكرت الحروف إلا ذكر القرآن بعدها : ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1]، ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [الرعد:1]، الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1-2]، من هذه الحروف يتألف هذا القرآن، فألفوا مثله، أو اسكتوا وطأطئوا رءوسكم وقولوا: آمنا بالله!والآن أتباع هؤلاء يحاربون الدعوات الإسلامية ويقفون في وجهها، وما حوربت دعوة أكثر من دعوة محمد بن عبد الوهاب ، فقد حوربت في الشرق والغرب بالأباطيل والتراهات، مع أنه رحمه الله ما زاد على أن قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له). ولكم كل من كان يرأس جماعة أو يأكل على حسابهم لا يسمح لهذا الدين الصحيح أن يتغلغل في جماعته، ورجال الكنيسة من النصارى أكثرهم يعرف أن هذا هو دين الله وأنهم كفار، ولكن المنصب الذي نصب عليه يجعله لا يتخلى عن هذا الدين الباطل ولا يتنازل عنه أبداً.
معنى قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو)
يقول الله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]. (الله) لفظ الجلالة مبتدأ أخبر عنه: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2]. (الله) هذا الاسم العلم على ذات الرب تبارك وتعالى، هذا الاسم اسم الله إذا ذكر الله عرفت ذات الله التي أوجدت كل موجود ودبرت كل أمر في السماء والأرض منذ أن أوجد الله الكائنات! الله الذي خلقك في رحم أمك! الله الذي جاءك بالشمس لتكتسب الحرارة والدفء منها! الله الذي به نطقنا وبه نظرنا وبه قمنا وقعدنا، ولولاه ما كنا فلا إله إلا هو!ما معنى: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2] في لغة العرب؟أولاً: الإله هو المعبود، فكل ما عبد يطلق عليه اسم إله في لسان العرب، سواء كان في لغة الحجاز أو تميم، فكلمة (إله) معناها: معبود، سواء كان كوكباً أو كان حجراً أو كان إنساناً أو حيواناً، فلفظة (إله) معناها: معبود، فلما تقول: (لا إله) أي: لا معبود (إلا الله).أين جاء ذكر (إله) بمعنى معبود في لسان العرب من القرآن الكريم؟ جاء من سورة (ص) إذ قالوا في اعتراضهم: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، هذه قولة رجالات قريش وصناديدها قبل أن يهلكوا في بدر، قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:5-6]! إي والله عجب! دفاع قوي وحماس! علام يدافعون؟ على باطل ألفوه، عاشوا عليه ورضعوه من ثدي الأم، فلا يستطيعون أن يتخلوا عنه أبداً! هذا هو العجب! أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5]، كلها صبغها بصبغة واحدة؟ جعل الإله واحداً! فهنا أسمع الله وفد نجران الصليبي النصراني قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2]، لا عيسى ولا مريم ولا روح القدس.. ولا أحد غيره سبحانه، فزلزلت أقدامهم، إذا جاءوا يجادلون رسول الله ويحاورونه يريدون أن يقنعوه أن عيسى إله مع الله. هذا الوفد كان يتألف من ستين فارساً نزلوا بالمدينة، ولم يمن بالمدينة فنادق ولا شقق، ولكن وزعهم الحبيب صلى الله عليه وسلم على أصحابه واحداً واحداً، وهم من كبار علماء النصارى ورجالهم، جاءوا يجادلون الرسول ليقنعوه أن عيسى ابن الله! من أعظم الخرافات أن يكون الإله خلق في بطن امرأة اسمها مريم ويصبح هو الله أو ابن الله! فهذا المعتقد انتهى، ولكنهم الآن يتغنون ويبذلون المليارات في سبيل نشر هذا الباطل! كيف يعقل أن يكون الرب مخلوقاً أمه مريم، وخرج من بطنها ومات أو يموت وكان عدماً ويصبح هو الرب؟ ولكن النصارى يزعمون ذلك، ويقولون: الأقانيم ثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس، ويسمعون ذلك ويقبلونه؛ لأنهم مسحورون بالمادة، مع عرفوا معنى لا إله إلا الله ولم يخالط التوحيد قلوبهم!
معنى قوله تعالى: (الحي القيوم)
قال الله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ [آل عمران:2] الحياة الأبدية الأزلية، كان ولم يكن شيئاً! يقول الإمام البخاري في كتاب الأنبياء: (باب: كان الله ولم يكن شيء غيره) فهو سبحانه الحي الحياة الأزلية التي لم تسبق بعدم، والأبدية التي لا يلحقها عدم. هذا هو الحي.والحياة تستلزم السمع والبصر والقدرة.. وغير ذلك من الصفات، ويدلك على ذلك: قوله: الْقَيُّومُ [آل عمران:2]، فالقيوم أعظم من القائم، فالقائم على الأسرة فلان، والقائم على البلاد فلان، ولكن الله هو القيوم على كل ذرات الكون وموجوداته، الله هو القائم عليها، ولولا قيوميته لتصادمت الكواكب واحترقت وانتهى الكون، فلو تقترب الشمس من الأرض درجة واحدة أو تهبط لاحترق الكون كله! فمن هو القائم عليها؟ إنه القيوم سبحانه! وقد جاء في سورة الكرسي: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]! وقد قيل لموسى أو أحد الأنبياء: كيف لا ينام الله؟ فقال: خذ هذا الكوب وضعه بين يديك ولا تنم طول الليل. فسهر حتى أخذ النوم يراوده والكوب في يديه فسقط الكوب وتحطم. فقال له: لو كان الله ينام لخرب العالم منذ الآلاف السنين!
التحدي العظيم بإنزال القرآن الكريم
يقول الله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:3]. نزل عليك يا رسولنا يا محمد صلى الله عليه وسلم، نزل عليك الكتاب الفخم العظيم الجليل. القرآن عظيم جليل؟ إي والله، يدلك على جلالته وعظمته أن الله تحدى البشرية من الجن والإنس على الإتيان بكتاب مثله فطأطئوا رءوسهم وفشلوا: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88] أي: ناصراً ومعيناً. وأما العرب فتحداهم بسورة فقط، والله ما استطاعوا! وإلى اليوم أيضاً باب التحدي مفتوح!
الفرق بين (نزّل) و (أنزل)
لم قال الله (نزّل) ولم يقل: (أنزل) عليك الكتاب؟ هل هناك فرق بين (نزَّل) و(أنزل)؟ نعم، هناك فرق. (أنزله)، أي: جملة واحدة. و(نزله). أي: تدريجاً آية بعد آية وسورة بعد سورة وحكماً بعد حكم في ظرف ثلاثة وعشرين سنة، أما (أنزله) فجملة واحدة كما أنزل التوراة والإنجيل، أما القرآن فقد نزله تنزيلاً.قال: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:3]. فقرر التوحيد، وقرر نبوة محمد ورسالته، وكأنما الآية تقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، يا معشر النصارى اكفروا بصليبكم وآمنوا بالإسلام، فهذا نبيه ورسوله، فأبطل دعواهم. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران:3] فلا يفارقه أبداً، وكله حق، ليحق به الحق ويبطل الباطل.
تصديق القرآن بالكتب السماوية من قبله
يقول الله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران:3]. معنى: (مصدقاً)؟ أي: القرآن مصدق. (لما بين يديه) أي: لما أمامه من الكتب التي تقدم نزولها على رسل الله. وهذا التصديق له دلالته، فلو كان القرآن كلام إنسان كما قالوا: محمد عاش في صحراء حارة صهرت ذهنه وفاضت روحه بهذا الكلام، فلو كان ليس كتاب الله لأخذ يطعن في الكتب السابقة ولا يوافقها، ويعلن عن بطلانها، ولا يرضاها! فلو كان القرآن ليس بكلام الله ما كان ليشيد بالكتب السابقة ويثني عليها ويعترف بها. فهذا دليل عقلي منطقي، فما دام يصدق بالكتب السابقة ولا ينفيها ولا يبطلها فهذا كلام الله.
معنى قوله تعالى: (وأنزل التوراة والإنجيل)
يقول الله: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ [آل عمران:3]، ما قال: (ونزل التوراة والإنجيل) بل قال: (وأنزل التوراة والإنجيل)، أي: الذي نزل عليك الكتاب بالحق أنزل أيضاً التوراة على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام، فالتوراة نزلت جملة واحدة وكذلك الإنجيل، فالتوراة قيل عربيها: الشريعة، والإنجيل قيل معناه العربي: التعليم، ولا حرج، فهما كتابان منزلان من عند الله عز وجل، إلا أن اليهود كالنصارى أفسدوا كتاب الله بما أضافوا فيه من حواش وتفسيرات وتأويلات كما شاءوا، وغطوا الأصل موجود، وأخذوا يفسرون كلام الله بحسب أهوائهم وشهواتهم ومصالحهم، ويؤولون كلام الله الصحيح، وخاصة في صفات محمد صلى الله عليه وسلم ونعوته؛ حتى لا يؤمنوا به. اسمعوا عيسى مع بني إسرائيل: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي [المائدة:72]، (يا بني إسرائيل) يا أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم! اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. هذه كلمة قالها عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، قال في ملأ من بني إسرائيل وهو يدعوهم إلى الله: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة:72] أنا عبد وأنتم عبيد، والرب واحد، إلهي وإلهكم واحد إِنَّهُ [المائدة:72] والله مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ [المائدة:72] غيره في عبادته فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72]، فالجنة دار السلام ممنوعة عن المشركين ومحرمة عليهم؛ لأن المشرك بخس حق الله وأعطاه لمن لا يستحقه متحدياً ربه معرضاً عنه، يلعب بشرائعه وأحكامه؛ لأن الحياة كلها علتها وسر وجودها هي أن يعبد الله وحده، أراد الله أن يعبد فأوجد هذا الكون وهذه المخلوقات، فالله عز وجل خلق الجنة وخلق النار وراء هذا الكون وخلق هذه الأكوان وخلق الإنس والجان لشيء واحد وهو أن يذكر ويشكر، والعبادة كلها ذكر وشكر، ما خرجت عنهما، فكان صرف تلك العبادة التي خلق الله الخلق وخلق الحياة كلها من أجلها مسخ وشرك بالله العظيم.
أعظم الذنوب الشرك بالله
إن المتأمل المتفكر يعرف أن الشرك من أعظم الذنوب، وهذا لقمان الحكيم من بلاد النوبة، أسود أوتي الحكمة، وضع بين يديه طفله الصغير يربيه، يؤدبه، يعلمه، فقال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:17-18].وقبل هذا قال: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، لا يُقادر قدره أبداً! كيف يخلقك الجبار ويرزقك ويهبك بصرك وسمعك وعقلك ويوجد التراب حولك وكل الفواكه والخضر، ثم تقف أمام حجر وتصرف له العبادة من دون الله.مررت مرة بالهند برجل متحضر كأنه بريطاني، الكرافتة في عنقه، وهو ماثل أمام قرد ميت، فقلت: يا ليتنا نقف أمام الله هكذا بهذا الخشوع والخضوع! وتمر بالمحلات ودور السلع فتجد الإحليل وخصيتين من نحاس ويشتريها من رجل عاقل فيعبد هذا الفرج في بيته! الخضوع والخنوع والخشوع والانطراح يجب أن لا يكون بين يدي كائن من كان إلا الله عز وجل، ولكن لما جهل المسلمون القرآن صارت آلهتهم بالمئات، لكنهم لا يسمونهم آلهة؛ لأن هذا لا يقبل، ولكن يقولون: سيدي فلان، أما العبادة بالذات فتقدم له، خوفاً منه، ورغبة وطمعاً فيه، وتذبح له الذبائح التي تعرفونها، وإخواننا المصريون عندهم عجل البدوي ، فيذبح للسيد البدوي ، المواسم، المواليد أو الموالد، وأهل المغرب الإسلامي يسمونه: الموسم، موسم سيدي فلان، والمشارقة يسمونه: مولد، مولد سيدي فلان، ويذبحون الأبقار والأغنام والدجاج أيضاً إذا ما عنده دجاجة، ولا يفهمون أن هذا عبادة لغير الله أبداً، أبداً.
الحلف بغير الله شرك
يحلفون: (وحق سيدي فلان، ورأس سيدي فلان)، ولا يفهمون أنهم عظموا غير الله، وعبدوا غير الله! هل تدرون أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )؟ والحديث صحيح في سنن الترمذي وجامعه، ونحن لو حللنا هذا، ولو ما صح الحديث عرفنا هذا، فالحلف بالشيء تعظيم له أو لا؟ أسألكم بالله! الإنسان عندما يحلف ببقرة، يحلف بامرأة، يحلف بشيء يعظمه أو لا؟إذاً: من هو الأكبر؟ الله أكبر! فإذا حلف بكائن عظمته وجعلته مثل الله، وأشركت هذا المخلوق في عظمة الله؛ حيث عظمت هذا المخلوق وحلفت به، وهو أمر واضح كالشمس، لولا أن الرسول نهانا وحرم علينا وقال على المنبر: ( ألا من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، فقد نرتاب أو نشك، وقال على المنبر: ( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت ).ومن باب التذكير أقول: لما هبطت الأمة إلى هذا الحضيض بعد أن كانت في علياء السماء، إذا اشتكى اثنان في المحكمة يقول سيادة القاضي: احلف بالله. فيقول الخصم: لا لا، سيحلف بالله خمسين مرة، حلفه بسيده فلان؛ فيأبى الحلف، فأصبح القاضي إذا حلف اثنين في خصومة يحلفهم بالسيد عبد القادر أو سيده موسى أو سيده عبد الرحمن أو مولاه إدريس أو السيد البدوي ، ولما بدأت دعوة الإصلاح تنتشر قالوا: لم هذا؟ قال: هذه حقوق الناس، أموال الناس. إذا قلنا: احلف بالله سيحلف سبعين مرة؛ ويأخذ حق أخيه الإنسان، لكن إذا قلنا: احلف بسيدي فلان؛ فإنه يخاف ويعترف بالبقرة!ووقعت حادثة عندنا، لا بأس أن أقصها عليكم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يرفه على أصحابه، وهي حكمة:تحاكم اثنان في المحكمة، فصدر الحكم بأن يحلفه بسيده فلان، ويعطيه شاته أو دراهمه، فأحدهما عفريت من بني آدم، جعل هراوة تحت برنوسه أو جناحه، وقال: امش تحلف، وكان الضريح مغلقاً، ولكن يوجد به نافذة يدخل منها رأسه ويحلف فالقبر في قبة، فلما وصلا أدخل الرجل رأسه يحلف؛ فانهال الآخر عليه بالهراوة، فتركه يتشحط في دمه وهرب. فجاء الناس ما هذا؟ فقال: سيدي فلان هو الذي ضربه؛ لأنه حلف به كذباً! سبحان الله! هذا شأن الذي يحلف بالباطل! فالحمد لله عدنا إلى معرفة لا إله إلا الله، فلا نركع ولا نسجد ولا ننحني ولا نخضع ولا نذل إلا لله عز وجل، فكيف أحلف باسم إنسان وأعظمه؟! الله أكبر، لا أكبر منه أبداً.
تفسير قوله تعالى: (من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان...)
قال الله: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ [آل عمران:3-4]، أي: من قبل القرآن، الذي نزله عليك يا رسولنا وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:3-4].
معنى قوله تعالى: (هدى للناس)
ما معنى: هُدًى لِلنَّاسِ [آل عمران:4]؟ أي: لهداية الإنس. الناس بنو آدم، بنو إسرائيل، اليونان.. تلك الأمم لولا أن الله أنزل كتابه كيف تهتدي؟ أنزل من قبل القرآن التوراة والإنجيل لهداية الناس إلى طريق سعادتهم وكمالهم، وليطهروا ويصفوا، وليعدلوا ويتراحموا، وليعزوا ويسودوا، وليدخلوا الجنة دار السلام بعد موتهم، ما أنزلها للباطل ولا للهو ولا للعب.
معنى (الفرقان)
قال: الله مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:4]، لفظة (الْفُرْقَانَ) تطلق على القرآن، واقرءوا: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]. ما (الْفُرْقَانَ)؟ القرآن. لم تكرر هنا؟ هنا القرآن يراد به: ما يفرق الله به بين الحق والباطل من الحجج، والدلائل والبراهين والبينات، كلها أنزلها الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم ببيانها وإظهارها للناس ليهتدوا بذلك إلى ربهم فيعبدوه ويسلموا من العذاب والشقاء.
التهديد بالعذاب الشديد لمن كفر بآيات الله
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [آل عمران:4]، يا ويحكم يا وفد نجران! سجل الله كفركم؛ لأنكم أصررتم على تأليه عيسى فأنتم كافرون، أبيتم أن تؤمنوا بمحمد ورسالته وكتابه! إذاً: إن لكم العذاب الشديد، لكن ما قال: إن لوفد نجران الذين كفروا، قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:4]؛ ليشمل كل من كفر، إلى أن تقوم الساعة. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:4]، بأي شيء؟ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:4]، ما هي آيات الله؟ القرآنية، الإنجيلية، الزبورية، التوراتية، التي نزل بها كتابه، وآيات أيضاً أخرى معجزات يعطيها الله لرسله وأنبيائه، فهي علامات دالة على صدق ذلك الرسول، وعلى وجود الله الحي القيوم، وعلى أن دين الله هو الإسلام. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:4]، لعل بعض السامعين يقول: كيف كفر بالآيات؟ ما اعترف بها، قال: لا نؤمن بها، هذا هو، جحد أن يكون هذا كلام الله، وأبى أن يأخذ بما فيه ويعمل بما فيه، الكفران: هو الجحود والإنكار وعدم الاعتراف، وهو لغة من لغة العرب، كفر وجحد بمعنى أنكر، بمعنى واحد. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [آل عمران:4]، والتنكير في (عَذَابٌ) للتفخيم. ما بالكم بالرجل يوضع في تابوت من حديد ويغلق عليه ويرمى في أتون النار ملايين السنيين، والله لا يأكل ولا يشرب ولا يتكلم ولا يسمع ولا يرى، وهو حي يتألم جوعاً وعطشاً في النار؟ أي عذاب هذا؟ يقف الرجل ويصب الحميم على رأسه فيصهر ما في بطنه.
معنى قوله تعالى: (والله عزيز ذو انتقام)
قال الله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4]، صفتان جليلتان لله، الله رب العالمين الإله الحق عزيز، فما معنى: (عَزِيزٌ)؟ ليس بذليل سبحانه، لا يمانع في شيء أراده، فالعزيز بحق الذي إذا أراد شيئاً لا يمكن أن يحال بينه وبين ما يريد، هذه هي العزة، الغلبة والقهر، عزيز. (ذو انتقام). ينتقم من أعدائه لأوليائه، والله العظيم.سيقول البعض: أرنا الانتقامات يا هذا في الدنيا! فأقول: أتعرفون عن قوم عاد أم لا؟ أين كانت عاد هذه؟ جنوبنا، أمامنا، كانت مدناً حضارية، ناطحات السحاب عندهم قبل أن تعرفها أوروبا؛ لأنهم كانوا طوال الأجسام، منهم من طوله عشرون ذراعاً ثلاثون إلى ستين كآدم عليه السلام، ويكفيك قولهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، فرد الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15]، تحدى القوة بالقوة. وقال: أَلَمْ تَرَ [الفجر:6] يا رسولنا كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]، ما هي إلا جولة فقط، سبع ليالي وثمانية أيام، عواصف لم تر الدنيا نظيرها سبع ليالي وثمانية أيام، بدأت باليوم وانتهت بالليل، ثمانية أيام وسبع ليال، فتحولت ديارهم إلى دمار كامل، واقرءوا قول الله: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:6-8]. والفلاحون يعرفون هذه الأيام بالضبط، في آخر الشتاء، وتسمى عندهم بقرة العجوز، والقر هو البرد ضد الحر! في آخر يوم دخلت عجوز في عمق جبل في غار، وظنت أنها تنجوا وتسلم، وإذا بالريح في آخر اليوم تتلولب فوصلت إليها وجرتها! فلا إله إلا الله!ومن أراد أن يرى أطلال ثمود يمشي إلى مدائن صالح، وينظر بعينه كيف صنعوا من الجبال منازلاً وقصوراً، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [الشعراء:149]، الآن أمريكا لا تستطيع أن تفعل هذا، ولكن تلك الأمة ماذا أصابها؟ قال الله: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود:65]، فلما كان اليوم الأول أصيبوا باصفرار في وجوههم، وفي اليوم الثاني اسودت وجوههم، واليوم الثالث بركوا على ركبهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتزوجون ولا يعملون، أمة كاملة جاثمة على ركبها، فودعها صالح وقال: فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [الأعراف:93]، صباح السبت أخذتهم الصيحة فإذا أرواحهم كلها في عالم الشقاء، صيحة واحدة ثلاثة أيام!أين فرعون وملئه؟ أمسوا في قعر البحر وعمقه، إلا ما كان من فرعون رمته أمواج النيل أو البحر ليكون آية من آيات الله فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:92]. قالت العلماء: لما تربع بني إسرائيل في ساحة الخوف والهلع والفزع، لو أنهم لم يروا فرعون حقاً ميتاً ما كانوا يصدقون أبداً، فمن تدبير الله ورحمته أن قذفته أمواج البحر.أعطيكم مثالاً حياً: كان عندنا حاكم جبار طالت مدة حكمه وهو في الحقيقة عامل للحكومة لفرنسية والياً في منطقة، فلما مات لم يصدق الناس أبداً، من طول ما حكم وأدب وضرب ما خطر ببالهم أنه سيموت. إذاً: من تدبير الله عز وجل أن ألقى بجثة فرعون ليشاهدها الشعب الحقير الضعيف الخائف؛ حتى يطمئن إلى أن فرعون قد مات.إذاً: كل هذا دل عليه قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:4]. لما أعرض المسلمون عنه وعبدوا الأولياء والقبور والصالحين ومزقوا دعوة الإسلام وشتتوها فأصبحوا مذاهب وطرقاً قدداً هنا وهناك انتقم منهم فسلط عليهم أذل الخلق من اليهود، حفنة من اليهود لا يتجاوزون خمسة ملايين عبثوا بألف مليون مسلم، أذلهم الله على أيدي أذل الخلق. ووالله إن لم يرجع المسلمون إلى الطريق من جديد لنزل بهم بلاء ما عرفوه من قبل؛ لأن الله عزيز ذو انتقام، والله لهم بالمرصاد فيمهل ولا يهمل! إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14]، ما المرصاد؟ المرصاد يعرفه الصياد الذي يصطاد النعام وبقر الوحش والغزلان، ينزل في مكان معين ويراقب، فالله عز وجل ينظر إلينا. يقول صلى الله عليه وسلم وهو واقف يخطب الناس على منبره: ( إن الله ليملي للظالم ). ما معنى: (يملي) يزيد الليالي والأيام ( ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ قول الله تعالى من سورة هود: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] ). وقد رأينا.
تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)
يقول الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]. فلا تقل: ممكن ليس بمطلع علينا، فدعنا نفرفش ونغني فهو ما يدري، إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، ولو كان هناك إله مع الله لأبانه الله وكشف عنه النقاب وأعلنه للناس، فكيف يكون عيسى إلهاً مع الله؟! ويأتي الإعلان الرباني: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].فلا يخفى على الله شيء، مطلق شيء، لا في الأرض ولا في السماء، فكيف إذاً توجدون آلهة معه وتقولون: هذا إله مع الله؟! أبطل النظرية الصليبية ومزقها فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]. وهذه من أدلة وبراهين علمه وحكمته وقدرته.
تفسير قوله تعالى: (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء)
قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ [آل عمران:6]. هُوَ [آل عمران:6] لا غيره سبحانه الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ [آل عمران:6]. والرحم مستودع الجنين، ثم يصور الله الإنسان، هذا أحمر، وهذا أبيض، هذا طويل، وهذا قصير، هذا جميل، وهذا دميم، هذا شقي وهذا سعيد في الأرحام. فكيف يصورنا في الأرحام ويدعي بعض الخلق أن عيسى إله، والله هو الذي صوره في رحم مريم ؟! وكيف إذاً يصوره هو ولا يدري أنه إله معه؟ والله إنها لخرافة النصارى! ويا ليتهم يحضرون عندنا، والله تمنيت طيلة ما كنت أتردد على أوروبا عشرين سنة أن يجادلني نصراني فما وجدت، خرافات عمياء! كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران:6] كيف يشاء سبحانه، فلا أحد يفرض على الله أن يكون ولده ككذا أو كذا كما يريد! قولوا: آمنا بالله، آمنا بالله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا إله إلا الله العزيز الحكيم.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (13)
الحلقة (154)
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/45.jpg
تفسير سورة آل عمران (20)
الله عز وجل كما يخلق بأسباب وسنن فهو أيضاً يخلق بدون أسباب، فقال ليعسى كن فكان في بطن أمه دون زوج لها من قبل، فكان هذا المخلوق آية في حمله، وكان آية في ولادته، وكان آية في نبوته ورسالته، وسيكون آية بنزوله آخر الزمان من السماء ليحكم الناس بشرع الله ودين الإسلام، فسبحان الذي إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون، وسبحان الذي بيده كل شيء وهو العزيز الحكيم.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك ...) من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن في سورة آل عمران، وقد درسنا في الدرس السابق هذه الآيات الثلاث، أسمعكم تلاوتها، وتذكروا ما علمتم منها، وسوف نستعرض نتائجها وعبرها؛ لنتأكد من صحة ما علمنا، ثم ننتقل إلى ثلاث آيات أخرى ندرسها إن شاء الله.الآيات السابقات تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:42-44].
هداية الآيات
هذه الآيات سبقت دراستها ونتائجها كالتالي:
أولاً: فضل مريم عليها السلام
قال: [أولاً: فضل مريم عليها السلام وأنها وليّة صدّيقة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من كمل النساء]، فكيف لا تكون صدّيقة ولية والملائكة تخاطبها بإذن الله: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:42]، فهذه دالة على كمال هذه المؤمنة، وهل هي نبية؟ النبوة في الرجال، وليست في النساء؛ لأن النبي مأمور بالإبلاغ، والإبلاغ يلزمه الاتصال بالرجال والخلوة بهم وتعليمهم، والمرأة ليس لها ذلك، إذ بيتها هو مقر عملها، لا بأس أن تشهد الصلاة في مساجد الله إن أمنت الفتنة، إذ كان نساء المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن لهن بشهود الصلاة في الليل إذ لم تكن هناك أضواء وأنوار كهذه، فتشهد المرأة صلاة الصبح وصلاة المغرب والعشاء، ويعدن إلى بيوتهن ما يعرفن من الغلس كما قالت عائشة رضي الله عنها.وهذه الصدّيقة مريم أمرت بذلك في قوله تعالى لها: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، إذ كانت تعيش في مقصورة، والمقصورة لاصقة بالمسجد، ومن هنا تشهد الصلاة مع المؤمنين، أمرها بالقنوت وهو الطاعة الكاملة لله والخشوع والخضوع، وأمرها أن تسجد وتركع مع الراكعين.
فضل مريم وآسية بنت مزاحم وخديجة وفاطمة وعائشة
وقد ذكرنا الحديث وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ) ، وهي آسية بنت مزاحم ، آسية امرأة فرعون الشهيدة التي ربت موسى ونمت في أخلاقه وآدابه، قال: ( ومريم بنت عمران ).قال: ( وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) ، فأضاف إلى أولئك الفضليات عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بنت أبي بكر الصديق .وورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ( خير نساء العالمين أربع: مريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، ولا منافاة بين ذاك وذا؛ إذ الكمال يتفاوت فيه الكمل، الكمال يتفاوت فيه الكمل من الناس ومن الرجال والنساء سواء.فهؤلاء الأربع: آسية بنت مزاحم جاء ذكرها في القرآن الكريم، إذ هي التي قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11]، واستجاب الله تعالى لها ففاضت روحها وأخذها ملك الموت قبل أن ينزل السيف فيقسمها، وشاهدت مقامها في الجنة، هذه امرأة فرعون وما ضرها أن كانت تحت كافر طاغية جبار؛ لأنها مؤمنة.و مريم بنت عمران عرفتم عنها أنها نذيره لله، نذرتها أمها لله تعالى بحيث لا تنتفع منها بشيء، وبمجرد ما وضعتها وقمّطتها خرجت بها إلى بني إسرائيل ودفعتها إليهم؛ ليكلفوها، ومن ثم لم تنتفع بشيء منها، فتربت في حجر زكريا عليها السلام وهو أحد أنبياء الله ورسله، والله الحكيم العليم كفّلها زكريا؛ لتعيش فترة من الزمن مع خالتها؛ لأن امرأة زكريا أخت حنة . ثم لما كانت لله ما كان من زكريا عليه السلام إلا أن وضعها في المحراب الذي هو عبارة عن بنية صغيرة لاصقة بالمسجد بدرج يصعد عليه إلى ذلك المكان، وكانت تعبد الله فيها ليل نهار.
ثانياً: أهل القرب من الله تعالى هم أهل طاعته القانتون له
قال: [ثانياً: أهل القرب من الله هم أهل طاعته القانتون له]، لو سئلنا: من هم أهل القرب إلى الله بم نجيب؟ هم أهل الطاعة، أهل طاعة الله أهل القنوت والخضوع والخشوع هم أهل القرب من الله، وأهل التكبر والترفع أبعد الناس عن الله، ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، حديث مسلم .فمن أراد أن يقرب من الله فليتواضع، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، اسجد واطلب القرب وتقرب، وفي الحديث القدسي: ( من تقرّب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ).إذاً: يا طالب القرب من الله! إن الطريق إليه الطاعة والقنوت له عز وجل.
ثالثاً: مكانة الصلاة وما يبلغه العبد بها
قال: [ثالثاً: الصلاة سلم العروج إلى الملكوت الأعلى]، من أراد أن يخترق السبع الطباق -أي: السموات السبع- ويرتفع فوقها ليقرب من الله عز وجل؛ فليتطهر وليقف في مكان طاهر وعليه ثياب طاهرة ويستقبل بيت الله ويكبر: الله أكبر، نافلة أو فريضة، وفي هذه الحالة أصبح مع الله؛ إذ صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( إن الله ينصب وجهه للعبد في الصلاة )، فما دام في صلاته ومع الله يتكلم معه سراً والله يسمعه، فثق بأنك بين يدي الله، وهذا سر حرمة المرور بين يدي المصلي، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يمر بين يدي المصلي وسترته؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لأن يقف أحدكم أربعين خريفاً -أي: سنة- خير له من أن يمر بين يدي المصلي )، يقف أربعين سنة وهو واقف ينتظر هذا المؤمن حتى يفرغ من صلاته ثم يمر خير له من أن يمر بين يدي المصلي، ما سر هذا؟ المصلي كما علمنا هو مع الله وبين يدي الله وقلبه مع الله، ووجهه إلى الله، وجه الله إليه، فهذا الذي يمر ينتقل المصلي من الله إليه ينظر إليه، وينتقل التفكير والذكر لله إلى ذلك المار بين يديه.إليكم مثالاً محسوساً يعقله العالمون: لو كنت أنت تتصل بملك في أعظم أمر تتوقف عليه سعادتك أو شقاوتك، وشرعت في الحديث معه، وجاء من قطعك، كيف تعامله؟يكرب يحزن يضطرب، لو أمكنه أن يضرب به الأرض لضرب به الأرض؛ لما فوّت عليه من تلك السعادة، أنا أقول: الأمثلة معقولة: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ليعرف لماذا يحرم علينا أن نمر بين يدي المصلي، كيف نرضى أن نقف أربعين سنة ولا نمر بين يديه؛ لأن الأمر عظيم، وهو أن العبد مع الله يناجيه ويساره ويكلمه ويطلب حاجته، فإذا مر بين يديه رجل قطعه، فقطع هذه الصلة التي بينه وبين الله، ووالله لن تتم لك - ولو أنفقت ما في الأرض ذهباً - إلا في هذه الحال، كيف إذاً ترضى عن هذا الذي قطعك عن الله؟ فمن هنا يجب علينا أن نقف ولا نمر بين يدي المصلي وسترته إن كانت له سترة، فإن لم تكن له سترة نبتعد عنه مسافة مكان وضع رأسه، نترك قدر ممر الشاة، والتنبيهات من أهل العلم يقولون: أحياناً المصلي هو الآثم، المصلي الذي يصلي في ممرات الناس وطرقهم هو الآثم، حرمهم من العمل ووقف بهم عن أعمالهم، فلم يظلمهم؟ هو العاصي هو الآثم، والذي يصلي بدون سترة وفي إمكانه أن يضع سترة لم لا يتخذ سترة يصلي إليها؟ كانوا يتسابقون إلى أعمدة المسجد يصلون؛ إذ هذه الصلاة هي النوافل، أما الفريضة فإذا دخلوا فيها ومر من مر بين الصفوف؛ لإتمامها أو لوجود مكان يصلي فيه فمأذون في هذا، أقر هذا النبي صلى الله عليه وسلم في منى لـعبد الله بن عباس .إذاً: عرفنا من هم أهل القرب من الله؟ أهل الطاعة والقنوت؛ لأن الملائكة ماذا قالت لـمريم؟ قالت: اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43].قلنا: الصلاة سلم العروج إلى الملكوت الأعلى، يا من يرغب في أن يصل إلى ما فوق السموات السبع! الطريق موجود، فيه سلم آلي: توضأ تطهر قف في مكان طاهر، أقبل على الله وقل: الله أكبر، فإذا أنت قد اجتزت هذا الملكوت وأنت مع الله عز وجل.
رابعاً: ثبوت الوحي المحمدي وتقرير رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: [رابعاً: ثبوت الوحي المحمدي وتقريره]. من أين استنبطنا أو استنتجنا نتيجة ثبوت الوحي المحمدي وأنه نبي الله ورسوله؟من قوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، هل تذكرون أن حنة عليها السلام لما ألقت بطفلتها في صلحاء بني إسرائيل أنهم تنازعوها كل أراد أن يكفلها، لا يوجد عالم من علمائهم ولا صالح إلا رغب أن تعيش هذه في بيته، لم؟ لأنها نذيرة الله؛ لأنها بنت عبدين صالحين حنة وعمران عليهما السلام، فرغبة كل واحد فيها ألجأتهم إلى الاقتراع، فاستهموا عليها فكفّلها الله زكريا، ماذا صنعوا؟ جمعوا أقلامهم التي يكبتون بها التوراة كتاب الله، وأخذوا يرمونها في النهر -نهر الأردن-، ومن وقف قلمه هو الذي يأخذها، ومن دحرج الماء قلمه ورمى به بعيداً فما له حق في ذلك، فأخذوا يطلقون الأقلام قلمًا بعد قلم والماء يذهب بها، لما ألقوا قلم زكريا وقف كأنما هو خشبة في الأرض، هل كان نبينا صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، هل كان في ذلك الزمن؟هذه حاثة قبل سبعمائة سنة تقريباً، فكيف عرف هذا؟ وإذا كان أبوه لا يعرف وأمه وجده والعرب كلهم سواه فكيف هذا؟ هذا دليل نبوته وبرهان رسالته، ويكفي أن يقول الله تعالى له: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ [آل عمران:44]، أنباء الغيب: قصة حنة وعمران ومريم كل هذا ما كان يعرفه الرسول من غيب أوحاه الله إليه، وما كنت حاضرًا يوم استهموا واقترعوا على من يكفل مريم ، ما كنت معهم، فكيف عرفت؟ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]، إذاً: صلوا على نبينا الرسول صلى الله عليه وسلم.هذه كافية في إثبات نبوته، ومع هذا ملايين البشر لا يؤمنون بها؛ لأنهم عميان ومحجوبون ومسحورون، كيف تُنكر نبوة محمد عليه الصلاة والسلام مع هذه الحجج والبراهين القطعية؟
خامساً: مشروعية القرعة حال الاختلاف
قال: [خامساً: مشروعية الاقتراع عند الاختلاف، وهذه وإن كانت في شرع من قبلنا إلا أنها مقررة في شرعنا والحمد لله]. القرعة معروفة، إذا قسمنا داراً أو بستاناً قابلا للقسمة كل يريد أن يأخذ هذا أو هذا؛ فالقرعة تفصل بيننا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى جهاد أو نحوه يقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتها خرجت معه، إذ ما هو بقادر أن يأخذ تسع نسوة.إذاً: واحدة فقط تخدمه في سفره، وتعبد الله معه، وعلى الذين تحتهم زوجات أيضاً أن يأخذوا بهذه السنة، عندك امرأتان كلتاهما تريد العمرة معك فالقرعة، والتي خرجت قرعتها اعتمرت أو حجت، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.فالقرعة مشروعة وقد ذكرت القرعة في سورة الصافات، تمت قرعة قبل زكريا، وهي قسمة يونس بن متّى عليه السلام، إذ قال تعالى: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:141-142]، اقترعوا؛ لأن السفينة حملها كبير، فربانها وملاحوها قالوا للركاب: أنتم بين خيارين: بين أن تضحوا بواحد منكم وينجو الباقون، وبين أن تشحوا بنفوسكم وتغرقوا كلكم، فماذا يصنعون؟ قالوا: القرعة، الذي تخرج القرعة عليه هو الذي يلقى في البحر، وهذا تدبير العزيز العليم، فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس الهارب من الدعوة إلى الله عز وجل الذي ملّها.وهذا قول الله عز وجل: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:139-144].فسبحوا ربكم، نزهوه وقدسوه بتلك الكلمة الطيبة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، اشغل بها - يا عبد الله - وقتك، إذا فرغت من أكلك من شربك من وضوئك اشتغل بالتسبيح.والمسح ة في يدك تضرب بها: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، بدراجتك تدفعها برجليك، بطائرتك تقودها بمقودها وأنت تسبح الله، إذا أردت النجاة فهذا إحدى سبلها، أما قال تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144]؟ والله لن يخرج إلى يوم القيامة، لكن لما كان يسبح وهو في الظلمات الثلاث وسمعته الملائكة تحت العرش؛ حينئذٍ صدر أمر الله إلى الحوت أن يرميه خارج البحر.فإذا كنت مشغولاً مع أعمالك مع إخوانك فكلما تسكت قل: سبحان الله، لكن إذا كنت فارغًا فهل تفكر في الشهوات والمطاعم والملاذ أم تسبح الرحمن؟اشغل هذا الوقت بكلمة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن )، محبوبتان إلى الله عز وجل، فمن أراد أن يقرب من الله يتملقه، ما دمت تعرف أن ربك يحب هذه فأعطه هذه وتقرب إليه وتملق.من يوم أن بلغنا، ويوم كنا أطفالاً ونحن نقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ونضيف إليها (أستغفر الله) مائة مرة، ما بين أذان الصبح وصلاتها، فإن كنت مشغولاً فقل وأنت على السيارة" سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، أستغفر الله.وأذكر ليلة كنا ننتظر فيها الإعلان عن هلال العيد في نادي الترقي، والشيخ الطيب العقبي خرّيج المسجد النبوي الذي رأيته منذ يومين كالبدر في رؤيا، والله كالبدر، وكنت أقول لإخواني: هذا هو الشيخ الطيب ، هذا مؤسس جريدة القبلة واستبدلها بأم القرى وتركها للطيب التونسي بعده، فكنا ننتظر متى يعلن، وأهل النادي مكتظون، وجاءت المناسبة وأخذ الشيخ يسبح: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، وسبح النادي بكامله، ضجت المدينة ووقف الناس والبوليس: ما هذا؟ لقد وجد لذة ما استطاع أن يتركها.إذاً: سبحوا الله عز وجل: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ما دامتا حبيبتين إلى الرحمن فكيف لا نتقرب بهما إلى الله؟! أو لسنا في حاجة إلى الله؟ أنفاسنا التي نرددها هي لله، حياتنا كلها لله، لولا الله ما كنا ولا ولدنا، كيف نستغني عن الله وحبه؟!
تفسير قوله تعالى: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح ...)
والآن مع هذه الآيات الثلاث ندرس منها ما شاء الله أن ندرس، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:45-47].اذكر يا رسولنا! لوفد نجران، لنصارى نجران الستين فارساً الذين جاءوا يتعنترون ويريدون أن يعلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عليه عيسى، فحدثهم عن جدته لا عن مولده هو، هم يجهلون موت جدته، فقص عليهم قصص عيسى قبل أن يوجد بكذا سنة، وحدثهم عن مريم بأحاديث ما سمعوها أو سمعوها مخلوطة مخبوطة رأسها مع رجليها أكاذيب وأباطيل.هذا وحي الله: إذ قالت [آل عمران:45]، أي: اذكر يا رسولنا لهذا الوفد التائه الحيران إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران:45]، الملائكة هنا اسم جنس واحدهم ملأك، وخفف فكان ملك، والمراد به هنا جبريل عليه السلام، هذا رسول الله إلى الأنبياء والرسل، هذا السفير الأعظم جبريل، خاطبها وقال: يا مريم ! إذ هذا اسمها: مريم ، ما قال: يا سيدة، أو: يا مدام! قال: يا مريم . يا خادمة الله! هل عرفتم معنى مريم ؟خادمة الله، يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ [آل عمران:45]، والبشارة ضد النذارة، والبشارة: الكلمة السارة المفرحة التي تثلج الصدر، ويتجلى ذلك في بشرة الوجه حيث تكون صفراء مشرقة. يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ [آل عمران:45]، ما هي هذه الكلمة؟ هي عيسى عليه السلام، وهل عيسى كلمة؟ نعم. كان بكلمة كن فكان، من القائل كن؟ الله جل جلاله.
قدرة الله تعالى الباهرة في خلق بعض البشر من غير اجتماع أب وأم
الله عز وجل يخلق بالأسباب ويخلق بدون أسباب، فالتكوين القدري يكون بدون سبب، قال لعيسى: كن فكان في بطن أمه كأنه ابن تسعة أشهر، وهنا أذكر الناسين أن هناك إنسانًا لا أب له ولا أم، إنسان أفضل منا، أكمل منا، أجمل منا، والله لا أم له ولا أب، من هذا يرحمكم الله؟هذا آدم أبو البشر، خلقه الله ونفخ فيه من روحه، صنعه الله من طين لازب من حمإٍ مسنون، وتركه حيناً من الدهر أربعين سنة، ممكن أنها بأيام العالم الأعلى، ثم نفخ فيه من روحه فإذا هو آدم، يعطس فَيُلْهم: الحمد لله، فتقول له الملائكة: يرحمك الله يا آدم! وكانت سنة باقية إلى يوم الدين، باقية مع من؟ مع الصعاليك ومع المجرمين والجاهلين! مع الربانيين أمثالكم، إذا عطس المؤمن يقول: الحمد لله، ومن سمعه يشمته ويقول: يرحمكم الله، كيف يشمته؟يشمته أي: يزيل الشماتة عنه، كما يقال: يقشر التفاح، أي: يزيل القشرة عنها؛ لأنه لما عطس تغير وجهه وتغير صوته وخرج منه لعاب أم لا؟ أمنظر محمود هذا؟ لا، إذاً: ليزيل أخوه الشماتة عنه فيقول له: يرحمك الله، فهل يوجد هذا الكمال في غير أمة الإسلام؟فهذه وحدها تساوي الدنيا وما فيها، ولكننا غافلون وجاهلون، تشميت العاطس سنة مؤكدة، إذا عطس أحدنا ماذا يقول؟يقول: الحمد لله، واملأ بها فاك يا عبد الله، والذي سمعك عطست وحمدت ينبغي أن يقول لك: يرحمك الله، هذه الجملة خبرية ومعناها إنشاء الدعاء: اللهم ارحمه لأنه حمدك، ويرد عليه أخوه المؤمن قائلاً: يغفر الله لي ولك، فهذه تساوي خمسين ألف ريال، كيف تحصل على هذه الدعوة، يغفر الله لي ولك مكافأة له، أما قال له: يرحمك الله؟ إذاً: يكافئه بقوله: يغفر الله لي ولك، وإن كان الحاضرون جميعاً: يغفر الله لي ولكم، وهناك أيضاً دعوة مستواها أقل من هذه، ولكن تصلح لدنيانا، فيقول له: يهديكم الله ويصلح بالكم، أو: يهديك الله ويصلح بالك إذا كان واحدًا، يهديكم الله لما فيه سعادتكم وكمالكم، ويصلح بالكم، ما هو البال؟ هذا سر باطني، الآلة التي توجهك إلى أن تخدم أو تترك، إلى أن تنام أو تستيقظ.أعود إلى من خلق بلا أب ولا أم وهو آدم عليه السلام، وهناك من خلق من أب ولا أم، وهي حواء، خلقها الله من ضلع آدم الأيسر، قال لها: اخرجي فخرجت، فإذا العروس إلى جنبه، من هذه؟ هذه حواء . يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].يقول أهل العلم: الضلع الأيسر أقل من الأيمن؛ لأنه فقد بعضه، أخذته حواء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( خلقن من ضلع أعوج )، فهذه حالها ( إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج )، والحمد لله، تبقى معك على عوج أحسن من أن تكسرها وترميها.ولقد عشت مع هذه المؤمنة التي تغمدها الله برحمته قرابة الستين سنة ما سمعت مني كلمة سوء ولا سمعت منها أخرى.الربانيات الصالحات كلهن يسألن الله أن يمتن قبل أزواجهن ليمتن طاهرات عفيفات، والشاهد من هذا أن الجهل هو الظلمة التي ما فوقها ظلمة، تعلموا يا عباد الله الكتاب والحكمة، اجتمعوا في بيوت ربكم بنسائكم وأطفالكم تستمطرون رحماته فلا تلبثون أن تصبحوا كالحواريين، أما ونحن مبعدون بالحيلة والسحر عن الكتاب والحكمة وبيوت الرب فأنى لنا أن نفيق من هذه الغفوة أو نصحو من هذه السكرة أو نعود بعد هذه الجفوة؟ هيهات هيهات! ما هو إلا باب الله يقرع، وقد بين الرسول ذلك وعلمنا.أهل الحي في مجلسهم الجامع يجتمعون فيه بنسائهم وأطفالهم كل ليلة طول الحياة يتعلمون الكتاب والحكمة، أهل المساجد في الأحياء كذلك.أعود فأقول: بقي من له أم ولا أب له، ألا وهو ابن مريم، ألا وهو عيسى عليه السلام؛ إذ كان بكلمة الله: كن، فكان، فإذا بالطلق والمخاض يهزها، عيسى بكلمة التكوين، وهذا هو شاهد الآية الكريمة: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45]، وأمه هي خادمة الله مريم .
ذكر فضل عيسى عليه السلام بالقرب من ربه
ووصفه بأنه وجيه في الدنيا أي: ذا جاه عظيم، من قابله من نظر إليه من اجتمع معه تجلت له هذه الوجاهة، وكيف لا وهو لم يكن كبني آدم، كان بنفخة الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه، يبهر من ينظر إليه أو يسمع منه، وجيهاً في الدنيا وفي الآخرة معاً.قوله: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45]، من هم المقربون؟ اللهم اجعلنا منهم.قال تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، من أراد أن يقرب يقرب، لا مسافات بيننا وبين الله، تملق لله عز وجل في ذكره ودعائه والركوع والسجود له، والبعد عن مساخطه ومكارهه، فلا تزال تقرب حتى يقربك ويدنيك وتكون من المقربين.
ذكر فضله عليه السلام بتكليم الناس في المهد
وقوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:46]، هذه تمام البشرى، علّمها جبريل أن عيسى يكلم الناس في المهد، والمهد مكان يوضع فيه الطفل يوم يولد، يمهّد له ويوضع فيه، وقد جرت سنة الله ألا يتكلم طفل، سواء كان ابن نبي أو ابن ملك، فهذه آية من آيات الله أنه يتكلم في المهد، وبالفعل ذكر تعالى كلماته لما جاءت به إلى بني إسرائيل: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:27-28]، إذاً: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:29]، قالت: كلموه؛ لأنها هي أمرت أن لا تتكلم، أشارت إليه: كلموه. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [مريم:30-34]، كلموه فأخذ يفصح عما يكون في المستقبل، ولهذا هنا قال بإيجاز: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران:46]، الكهولة سن ما بين الشيخوخة وبين الشبيبة، إذا بلغ الشاب ثلاثًا وثلاثين سنة انتهت الشبيبة وأصبح رجلاً يأخذ في الكهولة إلى الستين، وبعدها يأخذ في النقصان، شاب كهل شيخ وبعد الشيخوخة الهرم والقبر.قال العلماء: قال: وَكَهْلًا ؛ لأنه لما قال: (يكلم الناس في المهد) قد تفهم منه أنه يموت أو يصاب بالبكم، فقال: وَكَهْلًا ، وهذا سيتم إن شاء الله بعد أعوام أو أيام، سوف ينزل فينا ابن مريم والله العظيم، سوف ينزل فينا ابن مريم من الملكوت الأعلى ويعيش إلى أن يبلغ ثلاثًا وستين سنة، كأن عمره محاذ لعمر النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف يزور المدينة ويحج ويلبي من الروحاء: لبيك اللهم لبيك حجاً أو عمرة، بهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كأني بابن مريم بالروحاء يلبي: لبيك اللهم لبيك حجاً وعمرة ) .وقد ذكرت لكم ما قال بعض أهل العلم القدامى لا المعاصرين: أن في الحجرة الشريفة مكانًا يتسع لدفن إنسان، إذ فيها الآن ثلاثة قبور: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر ، وقبر عمر ، وبقي فيها قدر قبر إنسان، وما استطاع ملك ولا سلطان لمدة ألف وأربعمائة سنة أن يقول: ادفنوني معهم، من صرفهم؟ الله، إذاً: فمن الجائز: أن يدفن عيسى معهم، ويصبح من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ذكر فضله عليه السلام بكونه من الصالحين
قال: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ، لو لم يقل: وَمِنَ الصَّالِحِينَ ، فيمكن أن يقال: هذا ساحر أو دجال. ومن هم الصالحون؟ الصالح منا: من أدى حقوق الله وافية، ما نقصها ولا بخسها ولا جحد منها شيئاً، وأدى حقوق الناس كذلك، ما سرق ولا بخس ولا نقص، ذلكم هو العبد الصالح وهو في زمرة الصالحين، وهو الموكب الرابع الذي يشمل: الأنبياء والصديقين والشهداء، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69]، (مَنْ) من ألفاظ العموم أم لا؟ من العرب من العجم في الأولين في الآخرين، من يطع الله والرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، كل نبي من الصالحين، كل صديق من الصالحين، كل شهيد من الصالحين، أليس كذلك؟ وليس كل صالح بنبي ولا صديق ولا شهيد، بدليل أنكم أنتم من الصالحين وما أنتم أنبياء ولا شهداء. وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...aa8815fda4.gif
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (14)
الحلقة (155)
تفسير سورة آل عمران (21)
لقد تفضل الله عز وجل على عيسى عليه السلام وبعثه بالنبوة والرسالة، وأيده بمعجزات شتى ليثبت الأمر على بني إسرائيل ويقيم الحجة عليهم، ومما جاء به عيسى بني إسرائيل أنه كان يخلق لهم من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وأنه كان ينبئهم بما يأكلون من الأطعمة وما يدخرون منها، وغيرها من الآيات لعلهم يتقون وإلى ربهم يرجعون.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة كسابقتها واللاحقة بها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) ، حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.وأعيد إلى أذهانكم - فتح الله علي وعليكم - تلاوة الآيات التي درسناها بالأمس، ولنستحضر ما علمناه منها وما فتح الله به علينا فيها، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:45-47].تذكرون أن مريم استبشرت لما بشرت فقالت: رب كيف يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ تريد أن تعرف السر أو السبب أو العلة، ومن هنا يجوز الاستفسار عن الأمر المجهول، قالت رب أي: يا رب، أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ، أي: بالمجامعة ولا بغيرها، ومن آية سورتها عليها السلام: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20]، وجمع البغي: بغايا، وهن الزواني والعياذ بالله.والشاهد عندنا في استفسارها أنها ليست منكرة لما أمر الله وقال، ولكن تريد أن تعرف السر؛ لأنه خارج عن سنن الله، سنة الله في الولادة أن يجامع الفحل امرأته، وهذه ما مسها بشر، فكيف؟ لها الحق أن تسأل هذا السؤال، وكان جواب الله: الله يخلق ما يشاء.وقد ذكرنا بالأمس تلك اللطيفة، فعرفنا أن الله خلق مخلوقاً من غير أب ولا أم، من هو هذا؟هو آدم عليه الصلاة والسلام، ما له أم ولا أب، وهناك من خلق من أب وبدون أم، وهي حواء أم البشر خلقها الله من الذكر من آدم من ضلعه الأعوج، وهناك من خلق من أم بدون أب، وهو عيسى المسيح عليه السلام، وخلق من أب وأم سائر البشر.هذه سنته في خلقه يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً وحكم به يقول له: كن فيكون، ما يحتاج إلى وسائط أو أسباب أو وسائل أبداً، وما كان من الأشياء التي توجد بالأسباب والسنن فلها ذلك، أما وإذا أراد شيئاً فبكلمة (كن) يكون، كما قال لعيسى: كن فكان، ساعة واحدة وأخذها الطلق ولجأت إلى النخلة.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ هداية الآيات] هذه الآيات الثلاث فيها أربع نتائج وعبر [من هداية الآيات:]
شرف مريم عليها السلام وكرامتها
قال: [أولاً: بيان شرف مريم وكرامتها على ربها؛ إذ كلمها جبريل وبشرها]، هل أمهاتكم أو نساؤكم وبناتكم يظفرن بهذا؟ من هي التي يكلمها جبريل؟ إذاً: فتكليم جبريل عليه السلام رسول الوحي إياها وتبشيرها بولد كيف لا يكون هذا شرفًا لـمريم؟ وفي الحديث: ( كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع ) وذكر منهن مريم بنت عمران .
شرف عيسى عليه السلام ووجاهته وكونه من المقربين
ثانياً: [بيان شرف عيسى عليه السلام ووجاهته في الدنيا والآخرة]، أما قال تعالى: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [آل عمران:45]؟ الوجيه بالوجاهة في الدنيا والآخرة.وثانياً: [وأنه من المقربين] بشهادة الله، أخبر الله تعالى: أن عيسى من المقربين، لو يصل إلينا خبر نحن بهذا فسنسجد ونبكي ساعات ولو برؤيا منامية من الصالحين، أما عيسى فالله تعالى أخبر أنه من المقربين.
دلالة تكلم عيسى عليه السلام في المهد على عظيم قدرة الله تعالى وعجيب آياته
ثالثاً: [تكلم عيسى في المهد آية من آيات الله تعالى؛ حيث لم تجر العادة أن الرضيع يتكلم في زمان رضاعه]، وهل هناك من تكلم؟أربعة فقط: شاهد يوسف لما حصل النزاع بين امرأة العزيز وبين يوسف وهرب وجذبته من ثوبه ومزقته وما أراد أن يصفعها، وحضر السيد، وكان رضيع في يد إحدى النساء فنطق وقال: يوسف مظلوم ظلمته زليخا ، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27].هذا الغلام شهد بهذه الشهادة وفصل في هذه القضية وهو يرضع.الثاني: صاحب جريج الذي اتهمته المومس وأبوه راع فجر بها، فلما قال له جريج: من أبوك؟ نطق الغلام وقال: أبي فلان، وبرأ الله وليه جريجاً .الرابع: مرة من المرات مؤمنة تحمل طفلها في يدها وترضعه، فمر بين يديها رجل فارس على أجمل ما يكون من الخيول والهيئة، فقالت: أي رب! اجعل ولدي مثل هذا، فنطق الولد وقال: اللهم لا تجعلني مثله. من أنطقه؟ الله عز وجل، الذي أنطقنا ونحن كالأخشاب، أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء.
مشروعية الاستفسار عما يخالف العادة لمعرفة سره وحكمته
رابعاً: [جواز طلب الاستفسار عما يكون مخالفاً للعادة؛ لمعرفة سر ذلك أو علته أو حكمته]. أخذنا هذا من قولها: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ [آل عمران:47]، كيف يكون لي ولد؟
تفسير قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)
الآن مع بعض الآيات التي بين أيدينا، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران:48-51].
تقرير عبودية عيسى عليه السلام لله تعالى
هذه والله كلمة عيسى أنزلها الله تعالى إلينا كأننا حاضرون مجلسه، هذه الآيات كلها تقرر أن عيسى لم يكن بابن لله، ولم يكن أبداً هو الله، وما زال على أنه عبد الله ورسوله، احلف بالله الذي لا إله غيره ولا تحنث: ما كان عيسى بإله أبداً، وما هو بإله وما هو إلا عبد الله ورسوله، فتقول: أشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكفر النصارى نساءً ورجالاً بالجهل والتقليد الأعمى والتضليل المتعمد، وإلا فهذه فرية باطلة بكل عقل، كيف وقد عرفناه وعرفنا أمه وعرفنا أسرته وتاريخه وبلده والإنجيل الذي نزل عليه، وأنه عبد الله ورسوله، ثم نقول: إله ونعبده!الجهل أولاً، والتقليد من بعضهم لبعض ثانياً، والتغرير والتضليل من العلماء الذين يعيشون على حساب هذه العقيدة الباطلة.
معنى قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة)
إذاً: وَيُعَلِّمُهُ ، من الذي يعلمه الكتاب والحكمة؟ الله، هذا كلام تابع للأول، إذ قال الملائكة ما قالت، ومن جملة ما قالته لـمريم : وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وقد فعل هذه البشرى، فهذا الكلام بشرى فقط، إذ لم يوجد عيسى بعد. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ ، المراد من الكتاب هنا: الكتابة، يعرف الكتابة، كان يكتب على القرطاس بالقلم، ولهذا فضل الكتابة معروف، إذا كنت كاتباً تكتب حقاً والخير فأنت من خيرة الناس، وإن كنت تكتب الباطل والشر والظلم فأنت من أسوأ الناس.قال: وَالْحِكْمَةَ ، يعلمه الحكمة، يصبح حكيماً فيما يقول ويقضي ويفكر ويعمل، دائماً مصيب في كل ما يريده، ويعلمه التوراة أيضاً التي نزلت على موسى عليه السلام وهي في أيدي بني إسرائيل، وكذلك يعلمه إياها ويفهمه معناها ويصبح أهلاً لها، ويعلمه الإنجيل بعد ذلك.هذه الأخبار هل يستطيع أن يقولها آدمي، ماذا في قماطته، ويخبر الله تعالى أنه سوف يكون منه كذا وكذا، وفعل الله ذلك كله، علمه الكتاب والحكمة والتوراة وأنزل عليه الإنجيل.
تحريف النصارى الإنجيل
والإنجيل الآن في يد النصارى، لكنه محرف مبدل مغيّر، زادوا فيه ثلاثة أرباع، أو أربعة أخماس، الأناجيل خمسة الآن، إذاً: والله إن الأربعة كلها كذب، من فعل بهم هذا؟ رؤساؤهم، والعوام يمدون أعناقهم، والجهال ما يبالون، ورجال الكنيسة يعبثون كما شاءوا، وقد ثبت أنهم حولوا الإنجيل إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً بالزيادة، ثم لامهم من لامهم وفضحوا، فعقدوا مؤتمراً عالمياً للنصارى وجمعوها في خمسة أناجيل: لوقا، ومتى، ويوحنا، ومرقس.وأما إنجيل برنابا فقالوا: هذا مغشوش. هذا مذهب وهّابي أيضاً كما يقول العرب الهابطون، فروا منه لأن فيه التوحيد، ما يقبلونه، وأنتم تذكرون أن وفد نجران هو الذي بسببه نزلت هذه الآيات، ستون راكباً جاءوا ليجادلوا رسول الله في الباطل في شأن عيسى، تعالوا نسمعكم تاريخه، من جدته حنة إلى أمه مريم بهذا التفصيل.
تفسير قوله تعالى: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم ...)
قال تعالى: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:49] أيضاً، وأرسله رسولاً إلى بني إسرائيل فوق النبوة، وبالفعل أرسله إلى بني إسرائيل، وإليكم بعض آياته أو كلماته: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:73-75]، الذي يأكل الطعام يبول ويتغوط،فكيف يكون إلهًا؟! إلهك تجده في الحمام يبول، أهذا إله؟! كيف يعقل هذا الكلام؟ما قال مثلما قلت أنا البول والتغوط، نحن شرحنا، وإلا فالمقصود أن هذا الذي يأكل الطعام ويفرز البول أيصلح للإلهية؟ أين يذهب بعقلك.وفي هذا يذكر أن أحد الأعراب - والأعراب كانوا ممتازين في الذكاء - كان له صنم يعبده بين جبلين في مكان، فجاءه يوماً ليتقرب إليه ويتمسح وإذا بثعلب رفع رجله اليسرى أو اليمنى على كتف الصنم يبول عليه، فهذا العربي دهش: أنا جئت من مكان بعيد؛ لأستفيد من هذا الإله والثعلب يبول عليه فكيف يفيدني؟ فقال بيتاً من الشعر:أرب يبول الثعلبان برأسهلقد ذل من بالت عليه الثعالبوتركه فلم يرجع إليه أبداً.
معجزة عيسى عليه السلام في خلق الطير من الطين وإحياء الموتى بإذن الله تعالى
قوله تعالى: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:49]يقول لهم: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:49] علامة أظهر وضوحاً من الشمس إن شئتم تدل على أني رسول الله إليكم يا معشر يهود، قالوا: هات الآية، قال: اطلبوا، قالوا: أحي لنا سام بن نوح . فصلى ورفع يديه إلى ربه فقام سام بن نوح من قبره وقال: أنا سام بن نوح ! فما آمنوا.وذات مرة توفي ابن لمؤمنة وليس لها سواه، وبينما هم يمشون به إلى المقبرة وهو على النعش فقالت: يا روح الله! ادع الله لي ليحيي لي ولدي، فدعا له وقال: يا فلان! قال: نعم، فوضعوه فلف الكفن وعاد مع أمه.وقالوا: اخلق لنا من الطين كهيئة الطير وانفخ فيها حتى تطير وبذلك نؤمن لك، واشترطوا أن يكون هذا المخلوق من الخفاش، والخفاش من أعجب المخلوقات؛ أولاً: لا يرى في الظلام ولا في الضياء، هناك حيوانات ترى في الظلام ولا ترى في الضياء، هو بالعكس، لا يرى في الظلام ولا في الضياء، يرى قبل طلوع الشمس بساعة وبعد غروبها بساعة، وبعدها ما يرى شيئاً.ثانياً: هذا المخلوق مخلوق من لحم وعظم ودم وليس فيه ريش أبداً ويطير، يطير بدون ريش، وأغرب منه أن أنثاه تحيض كما يحيض النساء، وفيها لبن فترضع أولادها بلبنها، عجب هذا المخلوق، وبالفعل جيء بالطين وصنع منه خفاشاً ونفخ فيه فطار، فقالوا: ساحر.العامة عندنا يقولون: من لم يرد أن يتصدق يقول: مال اليتامى، هو يحمل الرطب على ظهره، فيقول له المسكين: أعطيني حفنة رطب، فيقول: لا؛ هذا مال اليتامى، ما يريدون أن يؤمنوا فقالوا: سحر ساحر، كيف يطير هذا! وهذا يدلنا على وضعية البشر وما فطروا عليه إذا لم ينقوا ويهذبوا ويطهروا ويزكوا، هذه كل أحوالهم، يكذبون ويردون الحق ويتجاهلون، هذه غرائزهم وفطرهم، فإن هم هذبوا وطهروا وسلموا أصبحوا كالملائكة، أما مع الجهل فهذه هي أحوالهم، بنو إسرائيل كانوا أرقى من العرب اليوم؛ لأن الدنيا كلما يجيء عام أسوأ من الأول، ومع هذا كذبوا عيسى عليه السلام بعد تلك الآيات.
معجزته عليه السلام في إبراء الأكمه والأبرص
قال تعالى: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:49].ثانياً: وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ [آل عمران:49]، الأكمه: الذي ولد أعمى لا عين له مطموس العين، لو كان مرض بعينيه وعالجه فممكن أن يشفى، لو كانت العينان فيهما بياض فهذا أسهل، لكن ولد لا يبصر، وبالفعل يدعو الله تعالى فيعود إليه بصره.والبرص: مرض معروف أعيا الأطباء إلى اليوم، منذ أن بدأ البرص إلى الآن ما عرف الطب ماذا يصنع، البرص: أن يتحول جلد الإنسان إلى لون أبيض، هو أسود ويصبح جلده أبيض كالثوب، هذا البرص، فيمسح عليه بيده فيذهب البرص، فأية آية أعظم من هذه؟ هل آمنوا به؟ قتلوه، تآمروا على قتله وصلبوا من تمثل به.
معجزته عليه السلام في إخبار بني إسرائيل بما يأكلون وما يدخرون
قال: وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:49]، يقول: اسألوني، أكلتم كذا وكذا، وادخرتم للعشاء في القدر الفلاني في الزاوية الفلانية كذا وكذا. ما يستطيعون أن ينكروا، فعقولهم صغيرة وهابطة، لو أخبرهم عن ملكوت السماء وعن الغيب لم يفهموا، لكن قال لهم: أنا أخبركم عما تأكلون وما تدخرون، وأنا لست في بيوتكم، وأنا لا أخبر عن بيت فلان فقط، أنتم يا أهل الدار الفلانية طعامكم اليوم كذا، عشاؤكم كذا، ادخرتم لأولادكم كذا، كيف يعرف هذا؟ والمفروض أنهم يؤمنون كلهم نساؤهم ورجالهم؛ لأن هذه الآية بين أيديهم ما هي وهمية: وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:49]، حتى لو كانت بيضة ادخرتها لابنها يقول: ادخرت البيضة الفلانية لولدك، ولكن من لم يشأ الله هدايته فوالله لا يهتدي، ما آمنوا، بل طردوا أتباعه الحواريين وأبعدوهم من البلاد فلجئوا إلى الجبال، هؤلاء من هم؟ ما زالوا على أشد ما يكونوا مكراً وخديعة، إلا أن لهم بعض الأساليب أحسن من أساليب العروبة الهابطة وأذكى.قال: وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ [آل عمران:49] إن كنتم مؤمنين بالله ولقائه، بالله ورسله، بالله وكتبه، بالله ووعده ووعيده، بالله وقدرته ورحمته وحكمته، لما لا تؤمنون بهذه؟ أية آية أوضح من هذه الآية؟ يخبر أهل القرية بما يأكلونه وما يدخرون، ما كان معهم ولا أكل معهم ولا يخطئ ولا يكذب أبداً، لو لم يكن رسول الله فكيف يخبر بهذا، الساحر والله ما يستطيع ولا يقدر على هذا، لكن ضعف إيمانهم هو الذي أدى بهم إلى التكذيب، فلهذا قال: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ، فوالله لو كانوا مؤمنين بحق لكانت تنشرح صدورهم وتطيب نفوسهم لهذه الآيات الإلهية، لكن المرض متأصل، ما هم بالمؤمنين الصادقين في إيمانهم.
تفسير قوله تعالى: (ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ...)
وما زالت البراهين: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ [آل عمران:50]، وهذا الكلام الذي تسمعونه قاله عيسى وهو في القماطة، تكلم في المهد بهذا الكلام وبغيره، وما أخبر به كله وقع بالحرف الواحد. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، أي: من أحكامها في الحلال والحرام والشرائع والقوانين؛ لأنه كتاب إلهي، وإن دخله النقص والزيادة، لكن الأصل هو التوراة أنزلها الله تعالى على موسى، وبين موسى وعيسى أكثر من ثلاثة آلاف سنة. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، ما السر في هذه؟ لو كان دجالاً أو ساحراً أو يريد دولة أو يريد منصبًا فلن يوافق ما في التوراة أبداً، يأتي بما يخالقها ويناقضها، لكن كون ما أدعو إليه وأقوم به وتلبست به كله كما في التوراة؛ إذاً أنا من أنبياء الله ورسله، أوما تفطنتم لقوله: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]؟ لو كان ما جاء به يتنافى معها لسهل أن يقال: كذاب ودجال، لو يأتي الآن واحد منا يدعي الولاية أو النبوة ويناقض ما في القرآن فهل هناك من يقبله؟ لا أحد، لكن لو دعا بدعوى وجدناها في القرآن نقبله، ولهذا قبلنا الدعاة الصالحين، لأنهم لا يناقضون ما في كتاب الله، بل يؤيدونه ويعبرون عنه ويدعون إليه، فلو تناقض داعي بدعوة ما مع القرآن فقوله مرفوض، أليس كذلك؟
معنى قوله تعالى: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم)
قوله تعالى: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]، ولأحل لكم بإذن الله عز وجل بعض الطعام، بعض الشراب، بعض اللباس، بعض المركوب الذي كان حلالاً وحرم عليهم، هذا الذي يحله لهم هو ذاك الذي حرم لأنهم ظلموا واعتدوا على عهد أنبياء الله، فحرمهم الله منه، فجاءت رحمة الله مع عيسى عليه السلام، فلو آمنوا لأحل لهم بعض الذي كان محرماً عليهم من أجل بغيهم وعدوانهم، أما الذي حرم عليهم لأجل ما فيه من الضرر فهو يبقى على أصله، القتل حرام دائماً، الزنا حرام، الربا حرام، الكذب حرام، لكن اللحوم التي حرمها أو بعض الشحوم أحلها لهم، هذه آية نبوته؛ أنه يحل لهم بعض الذي حرم الله عليهم عقوبة لهم: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]، فلما جاء عيسى جاء برحمة الله عز وجل، ولو آمنوا به لأحل لهم ما كان قد حرم عليهم.
معنى قوله تعالى: (وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون)
قوله تعالى: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:50]، لم قال: (آية) وهي آيات؟ لأن لفظ آية اسم جنس كنعمة: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، نعمة واحدة كيف نعدها ولا نحصيها؟ الذي لا يحصى العدد أو الواحد؟إذاً: فنعمة معناها: نِعم، كذلك: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ [آل عمران:50]، عشرات ومئات الآيات، فـ(آية) اسم جنس، كـ(نعمة) كما قلت لكم، هل نعمة الله واحدة؟ نعمة السمع، البصر، العلم.. نِعَم، قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، هل يفهم العربي أن الواحد لا يحصى؟ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران:50]، أي: بناء على هذا ما بقي لكم إلا أن تتقوا الله عز وجل، ولا تخرجوا عن أمره، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه؛ لأني رسول الله إليكم؛ أقودكم إلى شواطئ السلامة والسعادة، وطاعة الرسول واجبة أم لا؟ إذا لم يطع فكيف يعلم، كيف يهتدي الناس؟ إذاً: أمرهم بتقوى الله عز وجل، أي: خافوا ربكم أن ينتقم منكم، أن ينزل بكم بلاء أو شقاء، أو يعذبكم.إذاً: فآمنوا بأني رسول الله إليكم وأطيعوني لأني أقول لكم: افعلوا كذا فافعلوا، ولا تفعلوا كذا فلا تفعلوا، فإذا لم تطيعوني فلن ينفعكم إيمانكم وتقواكم: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [آل عمران:50].
تفسير قوله تعالى: (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)
وجاء الختم الأخير: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [آل عمران:51]، عيسى مربوب له رب، إذاً: ما هو برب، كيف يجعلونه رباً وهو يعترف فيقول: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [آل عمران:51]؟
حقيقة العبادة
ما هي عبادة الله أيها المسلمون؟ هل نحن الآن نعبد الله؟العبادة: هي الطاعة، وعندنا: فلان عبد لفلان، أي: يخدمه ويطيعه، إذا قال: الزم الباب يلزم الباب، إذا قال: امش نم ينام، أطاع، فالطاعة: هي فعل الأمر واجتناب النهي، إذا أمرك سيدك بأن تقول قل، فإن قلت: لا أقول عصيته، وأصبحت تساويه، قال سيدك: افعل قلت: ما نفعل؛ ما أنت بعبد، ما عبدته ما أطعته، لكن ليس مجرد الطاعة يتحقق فيها معنى العبادة.هل تعرفون الطريق المعبد؟ هو طريق الصحراء ذو الأشواك والحفر والتراب والرمل يأتي المسئول يعبده بالآلاف ليذل ويسكن، إذاً: فالعبادة الطاعة التي صاحبها يذل غاية الذل لمعبوده ولمن أطاعه، ويعظمه غاية التعظيم له، انظر إلى المعنيين: ينكسر ويذل تماماً كالأرض المعبدة، ما يرفع جنبه ولا رأسه، ثم يعظم معبوده فوق كل تعظيم وإجلال وإكبار. وثالث أيضاً: أن يحبه أكثر من نفسه، هو الذي ذلل هذا العبد واستعبده فعبده، ويجب أن يحبه أكثر من نفسه.فالعبد الحق الذي يعبد الله إنسان يطيع الله عز وجل في أمره ونهيه، ولكن لا في عنترية وتعال وترفع، مع ذل وصغار وتطامن وقنوت وخضوع، أما أن تعبد وأنت تتعنتر فلا، بل وأنت تذل وتسكن، ثم تحبه أكثر من حبك لنفسك وأهلك ومالك، ثم تعظمه وتجله وتكبره حتى يكون أكبر من كل شيء عندك. هذا قول عيسى إذاً: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [آل عمران:51]، ثم قال لهم: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران:51]، هذا الذي بينت لكم صراط مستقيم، والله لا ينتهي بأهله إلا إلى الجنة، ألا وهو عبادة الله وتقواه، وطاعة رسوله، هذا هو الطريق الموصل أصحابه إلى الجنة، إلى الفوز في الدنيا والآخرة.
إجمال الخبر عما تكلم به عيسى عليه السلام في آيات سورة آل عمران
هذه كلمات عيسى وهو طفل مازال يرضع، تحققت -والله- كلها، وإليكموها مرة أخرى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:48]، هذا إخبار عنه قبل أن يوجد: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [آل عمران:45-48]، ويرسله رسولاً إلى بني إسرائيل، ويقول: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ [آل عمران:49]، هذا فيه آية إن كنتم مؤمنين، وإذا كنتم كفارًا فلن تشاهدوا شيئاً، الشمس ينكرونها، قالوا: ما نعرفها. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [آل عمران:50]، وفي هذا ما علمتم، لو أن داعية يأتي بلادنا ويدعو بغير القرآن فقوله مرفوض، من يقبله؟ لكن إذا كان يقول: قال الله وقال رسوله نقبله، ما يتناقض. وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] بلطف الله وإحسانه، ببركة عيسى، لو آمنوا به لأحل لهم كثيرًا من المحرمات عليهم عقوبة. وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ [آل عمران:50-51]، ما قال: إن الله أبي وأبوكم؟ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ، كيف يقولون: عيسى ابن الله؟! يا ليته يأتينا مسيحي ويقبل منا البيان، علقوا في أعناقهم الصلبان، حتى الساعة يتبركون بالصليب، كيف تعتقدون أن اليهود قتلوه وتبعدونه؟! لا بأس أن تغضبوا على اليهود، نعم نحن لا ننكر، غضبهم على اليهود حق، وما صلبوا عيسى، لكن الذي تمثل بعيسى، أما أنكم تعبدونه وقد قتله اليهود أعداؤكم فأين عقولكم، كيف يعقل هذا الكلام؟ إنه الجهل والتقليد والتضليل، أولاً: الجهل هذه ثماره. ثانياً: التقليد، جاهل ويقلد، ما يفكر فيما يقول فلان. ثالثاً: التضليل من الرؤساء والذين يريدون أن يسودوا على حساب غيرهم، يعرفون الحق وينكرونه، وقد جربنا هذا في المسلمين، هناك مشايخ من الطرق كانوا يفجرون بنسائنا.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [هداية الآيات] نأخذ هداية هذه الآيات، وتفطنوا من أين أخذنا هذه الثمار الطيبة[ من هداية الآيات:أولاً: شرف الكتابة وفضلها] الكتابة لها شرف وفضل، قال تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:48]، إذاً: الكاتب عندنا خير من الذي لا يكتب، لا توظف إلا إذا كان عندك شهادة، وقد قال تعالى: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ [البقرة:282] شكراً لله عز وجل. وإن قال مريض: النبي لا يعرف الكتابة! قلنا: ذلك آية أنه نبي الله ورسوله، لو كان يكتب لقال الكفرة: هذا الكتاب كتبه، رأيناه في الجبل الفلاني أربعين سنة يخطه، وقال: هذا كتاب الله، ولكن لتقوم الحجة على الإنس والجن أنه لا يكتب ولا يقرأ وكيف يأتي بهذه العلوم والمعارف؟ مستحيل لولا أنها وحي الله وتنزيله وكتابه، ائتوني ببدوي أو عربي أو أعجمي لا يقرأ ولا يكتب، ثم يأتي بعلوم ومعارف، مستحيل، فكونه أمياً آية نبوته ومصداق رسالته: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]. [ثانياً: فضل الحكمة، وهي الفقه في أسرار الشرع والإصابة في الأمور]، ما بينا هذا البيان الكافي، ها هي ذي جاءت بين أيديكم، أخبر تعالى أنه سيعلم عيسى الكتاب أولاً والحكمة، وبعد ذلك التوراة والإنجيل.ما الحكمة؟ قال: [هي الفقه في أسرار الشرع]، والله يقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]، ويفهم أسرار الشرع، لم الوضوء؟ لم يغسل ثلاث مرات؟ لم صلاة الصبح في هذا الوقت، لم حرم الله كذا، وهكذا، الفقيه الحكيم الذي يفهم أسرار الشريعة، هذا أولاً.والثاني: الإصابة، الحكيم لا يخطئ، يضع كل شيء في موضعه، لما يجلس يعرف أين يجلس، والذي لا حكمة له يجلس في مجلس الشيخ. وأنا بهلول بعثتني أمي لأدرس، وطلبوا لي كتاب كذا ، ولما دخلت المسجد كان الطلاب جلوس والشيخ ما جاء، لكن مكانه فارغاً، والبدو مجتمعون من شتى الآفاق ما هم كأهل الحضر اليوم، فأنا جئت فجلست في مكان الشيخ، فصاحوا في وجهي: قم.. قم! لا إله إلا الله! ما هناك لطف ولا رحمة، ما قالوا: هذا صغير وما يفهم وكذا، فيجيء أحدهم إليك فيقول لك: من فضلك هذا المكان ما هو لك، هذا للشيخ. لكن أين الآداب؟والشاهد عندنا: الإصابة في الأمور كلها، حتى الملعقة يعرف من أين يمسكها، اللقمة يعرف كيف يتناولها، نعله كيف يمشي به.. وهكذا الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها قلما يخطئ. اللهم اجعلنا من أهل الحكمة.قال: [فضل الحكمة، وهي الفقه في أسرار الشرع] أولاً [والإصابة في الأمور]، يعني: قلما يخطئ الحكيم، لم؟ لأنه يستعين بالله عز وجل وبالنور الباطني، وهذه الطاقة أكبر من هذه الطاقة المادية، وهي نتيجة لمولد عجيب، وهو تقوى الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، الفرقان أعظم ما تفرق به بين الحق والباطل والخطأ والصواب والخير والشر والنافع والضار: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ، فالذين يعيشون على تقوى الله ظاهراً وباطناً يوجد في قلوبهم نور يميزون به بين الحق والباطل والخير والشر والنافع والضار، كأنما هو نور بين أيديهم، هذا وعد الله. هل عرفتم من هو الذي فاز بهذه الشهادة أولاً؟ هل هو نابليون ؟ إنه ابن الخطاب عمر ، يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لو كان من أمتي محدثون -أي: تحدثهم الملائكة- لكان عمر ، ولكن لا نبي بعدي )، ولده عبد الله الذكي التلميذ لرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ما قال أبي في شيء أظنه كذا إلا كان كما ظن. هؤلاء هم الذين يجب أن يكونوا في المباحث، هذا النوع ينظر إلى الشخص فيقول: ارمها من جيبك، أنت سارق، فلهذا ندعو المسئولين في العالم الإسلامي أن يخرجوا ربانيين ويجعلوهم في الاستخبارات والمباحث، أما إذا كانوا جهالاً يتخبطون فوالله إنهم يؤذون الحكومة، لكن يقولون: وأين أنتم يا أصحاب الفرقان، نقول: نحن وإياكم سواء، هيا نعود إلى المدرسة المحمدية، ونتخرج كلنا بنسائنا وأطفالنا، وهي المسجد، في القرية أو الحي، لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا ولد، كل ليلة من المغرب إلى العشاء، نتعلم الكتاب والحكمة، ونزكي أنفسنا ونهذب آدابنا وأرواحنا، ثم بعدها كلنا علماء ربانيون.وصلى الله على نبينا محمد..
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (15)
الحلقة (156)
تفسير سورة آل عمران (22)
من الصفات التي لا تنفك عن اليهود تكذيبهم لرسل الله، وإعراضهم عما جاءوهم به مهما كانت المعجزات التي يأتونهم بها، بل ولا يتوقفون عند ذلك وإنما يؤذون أنبياء الله ويقتلون فريقاً منهم، وحالهم مع عيسى لم يختلف عن حالهم مع من سبقه، فلما أحس منهم الكفر نصره الله بالحواريين من قومه، فآمنوا به وآزروه، ومع ذلك فقد حاول الكفار المكر بعيسى وقتله إلا أن الله عز وجل نجاه منهم ورفعه إليه.
تفسير قوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء إنك ولينا وولي المؤمنين.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات المباركات، سبع آيات:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:52-58].معاشر المستمعين والمستمعات! أعيد إلى أذهانكم أن هذه الآيات نزلت في إبطال تأليه عيسى عليه السلام، وهي تحمل الرد المفحم لوفد نصارى نجران، إذ جاءوا يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاجونه في شأن عيسى ووالدته، إذ يؤلهون عيسى وأمه، وهم مرتبكون في الأقانيم الثلاثة، هل هي الله وعيسى وروح القدس؟! أو هي مريم وعيسى وروح القدس؟! فكل طائفة تقول بما أملى عليها الشيطان، والحقيقة هي أن عيسى عبد الله ورسوله.ومن عظيم بيان الله عز وجل أنه قص عليهم قصة عيسى من عهد جدته، والسياق في تقرير هذه الحقيقة هي: أن عيسى لم يكن بإله أبداً، ولا بابن الله أبداً، وتعالى الله أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة -أي: زوجة-.
طلب عيسى من الحواريين النصرة لما أحس من قومه الكفر
قال الله عز وجل: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ [آل عمران:52]، الإحساس لا يكون إلا بالحواس الخمس: السمع والبصر واللسان والشم واليدان والرجلان. أَحَسَّ أي: علم بواسطة النظر أو السمع، عرف منهم الكفر. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ وعرف أنهم يريدون أذاه وقتله، وشعر بالإحساس الكامل قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران:52] طلب النصرة من المؤمنين؛ لأن القوم يمكرون ويدبرون له الأذى والقتل.فأجابه الحواريون، والحواريون جمع حواري، وهو الأبيض القلب، الزكي النفس، ذو الأخلاق العالية.والحوار ون كانوا اثني عشر رجلاً، آمنوا بعيسى وصدقوه وشاهدوا آياته ومعجزاته، وكان يبعثهم للدعوة نيابة عنه. قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52]، أي: استنجدهم عيسى عليه السلام لنصرته فما تأخروا عن نصرته بل رفعوا أصواتهم قائلين: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52].قوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ، وإلى هنا بمعنى مع، بمعنى من أنصاري مع الله؛ لأن حروف الجر تتناوب. من أنصاري مع الله، ويصح أن تبقى (إلى) على بابها، وهناك محذوف، من أنصاري في الطريق إلى الله؟ في دعوتي إلى الله؟قَالَ الْحَوَارِيُّون َ وهم اثنا عشر من الصالحين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي إلا وله حواريون، وأنا حواريي الزبير بن العوام )، وهو ابن عمته، فرضي الله عن الزبير كان من حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم.ماذا قالوا؟ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ [آل عمران:52] يا روح الله: بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52]، واشهد يا عيسى يا رسول الله بأنا مسلمون.
دين الله هو الإسلام منذ آدم إلى محمد عليه الصلاة والسلام
وهنا يرجع بنا الحديث إلى أن الديانات الإلهية من عهد آدم عليه السلام إلى عهد نبينا صلى الله عليه وسلم لم تخرج عن الإسلام، فاليهودية والنصرانية والديانات الأخرى والملل كلها مبتدعة، أصل الأديان هو الإسلام؛ لأن الإسلام: هو أن يسلم الإنسان قلبه ووجهه لله، فقلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، ووجهه لا يقبل به إلا على الله؛ يدعوه ويسأله ويتضرع إليه، ويطيعه فيما يأمره به وينهاه عنه، وقد تختلف الملل في الأمر والنهي؛ لأن الشارع حكيم، فقد يحل لأناس ما يحرم على آخرين، وقد يكلف أناساً ما لم يكلف به آخرين، بحسب استعدادهم وما تهيئوا له للكمال والسعادة، أما أصل الدين فواحد وهو الإسلام. فنوح قال: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:72]، وهكذا يوسف: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101].فاليهودية والنصرانية والبوذية.. هذه الملل كلها بدع ما أنزل الله بها من سلطان، فبعث الله الرسل وأنزل معهم الكتب التي تدعو إلى الإسلام، فهؤلاء الحواريون لما استنجدهم عيسى قالوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ [آل عمران:52] يا روح الله: بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52] أي: منقادون خاضعون ذليلون لربنا عز وجل، ننصر من ينصره، ونوالي من يواليه، ونعادي من يعاديه، فكان يجب على النصارى الدخول في الإسلام والتخلي عن هذه البدعة المنتنة، ولكن هذا حكم الله: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].
تفسير قوله تعالى: (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول ...)
وقالوا: رَبَّنَا [آل عمران:53]، أي: يا ربنا. آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ [آل عمران:53] من الآيات البينات من التوراة والإنجيل والزبور وما أنزل من الآيات القرآنية أو الآيات المعجزات. وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ [آل عمران:53]، الرسول هنا بالألف واللام، (أل) للعهد، فمن هو الرسول؟ عيسى عليه السلام، فهو رسول الله أي: مرسوله الذي أرسله إلى بني إسرائيل. وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ما قالوا: آمنا بما أنزلت واتبعنا عيسى، بل قالوا: (اتبعنا الرسول) ففيه تقرير رسالة عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله، الرسول الكريم العظيم المبجل الصادق.إذاً: توسلنا إليك يا ربنا بالإيمان بك.. توسلنا إليك يا ربنا بالإيمان برسولك فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53]، توسلوا إلى الله بقولهم: رَبَّنَا أي: يا ربنا: آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ أي: صدقنا بالذي أنزلته علينا من بركات السماء؛ من الرسالات والمعجزات والخيرات والبركات. وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي: مشينا وراءه، فلم نتقدمه ولم نمش عن يمينه ولا عن يساره، ولكن وراءه، فالإتباع أن تكون وراء المتبوع، وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ إذاً: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ؛ توسلوا إلى الله بإيمانهم وعملهم الصالح، إذ قالوا: آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أعطنا شيئاً، وهو اكتبنا مع الشاهدين، والشاهدون غير الشهداء، هم ما ماتوا في سبيل الله، فلم يقول واكتبنا مع الشهداء، قال: مَعَ الشَّاهِدِينَ فهل نحن منهم؟! كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فهو من الشاهدين، فالحمد لله أننا من الشاهدين؛ اللهم اكتبنا مع الشاهدين في ديوانهم.أرأيتم إخوانكم الحواريين كيف يتوسلون إلى الله عز وجل؟! أهل بصيرة، ونحن -والحمد لله- لا نتوسل إلا إلى بالله وبما يحب أن نتوسل به إليه، وإخواننا في الشرق والغرب إلى الآن يتوسلون بجاه فلان وحق فلان! ويجادلون أيضاً.قالوا: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ قال: فعلت.
تفسير قوله تعالى: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين)
قال تعالى: وَمَكَرُوا [آل عمران:54]، عاد السياق إلى الذين تخوفهم عيسى عليه السلام، قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران:52]، من هؤلاء الذين قال الله فيهم: وَمَكَرُوا [آل عمران:54]؟ هم اليهود. والمعنى: ونفذ اليهود مكرهم في محاصرتهم منزل عيسى عليه السلام، نفذوا ما بيتوه ودبروه، وجاءوا بشرطتهم ورجال حكومتهم وطوقوا منزل عيسى في ذاك الوقت؛ ليقتلوه أو يسجنوه، ودام الحصار ساعات ولم يخرج، وبعد ذلك دخل رئيس الشرطة ولكن الله سبحانه وتعالى رفع عيسى عليه السلام إليه من فتحة روزنة، من كوة في السطح كانت موجودة في الزمن القديم، وكان كل بيت لابد فيه من روزنة، وألقى الشبه على هذا الرئيس الشرطي، فلما تأخر دخلوا فوجدوا الشرطي وظنوا أنه عيسى، فألقوا الحبال والسلاسل على يديه وسحبوه، ونسوا رئيس الشرطة، ووضعوه على الأعواد وصلبوه وشنقوه، وأما عيسى عليه السلام فهو عند الله عز وجل.قال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54]. انتبه يا عبد الله! ويا أمة الله! بأن أفعال الله لا تشابه أفعال المخلوقين؛ وذات الله لا تشبه ذات المخلوقين، فإذا نسب تعالى إليه المكر فلا تفهم أنه كمكر الآدميين؛ لضعفهم وعجزهم وقلة قدرتهم، وإن كان المكر التبييت في الخفاء، فهم دبروا والله عز وجل دبر، ولكن تدبير الله فوق تدبيرهم، هو العليم الحكيم، القوي القدير، وهم الجهلة الضعفة العجزة المساكين، ومكروا كما علمتم ومكر الله عز وجل إذ رفع عيسى وتركهم يتيهون.قال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54]، فمكر الإنسان بأخيه الإنسان بالأذى والضرر به، ومكر الله لأوليائه لإنقاذهم ورفعهم وإعزازهم وإكرامهم، وكان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم امكر لي ولا تمكر علي )، فمن أراده أهل الشر بسوء ومكروا به وبيتوا كيف يضرونه فإن الله يمكر بهم ويضيع جهودهم وخيب آمالهم وينزل بهم نقمه وعذابه، وهذا بيان مكر الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (إذا قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ...)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55].. الآيات، هذا النداء الإلهي لا مانع أن يكون بواسطة جبريل، لا مانع أن يناديه ويكلمه ويسمع كلامه، هذا روح الله، هذه كلمة الله، ناداه ربه يَا عِيسَى بالاسم العلم، وعيسى قيل: معرب يوشع أو يشوع في اليهودية، لكن حسبنا أن يسميه الله في كتابه، ما نقبل يوشع ولا يشوع. يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي: متمم لك الأيام والليالي التي كتبتها لك تقضيها في هذه الدنيا، ثم بعد ذلك أنزلك لتتم بقية عمرك، وهنا الذي نوقن به ونُشهد عليه ونَشهد به أن عيسى لم يمت؛ لأن الله لا يجمع له بين موتتين، والموت صعب وسوف نذوقه يقول تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، فمرارته يأبى الله أن يصيب بها عبده مرتين.فعيسى لا يميته الله مرتين، بل ينزله تعالى في آخر أيام الدنيا ويقضي فيها ثلاثة وثلاثين سنة؛ داعياً وعابداً وذاكراً وشاكراً لله تعالى، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيحج البيت، قال: ( كأني بابن مريم بالروحاء يلبي بحج وعمرة أو بعمرة وحج )، ثم يتوفاه الله كما توفى أنبياءه ورسوله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، هل يدفن في الحجرة النبوية؟ إذا أراد الله أن يكرمه ويكرم أهل الحجرة دفنه معهم. يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ هنا اختلف بعض أهل العلم وقالوا: متوفيك بمعنى مميتك. ولم يقل: مميتك بل قال: مُتَوَفِّيكَ أنا وفيتك يا عدنان المبلغ، فليس هنا معنى وفيتك بمعنى أمته بل أعطيته كاملاً وأتممته وكملته. فليس متوفيك هنا بمعنى مميتك. مُتَوَفِّيكَ بمعنى متمم لك عدد الأيام التي كتبناها لك في كتاب المقادير، تتمها في هذه الحياة وتقضيها، ثم أرفعك إلي، وعيسى الآن في الملكوت الأعلى. السنن التي علمنا الله إياها إن شاء أبطلها وأوقفها وأجد بدون سبب، فقد أوجد عيسى عليه السلام بدون أب ولا أسباب.إذاً: فعيسى في الملكوت الأعلى، ورسولنا صلى الله عليه وسلم لو شاء الله أن يبقيه في الجنة ليلة الإسراء والمعراج لا يعجزه عن ذلك شيء، فعيسى يأكل ويشرب، والطعام والشراب يتحول إلى عرق وجشاء كأهل الجنة، انتهت سنة الأرض حياة أخرى، لا يشيب فيها أحداً.عاش نوح ألف سنة ولا أدري شاب أم لم يشب، ثم كونه في ذلك العالم غير قابل للفناء، إذاً: لا يشيب ولا يهرم، أهل الجنة كلهم في سن ثلاثة وثلاثين سنة، لا ينقصون ولا يزيدون بلا حد ولا نهاية، طبيعة ذلك العالم ما تقبل هذا الذي نعيشه نحن بالشمس والحرارة والشرف والمرض والقوة والعجز، وما يدرينا عما قريب نسمع عيسى نزل، ينزل على المنارة البيضاء في مسجد دمشق الجامع بين ملكين. إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55] أي: بجواري في ذلك القدس والطهر في الملكوت الأعلى، والمسافة كما علمتم سبع آلاف وخمسمائة سنة بالطائرة. هذه الجنة.وقوله: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، هذا اللفظ يدل على أن المجتمع اليهودي تلك الأيام أخبث مجتمع متعفن أنجاس يتعاملون بالربا، والعهر، والزنا، والخيانة، وسفك الدماء.. فأراد الله أن يطهره من تلك الأخلاق والأوضاع الهابطة الساقطة برفعه إليه وتركهم في فتنتهم. إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، كفروا بك يا عيسى وبما جئت به من الإنجيل وما أنزلنا فيه من الآيات البينات؛ لأنه نزل بما يتنافى مع شهواتهم وأطماعهم وأغراضهم وآدابهم الهابطة وأخلاقهم الفاسدة، فلم يطيقوا ذلك فلما شاهدوا المعجزات الخارقة للعادات قالوا: ساحر وابن زنا، وقالوا.. وقالوا.. تنفيراً وإبعاداً للناس عن عيسى عليه السلام. وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55] أي: من الذين يعيشون في مجتمعات هابطة وساقطة وييسر الله له أن ينقذه منه وينزله في بلاد طاهرة. وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55] وعد الصدق، اسمعوا هذا الوعد لعله يتحقق لكم في المستقبل، لقد تحقق لأسلافنا كما أعلم الله عز وجل: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، وهذا يشمل كل من يكون على منهج عيسى في التوحيد والعبودية لله رب العالمين، وقد حقق الله هذا لرسولنا وأصحابه وأحفادهم بعد أبنائهم ثلاث قرون وهم سائدون، والكفار أذلة مهانون من اليهود والنصارى وغيرهم. وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، فاليهود لا يسودون علينا أبداً. فإذا تمسك المسلمون بالكتاب والسنة ينتهي وجود اليهود ولا عزة ولا كرامة لهم، ولكن نحن الذين أعززناهم فابتلانا الله باليهود فأذاقونا مر الذل والهون، وهم حفنة وشواذ جاءوا من الشرق والغرب، ليعلمنا الله بأننا مذنبون؛ بأننا سلكنا مسلكاً لا يريده الله عز وجل، فأرانا آية من آياته لعلنا نفيق ونفهم، فهم أذل الخلق، وكم من معركة انتصروا فيها وتمزقنا وهربنا.ولكن إذا اجتمع المسلمون في روضة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم وقالوا: بايعناك يا إمام المسلمين، وكلمتنا واحدة ودستورنا واحد وأمة الإسلام أمة واحدة، لرحل اليهود وانتهت عزتهم وكرامتهم، ولكنا رضينا بالانقسام والفرقة والخلاف والمشاحنة، وتركنا الصلاة ومنعنا الزكاة وأبحنا ما حرم الله، كيف نريد أن ينصرنا الله عليهم؟!والشاهد عندنا في هذا الوعد الإلهي الكريم: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ [آل عمران:55] كافركم ومؤمنكم، عزيزكم وذليلكم: فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران:55]، أي بيان أعظم من هذا البيان الإلهي؟! ثُمَّ إِلَيَّ لا إلى سواي ولا إلى غيري: مَرْجِعُكُمْ [آل عمران:55] أبيضكم وأسودكم، عربكم وعجمكم، مؤمنكم وكافركم، راجعون إلى الله، يجمعنا ثم يبعثنا ليقضي بيننا ويحكم وهو أحكم الحاكمين، هذه عقيدة البعث والجزاء: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أولاً، في يوم القيامة الذي يقوم الناس فيه من قبورهم، يوم قيام وقيامة البشرية، فينفخ إسرافيل في بوقه فيخرجون من الأجداث والقبور في خلقهم وتركيبهم على أكمل صورة: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، وهذا رد على النصارى الذين يقولون: لا أجسام يوم القيامة ولا سعادة إلا للأرواح فقط. وهذا كذب وخرافة وضلالة يعيشها النصارى الآن، لا يعجز الله أن يعيد الخلق من جديد من قال ذلك فقد كفر وكذب الله ورسوله.كان مسلم لبناني يركب مع مسيحي في سيارة، فتحادثا وتجاذبا أطراف الحديث، وأخذ المسيحي يسخر ويقول: أنتم المسلمون تقولون إننا في الجنة بأبداننا وأرواحنا نأكل ونشرب؟ قال المسلم: إي نعم، فقال المسيحي: إذاً كيف تكون بطوننا وأنتم تقولون في الجنة لا بول ولا غائط؟! ثم ضحك.. فألهم الله عز وجل المسلم العامي وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83]، قال له: يا هذا! أنت سخرت من أننا نأكل ونشرب ونتمتع بالجنة بأبداننا وأرواحنا، وأنتم تؤمنون بمجرد أرواح في الجنة، فالطفل الصغير في بطن أمه من الشهر السادس يأكل ويتغذى وينمو على الغذاء وهو لا يبول ولا يتغوط، وبمجرد أن يخرج من بطن أمه يبول!فكانت صفعة رادعة لذاك الصليبي وانتبه.نعم أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشرب يكون كله عرق أطيب من ريح المسك، وأما الشبع يكون جشاء، فلا بول ولا غائط ولا مرض ولا هرم ولا كبر ولا ولا.. وعالم الجنة غير قابل للفناء.عرفتم يوم القيامة ما ننسى هذه الكلمة الإلهي: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، قد يقول القائل: هيا نتبع عيسى الآن، نقول: نعم، ولكن ما نسخه الله من الشرائع والأحكام يجب أن نتركها لأن الحكيم نسخها، وما أقره ولم ينسخه وما هو عليه نحن الآن نعمل به وقائمون عليه، فما خرجنا عن شريعة عيسى أبداً إلا فيما أذن الله فيه بالفعل أو الترك حسب علمه وتشريعه للخلق، عقيدتنا عقيدة عيسى والحواريين، عبوديتنا هي عبودية عيسى والحواريين، فكون أحل لهم طعام حرمه علينا، أو أذن لهم في فعل ما لم يأذن لهم فهذا يعود إلى حكمة المشرع بحسب أحوال الناس وأوقاتهم، فنحن متبعون لعيسى عليه السلام، لكن لما خالفناه وخرجنا عن هدي الله ورسوله أحل الله بنا ما أحل بنا؛ استعمرنا الشرق والغرب وأذلونا وأهانونا وما زلنا نستعطفهم ونسترحمهم، أما وعد الله فنافذ: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، والنصارى ما اتبعوا عيسى بل كفروا به، فجعلوه إلهاً فعبدوه وجعلوه إلهاً مع الله، ما ننسى بيان عيسى أبداً: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، أما كون اليهود أذلاء تحت النصارى لقلتهم فقط، ومع هذا فقد انتصروا على النصارى، وهم يسوسونهم في الداخل والخارج بحيلهم ومكرهم، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران:55]، فالشرائع والأحكام الذي اختلفتم فيها الله يحكم بينكم فيه، فيحق الحق ويبطل الباطل.
تفسير قوله تعالى: (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً ...)
قال: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:56] بي وبرسولي وبشرائعي وبلقائي والوقوف بين يدي، هؤلاء فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:56]، هذا الحكم في الدنيا وهو أنني أعذبهم عذاباً شديداً، والشديد بالنسبة إلى الله ما هو شديد بالنسبة إلينا: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا [آل عمران:56] بالذل والهون والدون، وفي الآخرة بالخلد في عذاب النار: وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:56]، لا يوجد لهم ناصر ينصرهم أبداً. إذا قيل: ادخلوا النار فلا شافع لهم أبداً يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:13-16]، فالخلاف كان بين الموحدين والمشركين، بين المؤمنين والكافرين، بين الصالحين وبين المفسدين، فبدأ بالقسم الأول لأنه الأكثر ( يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك قال يقول أخرج بعث النار قال وما بعث النار ؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين )، كلها إلى جنهم وواحد إلى الجنة، فلهذا قدم هذا الصنف. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:56]، ولأن الكفر مفزع في الحقيقة، ففطرة الإنسان لا تتلاءم مع الكفر، الآن لو تقول لمسيحي: كافر! يغضب، لو تقول ليهودي: كافر! يغضب، لو تقول: لعاصي من العصاة الذين لا يصلون ولا يصومون يا عاصي! يغضب. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا [آل عمران:56] بالهون والذل والدون والإهانة والفقر والبلاء. وَالآخِرَةِ [آل عمران:56] لا تسأل عن عذاب النار فطعامهم الزقوم وشرابهم الحميم، والسلاسل يدخلونها في فمه ويخرجونها من دبره، طولها سبعون ذراعاً.
تفسير قوله تعالى: (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ...)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:57]، أولاً وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [آل عمران:57]، فقدم الإيمان لأن المؤمن حي يعمل، والكافر ميت، آمن عبد الله، فإذا آمنت أمِنت وصدقت فيما تقول وتفعل وأنت على ذلك قادر، فبالإيمان يعبد الإنسان الله عبادة حقيقة: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:57]، آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسوله وبكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من شأن الغيب والشهادة: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [آل عمران:57]، الصالحات هي العبادات التي تعبدنا الله بها، من الوضوء إلى الرباط في سبيل الله، فكل عبادة كانت قولية أو عملية هي من الصالحات؛ لأنها صالحة بالفعل وتصلح ويصلح الله بها القلوب والنفوس، فكل العبادات التي تعبدنا الله بها سمها الصالحات. فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ [آل عمران:57]، أجور: جمع أجرة، أجر وأجور، ما يتقاضاه العامل مقابل عمله، هم آمنوا وعملوا الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ [آل عمران:57] كاملة.ثم قال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57]، أي: لا يحب الظالمين. إذاً: فاطمئنوا أيها المؤمنون بأن أجوركم تستوفونها كاملة غير منقوصة؛ وعلة ذلك؛ لأن القاضي لا يظلم؛ لأن المجازي لا يظلم، الظلم حرام عليه، وقد قال تعالى في الحديث القدسي: ( إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ). وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57] أبشروا إذاً لن ينقصكم من أجوركم شيئاً.
تفسير قوله تعالى: (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم)
وجاء التوقيع الأخير والصفعة على خد نصارى نجران اسمع ماذا قال تعالى بم ختم هذا السياق ذَلِكَ [آل عمران:58] الذي سمعتم وتلونا وقرأتم: نَتْلُوهُ [آل عمران:58] عليك يا رسولنا محمد: مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:58]، ثبتت رسالته محمد رسول الله، أين دعاوى النصارى الباطلة: محمد عربي صهرته الحرارة فأصاب بهذه المعاني والمعارف!! فهذا الكلام لا يقوله عاقل، والله يقول: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ [آل عمران:58] نقرأه عليك مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:58].قولوا: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.اللهم اجعلنا من أتباعهم الصادقين والمؤمنين الصالحين، واجمعنا بهم يا رب العالمين.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (16)
الحلقة (157)
تفسير سورة آل عمران (23)
خلق الله عز وجل آدم من تراب، وجعل ذريته من نطفة من ماء مهين، فكل مولود له أب وأم إلا عيسى بن مريم عليه السلام فقد خلقه من غير أب كما خلق آدم من قبل، فكان هذا مما فتن به النصارى فقالوا: إن عيسى هو ابن الله! وقالوا: إن عيسى هو الله!! وما علموا أن من خلق آدم بلا أب ولا أم قادر على أن يخلق عيسى من أم بلا أب، ولكن إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا فيك يا ولينا وولي المؤمنين.الآيات التي درسناها بالأمس أسمعكموها تلاوة، وتذكروا ما علمتم منها في الدرس السابق، وما لها من نتائج وعبر تدلنا على ما كنا قد علمناه.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:52-58].
هداية الآيات
هذه الآيات تذكروا منها ما يلي: [ أولاً: قيام الحجة على نصارى نجران؛ إذ أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي، فقرر به بطلان ألوهية عيسى عليه السلام بذكر أوصافه وأحواله مع قومه، وكرامة الله تعالى له ولأتباعه معه ومن بعده في الدنيا والآخرة]. هذا من قوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52]؛ علمهم أن عيسى عليه السلام حاصره اليهود وأرادوا قتله، ولما شعر بذلك - بل أيقن بالأذى - رفع كفيه إلى ربه، و قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ؟ فأيقظ الله أولئك المؤمنين فرفعوا أصواتهم قائلين: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52]. وَمَكَرُوا [آل عمران:54] أي: اليهود بعيسى عليه السلام حيث ائتمروا على قتله، ولكن الله مكر؛ فرفعه إليه وألقى الشبه على رئيس شرطتهم فصلبوه وقتلوه، وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54] ، دبروا شيئاً ودبر الله آخر، بيتوا شراً وبيت الله خيراً، وكان الله هو الظاهر.[ثانياً: الإسلام دين الأنبياء وسائر الأمم البشرية، ولا دين حق غيره، فكل دين غيره باطل]، من أين أخذنا هذا؟ من قولهم: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52].إذاً: فالإسلام: هو الانقياد والإذعان الكامل لله تعالى فيما يأمر به وينهى عنه، وهذا دين الأنبياء عامة، ودين المؤمنين الصادقين في كل زمان ومكان، فدعوى أن المسلمين لهم دين خاص أو دين جديد دعوى باطلة، دين المسلمين هو دين الأنبياء: نوح فإبراهيم فمن دونهما فعيسى.. إلى نبينا صلى الله عليه وسلم.[ثالثاً: تقرير حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لكل نبي حواريين وأنصاراً]، ذكرت لكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لكل نبي من الأنبياء حواريون، وأنا حواريي الزبير بن العوام )، وهذا دل عليه قول عيسى: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران:52]، من أجاب؟ الحواريون، وهم أصحاب القلوب البيضاء والنفوس الزكية الطاهرة.[رابعاً: فضل أهل لا إله إلا الله، إذ هم الشاهدون بالحق والناطقون به]، وبالأمس قلنا: نحن من الشاهدين، إي والله، كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله؛ هو من الشاهدين، والشاهدون غير الشهداء؟ الشهداء من ماتوا في الجهاد، والشاهد من شهد شهادة الحق، أما قال الحواريون: اكتبنا مع الشاهدين؟ أي: معكم، ومع كل من يشهد أن لا إله إلا الله ولمن أرسله الله؛ موسى وعيسى أو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحمد لله أننا من الشاهدين.[خامساً: تقرير قبض الله تعالى لعيسى ورفعه إليه حياً]، في هذه الآية تقرر أن الله عز وجل رفع إليه عيسى بن مريم حياً، وهو عنده في جواره، وسوف ينزله في آخر الأيام، أخبر بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كذبه فقد كفر، من كذب رسول الله كفر، في حين أن هناك آية من سورة الزخرف تكاد تصرح بنزول عيسى، إذ قال تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:61]، عيسى علم لها يعرف بنزوله قرب الساعة، إذا نزل عيسى عرفت الساعة وعرفها الأبيض والأسود، علامتها نزول عيسى.إذاً: [تقرير قبض الله تعالى لعيسى ورفعه إليه حياً]، ولا عجب، وقد تقول: كيف يرفعه حياً؟ أما رفع رسول الله حياً وعاد؟ أيعجز الله أن يرفع شخصاً إلى الملكوت الأعلى، قادر على أن يرفع البشرية كلها، وإنما لو أنه أماته ورفعه ثم يحييه وينزله ويميته، فقد جمع له بين موتتين، وحاشا لله عز وجل، لم يجمع الله لعبد من عباده بين موتتين يعذب مرتين؛ لأن الموت عذاب، إذاً: رفعه حياً وهو عنده في الملكوت الأعلى، يأكل ويشرب ولا يبول ولا يتغوط، هذا شأن أهل الجنة دار الخلد؛ يأكلون ويشربون، ووالله لا يبولون ولا يتغوطون، الشراب يستحيل إلى عرق أطيب من ريح المسك، والطعام إلى جشاء، ما هي دار خراءة وبول، هذه دار الطهر والقدس.على كل حال هذا التنبيه لأنه يوجد في بعض التفاسير تخبطات، وخاصة المعاصرين.قال: [ونزوله في آخر الدنيا] أي: أيامها، ينزل [ليحكم زمناً ثم يموت الموتة التي كتب الله على كل إنسان، فلم يجمع الله تعالى له بين موتتين، هذا دليل أنه رفع إلى السماء حياً لا ميتاً].[سادساً: صادق وعد الله تعالى بعزة أهل الإسلام، وذلة اليهود على مدى الحياة]، من أين أخذنا هذا؟ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، من هم الذين اتبعوا عيسى: المسلمون أم اليهود؟ المسلمون، وهل النصارى اتبعوه؟ لقد كفروا به، ألهوه، فهم شر الخلق، شر من اليهود.فمن اتبعوا عيسى بحق؟ المسلمون، في عقيدته وفيما جاء به، هم المسلمون بحق.
تفسير قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ...)
إذاً: بعد هذه الذكرى ننتقل إلى الآيات التي ندرسها إن شاء الله في ساعتنا هذه بإذن الله، هيا نسمع مثل عيسى عند الله.قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين َ [آل عمران:59-63].هذه الآيات المدنية صفعت النصارى صفعة لن يفيقوا بعدها إلا في جهنم أو يسلموا.
ذكر ما تضمنته الآية من دحض شبهة النصارى في تأليه عيسى عليه السلام
قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران:59] هذا الوفد المحاج المجادل بالباطل وفد نصارى نجران قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ إذ هذه من الفتن التي فتنتهم فعبدوا عيسى، قالوا: إذاً: هذا ابن الله! ما دام ليس له أب وأمه موجودة؛ إذاً هذا ابن الله، هذه هي الشبهة التي تورطوا فيها.قالوا: كل آدمي له أب، وعيسى لا أب له، ولما طرحوا هذا السؤال نزل الجواب من الرحمن جل وعز: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ [آل عمران:59] أي: آدم ِمنْ تُرَابٍ ثم قال له: كن فكان، آدم ليس له أب ولا أم، وعيسى أيضاً لا أب له، إذاً: شأن عيسى كان كشأن آدم، لو لم يسبق الوجود إنسان لا أب له فممكن أن تقع الشبهة والفتنة، لكن وجد من لا أب له، ألا وهو آدم، من أبو آدم؟ كيف إذاً؟ خلقه الله وقال له: كن فكان، وكذلك عيسى.وقد تقدم لنا أن أصناف المخلوقات أربعة: من لا أب له ولا أم وهو آدم، ومن له أب ولا أم وهو حواء، ومن له أم ولا أب وهو عيسى، ومن له أب وأم وهو نحن، والله يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير.المهم لما طرحوا هذا السؤال، وهو في الحقيقة سؤال هم مصابون بفتنته، لم قالوا: عيسى ابن الله؟ قالوا: لأنه لا أب له، إذاً: هذا ابن الله! الشيطان زين لهم ذلك وحسنه، وانخدعوا وقلدوا وضلوا؛ فكان الجواب شافياً كافياً: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ [آل عمران:59] أي: آدم مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].
تفسير قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكن من الممترين)
وهنا قال تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران:60] مصدر الحق من هو؟ الله، هذا الحق الذي بين تعالى فيه أن عيسى كمثل آدم من أين جاء؟ من الله، الحق من ربك فلا تكن يا رسولنا من الممترين، أي: الشاكين. وهنا اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشك، ولا يكون من الشاكين؛ إذ الشك كفر، ولكن هذا من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة! أما رسول الله وهو المعصوم وهو المطهر الذي انتزع منه حظ الشيطان فلا يداخله؛ أنى له أن يمتار أو يشك، ولكن هذا بالنسبة إلى غيره، فلا تكن - أيها السامع - من الممترين. أي: الشاكين، إذ الحق ورد من الله عز وجل، وبين لنا كيف خلق عيسى، ما هي إلا نفخة نفخها جبريل في كم درع مريم فسرت النفخة، وكان عيسى عليه السلام في ساعة واحدة.فهزها الطلق إلى جذع النخلة وألجأها إليه وولدته، وتكلم معها وبين لها ما ينبغي أن تقوله وتفعله: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:22-29] كلموه! قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [مريم:29-34].هذه الكلمات قالها ساعة ولادته، إذاً: الحق الثابت جاء من الله في شأن عيسى، وأنه عبد الله ورسوله، ما هو بإله مع الله ولا بابن لله كما يقول الضُّلاَّل، إنما هو عبد الله ورسوله، ومن قال غير هذا كفر وانسلخ من الإيمان، هذا هو الحق مصدره الله عز وجل.إذاً: فلا تكن - يا سامع - من الممترين، أي: الشاكين في أن عيسى عبد الله ورسوله.
تفسير قوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ...)
ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أجمعين: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ [آل عمران:61] أي: جادلك، يعني: جماعة نجران مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران:61] وعلم أن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه كان بكلمة التكوين: كن، ولم يكن له أب فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران:61] فإليك الحد الفاصل والنهاية، هذا ما يسمى بالمباهلة، إذا اختلف اثنان وكان أحدهما من الصالحين، والحق معه، وكان الآخر من الطالحين، والحق بعيد عنه؛ باهله، فيقال: اجتمعوا واجمعوا من تريدون من إخوانكم وقولوا: اللهم العن من كان كاذباً منا، فإنهم ما إن يفرغوا حتى يهلك الكاذب! هذه المباهلة، إذا اختلف اثنان أو أكثر - جماعتان - وادعت كل واحدة الحق فالمباهلة هي الحد الفاصل، يجتمعون فيأتون بنسائهم وأطفالهم ورجالهم ليهلكوا كلهم، ويقولون: اللهم العن من كان منا كاذباً. وبالفعل خرج أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وفاطمة الزهراء وراءه، وعن يمينه الحسن وعن يساره الحسين ، وعلي وراء ذلك، وما إن شاهدوا تلك الكتلة من النور حتى كادوا يذوبون، فروا هاربين، قالوا: والله لو باهلناه ما بقيت عين تطرف فينا، وانهزموا نهائياً، من حل هذا المشكلة؟ الله بهذه الآية الكريمة: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران:61] الصحيح في شأنه فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61].قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي وفاطمة والحسن والحسين : ( إن أنا دعوت فأمنوا ) أي: فقولوا بعدي: آمين! لم جاء الرسول بابنته وولديها وبصهره وبنفسه؟ من أجل إذا دعا وقال: اللهم العن من كان كاذباً ليقولوا هم: آمين! فهذه لطيفة أن دعاء الصالحين فيه قرب الإجابة، الذي يدعو وحده ليس كالذي يدعو ومعه غيره، فإذا دعا الداعي وقال من معه: آمين؛ فإنه إن لم يستجب للداعي يستجاب لمن قال: آمين! ثم إن أبناء البنت أبناء، وهذا الشيء هو جائز، فـالحسن والحسين أبناء فاطمة ، وليس أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبناؤها إذاً أبناؤه صلى الله عليه وسلم، ولا حرج. قال تعالى: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ [آل عمران:61] حين نجتمع في الساحة نقوم بالدعاء، نقول: اللهم العن من كان كاذباً، ومن وراءنا يؤمنون، ويهلك الله تعالى الكاذبين.
تفسير قوله تعالى: (إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله ...)
ثم قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62] الذي قصصنا عليك يا رسول الله في شأن عيسى وحنة امرأة عمران ، من يستطيع أن يخبر بهذه الأخبار؟ من كان حاضراً لما كان زكريا يرفع صوته داعيا سائلاً؟ من كان مع مريم وهي في محرابها تأكل فاكهة الشتاء في الصيف؟ لما اختلفوا أيهم يكفل مريم من كان حاضراً؟ كيف عرفنا القرعة التي اقترعوها؟ سلسلة من القصص تتبع آثار هذه الأحداث كأنك حاضر فيها، إن لم يكن هذا وحي الله فماذا يكون؟ إذاً: فوالله إن محمدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أنكر هذا لا عقل له ولا مروءة، كيف لأمي يقص هذا القصص؟ في أي كتاب وجده؟ من حدثه به؟ ولكن الله هو الذي قال: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62]، وسمي القصص من: قص الأثر إذا تتبعه، أحداث حدث بعد حدث.قال تعالى: هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:62] وليس من إله إلا الله، فحطم الصليبية وقضى عليها نهائياً، ما من إله إلا الله، كل مألوه معبود دون الله فهو باطل، وليس من حقه أن يسميه الناس إلهاً، أرأيتم هذا الختم أم لا؟ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:62].العزيز: الغالب الذي لا يمانع في شيء قط، العزة: الغلبة، العزيز: الغالب الذي لا يمانع في شيء يريده، ولله العزة.الحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه، لا يخلط ويخبط ولا يقدم ولا يؤخر، بل كل شيء في موضعه.إذاً: فأخباره تعالى أخبار الحق والصدق، الذين يعرضون عنها ويدبرون هلكوا وليسوا بذوي مروءات ولا ديانات، بل كالبهائم والحيوانات!
تفسير قوله تعالى: (فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين)
وأخيراً يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ تَوَلَّوْا [آل عمران:63] وفد نجران وأعرضوا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين َ [آل عمران:63]، ما قال: فإنهم مفسدون، وإنهم والله لمفسدون، ينصرون الصليبية في جزيرة العرب؛ لأنهم يأكلون لقيمات من الروم في الشام وينشرون الصليبية، يفسدون فطر أهل اليمن، ويقلبونها إلى هذا الباطل. وقوله تعالى: (عليم) أي: بهم، فليتهيئوا إذاً لنقمة الله، فالله عزيز حكيم لا يمانع في شيء يريده، يضع الشيء في موضعه، وهم مفسدون يفسدون قلوب الناس، إذاً: فنقمة الله نازلة بهم، لن ينجوا: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين َ [آل عمران:63]، وإن لم يتولوا بل رجعوا وقبلوا الحق وأذعنوا وقالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ونشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم نجوا، لكن تولوا وأبوا أن يعودوا، فإن جزاءهم محتوم معلوم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
الآن نسمعكم شرح هذه الآيات من الكتاب؛ ليتقرر ما سمعتموه ويزيد.
معنى الآيات
قال: [ معنى الآيات: ما زال السياق الكريم في تقرير عبودية عيسى ورسالته دون ربوبيته وألوهيته]، ما زال التقرير متواصلاً يقرر عبودية عيسى، هو عبد الله ما هو بابن الله، ولا بثالث ثلاثة مع الله، ورسالته يقررها دون ربوبيته وألوهيته، [فقد روي أن وفد نجران قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم فيما قالوا: كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله تعالى على رسوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] فإذا هو كائن، فأي داع لاتخاذ عيسى إلهاً، ألكونه خلقه الله من غير أب؟ فآدم كذلك خلق بدون أب ولا أم!] لم ما ألهنا آدم ولا عبدناه؟ [وإنما كان بكلمة الله، فكذلك عيسى خلق بكلمة الله التي هي (كن) فكان، هذا هو الحق الثابت من الله في شأن عيسى عليه السلام، فلا تكونن من الشاكين فيه، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يشك]، وقد قال: ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) وما شك إبراهيم.قال: [ولما أكثروا عليه من التردد والمجادلة أرشده ربه تعالى إلى طريق التخلص منهم، وهو المباهلة، بأن يجتمعوا ويقول كل فريق: اللهم العن الكاذب منا، ومن كان كاذباً منهم يهلك على الفور، فقال له ربه تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا [آل عمران:61] هلموا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]] فهل فشلوا أم لا؟ قلت لكم: قالوا: والله إن باهلتم هذا الرجل لم تبق فيكم عين تطرف! كلكم تهلكون، فاهربوا خير لكم.قال: [وخرج في الغد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين، إلا أن النصارى عرفوا الحق وخافوا إن لاعنوا هلكوا؛ فهربوا من الملاعنة، ودعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأبوا]، أسلموا تسلموا. قالوا: لا، نحن حاملو راية دعوة، كيف نتركها ونتخلى عنها؟ ما هو بغريب هذا ولا عجيب، في المسلمين يوجد ناس يعيشون على الباطل بمعنى الكلمة، ويعلمون أنه الباطل؛ لكن للحفاظ على المادة إما جاه ومنصب أو مال أو كذا، يعرفون الحق وما يقبلونه، تعرفون هذا أم لا؟ لأن البشر هم البشر، ما هناك أصناف مختلفة، والشيطان هو الشيطان، والهوى والشهوة والدنيا هي هي، إذاً: فالناجي من نجاه الله، والسليم من سلمه الله.قال: [ودعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأبوا، ورضوا بالكفر إبقاء على زعامتهم ودنياهم، ورضوا بالمصالحة، فالتزموا بأداء الجزية للمسلمين والبقاء على دينهم الباطل]، لما رفضوا الدخول في الإسلام أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يبقي على حياتهم وعلى دينهم إذا دفعوا مقداراً معيناً من المال سنوياً للمسلمين، فرضوا بالجزية وبقوا على كفرهم حتى أسلموا.قال: [ثم قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62] أي: الذي قصصناه عليك في شأن عيسى عليه السلام، وهو أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا هو تعالى، وأن الله لهو العزيز الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده، الحكيم في خلقه وتدبيره. ثم توعد نصارى نجران وغيرهم من أهل الفساد في الأرض بأنه عليم بهم وسوف يحل نقمته بهم، وينزل لعنته عليهم، وهو على كل شيء قدير.إن شاء الله نكون قد فهمنا هذه الآيات؟ اسمعوها مرة ثانية: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين َ [آل عمران:59-63].
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات: من هداية الآيات:أولاً: ولاية الله تعالى لرسوله بإرشاده إلى الطريق التي أنهى بها جدال النصارى]، لو لم يكن الله ولياً لرسوله ما كان يرشده إلى هذا السلاح الذي حطم به الصليبيين، إذا والاك الله لا يتخلى عنك، ينصرك ويكون دائماً معك.إذاً: فكيف يتخلص الرسول من هذا الوفد المتعالي المتغطرس؟ حكم الولاية اقتضى أن يعلمه هذه المباهلة، ما كان يعرفها، فقل: تعالوا نخرج بنسائنا ونسائكم وأبنائنا وأبنائكم وندعو فنجعل لعنة الله على الكاذبين. وهنا يقال: لو وجد الآن جماعة ثانية، جماعة حق وجماعة باطل، وتأكدت جماعة الحق من أنها على الحق، وأن الأخرى على الباطل، ثم دعوهم إلى المباهلة، فهل تصح المباهلة أو لا تصح؟ تصح، ويهلك الله المفسدين، وإذا كانت الجماعة ما هي بمطمئنة إلى أنها على حق فما تستطيع إذاً أن تباهل، وإن كانت تعلم أن الأخرى على باطل، لكن موقف الرسول صلى الله عليه وسلم يقيني.الآن لو يأتي النصارى فوالله لنباهلنهم، لأننا على حق، وهم يقيناً على باطل، هيا تعالوا نباهلكم ونجعل لعنة الله على الكاذبين. [ثانياً: مشروعية المباهلة غير أنها تكون في الصالحين الذين يستجاب لهم]، تكون في الصالحين من عباد الله الذين إذا سألوا الله أعطاهم، إذا دعوه أجابهم، أما إذا لم يكن حالهم هكذا فما ينتفعون، ما يقع شيء، لا يهلك العدو ولا يهلكون هم.[ثالثاً: تقرير ألوهية الله تعالى دون سواه، وبطلان دعوى النصارى في تأليه عيسى عليه السلام]، عدنا من حيث بدأنا، لا إله إلا الله! وما عيسى إلا عبد الله ورسول الله، وإذا كان عيسى عبد الله ورسوله؛ فأولياؤنا الذين نذبح لهم الذبائح ونقرب لهم القرابين - كعجل مولد سيدي البدوي - كيف حالهم؟ أية عبادة أعظم من أن يقول: هذا مولاي فلان! بل يغرسون النخل: هذه نخلة سيدي فلان، يشتري قطيعاً من الغنم: هذه نعجة سيدي فلان، لم تفعل هذا؟ حتى يباركها الله وتنمو، وأنت أعطيتها لله أم لعبد الله؟ لو قلت: هذه لله نعم تطمع أن يبارك لك، أما أن تقول: هذه لسيدي فلان وتقول: يباركها الله! إنه والله لا أعظم من الدعاء عبادة، لا صلاة ولا جهاد ولا رباط؛ لما علمتم أن الداعي إذا دعا تمثلت فيه كل أنواع العبادة، وإليكموها:لما أرفع كفي: يا رب! تقول: هذا الشيخ فقير؛ بدليل رفع كفيه إلى السماء. ثانياً: أناجيه: يا رب! يا رب! يا رب! تقول: لولا علم هذا الشيخ بأن ربه موجود ويسمع ويرى ويقدر على أن يعطيه فهل سيناديه ويسأله؟! إذاً: فهو الفقير؛ لوجود الله وعلمه وقدرته ورحمته.ثالثاً: لما يطرح عليه حاجاته: أعطني كذا، احفظني من كذا؛ فهذا دال على أنه لا يقضي هذه الحوائج إلا الله، وإلا لما التفت إلى هنا أو هنا يسأل ويطلب، فلهذا الدعاء هو العبادة، ( من لم يسأل الله يغضب عليه )، ألح في الدعاء فإن الله يحب الملحين في الدعاء، والشرك فيه -والعياذ بالله- أن يقول: يا رسول الله! ويا سيدي فلان! وعاشت أمتنا قروناً تشرك به هذا الشرك.تجد المرء يوحد الله، والمسبحة في يده: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ألف مرة، يأخذه النعاس وتسقط المسبحة من يده وإذ به يقول: يا رسول الله! يا أهل البلاد! أين الله الذي كان يؤلهه؟ لعلي واهم؟ أما قلت لكم: إن قائد السيارة خرج بنا عن خط السير فإذ به يقول: يا رسول الله! يا رسول الله! قلت: كيف هذا يا فلان؟! لو متنا لهلكنا؟ هل الرسول يجيئك الآن يمر ينقذك؟ كيف هذا؟! فيقول لي: لساني هكذا![رابعاً: تهديد الله تعالى لأهل الفساد في الأرض، وهم الذين يعملون بالشرك والمعاصي]، هددهم الله في هذه الآيات فقال: فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين َ [آل عمران:63]، معناه: يا مفسدون انتبهوا، إنكم تحت الرقابة، وهو كذلك.والله أسأل أن يصلحنا، وأن يبعدنا من ساحة المفسدين، اللهم آمين!
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (17)
الحلقة (158)
تفسير سورة آل عمران (24)
إن إفراد الله عز وجل بالعبادة هو الغاية من كل رسالة، وهدف كل نبي من الأنبياء، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم واليهود قد حرفوا دينهم، واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله، ومثل ذلك فعل النصارى حيث عبدوا رهبانهم، وزادوا على ذلك أن كل فريق منهم ادعى نسبة إبراهيم عليه السلام إلى ديانته، وقد أخبرهم الله أن إبراهيم ما كان يهودياً ولا نصرانياً، وإنما كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين.
تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).وبالمشاهدة نشاهد السكينة، لا ضوضاء ولا فوضى ولا لغط ولا سخط ولا كلام، هذه السكينة، أما الرحمة فقد غشيتنا، فهل تشاهد بيننا الآن عذاباً؟ أبداً، رحمة كاملة، وأما كون الملائكة تحفنا فكما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أننا لا نشاهدهم؛ لأن أبصارنا ضعيفة لا تقوى على رؤية الملائكة النورانيين وهم يحفون بالحلقة.وأما ذكر الله تعالى لنا عنده في الملكوت الأعلى فهو كما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، الحمد لله على هذا الإفضال والإنعام، الحمد لله على أن رزقنا الله إيماناً به وبلقائه، به وبكتابه ورسوله، ويسر لنا أن نصلي المغرب والعشاء في أقدس بيت من بيوت الله، ونتلو كتاب الله ونتدارسه، اللهم لك الحمد! اللهم لك الحمد! اللهم لك الحمد على ما أوليت وأنعمت وأفضلت.وقد انتهى بنا الدرس ونحن في سورة آل عمران عليهم السلام إلى هذه الآيات الخمس، فهيا أنا أتلو وأنتم استمعوا، ونصبح كلنا دارسين وتالين، قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:64-68].الحمد لله! الحمد لله! الحمد لله! عجب هذا القرآن العظيم. هيا بنا نتدارس هذه الآيات.
المراد بأهل الكتاب وحكمة مناداتهم بهذه الصفة
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:64] من الآمر بكلمة: (قل)؟ الله رب العالمين، منزل القرآن العظيم على خاتم أنبيائه وإمام رسله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:64] نادهم: يا أهل الكتاب! ومن هم أهل الكتاب؟ إنهم والله لليهود والنصارى؛ لأن اليهود بين أيديهم التوراة وإن حرفوها، وإن زادوا وإن نقصوا، وإن قدموا وإن أخروا، لكن أصلها موجود، التوراة النور الإلهي.والنصارى بين أيديهم الإنجيل، الإنجيل الذي أنزله الله على عبده ورسوله عيسى عليه السلام، إذاً: فهم حقاً أهل كتاب أم لا؟ ويكفي أن الله عز وجل يقول لرسوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:64]، ناداهم بهذه الصفة التي يفرحون بها، ولا ينكرونها، ولهذا يبتدئ النداء بهذا: (يا أهل الكتاب) يريد أن يقول لهم: تعالوا، ما قال: هلم، تعالوا؛ لأن مقام الرسول عال، كأنه يقول: ارتفعوا أيها الهابطون إلى المقام السامي العالي، وهو مقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ارتفعوا أيها الهابطون إلى مقام النبوة المحمدية لتتعلموا الهدى وتعرفوا الحق.
المراد بالكلمة السواء
قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] كلمة العدل والحق والإنصاف، (كلمة سواء) أي: كلمة عدل بيننا وبينكم، ما هذه الكلمة؟ هي أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] هذه هي كلمة العدل، وهي ألا نعبد نحن وأنتم إلا الله، لا نعبد الله نحن وأنتم تعبدون الأصنام والأوثان، أو تعبدون الأولياء والرهبان، ألا نعبد نحن ولا أنتم إلا الله، هذا هو الإنصاف والعدل.ولا نشرك به تعالى شيئاً، لا عيسى ولا أمه ولا روح القدس جبريل ولا غير جبريل، لا موسى ولا العزير، فقط نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئاً من الشركاء قلوا أو كثروا، ولا شيئاً من الشرك ولو كلمة، ولو انحناء برءوسنا.ثانياً: ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً وآلهة من دون الله، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] أي: آلهة يعبدون من دون الله عز وجل.إذاً: فاليهود كالنصارى، قدسوا علماءهم ورهبانهم، ورفعوهم إلى مستوى الألوهية والربوبية، فقد أحلوا لهم ما حرم الله فأطاعوهم، فأحلوا ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله وأباح وأذن، فحرموه على أنفسهم اتباعاً لعلمائهم، فكانوا بذلك قد اتخذوهم أرباباً؛ لأن الرب هو الذي يحل ويحرم، هو الذي يمنع ويجيز، لأن الرب هو المربي العليم الحكيم، فهو يحل ما فيه خير للعباد، ويحرم ما فيه ضرر على العباد وشر.فإذا جاء العالم يحرم ما أحل الله ويحل ما حرم الله أصبح هو الإله، واتصف بصفات الرب؛ لأن لفظ الرب فيه معنى التربية.وهنا جاء من سورة التوبة قول الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]، هذه الآية لما سمعها ذاك الصاحب عدي بن حاتم الطائي ابن حاتم الطائي مضرب المثل في الكرم والجود، وولده تنصر وأصبح نصرانياً، فلما أسلم في أخريات من أسلم سمع الرسول يقرأ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] فأنكر ذلك وقال: لا يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أليسوا يحلون لكم الحرام فتحلونه؟ قال: بلى، أليسوا يحرمون عليكم الحلال فتحرمونه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم ) ما هي العبادة إذاً؟ أليست العبادة طاعة في ذل وانكسار وتعظيم لذلك المطاع؟ بلى، إذاً: تلك هي العبادة.(اتخذوا أحبارهم) أي: علماءهم، (ورهبانهم): عُبَّادهم، اتخذوهم أرباباً، كيف جعلوهم أرباباً؟ أطاعوهم في معصية الله.إذاً: هذه هي الدعوة دعوة الإنصاف والعدل، يا أهل الكتاب من يهود ونصارى! تعالوا ارتفعوا إلى مقامنا السامي، ارتفعوا من هذا الهبوط الذي هبطتموه، وأصبحتم لاصقين بالأرض من أجل المادة والأهواء والشهوات والأطماع، ارتفعوا.
ذكر ما تضمنته كلمة السواء من جماع معاني التوحيد
قوله تعالى: تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ [آل عمران:64] أي: عدل بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]. ما هذه الكلمة؟ هي أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ [آل عمران:64] لا العزير ولا عيسى ولا فلان وفلان وفلان. وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64]، فكوننا نعبده ونعبد معه غيره ما استفدنا، ما حققنا الهدف، ما زلنا ضلالاً، ولنذكر هذا دائماً ونقول: من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وجب عليه أن يعبد الله أولاً، كيف يشهد له بأنه لا إله إلا هو ولا يعبده؟ فهو إذاً يسخر ويستهزئ.ثانياً: ألا يعبد معه غيره، وإلا تناقض، كيف يقول: أنا أعلم علم يقين أنه لا يوجد إله يعبد بحق إلا الله، وها أنا قد عبدته، ثم يعبد معه غيره؟ أي تناقض أعظم من هذا؟ فضيحة! من أول مرة يقول: لا إله إلا الله وفلان! حتى يعبده مع الله، أما أن تنفي وجود إله مع الله وتعبد الله ثم تعبد معه غيره فهذه خيانة وسوء أدب.ثالثاً: ألا تعترف بعبادة غير الله، ولا تقرها أبداً، فإن أنت عبدت الله وعبدت وحده، ثم رضيت بأن يعبد غيره معه؛ إذاً تناقضت، فإذا كنت من أول مرة تستثني، فتقول: لا إله إلا الله والمسيح. لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلا ما كان من عبادتنا لـمريم مثلاً، فهذا تناقض.إذاً: كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] هي ألا نعبد أولاً إلا الله، ولا نشرك به شيئاً أبداً، لا من الشرك ولا من الشركاء، فقد يعبد الله عز وجل وحده ولكن يقول كلمة شرك، أو يعتقد عقيدة شرك تتنافى مع التوحيد، فهو كافر ومشرك، ولا يقبل منه ذلك التوحيد.ثالثاً: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] لا يتخذ جهالنا علماءنا آلهة يعبدونهم، وهل العلماء يعبدون؟ إذا أحلوا لنا ما حرم الله فاتبعناهم عبدناهم، إذا حرموا علينا ما أحل الله فحرمنا ما أحل الله عبدناهم، ضاددنا الله تعالى وناددناه بهم، وجعلناهم آلهة، إذ لا يشرع إلا الله، لا يقنن إلا الله، وقولوا: لم؟ الجواب: الذي يشرع ويقنن يجب أن يكون عليماً حكيماً قادراً: قدرة لا يعجزها شيء، علم أحاط بكل شيء، حكمة لا يخلو منها شيء، والإنسان الضعيف يستطيع؟ لا يعرف المستقبل ما فيه، لا يعرف مضار الناس ولا منافعهم، الذي يستحق أن يشرع ويقنن فيحلل ويحرم ويأمر وينهى ذاك الذي هو الله ذو القدرة التي لا يعجزها شيء، ذو العلم الذي أحاط بكل شيء، ذو الحكمة التي لا يفارقها شيء! إن الذي يشرع العبادات ليعبد البشر بها الله يجب أن يكون عالماً بكل شيء، والذي لا يعلم ما وراء هذه الجبال، أو لا يعلم ما بعد أسبوع أو عام أو خمسين سنة ولا يعلم ما بعد قرن وقرون؛ كيف يطاع فيما يشرع؟!هذه هي الحقيقة، ووضحها لنا آية سورة التوبة، إذ نزل فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28].هذا إعلان أعلنه علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق ومن أرسلهم الرسول في حجة سنة تسع من الهجرة، أعلنوا ألا يحج بعد هذا العام مشرك أبداً، في تلك السنة حج المشركون؛ لأنهم ما منعوا، ولم يبق إلا حجة واحدة في السنة العاشرة، حجة الوداع، فبعث الرسول أبا بكر رضي الله عنه نائباً عنه، فكان أول أمير في الحج، ثم زاد فبعث علياً وبعض الصحابة أن ينادوا في عرفات وفي مزدلفة وفي منى وفي مكة ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، هذا ما يحمله النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التوبة:28] وفقراً، وقلتم: الآن نجوع، الآن تتعطل التجارة، كان المشركون يأتون بالبضائع والسلع ويشترون ما شاء الله، والآن نصاب بالجوع والفقر، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28]، لم قال: إن شاء؟ لو لم يقل: (إن شاء) لتركوا العمل وكل شيء ولقالوا: أبشروا فقد وعدكم الله بالغنى، لا تحرثوا ولا تزرعوا! لا إله إلا الله الحكيم العليم! كلمة (إن شاء) هذه تعدل الدنيا وما فيها، والله لو ما قالها لترك الناسجون النسج، والحارثون الحرث، والمجاهدون قالوا: انتهينا، وعدنا الله بالغنى! لا إله إلا الله، أو ما انتبهتم لهذا القيد؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] هنا تضطرب القلوب أم لا؟ أين البضائع والسلع والتجارات والذين يشترون؟ تعطلت الحياة! قال: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التوبة:28] وفقراً من منعكم المشركين من دخول الحرم من الحج بعد هذا العام فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28] ثم ماذا قال بعد (إن شاء)؟ قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28] عرفتم هاتين الصفتين؟ عليم بكل شيء، حكيم في تشريعه في كل شيء، فاستجيبوا، أطيعوا، امنعوا المشركين بعد هذا العام، لا تقبل مشركاً يحج بعد هذا العام.
ضلال اليهود والنصارى باعتقادهم في عيسى وعزير واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً
ثم قال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] أذلاء، هنا بين لنا شركهم وكفرهم، لا تقل: اليهود والنصارى ما هم بكفار ولا مشركين! اسمع الله يقرر شركهم وكفرهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ [التوبة:30] أما الواقع فوالله ما المسيح ابن الله ولا العزير ابن الله. ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [التوبة:30] قالوا كما قال المشركون من العرب وغيرهم. يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30] اسمع علة هذا اللعن:قال: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] اليهود اتخذوا العلماء أرباباً، والنصارى اتخذوا العباد والرهبان أرباباً من دون الله، من أخبر بهذا الواقع؟ الله عز وجل، هل يقول الله غير الصدق والواقع؟ حاشاه تعالى أن يقوله.قال: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، هنا لما سمع عدي بن حاتم الطائي النصراني العربي حيث كان في الشام وكان متنصراً؛ قال: يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً من دون الله. كيف تقول هذا؟ لو كان متزناً ثابت العقل لما قال هذا والله هو الذي قال، هذا ما هو بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا قول الله، يا حاتم ! أأنت أعلم أم الله؟! لكن لما كان يواجه الرسول قال: يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً من دون الله! فأجابه أستاذ الحكمة صلى الله عليه وسلم ومعلمها بما شفى صدره، وهدأ من قلقه وروعه، قال: ( أليسوا يحلون لكم الحرام فتحلونه؟ قال: بلى. أليسوا يحرمون عليكم الحلال فتحرمونه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم ) تلك هي العبادة إذاً. أليست هي الطاعة مع الإذعان والذل والاحترام والتعظيم؟ إذاً: عبدتموهم، واتخذتموهم أرباباً.وهذه الآية نزلت في وفد نجران فاسمعوها: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] لا ظلم ولا جور، نحن وأنتم سواء، ما هذه الكلمة؟ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64] من الشرك أو الشركاء، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64].
منع النبي الصحابة من القيام له صورة من صور حمايته لجناب التوحيد
من هنا كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الناس في المسجد أن يقوموا يقول: لا تقوموا، ما سمح لأحد أن يقوم له، يدخل على أصحابه في الروضة من بيته، فهموا أن يقوموا فقال: لا تقوموا، حتى لا يقال: الرسول يحب أن يعظم ويعبد. فهذا من عمل اليهود والنصارى، يقومون لأحبارهم ورهبانهم؛ لأن القيام عبادة سببها الطاعة والتعظيم والحب والذل والانكسار، والانحناء الذي هو امتداد الظهر أو ما نسميه بالركوع أليس هذا من باب التعظيم والإجلال لمن عبدناه أم لا؟ والسجود من باب أولى، ولهذا قال: ( من سره أن يمتثل له الناس قيامًا ) بحب صادق ( فليتبوأ - والعياذ بالله- مقعده من النار ).فلهذا ما من حق المؤمن صادق الإيمان أن يرغب في أن يقوم الناس له، وإن قاموا له وبدون حب منه ولا رغبة؛ فلا بأس، أما أن يحب لنفسه أن يقوم الناس له تعظيماً وإجلالاً وإكباراً فقد تبوأ مقعده في النار.فعبادنا وزهادنا وعلماؤنا نحبهم نبجلهم نعظمهم نقدرهم، لكن ليس إكباراً وإجلالاً كالعبادة، وهم أنفسهم عليهم الرضوان لا يرغبون أن يذلوا الناس ويهينوهم؛ حتى يركعوا لهم أو يقوموا لهم، وليس ذلك في نفوسهم، فإن فعله من فعله من إخوانهم فهو من باب احترام أو تعظيم العالم أو الحاكم، ليس عبادة له وذلاً وصغاراً أو إعظاماً وإجلالاً؛ لأننا كلنا عبيد الله، ولكن فضل الله بعضنا على بعض، فمن هنا الذين يركعون وينحنون خوفاً وتبجيلاً وتعظيماً عبدوا غير الله عز وجل. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] الأرباب: جمع رب، ما الرب؟ الرب يطلق ويراد به: المعبود، لم عبد؟ لأنه يربي، يطعم ويسقي ويحيي ويميت، ويعز ويذل؛ فتذل له النفوس تعظيماً له وخوفاً منه ورغبة فيما عنده.
ذكر ما يعتبر عبادة مما ليس بعبادة من طاعة البشر فيما أمروا به ودعوا إليه
أقول: خلاصة القول: أن اليهود والنصارى عبدوا علماءهم وعبادهم، وبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فشفى صدورنا مع عدي بن حاتم رضي الله عنه، إذ قال: ( يحلون لكم الحرام فتحلونه، ويحرمون عليكم الحلال فتحرمونه )، فالآن أيما حاكم من حكام المسلمين عرباً أو عجماً ينصب نفسه هذا المنصب، ويبيح للناس الخمر يقول: اشربوها، هل نطيعه؟ والله إن أطعناه عبدناه، يبيح لهم الزنا يقول: أيش فيه؟ فإن أطاعوه عبدوه وألهوه، يبيح لهم الربا، يقول: الربا حلال! فإن أطاعوه فقد ألهوه وجعلوه إلهاً مع الله، يبيح لهم عقوق الأبوين، يقول: ما هناك حاجة إلى هذه الطاعة العمياء لأب أو أم، أنت حر، فلو أطاعوه في ذلك فقد ألهوه، وهكذا لو قال: لا معنى لهذا الصيام أبداً، فأطعناه فتركنا الصيام الذي فرض الله فقد عبدناه وألهناه! أقول: أما ما كان من غير ما أحل الله ولا حرم من أمور الدنيا كالحرث والزراعة والصناعة والتجارة وما إلى ذلك؛ فهذه إذا نظر الحاكم إلى مصالح الأمة أو المسلمين وقال: اتركوا هذا لما يترتب عليه؛ فهذا أمر واسع وجائز، ما هو بعبادة.الحكيم صلى الله عليه وسلم قال: يحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه، أو يبيحون لكم ما حرم الله فتبيحونه وتحلونه، هذه مضادة لله أم لا؟ هذا هو الشرك بعينه.فالدعوة الإسلامية الربانية تدعو إلى أن المحلل والمحرم هو الله عز وجل، والمطاع في ذلك هو الله، إذ هو المربي وهو العليم الحكيم.فإن قال لك والدك يا بني: لا تجلس مجالس الباطل والمنكر، فطاعته هنا من طاعة الله عز وجل؛ لأن الله حرم هذا، أبوك ما يرضى لك هذا الفساد، لا تقل: إذاً عبدت أبي! أبداً، إذا قال لك مربيك أو شيخك: يا فلان! لا تستعمل هذا الدخان لأن فيه مضرة ومفسدة، فلا تقل: إن أطعته عبدته وجعلته إلهاً مع الله؛ لأن معلمك أو مربيك رأى أن هذا ضار بك ومفسد لعقلك أو مالك فنهاك عنه! مثلاً: هؤلاء رجال المرور كونهم فعلوا هذه الإشارة الحمراء، وهذه خضراء؛ من أجل مصالح الناس حتى لا يقتل بعضهم بعضاً، وحتى لا يؤذي بعضهم بعضاً، فهل تقول: أنا لا أطيعهم، إذا أطعتهم عبدتهم وأصبحت مشركاً! يأتي هذا الوسواس، يقول: إذاً أنا أتحداهم، أنا لا أعبد إلا الله، لا نطيع رجل المرور! فرجل المرور ما حرم ما أحل الله، ولا أباح ما حرم الله، نعم مأذون لك أن تمشي في هذا الشارع، ولكن إذا وجد شوك يقول لك: لا تمش فيضرك هذا الشوك، أتقول: أنت ألهت نفسك وأصبحت إلهاً؟ لا؛ لأنني منعتك من هذا الضرر الذي يحصل لك.أقول: فلا بد من وعي وبصيرة، والقاعدة التي وضعها الحبيب صلى الله عليه وسلم واضحة كالشمس: ( يا عدي ! أليسوا قد حرموا عليكم ما أحل الله فأطعتموهم؟ أليسوا أباحوا لكم ما حرم الله فأطعتموهم؟ فتلك عبادتهم يا عدي ! )، قال عدي : آمنت بالله. وصلى الله وسلم على رسول الله.
مجمل القول فيما تضمنته الآية الكريمة من النهي عن صور الشرك
ولنسمع الآية مرة ثانية: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] ما هناك تفوق: نحن أشراف وأنتم وضعاء، أو نحن سادة وأنتم كذا، كلمة سواء، وهي أولاً: ألا نعبد نحن ولا أنتم إلا الله، العبادة التي تعبدنا الله بها لا ننصبها لغيره، لا لعيسى ولا لجبريل ولا لموسى ولا لعزير، لأن الله تعبدنا بهذه الكلمة، أو بهذه الركعة، أو بهذا الأمر والنهي، لا نعبد إلا الله.ثانياً: ولا نشرك به غيره، لأنهم قد يعبدون الله ويشركون، فما هي حال عوام المسلمين وجهالهم؟ يكفرون، يعبدون الله ويشركون معه غيره، والشرك مأخوذ من الشركة، هذا المنزل بيني وبين فلان شركة، كذا أم لا؟ هذه عبادة خاصة بالله، هذا المنزل خاص لفلان، لا شرك له فيه، فما تعبدنا الله به وجعله من عبادته كالذبح والنذر والحلف والركوع والسجود فهذه عبادات شرعها الله، فمن ذبح لغير الله عز وجل تقرباً إليه وتزلفاً أو رجاء أن يحصل له خير أو يحصل له معروف فقد عبد الذي ذبح له كما يذبح لله عز وجل.والذي ينذر كذلك، والعرب كانوا ينذرون للآلهة، ونحن ننذر لله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7] وهو أن يقول: يا رب! علي أن أصوم كذا، أو أتصدق بكذا، أو أبيت الليلة راكعاً ساجداً لك يا رب العالمين! هذا النذر، وهل يجوز أم لا يجوز؟ يجوز، تملق إذاً إلى الله وتزلف، ليقضي حوائجك أيضاً إن شئت من أجل أن يفعل بك خيراً، وإن شئت أن يحبك فإنك تتقرب تقول: لك يا رب أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، من يمنعك؟ تقرب إلى الله وتزلف إليه.أما أن تنذر لغير الله فقد جعلته إلهاً، لك يا سيدي فلان أن أفعل كذا وكذا. أصبح شريكاً مع الله أم لا؟ تعبدنا الله بالإقسام به والحلف؛ لأنه تعظيم وإجلال وإكبار، فأنت لا تحلف بالله وتحلف بفلان، أشركت هذا المخلوق في عظمة الله وفي عبادته.فلهذا العامة يقولون: والنبي، نقول: حرام، قل: لا إله إلا الله، أشركت بالله، كيف تقول: والنبي؟ هل النبي إله؟ أعوذ بالله! هو عبد الله ورسوله، فكيف تحلف به إذاً وتجعله إلهاً؟ولهذا من تعاليم الحبيب صلى الله عليه وسلم لما شاهد بعض المؤمنين أسلموا من عهد قريب، فيحلفون بالعزى وباللات بدون قصد، فقال: ( من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله ) أي: يكفر ذلك الذنب بكلمة التوحيد، تربية له، فلهذا من جرى على لسانه الحلف بسيده فلان أو برأس فلان أو بكذا مباشرة يقول: لا إله إلا الله فتمحوها، على شرط: ألا يكون متعمداً. إذاً: وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64] لا نقول: مستعدون لأن نصلي ونصوم ونحج لله وحده، ولكن لا بأس أن ننذر لغيره، أو نتوسل إلى غيره، فهذا لا يصح بهذه اللفظة من كلام الله: وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64].ثالثاً: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] كلنا عبد الله، الحاكم والمحكوم، العالم والعابد والجاهل، كلهم عبيد الله عز وجل، أما الاحترام والتبجيل والإكبار فلا بأس، لكن ليس تبجيل ولا إكبار عبادة، يقبل بعضنا بعضاً، ولكن لا إلى مستوى العبادة التي هي الذل والانكسار والخشية والرهبة والخوف.
معنى قوله تعالى: (فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)
ثم قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا [آل عمران:64] عن هذا وأعرضوا فقالوا: ما نسمع هذا، فقل لهم ونادهم: (تعالوا إلى كلمة). (فإن تولوا) أصلها: فإن تتولوا، فإن تولوا عما دعوتهم إليه وأعرضوا عنه فقل إذاً: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] وأنتم إذاً كافرون، ما قالها لكنها معروفة، فإن تولوا عن هذه الدعوة وعن هذه المناظرة وعن هذا اللقاء ورفضوا الحضور فقولوا لهم: اشهدوا بأنا مسلمون وأنتم معروف أنكم كافرون، لكن من آداب القرآن وكمالات كلام الله وهو علاج القلوب والأرواح أنه ما قال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] وأنتم كافرون، فهذه تنفرهم، ما تجعلهم يسمعون، لكن سبحان الله العظيم! هو لازم هذا، يقول أو لا يقول، إن كنا نحن مسلمين إذاً أنتم غير مسلمين؛ لأننا أقبلنا وأنتم رفضتم وأبيتم، رضينا وأبيتم، أقبلنا وأعرضتم. سبحان الله العظيم! أعيد هذا النداء الكريم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] هي أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ [آل عمران:64] أولاً وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران:64] ثانياً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] وأنتم كافرون. ما معنى مسلمون؟ أسلمنا قلوبنا ووجوهنا لله فعبدناه وحده، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ المسلم المسلم إلهاً مع الله، لا يطيعه في معصية الله ورسوله، إنما الطاعة في المعروف، أطع أمك، أطع أباك، أطع شيخك، أطع جارك صديقك، أطع إمامك وحاكمك، لكن فيما هو معروف مأذون فيه، لا فيما حرم الله وأوجب الله، فتترك ما أوجب الله أو تفعل ما حرم الله طاعة لأمك أو أبيك أو شيخك أو حاكمك؛ إذ القاعدة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنما الطاعة في المعروف ).وأزيدكم: مع هذا الهياج الموجود في العالم العربي من أجل هذه الصحوة ما بلغنا يقيناً أن حاكماً أمر مواطنيه بأن يفجروا، أو يسرقوا، أو يسبوا الله ورسوله، أو يتركوا الصلاة، أو يؤذوا الجيران إلا ما كان من محنة عدن لما ظهر فيها الشيوعية، نعم حاولوا أن يكفروهم، ولكن الله عز وجل أزالهم وأبادهم. نعم وجد في بعض البلاد بعض الحكام انتقدوا الصيام وقالوا: إنه أعاقنا وعطلنا، لكن ما سمعوا لهم ولا أطاعوهم، ولا أكلوا في رمضان، ففشلوا.أما أننا بلغنا أن حاكماً في بلاد العرب قال للمواطنين: أيها المواطنون! دعونا من هذا الصيام، أو دعونا من هذا التزمت، كيف لا يتزوج إلا كذا وكذا، فليتزوج ما شاء، أو قال لهم: كيف هذا الربا؟ افعلوا ما شئتم، يجب أن ترابوا؛ ما كان أبداً فيما علمنا، والله أعلم، ولكن هم الذين تهوروا وسقطوا في المحنة، ما سألوا أهل العلم ولا انقادوا لعلمائهم، ولا استجابوا لهم، ففعلوا ما حرم الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ...)
جاء النداء الثاني: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:65] وتقولون: كان إبراهيم يهودياً، والنصارى قالوا: إبراهيم كان نصرانياً، مجانين هؤلاء! قال: روي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك، فإنه كان يهودياً، وما بك إلا الحسد فقط، فأنزل الله تعالى هذه الآية: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، والعبرة بالعموم. يقول تعالى: قل لهم: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمران:65]، فما سميت اليهود يهودية إلا بعدما نزلت التوراة، وما قيل: النصارى إلا بعدما نزل الإنجيل، وإبراهيم كان قبل موسى وكان قبل عيسى، فكيف تجادلون في هذا؟ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ والحجاج: الجدال في قول اليهود: إبراهيم كان يهودياً، والنصارى قالوا: كان إبراهيم نصرانيًا، في الحقيقة النصرانية كاليهودية بدعتان وجدتا بعد إبراهيم بألف سنة، أو أكثر من ألف سنة، كيف يكون هذا؟ هذا كله نتيجة الجهل من عوامهم، قالوا: إبراهيم كان يهودياً على ديننا، والنصارى عوامهم قالوا كذلك، أما الرؤساء فهم يدجلون ويكذبون فقط للفتنة، ولصرف الناس عن الإسلام؛ فأبطل الله هذه الدعوة بهذه الآية الكريمة: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65]، والله ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً، إذ على عهده لا يهودية ولا نصرانية، اليهودية بدأت متى؟ لما قالوا: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156] أو من يهوذا، أبدلت الذال دالاً، فاليهودية بدعة ابتدعها اليهود وقالوا: نحن على ملة اليهودية، والنصرانية ما كانت معروفة على عهد إبراهيم أبداً، ما وجدت إلا على عهد عيسى لما قال: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران:52]، أو من ولادته في الناصرة قرية من قرى فلسطين، بدعة فقط ابتدعها اليهود والنصارى، فقال اليهود: لا، نحن على دين إبراهيم، وإبراهيم كان يهودياً، والنصارى قالوا: نحن على دين إبراهيم؛ لأن النصرانية كانت دين إبراهيم؛ فأبطل الله هذه الدعوة بشيء عجيب: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65] فهل بقي لهم كلام؟ ما أنزلت التوراة التي فيها ذكر اليهود، ولا الإنجيل الذي فيه ذكر النصارى إلا بعد إبراهيم بقرون، فكيف إذاً يكون إبراهيم يهودياً أو نصرانياً؟ فلهذا قال: أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمران:65] أين عقولكم؟ ألا تعقلون؟ وهكذا أسكتهم أيضاً بهذه الحجة: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:65] ما معنى أنهم حاجوا في إبراهيم؟ قال اليهود: إبراهيم كان يهودياً، وقالت النصارى: إبراهيم كان نصرانياً، ونحن من أتباع إبراهيم وعلى ملته ودينه، فقال تعالى: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65] أي: من بعد إبراهيم بقرون، أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمران:65]، أين يذهب بعقولكم؟!
تفسير قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ...)
ثم قال لهم: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ [آل عمران:66] الهابطون الساقطون هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران:66] في قضايا التوراة الموجودة فيها وفي الإنجيل، إذاً: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران:66] حاججتم فيما لكم به علم، التوراة بين أيديكم، قلتم: فيها كذا وكذا، الإنجيل بين أيدي النصارى، قالوا: فيه كذا وكذا، والذي ما هو في التوراة ولا في الإنجيل كيف تحاجون فيه؟ أفلا تعقلون؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [آل عمران:66].
تفسير قوله تعالى: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ...)
وختم تعالى هذا بقوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67] والله العظيم! ما كان على ملة اليهود؛ لأنها بدعة أساساً، ما أنزل الله اليهودية ولا النصرانية، ابتدعوها كما ابتدعنا التجانية والقادرية والرحمانية والعيساوية، لما يقول: أنا قادري، هل أنزل الله القادرية في كتابه؟ لما يقول: أنا تجاني، هل التجانية شرعها الله على لسان رسوله؟ بدعة، كذلك اليهودية والنصرانية بدعتان. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67] فقولوا: أسلمنا، قالوا: لا. فلتأكلهم جهنم، إبراهيم كان حنيفاً، أي: موحداً مائلاً عن ملل الشرك كلها والكفر، وكان وحده يقول: لا إله إلا الله، وغيره مشركون هابطون.إذاً: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67]، ما معنى الحنف؟ الميل، كان مائلاً عن كل الشرك والكفر إلى الله عز وجل، ومسلماً القلب والوجه لله.وأخيراً هذه البشرى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68]، والحمد لله على أننا من أهلها.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (18)
الحلقة (159)
تفسير سورة آل عمران (25)
كثير من اليهود والنصارى يودون إضلال المسلمين وإهلاكهم، وسنة الله التي لا تتخلف أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وأن عاقبة الشر والفساد تعود على صاحبها في نهاية الأمر، وقد عاب الله على هؤلاء اليهود والنصارى كتمانهم للحق مع معرفتهم له، وإنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم موقنون أنه النبي الخاتم، وبين سبحانه أن هذا الأمر من طبيعتهم، سواء فيما يتعلق بالرسالة والنبوة أو في غير ذلك.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليالي ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.الآيات المباركات التي تدارسناها بالأمس نسمع تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]، أي: قولوا -أيها المؤمنون- لأهل الكتاب: اشهدوا بأنا مسلمون. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:65-68]، فالحمد لله على أننا أولى الناس بإبراهيم من اليهود والنصارى والمشركين، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68].درسنا هذه الآيات وتذكرناها، ونعود إلى نتائجها ونراجعها إن شاء الله؛ لنزداد بصيرة في هذه الآيات.
هداية الآيات
قال المصنف غفر الله لنا وله: [ من هداية الآيات:أولاً: لا يصلح حال البشرية ولا يستقيم أمرها إلا إذا أخذت بمبدأ (الكلمة السواء) وهي: أن تعبد ربها وحده لا تشرك به سواه، وألا يعلو بعضها على بعض تحت أي قانون أو شعار].نعلم يقيناً أنه لا يصلح حالنا ولا يستقيم أمرنا إلا إذا أخذنا بمبدأ (الكلمة السواء) والكلمة السواء هي أن نعبد الله وحده ولا نشرك به سواه، وألا يعلو بعضنا على بعض تحت أي قانون أو شعار، وهذا ما دل عليه قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]، وهي: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64]، فهناك من الناس من يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، كالذي يسجد له، ويركع، ويعظم، ويطاع ويعصى الله فهذه هي عبادته، وهذا ظاهر في أحبار اليهود ورهبان النصارى، ومشى على ظلهم وطريقهم علماء من هذه الأمة، وعلى سبيل التوضيح: علماء الروافض والشيعة، فهم أكثر تقديساً من علماء النصارى واليهود، حسبك أن تفهم أنهم يأخذون خمس أموال أمتهم، والخمس هو ما يساوي (20%)، وإذا أمروهم أو نهوهم، أو علموهم انقادوا وذلوا، واتبعوهم على الباطل.بل ومن أهل السنة والجماعة كرجال التصوف وعلماء التصوف عبدهم الناس عبادة كما يعبد الله، يركعون ويسجدون لهم، وهذا شأن من يخرج عن دائرة الحق، فإنه يسقط، ويخسر ويتمزق، قال صلى الله عليه وسلم: ( المسلمون سواسية كأسنان المشط، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد واحدة على من سواهم )، لا يعبد بعضنا بعضاً، فالعالم الذي يحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله؛ لفوائده وسلطانه ومركزه عُبد من دون الله أصبح رباً يعبد.فهذا عدي بن حاتم الطائي كان قد تنصر في بلاد الشام، ثم دخل في الإسلام: ( فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، فقال عدي : لا يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً، فقال: يا عدي ! أليسوا يحلون لكم الحرام فتحلوه؟ قال: بلى، أليسوا يحرمون عليكم الحلال فتحرموه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم ).والقاعدة عندنا: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف )، فلو قال لك أبوك: أي بني! احلق لحيتك، فقل له: لا يا أبتاه. ملعون من فعل هذا على لسان رسول الله؛ لأنه تشبه بالنساء. أو قال لك: يا بني! لا تشهد الصلوات صل في بيتك، فقل له: لا يا أبتاه، لا نفارق جماعة المسلمين في بيوت الله. وهكذا لو قال الأمير أو الشيخ أو غيرهم، إلا إذا أحداً منهم أمرك بمعروف فقد وجبت الطاعة، وإن أمرك بمعصية فلا طاعة له، ( إنما الطاعة في المعروف )، لا في المعصية.[ثانياً: حجية التاريخ وبيان الحاجة إليه]، فحجية التاريخ قوية وفاصلة وقاطعة، ونحن بحاجة إلى أن نعرف التاريخ -وإن كنا قد فرطنا في هذا- ودليل ذلك، قال: [إذ رد الله تعالى على أهل الكتاب في دعواهم أن إبراهيم كان على دينهم]، إذ قال تعالى: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65]، فكيف يكون إبراهيم يهودياً واليهودية ما وجدت إلا مع نزول التوراة؟! وكيف يكون إبراهيم نصرانياً والنصرانية ما وجدت إلا مع الإنجيل والزمان بينهم قرون عديدة؟!فأسكتهم الله عز وجل بحجية التاريخ إذ قال: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمران:65]، وقال أيضاً: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67].قال: [ثالثاً: ذم من يجادل فيما لا علم له به، ولا شأن له فيه]، والذم واللوم والعتاب معروف.ذم من يجادل في شيء لا علم له به، وليس له حق في أن يجادل فيما لا يعلم ولا شأن له به، ولا في شيء ينفعه أو يضره، فلماذا إذاً يقضي الوقت في الجدال؟!لكن إذا كان الجدال لإحقاق حق، أو لإبطال باطل، أو لإظهار خفي، أو لإخفاء ظاهر لمصلحة الدعوة أو لمصلحة المؤمنين، فلا حرج؛ لأن الآية الكريمة حملت هذا المعنى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران:66]، فمعناه: إذا كنت على علم وبصيرة في شيء حاجج وجادل وبين، وإذا كنت لا تعلم لا تدخل في جدال قد تتأثر به وتهلك، فجدال لا ينتج لك خيراً ولا يدفع عنك شراً، فلماذا تقضي الوقت في جدال باطل لا معنى له؟فقد ورد في الحديث: ( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود وأنا أبيض وهي بيضاء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وهل لك من إبل؟ فقال الرجل: نعم، قال: ما لونها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أروق؟ قال: نعم، قال: فمن أين ذلك؟ -ما دامت حمر كيف جاء هذا الجمل أروق؟- قال: لعل عرقاً نزعه -من أصل آبائه وأجداه-، فقال صلى الله عليه وسلم: لعل عرقاً نزع )، وما أمره صلى الله عليه وسلم لا بطلاقها ولا بتهمتها، فهذا الجدال حسن وجائز، فإذا كان على علم، ولفائدة ومصلحة وخير محمود الجدال والحجاج، لكن إذا كان بدون علم، أو كان لغير فائدة فلا ينبغي إضاعة الوقت.قال: [رابعاً: اليهودية كالنصرانية لم تكن دين الله تعالى، وإنما هما بدعتان لا غير]، فكما قلنا: أن التجانية، والقادرية، والرحمانية، والعيسوية، والعمارية، والعيدروسية هي طرائق وبدع، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفها، ولم ينزل بها القرآن، ولم تبينها السنة، فهذه بدع ابتدعوها؛ ليفرقوا كلمة المسلمين. فالقرية الواحدة مفرقة إلى أربع فرق، ففيها التجانية، والقادرية، والرحمانية، والعمارية، آلله أذن بهذا؟!مسلمون نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابهم القرآن، إن كان عندك قال الله قال الرسول علمنا، وإن لم يكن عندك فلا تكذب علينا، ولا تقل: كذا وكذا، لا تفرق كلمتنا.[خامساً: المؤمنون بعضهم أولياء بعض -المؤمنون بحق وصدق بعضهم أولياء بعض-، وإن تناءت ديارهم وتباعدت أقطارهم، والله ولي المؤمنين].وتظهر هذه الولاية بالنصرة والحب، فيجب على المؤمن أن ينصر أخاه المؤمن ولا يخذله ولا يهزمه، ويجب عليه أن يحبه ولا يبغضه ولا يكرهه، وهذا هو الولاء والبراء، ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )، أما أن يبغض المؤمن أخاه، ويهزمه ويخذله، فهذا قطّع هذه الصلة التي قررها الله عز وجل في قوله: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وقال تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68].وهنا فاتحة هذه الآيات: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]، الرسول صلى الله عليه وسلم تمثلها وقام بها وأدى واجبه فيها، إذ كان يراسل ملوك الروم والفرس، من جملة ذلك كتابه إلى هرقل ، وهذا نصه: قال: [ وقد راسل النبي صلى الله عليه وسلم ملوك الروم بمضمون هذه الآية، إذ كتب إلى هرقل قائلاً: ( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ) أي: الفلاحين.و يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] ]، أدى واجبه صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى هرقل وإلى غيره.
تفسير قوله تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ...)
إذاً: بعد هذه الآيات.. إليكم الآيات الثلاث الآتية: نتلوها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69]، فهذا حق وإخبار الله عز وجل، (وَدَّتْ): أي: أحبت حباً كاملاً، (طَائِفَةٌ): لا كل أهل الكتاب. وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:69-71]، فهذا توبيخ إلهي.والمعنيون بتبليغ هذه الآيات ونقلها إلى المشركين هم المسلمون المؤمنون، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أدى واجبه، وأما أصحابه صلى الله عليه وسلم وأبناؤهم فقد أدوا واجبهم، وأما أحفادهم فقد بلغوا.ونحن الآن وقفنا عن التبليغ منذ قرون؛ فالكفار هم الذين كبلونا وقيدونا، وهم الذين جهلونا وأفقرونا، وهم الذين فرقونا ومزقونا، فحرموا -زادهم الله حرماناً- أنفسهم بإفسادنا وإضلالنا وتمزيقنا، ولو ما خدعونا وتركونا ننير الحياة والدنيا؛ لدخلوا كلهم في رحمة الله، لكن مكروا فعاد مكرهم عليهم، وإن حرمنا نحن أيضاً، لكن هم السبب وهم الهالكون أولاً.(وَدَّتْ)، أي: أحبت بصدق.(طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: من اليهود والنصارى، وسموا بـ(أهل الكتاب)؛ لأنهم أصحاب التوراة والإنجيل، فاليهود بين أيدهم وفي رفوفهم ومكاتبهم وعند رءوسهم التوراة، والنصارى أيضاً في مكاتبهم وبيوتهم الإنجيل، فهم أهل كتاب.
رغبة قادة اليهود والنصارى في إضلال المسلمين وإهلاكهم
قال تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69]، أي: أحبوا لو تمكنوا من إضلالكم؛ لعلمهم أنهم هالكون يريدون أن نهلك معهم، فهم عرفوا أنهم خاسرون، فودوا أن نخسر مثلهم، الحسد حملهم على هذا، فهذا إخبار الحق عز وجل، فلم يقل الله عز وجل: (ود أهل الكتاب)، وإنما قال: (طَائِفَةٌ)، فالآن يوجد في النصارى الملايين لا يعرفون الإسلام ولا يكرهونه ولا يحاربونه، وتوجد طائفة وهي التي تعمل على إضلال المسلمين، وإيقاف نورهم وهدايتهم، وهم رؤساء الكنائس، ومن والاهم من الأغنياء وصافحهم من أهل الأمجاد والحكم، وإلا ملايين من النصارى لا يعرفون شيئاً عن الإسلام.كذلك من اليهود توجد أيضاً أعداد كبيرة لا يعرفون شيئاً إلا التقليد والمشي وراء أئمتهم وهداتهم، ورؤساؤهم هم الذين يمكرون بالمسلمين ويودون لو خرجوا من دينهم.وهناك لفتة كثيراً ما قلناها: اليهود -عليهم لعائن الله- عرفوا حديث أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وبلغهم ودرسوه، وأكثر المسلمين ما سمعوا به، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره: ( لتقاتلن اليهود )، هنا اللام لام التوكيد وموطئة للقسم، بمعنى: (والله لتقاتلن اليهود)، كيف نقاتلهم وقد شردوا، وقد بددوا وهلكوا؟! فقد قاتلناهم وهزمونا بعد ألف ثلاثمائة سنة، فهذا نبي الله يخبر بهذا الغيب: ( لتقاتلن اليهود ثم لتسلطن عليهم )، هذا البناء للمفعول (لتسلطن)، أي: يسلطنا الله عليهم، لا أمريكا ولا بريطانيا ولا روسيا، وتسليط الله معلوم، لكن معنى آخر: ( لتسلطن عليهم، فتقتلوهم حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله )، واليهودي مختبئ تحت الشجرة أو الحجر، ينطق الله عز وجل ما لا ينطق، فينطق الله الحجر، ( فقد أنطق الله عز وجل الشجر التي مع ركانة فقد قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعالي فجاءت تزحف، وقال لها: اشهدي، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله ).( يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله إلا شجر الغرقد )، اللهم إلا شجر الغرقد؛ فإنه لا يكشف عن اليهود ولا يخبر عنهم؛ لأنه شجر اليهود، فلماذا سمي بقيع الغرقد بهذا الاسم؟ لأن شجر الغرقد كان ينبت فيه بكثرة، والآن لعدم نزول الأمطار فيه وقف هذا الإنبات، الذين جاءوا من فلسطين التي هي تحت اليهود أخبرونا في مجالسنا من ثلاثين سنة أن اليهود يحتفلون بشجر الغرقد ويبجلونه ويجلونه ويعنون به؛ في سقايته وتربيته، كما يعنون بالبرتقال والعنب والتين.إذاً: هذا هو تبيين قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لتسلطن).أقول: لو أن المسلمين أسلموا قلوبهم ووجوههم لله في يوم ما من الأيام، من الأسباب الظاهرة أن تتخلى أوروبا وأمريكا عن اليهود اقتلوهم، فيحصل لهم ما حصل لهم على يد النازية تحت إمارة هتلر ، الأحداث لا يعرفون عن هتلر ، ولا النازية ولا ألمانيا، لكن الشيوخ عرفوا هذا، فقد اكتشفت ألمانيا حينذاك مؤامرة يهودية في بلادها، فأمرت بقتل اليهود، فقتلوهم وذبحوهم وأحرقوهم، حتى اليهود الذين في شمال أفريقيا وخارج ألمانيا أصبحوا أذلاء يرتعدون، قتلوا منهم عشرات الآلاف، وألمانيا في وسط أوروبا، سحر اليهود لبريطانيا وفرنسا وأمريكا ما نفع؛ لأن الله أراد.فمن هنا قلت مئات المرات: لو أن المسلمين صدقوا الله، ودخلوا في الإسلام بحق سيوجد الله عز وجل مؤامرة يهودية في أمريكا لنسفها وتمزيقها، أو مؤامرة ضد بريطانيا، يكتشفونها يريدون إحراق بريطانيا، والله ليقولون للمسلمين: اقتلوهم وعجلوا، ونكون قد سلطنا عليهم.لكن ما دمنا غير المسلمين بحق ولم يحن الوقت.. الحجر والشجر ما يكذبان وهما آية من آيات الله، فكثير من جيوش العرب والمسلمين ما يصدق عليهم يا مسلم، وهو ما أسلم لله لا قلبه ولا وجهه.إذاً: اليهود عرفوا أن الطريق للإبقاء عليهم أن يفسق المسلمون ويفجروا؛ حتى لا تتحقق لهم ولاية الله، فأخذوا ينشرون ضروب الفسق والفجور في العالم الإسلامي، من الربا، إلى الزنا، إلى الحشيش، إلى الباطل، إلى ترك الصلاة، إلى الكفر بالله، إلى السب، إلى التمزيق؛ حتى لا توجد لهم ولاية ربانية ليصبح الشجر يناديهم: ( يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله )، فالمسلمون ما عرفوا هذا، ولا واحد في المليون، واليهود عرفوا هذا، فهم الذين بوسائط الإعلام، والعجائب، و.. و.. ينشرون الدعارة والفسق والفجور والباطل في العالم بأسره؛ لأنهم أعداء البشرية كلها، وليسوا أعداءً للعرب والمسلمين فقط، والمفروض أن العرب هم الذين يفيقون؛ لأنهم أمناء على هذه الدعوة والرسالة، لكن سحروهم، خبطوا فيه.فمقاتلتنا لليهود وتسليطنا عليهم تكون عندما تتحقق ولاية الله لنا، ويصبح الله يحبنا ونحبه.. يأمر فنمتثل، وينهى فنمتثل، يومها يتحقق هذا بإذن الله -إذ لابد وأن يقع- فوالله ليقعن! ( ليقاتلن المسلمون اليهود في يوم ما حتى يقول: الشجر والحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله )، فلو أن إخواننا الفلسطينيين تجمعوا في غزة أو في أريحا أو في القدس، وتربوا زمناً وتحققت ولاية الله لهم لتحقق لهم النصر على اليهود في داخل في فلسطين.أما ونحن كما تعرفون لا ولاية بيننا وبين الله.. حاربنا الله.. خرجنا عن طاعته، فسقنا عن أمره، ما التزمنا بشرعه ولا مبادئه ولا دينه، فكيف يتحقق لنا هذا؟! من باب المستحيل، إن لله سنناً لا تتبدل، فالطعام يشبع والماء يروي، والحديد يقطع والنار تحرق، فلن تتبدل سنن الله عز وجل. إذاً: سنة الله في العباد من والاه نصره وأيده، من عاداه أذله وخذله، فكيف تغير أنت سنة الله؟! فيجب الإبلاغ حتى تنتشر دعوة الله، ويعم الوعي والبصيرة.
عاقبة الشر والفساد
يقول تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69]، (يُضِلُّونَكُمْ) ؟ أي: يبعدونكم عن الحق، وعن التوحيد وعن عبادة الله، وعن الإسلام وأنواره؛ لتصبحوا مشركين خرافيين ضلال مثلهم.والله يقول: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:69]، يا يهود! يا نصارى! يا من يعملون الليل والنهار على إضلالنا! اعلموا أنكم لا تضلون إلا أنفسكم، أنتم الذين تخسرون، فقد خسروا الإسلام وأنواره.. خسروا عدله ورحمته، فلو أنهم ما أضلوا المسلمين لعمهم نور الله عز وجل، ولدخلوا جنة الله، ولكن وجزاء السيئة سيئة مثلها، في الظاهر يضلون المسلمين والواقع يضلون أنفسهم، ليخسروا ويتمزقوا، وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69]، أي: ليس عندهم إحساس ولا فهم ولا وعي ولا شعور، فلو شعروا لعرفوا أنهم بإضلال المسلمين أضلوا أنفسهم؛ لكفوا عن إضلال المسلمين، ولانتصر الإسلام ودخلوا في أنواره ورحمته، ولكن ما يشعرون، غمرتهم شهوة الدنيا، وطلب ملاذها وفتنتها والتكبر فيها والتعالي على الناس. فصدق الله العظيم.
تفسير قوله تعالى: (لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون)
وناداهم وهو الرحمن الرحيم، يا أهل الكتاب! يا أهل التوراة والإنجيل! لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70] أنها حق. وهنا المراد من آيات الله التي يكفرونها هي آيات التوراة والإنجيل التي فيها صفات النبي الأمي ونعوته بنعت الله، يقرءونها ويعرفون أن هذه صفات النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، ويغطوها ويجحدوها ويؤولونها، ويقولون: ما زال هذا هو الشخص ما خرج بعد، إذا جادلهم من إخوانهم، يقولون: لا لا لا.. هذه لا تنطبق عليه، هذه سيأتي صاحبها، ومن قرأ الإنجيل والتوراة وقف على هذه الصفات. لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:70]، أي: الآيات الدالة على نبوة محمد ورسالته، وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70]، فأي توبيخ أعظم من هذا؟ وأي تقريع أشد من هذا التقريع؟ ولا نقول: أنهم أعرضوا عنه، فقد وجد ربانيون علماء من اليهود والنصارى ملئوا الدنيا أنواراً وطهراً وصفاءً.
تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ...)
ثم قال الله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [آل عمران:71]، فإلباس الحق ثوب الباطل يكون باطل، والباطل يلبسونه ثوب الحق وظهر كأنه حق، وهذا هو إعلام اليوم الذي يديره اليهود في صحفهم ومجلاتهم وإذاعاتهم وقنواتهم وهذا هو الواقع.فلماذا تشتري خمس مجلات وخمس جرائد وتقضي أربع ساعات وأنت تقرأ في الهراء؟!اقرأ سورة البقرة، نور بها بيتك، وحلِّ بها قلبك، وبناتك وأهلك، بدل أن تقضي ساعتين في الجرائد، ساعة واحدة في البقرة أو ساعتين، فإن قيل: لم؟ قل: نعم، أنا مسلم، أنا أريد أن أنزل دار السلام، تتطلب مني جهداً كبيراً، وبذلك نخيب مسعاهم.أبشركم: أن ذاك صاحب الدش الذي نددنا به قد أزاله.فالحمد لله، بعد ما صرخنا وبكينا وقلنا: والله الكتاب الذي كتبته له لو كتبته إلى يهودي يشفع، وأبطل هذا الدش من سطحه؛ لأنه مقابل المسجد النبوي يتحدى رسول الله والمؤمنين، وبعد كذا شهر الآن أزاله.اسمع يا جامد! يا رجعي! يا متخلف! ما الذي يضر هذا الدش وأنت تندد به؟أنا أقول: يا عم! يا ولدي! هيا ندرس القضية، دلني على النتائج المباركة والطيبة التي تحصل عليها من دشك؟نبدأ بالمال فهو كل شيء، كم ريال ينتجه لك في الليلة؟ أو في الشهر؟الجواب: ولا قرش واحد.ثانياً: ما هي معارفك وعلومك الإلهية التي تسمو بها وترتفع وتتنزه عن النقائص والحفلات والأوساخ والعثرات؟والله ولا شيء، والله ولا فائدة.والجانب الثاني:أولاً: أنت كأنك تنشر الخبث بين أولادك أو أهلك، أحببت أم كرهت، لقد قلت لكم: إن مؤمنة تتصل بي بالهاتف، وتقول: ماذا نصنع؛ ابني يفعل الفاحشة بأخته. فمن أين تعلم هذا؟ فلم يكن يعرف هذا بين البشر لا في اليهود ولا في النصارى، لكن هذه المناظر التي تعرض عليهم ويشاهدونها، يجربونها ويعملونها.يقول: يا شيخ! ما نصنع ابني يفعل الفاحشة مع أخيه؟ كيف تم هذا؟! أليس له سبب؟المشاهدة لتلك الأوضاع الهابطة التي تعرض في الشرق والغرب، ونتلقاها في بيوت الإيمان، والإسلام.أنا أقول واسمحوا لي: والله! لو أن مؤمناً حاضراً معنا وعنده دش ما تركه إلى غدٍ، اللهم إلا إذا كان مكره بالرشاش ومهدد بالسجن، وهذا والله لا وجود له، لا في الشرق ولا في الغرب، أو كان راتبه موقف، أنا أسرتي تعيش على هذا، كيف نصنع؟ نقول: اللهم فرج عنه، مسكين، مضطر، لكن هل هذا حاصل في دش في العالم؟ لا في بلاد الإسلام، ولا في بلاد الكفر.إذاً: لم يبقى هذا؟ لأن القلوب تعلقت بالباطل وانقطعت صلتها عن الحق، فأصابها الذي أصابها، وليبكِ التجار، الشيخ عطل علينا تجارتنا، ما أصبح من يشتري دش؛ الحمد لله وإن متم جوعاً خير لكم ألف مرة من أن تفسدوا جيرانكم وبلادكم ودولتكم.
حرمة كتمان الحق في الشهادة
قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:71]، أنه حق، الجواب يا مسلم: لأننا نحافظ على مركزنا، وعلى وجودنا وعلى آمالنا في إيجاد دولتنا؛ لأننا نحافظ على أن يبقى الشعب يقدسنا ويكبرنا ويجلنا، فإذا قلنا: هذا باطل، أصبحنا كالفقراء والمساكين. إذاً: بعتم دنياكم بآخرتكم، لأن تموتوا فقراء خير من أن تحيوا أغنياء والله ساخط عليكم وغاضب لا يريدكم ولا يرضاكم، الدنيا كلها ساعة والآخرة لا حد لها ولا نهاية، لئن يعيش العبد خمسين أو ستين سنة مريضاً على الأرض، فقيراً لا يجد طعام، لا بأس إذا مات وهو من أهل الإيمان وولاية الرحمن، ينتقل إلى سعادة أبدية لا تنهي، أما سعادة مؤقتة وما هي كاملة، فيها المرض، فيها الهرم، فيها الخوف، فيها كذا.. ما قيمتها؟ وتنتهي بعذاب أبدي لا ينتهي، فأين العقول؟ فهذا الرحمن جل وعز يخاطبهم علهم يرجعون: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:70-71].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات] هذه الآيات الثلاث[ من هداية الآيات: أولاً: بيان رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين وإهلاكهم.ثانياً: عاقبة الشر والفساد تعود على صاحبها في نهاية الأمر ]. قاعدة مسلَّم بها: عاقبة الشر والفساد ترجع على صاحبها في نهاية الأمر، كل من أراد بالمؤمنين ولو بمؤمن سوءً يعود عليه في النهاية، كل من أراد بالمؤمنين أو مؤمن شراً، والله ليعود عليه؛ لأن الله ولي ذلك المؤمن، وهذا الخبيث لا ولاية له بينه وبين الله، فيرد البلاء عليه في النهاية هو الخاسر؛ دل على هذا قوله تعالى: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69].[ثالثاً: قبح من يكتم الحق وهو يعرفه ]، علماء اليهود، علماء النصارى، علماء الروافض، علماء أهل الباطل يعرفون ويكتمون؛ لمصلحة الإبقاء على مركزهم؛ لأنه ما ترقى وأصبح شيخاً إلا بعد العلم، فالذي يعلم الباطل يعرف الحق، ولكن المحافظة على الوجود الهاوي الباطل.[ رابعاً: حرمة التدليس والتلبيس في كل شيء ]، حتى في البضاعة، فقد مر الرسول صلى الله عليه وسلم بأحد البائعين فوجد كيس الشعير، فشعر عليه الصلاة والسلام أن باطن الكيس فيه البلل، فأدخل الرسول صلى الله عليه وسلم يده في الكيس، فاستخرج الشعير المبتلة، فقال: ( يا صاحب الطعام! لم ما جعلت هذا أعلاه وهذا أسفله؟ من غشنا فليس منا )، فنحن لا ندلس ولا نلبس، نظهر الحق كما هو حق.فمثلاً: إذا خطبوا ابنتك وهي مصابة بمرض، فقل: إنها مريضة. أو مثلاً: ساومك في سيارتك، قل: بها علة اعرضها على المهندس. خطب ابنك ابنة فلان، فقل لوالد البنت: يا سيد! ابني لا يصلي فلا تزوجه. فلا تلبيس ولا تدليس بين المسلمين أبداً وحرام هذا وليس من شأنهم.[خامساً: حرمة كتمان الحق في الشهادة وغيرها]، لا يحل لمؤمن أن يشهد بالباطل وأن يجحد حق ويكتمه، فهذا شأن أولياء الله، حقق اللهم لنا هذا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (19)
الحلقة (160)
تفسير سورة آل عمران (26)
لما أن نزل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين المدينة، ثقل ذلك على اليهود، فقاموا يروجون لقضايا وشبهات بين المسلمين، كقولهم: إن النبي خالف دينهم وهو يصلي إلى قبلتهم، فلما تحولت القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، أنكروا ذلك وقالوا: إن محمداً لا يستقر على قبلة، ثم تواطئوا بينهم على الإيمان أول النهار والكفر آخره لعل ذلك يحمل المسلمين على ترك دينهم والعودة إلى الوثنية.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليالي ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين!وها نحن في سورة آل عمران، وما زلنا مع الآيات التي نزلت بسبب وفد نجران، وهم نصارى جاءوا من نجران، من جنوب البلاد يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى.والآيات التي درسناها بالأمس، وهي ثلاث آيات نعيد تلاوتها؛ لنتذكر النور الذي أضفاه علينا بها، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69]، وهذه الطائفة هي: رؤساء اليهود والنصارى.. علماؤهم وأحبارهم، يحافظون على العوام؛ للإبقاء على سلطتهم، وعلى منزلتهم بينهم، وعلى ما يكتسبونه من أموال منهم، عرفوا الحق وجحدوه؛ للحفاظ على متاع الدنيا وحطامها، فلنحذر نحن المسلمين أن يوجد بيننا هذا النوع. وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:69]، (أهل الكتاب) أي: اليهود والنصارى، ودوا وأحبوا: لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69]، فأنتم الآن على هداية الطريق الموصل إلى السعادة والكمال، وهم منحرفون ضالون يريدون أن يخرجوا بنا عن الصراط المستقيم إلى هاوية الضلال والكفر والشر والفساد، ولا يستطيع ابن امرأة أن ينكر هذا، إلا أن يكون أحمق أو جاهلاً؛ لأن هذا إخبار غارز الغرائز وطابع الطبائع وعلام الغيوب، العليم بذات الصدور، إلا أن الواقع معروف، لا ينكره ذو عقل، فإلى الآن اليهود والنصارى طوائف منهم يعملون على إضلالنا بشتى الوسائل والحيل، وحسبنا ما ينشره اليهود من الدعارة والخلاعة والسفور والفجور وأندية اللواط، وأندية القمار والربا، وما إلى ذلك في العالم فواضح كالشمس. وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69]، يضلون أنفسهم، إذ أبعدوها عن طريق الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة، ولوثوا أنفسهم وخبثوها وعرضوها لغضب الله وسخطه، ثم بالتالي إلى عذابه الدائم الذي لا ينتهي. قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:70]، أي: لم تكذبون بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70]، فهذا تقريع وتوبيخ وتأديب من الله عز وجل لليهود والنصارى. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70]؛ أي: تشهدون أن هذه الآيات هي الحق من الله، كفروا وكذبوا بالقرآن، وبكل ما فيه من الشرائع والأحكام، وكذبوا وأنكروا ما في التوراة والإنجيل من نعوت نبي الأمة، وخاتم أنبياء الله ورسله.فنعوت الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته في التوراة والإنجيل واضحة كالشمس، ودالة على خاتم الأنبياء أحمد صلى الله عليه وسلم، وهاهي كلمة عيسى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، فلم تكذبون يا يهود ويا نصارى بهذه الصفات وهذه النعوت؟! حتى تحرموا أتباعكم من رحمة الله، حتى تمنعوا أتباعكم من الدخول في الإسلام؛ لينجوا من سخط الله وعذابه، ليكملوا ويسعدوا في الدارين، فهؤلاء يستحقون كل هذا التوبيخ.والاستف ام هنا بـ(لِمَ) للتوبيخ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70] أنها الحق والصدق.وهذا خاصة ما قدمنا بطوائف الأحبار والرهبان، كما فعل رجالات التصوف عندنا، يحرمون العوام من العقيدة السلفية، والدخول في رحمة الله، ويلزمونهم بالبقاء معهم.فمثلاً: إذا سألت أحداً: من شيخك يا بني؟ يقول: سيدي عبد القادر . عبد القادر هو شيخك؟! أين تسكن؟ في نيجيريا.. في المغرب. كم كيلو متر، كم ميلاً من المغرب إلى بغداد؟ عشرة آلاف كيلو. أنت في أي قرن تعيش؟ في ألف وأربعمائة. وعبد القادر متى كان؟ يقول: كان في القرن السادس.فتقول له: كيف أصبح شيخك وأنت لا جلست بين يديه، ولا تعلمت عنه، ولا وجهك، ولا رباك، ولا هداك؟ سيقول: شيخي عبد القادر ، حتى لا يجلس أحدهم عند شيخ آخر.من شيخك؟ قال: سيدي أحمد التجاني. هل عرفته أو عاشرته، أو جلست بين يديه؟ كيف أصبح شيخك؟!يربطونه بأن شيخه فلان؛ حتى لا يجلس في حلقة علم، ولا يجلس مع طلبة علم ولا.. أنا شيخي فلان وكفى!وهكذا ربطوهم بمشايخ لا وجود لهم، مضوا قبلهم بقرون؛ ليبقوا مسخرين لأولئك الذين يسمون بالشاوش وبالقائد.قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70] والجملة حالية. أي: لم تلبسون الحق ثوب الباطل حتى تستروا الحق وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:71]. وهذا توبيخ أيضاً، فلم يحملهم على كتمان الحق الجهل بل هم عارفون وما حملهم على كتمان الحق إلا الحفاظ على مراكزهم ومناصبهم وعلى السمعة، وعلى وجود من يخدمهم.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات]: هذه الآيات الثلاث كانت موضوع درسنا بالأمس ولها هدايات نستعرضها [ من هداية الآيات:أولاً: بيان رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين وإهلاكهم ]. فهذه الآية بينت لنا رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين، وإخراجهم عن جادة الحق والصراط السوي؛ ليهلكوا معهم، ولئلا ينشروا الإسلام بينهم وتسقط مكانتهم ويهبط مستواهم، دل على هذه الهداية قوله تعالى: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69] .[ ثانياً: عاقبة الشر والفساد تعود على صاحبها في نهاية الأمر ]. يا فاعل الشر! يا فاعل الفساد! أنت تفعل، نهاية الأمر يعود فسادك عليك وشرك عليك في النهاية؛ دل على هذا قوله تعالى: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69]، ما يشعرون؛ لأن إحساسهم تبلد، الرغبة في المنصب والطعام والشراب والنكاح و.. و.. أشغلتهم وأنستهم حتى وجودهم.[ ثالثاً: قبح من يكتم الحق وهو يعرفه ]. يا ويح! يا ويل! من يكتم الحق وهو يعرفه.مثلاً: يا سيد! أنا أريد قباء من أين الطريق؟ فيقول: لا أعرف وهو يعرف، فهذا يكون قد كتم الحق.تسأله: يا فلان! أين المسجد؟ فيقول: لا أدري وهو يعرف أين هو فهذا أيضاً كتم للحق.تسأله: يا سيد! هل يجوز لي أن أكذب بعض الكذبات لجاجتي؟ فيقول: لا أدري. كذلك كتم الحق. لم لا يقول: لا يجوز لك أن تكذب؟!يا سيد! عندنا فيديو في البيت نستأنس به، ونروح على أنفسنا، هل يجوز؟يقول: لا أدري. فهذا كذلك كتم الحق، فلو قال: لا يجوز، يفتنكم، يفسد قلوبكم، يدفعكم إلى الشر والباطل ما كتم.فهذه أمثلة.. ومن عرف الحق يجب ألا يكتمه، إلا إذا خاف، تفصل هذه.[ رابعاً: حرمة التدليس والتلبيس في كل شيء ]، فالذي يخلط سمن الغنم بسمن الشجر ويبيع يكون قد دلس، والذي يخلط الحليب بالماء يكون قد دلس أيضاً.مثلاً: عندنا خياط في شارع العينية، يقول: هذه خياطة سوق، وهذه خياطة ذمة. كيف يكون هذا؟ بل يجب عليك أن تخيط كل الثياب بإتقان بحسب قدرتك، ولا تقل: هذه خياطة سوق، وهذه خياطة ذمة، فلا يجوز هذا، فمن التدليس أن تكون الخياطة للسوق غير ما تكون للزبون. وقد ذكرنا البارحة قصة بائع الطعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شك الرسول صلى الله عليه وسلم بكيس الطعام، فأدخل يده فأخرج الشعير مبتلاً، فقال لصاحب الطعام: ( لم ما تجعل هذا فوق حتى يعرف؟ من عش فليس منا ).الآن يقولون: يوجد غش في السيارات.. يعرف أن قلبها مريض، وأن عينها عمياء، فيقول: هذه هي، اشتر كما هي. لا. بل قل لي ما فيها من عيب أو ننقلها إلى الطبيب كاشف العيوب فنقول له: افحصها، فإن قال بها العيب الفلاني الفلاني فأنت حر اشتريها أو خفضت لك من القيمة، أما إذا أشتريها وهي مموهة مطلية ويكتشف أن فيها عيوب فيبدأ يلعن صاحبها، فهذا لا يجوز حتى مع اليهود أعداء الدنيا ( من غش ليس منا )، فلا نرضى به محمدياً مؤمناً.فالذين يغشون ما عرفوا وما عملوا، فكل شر وكل خبث، وكل فساد، وكل ظلم يحدث بين المسلمين علته الجهل، ما ربيناهم، ما هذبناهم، ما علمناهم، فنشئوا على الضلال والجهل والعمى فهم يفتكون بالحياة ويدمرونها ونحن نلومهم.. وإلى الآن ما تفطنا أبداً، وما ربينا أولادنا، ولا بناتنا ولا أنفسنا.هذه الحلقة في المسجد النبوي، فالمدينة سكانها أكثر من مائتي ألف، والذين يتعلمون الهدى واحد في الألف.فكيف يتعلمون هؤلاء الجهلة وهم الآن مع الفيديو مع التلفاز، ومع المجلة، ومع الأغنية، ومع الصاحب، ومع الأضاحيك، وإن كان يأتي يصلي ويخرج ما ينتفع، ما يكمل، واقرءوا إن شئتم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [الجمعة:2]، هو، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2].حتى إن بعض الصحابة كانوا يتبادلون الوقت.. عمر كان يفعل هذا، وإلا كيف زكت أنفسهم وطابت أرواحهم، وتفقهوا في دين الله، وأصبحوا أئمة البشر؟ فهم درسوا وتخرجوا من حلق الذكر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأبنائهم.فالآن -مع الأسف- طلبة المدارس فيهم شياطين -اسمحوا لي ما قلت أنا- آباؤهم يقولون هذا، فأين التربية؟ احضره إلى المسجد ليجلس في بيت الله أربعين يوماً ويمسح ذاك الظلام من نفسه.قال وأخيراً: [ حرمة كتمان الحق في الشهادة وغيرها ]، سواء كان: اشهد على كذا.. فلا تكتم الحق وصرح به، أو في غير الشهادة؛ دل على هذا قوله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:71] أنه حق، فهذا الذي هذب المؤمنين والمؤمنات من تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجاله، فوالله! ما عرفت الدنيا منذ أن كانت أمة أطهر ولا أصفى ولا أكمل ولا أعز ولا أكرم من تلك الجماعة التي عاشت على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيته، لم تكتحل عين الوجود بمثلها، ما سبب ذلك؟ لم يكن الغنى، بل عاشوا فقراء.. فقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يحمل الكيس على ظهره، وقد كان عمر رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين يحمل اللحم في طرف ثوبه من السوق.
تفسير قوله تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره ...)
إذاً: وإلى الآيات الثلاث الآتية، وهي فوق مستوانا، لكن نحاول أن ينير الله قلوبنا بها.يقول تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، (وجه النهار) أي: من وقت صلاة الصبح حتى الساعة التاسعة أو العاشرة من النهار. وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران:72]، أي: وقت صلاة المغرب أو العصر. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73]، هذا كلامهم لبعضهم البعض لا علاقة لنا به. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:72]، أي: قالوا لبعضهم البعض وهم رؤساء اليهود في خيبر والمدينة، آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، أي: يرجعون إلى دينكم.. إلى الوثنية والشرك؛ لعلهم يخرجون من الإسلام لماذا؟ أولاً: هذه الآية أدت غرضين صحيحين:الأول: لما تحولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، إذ صلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون والمؤمنات في المدينة إلى بيت المقدس غرب المدينة سبعة عشر شهراً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يصلي بين الركنين اليمانيين، يجعل القبلة غرب، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لو يستقبل الكعبة لكان خيراً له، من أجل أن يفارق اليهود؛ لأن اليهود أصبحوا يتبجحون يكذبنا ويكفرنا ويصلي إلى قبلتنا، سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142].الشاهد: أنها وقعت ضجت في المدينة ليست بالهينة، وهي: كيف يصلي إلى قبلتنا ولا يؤمن بديننا؟ ما إن حول الله تعالى القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حتى ازدادت الفتنة، وأصبح اللغط والكلام حتى قالوا: وغداً يستقبل قبلة أخرى ما يثبت على شيء، وجاءت الآيات القرآنية: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ [البقرة:150]؛ لأنهم ما يسكتون، فهم كالكلاب لابد وأن يقولوا، فلا تلتفتوا إليهم.فاستغلها بعض اليهود كـابن الصيف وفلان وفلان، وقالوا لبعضهم البعض: صلوا معهم إلى قبلتهم، وفي المساء صلوا إلى بيت المقدس، فإذا تسأل: لم؟ قالوا: ظننا أنه الحق وبعد تبين لنا أنه خطأ فعدنا إلى الحق، وهذه تفعل وتؤثر في قلوب العوام والجهال، هذا تؤديها هذه الآية الكريمة، وأعظم من هذا وهو المقصود، وهو أنهم اتصلوا بعلماء اليهود في خيبر، وعلماء اليهود بالمدينة، وعقدوا مؤتمراً لضرب الإسلام، فقالوا: يا فلان، ويا فلان ويا فلان، أعلنوا عن إسلامكم في المسجد النبوي، وقولوا: دخلنا في دين الله أول النهار، وآخر النار، لا تدخلوا المسجد، ولا تصلوا معهم ولا تقولوا مسلمون، فيتساءل الناس: لم؟ قالوا: دخلنا في الإسلام، ظننا أنه هو الحق، وأنه الدين الذي جاء به موسى وعيسى، وتبين لنا بإرشاد وبينان علماءنا أن هذا خطأ لا دين إلا اليهودية، فمثل هذا يحدث زعزة في قلوب المؤمنين واضطراباً في نفوسهم.والآن هناك تخطيط يقوم به اليهود، في إذاعة لندن، وإذاعة كذا، ويعملون بهذا عملاً في الصحف والمجلات و..قال تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:72]، أي: اليهود هنا، قالوا لبعضهم: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران:72].(وَجْهَ النَّهَارِ): أي: أول النهار، وأول النهار وقت شروق الشمس. وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]، أي: يرجعون عن الإسلام إلى الشرك، يريدونهم أن يتركوا الإسلام، ولو عادوا إلى الشرك؛ لأن العرب كانوا مشركين، فضلاً عن اليهود الذين دخلوا في الإسلام، كما سمعتم. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:72]، أي: قالوا لبعضهم البعض، مؤامرة.. رؤساؤهم خططوا، واتفقوا مع أهل خيبر وأهل المدينة، آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:72]، الذي أنزل عليهم، أي: القرآن، وما حواه من العقائد والشرائع والآداب والأحكام. وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران:72]، أي: اكفروا آخر ذلك اليوم، فإذا تساءل الناس: لم العالم الفلاني صلى الصبح مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: ظن أنه الحق، ولكن تبين لنا أنه ما هو بحق.فلهذا سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة قتل المرتد، فالذي يدخل في الإسلام، ثم يخرج منه يقتل، لا يصح بقاؤه؛ لأن هذا يفتح الباب.. لم خرج فلان بعدما أسلم وهو دكتور في علم النفس أو الطب أو كذا؟ قالوا: تبين له أنه ما هو بدين حق، فلا ينفع، ولهذا خرج منه، فهذا يقتل: ( من بدل دينه فاقتلوه )؛ لأنه يثير الهواجس والخواطر، ويبعث النفوس على التفكير من جديد، وجعجعة المجتمع، وهبوط هذا المجتمع، ( من بدل دينه فاقتلوه )، إلا أنه قد يكون مغرراً به مخدوعاً ما عرف يمهل ثلاثة أيام، فإن أصر على ردته يقطع رأسه؛ وهذا هو السبب: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72].ثم شيء آخر: اعلموا أن من عرف معرفة حقيقة، وآمن إيماناً صادقاً، وأيقن مثل هذا لا يمكن أن يرجع لا بالإغراء بالنساء، ولا بالمال، ولا بالمنصب، ولا.. ولا.. لو يقطع أو يصلب أو يحرق ما يرجع؛ لأنه عرف، والذين خرجوا من الإسلام في الشرق والغرب وبالمئات بالآلاف، بعض الجاهلين يقول: علتهم الفقر؛ لأن جمعيات التنصير في إندونيسيا وماليزيا وإفريقيا، وموجودة حتى في مصر وسوريا، فهذه الجمعيات تستغل فقر المؤمنين، فتداويهم وتطعمهم وتلبسهم وكذا.. فيتنصرون.وأنا قلتها: والله، ما تنصروا إلا من أجل جهلهم، وعدم معرفتهم، أيؤمن ويعرف الحق وينشرح له صدره ويبيعه بأسبرين أو إبرة أو ثوب في الشتاء يلبسه؟!مستحيل، فبدل أن نقول: هيا نجمع لهم الأموال والكساء والأدوية، نقول: هذه بعدين وليس الآن، بل علموهم وعرفوهم بربهم، ودلوهم على الطريق السوي الموصل إلى كمالهم، فإذا عرفوا الله، ولو أعطوهم ملء الأرض ذهباً ما رجعوا عن الإسلام.لقد أسمعت لو ناديت حياًولكن لا حياة لمن تناديأقول واشهد اللهم على ما أقول وأنا في بيتك في مسجد رسولك يا رب: لو أن المسلمين في هذه الظروف وفي هذه الأيام تكونت لهم لجنة تضم عالماً ربانياً صالحاً من كل قطر إسلامي، كل إقليم من إندونيسيا إلى موريتانيا يمثلوا عالماً ربانياً، وهذه اللجنة العليا للدعوة الإسلامية، لما تتكون وتتعاهد في روضة النبي الكريم تخطو الخطوة الأولى وتجوب بلاد العالم الإسلامي، ولكن في غير إشهار وإعلان؛ حتى لا تحسد وتوضع العراقيل في طريقها، لسنا في حاجة إلى التبجح: نفعل ونفعل.. ودخلوا كل بلد إسلامي، وقالوا لنسائه ورجاله في مساجدهم: أيها المسلمون! إن فريضة الجهاد قد تركت وأهملناها، فهيا بنا نعود: باسم الله.. وتعرفون كلمة جهاد يقفز لها كل واحد. إذاً: هي أن على كل ذكر وأنثى سنوياً أن يدفع عشر ريالات، يصوم يومين أو ثلاثة؛ ليوفر عشر ريالات، فهذا هو الجهاد فقط، وهم صادقون في كل مسجد صندوق في سرية كاملة، فألف مليون مسلم سيجمعون عشرة آلاف مليون، وتصبح أكبر ميزانية لا تملكها أمريكا. جولة واحدة أربعين يوم يتم هذا.. فالآن توجد الطيارات وليس هناك مشقة سفر.ثم بعد ذلك اللجنة العليا تتفرع منها لجنة أخرى تسند إليها مهمة التجول في العالم الغربي والشرقي، من البرازيل إلى اليابان يتتبعون الجمعيات الإسلامية أو المراكز الإسلامية، فيعرفون في فرنسا كذا، في المكان الفلاني، بلجيكا، ألمانيا، كندا، البرازيل.. كذا، يعرفون مواقعها وعدد أفرادها، فتوضع لها خارطة وهذه الخارطة حينئذٍ عرفت اللجنة العليا للجهاد الإسلامي.. وللدعوة إلى الله، تكون قد وضعت العالم بين يديها. عرفت القدر الذي تحتاج إليه من هذا المال، فتأخذ أولاً في إرسال المربين والمعلمين والهداة الصالحين، وتفتح لهم مركز أو دورة لمدة ستة أشهر فقط؛ حتى توحد المذاهب، ولم يبق بين الجماعات الإسلامية في الشرق والغرب مذهبي، فقط مسلم ويوحدون الكتاب الذي يدرس، من الضرورة كتاب لا ينتسب إلى زيدية ولا إباضية ولا شيعية ولا حنفية ولا.. ولكن مسلم قال الله وقال رسوله؛ لأن تلك الجاليات خليط مختلفون وطنياً ودينياً أيضاً، لابد من محو هذا الخلاف، بل مسلم فقط نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ونور هدايتي قال الله وقال رسوله. فيوحدون الكتاب الذي يدرس على نهج كتاب المسجد وبيت المسلم، وعلى نهج منهاج المسلم نعلم كيف نتوضأ ونغتسل ونصوم ولا نقول: أنا مذهبي كذا ولا كذا، وتأخذ تلك الدعوة في نشر ظلها، ويصبح أولئك المؤمنون المسلمون كلمتهم واحدة، وعقيدتهم واحدة: آدابهم وأخلاقهم، يأخذ النور ينتشر في تلك البلاد. والله أعلم أن خلال خمسة وعشرين سنة، أي ربع قرن تظهر دول إسلامية، ونحن ما ضججنا ولا صرخنا ولا بكينا ولا قمنا جاهدنا أبداً، دعوة الله ماضية. فهذه هي الدعوة التي نؤدي بها واجب الجهاد؛ لننقذ إخواننا في الإنسانية من الخلد في عذاب النار؛ لننقذهم من الخبث والظلم والشر والفساد الذي يعانونه، إنهم في بلاء ما يعرفه إلا من لامسه، لا تظن أنهم أكلوا وشربوا وفازوا، بل إنهم في كروب وهموم، كالبهائم فمن يمد يده إليهم؟ أناس أكمل منهم آداباً وأخلاقاً ومعارفاً، وطهراً وصفاء، وبذلك أدى المسلمون فريضة الجهاد، بدل ما ترسو سفننا على شواطئهم لنغزو لا. لا، مفتوحة الأبواب، أراحنا الله لا نفاثة ولا صاروخ أبداً. فوالله! لو كنا على هذا المستوى لكانت أوروبا دخلت في الإسلام منذ أن استعمرونا، لكن لما استعمرونا كانوا أفضل منا، أسمى وأرقى، ما تسمعون بوعد بريطانيا، فأهل المشرق يقولون: وعد إنجليزي، وأهل المغرب يقولون: وعد فرنسي.الله الله! كفار أشرف! لا خيانة، ولا كذب، ولا باطل، ولا ظلم، ولا اعتداء، والمسلمون: الخيانة .. الكذب، لا إله إلا الله! فكيف يدخلون في الإسلام؟! أسلم فرنسي، فقال: الحمد لله أسلمت قبل أن أعرف المسلمين، فلو عرفتهم ما أسلمت، فأين رابطة العالم الإسلامي لتقوم بهذا الواجب من جديد؟ والشاهد من هذا: ليست قضية فقراء عندنا في العالم الإسلامي حملتهم على الكفر، بل حملهم على الردة والانتقاض على الإسلام جهلهم، فما عرفوا وما ذاقوا طعم الإسلام ولا تلذذوا به؛ لأنهم ما علمناهم وما عرفناهم به.
تفسير قوله تعالى: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ...)
قال تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:72-73] أي: يوصي بعضهم بعضاً، وَلا تُؤْمِنُوا [آل عمران:73] أي: ولا تتابعوا وتصدقوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73]، يحذرون بعضهم بعضاً، قوموا بهذه الدعوة، وفي نفس الوقت لا تؤمنوا ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم، ما دام ما يتبع دينكم لا تلتفتوا إليه. وهذا الكلام إلى الآن يوصي بعضهم بعضاً وخاصة اليهود. قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ [آل عمران:73] يا معشر اليهود! ليس هداكم ولا ضلالكم، قل يا رسولنا لهؤلاء المتآمرين الذين يتعلمون الباطل، ويريدون نشره، علمهم: إن الهدى هدى الله، وليس اليهودية ولا النصرانية. قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ [آل عمران:73] لا هدى غير هدى الله، فمن يهدي سوى الله، ومن ينير الطريق سواه، ومن يأخذ بالقلوب فيقلبها سواه، من للمؤامرات التي تحاك ضد الإسلام بدعوى أننا ندعو إلى الإسلام وننشره سواه.أي: علمهم حتى ييئسوا أن لا يهودية ولا نصرانية ولا خرافة ولا ضلالة، الهدى هدى الله الذي لاحت أنواره على لسان رسوله وفي كتابه.ثم قال تعالى: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [آل عمران:73] هذا عائد إلى كلام المتآمرين من أهل الكتاب، جملة: قُلْ إِنَّ الْهُدَى [آل عمران:73] معترضة، وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73] خشية: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [آل عمران:73] يوم القيامة.يا معشر يهود: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آل عمران:73] أي: انتبهوا هذا الذي تجرون وراءه وتصدقوه؛ خشية أو كراهة أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمران:73]، أي: أنتم أوتيتم الديانة الحقة والطريق السوي والصراط المستقيم، وأنتم.. أنتم.. أنتم..، فإذا أنتم اتبعتموهم إذاً معناه جاءوا بدين خير من دينكم، واعترفتم به إذاً فلا تعترفوا أبداً. أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمران:73] حتى لا يصبح العرب أصحاب دين كأنتم، أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ [آل عمران:73] يوم القيامة، وهذه من خزعبلاتهم وضلالهم. يوم القيامة يحتجون عليكم يقولون: يا رب قد عرفوا الإسلام، وأنه حق ورفضوا أن يدخلوا فيه، فلا تجعلوا لهم فرصة يوم القيامة يحتجون عليكم؛ لأنكم إذا قلتم: أيها المسلمون إنكم على الحق، ودينكم هو الحق وهو الصواب، معنى هذا وأنتم ما دخلتم يحتجون عليكم يوم القيامة، إذاً فلا تعترفوا وتقولون: الإسلام دين حق، بل باطل واثبتوا، فلا دين إلا اليهودية. هذا يعقدونه في ليال وأيام، مخططات أقل ما يقال: للإبقاء على اليهودية حتى لا تفنى وتضيع ويغمرها الإسلام؛ لأنهم يريدون تجديد عهد سليمان وداود، فهم عازمون على إيجاد مملكة بني إسرائيل، وليس من النيل إلى الفرات كما في بعض كتبهم، فالآن العالم بأسره، إذ البشرية عند اليهود وسخ، وسيأتي بيان ذلك في كلام الله. البشرية كلها نجس ما فيها إلا اليهود، فلهذا يستبيحون دماء الناس.. فروجهم.. أموالهم؛ لأنهم ليسوا ببشر حتى يؤمنوا باليهودية، فهذه معتقداتهم في بواطنهم ولا يعلنونها لكنها تظهر.فمن عجيب ما بلغنا أيام موشي ديان -عليه لعائن الله- أنهم عقدوا مؤتمراً وخطب موشي ديان ونفخ فيهم، فهاجوا.. فقالوا: لو أنت الملك.. أنت الملك. قال: اسكتوا لا تفضحوا أنفسكم لم يحن الوقت، وكان هذا أيام وضع خطة عالمية لذبح الملوك والقضاء عليهم. فالأحداث لا يعرفون هذا، هذا عرفناه نحن والله. قالوا: اذبحوا العالم ومصارينه اخنقوا بها الملك؛ حتى يتسع لكم الوقت، وتصلوا إلى أهدافكم في العرب والعجم وفي اليهود والنصارى، المهم القضاء على هذه الأديان هو من طريق العلماء والملوك.وانتصر المبطلون فملك فرنسا ذبحوه، والعرب أخذوا يصفقون، فقد عرفنا والله! علماء لما يذكر الملك يتقززون، واحتج عليَّ عالم فقال: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا [النمل:34] . ولما يسقط ملك في بلاد العرب يتغنون في هيجان عجب، وهي مكرة يهودية وقد تبين للعيان أن وجود ملك خير ألف مرة من رئيس جمهورية؛ للإبقاء على الإسلام والمسلمين.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (20)
الحلقة (161)
تفسير سورة آل عمران (27)
من الأمور الشائعة والعقائد الثابتة عند يهود أن من عداهم من البشر نجس، يحل أكل ماله، وسفك دمه، والنيل من شرفه، وهذه كذبة بيّن الله زيفها ودحضها في كتابه الكريم، وبيّن سبحانه وتعالى أن من أوفى بعهده، ولم يخرج عن طاعة ربه، ولم يظلم عباده، فهو التقي المحبوب إلى ربه سبحانه وتعالى، المستحق لثوابه وجنته.
تفسير قوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك...)
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلى نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) حقق اللهم لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين. وما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:75-77].سبق ما أخبر به تعالى عن أهل الكتاب، إذ قال: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:72] وقد عرفنا ما قالوا وهذه أيضاً أخرى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:75] أي: من اليهود والنصارى مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75] يوجد فضلاء كُمل، عقلاء من أهل الكتاب ومن اليهود بالذات من إن تأمنه بقنطار من الذهب، وتجعله في ذمته وتودعه عنده يحفظه، وإذا قلت: رد علي أمانتي ردها بكل ارتياح. وهكذا القرآن وهو كلام العليم الخبير ما يعمم المدح ولا الذم، إذ يوجد من اليهود من أهل الكتاب من لو ائتمنته على قنطار من الذهب ثم طالبته برده إليك رده إليك كاملاً غير منقوص، ومنهم وهي الأكثرية الساحقة من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً. لولا أنك تلازمه صباح مساء حيثما يوجد وأنت على رأسه وتقول له: أعطني ما يعطيك، ومنهم الربانيون الصلحاء العلماء العارفون كـعبد الله بن سلام ، لو ائتمنته على قنطار والله ما خانك، ولوفى إليك وأعطاك ما ائتمنته عليه، فهذا إخبار الله تعالى، وليس بإخبار البشر قد يزيدون أو ينقصون، هذا إخبار العليم بخلقه الحكيم في تدبيره. وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:75] وإن كان اللفظ يشمل اليهود والنصارى لكن هنا المراد بهم اليهود، مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75] والقنطار ألف أوقية.ومنهم صنف آخر: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ [آل عمران:75] والدينار معروف لا يؤده إليك وأنت تلح وتطالب به إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75] بمعنى أنك تلازمه حيثما وجد أنت وراءه أعطني رد إلي ما أسلفتك، أعطني ما أقرضتك. هنا لطيفة فقهية من أهل الفقه من يقول: يجوز ملازمة المدين، ولا تفارقه حتى يؤدي إليك دينك، وأغلب المسلمين والفقهاء على أنه لا حاجة إلى هذا، لا تتعب أخاك وترهقه حتى يصبح يختفي بين الناس حتى لا تراه أو يراك، ولا بأس أن يحاكم ويرفع أمره إلى القضاء ويحكم القاضي بما يراه، لكن كونك لا تفارقه، ملازمة ليل نهار فيه عدم احترام لإمام المؤمنين، وعدم تقديرهم. إذ من الجائز أن يكون هذا المدين لا يملك شيئاً، لا يملك ما يؤدي إليك، فأنت تلازمه فتذله وتهينه وتضيق عليه الحياة من أجل دينار أو ألف كرامة المؤمن أعظم من هذا، فالجمهور على أن لا ملازمة، لكن يوجد من أهل العلم من قال: يلازمه حتى يسدد دينه. ونعود إلى حديثنا عن أهل الكتاب، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75] الأمر الشائع والعقيدة الثابتة عندهم، والسائدة فيهم أن البشرية نجس إلا اليهود وخاصة المشركين، وهم المعنيون بالأميين الذين لا يقرءون ولا يكتبون، فالمتعارف عليه عندهم والمتداول بينهم والمقرر في نفوسهم أن الإنسان نجس إلا أن يتهود. فإذا كان يهودي العقيدة كان نقياً طاهراً لا يحل أكل ماله، ولا إراقة دمه، ولا النيل من شرفه؛ لأنه كامل، فغير اليهود كل أموالهم، اذبح أبناءهم افعل ما تشاء لا إثم عليك، فهذا المعتقد عند اليهود، سنه فيهم وأقره بينهم ودعاهم إلى اعتقاده علماؤهم وأحبارهم، يكذبون على الله عز وجل. وحاشا لله أن يأذن في سفك دماء البشر، وانتهاك أعراضهم وتحطيم كراماتهم، وأكل أموالهم، وهم كلهم عباد الله، فهذه كذبة يهودية شاعت بينهم وتناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل على أن الأميين من العرب وهم المشركون وعامة البشر نجس يصح أكل أموالهم وإراقة دمائهم.واسمع الله تعالى يقول: ذَلِكَ [آل عمران:75] أي: من أنك لو تأمنه على دينار لا يؤده إليك إلا بالملازمة الدائمة، وسبب ذلك قالوا: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75] أي: لا يؤاخذنا الله ولا يعذبنا الله، إذا نحن أذينا المشركين، وأكلنا أموالهم أو فعلنا ما فعلنا في دمائهم وأعراضهم، وقرر هذا المعتقد عند اليهود هم علماؤهم وأحبارهم.قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا [آل عمران:75] متبجحين لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75] في هذه الآية خصوا العرب؛ لأنهم هم الأميون، ولكن ورد أن البشرية بأكملها نجس باستثناء الطائفة اليهودية، يستباح دماؤها وأموالها والعياذ بالله. قال تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75] أي: يعلمون أنهم كاذبون، لا يكذبون على الله باعتقادهم أن الله قال: لا، وهم يعلمون أن الله ما أذن في هذا ولا أباحه، ولكن لمصالحهم الخاصة ومنافعهم التي يعيشون لها يكذبون على الله، فيوهمون أتباعهم وأبناءهم وإخوانهم على أن هذا كلام الله، وأن الله أذن لكم في أن تأكلوا أموال من شئتم من البشر إن تمكنتم منه؛ لأن هؤلاء نجس وأنتم الأطهار فقط. هذا خبر الله عز وجل عنهم: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75] أي: يعلمون أنه كذب، ويوجد من غيرهم حتى ممن انتسبوا إلى الإسلام من يعتقدون اعتقادات باطلة كهذه، فيوجد من أهل السنة من يستبيح أموال ودماء وأعراض غير السنيين كالإباضيين والزيديين والطوائف الأخرى، في حين أن هذا لا يقوله ذو علم وبصيرة، ولا يحل مال امرئ إلا بحقه سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو كان خارج عن مذاهب أهل السنة والجماعة، فأموال الناس ودماؤهم حرام وكلهم عبيد الله. فلا يأذن الله إلا فيما أذن فيه، فإن سرق قطعت يده، وإن قتل يقتل، وإن فجر يرجم، أما أنك تبيح دماء الناس وأعراضهم؛ لأنهم غير مؤمنين أو مسلمين هذا لا يوجد في دين الله، وإن وجد من يقول أو يرى فهو يكذب على الله عز وجل، ويقول على الله الكذب، وقد يكون يعلم، وقد يكون لا يعلم.
تفسير قوله تعالى: (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين...)
ثم قال تعالى: بَلَى [آل عمران:76] أي: ليس الأمر كما يزعمون، وكما يدعون ويقولون، مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76]، أي: ليس الأمر كهذه الترهات والأباطيل والأكاذيب، يكذبون على الله ويقولون: أذن لنا في أكل أموال الناس، وإراقة دمائهم؛ لأنهم أنجاس أو أخباث أو ليسوا بمؤمنين حاشا لله. مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ [آل عمران:76] مع اليهودي والنصراني، والمشرك والكافر والبار والفاجر، من أوفى بعهده أولاً واتقى ربه، فلم يفسق عن أمره ولم يخرج عن طاعته ولم يضيع ما أوجب، ولم يفرط فيما ألزم الله، وابتعد كل البعد عما حرم الله من قول أو اعتقاد أو عمل، إذ تقوى الله عز وجل لا تتم إلا بفعل ما أمر الله في حدود طاقة الإنسان، واجتناب ما حرم الله. من أوفى بعهده ولم يخن ولم يكذب واتقى الله فليبشر بأنه محبوب لله، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76]، اللهم اجعلنا منهم! فلا يحب كتابياً يهودياً ولا نصرانياً ولا منتسباً إلى الإسلام بغير تقوى، فالقضية قضية وفاء، وعدم غدر وخيانة، ثم تقوى لله عز وجل في السر والعلن، في العسر واليسر، في الشدة والرخاء على حد سواء أولئك أهل محبة الله، وهؤلاء الذين يحبهم الله عز وجل. معاشر المستمعين! كررنا القول في أنك لا تستطيع أن تكون تقياً يحبك الله عز وجل إلا إذا عرفت ما يحب الله وما يكره، لا يمكنك يا بني أن تصبح تقياً من أولياء الله ومحبيه، وأنت لا تعرف ما يحبه الله ولا ما يكره، يتعذر هذا تعذراً كالمستحيل.أقول: ولاية الله تتحقق بمعرفة ما يحب وما يكره، وفعل المحبوب وترك المكروه، فلابد من هذا، فالذي لا يعرف ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال، ولا ما يكره من ذلك كيف يفعل المحبوب وهو لا يعرفه، كيف يترك المكروه، وهولا يعرفه، ومن هنا عدنا من حيث بدأنا طلب العلم فريضة. طلب العلم الشرعي الحاوي لمحاب الله ومكارهه فريضة كل مؤمن ومؤمنة، وما سقط من سقط، وتورث من تورث، وهوى من هوى إلا للجهل لا علة سوى الجهل.فلابد من العلم أي المعرفة لمحاب الله وما أكثرها، ومعرفة كيف يقدمها تملقاً إليه وتزلفاً وتقرباً، أو عبودية لله عز وجل وذلة ومسكنة، والذي لا يعرف ما يكره الله، وما يسخطه تعالى ويغضبه على عباده مما حرم الله في كتابه أو على لسان رسوله فكيف ستتم له التقوى؟!ولهذا قال بعض أهل العلم تلك الكلمة التي لن ننساها: ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علمه، هيهات هيهات أن يرضى الله بك ويحبك وأنت جاهل، فإذا أراد ذلك علمك، ويوجد في نفسك رغبة في طلب العلم، تترك شاتك ترعى وحدها، وتأتي تقرع الباب لتتعلم، ثم إذا علمت الشيء فرحت به وسرك، وانشرح له صدرك وعملت به، ولا تزال تعلم وتعمل، تعلم وتترك حتى تصل مستوى الولاية وتصبح ولي الله. أما جاهل.. فلا يوجد ولي من أولياء الله وهو جاهل، فالجاهل يسرق، والجاهل يكذب، والجاهل يخون، والجاهل لا يفي بوعد، والجاهل يسب، والجاهل يشتم، والجاهل.. الجاهل..؛ لأن ظلمة قلبه هي التي توقعه في هذا لا نور له. ولو عرف المسلمون هذا لما فارقوا طلب العلم حتى الموت، ولكن هذا الذي حصل.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً...)
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77]، وهذا يشمل أهل الكتاب، ويشمل المسلمين، فهذا اللفظ عام.. فالله تعالى يقول متوعداً: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ [آل عمران:77]، أي: لا حظ ولا نصيب أبداً في دار السلام، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77] فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يبين هذا، قال: أخرج أهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حلف على يمين هو فيها فاجر -أي: كاذب خارج عن الآداب واللياقة- ليقتطع بها حق امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان )، وفي رواية أحمد أيضاً وله شواهد في الصحاح، وروى الأئمة عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه -ليس بيده اليمنى، بل بحلفه الكاذب- فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله! قال: وإن كان قضيباً من أراك ).إذاً: فهذه الآية معاشر المؤمنين والمؤمنات! ليست خاصة بأهل الكتاب، فهذا إعلام رباني، فالله الذي يحب العدل وأمر به وفرضه، والله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم يحب الرحمة وأهلها، وهو الذي توعد الخارجين عن نظام شرعه ودينه: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77]، فلا ثمن كثير في هذه الدنيا، ولو كانت القناطير كلها، ما عندنا ينفد وما عند الله باق. فلا نفهم من هذا الثمن القليل ريال أو عشرة، فكل الأموال هي قليلة لقضاء الله وحكمه، فالذي يبيع عهده ويمينه بثمن قليل لا خلاق له في الآخرة. فعهد الله هو مع كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله قد عاهد الله عز وجل ودخل في عهد بينه وبين الله، ويجب عليه الوفاء بما عاهد الله عليه: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [النحل:91]. فكل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، قد أعطى الله تعالى عهداً وميثاقاً أن يعبد الله وحده ولا يعبد معه سواه، وأن لا يضيع تلك العبادة ولا ينقصها، وهو قادر على إكمالها، وأن تكون من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، أي من حيث تعليمه وسنته وبيانه وهدايته، فكل مؤمن قد قطع لله عهداً على نفسه أن يعبد الله بما شرع من طريق رسوله، وأن لا يعبد معه سواه، وأن لا يعترف أيضاً بعبادة غير الله. إذاً: هذا العهد عهد كل مؤمن ومؤمنة: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ [آل عمران:77] أي: الذين عاهدوا الله عليه، فيترك واجباً أو يغشى حراماً، أو يفعل منكراً؛ من أجل الدينار والدرهم يكون قد خان الله في عهده. الأيمان جمع يمين، وهي الحلف، وسميت اليمين يميناً؛ لأن الرجل إذا عاهد يضع يمينه على يمين غيره، فهذا هو العهد وهذه هي اليمين، فسميت اليمين يميناً؛ لأنها كانت باليد اليمنى.
معنى قوله تعالى: (ثمناً قليلاً)
(ثمناً قليلاً) أي: لو كانت قناطير الذهب، ولو كانت مملكة بكاملها فهي في حكم الله ثمناً قليلاً. فالمؤمن لا ينقض عهده، ويخرج من دين الله بعد أن استنار به ودخل فيه، ولو أعطي الدنيا بما فيها، فكل الأموال لا تساوي كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فالذين يرتدون ويخرجون عن الإسلام من أجل دنيا يؤثرونها، وكلها تعتبر ثمناً قليلاً، وجزاؤهم عند الله كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ [آل عمران:77].
معنى قوله تعالى: (لا خلاق لهم ...)
قال تعالى: لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ [آل عمران:77]، أي: يوم القيامة.والخلاق: معناه النصيب والقسط والحظ. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [آل عمران:77]، وهذا لا يطاق، فالذي لا يكلمه الله ولا ينظر إليه هو أشقى الخلق وأتعسهم. فالله هو مولاك وسيدك وهو راحمك ومعطيك وواهبك، إذا غضب عليك ولا ينظر إليك ولا يكلمك، فكيف تسعد بعد هذا؟! والله! ما سعد امرؤ غضب الله عليه، فلم ينظر إليه ولم يكلمه. وعند البصراء والعقلاء يرضى أن يقطع ويحرق ولا يرضى أن يغضب عليه سيده ويحرمه من النظر إلى وجهه، فإذا عرف العبد أن هذا العهد إذا نقضه حرم الله عليه النظر إليه والكلام معه، ولا يقدر على أن يفعل هذا الحرام، ولا يتقحم هذه المحنة أو النقمة.هذه الآية معاشر المستمعين والمستمعات! وإن كانت في سياق الحديث عن أهل الكتاب، فهي عامة لما سمعتم من تفاسير الرسول صلى الله عليه وسلم وبياناته. إذاً: فقوله تعالى: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ [آل عمران:77]، فإذا لم يزكهم الله ولم يطهرهم فكيف سيدخلون دار السلام وهم أنجاس؟! فمن لم يزكه الله ولم يطهره فلا حق له في أن يدخل دار السلام؛ إنها دار الأبرار، دار الأطهار، ( يدخل العبد النار ويحترق، ويخرجه الله عز وجل منها، ويغسله في نهر الحيوان عند باب الجنة، فينبت كما ينبت البقل، ثم يدخل الجنة طائراً )، فالذي لا يزكيه الله ولا يطهره لو يحترق في النار ملايين السنين، وقد أخبر تعالى أنه لن يطهره، فلن يدخل الجنة. ومعنى هذا كقوله: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء:57]، وخاصة الذين دخلوا في الإسلام وغرتهم الدنيا فخرجوا منه وارتدوا وانتكسوا والعياذ بالله، فهؤلاء: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال: [معنى الآيات: ما زال السياق الكريم في هتك وتمزيق أستار أهل الكتاب، وبيان نفسياتهم المريضة، وصفاتهم الذميمة، ففي هذه الآية الكريمة يخبر تعالى أن في اليهود وبينهم من إن ائتمنته على أكبر مال أداه إليك وافياً كاملاً، ومنهم من إذا ائتمنته على دينار فأقل، خانك فيه وأنكره عليك، فلا يؤده إليك إلا بمقاضاتك له، وملازمتك له الليل والنهار. فقال تعالى في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ [آل عمران:75] -يا رسولنا- بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75]، ويعلل الرب تبارك وتعالى سلوكهم هذا، بأنهم يقولون: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، وأنت أمي من الأميين، فلهذا لو ائتمنته على دينار ما أداه إليك]، سبحان الله! قال: [ويعلل الرب تعالى سلوكهم هذا]، بأنهم يقولون فيما بينهم، بل يدرسون هذا ويتعلمونه ويتوارثه الصغير عن الكبير، والأنثى عن الذكر، يقولون: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ [آل عمران:75]، أي: ليس علينا طريق لأذانا وتعذيبنا وخلودنا في النار، فأموالهم ونساؤهم حلال. يوجد بعض المسلمين -كما نقول- يستبيحون أموال آخرين؛ لأنهم كذا وكذا، لكن خفتت هذه الثورة، فلا يحل لمؤمن أن يأخذ مال إنسان وإن كان أنجس الخلق، ولا يحل مال الغير إلا بحقه، اللهم إلا في حال إعلان الحرب بيننا وبين الكفرة، فحينئذ أذن الله في دمائهم فضلاً عن أموالهم. ومع هذا لا يحل لمؤمن مجاهد أن يسرق خاتماً من يد كافر ميت، أو يأخذ ساعته أو يخفي ديناراً أو درهماً وجده في جيبه واقرءوا: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، فيا أيها المجاهد! إذا دارت المعركة بيننا وبين الكفار إياك أن تختلس شيئاً من دراهم أو دنانير، أو ما إلى ذلك وتخفيه؛ لتأخذه وتقول: هذا مال المشركين والكافرين، بل تأخذ ذلك المال وتؤديه إلى قيادة الجيش، وهي تجمع الأموال وتقسمها بما قسمها الله تعالى. قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41] والأربعة أخماس يوزعها قائد المعركة على المجاهدين، فمن كان له تأثير في الحرب كأصحاب الخيول فله حظان، ومن كان يقاتل على قدميه له حظ واحد.أما كون اليهودي في بلادنا أو نحن في بلاده، فلا يجوز لنا أن نأخذ ماله في السرقة والتلصص، فقد نعاقب من الله عز وجل، ونحرم حتى من النظر إلى الله. قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغُلَّ [آل عمران:161]، (يُغُلَّ) بضم الياء، وهي قراءة نافع وأهل المدينة، ومعناه: يحملون معه عليه الصلاة والسلام الغنيمة ويسرقون منها، أما هو صلى الله عليه وسلم فحاشاه أن يغل. فلهذا تركنا قراءة حفص : وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161].فالرجل الذي أخذ شملة احترق بها في نار جهنم، وهذا كان في معسكر النبي صلى الله عليه وسلم، رجل سرق شملة وهي حزام كحزام أهل اليمن على ظهورهم -كما تعرفون-، أعجبته إذاً سرقها فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في النار، فلما تألم من الجراحات في المعركة طعن نفسه حتى مات، فدخل النار. قال: [ويعلل الرب تعالى سلوكهم هذا بأنهم يقولون: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]].فبعض الناس يقول: الإباضي هذا كافر.. اكذب عليه، مع أن الإباضية عندنا أصدق الناس وأوفاهم، فلا يمكن أن يغشك أو يخدعك، وأكثرهم تجار، والعوام يقولون: هذا إباضي، وآخر يقول: هذا شيعي.. هذا نخولي ما يهم، كل هذه أباطيل وإملاءات الشياطين، وإلا سلكنا مسلك بني عمنا اليهود، فاليهود على الأقل قال لهم علماؤهم: هذا كتاب الله عندنا، أباح الله لنا أكل أموال غير اليهود؛ لأنهم نجس، لكن هل في المسلمين عالم يقول هذا؟! فهذا من إملاءات الشياطين على العوام.فلو قال قائل: الإباضية يأكلون أموال أهل السنة، فمنهم إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك، أما قنطار لا تسأل. وعلة هذا هو الجهل.. عدم المعرفة.. ما عرفوا الله حتى يحبوه.. ما عرفوا الله حتى يخافوه.. ما عرفوا ما عند الله يقيناً؛ حتى يطلبوه، ولا ما لديه من العذاب والنكال؛ حتى يخافوه ويرهبوه، علموهم.. فهذا هو الطريق. قال: [أي لا حرج علينا ولا إثم في أكل أموال العرب؛ لأنهم مشركون، فلا نؤاخذ بأكل أموالهم، وكذبهم الله تعالى في هذه الدعوى الباطلة، فقال تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75] أي: أنه كذب على الله، ولكن يكذبون؛ ليسوغوا كذبهم وخيانتهم ويجوزونها]. قال: [وفي الآية الثانية يقول تعالى: بَلَى [آل عمران:76] أي: ليس الأمر كما يدعون، بل عليهم الإثم والحرج والمؤاخذة، وإنما لا إثم ولا حرج ولا مؤاخذة على من أوفى بعهد الله، فآمن برسوله وبما جاء به، واتقى الشرك والمعاصي، فهذا الذي يحبه الله فلا يعذبه؛ لأنه عز وجل يحب المتقين]، اللهم اجعلنا منهم. فمن يرغب أن يكون من المتقين يجب أن يعرف محاب الله، ويسأل عنها ويتصفح الكتاب والسنة، ومن عرف أن الله يحب هذه الكلمة يقولها تملقاً لله، فالله يحب هذه الجلسة، فليجلسها كما يحبها الله، وهكذا.. وكذلك من يرغب أن يكون من المتقين يجب أن يعرف ما يكره الله حتى من النظرة المحرمة، ويجب عليه أن يتجنب مكاره الله، فلا يصبح إلا وهو ولي الله، يحبه ومن أحبه الله فلا يهينه ولا يذله. قال: [وأما الآية الأخيرة -الثالثة- فيتوعد الرب تعالى بأشد أنواع العقوبات، أولئك الذين يعاهدون ويخونون ويحلفون ويكذبون؛ من أجل حطام الدنيا ومتاعها القليل، فيقول: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ [آل عمران:77]] أي: لا حظ ولا نصيب لهم في نعيم الدار الآخرة، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [آل عمران:77]، أي: حتى لا يكون لهم الكلام تشريفاً وإكراماً.[أما تكليم الإهانة فجائز، قال تعالى: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، أما كلام التشريف والتبجيل والإكرام فلا يكلمهم، ولا يزكيهم بالثناء عليهم ولا بتطهيرهم من ذنوبهم، ولهم عذاب مؤلم في دار الشقاء، وهو عذاب دائم مقيم لا يفارق أبداً أهله؛ لأن الحياة استقرت]، أهل النعيم في نعيم أبداً، وأهل العذاب في عذاب أبداً، فلا يوجد إلا علو وسفل، جنة ونار، نعيم وشقاء، تبقى هكذا. قولوا: آمنا بالله، ومن أراد أن تتجلى له الحقيقة، هذه التي ما فارقتنا فليقم الآن فقط، ويجلس مجلسي وينظر إلينا فلن يجد اثنين كأنهما رجل واحد، ما هذا العلم؟ أنا والله! إني أعجب من هذا! لو يجتمع البشر كلهم يفرق الله بينهم في سماتهم وصفاتهم؛ حتى لا يختلط اثنان فلان يكون هذا أبداً، من فعل هذا؟ وما هذه القدرة؟ وما هذه العظمة؟ وما هذا العلم؟! فهذا هو الله رب العالمين.. يطلب إلينا أن نحبه ويحبنا، فكيف لا نعرفه؟ لا إله إلا الله!!
هداية الآيات
معاشر المستمعين! أعيد تلاوة الآيات، ثم نضع أيدينا على نتائجها وعبرها، وننظر هل فهمنا أم لا، يقول تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75] أي: والعصا في يدك، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا [آل عمران:75] اسمع الجهل والكذب: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75] . عياذاً بالله من الكذب على الله، فنحل ما حرم، ونحرم ما أحل، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى [آل عمران:75-76] أي: ليس الأمر كما زعموا وحلموا، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:76-77] موجع.قال: [من هداية الآيات: أولاً: يجب أن لا يغتر باليهود ولا يوثق فيهم؛ لما عرفوا به من الخيانة]. يجب علينا معشر المؤمنين والمؤمنات أن لا نثق في يهودي ولا نغتر بصلاحه ولا بأمانته؛ لأننا ما نميز بين هذا وذاك، ما دام من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا إذا حاصرته وعذبته، إذاً الآية تقول: لا تغتروا باليهود -وقد اغتررنا بهم-، فهم الذين حلقوا وجوهنا، وهم الذين نفخوا السوء والباطل في بيوتنا وامتلأت بالكذب والخيانة، وهم الذين نشروا الربا بيننا، وأخذناه وعملنا به، وهم الذين علمونا المراقص، ودور اللهو، والسينما والتمثيليات.فكل خبث في بلاد المسلمين هم اليهود الذين نشروه، وتلك مهمتهم، وهم عازمون على أن لا يبقى صلاح ولا صالحون في بلادنا؛ لأنهم يعرفون أن حلمهم لن يتحقق إلا إذا هبطت البشرية إلى مستوى الحيوان، وانتشر العهر، والزنا، واللواط، والربا، والخيانة، والكذب، والتكالب على الدنيا حينئذ يمكنهم أن يحكموا العالم ويسودوا البشرية، فكل أنواع الفساد في العالم.. في أوروبا، وفي أمريكا، وفي اليابان.. وفي الأرض كلها التي تهبط بالإنسان من آدميته إلى الحيوانية أصابع اليهود الماسونية هي التي تغرس وتحصد؛ لأنهم كيف سيحكمون العالم؟ وكيف سيوجدون مملكة بني إسرائيل من النيل إلى الفرات، إذا كانت البشرية واعية، بصيرة تفرق بين الحق والباطل، بين الطهر والخبث، بين الصدق والكذب. إذاً اعملوا على هبوط هذه البشرية. وأنتم تعرفون.. من المجلات إلى الأفلام إلى الدعارة ...إلخ، فكل ذلك من أجل أن تهبط البشرية إلى حضيض الحيوانات، وحينئذ يسوسونها ويركبون ظهورها.فمعنى الآية: إياكم أن تغتروا باليهود أو تثقوا بهم أبداً، وإن بدا لك نصحهم وإرشادهم فلا تثق بهم. [ثانياً: من كذب على الله أحرى به أن يكذب على الناس]، فالذي يكذب على الله يكذب على الناس، فكل من يكذب على الله، ويحل ويحرم ويشرع، فهو على الناس أكثر كذباً، لم يخف من الله، فكيف يخاف من الناس؟![من كذب على الله أحرى به أن يكذب على الناس فاجتنبوا الذين يكذبون على ربكم]. [ثالثاً: بيان اعتقاد اليهود في أن البشرية غير اليهود نجس، وأن أموالهم وأعراضهم مباحة لليهود حلال لهم؛ لأنهم المؤمنون في نظرهم وغيرهم الكفار]، هذه قد ما يصرحون بها، لكن لو تطلع على دروسهم وخلواتهم تجد هذا، فالبشر غيرهم كلهم نجس في اعتقادهم يجوز استباحة دماءهم وأموالهم. [رابعاً: إن عظم ذنب من يخون عهده من أجل المال وكذا من يحلف كاذباً؛ لأجل المال قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من حلف على يمين يستحق بها مالاً وهو فيها فاجر، لقي الله تعالى وهو عليه غضبان )، والأحاديث النبوية: ( لا إيمان لمن لا أمانة له )، (لا إيمان) يصدق صاحبه فيه وهو مؤمن وهو لا أمانة له]، فالذي يخون الأمانات لا إيمان له. لو آمن كيف يخون العهود والمواثيق والرسول يقول: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق: إذا واعد أخلف -والعياذ بالله-، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب )؟! وكم وكم من المصابين بهذه الفتنة يعدون ولا يفون، ويعاهدون ولا يوفون، ويكذبون ويتحدثون به.فعلى كل حال العلة هي الجهل، إن أردتم أن تستقيم أمتكم الإسلامية، فعلموها وعرفوها بربها حتى تعرف، فإذا عرفت أمكنكم تقويمها وإصلاحها، أما والجهل مخيم على قلوب النساء والرجال فهيهات هيهات أن يوجد بيننا ربانيون ونحن على هذه الوضعية. وصلى الله على نبينا محمد وآله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (21)
الحلقة (162)
تفسير سورة آل عمران (28)
من طبائع يهود أنهم إذا قرءوا آيات الله من التوراة يلوون ألسنتهم بها ليحسب السامع لها أنها من كتاب الله، وهم بذلك يريدون إضلال العامة، ويتعمدون الكذب على الله عز وجل، وقد بين الله عز وجل أنه إنما يريد من عباده أن يكونوا ربانيين بما عندهم من الكتاب الذي يتعلمونه ويعلمونه للناس.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة كسابقتها واللاحقة بها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) حقق اللهم! رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. نستذكر أولاً الآيات التي درسناها في الدرس الماضي.. هل بقي في أذهاننا شيء؟ وهل في قلوبنا من نورها نور؟نتلوها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75]، فمنا نحن -أيضاً- المسلمين من إن تأمنه بقنطار وليس بألف قنطار لرده إليك، فنحن أولى بهذا. ولكن يوجد من أهل الكتاب ممن عرفوا الله والطريق إليه هم كما أخبر تعالى عنهم: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75]، أي: والعصا في يدك، فلماذا هذا؟فالأول عرف، والثاني لم يعرف.. الأول آمن واستقام على منهج الحق، والثاني إيمانه دعوى باطلة ومعرفته كاذبة هذه حاله. ولا ننسى قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له )، والمؤمن بحق هو من إذا ائتمنته لم يخنك، وإذا عاهدته لم ينكث عهده، فكل هذا يعود إلى الإيمان الصحيح والمعرفة السليمة، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران:75]، فهذه فرية ودعوى نشرت فيهم وبينهم من قبل رؤسائهم المبطلين، فأصبحوا يفهمون أن أموال، وأعراض، ودماء غير اليهود مباح؛ لأن غير اليهود كفار أنجاس، وهم فقط المؤمنون الربانيون، فلهذا إذا استطاعوا أن يسلبوا مال أي إنسان أو يسفكوا دمه فلا حرج ولا يخافون من الله؛ لأن الله أذن لهم.قال تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75]، فهذه النزعة ما زالت إلى الآن يعيش عليها اليهود، ويتناقلونها ويعلمها الكبير الصغير. ثم قال تعالى: بَلَى [آل عمران:76] أي: ليس الأمر كما يزعمون ويدعون، مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76]، فأبطل ذلك الزعم نهائياً. ثم قال تعالى متوعداً: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77]، سواء كانوا من أهل الكتاب، أو من أهل القرآن، ( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ) ، فهذه هي التي رفعت مستوى المسلمين إلى أعلى مستوى عرفته البشرية، فلو تودع عند المسلم صناديق الذهب فلن يسلب منها ديناراً واحداً، فلو تأتمنه على أعز شيء فلو أن أحداً وضع -مثلاً- امرأته أمانة في بيته -أي: المسلم-، والله! ما نظر إليها ولا نالها بسوء. فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ [آل عمران:77] أي: يشترون ماذا؟ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77]، فكل أموال الدنيا قليلة بالنسبة إلى ما عند الله والدار الآخرة، أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ [آل عمران:77] أي: لا حظ ولا نصيب في الجنة، وما فيها من نعيم.وقوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [آل عمران:77]، أي: أن الله لا يكلمهم كلام التشريف والعزة والكمال، ولكن يكلمهم بالإهانة؛ قال تعالى: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108].وقوله تعالى: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:77] أي: لا يرون وجهه سبحانه، فهو محجوب عنهم، وَلا يُزَكِّيهِمْ [آل عمران:77]، أي: لا يثني عليهم في عرصات القيامة، ولا يطهرهم حتى في الإحراق في النار، وإدخالهم الجنة، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77] أي: موجع، وهو عذاب النار والعياذ بالله! ومن فوائد هذه الآيات:أولاً: يجب علينا معاشر المسلمين أن لا نغتر باليهود ولا نثق فيهم؛ لأنهم لا يفون بعهد وحسبهم أنهم يستبيحون أموالنا وأعراضنا. فالحذر الحذر، فإن تعاملنا معهم نكون يقظين وإلا أخذوا أموالنا. ثانياً: من كذب على الله أحرى أن يكذب على الناس. فالشخص الذي يكذب على الله، ويقول: قال الله وأحل الله، وحرم الله وهو كاذب، فهذا يكون كذب على الناس من باب أولى، وليس في أهل الكتاب أيما إنسان يكذب على الله لا تأمنه فإنه يكذب عليك من باب أولى، فالذي ما خاف الله ولا هابه وكذب عليه، فكيف لا يكذب على الناس؟! ثالثاً: بيان اعتقاد اليهود في أن البشرية غير اليهود نجس. والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، واليهود مشركون، والنصارى مشركون فهم نجس، لكن هم عكسوا القضية، وجعلوا البشرية أبيضها وأصفرها نجس، إلا ما كان من بني إسرائيل فإنهم أطهار أصفياء، مع أنهم أنجس الخلق في سلوكهم، فالشرك والاحتيال والمكر والخديعة والتكبر، وكل الأمراض مصبوبة عليهم وقالوا: لا. فالحمد لله أن فضحهم الله. رابعاً: عظم ذنب من يخون عهده من أجل المال.عظم وكبر ذنب عبد يخون عهده من أجل الدينار والدرهم، فالذي يحلف ويعاهد ثم يخون ذنبه عظيم، وكذلك من يحلف كاذباً لأجل أن يحقق مالاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة )، وقال له الرجل: ( يا رسول الله! وإن كان يسيراً؟ قال: ولو كان قضيباً من أراك ).فيا عباد الله! انتبهوا وارفعوا رءوسكم، فإياكم والحلف كذباً من أجل أن الحصول على مال قل أو كثر، فلا نبيع آخرتنا، ونمزق صلتنا بربنا؛ من أجل مال أغنانا الله عنه بالصبر، فلنجوع الليالي والأيام ولا نحلف بالباطل؛ لنأخذ مال الناس. فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد كان يضع الحجر على بطنه، ويعصبها بعصابة حتى يتمكن من المشي والصلاة من شدة الجوع، فهل حلف بالباطل أو كذب؟! وهذه الصديقة بنت الصديق امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبر في صدق، قالت: [ إن كانت إحدانا لتتحيض الحيضتين والثلاث في ثوب واحد ]، فلا مبرر؛ لأن نكذب ونخون ونحلف بالباطل من أجل أوساخ الدنيا، فأين الصبر؟ ولكننا ما عرفنا هذا ولا اجتمعنا عليه، فلو كشف عن حالنا لبانت عوراتنا. رابعاً: عظم من يخون عهده من أجل المال، وكذا من يحلف كاذباً؛ لأجل المال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ومن حلف على يمين يستحق بها مالاً وهو فيها فاجر ) أي: كاذب خارج عن نظام الحق ( لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ) . فهذا استذكار لدرس يوم أمس نفعنا الله به.
تفسير قوله تعالى: (وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب ...)
قال تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78]، فهذه طائفة أخرى من طوائف أهل الكتاب التي سبق بيانها، وهذه الطائفة كانوا يعيشون في المدينة ويضللون المسلمين، وإخوانهم من اليهود، فيوجد فريق منهم يلوون ألسنتهم وكأنه يقرأ التوراة، وليس من التوراة في شيء، فيحسبه السامع أن هذا من الكتاب، وما هو من الكتاب.فهذه طائفة من اليهود تقل أو تكثر فهذا وضعها، يضللون العوام ويدعون أنهم يقرءون من الكتاب، وألسنتهم تلو الكلمات وما هي من التوراة، بل من كذبهم.قال تعالى: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78]، فقد فضحهم الله وأزاح الستار عنهم، وقد ورث هذا الضلال من قومنا من المسلمين، ويذكرون أن الله قال: كذا وكذا للعوام، والله ما قال، وما هو في كتابه، ويذكرون أقوال علمائهم، وكأنها قرآن وما هي بقرآن. فيجب أن نتحاشى أن نقول على الله ما لم يقل، وألا نكذب على إخواننا، ونقول لهم: هذا كلام الله، أو هذا حديث رسول الله، أو هذه سنة نبي الله، وليست من السنة ولا من الكتاب، ولكن فقط؛ من أجل تضليل إخواننا ليبقوا راسخين تحت أقدامنا نسودهم ونتحكم بهم؛ لأنهم جهّال ما عرفوا الطريق.وما يفعله اليهود يفعله غيرهم؛ لأننا بشر والشيطان عدونا جميعاً، فلا عجب أن يقع فينا هذا الباطل الذي ندد الله به على اليهود، وقد وقع، فمروج البدع وخاصة الشركيات منها يأتون بالأباطيل والأكاذيب، وينسبونها إلى الكتاب والسنة، وهذا في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا [آل عمران:78] يقل أو يكثر يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [آل عمران:78] أي: كأنه يقرأ في التوراة، وكأن هذا كلام الله يجوده، لِتَحْسَبُوهُ [آل عمران:78] أنتم أيها المستمعون مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران:78]، أي: من التوراة أو الإنجيل أو القرآن، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:78]، فكذبهم الله العليم الخبير، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78] أي: يعلمون أنه كذب، لكن المصلحة.. المنفعة.. الحاجة.. المنصب.. المركز.. هو الذي يحملهم على هذا الكذب.فهذه طباع البشر إلا من طهره الله، والذين يطهرهم هم الذين رزقهم إيماناً ويقيناً، وزادهم بعد ذلك علماً ومعرفة، وزادهم توفيقاً، فهؤلاء هم المعصومون.قال تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] أي: أنعم عليهم:أولاً: نعمة الإيمان، وهي تطلب من الله عز وجل، وهبة الله وعطيته.ثانياً: نعمة معرفة الله معرفة يقينية، فتثمر لصاحبها حب الله والخوف منه.ثالثاً: معرفة محاب الله ومساخطه، أي: وما يكره من الاعتقادات والأقوال والأعمال.والنعم الرابعة: التوفيق، وفقهم لأن يقدموا له المحبوب ويبعدوا عنه المكروه، فقال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [مريم:58]، وقال أيضاً: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] فنعم الرفيق.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآية
قال: [ هداية الآية] لهذه الآية الكريمة هداية في ثلاثة أمور[ من هداية الآيات:أولاً: بيان مكر اليهود وتضليلهم للناس، وخداعهم لهم باسم الدين والعلم]. تجلت هذه الحقائق في هذه الآية، فهذا فريق منهم بينت الآية مكرهم وتضليلهم للناس، وخداعهم لهم باسم الدين والعلم.[ثانياً: جرأة اليهود على الكذب على الناس، وعلى الله تعالى مع علمهم بأنهم يكذبون، وهو قبح أشد وظلم أعظم]، ولكن كتب الله شقاوتهم، ولا نشك بأن علمهم مزيف، ومعرفتهم سطحية، وإيمانهم كلا إيمان؛ إذ لو عرفوا وآمنوا ما وقعوا في هذا البلاء؛ بدليل أن الذين عرفوا كـعبد الله بن سلام وغيره نجوا، وسموا وارتفعوا.فمعرفة سطحية تقليدية كقولنا: علمنا فلان، وعلمنا فلان، وقال فلان وفلان لا تنفع، ودليل ذلك قول الله تعالى فيهم: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ [النساء:162]، استثنى الله سبحانه وتعالى أهل الرسوخ في المعرفة، أما المعرفة السطحية التي لا تباشر القلب فلا تنفع، لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُون َ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُون َ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:162].إذاً: ما زلنا نقول: العلم إن لم يخالط بشاشة القلب، وينير النفس ويزكيها لا ينفع.[ثالثاً: التحذير للمسلم من سلوك اليهود؛ كالتضليل والقول على الله والرسول؛ لأجل الأغراض الدنيوية الفاسدة].
تفسير قوله تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ...)
وما زلنا مع طائفة من أهل الكتاب؛ لنحذر سلوكهم وننجو من هلكتهم التي وقعوا فيها؛ لأن هذه تعاليم ربنا لنا؛ لهدايتنا وإكمالنا وإسعادنا.يقول تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80] عجب هذا القرآن!
معنى قوله تعالى: (ما كان لبشرٍ أن يؤتيه الله الكتاب ...)
قوله: مَا كَانَ هذا النفي أبلغ من كلمة (لم يفعل)، (ما كان) أي: ليس من الممكن أو ما يتوقع أن يقع مثل هذا.لِبَشَرٍ أي: إنسان، فكلمة (بشر) اسم جنس كإنسان تحته أفراد بالبلايين، لكن نفي مطلق لا يتأتى هذا ولا ينبغي ولا يوجد، لِبَشَرٍ من البشر. أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ أي: ينزله عليه.ويؤتيه (الحكم) أي: الحكمة بمعنى الفقه في معرفة أسرار ذلك الكتاب، وهي هنا السنة؛ إذ السنة هي التي بها نفهم أسرار القرآن ومراد الله منه.والنبوة فوق ذلك، ينبئه، يكلمه تعالى بما شاء من وسائط، ويعلمه بالغيوب من عنده، فمثل هذا الشخص والله! ما يقول للناس: كونوا عباداً لي من دون الله.وهذا لا شك أن له سبب: فقد سمع يهودي من الرسول صلى الله عليه وسلم أمره ونهيه ودعوته، فقال: تريد أن نعبدك يا محمد؟ أتريد أن نتخذك رباً نطيعك في كل شيء؟ فأبطل الله هذه الفرية وأبعد هذه التهمة بعيداً، ووضعها في باب المستحيل، ولم يقع هذا، وفيها صفعة كبيرة للنصارى الذين ألهوا عيسى، وهو نبي الله أوحى إليه كتابه، وعلمه الكتاب والحكمة، واتخذوه رباً وإلهاً، فحاشى عيسى أن يرضى لأتباعه أن يعبدوه ويؤلهوه.وقد أراد مرة من أراد أن يسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب، ولم يرض أن يُسجد له كتحية كما يحيي بها الناس عظماءهم، وقال: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) ولكن لا يسجد إلا لله؛ لأن السجود مظهر من مظاهر الخنوع والخضوع، والذلة للمسجود له، والتعظيم له، فوضع الجبهة والأنف على التراب لم يقع هذا إلا لمن يُعظّم ويُبجل ويكبر، وهذا لا يكون إلا للخالق عز وجل.فهذه الآية نفت تلك الدعوة الباطلة، وضربت النصارى على وجوههم، وحاشا عيسى عليه السلام أن يقول لهم: اسجدوا لي، أو علقوني في أعناقكم وألهوني، وهو من هو، فقد أوحى الله إليه بالإنجيل، وعلمه التوراة وعلمه الحكمة، فكيف يرضى بأن يعبد مع الله؟! مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79]، فقد يصدر هذا الكلام من الذي لم يؤت العلم والحكمة، والسنة والمعرفة.. نعم عبدوهم، فيوجد حتى بين المسلمين من يسجد له ويفرح بذلك.
معنى قوله تعالى: (كونوا ربانيين ...)
هذه الشخصية الفريدة الممتازة بهذه العطايا الإلهية وهي: الكتاب، والحكم بمعنى الحكمة، والنبوة.. مثل هذا والله! لا يقول للناس: اعبدوني، أو كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن يقول لهم: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].فالذي أعطي هذا العطاء يقول لأتباعه وأوليائه وتلامذته: كونوا ربانيين. والرباني: المنسوب إلى الرب، أي كونوا عباد الله، ونسبهم إلى الرب عز وجل؛ وذلك لصلاحهم، وطهارتهم، وصفاء أرواحهم، ولعلمهم ومعرفتهم أصبحوا ربانيين، تتجلى فيهم حقيقة ربانية وهي نسبة إلى الرب عز وجل؛ إذ صفت نفوسهم وزكت أرواحهم، وعلموا وعرفوا وعلّموا.. فنعم هؤلاء ربانيون ويقال فيهم: ربيون أيضاً نسبة إلى الرب.يقال: فلان رباني. تتجلى فيه حقائق الربوبية، من ذلته لله ومسكنته ودعائه، والحب فيه والبغض فيه، والعمل له، بل والحياة كلها تدل على أنه مع الله ومن الله. كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بما كنتم تعلمون الكتاب.. التوراة، الإنجيل، الزبور، الفرقان، الكتاب. فالذين يعلمون الكتاب ويدرسونه ويعلمون أسراره وشرائعه وما فيه يقول لهم: من أوتي الكتاب والحكم والنبوة كونوا كذا وكذا، وهذا الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الناس، وهكذا كان عيسى مع الحواريين يعلمهم، وكان موسى، وكان كل الأنبياء، فحاشى نبياً من الأنبياء أن يقول لأتباعه: اعبدوني.. اتخذوني رباً.. اسجدوا لي.. سبحوا وقدسوا باسمي!فالعبادة حق الله عز وجل لا تعطى لسواه أبداً مهما كان هذا العبد.إذاً: قضى على تأليه اليهود لرهبانهم، وقضى على النصرانية التي حولوها إلى تكليف وشرك محض، فقال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ [آل عمران:79] يقول: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].ولا ننسى ما علمناه من: ( أن من علم وعمل بما علم، وعلّمه غيره دعي في السماء عظيماً )، فهؤلاء هم الربانيون الذين يتعلمون العلم لله؛ ليعرفوا الله ومحابه ومكارهه، وليعرفوا كيف يؤدون ذلك المحبوب، وكيف يبتعدون عن ذلك المكروه، ويتعلمون ثم يعملون بما علموا، فيحلون ما أحل الله، ويحرمون ما حرم الله، وينهضون بالتكاليف والواجبات، ويبتعدون عن المنهيات والمحرمات، ثم لا يكتفون بذلك حتى ينقلوا ذلك النور إلى غيرهم، فيعلمون سواهم؛ حتى يشاهدوهم يعبدون الله عز وجل بما شرع، فهؤلاء سمت درجاتهم وارتفعت حتى إنهم يدعون في الملكوت الأعلى بعظماء الرجال، وهذه هي الجائزة التي من فاز بها هنئه، فليس عظيم بين الناس فقط، بل في الملكوت الأعلى.. هؤلاء هم الربانيون المنسوبون إلى الرب؛ لأنهم آمنوا واستقاموا على طاعة الله بالعلم والمعرفة ونشروا الهدى، ونشروا المعروف بين الناس، فحق لهم أن يسودوا بهذا اللقب (عظماء الناس).
تفسير قوله تعالى: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً ...)
ثم قال تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ [آل عمران:80] أي: الرباني.. الإنسان الذي نزل عليه الكتاب، وأوتي الحكمة وأوتي النبوة، لا يقول لهم: اتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً.
معنى قوله تعالى: (ولا يأمركم...)
وَلا يَأْمُرَكُمْ [آل عمران:80] أي: هذا الإنسان من البشر الذي آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة: أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا [آل عمران:80] أي: آلهة من دون الله تعبدونهم.ومن هنا إشارة إلى أن من العرب وهم بنو لحيان كانوا يعبدون الملائكة، أي: قبيلة من قبائل العرب يقال لهم: بنو لحيان، كانوا يعبدون الملائكة؛ لأن الشيطان قال لهم: إن الملائكة بنات الله، فتوسلوا بهم إليه ليقضي حوائجكم، فيعطيكم سؤلكم، وزين لهم كيف الملائكة بنات الله؟ وتأصلت هذه العقيدة ورسخت في أذهان العرب فانتزعها القرآن بعشرات الآيات، فقالوا: إن الله تعالى أصهر إلى الجن. أي: تزوج جنية، فأنجبت له الملائكة، فهم يعبدونهم من أجل التقرب إلى الله بعبادتهم، كما فعل جهال المسلمين بعبادة الأولياء والصالحين؛ تقرباً إلى الله ليقضي حوائجهم.قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النحل:62]، فالعربي لشرفه وعلو قدره لو قيل له: اسمع، امرأتك ولدت الليلة بنتاً، يغضب ويكره، ويصبح ما يمشي بين الناس من الخجل؛ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:58-59]، فـعمر في الجاهلية ولدت له بنتاً فدفنها ودسها في التراب وهي حية.إذاً: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النحل:62] أي: الذي يكرهونه وهو البنت يجعلوها لله، وهم ما يقبلونها! فهذا هو الأدب مع الله؟! فالذي ما تقبله أنت تجعله لله؟!فأين يذهب بعقلك يا عبد الله؟!قال تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، البنت هذه كيف يجعلونها لله؟!الشاهد عندنا: في أن بنو لحيان كانوا يعبدون الملائكة، ولهذا قال تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ [آل عمران:80] أي: كعيسى وغيره من الأنبياء اتخذهم النصارى آلهة. أَرْبَابًا [آل عمران:80] الأرباب: جمع رب، وأصل الرب هو السيد المالك، والله هو السيد المالك، ولكن لما تاب وملك عبد ذُل له وأطيع، فلفظ (الرب) أولاً: لا يطلق إلا على الله بدون قيد، فيجوز أن تقول: رب البيت، ربة البيت، رب المنزل.. لكن لا تقول: الرب. فهذا اللفظ لا يصلح إلا لله، ولا رب إلا الله، لكن مع القيد لا بأس؛ لأنه السيد المالك، وفوق ذلك الخالق المدبر الرازق، وبذلك أصبح الإله الحق والمعبود الذي لا معبود بحق سواه.فالألوهية تأتي بعد الربوبية، من لم يكن رباً لا يصلح أن يكون إلهاً، فإذا كان خالقاً رازقاً مدبراً يملك كل شيء.. نعم يذل له كل مخلوق ويعبده ويطيعه، أما إذا لم يكن رباً فكيف سيكون إلهاً؟!فلهذا عاب عليهم عبادة الأصنام والأحجار والملائكة والبشر.. الملائكة مخلوقون والأنبياء مخلوقون، فكيف يعبدون مع الله ويؤلهون؟! وَلا يَأْمُرَكُمْ [آل عمران:80] أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، النبي الذي أنزل عليه الكتاب، أوتي الحكمة وأسرار الشرع، ومعرفة مراد الله عز وجل، ونبئ وكلمه الله في اليقظة والمنام: لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا [آل عمران:80].
معنى قوله تعالى: (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)
ثم قال تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ [آل عمران:80]، فالذي يقول لك: اسجد لي، وأطعني فيما آمرك به، كأن معناه قال لك: اعبدني.(أيأمركم بالكفر) فمن عبد الله كفر بالله، وإليكم صور:الذي يقول: يا رجال البلاد! يا سيدي عبد القادر ! يا فاطمة ! يا حسين ! يا رسول الله! المدد.. المدد.. الغوث.فهذا يكون إثم، فقد جحد الله، وإياك أن تجهل، فلو ما جحده لقال: يا الله! يا رب العالمين! يا رب فاطمة والحسين ! يا ولي المؤمنين! لكن غطاه وجحده، ثم قال: يا فلان.. يا فلان.قال تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80]، الكفر: أي جحود حق الله عز وجل، فمن جحد حق الله وأعطاه غيره وتركه إلى سواه، فهذا هو الكفر الحقيقي. صدق الله العظيم.أيأمركم يا عباد الله! هذا الذي نزل عليه الكتاب، وأوتي الحكمة والمعرفة وأسرار الشرع ونبئ، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون؟! فهذا لا يقع، وهذا الاستفهام للإنكار والتأديب والتوبيخ.فنعم. هذا (يأمركم) أي: يقول لكم: يا عباد الله! كونوا ربانيين.. تعلموا الكتاب والحكمة، واعملوا وعلموا؛ لتصبحوا منسوبين إلى الرب عز وجل، ويا لها من نسبة شرف!مصلح مربي.. ربان السفينة أصلها وقائدها.إذاً: هكذا يقول تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79] لا والله! وَلَكِنْ [آل عمران:79] يقول: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] نكون ربانيين: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] وتدرّسون، فكن ربانياً، وعلم الكتاب ودرسه وادرسه. وَلا يَأْمُرَكُمْ [آل عمران:80] أي: حاشى هذا النبي وهذا الولي أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً تعبدونهم بعبادة الله.وهذا الاستفهام للإنكار والتوبيخ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80]، أي: بعد ما أسلمتم قلوبكم ووجوهكم لله، وأصبحتم عباده يأمركم بالكفر؟! معاذ الله.إذاً: كل من أمرنا بأن نعبد غير الله بالدعاء، أو بالاستغاثة، أو بالذبح، أو بالحلف، أو بالنذر، أو بالطاعة في المعصية، معناه أنه أمرنا بالكفر ونحن مسلمون.وهذه الآية تتناولنا معشر المؤمنين! تناولاً حقيقياً، وهذا رسول الله بين أيدينا.ما كان لرسول الله ولا لغيره من أنبيائه أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس: اعبدوني؟! كونوا عباداً لي من دون الله؟! اسجدوا لي واركعوا؟! احلفوا بي وعظموني؟! لا. حاشاه.ولكن ماذا يقول لنا: كونوا ربانيين، فهيا نكن ربانيين بعلمنا للكتاب وتدريسه، فاجتماعنا على كتاب الله، وحفظه، وتعليمه، والعمل به هو الربانية الحقة.ولا يأمرنا أن نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً، أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيتين
قال: [معنى الآيتين:ما زال السياق في الرد على أهل الكتاب، وفي هذه الآية الرد على وفد نصارى نجران خاصة، وهم الذين يؤلهون المسيح عليه السلام. قال تعالى: ليس من شأن أي إنسان يعطيه الله الكتاب، أي: أن ينزل عليه كتاباً ويعطيه الحكم فيه وهو الفهم والفقه في أسراره، ويشرفه بالنبوة فيوحي إليه، ويجعله في زمرة أنبيائه، ثم هو يدعو الناس إلى عبادة نفسه فيقول للناس: كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79]؟ إن هذا ما كان، ولن يكون أبداً]. إي والله.[ولا مما هو متصور الوقوع أيضاً، فما لكم أنتم يا معشر النصارى تعتقدون هذا في المسيح عليه السلام؟ إن من أوتي مثل هذا الكمال لا يقول للناس: كونوا عباداً لي، ولكن يقول لهم: كونوا ربانيين تصلحون الناس، وتهدونهم إلى ربهم ليكملوا بطاعته ويسعدوا عليها، وذلك بتعليمهم الكتاب وتدريسه ودراسته].الحمد لله فنحن الآن ندرس الكتاب -أربع ليالي على الأقل- ونعلمه، ونالنا هذا الفضل، وأنتم ربانيون، فمعكم قال الله وقال رسوله، ما قال سيدي فلان. فالحمد لله.قال: [هذا معنى الآية. أما الآية الأخيرة فإن الله تعالى يخبر عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إنه لا يأمر الناس بعبادة غير ربه تعالى، سواء كان ذلك الغير ملكاً مكرماً أو نبياً مرسلاً، وينكر على من نسبوا ذلك إليه صلى الله عليه وسلم فيقول لهم: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80]، فهذا لا يصح منه ولا يصدر عنه بحال صلى الله عليه وسلم].وقد قلت: أرادوا أن يحيوه بالسجود، فقال: لا، بل قاموا له، قال: اقعدوا لا تقوموا لي، يخرج كالبدر ليلة القمر، فقد حاولوا أن يقوموا، فقال: لا تقوموا لي، فهذا الكمال المحمدي.
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات:أولاً: لم يكن من الممكن لمن آتاه الله الكتاب والحكمة وشرفه بالنبوة أن يدعو الناس لعبادة نفسه، فضلاً عن عبادة غير الله.ثانياً: سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم، والحكمة فيصلحونهم ويهدونهم] هؤلاء هم سادات الناس، ما هو سيد وهو يشرب الحشيش ويعلم السحر، فسادات الناس الربانيون الذين يربون البشر على حب الله وطاعته، والخوف منه والرهبة، ليكملوا بتلك الآداب ويسعدوا في الدنيا والآخرة، حقاً هؤلاء هم السادة.قال: [سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم ] الإلهي [ والحكمة ] الربانية [ فيصلحونهم ويهدونهم ] إلى سبل الكمال والسعادة في الحياة أيضاً.[ ثالثاً: عظماء الناس من يعلمون الناس الخير ويهدونهم إليه ] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من علم وعمل بما علم وعلمه غيره، دعي في السماء عظيماً )، وهذا مروي عن عيسى عليه السلام.[ رابعاً: السجود لغير الله تعالى كفر ] والله العظيم! السجود لغير الله تعالى كفر، وما زال من المسلمين من يسجد للشيخ، يطيح أمامه ويسجد [ السجود لغير الله تعالى كفر؛ لما ورد أن الآية نزلت رداً على من أرادوا أن يسجدوا للرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون [آل عمران:80]؟! ].فلا سجود إلا لله، ولا ركوع إلا لله، وبعض الإخوان ينحنون عن القوم. نقول: اعتدل وصافح، لماذا تنحني؟! تعلموا هذا في ديارهم، يأتي يصافحك ينحني! لا. صافحني وأنت مستقيم.نحن هذه وأولناها وقلنا: يا عسكري! قل: السلام عليكم؛ خشية أن تكون عبادة لغير الله، فكيف نركع ونسجد؟اللهم ثبتنا على منهج الحق وتوفنا عليه، إنك ولينا وولي المؤمنين.واغفر لنا ولإخواننا المسلمين، وارحمنا وإياهم أجمعين، وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (22)
الحلقة (163)
تفسير سورة آل عمران (29)
إن الأنبياء هم أفضل خلق الله سبحانه وتعالى وأصدقهم، وما يكون لمن هذا شأنه بعد أن شرفه الله عز وجل بالنبوة والرسالة أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه، فضلاً عن عبادة غيره، ومثل هذا الأمر من المحال، وما تصوره ولا ادعاه على أنبياء الله إلا اليهود والنصارى، وقد بين الله براءة أنبيائه من ذلك في كتابه العزيز.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الأربع تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:81-83].معاشر المستمعين والمستمعات! لا بأس أن نذكر أنفسنا بالآيتين اللتين درسناهما البارحة، والآيات صلتها قوية ببعضها البعض. قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79] لا، فحاشى وكلا، وَلَكِنْ [آل عمران:79] يقول لهم: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] أي: اعلموا واعملوا وعلّموا، تصبحون ربانيين، كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].فهذه بشرى لنا -والحمد لله- أننا ربانيون، فالذين يعلمون كلام الله لعباده ويدّرسونه ويدرسونه هم الربانيون، لكن لا ننسى أنهم يعلمون ويعملون ويعلّمون، ( من علم وعمل بما علم، وعلّمه غيره دعي في السماء عظيماً )، فمن يرغب في أن يكون من الربانيين؛ فليتعلم كتاب الله، وليعمل بما علمه فيه، ولينقله إلى غيره فيعلمه سواه، فهذا هو الرباني، فمثل هذا لا يرضى أن يسجد له الناس أو يركعوا وينحنوا له، أو يحلفون برأسه، أو يستغيثون به. فقوله تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ [آل عمران:79] أي: الفقه في الدين، وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79] فهيهات هيهات أن يقع هذا.فرد الله بهذا على اليهود والنصارى وعلى بدعهم، فقال لهم: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80] فحاشى وكلا.هذه فزنا بها، هي مع الآتيات من الآيات البينات.
تفسير قوله تعالى: (وإذا أخذ الله ميثاق النبيين...)
يقول تعالى مخاطباً رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران:81] أي: اذكر لطائفة اليهود والنصارى الوقت الذي أخذ الله فيه ميثاق النبيين، ما من نبي ينبئه الله ولا رسول يرسله الله إلا يأخذ عليه، وعلى أمته هذا العهد الموثق المضبوط بالالتزامات.وهو: إذا بعث الله نبياً أو أرسل رسولاً على ذلك النبي أو الرسول وعلى أمته أن يؤمنوا به ويصدقوه، وتورط اليهود والنصارى، أخذ الله هذا الميثاق على عيسى كما أخذه على موسى، وهم يدعون اتباع موسى وعيسى، وبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فكان الواجب الحتمي أن يؤمنوا به ويصدقوه، فعكسوا فكفروا به وكذبوه، فيا ويلهم من الخلود في العذاب الدائم.
معنى قوله تعالى: (وإذا أخذ الله ميثاق النبيين ...)
قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران:81] والميثاق هو: العهد الموثق بالأيمان لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمران:81] أي: مهما آتيتكم، وبلغ ذلك ما بلغ في العلم والمعرفة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ [آل عمران:81]؛ لأن الرسول إذا كان يكذب ما عند الأنبياء من قبله ما هو برسول، ساحر أو دجال؛ لأن دعوة الله واحدة، فهيهات هيهات أن يأتي رسول ويكذب بما جاء به موسى أو عيسى أو إبراهيم، فهذا كاذب؛ فكل رسول يبعث ويرسل يصدق من كان قبله، ومن عاصرهم ووجدهم آمن بما عندهم ولا يرد شيئاً أو يكذبه.إذاً: اذكر يا رسولنا لهؤلاء اليهود والنصارى من نجران وغيرهم إذ أخذ الله ميثاق النبيين، وهم مائة وأربع وعشرين ألف نبي، مهما آتيتكم من كتاب أيها الرسل والأنبياء، وآتيتكم من حكمة وفقه ومعرفة.
معنى قوله تعالى: (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم...)
قال تعالى: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ [آل عمران:81] أي: وتقفون إلى جنبه يبلغ دعوته، فهذا الميثاق أخذه الله على الأنبياء والرسل.ثم قوله: قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ [آل عمران:81] أي: الاستفهام تقريري، وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران:81] أي: عهدي وميثاقي قَالُوا أَقْرَرْنَا [آل عمران:81] أي: أقررنا بهذه القضية وسلمنا.قال إذاً: اشهدوا أيها الرسل والأنبياء على هذه القضية التي تعلقت بكم، والله معكم من الشاهدين، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]كيف يصح إذاً ليهودي أو نصراني يعرف هذا ويكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويكذب بما جاء به؟ كيف تبقى له صلة بالدين أو الإسلام أو العبادة؟!وهذا الله عز وجل يخبر عن نفسه ويقول لرسوله: اذكر هذا لليهود والنصارى المتبجحين بأنهم على الحق، وأنهم على الدين الصحيح، واذكر لهم هذا الميثاق، وهو قوله تعالى للنبي والرسول: إذا جاء رسول من رسلي أو نبي من أنبيائي، مهما كنت يا نبي، ويا رسول من العلم والمعرفة والكتاب والوحي، يجب أن تصدق بهذا الرسول وتنصره، ولا تقف ضده ولا تخذله؛ لأن دعوة الله واحدة هي: أن يعبد الله وحده عبادة تسعد أهلها في الدنيا والآخرة، وتنجيهم من الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة.فهل يصح لليهود أو النصارى أن يردوا على هذا؟!قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ [آل عمران:81] أي: مهما آتيتكم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمران:81] ما تعتزوا بذلك وتقولوا: لسنا في حاجة إلى موسى إن بعث أو محمد، فقال: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ [آل عمران:81]، فإن جاء الرسول يكذب فليس برسول الله، هذا رسول الشيطان؛ لأن الله واحد ودعوته واحدة، والمبلغون عنه أمرهم واحد.
معنى قوله تعالى: (لتؤمنن به ولتنصرنه...)
ثم قال تعالى: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ [آل عمران:81] واللام لام التوكيد للقسم، لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ [آل عمران:81] أي: ليس مجرد إيمان ويتركونه للأعداء، أو يقوم بالدعوة وحده وهم يضحكون، لا بد من الإيمان والنصرة، وأن تقفوا إلى جنبه حتى يبلغ رسالة ربه.
معنى قوله تعالى: (قال: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ...)
وقوله: قَالَ [آل عمران:81] أي: الله عز وجل لأولئك النبيين والرسل: أَأَقْرَرْتُمْ [آل عمران:81]؟ أي: بهذا الذي اعترفتم؟ قالوا: أقررنا وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران:81] وعهدي وميثاقي؟ قَالُوا أَقْرَرْنَا [آل عمران:81].إذاً: قَالَ فَاشْهَدُوا [آل عمران:81] قالوا: شهدنا، قال: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].
تفسير قوله تعالى: (فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)
فالآن لو يأتينا رسول أو نبي ويصدق ما عندنا، فلا نقف إلى جنبه ولا ننصره؛ لأن الله أغلق هذا الباب، وأعلمنا أنه ختمها بخاتم لا ينفض ولا ينقض، فمهما جاءنا رجل يدعي هذا نرد عليه أنه كذاب ودجال وليس برسول الله، لكن قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت الرسل والأنبياء تتوارد في البلد الواحد عشرات، يجب على كل نبي أن يؤمن بالنبي الذي قبله، أو الذي جاء بعده، وأن ينصره ولا يخذله في دعوته، لكن بعد أن ختم الله الرسالات بخاتم الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فكل من جاء يدعي النبوة وقال: أنا نبي أو رسول فهو ساحر ودجال يستتاب ثلاثة أيام أو يقتل.قال تعالى: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ [آل عمران:82] أي: أعرض عن هذا العهد ونقضه ونكثه، ولم يؤمن بمن جاء يحمل هداية الله ولم يقف إلى جنبه ناصراً له، هذا هو الفاسق الخارج عن أمر الله وطاعته، فمن تولى بعد ذلك العهد والميثاق الذي أُخذ عليه، والمراد بهم: الرسل وأتباعهم وأممهم فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:82] وإن كان الرسول -والنبي حاشاه أن يفسق-، ولكن من باب هذا الخطاب لأمته، ومن باب الفرض أيضاً ليفهموا لو كان نبياً وفسق عذابه معروف.
تفسير قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض...)
ثم قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].
سبب نزول الآية
هنا ذكر في سبب هذه الآية: أن كعب بن الأشرف اليهودي -عليه لعائن الله- تجادل مع النصارى من نجران أو من غيرهم، وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم، في أي الفريقين على ملة إبراهيم النصارى أو اليهود؟ فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن كلا الفريقين ليس على ملة إبراهيم، لا اليهود ولا النصارى، أي: كلا الفريقين بريء من ملة إبراهيم؛ لأن ملة إبراهيم هي التوحيد وهي أن يعبد الله بما شرع وحده، فكل من عبد بغير ما شرع الله فهو من المبطلين، وكل من عبد الله وأضاف إلى عبادة الله عبادة غيره فهو مشرك وليس على ملة إبراهيم، (( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))[النحل:120].إذاً فلما أعلمهم بالحق والواقع تبرءوا منه وقالوا: لن نؤمن بك. فقال تعالى: (( فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ))[آل عمران:82].
معنى قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون)
ثم قال تعالى موبخاً مؤدباً أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران:83] أي: كيف يطلبون ديناً غير دين الله، ويطلبون عبادة ما شرعها الله يعبدونه بها؟! فأين يذهب بعقولهم؟مع أنه أسلم لله من في السماوات ومن في الأرض، فلا يوجد كائن في الملكوت الأعلى أو الأسفل من الإنس والجان، والملائكة، والحيوان، والنباتات، والمخلوقات.. فكلها ذلت وخضعت لأمر الله يحكم بها ما يريد.والكافر ما أسلم وما خضع، يحييه الله متى شاء ويميته متى شاء، ويفقره متى شاء ويغنيه متى شاء، ويصححه ويمرضه، فهل يستطيع الكافر أن يخرج عن تدبير الله فيه؟!فكل الكائنات خاضعة مسلمة منقادة لله عز وجل، يحكم فيها بما يريد، ويدبرها كما يشاء، كيف يرغبون عن الإيمان بالله وعبادته وحده، وله أسلم من في السماوات والأرض؟وإذا قلنا: من في السماوات نذكر ذلك العالم الأقدس الأطهر وهم الملائكة الذين لا يحصي عددهم إلا الله، -وحسبنا- لما في الروضة سمعوا هزة ودوي، وقالوا: ما هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، ما عليها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد )، ذلك العالم الذي لا يعصي الله عز وجل، ولا يترك ذكره ولا لحظة، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، وعالم الجن خاضع لأمر الله، ينفذه فيك ما شاء، عالم الإنس كذلك، عالم الحيوان.. الكل أسلم، أي: انقاد وخضع لأحكام الله فيه وقضائه عليها.فالكافر أوجده الله، ويميته الله، ويعطيه ويمنعه الله ويعزه ويذله الله عز وجل، فما خرج عن تدبير الله وحكمه ولا لحظة.
معنى قوله تعالى: (وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً)
قال تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [آل عمران:83] أي: الملائكة والمؤمنون والمؤمنات أسلموا طوعاً، وأذعنوا لله وخضعوا لأمره، والكفار مكرهون على أن ينفذ الله أمره فيهم، هذا يعميه وهذا يبصره، وهذا يعطيه وهذا يمنعه، وهذا يميته وهذا يحييه.
معنى قوله تعالى: (وإليه يرجعون)
ثم قال تعالى: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83] أي: إلى الله المصير، ومن ثم يتم الجزاء، جزاء العدل الإلهي عز وجل، فلو كانوا يرجعون إلى غيره لهان الأمر، يمكنهم أن يعربدوا كما يشاءون ما هم راجعين إليه، اخرجوا عن طاعتي وافسقوا عن أمري؛ لأنكم لا تعودون إلي، ولكن المصير إلى الله عز وجل: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].قال تعالى: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83] أي: ليس باختيارهم، يرجعون رغم أنوفهم وحسب مراد الله منهم.أين يوجد الله الذين يرجعون إليه؟قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:67-69] جاء الرب عز وجل. وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:69-70].وانظر: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:71] أي: يساقون كما تساق الإبل والبهائم وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر:71] أي: زمرة بعد زمرة، وطائفة بعد أخرى حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:71] أي: كانت الأبواب مغلقة؛ حتى لا يخرج لهبها ولا تتلطف ولا تصاب ببرودة. حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُ مْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِي نَ [الزمر:71-72]. فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِي نَ [الزمر:72] أي: الذين رفضوا أن يسجدوا لله، ورفضوا أن يخضعوا لله، ورفضوا أن يسلموا لله أمره في عباده، فامتنعوا عن طاعته وعبادته.وغير الكافرين أين هم؟ قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73] أي: أبواب الجنة الثمانية وهي مفتوحة من قبل، وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]. سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر:73] وطهرتم فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر:73-74] أي: أرض الجنة فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:74-75].فاستقر أهل النعيم في نعيمهم وأهل العذاب في عذابهم، وانتهت الحياة بكاملها، وتمت حياة قائمة دائمة باقية ببقاء الله عز وجل إلى الأبد.موكبان أو مواكب صدر حكم الله: أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى [غافر:50]، وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71].إذاً: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِي نَ [الزمر:72].أهل الجنة: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر:73] كيف يتقون ربهم؟! فهل: كما نتقيه، نجعل بيننا وبين غضبه وقاية ما يغضب علينا، إذا قال: صوموا صمنا، وإذا قال: أفطروا أفطرنا، إذا قال: خذوا أخذنا، وإذا قال: هاتوا أعطينا، بهذا يتقى الله عز وجل.ولكن معاشر المستمعين والمستمعات! لا ننسى أنه لا بد من معرفة كيف نتقي الله وبم نتقيه؟فهيهات هيهات أن يتقي الله عبد وهو ما عرف ما يحب الله ولا ما يكره، وهيهات هيهات أن تتقي الله امرأة وهي لا تعرف ما يحب الله ولا ما يكره، ولا تعرف كيف تؤدي ذلك المحبوب له، وكيف تقدمه على الصورة التي يحبها وهي التي شرعها، وبينها في كتابه وعلى لسان رسوله.فاليهود والنصارى أعرضوا عن دعوة الله، وحملهم على ذلك الكبر -والعياذ بالله- والطمع وأوساخ الدنيا، فضلوا وأضلوا أمماً وأجيالاً تعيش إلى جهنم. فالحمد لله الذي نجانا من هذه الفتنة.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال: [معنى الآيات: ما زال السياق] أي سياق الآيات [ في الرد] على من؟ [ على نصارى نجران، فيقول تعالى لرسوله: اذكر لهم -يا نبينا- ما أخذ الله على النبيين وأممهم من ميثاق ] وهذا الميثاق هو [ أنه مهما آتاهم من كتاب وحكمة ثم جاءهم رسول مصدق لما معهم من النور والهدى ليؤمنن به ولينصرنه على أعداءه ومناؤيه من أهل الكفر، وأنه تعالى قررهم فأقروا واعترفوا ثم استشدهم على ذلك فشهدوا وشهد تعالى أيضاً ] سبحان الله! كيف اليهودي أو النصراني يسمع بهذا ويفهم كما فهمنا ويبيت كافراً؟ أمراً عجب [ فقال: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] ثم أكد تعالى ذلك مرة أخرى بأن من يعرض عن هذا الميثاق ولم يف به يعتبر فاسقاً ويلقى جزاء الفاسقين ]. فجزاء الفاسقين الهون والدون، والشقاء والبلاء في دار الخلد التي لا تطلب الفناء، أي: عذاب أبدي.[ قال تعالى: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ [آل عمران:82] -أي: لا غيرهم- الْفَاسِقُونَ [آل عمران:82] ].قال: [ وقد نقض هذا الميثاق ] وحلوا ما أبرم فيه [ كل من اليهود والنصارى ]، فاليوم وقبل اليوم نقضوا، [ إذ لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وقد أُخذ عليهم الميثاق بالإيمان به، وبنصره، فكفروا به، وخذلوه ] بل وحاربوه [ فكانوا بذلك الفاسقين المستوجبين لعذاب الله تعالى ] في الدنيا والآخرة.قال: [ ثم وبخ تعالى أهل الكتاب قائلاً: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران:83] ] فالهمز هنا للتوبيخ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران:83] يبغون: أي الإسلام.[ أي يطلبون، ولله أسلم، أي: انقاد وخضع من في السموات من الملائكة والأرض من سائر المخلوقات الأرضية طوعاً أو كرهاً، أي: طائعين أو مكرهين وفوق هذا أنكم ترجعون إليه فيحاسبكم، ويجزيكم بأعمالكم.هذا ما تضمنته الآية الأخيرة، إذ قال تعالى : أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران:83]] هذا الاستفهام توبيخ وإنكار عليهم غير دين الله يطلبون. وَلَهُ [آل عمران:83] أي: لله أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:83] وأنتم لا تسلمون؟ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83].
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات:أولاً: بيان سنة الله تعالى في الأنبياء السابقين، وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً].مثلاً: ما كان من هارون مع موسى؟ وهل خذل موسى هارون أو هارون خذل موسى؟ لا والله.وما كان من إسماعيل وإسحاق ويعقوب مع بعضهم البعض في عصر واحد، هل كذّب أحدهم الآخر أو خذله أو وقف ضده، أو قال: لا تصدقوا فلان؟ الجواب: لا.وداود وسليمان نبيان رسولان فهل خذل أحدهما الآخر أو كذب أحدهما بالآخر؟ الجواب: لا. والله أبداً، بل كانا مسلمين مصدقين لبعضهم البعض.وزكريا ويحيى وعيسى مع بعضهم البعض هل كذب أحدهم الآخر؟ لا. شأنهم شأن العلماء في أمة الإسلام، فهل كذب أبو حنيفة مالكاً وقال: لا تأخذوا برأيه؟ لا والله.وهل كذب مالكاً الشافعي ؟ وهل كذب أحمد الشافعي أو مالك ؟ الجواب: لا؛ لأن أمرهم واحد: الإسلام لله عز وجل، وإلى الآن العلماء بحق، العارفين لا يكذب بعضهم بعضاً ولا يخذل بعضهم بعضاً، والله! ما كان، بل ينصر بعضهم بعضاً ويصدق بعضهم بعضاً، ومن جاء بالتدجيل والباطل والكذب فهو مرفوض ومرمي به بعيداً ولا يقبل، فإذا جاء الآن -كما قلت- من يدعي النبوة يقتل، وقد ادعاه ثلاثون رجلاً فلم تقبل منهم قتلوا.. يستتابوا ثلاثة أيام إما أن يتوب ويرجع ويقول: لست برسول ولا نبي وإلا يقتل.آخر واحد منهم جاءنا في البيت في القرن الخامس عشر كنا مع طالب في البيت فقال: أنا نبي الله! فقلت: أنت نبي الله؟! قال: نعم، آمنوا بي. قلنا له: كيف؟ اتق الله، قد ختم الله النبوة. فقال: ليس الأمر لكم، أنا على علم، أنا نبأني الله، أنا نبي.. اتبعوني.جاء: السلام عليكم. يا عبد الله! وعصاه في يده، هذا الشاب جاء من القصيم.. أو من الجنوب، يدعي أنه نبي، قال: وأنت نبي؟ قال: نعم، وانهال عليه بالعصا، اضرب.. اضرب حتى صرخ، أنا كاذب لست بنبي، هذا في في حارة السحمان.وهذا كان قبل ثلاث أو أربع سنين.وهكذا ادعى النبوة بعد نبينا ثلاثون رجلاً، الآن واحد وثلاثين، لكن يفضحون منهم من يقتل ومنهم من الضرب فقط يؤدبوه ويسكت.لكن قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ما ظهر نبي نبأه الله إلا وآمن به من كان قبله، ورحب به وأهل وسهل ووقف إلى جنبه؛ لأنه المبلغ عن الله عز وجل الرسالة، وهي أن يعبد الله بالأمر والنهي؛ من أجل أن يكمل الناس ويسعدوا في الدنيا والآخرة.فالعباد ت من الوضوء، ومن الطهارة، إلى الجهاد والرباط ما خرجت عن كونه نظاماً إلهياً لإسعاد البشرية وإنجائها، فما من شريعة شرعها الله إلا وهي تؤدي هذا الغرض السامي، أن يسعد الناس ويطهروا ويكملوا في الدنيا ويكملون ويسعدون في الدار الآخرة في جنات النعيم، فهي دعوة واحدة، وملة واحدة، فمن جاء بنبوة قال الأنبياء: مرحباً، إن خالفهم أو عارضهم كذاب، دجال، ساحر.. يضربونه.فالآن نحن في المدينة لو يجيء عالم يدعي العلم أو كذا ننظر، إذا خرج عن منهج كتاب الله ورسوله فهو ساحر أو دجال، إن وافق ما في كتاب الله وسنة الرسول قدرناه وأجللناه وكبرناه، ووقفنا إلى جنبه، فهذه هي دعوة الله.وصل الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (23)
الحلقة (164)
تفسير سورة آل عمران (3)
أنزل الله عز وجل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله أو بسورة أو آية، وهم إلى اليوم عاجزون عن ذلك، وسيستمر عجزهم إلى قيام الساعة، فالقرآن كلام الله منه المحكم ومنه المتشابه، والمؤمنون القانتون يتبعون المحكم منه ويتركون أمر المتشابة لله، وأما الذين زاغت قلوبهم فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة لعباد الله المؤمنين.
تفسير قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات .... )
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، فهنيئاً لكم معشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث من سورة آل عمران عليهم السلام، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:7-9].وقبل أن نشرع في تدارس هذه الآيات أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن نيفاً وثمانين آية من هذه السورة نزل في وفد نجران، نجران تقع في جنوب المملكة، وكان فيها نصارى، وجاءت النصرانية من الشام وتوغلت هناك وظهرت، فلما رغبوا في محاجتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوا وفداً منهم مكوناًمن ستين فارساً، وجادلوا وهزموا شر هزيمة!لقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة فرغبوا، فما إن شاهدوا رسول الله وقد خرج كأنه البدر وإلى جنبه الحسن والحسين ووراءه علي وفاطمة -وهؤلاء أهل البيت- حتى انهاروا وقال رئيسهم: لو باهلتم هذا لم تبق فيكم عين تطرف، ورضوا بالجزية يدفعونها وعادوا إلى ديارهم. إذاً: قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7] تقرير لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقرير لألوهية الله العليم الحكيم الحي القيوم.
عظمة القرآن الكريم وتحدي الله للإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله
قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7] هو لا غيره ( الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) الفخم، العظيم، الجليل. إي والله، الله لا أفخم من القرآن ولا أجل ولا أعظم منه، ومن أراد أن يقول: كيف؟ فقد تحدى الله به الإنس والجن إلى اليوم على أن يأتوا بمثله فلم يأتوا بمثله، وتحدى العرب، وهم أرباب الفصاحة والبيان؛ على أن يأتوا بعشر سور من مثله فوالله ما استطاعوا، ثم تحداهم بعد فترة بسورة واحدة فما استطاعوا، وأعلمهم أنهم لن يستطيعوا، فأيأسهم، ولنقرأ لذلك قوله تعالى في أوائل سورة البقرة: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24]. هل فهمتم: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، هذه اللام الزمخشرية. ومن باب البيان والشرح والتفسير للأبناء والإخوان على عادتنا نقول: لن يستطيع أحد أن يقول: وَلَنْ تَفْعَلُوا إلا الله، فهو الذي يملك القلوب والوجوه، وبيده زمام كل الحياة.ونقول: في اليابان الصناعة تفوقت، فهل تستطيع أن تنتج آلة من الآلات الصناعية وتقول: أتحدى البشرية لمدة خمسين سنة أن يوجدوا مثلها؟ هل يمكن أن يقول أهل اليابان هذا ؟ لا يمكن. لما ما قالوا وتبجحوا فهل تستطيع أمريكا أو ألمانيا أو البلاشفة الحمر من الشيوعية أن يتحدوا العالم في إحداث صناعة من الصناعات؟ لا يستطيعون؛ لأنهم لا يدرون متى ينتج غيرهم ذلك ويتحداهم، أما الله جل جلاله وعظم سلطانه وهو الحي القيوم فقال لهم: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]. وهل فعلوا؟ مرت ألف وأربعمائة سنة وخمسة عشر عاماً واستطاع العرب أن يأتوا بسورة كسور القرآن؟ كتبوا وألفوا عشرات بل مئات المصنفات، فأين هي من كلام الله رب العالمين؟! لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
معنى الآيات المحكمات
قال تعالى: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آل عمران:7]. أي: من هذا الكتاب العظيم الجليل آيات محكمات، لا خلل فيها أبداً، ولا يتطرق إليها الضعف ولا النقص ولا الخلل بحال، فهي محكمة متقنة، ظاهرة المعنى، بينة الدلالة، ليس فيها أبداً من الشبه ما يصرف الناس عنها، محكمة، متقنة. ومعنى محكمة بالمعنى الذي يراد هنا: أنها ظاهرة المعنى بينة الدلالة لا تلتبس على ذي عقل أو ذي فهم من البشر.إذاً: هُنَّ [آل عمران:7]، أي: تلك الآيات المحكمات، أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، تعرفون الأم أم لا؟ أم الأولاد من بنين وبنات منها انحدروا ووجدوا، فهذه الآيات المحكمات كل الأحكام الشرعية في بيان العقيدة، وفي بيان الحلال، الحرم، والآداب، والأخلاق، والسياسية، والمال، والاقتصاد، والحرب والسلم، كلها متولدة عنها، كما أن الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] هي أيضاً أم الكتاب، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، والسبع المثاني: هي الآيات السبع، سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم القرآن، وأم الكتاب، ومعلوم عندنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فلا صلاة له )، وقوله: ( من لم يقرأ بأم الكتاب فصلاته خداج خداج خداج ). لم؟ لأن الفاتحة اشتملت على العقائد، أسماء الله وصفاته، وربوبيته وألوهيته، اشتملت على البعث والدار الآخرة في كلمة يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، واشتملت على أنواع العبادات والقرب على تنوعها واختلافها، كما اشتملت على قصص وأحداث العالم إذا قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، فهي حقاً أم الكتاب وفاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني.
معنى الآيات المتشابهات
قال الله: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]: ( هُنَّ ). أي: تلك الآيات المحكمة، (أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ) أي: وآيات أخر مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]. ومعنى التشابه فيها: أنه لا يظهر للسامع أو للقارئ معناها؛ لوجود التشابه؛ من باب الامتحان والاختبار والابتلاء، ومن باب أن نعرف أننا عجزة ضعفاء، فلو لا أن الله أقوانا على فهم الكتاب والله ما فهمناه! ولولا أنه علمنا والله ما علمنا، فمن نحن؟ آيات متشابهة يعجز العقل البشري عن إدراك معناها، وفهم مراد الله تعالى منها، ولو كان العرب مثلنا لهان الأمر، ولكنهم كانوا أرباب البيان واللسان، ويقفون عند هذه الآيات المتشابهة فيطأطئون رءوسهم.ومن الآيات المتشابهات: الحروف المقطعة في فواتح السور: الم [آل عمران:1]؟ الله أعلم بمراده، طسم [الشعراء:1]، الله أعلم بمراده، كهيعص [مريم:1]، الله أعلم بمراده به، فهذا من المتشابه، وأهل العلم والبصيرة وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، فالمحكم والمتشابه أنزلهما الله في كتابه على رسوله، والكل من عند الله، فكون عقولنا قصرت وما استطاعت أن تدرك فهذا ليس عيباً في الكلام الإلهي، بل هذا آية عجزنا وضعفنا عن فهم كلام ربنا عز وجل.يأجوج ومأجوج كيف تتصور أولئك القوم؟ كيف تدرك ماهيتهم؟ الله يخبرنا فيقول: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ [الأنبياء:96-97].. الآيات.من يأجوج ومأجوج؟ كيف؟ سلم الأمر لله، فهذه الآية ليست كآية: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].نزول عيسى عليه السلام: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:61]، هذا عيسى بن مريم، علامة على قرب الساعة. كيف ينزل؟ كيف أخذ؟ كيف رفع؟ قل: آمنت بالله وسلمت.ما معنى قوله تعالى في عيسى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171] ؟ قل: آمنت بالله. وهذا شأن أهل العلم، قال تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وقال تعالى: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]، اللهم اجعلنا منهم.
التحذير من الزيغ واتباع المتشابه من الآيات
قال الله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، أتدرون ما الزيغ هذا؟! يقال: زاغ يزيغ الثعلب؛ إذا مال، وزاغ البصر؛ إذا مال، فالزيغ: هو الميل، والقلب إذا زاغ مال عن الحق.إذاً: الزيغ: هو الميل، ميل إلى الشهوات والأهواء، وميل إلى الدنيا وما تحويه من هذه الملذات الفانية، فأصحاب القلوب المائلة الزائغة عن الحق يبحثون عن الآيات المتشابهة، ويأخذون في تأويلها؛ لإبطال الحق، ولتشتيت وتفريق جماعة المؤمنين، وقد حذر منهم أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فقال: ( إذا رأيتم الذين يبتغون المتشابه فأولئك الذين سماهم الله؛ فحذروهم! ).وهنا أذكر صورة توضح لكم أكثر: النصارى لما قيل لهم: كيف تؤلهون الله وهو الإله الواحد الأحد؟ قالوا: في كتابكم في القرآن يقول عز وجل: فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم:12]، وهذا الضمير يعود إلى متعدد ولا يعود إلى واحد.وقالوا: أيضاً قوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ [النحل:40]، قالوا: هذه النون نون الجماعة. هذا المتمسك عندهم، وهو والله لأوهى من خيط العنكبوت.فقلنا لهم: هذه لغة القرآن، لغة العرب، إذا كان المتكلم ذا جناب عظيم وسلطان قاهر وقدرة باهرة يتكلم بصيغة الجمع، وأنتم رؤساءكم إذا تكلموا يتكلمون كذلك: نحن فعلنا، نحن نفعل، نحن الذي قررنا هذا، هذا نظام دولتنا، فهذه شبهة لا تزن جناح بعوضة، فالذي قرره وحدانيته وقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، هو الذي تكلم بهذا الكلام؛ ليعلمنا بعظمته وجلاله، وأن الملكوت كله بيده، يحيي ويميت، يعطي ويمنع، يرفع ويضع، يبسط ويقبض، فهو يتكلم بصفة التعظيم، فالذين يريدون أن يتمسكوا بالباطل؛ ليستمروا على باطلهم وعلى أوساخهم وفهومهم السقيمة هم الذين يبحثون عن كذا آية من المتشابهات ويتشبثون بها، مع أن المتشابهات آيات جزئية ولا تمثل واحد إلى مائة من الكتاب الكريم، فأكثر الآيات من المحكم.إذاً: إذا رأيتم الذين يتتبعون هذا المتشابه فاحذروهم، فإنهم الذين سماهم الله، فقال عنهم: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]، أي: من القرآن ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7]، وطلباً لها.يفتنون من؟ يفتنون المسلمين عن دينهم، ويبعدونهم عن رحمة ربهم؛ ليصبحوا أمثالهم هابطين لاصقين بالأرض وأوساخ البشرية، ويؤلهون الأصنام والأحجار ويعلقون الصلبان. الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، القرآن كله دار على هذه المحكمات؛ إذ فيها بيان الحلال والحرام، بيان ما ينجي ويسعد، بيان ما يشقي ويؤذي، بيان ما يعز ويذل وَأُخَرُ [آل عمران:7]، آيات أخرى متشابهات، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7] والزيغ: الميل من الحق إلى الباطل، ومن المعروف إلى المنكر، ومن الخير إلى الشر؛ اتباعاً للشهوات والأهواء، نسأل الله أن يطهر قلوبنا.ويروى: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أيام الردة التي أعلنها العرب على عهده كان يصلي المغرب بقصار المفصل، وفي الركعة الأخيرة يقرأ بهذه الآية: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].
معنى قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله)
قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، أي: لا يعلم ما يئول إليه الأمر إلا الله عز وجل، ومن عقيدة أهل الإيمان: أن الشقي منا كالسعيد قد مضى حكم الله فيه، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، فهل يستطيع أحدنا أن يقول: فلان من أهل الجنة، أو فلان من أهل النار؟الجواب: لا. من يستطيع؟! مؤمنون تمام الإيمان بأن السعيد من كتبت سعادته، والشقي من كتبت شقاوته في كتاب المقادير، ومع هذا لا نستطيع أن نقول: فلان من أهل النار أو فلان من أهل الجنة، إذ هذا متشابه علينا لا يعلمه إلا الله، وكل ما في الأمر: إذا بشر الله على لسان رسوله بأن فلاناً من أهل الجنة يجب أن نرددها وأن نقول وراءه وهي الحق، ثم إلى جانب ذلك علمنا وهو من علم الله، أن من كتب الله سعادته وإن زلت قدمه، وإن زاغ قلبه فإن أمره سيئول ويرجع إلى أن يستقيم قلبه ويوحد ربه ويعبده بعبادة تدخله الجنة، وأن من كتب الله شقاوته فسوف يعمل ولابد وأن يأتي يوم يزيغ قلبه، ويكفر بربه، ويخرج عن طاعته، ليدخل النار بموجب عمله؛ لأن الله حكم وهو العدل، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. يا معشر المستمعين والمستمعات! هذا حكم الله الصادر علينا، هل بلغكم؟ هذا حكم الله قد صدر، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، أن من زكى نفسه بالإيمان وصالح الأعمال أفلح، فاز، نجا من النار ودخل الجنة، وأن من دسى نفسه وخبثها ولوثها ووضع عليها أطنان الذنوب والآثام فتدست فهو من أهل الخسران، أهل الخيبة والعياذ بالله، خاب من دخول الجنة واستقر في عالم الشقاء النار، ونحن نعرف هذا ولكن لا نجزم أبداً بأن فلان من أهل الجنة أو فلان من أهل النار؛ لقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، جل جلاله، وعظم سلطانه، أي: ما يئول إليه الأمر، أو ما هو المراد لله منه، هو وحده، لا ننسى ما قال أهل العلم عند الآيات المتشابهة كفواتح السور: الله أعلم بمراده به. تسلم، لأنك لا تستطيع أن تفهم، عاجز، ولولا أن الله علمنا والله ما علمنا، فاستأثر تعالى بهذه الآيات المتشابهة امتحاناً لنا: أنسلم له أو لا؟ فمن سلم سلم، ومن آمن أمن، ومن حاول أن يتعالى ويقول ما ليس له علم تعرض لغضب الله وسخطه.
أوصاف الراسخين في العلم
أهل العلم بالقراءات والتفسير قالوا: إن الوقف هنا وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] لابد منه، ويضعون عليها حرف الميم، وهو يعني الوقف اللازم.قالوا: ثم نستأنف كلاماً آخر ونقول: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، فلا تعطف والراسخون فتقول: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)، إياك! بل قف عند قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، واستأنف كلاماً جديداً، فقل: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7]. من هم الراسخون في العلم؟ رسخ الشيء يرسخ رسوخاً إذا ثبت، إذا تقرر، ما بقي له أن يتزحزح أو يتبدل أو يتغير أبداً، هذا هو الرسوخ.وورد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الراسخ بالعلم فقال: ( الراسخ في العلم من برت يمينه ). ما معنى: (برت يمينه)؟ أي: لا يحلف بالكذب، فيمينه دائماً صادقة، ( وصدق لسانه )، فلا يقول غير الصدق والحق أبداً ( واستقام قلبه )، فلا يميل يميناً ولا شمالاً. هذا هو الراسخ في العلم، ولن نكون راسخين في العلم، إذا توفرت لنا هذه:أولاً: أن تكون أيماننا بارة، صادقة، ولا يقوى على هذا إلا من علم.ثانياً: أن تكون ألسنتا صادقة لا تقول الكذب أبداً؛ وذلك للعلم الراسخ في نفوسنا.ثالثاً: أن تكون قلوبنا مستقيمة، تنهج صراط الله المستقيم، لا تميل إلى يهودية ولا نصرانية، ولا شرك ولا باطل. هؤلاء هم الراسخون في العلم، أصحاب الأيمان البارة، والألسن الصادقة، والقلوب المستقيمة. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أنا من الراسخين في العلم. إي والله! إنه لمن الراسخين في العلم، حبر هذه الأمة من الراسخين في العلم، ولكن لا يعلم المتشابه ولا يقول فيه كذا وكذا، فالراسخون في العلم موقفهم دائماً وأبداً: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]. (كُلٌّ)، أي: من المتشابه والمحكم، (مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا): هو الذي أنزله على رسولنا في كتابه القرآن العظيم المحفوظ في صدورنا والمكتوب في سطورنا، وهذا هو المنهج الرباني السليم.
تفسير قوله تعالى: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا... )
قال تعالى: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]. هذا تعليم الله، الله عز وجل أرشدنا إلى ما نقول إذا اضطربت النفس وتحير القلب، وهذا هو السؤال، اسأل الله، افزع إلى الله: رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني! يستجيب لك.
استحباب طلب الهداية والاستعاذة من الفتن
روى مسلم عن الصديقة عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا استيقظ من الليل قال: لا إله إلا أنت سبحانك، أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة؛ إنك أنت الوهاب )، فيا ليتنا نحفظ هذا ونقوم به، هيا عبد الله! اكتبها سجلها جربها الليلة، لما أنت تستيقظ قل: ( لا إله إلا أنت سبحانك، أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك، اللهم لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )، فصاحب هذه الدعوة لا يخيب! فتوسل إلى الله بهذه الجملة: ( وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) لا غيرك!وقد بلغنا هذا العلم، وحاولت، وكنت إذا استيقظت يرتبك لساني فحاولت مرتين وثلاث مرات حتى رسخ، وأنبه لهذا قد تستيقظ وتحاول فتنساها، فلا تقل: نتركها، بل راجعها من اليوم الثاني، حتى تستقر ويكون هذا وردك إذا قمت من الليل، وهو في راية مسلم عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )، والله لجمعت خير الدنيا والآخرة ما تركت شيئاً تحتاج إليه، أبداً، لما تقول: ( لا إله إلا أنت )، هذه كلمة التوحيد بها تدخل الجنة، لا إله إلا الله ( من مات وآخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة )، وإن زنا وإن سرق، فهذا الختم، قد يعاقب فيعذب بالنار، ولكن مصيره الأخير هو الجنة دار السلام.
حكم الحج والعمرة عن تارك الصلاة
هنا أعطيكم هذه اللطيفة: يأتيك الرجل ويقول لك: يا شيخ! أبي مات وهو لا يصلي فأحج عنه أو لا؟ أعتمر عنه أو لا ؟ ويأتي آخر ويقول: آه! أمي ماتت وهي تعبد عبد القادر الجيلاني أنحج عنها ونعتمر أو لا؟ كيف المخرج؟ الذي فتح الله به علي أن أقول: إذا كان على سرير الموت ولقنتموه الشهادة فكان آخر ما قال: لا إله إلا الله ومات عليها، نقول: نعم! حج عن أبيك واعتمر، وإذا مات على السرير وهو يغني وا ليلاه، ويتكلم عن البقلاوة والحلاوة فهذا لا ينفع، ولا تحج ولا تعتمر عنه، فهذا هو المرمى الأخير، من وفق إلى قول: أشهد أن لا إله إلا الله ثم فاضت روحه فهو من أهل الجنة، وذلك لما أخبر به الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من مات وآخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة )، فهل عرف المسلمون هذا؟ بعضهم عرف ولا يبالي؛ لأنه من الهابطين، نزل من علياء السماء على الأرض، وبعضهم ما عرفوا.
مشروعية تلقين المحتضر لا إله إلا الله
لو عرفنا هذا لوظفنا في المستشفيات علماء وظيفتهم لما يشاهدون المريض يعاني من سكرات الموت يجلس أحدهم إلى جنبه ويقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله؛ فإن قال المريض: لا إله إلا الله، سكت عنه، ثم إذا أعاد المريض وتكلم بكلام آخر انقطعت تلك الصلة، فيعيد الملقن قول لا إله إلا الله، فإن قالها المريض سكت، فإن تكلم بكلام آخر وانقطع يعيدها عليه، وإن كانت آخر ما قال يبشره بالجنة. وينبغي أيضاً أن يوجد هذا في مستشفيات النساء، توظف عالمات وظيفتهن تلقين من شارف على الموت لا إله إلا الله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ). فمن عاد مريضاً ووجده يعاني من سكرات الموت فليلقنه: (لا إله إلا الله)، فإن قالها وأنت تسمعه ومات عنها، فبشر بنعمة الله التي أنعمها عليه، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة الطاهرة زار يهودياً كان يخدمه -يخدم بيت الرسول وأبوه يهودي- لما بلغه صلى الله عليه وسلم أنه مريض، فذهب إليه ودخل وإذا بالغلام مريض وقد بلغ سن التكليف وما زال على اليهودية، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( يا فلان! قل لا إله إلا الله! فنظر إلى أبيه فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أبيه فقال أبوه : أطع أبا القاسم. فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أخرجه بي من النار ). بنو عمنا فتنوهم فقط بفتنة الوطنية والمملكة وإعادة المجد، هذا الذي باعدهم عنا وإلا فهم عالمون عارفون أنه الحق فهم أبناء الأنبياء وأبناء الرسل، ولكنهم يقولون: إذا أسلمنا ودخلنا في الإسلام متى يعود مجد بني إسرائيل؟ متى تظهر مملكتهم وتسود العالم؟ فلهذا قالوا: لا ندخل في الإسلام؛ لأننا سنذوب فيه، فلا يبقى لنا وجود. هذه هي الحقيقة والله. إذاً: فلما قالها الغلام: لا إله إلا الله، قال: ( أبشر يا غلام بالجنة ).إذاً: عرفتم تلقين الميت أو لا؟ الرسول لقن. وإليكم صورة أخرى لمن كتب الله شقاوته أزلاً في كتاب المقادير وهو أبو طالب بن عبد المطلب ، هذا عم الحبيب صلى الله عليه وسلم، هذا ساعده الأيمن، هذا درعه الواقي أبو طالب ، أبو طالب الذي دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يستطع أحد من أهل الشرك أن ينال من رسول الله بكلمة وأبو طالب موجود، وهو على ملة الكفر، فلما توفي نال المشركون من رسول الله ما نالوا، فهذا عقبة بن أبي معيط عليه لعائن الله يأتي والرسول يصلي خلف الكعبة فيضع سلا الجزور بين كتفي رسول الله وهو يصلي، والجماعة الطائشة يضحكون ويتمرغون على الأرض، فهل فعل هذا وأبو طالب حي؟ لا. لا يقدر.إذاً: مرض أبو طالب فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم يعوده في مرضه الذي توفي فيه، فوجد رجالات قريش ومشايخها من أبي جهل إلى عقبة إلى فلان وفلان، فقال: ( أي عم! -يا عمي- قل كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة، قل: لا إله إلا الله، فينظر أبو طالب إلى رجالات قريش، فيقولون له: أترغب عن ملة أجدادك يا أبا طالب ؟! )، أترغب عن ملة أبيك وجدك يا أبا طالب ؟ وكرر عليه الحبيب صلى الله عليه وسلم فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب . لأن قرناء السوء كانوا يقولون له: أترغب عن ملة عبد المطلب وتدخل في ملة جديدة ودين جديد؟! لما كتب الله شقاوته في كتاب المقادير فلن يقول إلا هذا، وعن إرادة واختيار قال هو على ملة عبد المطلب ، فقال الرسول: ( لأستغفرن لك إلا أن أنهى عن ذلك )، وأخذ يستغفر له ويطلب المغفرة حتى نزلت آية التوبة: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113].
حكم الاستغفار للمشركين
عجب هذا القرآن! مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ [التوبة:113]أي: لا ينبغي له هذا، مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، كالآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأعمام والعمات مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]؛ لأن من مات على الكفر فهو من أصحاب الجحيم، قال تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، إبراهيم واعد أباه أيضاً أن يستغفر له، قال: لأستغفرن لك، وأخذ يستغفر، فلما تجلت حقيقة شركه وكفره تركه. ومع هذا أخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم عن هذه الحادثة فقال: ( إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة فقال له: قد نهيتك عن هذا فعصيتني. قال: لكنني اليوم لا أعصيك واحدة. قال: أي رب! وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون فإن أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد. قال: يا إبراهيم! إني حرمتها على الكافرين فأخذ منه. فقال: يا إبراهيم! أين أبوك؟ قال: أنت أخذته مني. قال: انظر أسفل منه فنظر فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه فأخذ بقوائمه فألقي في النار )، لأن إبراهيم عليه السلام أعلى درجة في باب الرحمة، لم تعرف الدنيا أرحم منك يا إبراهيم! ما الدليل؟ اذبح ولدك. لا إله إلا الله! هو الذي ملأ قلبه بالرحمة فأصبح أرحم أهل الأرض، هو الأب الرحيم، ومن ثم ليرفع منزلته قال: اذبح ولدك يا إبراهيم. كيف يذبح ولده؟ إن كنت تطيع وتعبدنا بحق فقد أمرناك أن تذبح ولدك، فساقه عليه السلام إلى منى وتله للجبين والمدية في يمينه، وقبل أن يذبحه التفت وإذا بجبريل يقول له: خذ هذا واترك هذا، قال تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات:107-109]. إذاً: الرسول نهي رسمياً والمؤمنون أن يستغفروا لمن مات كافراً أو مشركاً.وها هو صلى الله عليه وسلم فداه أبي وأمي والعالم أجمع يعود من مكة فيمر بالجحفة شرق رابغ وبها قبر أمه آمنة بنت وهب الزهرية ، مدفونة هناك، فقد كانت في زيارة لأخوله في المدنية، فماتت في الطريق، مرضت وماتت، فدفنت بالجحفة، فلما كان صلى الله عليه وسلم عائداً من مكة استأذن ربه أن يسمح له بأن يزور أمه، إذا قال: ( استأذنت ربي في أن أزور أمي فأذن لي )، ووراءه رجاله وتلامذته البررة، وهو واقف يبكي يبكي يبكي.. على قبرها، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله! قال: ( استأذنت ربي في أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي فلذا أنا أبكي ). عرفتم! هذا حكم الله الصادر على البشرية والجن معها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، إما أن تزكي نفسك بالإيمان وصالح الأعمال وتبعدها عن مدسياتها من الشرك والأعمال الباطلة وإلا فالمصير معروف. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] سواءً كان أباً لإبراهيم أو ابناً له، أو أباً لرسول الله أو ابناً له، والقرآن وضح هذا وبينه. هل استطاع نوح أن يشفع لابنه؟ لا. قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود:45] قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46]. لماذا يا رب؟ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].
حكم التوسل إلى الله بحق مخلوق
قال تعالى: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [آل عمران:8]، رحمة عظيمة تغمرنا في حياتنا، وفي برزخنا ويوم نلقى ربنا إِنَّكَ أَنْتَ [آل عمران:8] لا غيرك الْوَهَّابُ [آل عمران:8]. هذه الجملة عندنا نحن، عرفنا أنها من باب التوسل إلى الله، أما إخواننا فيتوسلون: اللهم بحق نبيك أعطنا كذا، بجاه سيدي فلان! حرموهم أعداء الدين من أن يتوسلوا إلى الله بوسيلة مشروعة، ولكن اللهم إنا نسألك بجاه فلان، وأعطنا بحق فلان. وهذا لا يجوز، بل قدم شيئاً يحبه الله، قل: اللهم اغفر لفلان وارحمه واغفر لي أيضاً وارحمني، تكون قد توسلت؛ لأنك دعوت لمؤمن بالمغفرة والرحمة، وهذه وسيلة، رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا [آل عمران:16]، توسلوا أو لا؟و نحن نتوسل إلى الله بابتسامة في وجه مؤمن، بلقمة في فم جائع، بشوكة نزيلها من الطريق، بصلاة ركعتين في جوف الليل، بذكر الله مائة مرة أو عشر مرات، ونسأل الله. وهذا الباب المفتوح أغلقه أعداء الإسلام في وجوه أمة الإسلام أكثر من سبعمائة سنة، ليس عندهم وسيلة إلا بحق فلان أو بجاه فلا، فلا يعرفون وسيلة إلا هذه، فسبحان الله العظيم!يروى عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رحمه الله أنه قال: من سأل الله بحق فلان فقد كفر. فما وجه كفره؟ لأن معنى كلامك حقيقة: إن لم تعطنني أنت فأعطني بحق فلان عليك! أعوذ بالله! هل يوجد إنسان مخلوق مربوب له حق على الله؟ أما نستحي أن نقول هذه الكلمة؟! هل يقولها عاقل؟الجواب لا. هل كفر من قال هذا أو لا؟ كفره كالشمس واضح. إخواننا وآباؤنا وأمهاتنا عاشوا قروناً لا يعرفون من الوسيلة إلا بحق فلان وجاه فلان. من حرمهم الوسيلة المشروعة؟ إنه الثالوث الأسود: اليهود، والمجوس، والنصارى، تعانقوا، تحابوا، تلاقوا وقالوا: نطفئ هذا النور؛ لتبقى لنا يهوديتنا ونصرانيتا ومجوسيتنا، وتعاونوا قروناً على تضليل الأمة، وإلى الآن ما زالوا متعاونين في الخفاء.
تفسير قوله تعالى: (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه.... )
يقول تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران:9]. رَبَّنَا [آل عمران:9]، أي: يا ربنا. وحذفت الياء؛ لأن الله قريب ليس ببعيد حتى نقول يا ربنا.
جمع الله الناس ليوم القيامة
إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران:9]، أي يوم هذا؟ هذا يوم لا شك فيه، يجمع الله الناس فيه ليقضي بينهم، ليحاسب ويسأل ويستنطق ويجزي الخير بالخير والشر بالشر. رَبَّنَا [آل عمران:9]: يا ربنا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ [آل عمران:9]، أي: لا شك فيه. أفي هذا شك؟ الشك يأتي من شخص يقول: نحن غير موجودين أبدا،ً ولا نموت. فهذا نقول له: إذا كانت موجود فمن أوجدك؟ وإذا كنت ستموت فمن يميتك؟ وإذا كنت تموت من يحييك؟ إذاً: كيف تقول: لا؟ قل: آمنت بالله.
إنجاز الله وعده لرسوله والمؤمنين
قال الله: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، الميعاد: الوعد المعين بالمكان. قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]. والله لقد تم هذا الوعد بالحرف الواحد! نزلت هذه الآية والمؤمن لا يستطيع أن يبول خارج بيته يخاف في الليل من اليهود والمشركين ومع هذا أنجز الله وعده لرسوله، والله يسير الراكب من هذا المدينة إلى السند لا يخاف إلا الله! إلى عدن لا يخاف إلا الله، في تلك الأيام الزاهرة! فلا يخلف الميعاد، وعدهم بأن يجمعهم مرة أخرى ويحاسبهم ويجزيهم إما في دار السلام في العلو، وإما في دار البوار في السفل ألا وهي النار، والعياذ بالله.وصل اللهم على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (24)
الحلقة (165)
تفسير سورة آل عمران (30)
سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة، فيصلحونهم ويهذبونهم، وعظماء الناس من يعلمونهم الخير ويهدونهم إليه، أما الذين يجتهدون في إضلال الناس، ويأتون الضلال قبلهم، ويدلون الناس على الشر ويسوقونهم إليه فأولئك هم أراذل الناس وأسافلهم، وليس لهم عند الله في الآخرة من خلاق.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي... ) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم! رجاءنا إنك ولينا وولي المؤمنين.قد انتهى بنا الدرس إلى هاتين الآيتين المباركتين من سورة آل عمران، نتلوهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:84-85]، هاتان الآيتان الكريمتان سبقهما آيتان درسناهما في درس سابق. فهيا نراجع ونستذكر ما استفدناه من الآيتين السابقتين. يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:79-80]، هاتان الآيتان نستمع إلى ثمرتهما ونتائجهما؛ فيتجلى لنا -أكثر- معرفة ما فيهما.
هداية الآيات
قال: [من هداية الآيات: أولاً: لم يكن من الممكن -مما يتأتى وقوعه- لمن آتاه الله الكتاب والحكمة -أي: الكتاب والسنة- وشرفه بالنبوة أن يدعو الناس لعبادة نفسه، فضلاً عن عبادة غيره]. فهذا والله! ليس من الممكن، بل ومن المستحيل أن يعطي الله عبداً الكتاب والحكمة، ويشرفه بالنبوة، ثم يقول للناس: اعبدوني من دون الله!فهكذا ينفي الله تعالى هذا الزعم الذي ادعاه اليهود والنصارى، فيقول: مَا كَانَ لِبَشَرٍ [آل عمران:79] أي إنسان من البشر أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:79]؛ لأن السفهاء من اليهود قالوا: تريد منا أن نعبدك يا محمد؟! فإذا أمرهم بطاعته، أمرهم بطاعة الله عز وجل، بأن يعبدوا الله لا أن يعبدوه، فلما تفوه بعض السفهاء ألقمهم الله بهذا الحجر، ونفى أن يتم هذا لمخلوق، وإذا وجدنا من دعا الناس إلى عبادته؛ فإنه ما دعاهم إلا لجهله وضلاله وعماه، وبعده كل البعد عن الوحي الإلهي والحكمة الإلهية، أما وقد آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة ثم يدعو الناس لأن يعبدوه، فهذا والله! لن يكون. [ ثانياً: سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة فيصلحونهم ويهذبونهم ] سادات الناس هم أولئك الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة فيصلحونهم ويهذبونهم؛ إذ قال تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].أما رِبِّي اليهود ورهبان النصارى فليسوا أهلاً لهذا أبداً؛ لأنهم لا يعلمونهم الكتاب ولا يعلمونهم الحكمة، ولكن يحشون عقولهم بالأباطيل والضلالات والخرافات؛ ليبقوا مسخرين لهم يعبدونهم من دون الله. فرد عجيب! قوله تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]. [ثالثاً: عظماء الناس من يعلمون الناس الخير ويهدونهم إليه] روى ابن عبد البر في كتابه العلم قال: ( من علم وعمل بما علم، وعلّمه غيره دُعي في السماء عظيماً )، قد كنا نقول من عظماء الرجال: نابليون وأفلاطون وسقراط ، وأخيراً عظماء الشيوعية ستالين ، ثم عبد الناصر ، ثم الزعيم الأوحد صدام .. لماذا؟ لأننا ما عرفنا وما علمنا.والآن علمنا وعرفنا أن عظماء الرجال هم الذين يتعلمون الهدى ويعملون به، ويعلمونه غيرهم، فأولئك هم عظماء الرجال في السماء والملكوت الأعلى، أما الذين يجاهدون الناس، ويعلمونهم الضلال ويأتونه قبلهم، فهؤلاء أسافل وأساقط الرجال.من علِم الكتاب والحكمة، وعمل بهما وعلَّم بهما أسرته وجيرانه، وأهل بلده، والناس عامة، فأولئك يدعون في السماء: عظماء الرجال. فالآية شاهدة، إذ يقول تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]. [رابعاً: السجود لغير الله كفر؛ لما ورد أن الآية نزلت رداً على من أرادوا أن يسجدوا للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80]]. (أيأمركم): استفهام إنكاري. ( هم من هم ممن جاءوا من الشام -وكانوا نصارى- أن يسجدوا للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: لا. السجود لله )، وهكذا تحيتنا تحية أهل الجنة: السلام عليكم، أما الانحناء والركوع والسجود فهذا لله لا لسواه، وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].هناك غلطة شامية نلفت النظر إليها: أبناء الشام تربوا على هذه الخطيئة، يقبل يد أبيه.. يد الشيخ.. يد عمه، ثم يسجد عليها، فأصبح حتى الشباب الكبار إذا سلموا على المشايخ يفعلون هذا، يقبل يد الشيخ ثم يسجد، فمن لاحظها من أخيه يلفت نظره إليه، ويقول: هذا لا ينبغي، ويكفيك التقبيل، فلماذا تسجد؟!إذ السجود لغير الله كفر، فلا نعفر وجوهنا في التراب إلا لله رب الأرباب، فلا يستحق المخلوق ما هو حق لله دون سواه.وحتى التحية العسكرية لطفناها وقلنا للعسكري: إذا حييت الرئيس رد بـ: السلام عليكم؛ لأن هذه التحية مأخوذة عن المسيحيين، فنحن ندعو ربنا ونحييه برفع أيدينا الثنتين ونقول: الله أكبر، أما من كان له يد واحدة فالله غالب، لكن لو كان له يدان ويتوجه إلى الله فلا يجوز له أن يمد يد واحدة ويقول: الله أكبر، ألست تقول في آخر صلاتك: التحيات لله؟فقلنا لإخواننا لما فتح الله علينا: إذا حييت الرئيس، وإلا قل: السلام عليكم تخرج من الفتنة.قال أخونا: بعضهم يقبل المصحف ويسجد عليه. وهذا التقبيل أخف من أن يقبل يد الشيخ، وإن كان لا ينبغي، فهذا فعل الجهال، والذين سمعوا هذا وعرفوه وفعلوه، فإنه يخشى عليهم أن يهلكوا، فإن كنت جاهلاً معفي عنك، أما وقد علمت وتقول: إيش في هذا؟ فهل رأيت رسول الله فعل هذا؟ وهل ورد حديث وقال: اسجدوا للقرآن وعليه، فكيف تصر على هذا؟!وهكذا يرفع الله أقواماً ويضع آخرين بهذا القرآن، قبَّله وليس له حاجة، فكيف يقبله بفمه، ولا يحبه بقلبه ولا يقرأه طول عمره؟!لكن لا بأس بتقبيل المصحف، لكن لا تسجد عليه، فلا تؤلهه.فلو قال قائل: لا تلمنا يا شيخ! ما تعلمنا. نقول: نلومكم، فلم لا تتعلمون؟ تعرفون صنع السيارات وقيادتها، والمزارع وإنتاج البصل والفول.. وو...، إلا كيف تعبدون الله ما تعرفون؟!الوقت يا شيخ! لا يتسع.. ما عندنا وقت. لا، بل عندكم وقت، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً فكل الدنيا يجب أن تتخلى عن الأعمال الدنيوية.فالنصا ى واليهود إذا دقت الساعة السادسة أغلق الدكان.. ارم المسحاة.. ارم المطرقة.. هيا نروح على أنفسنا، فيأخذون نساءهم وأطفالهم إلى دور السينما والمراقص والمقاصف، أربع ساعات.. خمس ساعات من الليل.ونحن المسلمون لا نستطيع أن نغلق الدكان مع غروب الشمس، لم؟ لا ندري، ما فقهنا. فيكفي من صلاة الصبح وأنت تعمل إلى غروب الشمس، فهيا بابنتك وامرأتك وأولادك إلى بيت الرب، تطهروا وتنظفوا وائتوا إلى بيت مولاكم تستمطرون رحمته، وتبكون بين يديه، وتذكرونه بأسمائه، تتعلمون الهدى الموصلة إليه، ثم تصلون العشاء وتعودون في خير وبركة إلى بيوتكم، وهكذا كل ليلة طول العمر. فكيف لا نستطيع؟والله! لو أن أهل قرية أو حي من أحياء المدن أقبلوا على الله في صدق كل ليلة من المغرب إلى العشاء؛ يتعلمون الهدى ويعملون به لم يمض عليهم سنة أو أقل وهم كلهم عالمون عارفون أولياء الله، لو رفعوا أكفهم إلى الله على أن يزيل الجبال لأزالها؛ فتكون تحققت لهم ولاية الله.فاليهود والنصارى صرفونا عن هذا صرفاً عجباً، ونحن نائمون ما صحونا بعد!فطلب العلم واجب؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والله تعالى يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فيجب على كل مؤمن ومؤمنة إن لم يعلم بما يعبد الله أن يسأل العلماء ليعرف، وعلى العالم أن يبين، وانتهى الجهل نهائياً، فالخنا، والزنا والدعارة، والتلصص، والإجرام، والخيانة، وسوء السلوك، وسوء الآداب، وفساد الأخلاق وقد خمت ديار المسلمين بها نتيجة للجهل فقط.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
يقول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ [آل عمران:81]، فهذا أمر الله، وهذا عهد الله وميثاقه أخذه على النبيين وأممهم، أنه ما بعث نبياً ولا رسولاً إلا وجب إيمانهم به ونصرته، وقد بعث الله محمداً خاتم الأنبياء، فكفروا به وخذلوه ولم يقفوا إلى جنبه ويدعون أنهم مؤمنون.أي: اذكر يا رسولنا لهم، اذكر يا عبد الله! لليهودي والنصراني: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران:81] والميثاق العهد المؤكد بالأيمان، لَمَا آتَيْتُكُمْ [آل عمران:81] مهما آتيتكم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ [آل عمران:81]، أما إذا جاء يكرر ما عندكم، فهو دجال وكذاب وليس بنبي، لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ [آل عمران:81].ثم قال لهم: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، الله أكبر! فما من نبي نبأه الله، ولا رسول أرسله إلا أخذ عليه العهد والميثاق، إذا بعث الله بعده الرسول وهو موجود أن يؤمن به وأن ينصره، إلا إذا جاء بما يخالف ما عند النبي فمعناه أنه دجال وكذاب، وليس بنبي ولا برسول.ثم استقررهم: (أَأَقْرَرْتُمْ) ؟ قالوا: أقررنا، (قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا -الله- مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)، بعد هذا هل بقي ليهودي أو لنصراني أو لصليبي أن يدخل الجنة بعد اليوم؟! ثم قال تعالى: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:82] لا غيرهم. ثم قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، عجباً كيف يكفر بالله هؤلاء الهابطون من اليهود والنصارى؟!
هداية الآيات
قال: [من هداية الآيات: أولاً: بيان سنة الله تعالى في الأنبياء السابقين، وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً].الآن في المدينة أمير عينه إمام المسلمين، فلو بعث أميراً آخر هل سينكره، ويقال له: ما نصدقك، ما أنت هو.. جاءك ببيان بما عندك؟ أم المفروض أن يقول: مرحباً وأهلاً، ونحن معك وإلى جنبك. هذا واضح.فكيف يرسل الله الرسول، أو ينبئ نبي ويأتي إلى أهل البلاد وبينهم نبيهم يقول: لا. لا. يكفي ما عندنا.. ما نؤمن بهذا.. ما نصدق.. يبقون مسلمين؟!مستحيل. فهؤلاء مجانين معتوهين، يستحقون الضرب والنقمة الإلهية.قال: (بيان سنة الله تعالى في الأنبياء السابقين) أي: لنبينا صلى الله عليه وسلم، (وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً).ألم يكن عيسى مع يحيى يشد ساعده؟ ألم يكن إسماعيل مع إسحاق؟ وهكذا دعوة الله، ما من نبي إلا ويجب عليه أن يؤمن بالنبي الجديد، وأن يقف إلى جنبه ينصره؛ لأن الرسالة واحدة، اللهم إلا إذا جاء ساحر دجال وقال: أنا نبي. فننظر هل يختلف ما جاء به مع ما عندنا أو يتفق؟ فإذا كان يتفق فهذا من عند الله، وإذا كان ما يتفق يجب أن يضرب على رأسه.أعيد القصة: أولاً: وجد في العالم الإسلامي ثلاثون نبياً دجالاً وكلهم أهلكوا ودمروا، آخر واحد جاءنا في البيت منذ أربع سنوات ونحن في المكتبة، قال: أنا نبي الله.ليس معقول هذا ولدي.قال: أنا نبي الله، نبأني الله، اسمعوا لي واستجيبوا. فبهتنا، ماذا نصنع؟فجاء فحل من فحول الحي أبو عبد العزيز بعصاه، فقلنا له: يا شيخ عبد الله ! هذا الشاب يقول: أنا نبي. فقال له: أنت تقول أنك نبي؟ قال: نعم، نبي. قال له: من نبأك؟ قال: الله. فينهال عليه بالعصا حتى صرخ وقال: أكذب ما أنا بنبي.إذاً: بالنسبة إلى عهد النبوة المحمدية قد ختمها الله بخاتم النبيين، فكل من جاء بما جاء به محمد، وقال: أنا نبي يجب أن يقطع رأسه فهو دجال كذاب؛ لأن الله قال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] ما بقي، لعلم الله بأن الأرض أوشكت على النهاية، وأن العالم سيكون في منزلة بلد واحد، والآن يقرأ القرآن فيسمعه العالم بأسره، وهذا سر ختم الله النبوات بمحمد صلى الله عليه وسلم، لو يبقى العالم كما كان أهل إقليم ما يعرفون عن الآخر لكان على الله أن يبعث في كل إقليم رسول.[ثانياً: كفر أهل الكتاب وفسقهم بنقضهم الميثاق، وتوليهم عن الإسلام، وإعراضهم عنه بعد كفرهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ عليهم الميثاق بأن يؤمنوا به ويتبعوه]، فهم كفار فساق ملعونون من أهل الخلود في النار، مهما نزلوا الصوامع أو عبدوا الشيطان. فمن يبلغهم هذا؟! سبق وأن قلت: إن اليهود والنصارى لما مكروا بالمسلمين وغشوهم وخدعوهم وضللوهم وهبطوهم نتيجة ذلك أن حرموا من الإسلام، فلما انتشر الإسلام في العالم وأضاءت أنواره في الكون من قام وأطفأها أليس اليهود والنصارى؟ بلى. إذاً: جزاؤهم أن أجيالهم بالملايين حرمت من الإسلام، ولو كان الإسلام كما كان والله ما بقي على الأرض من لا يسلم؛ ليشاهد أنواره ورفعته وعزته وطهره وصفاءه كما في أول القرون، لكن لما أطفئوا النور وأصبح المسلمون حيارى تائهين ضلالاً جهالاً، وغلبوهم وسادوهم وحكموهم فكيف سيسلمون؟! فهم عوقبوا بنفس ذنبهم، فلو أن الإسلام ترك ما حورب وامتد نوره وظله في العالم ما بقي بيت إلا وأسلم أهله؛ لأنه نور الله، القلوب تطهر.. النفوس تزكو.. العدل يسود.. الرحمة تنتشر.. الخير يعم، فلماذا لا يسلم الناس؟فلما مكروا اليهود والنصارى بالمسلمين والإسلام حرموا هداية الله، فالآن ملايين بل بلايين اليهود والنصارى إلى جهنم، فهم الذين حرموا أنفسهم: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123].[ثالثاً: بيان عظم شأن العهود والمواثيق].إذا عاهدت يا عبد الله! إياك أن تخلف عهدك أو تنقضه، شأن العهود والمواثيق عظيم؛ فلهذا كان العربي إذا عاهد لو يموت ما يخلف.فإسماعيل عليه السلام أثنى عليه تعالى بقوله: كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، أثنى عليه بكونه إذا واعد ما يخلف؛ لأنه أقام سنة ينتظر صاحبه، واعد وعداً فبقي في ذلك المكان عاماً كاملاً، وخاف أن يرجع فينقض العهد.وهذا حفيده الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام وهو قائم في مكانه ينتظر وعداً، ومن ثم يقول: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق -من بينها-: إذا واعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ).وعندنا لطيفة أخرى أيضاً حدثنا بها شيخنا الطيب العقبي خريج المسجد النبوي، صاحب جريدة القبلة وأم القرى، محا اسمه الجزائريين محواً.بنى أحد الصالحين مسجداً وسماه: مسجد العقبي، فجاء وزير الأوقاف برجاله ومحاه هذا الاسم؛ لأنه ناشر دعوة التوحيد، وهدانا الله على يديه وعرفنا الله، إذاً فالضلال والخرافة والباطل والزعامات محوا اسم العقبي .قال العقبي : حججت أيام ما كان أهل البلد يحجون على الإبل، وأصحاب البادية ينزلون هنا في المدينة، ويطلبون الحجاج يخدمونهم حتى يحجوا ويعودون إلى المدينة، ويسمون: الركب، فالشيخ حج مع رجل من هؤلاء ومعه شاب يخدم الحجاج بأجرة، وتلك الأيام كان السلب والنهب مغطي البلاد، حتى إن الرجل يؤخذ بابه من بيته، فتجد بابك يباع في السوق فلا تتكلم وإلا تقتل، الفوضى بلغت نهايتها.والشاهد عندنا: هذا الشاب الذي يخدم الشيخ الطيب رحمة الله عليه عشرة أيام في الطريق، وأربعة أيام في مكة، ولما وصلوا عرفة قال الشيخ للشاب: آه. لو تسلم يا بني وتترك هذا الإجرام وتستقيم؟قال الشاب: أستأذن عمي، إذا أذن لي أتوب، معناه: لو قال: تبت ما يرجع، قال: أستأذن عمي، أي: ليس عمه أخو أبيه، بل عمه الذي يستخدمه، فلما جاء العم، قال: يا عم! إن هذا الشيخ يطلب مني أن أستقيم وأن أتوب، قال: لا. ومن لأسرتنا ومن لحالنا؟ كيف تتوب؟ محتاجين إلى السلب والنهب وكذا كيف نعيش؟!والشاهد عندنا في كلمة الصدق فلو قال: أتوب فلن يرجع أبداً.قال تعالى: كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:54]، وهكذا المسلمون في الجملة، أما في العصور الذهبية فكل مسلم يرضى أن يموت ولا يخون عهده ولا ميثاقه.فلما عم الظلام وغطى البلاد، وعادت الجاهلية والجهل؛ اختلط أمر الناس، وإلى الآن المسلم البصير الواعي ذو العلم لا يخون عهداً ولا ينقضه ولو يخرج من ماله وأهله.[رابعاً: الإنكار على من يعرض عن دين الله الإسلام، مع أن الكون كله خاضع منقاد لأمر الله].قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، فلو أن اليهودي أسلم أو النصراني أسلم، فهل سيكون هناك من يخرج عن أوامر الله وتدبيره؟!فإذا أراد الله أن يخلقه ذكراً كان ذكراً، فهل تستطيع أمه أن تحوله؟ أراد الله أن يخلق هذه البنت أنثى، فهل تستطيع أن تحولها إلى ذكر؟أراد الله أن يخلق هذا الولد أسوداً، فهل تستطيع أن تجعله أبيضاً؟أراد الله أن يجعل هذا الولد قصير القامة، فهل تستطيع أن تجعله يطول؟مستحيل، خاضعون لأمر الله يفعل فينا ما يريد ويحكم ما يشاء، فقط كون أوامر تكليفية من أجل الجنة أو النار، هذه عرض علينا البشرى، وعرض علينا النذارة، فمن استجاب رفعه ومن أعرض هبطه، وإلا أمرنا بيد الله يحيي متى شاء، ويميت متى شاء، يعز.. يذل.. يغني.. يفقر.. يصح .. يمرض، هل يوجد من يرد على الله؟ هانحن مسلمون رغم أنوفنا، كيف يعرضون؟ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:83]، كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116].
تفسير قوله تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم ...)
قال تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84].علَّم الله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن معه أتباعه أن نقول هذا القول، وليكفروا كلهم.. أمريكا والصين، فنحن آمنا بالله رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، بيده كل شيء وإليه يرجع كل شيء، فهو المحيي والمميت، والمعطي والمانع، والضار، والنافع، رب الأولين والآخرين، منزل الكتاب، وباعث الرسل، أرحم الرحمين ورب العالمين، لا رب لنا غيره ولا إله لنا سواه.وآمنا بما أنزل علينا من القرآن الكريم، وما حواه من أحكام وهداية وتعاليم وشرائع وأخبار، الأمر الذي فوق طاقة البشر أن ينزلوا مثله، وآمنا بما أنزل على إبراهيم الخليل من التوحيد؛ قال الله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [النحل:120-123] أي: يا محمد أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123] أي: إبراهيم هذا الأب الرحيم، هذا الذي ابتلي فصبر ففاز وظفر، ولم يبتل ابتلاؤه غيره، وإليكم نظائر ذلك:فقد ابتلي بأن يواجه الطغاة والجبابرة ويجادلهم في الله ليؤمنوا بالله، وحكموا بإعدامه، وأججوا له النيران، وألقوه مكتوف اليدين والرجلين في جحيم لا تطاق -فمن أراد أن يعرف فلينظر إلى الأفران الكبيرة-، وخرج منها، وترك البلاد والعباد: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، خرج مع ابن أخيه لوط وامرأته سارة لا يحملون ديناراً ولا درهماً، ولا طعاماً ولا شراباً، خرجوا من أرض بابل اتجهوا غرباً إلى أرض الشام، فأي ابتلاء هذا؟فقد كانت أول هجرة عرفتها البشرية هي هجرة إبراهيم، أول من هاجر في ذات الله، ترك الكفر وأهله، وننزل ببلاد الشام وامتحن امتحاناً آخر، ما وجد آذاناً صاغية ولا قلوباً واعية، ولا..، فاتجه غرباً انتهى إلى بلاد مصر من طريق فلسطين، ما إن وصل إلى مصر ومعه امرأته سارة الربانية وهي بنت عمه، فشاهدها من نسميهم بالمغربية: القوادون، وفي المدينة الجرارون.فالمغر الإفريقي يسمون من يقود إلى الفاحشة: القواد، وسيلة، وعندنا هنا في المدينة نسميه الجرار، ولا فرق، فالقواد يقود بالزمام، والجرار يسحبه على الأرض حتى يوصله إلى الفاحشة، والعياذ بالله!ما إن شاهد الجرارون والقوادون حتى أتوا سلطانهم وقالوا: توجد امرأة كالقمر لا تصلح إلا لك، يتملقون ليأخذوا الدراهم، فعرف إبراهيم عليه السلام، فمن ينصره؟ وماذا يصنع؟قال: يا سارة ! إنه لا يوجد على الأرض مؤمن إلا أنا وأنت، فأنا أخوك وأنت أختي، إذا سألك هذا الطاغية لا تقولي: زوجي، بل قولي أخي، ولست بكاذبة، وهذا هو الخروج من الكذب ويسمى بـ: (التورية)؛ لأنها لو قالت: زوجي، قال: اذبحوه، كيف يتزوجها وزوجها موجود؟ إذاً: ووصلت إلى سرير الملك، وجلست إلى جنبه وطيبوها وطهروها، وأراد أن يطايبها ويلاطفها فيضع يده على كتفها أو رأسها، فيصاب بالشلل الفوري، قبل أن تعرف البشرية الشلل هذا ما هو، تيبس يده، يصرخ: ادع ربك، تدعو تعود يده كما كانت، يأكلون ويتطايبون آكام، ثم يهم بيده ما إن تصل إلى جسمها يشل على الفور، ثلاث مرات، ثم قال: أخرجوا عني هذه الشيطانة فليست هذه بشرية، وهذا من تدبير الله عز وجل رب إبراهيم عليه السلام، قال: سنعوها، بلغة نجد أو الحجاز، بمعنى: أكرموها، أعطوها المال.. أعطوها بغلة تركبها.. أعطوها خادمة تخدمها، فأعطوها هاجر أم إسماعيل، فهي أمكم يا أولاد إسماعيل، وعادت منتصرة مستبشرة، قالت: أخزاه الله وأذله وأكرمنا، وتبرعت لإبراهيم عليه السلام ولتشاركه في المحنة بـهاجر خذ هذه، وتسرى بها يا إبراهيم -جزاها الله خيراً- فهذه سارة ابنة عم إبراهيم، خذ هذه الخادمة تسراها، أي: يحسن لباسها وفراشها ويجامعها مملوكة، فتسراها إبراهيم عليه السلام، فحملت وولدت إسماعيل ، وسارة اشتطات غيظاً وغضباً، وأصابها كرب، أنا مع ابن عمي عشرات السنين ما ولدت، وهذه بنت أمس تلد اليوم وتصبح بإسماعيل، ما أطاقت العيش معها، فأمر إبراهيم عليه السلام أن يذهب بها إلى صحراء الحجاز، وأبعدها عن أرض فلسطين، فما كان منه إلا أن خرج بها ليلاً، وهي تعفي أثرها أي: أرخت رداءها أو إزارها من أسفل حتى يغطي آثار الأقدام، ووصل بها إلى جبال فاران في الوادي الأمين في مكة، وتركها مع طفلها إسماعيل تحت شجرة، والبيت عبارة عن كوم من تراب أخذتها السيول من قرون، وقفل راجعاً، فقالت: لمن تتركنا يا إبراهيم؟ آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فاذهب فإنه لن يضيعنا.يا عبد الله! ما تبيع الدخان في دكانك، وأنت في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا تقل: لا الزبائن لن يحضروا. فأنت توكلت أنت على الدخان، فأين توكلك على الله؟ هذا مثال.يتركها مع طفلها الرضيع تحت شجرة، دوحة عند ماء زمزم قبل أن يخرج، وتقول: آلله أمرك؟ فيقول: نعم، فتقول: إذاً فاذهب فإنه لن يضيعنا.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (25)
الحلقة (166)
تفسير سورة آل عمران (31)
من مقتضيات الإيمان أن يؤمن المرء بكل الرسل الذين أرسلهم الله على مر التاريخ، فلا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض الرسل دون بعض، كما لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض ما أنزل الله ويكفر بالبعض الآخر، وقد ختم الله عز وجل الرسالات برسالة الإسلام، وختم الأنبياء والرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعل دينه مهيمناً على الدين كله، فلا دين في الأرض إلا الإسلام.
تابع تفسير قوله تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سابق عهدنا في مثل هذا اليوم والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فحقق اللهم رجاءنا إنك ولينا، ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران، ومع هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:84-85].
معنى قوله تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا)
معاشر المستمعين والمستمعات! قول ربنا: قُلْ آمَنَّا [آل عمران:84] فالله يأمر نبيه ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [آل عمران:84]، والرسول هنا معه أمته، ونحن من أفرادها، فلنقل جميعاً: آمنا بالله، أي: صدقنا بوجوده، وبكونه رباً لا رب غيره، وبكونه إلهاً لا إله سواه. وقولنا: آمنا بوجود الله إذ كل هذه الموجودات دالة على وجوده.نعم كل موجود من هذه الكائنات دال دلالة قطعية يقينية على وجود موجدها، فهل عرفت البشرية خالقاً سوى الله؟ وهل وُجِد خالق غير الله؟ وهل يعقل أن يوجد موجود بدون موجد؟ مستحيل.لو كان الموجود مقلمة أظافر فإنك لا تستطيع أن تقنعني أنها وجدت بدون موجد، ولو كان الموجود نعلاً على باب المسجد فإنك لا تستطيع أن تقنع ذا عقل بأن هذا النعل وجد هكذا من نفسه؟ وكذلك لا تستطيع أن تقنع ذا عقل أن كأساً من الماء وجد هكذا من نفسه على طاولة؟ فإذا كان كل ما سبق وغيره مستحيل الوجود بدون موجد، فكيف إذاً بهذه العوالم العلوية والسفلية؟وانظر إلى السماء وفكر فيمن بناها، أو هل وجدت من نفسها؟ هذا غير ممكن.وانظر إلى الشمس ومن علقها كالمنار في السماء.ولا تذهب بعيداً فانظر إلى نفسك تتجلى لك عظمة الخالق عز وجل: كيف أنك تنطق؟ كيف أنك تنظر؟ كيف أنك تحس وتشعر؟ كيف أنك تأكل وتشرب؟ كيف أنك تنام وتستيقظ؟!فقولوا: آمنا بالله رباً لا رب غيره وإلهاً، لا إله يستحق أن يؤله ويعبد سواه.إذاً قوله: (قولوا) أي: قل يا رسولنا وأمتك معك: ( آمنا بالله).وقال تعالى: ( وما أنزل علينا ) أي: من هذا القرآن العظيم، فآمنا بما أنزل علينا من هذا الكتاب الكريم، وهذه الشرائع والأحكام والتعاليم الإلهية الذي أنعم بها علينا.
الإيمان بما أنزل على إبراهيم
قال تعالى: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وإبراهيم باللغة العبرية: الأب الرحيم، وقد ذكرنا أن مما امتاز به الخليل أنه ممن هاجر في سبيل الله، فأول هجرة تمت على الأرض لله تعالى هجرة إبراهيم، وقيل في إبراهيم: خليل الرحمن؛ لأن محبة الله تخللت في قلبه ففاز بهذه فقيل فيه: الخليل، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً )، ولكن تكفيه خلة الإسلام.وقد ابتلي إبراهيم فنجح وفاز في ابتلاء الله تعالى له، إذ قال عز وجل من سورة البقرة: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، فأصبح إمام الموحدين؛ لأنه ابتلي بالتكاليف فنهض بها ونجح فيها، ومن هذه التكاليف أنه أمر أن يبني له بيتاً في مكة في ذلك الوادي الأمين، ونهض بذلك إبراهيم وساعده ولده إسماعيل، وبنى لله داراً بيتاً في جبال فاران، فكانت واحدة من التكاليف.ودون ذلك بل وأعظم: أنه امتحن وهو الأب الرحيم بأن يقرب ولده إسماعيل قرباناً لله رب العالمين، واقرءوا ذلك في سورة اليقطين إذ قال تعالى عنه وقوله الحق وهو يخاطب إسماعيل: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، فقال الغلام الحليم إسماعيل ابن هاجر ، الذي كان سبب هجرة أمه إلى مكة: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وأمر هاجر وطيبته وطهرته وأخذ بيده إلى منى حيث تراق الدماء، وثم صرعه على الأرض وتله للجبين وفاداه الله عز وجل بذبح عظيم، وفاز بها إبراهيم.وحسبنا في إبراهيم أننا نصلي عليه في صلواتنا الخمس فنقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.فإن سأل سائل: فهل إبراهيم أفضل من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟نقول: لا.فإن قال: كيف نقول: صل على نبينا كما صليت على إبراهيم، فالصلاة على إبراهيم إذاً أفضل من صلاتنا؟نقول له: يا بني! لا، وإنما إبراهيم وجد قبل نبينا، وصلى الله عليه قبل نبينا، فنحن نقول لمولانا: صل على نبينا كما صليت على نبيك إبراهيم، مع العلم أن نبينا أفضل الأنبياء، ومع هذا لم يسمح لنا أن نفضله على غيره من الأنبياء والرسل، فقال: ( لا تفضلوني على يونس بن متى )، لما علم المسلمون أن يونس ضعف في الدعوة وهرب منها خاف النبي صلى الله عليه وسلم أن نفضل نبينا عليه فقال: ( لا تفضلوني على ابن متى ).والشاهد عندنا في إبراهيم.
الإيمان بما أنزل على إسماعيل
قال تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ إسماعيل هو ابن هاجر المصرية، وقد أخذت قسراً إلى ملك مصر الذي أراه الله تعالى بعض آيات عظمته، وتلك الآيات هي التي جعلته يرسل إلى سارة ويتفضل عليها بأن يهديها جارية هي هاجر ، فقد أعطاها ما شاء الله أن يعطيها وأكرمها وأعطاها هاجر ، وهاجر هذه هي التي ولدت إسماعيل، وقد تسراها إبراهيم فولدت إسماعيل، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه الهداة الدعاة المجاهدين: ( إنكم ستفتحون أرضاً يكثر فيها ذكر القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً )، وهذا أيام كانوا محصورين في المدينة فيعدهم بأنهم سيفتحون الديار المصرية، فهو يقول: ( ستفتحون أرضاً يكثر فيها ذكر القيراط )، والقيراط هو جزء من أربعة وعشرين جزءاً، ( فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً )، والذمة والرحم سببهما أن هاجر أم إسماعيل قبطية مصرية، وأن المقوقس ملك مصر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما راسله ليدخل في الإسلام مع أمته أبى أن يدخل، ولكنه أهدى رسول رسول الله جارية وبغلة بيضاء تسمى الدلدل، وهذه الجارية هي مارية القبطية فتسراها رسول الله وأنجبت إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنه مات وهو رضيع قبل أن يفطم، فهذا الرحم وهذه هي الذمة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ( فاستوصوا بإخوانكم المصريين خيراً فإن لهم ذمة ورحماً ).
الإيمان بما أنزل على إسحاق ويعقوب
قال تعالى: وَإِسْحَاقَ إسحاق هذا هو ابن إبراهيم، وأمه سارة بنت عم إبراهيم، وسارة هي التي هاجرت مع إبراهيم من أرض بابل إلى أرض الشام إلى فلسطين، وهي التي دفعتها الغيرة لما رأت الجارية تلد وهي لا تلد زمناً مع إبراهيم، فلما دفعتها الغيرة دبر الله ولي المؤمنين لإبراهيم أن يهاجر بإسماعيل ويلقيها بين جبال فاران، وقد قالت له: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم؟ فيقول: نعم. فتقول: اذهب فإنه لن يضيعنا، فما الذي تم لها وقد تركها ومعها جراب فيه شيء من الطعام وسقاء فيه قليل من الماء، وتركها والرضيع في ذلك الوادي، وما هي إلا ساعات ولا أقول: أيام وقد نفد الماء الذي كان في ذلك السقاء، فالتفتت يميناً وشمالاً فلم تر شيئاً، والطفل والله يتلوى على الأرض من شدة العطش، والبلاد كما تعرفونها حارة.وجاشت النفس واضطربت هاجر ، وإذا بها تنظر إلى أقرب جبل تعلو عليه فوجدت الصفا، فأسرعت إلى الصفا فعلته وارتفعت عليه ونظرت يميناً وشمالاً فلم تر شيئاً، ثم رأت جبلاً أمامها وهو المروة فهبطت، وكان بين الجبلين واد منخفض الأرض فأسرعت لما وصلت إلى الوادي وهبطت أسرعت أكثر واجتازته وانتهت إلى المروة فعلت عليه وارتفعت، فنظرت يميناً وشمالاً ولا شيء، وفعلت ذلك سبع مرات، ثم وإذا بهاتف يهتف فتقول: أسمعت أسمعت، هل من غياث؟ولما هبطت من السعي إذا بجبريل عليه السلام واقف في صورة آدمي كريم، وبين يديه أو تحت رجليه إسماعيل يتلوى من العطش، فدنت، ولما دنت منه وقربت قال جبريل هكذا بقدمه الأرض ففار زمزم وذهب جبريل واختفى، وإذا بالماء يطير على الأرض وهاجر تزمه؛ حتى لا يسيخ في كل الأرض، فيقول حفيدها الطاهر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً تجري إلى يوم القيامة )، فما نحتاج إلى دلو أيام الدلاء ولا إلى مكينة أيام المكينات، فتسيل دائماً، وهذه كلمة أحلى عندنا من العسل وأدب من محمد صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أم إسماعيل لو تركتها لكانت عيناً معيناً )، لكنها حشرتها بالتراب وأصبحت كالحوض فقط، فهذا هو زمزم.والله العظيم لو اجتمع علماء الطبيعة والكون والهبوط والصعود وقالوا: هذا ليس الماء الذي كان على عهد هاجر لكذبناهم ولعناهم، وهذا الآن أكثر من ستة آلاف سنة.وقد أطلق العليم الحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة فقال: ( زمزم لما شرب له )، وقال: ( زمزم طعام طعم وشفاء سقم )، وكم وكم من مريض شفي، وكم من عقيم ولدت، وكم من غائب عاد، فأنت بقوة إيمانك وصدقك مع ربك وإقبالك على الله في صدق تشرب زمزم لغرض ما فيحققه الله تعالى إن كان فيه خير لك.ومن السنة: أن من طاف بالبيت سبعة أشواط وهو حاج وصلى ركعتين خلف المقام يأتي زمزم فيشرب ويتضلع، ومعنى التضلع: أن يشرب الحاج حتى يمتلئ ضلوعك بالماء.وأحد الإخوة الصالحين كان يشرب دلواً كاملاً من زمزم ويوسع بطنه بيديه، ليحقق معنى التضلع بيديه.وإسماعيل كان مع والدته وإذا بقافلة من قوافل العرب مارة وهي من جرهم، يطلبون الماء فلم يجدوه، وظمئوا، فأرسلوا من يطلب لهم الماء، فشاهد طائراً يحوم حول جبال مكة، فقال: لن يكون هنا إلا ماء، والطير لا يطير إلا حول الماء، فجاء فوجد الماء فسر وفرح وعاد إلى قبيلة جرهم وقال لهم: تعالوا فإن الماء موجود في جبال فاران، فجاءت القافلة فنزلوا. وقالوا: أتأذنين لنا يا أم إسماعيل في أن ننزل بهذه الديار حولك من أجل الماء؟وهذه امرأة غريبة الدار، لا ولي لها إلا الله، وما معها إلا طفلها إسماعيل، فيستأذنونها في البقاء في النزول هنا، وهل يفعل هذا غير المسلمين؟ أما المسلمين بحق فنعم أما نحن فلا.إذاً هي امرأة غريبة وحيدة يطلب إذنها في أن ينزلوا عندها، فتقول: نعم على ألا حق لكم في الماء، ويوافقون ويطأطئون رءوسهم: الماء ماؤك.أو ما فهمتم هذه اللغة السياسية: الآن لو أن يهودياً .. نصرانياً .. عربياً .. كافراً .. شيوعياً وجد امرأة على ماء فإنه لا يستأذنها بل يلوي رأسها وعنقها، ويأخذ البلاد والعباد بالقوة، والشيوعية مثلاً صادرت أموال الناس: مزارعهم .. مصانعهم .. أموالهم بالقوة.أما قبيلة جرهم فتستأذن امرأة غريبة: هل تسمحين لنا؟ولو قالت: لا نسمح لعادوا من حيث أتوا، ولو اشترطت ألا حق لهم في الماء، لقبلوا الشرط ونزلوا.وقد ذكرت لكم أن إسماعيل واعد شخصاً فأقام سنة كاملة، وأثنى الله تعالى عليه بقوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم:54-55]، اللهم اجعلنا من محبيهم، أما أن نكون مثلهم فهذا لا يتحقق، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ [مريم:55]، وهم في مكة، فقد تزوج الجرهمية، وأنجب من أنجب، وكان من ولده عدنان، ونحن من ذرية عدنان.وقوله: وَإِسْحَاقَ [آل عمران:84]، فإسحاق هو ابن إبراهيم عليه السلام، وأمه هي سارة بالسين لا بالصاد.واليوم تعلمنا علماً جديداً، ونحن نفرح بالعلم وفهمنا أن الماسون بالفرنسية الماصون وهو الذي يبني، وفي اللغة الإنجليزية ليس عندهم الصاد فقالوا: ماسون، فالماصو باللغة الفرنسية البناء، فالماصونيون البناءون لأمجاد اليهود، ومعنى الماسونيين البناءون لأمجاد بني إسرائيل الهدامون لأمجاد الخلق كلهم إلا لمجدهم يبنون.وأم إسحاق كانت عاقراً لا تلد، وإبراهيم كبرت سنه، وقد انخدع بعض المفسرين وحكوا حكاية اليهود وقالوا: إن إسحاق ولد قبل إسماعيل، وإن إسحاق هو الذي أخذه إبراهيم ليذبحه قرباناً لله تعالى، وهذا خطأ فاحش، فقد هاجر إبراهيم مع سارة وكانت زوجته من قديم فتزوجها في بيته مع أمه وأبيه وما ولدت لعقمها، وشاخ إبراهيم وكبر واختتن لما بلغ الثمانين من عمره، والقصة في القرآن واضحة من سورة هود عليه السلام في ذلك القصص.المهم لما دخل الوفد أصحاب المهمة لنسف مدن سدوم وعمورة نزلوا على إبراهيم في طريقهم إلى مهمتهم: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:25-29]، كيف ألد؟ وضربت وجهها على عادة النساء قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات:30].والشاهد في (عجوز عقيم): قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:72-73]، فهذه هي سارة وقد بشرت الآن بأن تلد ولداً هو إسحاق، قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، ولا يقوى على هذه البشرى من الخلق إلا الله، فهو يبشرك بولد ويولد ويعيش ويولد له ولد اسمه يعقوب؛ ولهذا قال: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً [الأنبياء:72]، فالبشرى الأولى بإسحاق وزادوها نافلة أخرى يعقوب، فتكون أم إسحاق وجدة ليعقوب، ومن يفعل هذا سوى الله.
الإيمان بما أنزل على الأسباط
قال تعالى: وَالأَسْبَاطِ [آل عمران:84] الأسباط جمع سبط، والسبط هو الحفيد ابن بنتك أو ابن ابنك، والأسباط هنا هم أولاد يعقوب، وهم اثنا عشر ولداً على رأسهم الصديق يوسف وأخوه بنيامين، وهؤلاء الأسباط كل منهم أصبح شيخ قبيلة، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، فهذا جرهمي .. وهذا غفاري .. وهذا جهني، فكل واحد من أولاد يعقوب أصبح أباً لقبيلة، وإخوة يوسف نبأهم الله وكانوا أنبياء؛ ولهذا نؤمن بالأسباط.
الإيمان بما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم
قال تعالى: وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ نحن معاشر المسلمين منهجنا أننا نؤمن بكل نبي وكل رسول، ونؤمن بكل كتاب وصحيفة أنزلها الله عز وجل، فلا نؤمن ببعض الكتب ونكفر ببعض، ولا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، فإن الذين يفعلون هذا قد خرجوا من دائرة الإسلام والإيمان، وهم كفار ملعونون، وهذه صفعة على وجه وفد نجران وقبائل اليهود الذين يتبجحون بأنهم مؤمنون ومسلمون، فأبطل الله دعواهم، وقرر هذه الحقيقة.
الإسلام دين الأنبياء كلهم
ختم الله تعالى الآيات بقوله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84]، وهذا هو منهجنا: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]، فهؤلاء هم المسلمون، وهم مناقدون خاضعون فنمتثل الأمر ونجتنب النهي، أما اليهود فقد آمنوا بموسى وكفروا بعيسى، ولا قيمة لإيمانهم، أما النصارى فقد آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا قيمة إيمانهم.واعلموا أن الإجماع قد انقعد على أن من كذب رسولاً كأنما كذب كل الرسل، وأن من كذب بصحيفة واحدة فكأنما كذب بكل الصحف والكتب؛ لأنه تعالى على الله وأصبح يختار، فيؤمن بهذا الكتاب ولا يؤمن بهذا، ويؤمن بهذا الرسول ولا يؤمن بهذا، والله أمر بالإيمان بالكتب كلها وحينئذ يكون قد كفر وخرج من ملة الإسلام.وقوله: مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [آل عمران:84]، أي: ما أعطوا وما أوحي إليهم، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84].
تفسير قوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ...)
أخيراً يقول تعالى: وَمَنْ (مَن) مِن ألفاظ العموم، الذكر والأنثى والكل وَمَنْ يَبْتَغِ أي: يطلب غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا [آل عمران:85]. يدين به لله، فوالله لن يقبل منه.وأيما أبيض .. أسود .. أصفر .. أحمر، نصراني .. مسيحي .. بوذي .. عربي .. عجمي، يطلب غير الإسلام ديناً له يتدين به لا يقبل منه، وهذه الآية قطعية الدلالة، ففي أول السورة أخبر تعالى بأن الدين عند الله هو الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وتلك الآية عامة يقول: أنا مسلم قلبي ووجهي لله، وأنا أعبد الله بما جاء عن عيسى أو موسى مثلاً، لكن هنا: ومن يطلب غير الإسلام، أي: الإسلام المعروف الذي قواعده الخمس والذي بعثت به الرسل وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم .. أي: الإسلام ذو الإيمان والإحسان، فمن يبتغ ديناً يدين به لله غير الإسلام فلن يقبله الله منه، وفي الأخير هو من الخاسرين، فبطل كل دين على وجه الأرض بعد أن بعث الله محمداً وأرسله وأنزل عليه وحيه وكتابه، وبين له شرائع الله وما يعبد به، فمن يطلب ديناً غير الإسلام فهو كافر ولن يقبل منه وهو في الدار الآخرة من الخاسرين، الخاسرين لكل شيء حتى أنفسهم، إذ قال تعالى لرسوله: قُل ْ يا رسولنا إِنَّ الْخَاسِرِينَ أي: بحق الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، وأي خسران لإنسان يوضع في تابوت وصندوق من حديد، ويغلق عليه الصندوق، ويرمى في عالم الشقاء فلا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ولا يأكل ولا يشرب ولا يصاحب أحداً ولا يلازمه آخر ولا يتصل بأحد بليارات السنين، وهذا نوع من العذاب، فأي خسران أعظم من هذا؟ وأهل النار لا يجدون أباً ولا أماً ولا أختاً ولا صديقاً ولا زميلاً ولا غربة نهائياً، والغربة من أشد الآلام، وهذا يتحقق في عالم النار.
خلاصة تفسير الآيتين السابقتين
إذاً: هاتين الآيتين نعيد تلاوتهما وتأملوا: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ [آل عمران:84] أي: لله، مُسْلِمُونَ [آل عمران:84]، ومعنى مسلمون: منقادون خاضعون، فإن قال: لا تأكلوا؛ لا نأكل، وإن قال: صلوا صلينا، وإن قال: أعطوا أعطينا، وإن قال: امنعوا منعنا، فهذا هو الإسلام؛ انقياد كامل لله عز وجل مع حب الله وتعظيمه والخوف منه والرغبة فيه.ورسول الله يعلمكم يقول: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )، فالمسلم الحق هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، أما الذي يأكل أموال المسلمين أو يضرب أجسامهم أو يقتلهم ويسفك دماءهم فهذا المسلم! هل المسلم هو الذي يلغ في أعراض المسلمين فينهشها ويأكلها، ويسب ويشتم ويعير ويسخر ويستهزئ بالمسلمين أولياء الله؟! لا.وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]؛ لأن هذا الدين الذي دان به لله بدعة ابتدعها رجاله كالنصرانية واليهودية والهندوكية والبوذية والمجوسية، فما أنزل الله نصرانية ولا يهودية ولا بوذية، وهذه بدعة ابتدعوها، ولا يقبل الله إلا ما شرعه، وسر ذلك عند الدارسين معروف كالشمس في رابعة النهار.والعبادة إذا لم يشرعها الله ويقننها فإن هذه العبادة لن تزكي النفس ولن تطهر الروح، ولن يفلح صاحبها؛ لأن الفلاح متوقف على زكاة النفس وطهارتها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فكونك تعبد الله بعبادات طول الليل ولا تزكي نفسك فماذا استفدت؟ ولهذا نددنا بالبدع وقلنا: كل بدعة ضلالة، حتى الذكر إذا لم يشرعه الله فلن ينفعك، فإن كنت تقول: أنا مع الله وأنت تذكر: هو هو هو هو، حي حي حي، طول الليل فلن ينفعك هذا؛ لأن الله ما شرع هذه العبادة، ولن تنتج لك الطاقة النورانية التي تزكو بها النفس البشرية.وقد جاءني كتاب فيه قصيدة فيها مائة بيت كذا لـعبد القادر الجيلاني قد جعلوه مثل الله، وأخذوا يمجدونه: يا قطب الأقطاب! لا قطب إلا أنت، يا كذا! يا كذا! يا كذا! والعامي يقرأ هذا طول الليل يتقرب به إلى الله، وهو والله إنما يتقرب إلى الشيطان: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال المؤلف: [ من هداية الآيات: أولاً: لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض ]. فلو قلت: أنا لا أؤمن بيوشع بن نون تلميذ موسى وخادمه خرجت من الإسلام، فإذا ثبتت نبوة نبي أو رسالة رسول ما بقي لنا خيار أبداً، آمنا بالله ورسله.وقوله: (لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض) كما هي حال اليهود والنصارى والمجوس ومن إليهم.قال: [ كما لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض ما أنزل الله تعالى على رسله ويكفر ببعض ] فلو يقول قائل: أنا أؤمن بالقرآن بكامله إلا آية واحدة مثل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3] فقائل هذا يبقى مسلماً؟ لا يصح إيمانه وإسلامه.قال: [ ثانياً: الإسلام هو الانقياد ] ما هو الانقياد؟أعطني حبلاً أجعله في رقبة أحدنا ونجره، فإذا مشى معي يقال: هذا انقاد، وإذا لوى رأسه وقال: لا أمشي، فهذا غير منقاد، فالإسلام في عنقك فإن مشيت وطبقت شرائعه وأحكامه انقدت، وإن قلت: أنا ما أطبق الصوم مثلاً، فهذا غير منقاد.قال: [ الإسلام هو الانقياد والخضوع لله تعالى، وهو يتنافى مع التخيير بين رسل الله ووحيه إليهم ]. فالمنقاد لا يخير يقول: أنا أؤمن بهذا ولا أؤمن بهذا.[ ثالثاً: بطلان سائر الأديان والملل سوى الدين الإسلامي وملة محمد صلى الله عليه وسلم ].فيجب أن يعلم هذا الأبيض والأصفر وفي دنيا البشر، فالإسلام دين البشرية كلها أبيضها وأصفرها، وليس دين المسلمين خاصة، فالإسلام: هو الانقياد لله والخضوع بفعل ما أمر وترك ما نهى، ويثبت ذلك الأمر والنهي في كتابه القرآن الذي نسخ به الكتب وعلى لسان رسوله الخاتم المبين المفسر الشارح لعبادات الله. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (26)
الحلقة (167)
تفسير سورة آل عمران (32)
لقد توعد الله عز وجل من يكفر بعد إيمانه بالوعيد الشديد، وبين أن جزاءهم اللعن والطرد من رحمة الله، ولعنة الملائكة والناس أجمعين، ومن عطل شريعة الله سبحانه وتعالى بكاملها وأعرض عنها، واستورد عوضاً عنها القوانين الوضعية والأحكام البشرية، داخل في هذا الوعيد، إلا أن يتوب إلى الله من بعد ذلك ويعمل صالحاً.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الثلاثاء من يوم الإثنين ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ) .اللهم حقق رجاءنا يا ولينا؛ إنه لا ولي لنا سواك.وها نحن مع هذه الآيات الأربع من سورة آل عمران.وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:86-89].هذا كلام الله عز وجل. وقبل الشروع فيها نذكر أنفسنا بالآيتين السابقتين اللتين درسناهما الليلة الماضية.
الدعوة إلى الإيمان بالله والإسلام له
قال تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84] وهذه عقيدتنا مهما تغيرت الأزمان والأحوال، فأمرنا الله أن نقول، قلنا: يا ربنا، قال: قل يا رسولنا وأمتك معك: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [آل عمران:84] من هذا القرآن وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84] أي: مسلمون لله، لا للدنيا ولا للهوى ولا للشهوة ولا للباطل، وإنما مسلمون لله.ولو قال لنا قائل: ماذا أسلمتم لله؟ تعلنون أنكم مسلمون فأي شيء أسلمتموه؟جوابنا : أسلمنا له قلوبنا فلا تتقلب أبداً إلا في طلب رضاه، وأسلمنا له وجوهنا وتبعتها أعضاؤنا، فو الله لا نبني ولا نهدم ولا نتزوج ولا نطلق ولا نأكل ولا نشرب ولا ننام ولا نستيقظ إلا من أجل الله؛ لأننا وقف على الله، وكل ريع الوقف يعود إلى من أوقف عليه، وآية الوقفية من سورة الأنعام المباركة وهي قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].إذاً: أنتم وقف على الله، فإياكم أن يضيع شيء منكم لغير الله. فلما تجلس يا شيخ عبد الله أمام شاشة الفيديو أو التلفاز، وتبدأ أنواع العروض تظهر من دقيقة إلى أخرى، وأنت وسيدتك وبناتك وأولادك، وهذه تضحك وهذا يقول: انظر يا بابا، وهذا كذا، ساعتين أو ثلاث ساعات، فهذا الوقت من سمح لكم ووهبكم أن تضيعوه في ما يغضب الله .. في ما يسخط الملائكة ويخرجهم من بيوتكم؟ وإذا فرغ المنزل يعمره العدو المتربص ألا وهم الشياطين.فإذا دخلت الشياطين ماذا تصنع معكم؟تطبخ لكم الطعام! تحرس لكم بيتكم من اللصوص! تزيد في طاقة إيمانكم!مهمة الشياطين إفساد قلوبكم؛ لتخبث نفوسكم، فتتحدون معهم في أنكم من أهل النار، وهذه مهمة إبليس، إذ قال لربه: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ يا رب لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ [ص:82].فالذي يضيع الساعتين في هذا الباطل يكون الشيطان قد أخذ منه ربع وقفه؛ لأنه يستيقظ عشر ساعات ويقضي اثنا عشر ساعة في النوم.وكذلك لما تجلس تقول: هات يا ولد جريدة البلاد .. الجزيرة .. الرياض .. كذا، وتبدأ تتصفح وتقرأ ثم ترمي، ولمدة ساعتين. فما الذي استفدته وقدمته لله في الساعتين؟ أسألك بالله أن تخبرني.الجواب: لا شيء. هل نفعت هذه الصحف في زيادة المعارف والعلوم؟ وهل رقتهم وسمت بهم في آدابهم وأخلاقهم فتأتسي أنت وتجري وراءهم؟ كلا.أين الفائدة المرجوة؟!لو كنت مسئولاً على البلاد والعباد وأردت أن تتبع أحداث العالم فهل أنت وليهم لنعذرك، وهل يكون عملك هذا في قراءة الصحف بالساعة والساعتين هذا لله؛ لأنك تريد أن تحمي من تحتك وأنت أميرهم ووليهم، لكن ما دمت لا صلة لك بالسياسة ولا علاقة لك بالحكم فتضييعك لهذا الوقت في سبيل من؟!والله لأن تصلي ركعتين خير لك ألف مرة من تلك الساعتين التي تقرأ فيهما المجلات والصحف الهابطة، لا تتعلم فيهما آية ولا سنة.أين الوقفية على الله؟ اتصلت بي مؤمنة تقول: يا شيخ! زوجي يفجر بالخادمة وفي رمضان، فماذا أصنع؟قلت لها: انصحيه وقولي له: اسمع يا فحل! إما أن تتوب وإما أن نفارقك، فإن الله لا يجمع الطيبين مع الأخباث ولا الخبثاء مع الطيبين، فالطيبون للطيبات والخبيثون للخبيثات.ثم سألتها: هل عندكم في البيت تلفاز؟ قالت: نعم عندنا نلفاز نجلس عليه.قلت لها: لم؟ قالت: من أجل الأولاد.فوضعت السماعة وتركتها، وعرفت أن العلة في الشياطين فهي التي زينت وحسنت وحملت هذا الرجل على أن يفجر بخادمته وأم أولاده بين يديه.فمن مسخ قلبه وأزال ذلك النور وأبطله؟ كيف اكتسب هذا؟ والله إنه لمن السماع والنظر. إذاً: نقول: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ نعم يا رب! لك لا لسواك مسلمون، أسلمنا قلوبنا ووجوهنا، فلا هم لنا إلا أن يرضى الله ولا يسخط علينا، وليس هذا بمانع أن تتناول مسحاتك يا فلاح وتسقي زرعك أو أن تعمل في حديقتك لتكتسب قوتك، أو أن تحمل كيسك أو زنبيلك وتجول في الشوارع تلتقط الأوساخ كناس في البلدية، لنعم ذلك العمل إن كنت تريد به وجه الله عز وجل.
لا دين إلا الإسلام
الإسلام لا نبغي ديناً سواه للآية الأخيرة: وَمَنْ يَبْتَغِ أي: يطلب غَيْرَ الإِسْلامِ ديناً يتدين به فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ أولاً وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85] فالخاسرون ليسوا الذين خسروا شياههم وأغنامهم وأولادهم بل كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الشورى:15].فالواجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يفهم هذه الكلمة، فيعرف من هم الخاسرون، فالخاسرون عباد الله هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وهذا حكم الله عز وجل.والإسلام هو: الانقياد والخضوع، وتسليم القلب والوجه لله.ومبنى هذا الدين يقوم على: الإيمان والإسلام والإحسان، وحديث جبريل عليه السلام شاهد في هذا. فقد بعث الله جبريل وتزيا بزي المؤمنين ودخل كأنه بدوي يشق الصفوف والناس ينظرون إليه، حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه ليعلمنا كيف نتلقى العلم والمعرفة، ثم أخذ في السؤال: ( أخبرني يا محمد عن الإيمان، فيقول: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فيقول: صدقت. أخبرني عن الإسلام يا محمد. فيقول: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام إن استطعت إليه سبيلاً، فيقول: صدقت. فقالوا: عجبنا له يسأله ويصدقه ) إذاً هو أعلم منه. ( أخبرني عن الإحسان يا محمد! قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ) فإن عجزت وهبطت وما استطعت أن تصل إلى هذا المستوى فعلى الأقل أن تعبد الله وأنت موقن أنه يراك، فإن لم تكن تراه أنت لعجزك وضعفك فهو يراك.فأيما مؤمن صادق الإيمان يدخل في عبادة ويؤديها كأنه ينظر إلى الله أو موقن أن الله ينظر إليه من المستحيل أن يعبث بها أو يخرج بها عن دائرتها، أو يؤديها على غير الوجه المطلوب منها لتثمر الزكاة والطهر لنفسه، لكن الذي يصلي ولا يشعر أنه مع الله ولا أن الله ينظر إليه ولا هو يتصور أنه بين يدي الله وأنه يناجيه كيف يعبد الله؟ إنها عبادة فارغة لا تنتج زكاة ولا طهراً.فإن قال قائل: ما الدليل على ما تقول يا شيخ؟الجواب: الدليل يقول تعالى في بيان سبيل الهداية والطرق الموصلة إلى الكمال، يقول لرسوله وأمته تابعة له: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ أي: اقرأ ما أوحي إليك من الكتاب وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، فابتدأ بقوله: إِنَّ الصَّلاةَ التي أمرت أن تقيمها تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فيقول العليم الحكيم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له. فهو كالذي لا يأكل فلا يشبع، والذي لا يشرب فلا يرتوي، والذي لا يستريح فلا يستريح، فإنها سنن لا تتبدل، فلو كانت تلك الصلاة قد أثمرت له زكاة روحه وطهارة نفسه لما خرج من المسجد يكذب، ولما صلى ثم خرج من المسجد يغش .. يخدع .. ينظر إلى نساء الناس .. يشتم ويلعن .. يعير ويضحك ويسخر.أين آثار الصلاة؟!والصحيح أنه ما صلى؛ إذ (لو صلى ما غنى) وهذه كلمة قيلت أيام كانت المدينة محط الأنوار على عهد التابعين، فقد مر رجلان في أزقة المدينة الضيقة أيام ما كانت سيارات ولا دبابات، وأثناء الليل وإذا بصوت مغني يسمع من الكوة أو النافذة، وليس بصوت عاهر أو فريد الأطرش ، قال: آه! يا ترى، هل صلى هذا العشاء؟ قال له صاحبه: لو صلى ما غنى. إي والله! لو صلى ما غنى.الآن مضت عليكم فترة، وقبل ثلاثين سنة .. سبع وعشرين سنة، كان الذي يستنكر الأغاني يعتبر معتوه لا قيمة له: كيف يستنكر الأغاني؟ والناس يهيئون الأفراد لهذا، فيتعلم الأغاني النساء والبنات والفتيات والرجال، وكانت هناك مدارس خاصة للتمثيل، وكان هناك فلان مغني، وفلانة مغنية، لكن الحمد لله! زالت تلك السحب ولاحت أنوار الشمس من جديد، وأصبح الحاضرون لا يتألم وممكن واحد في المائة إذا نددنا بالأغاني وأهلها، وقبل اليوم يا ويحك.على كل حال! عرفتم الإسلام الذي نحن من أهله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي: آمنا بالله رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، فلا نصرف طاعة من طاعته لغيره أبداً كيفما كانت الأحوال إلا إذا هددنا بالقتل أو التعذيب فقد رفع الله عنا ذلك: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106].ثانياً: الإسلام قائم على الإيمان، ومن لم يؤمن لا يستطيع أن يسلم شيئاً، فهو شحيح، حتى بساعة من يومه أو ليلته، لكن إذا آمن وأيقن وأصبح على نور من ربه فهو مستعد أن يجاهد.لقد كان الأوائل يرقصون فرحاً إذا دخلوا الميدان ومعركة الجهاد فرحاً بلقاء الله عز وجل؛ لأنهم عرفوا الله عز وجل. وكان أحدهم يخرج بماله، وقد خرج أبو بكر من ماله كله، وخرج عمر من نصف ماله، وخرج شيخكم في جهاد الجزائر من نصف ماله، كان عندي قدر من المال قسمته قسمين وقدمناه للمجاهدين أيام كان الجهاد لله.أما الحكومة السعودية التي نسأل الله تعالى أن يميتنا قبل أن يسقطها، وألا يرينا الله تعالى فيها مكروهاً، فإنها آية الله وحجته على البشرية كلها، أين الذين يفقهون ويفهمون؟لما هبطت أمة الإسلام ولصقت بالأرض وسادها الكفر وقادها إلى العهر والفجور والسحر والباطل وعزم العالم كله ألا عودة للإسلام، وألا قيمة لهذا القرآن، يقرأ على الموتى، ولا يتحقق به أمن ولا طهارة ولا صفاء؛ فجاء الله بـعبد العزيز قدس الله روحه، ولعن الله من يلعنه، جاء به في ظروف قاسية وشديدة، واسألوا الذين كانوا في جيشه فقد كان راتبهم صاعاً من شعير أو تمر، ولا طائرة ولا سيارة ولا هاتف، فحكَّم كتاب الله، وأقام تلك الدولة البدوية الصحراوية على دعائم إلهية ربانية؛ أربع دعائم فقط جاءت في قول الله تعالى من سورة الحج يا أهل القرآن: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] وبالله الذي لا إله غيره لن تكمل أمة ولن يسعد شعب ولن تطهر بلاد ولن تعز ما لم تقم الدولة على هذه الأركان الأربعة.وساد البلاد أمن ما حلمت به هذه البلاد من عهد القرون الذهبية الأولى، بعدما كان الرجل في المدينة يجد باب بيته يباع في السوق فلا يتكلم. وكان الحاج يأكل ذهبه يدخرها في بطنه حتى إذا خرأها استخرجها وإلا تسلب منه.فساد هذه البلاد أمن، ويمشي الرجل من طرف المملكة إلى طرفها شرقاً وغرباً لا يخاف إلا الله، وقد سكنا من كذا وأربعين سنة في منزل والله بلا باب، وهذه السويقة الصغيرة باب السلام تمر بالذهب والدراهم والدنانير مكومة وعليها غشاء غطاء من خرقة بالية والمؤمنون بين يدي الله يصلون، لا يخافون أن يسلب دينار ولا درهم، فكيف تحقق هذا الأمن؟ بالسحر! تحقق بالبوليس! بالآلات!فرنسا رسمياً تعلن عن عشرة آلاف جريمة في كل يوم، ومن منا يملك طاقات الأمن كفرنسا؟ وهل نفعت؟!لقد تحقق طهر ما كانت تعرفه هذه البلاد إلا في عهد القرون الذهبية بقوة ماذا؟ لا شيء.لقد أراد الله أن يقيم حجته على الخلق ليعلموا أن الإسلام إذا طبق وعمل به لابد وأن يتحقق به مراد الله من الأمن والطهر والصفاء.وسحر اليهود العرب والمسلمون فاستقل لنا نيف وأربعون إقليماً، وعايشنا تلك الاستقلالات، فلما كان الإقليم يستقل كان نقول: الله أكبر! الله أكبر! فاستقلت باكستان .. استقلت إندونيسيا .. ولم يعرف إقليم واحد هذه القواعد الأربعة وبنى عليها دولته، وهو كذلك حال الدويلات الهابطة والتي فيها حفنات من البشر.أنا أعجب! حاربنا فرنسا وطردناها وأجليناها فلم لا نطبق شريعة الله؟طردنا بريطانيا وأبعدنا هولندا العجوز وقد كانت تحكمنا في إندونيسيا، كيف أن ثلاثة عشر مليوناً يسوسون مائة مليون، فأين المسلمون؟ الجواب: ماتوا. فلا أقيمت الصلاة في بلد ولا جبيت الزكاة في بلد ولا وجد من يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر في بلد.وكان المفروض بنا لو كنا متأهلين للخير أنه ما إن يستقل إقليم - ونحن ما استقللنا في يوم واحد ولا في عام واحد بل أكثر من خمسين سنة- في الشرق أو الغرب، في بلاد العجم أو العرب يأتي رجاله على الفور، وتأتي لجنة سباعية .. عشارية، ويقولون: أي عبد العزيز ! أنت إمام المسلمين، وهذه مفاتيح البلاد بين يديك، فابعث لنا قضاة يقضون بيننا بالكتاب والسنة كما عندكم، ويكونون هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيدخلون البلاد أولاً: إقام الصلاة إجبارية. ثانياً: جباية الزكاة رسمية، فلا ضريبة ولا مضروبة، وثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم تابعون للدولة الإسلامية وجزء منها حتى تعود الخلافة من جديد. والله ما فعل هذا قطر ولا إقليم لا من العرب ولا من المسلمين. وهذا الواقع. وبعد ماذا أصابهم من بلاء؟ هل عزوا؟ هل كملوا؟ هل سعدوا؟ هل طابوا وطهروا؟أسألكم بالله! لا شيء، هذا جزاؤنا، لو تم هذا لكانت الخلافة قائمة، لكن على العكس هناك من يقول: السعودية اليهودية، السعودية الوهابية، فالسب والشتم. ومحدثكم هذا الذي تغضبون له وعليه سمع هذا من الشرق والغرب، كأنه لا عدو إلا هذا، والله بأذني هاتين ركبت حافلة في بلد ما، وطلع أعمى ومعه دف وزميله مساعده معه، يدفدفون هكذا ويطلبون الفلوس يقولون: يا سعودية يا يهودية؛ ليجمعوا الفلوس ويعطيهم إخوانكم. آه! فماذا عسانا أن نقول؟وجاءت الفاضحة، وليست الحاقة ولا الواقعة، وهي حرب الخليج، وإخواننا المسلمون يرقصون ويصفقون فرحون بالجهاد مع صدام . والله لولا الله لتبقى هذه الحجة له قائمة لكانوا في أربعة أيام يطبقون علينا نهائياً، وقد طوقونا من الشمال والجنوب والغرب والشرق، ولكن الله قال: قفوا، فما زالت حجة الله عز وجل. فوقفوا.هل من واع؟ كلا، فلا بصيرة ولا وعي.وفي داخل البلاد يعملون على إسقاطها وإحباطها، فيهزءون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسخرون من العلماء، ويستهزئون بالحكام وهم لا يشعرون.ونحن نقول: يا جماعة! يا مسلمون في الشرق والغرب! هذه آية ربكم لا تطفئوا نورها، فاعملوا على بقائها وتقويتها.إن الذي يزني في هذه البلاد يهدم في هذه الحكومة، والذي يكذب في هذه البلاد كالذي يسرق ويهدم، والذي يترك ذكر الله ويقبل على ذكر الشيطان هو يعمل على هدم هذه البقية الباقية، تقول: استقيموا، ولكن:أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تناديوليمض حكم الله وهو العزيز الحكيم.إلا أننا نتوقع أن محنة وفتنة وبلاء ستنزل بالعرب والمسلمين، لا ندري كيف، وظواهرها وبوادرها لائحة في الآفاق، لأننا ما عرفنا الطريق إلى الله. والعلة ما من مصيبة إلا بذنب، وصدق الله العظيم: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].
تفسير قوله تعالى: (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ...)
قال تعالى: كَيْفَ بمعنى الاستبعاد: كيف هذا؟ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ [آل عمران:86] أي: كيف ترجع هذه الأمة إلى ربها وتعود إلى منهج إلهها لتسموا وتكمل وقد هبطت؟قال: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:86] أي: كالشمس وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران:86] أي: لا يهديهم إلى ما فيه سعادتهم وكمالهم .. لا يهديهم إلى طرق النجاة والسلامة من عذاب الدنيا وخزيها وعذاب الآخرة وخزيها.وهذه الآية وإن نزلت في أحداث فهي عامة.كم واحد دخل في الإسلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ذهبوا إلى مكة وارتدوا؟هناك مجموعة من اليهود حصل منهم هذا، لكن الآية ليست بسبب شخص أو أشخاص.قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا قلوا أو كثروا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ أي: بعد أن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله انتكسوا وارتدوا وعبدوا غير الله، وكذبوا رسول الله وحاربوا دينه ورسالته.فيستبعد الله تعالى إيمان هؤلاء، فما يعودون.وبنو أبيرق كانوا قد سرقوا درعاً، والدروع كانت ذات قيمة في الحروب، فلما طلبوه وشعروا أخذوا الدرع ورموه في بيت يهودي وقالوا: تعالوا، فالدرع في سقيفة اليهودي. فجاء الأصحاب ووجدوا الدرع في بيت اليهودي، فقال اليهودي: أبداً، أنا ما فعلت، والنبي صلى الله عليه وسلم بشر، فدافع عن بني أبيرق، ثم فضحهم الله، وشرد زعيمهم وذهب إلى مكة مرتداً، وجاء يخون في منزل فحفر الجدار وأدخل رأسه فسقط عليه الجدار، فألقي كالفأر ميتاً كافراً في الجدار، وفيه نزل: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا * وَاسْتَغْفِرِ... [النساء:105-106] الآيات.فهذه الأحداث وجدت، لكن الآية أعم من جماعة أو فرد.ثم لما نبحث في قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ [آل عمران:86] نجد ينطبق على الذين عطلوا الشريعة بكاملها وأعرضوا عنها، ويستوردون القوانين الهابطة من ديار الشيوعية والصليبية والكفر ويعرضون عن الإسلام.وشيء آخر: هل سادوا أو عزوا وكملوا؟ هل ذاقوا نسيم الأمن والطهر في ديارهم؟ والله ما ذاقوه.هي نتوب إلى الله، فإن الله قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:89]. من يبلغهم هذا؟ لا أحد، فهناك إعراض كامل.
تفسير قوله تعالى: (أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)
يقول تعالى في بيان الجزاء للمرتدين والمنتكسين والمعرضين بعدما لاحت أنوار القرآن وهدايته في الأرض، يقول: أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ ماذا؟ مائة ريال .. سجن .. أولئك البعداء الخاسرون: جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [آل عمران:87] واللعن هو: الطرد والبعد، تقول: العنه أي: اطرده وأبعده من ساحتك. فلعنة الله تعني إبعادهم عن كل خير، ولعنة الملائكة تعني الدعاء عليهم بالبلاء والشقاء، ولعنة الناس أجمعين تكون يوم القيامة، فالظالمون يلعن بعضهم بعضاً وهم في جهنم.إذاً أولئك البعداء جزاؤهم مقابل ردتهم وانتكاستهم وإعراضهم ونسيانهم لذكر الله بعدما جاءهم الحق وعرفوه، الكتاب بين أيديهم والرسول يعرفون حتى قبره وبلاده؛ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [آل عمران:87] .
تفسير قوله تعالى: (خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون)
قال: خَالِدِينَ فِيهَا [آل عمران:88] فلا يخرجون من هذه اللعنة، من أين يخرجون وقد أغلقوا الباب على أنفسهم، فارتدوا وانتكسوا، ولو عرفوا الطريق وعادوا ممكن كما سيأتي، لكن الواقع هو هذا: خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [آل عمران:88] لا يفتر ولا يخفف العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ [آل عمران:88]، فالله غاضب ساخط عليهم، لا يرحمهم ولا يلتفت إليهم.
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)
اللهم: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا [آل عمران:89] فرجعوا إلى الإيمان والعمل الصالح وما أفسدوه، وأما القلوب التي أفسدوها والنفوس التي دسوها بالباطل والشر يعملون على إصلاحها.إذاً: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:89] فيغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم، إذ من صفاته صفات الجلال والكمال أنه غفور، فلو لم يكن من ذنب كيف يعرف أن الله غفور؟وهو رحيم بعباده .. بالحيوانات .. بكل المخلوقات، فكيف بمن رجعوا إليه واطرحوا بين يديه معلنين عن توبتهم وإسلامهم؟!هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (27)
الحلقة (168)
تفسير سورة آل عمران (33)
إن أعظم نعمة ينعم بها الله على عباده أن يهيئهم للإيمان والتوبة من العصيان، ومن أعظم الخذلان أن يكفر المرء بعد إيمان، وأن يعود إلى الظلمات بعد أن أخرجه الله منها، ومن كان هذا حاله فلن ينفعه شيء في الآخرة، ولن ينجيه من عذاب الله شيء، حتى لوى افتدى نفسه بملء الأرض ذهباً، وحتى لو افتدى نفسه بالقريب والبعيد.
تفسير قوله تعالى: (كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الثلاثاء من يوم الأربعاء، ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).اللهم حقق لنا رجاءنا فيك يا رب العالمين.وبشرى أخرى نزفها لكم يا أيها المؤمنون! يقول صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ) فهنيئاً لكم.وثالثة: إذا صلى العبد الفريضة وجلس في مصلاه يذكر الله حتى صلى الفريضة الثانية غفر له ما تقدم من ذنبه، فالحمد لله الذي أعطانا ما حرمه غيرنا، والآن عشرات الآلاف من أبنائنا وإخواننا يتواجدون هنا وهناك وهم محرومون من هذه الجلسة، لا لشيء، فقط ما أقبلوا على الله لا أقل ولا أكثر، فالحمد لله! وهذه هبته وعطيته، فلا يحمد على الحقيقة إلا هو.وها نحن مع هذه الآيات الثلاث.تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:90-92].
أهمية الإسراع في التوبة وعدم الاستمرار على المعاصي
معشر المستمعين والمستمعات! انتبهوا لهذا الخبر، يقول الله العليم الحكيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] بالنسبة إلى أهل الإيمان من أمثالكم -أكثر الله منكم- أن عبد الله أو أمته إذا تاب قبلت توبته ما لم يغرغر، فإذا حشرجت النفس في الصدر وأصبح غر لا يفصح عما يقول ثَمَّ أغلق باب التوبة عنه فلا يفتح، أما قبل أن يغرغر فإن توبته مقبولة ولو عصى الله في اليوم سبعين مرة وتاب عند كل معصية باب الله مفتوح.ولكن مع هذا تنبيه .. تحذير .. إعلام: احذر يا عبد الله واحذر يا أمة الله! من الاستمرار على المعصية، فإنه يأتي وقت يحال بينك وبين التوبة، فلا تستطيعها، ولا تقدر عليها، أما الله تعالى فهو مستعد لأن يقبلها إن جاءت، وإذا حال بينك وبينها حوائل فماذا تصنع؟!فليحذر عبد الله أو أمته من الاستمرار على المعصية.يا عبد الله! يا أمة الله! إذا زلت القدم وأصر عبد الله أو أمته على المعصية فليعجل التوبة وليسرع بها؛ خشية أن يحال بينه وبينها، واسمعوا قول الله عز وجل في هذا الشأن، فقد جاء من سورة النساء المدنية: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:17-18].ومن هنا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته سبيل نجاتها، فقال وقوله مستقى من كلام ربه، قال: ( عجلوا بالتوبة ولا تؤخروها )، فمن أذنب ذنباً فليسارع بالتوبة ولا يتماطل أو يتسوف، فأسرع يا عبد الله خشية أن يصبح العبد على حال لا يستطيع معها أن يتوب؛ لأنها سنة الله في الناس. فالذي تعود أكل الحلال .. تعود أن يتناول تمرة عند يقظته من نومه يصبح في حال لا يستطيع أن يصبر على ذلك، فقد تعود أن يأكل نوعاً من الطعام يصبح لا يرغب إلا فيه، وهذه أمور مشاهدة، كالذي يعتاد الكذب ويستمر عليه يصعب عليه أن يتوب منه، والذي يعتاد أية معصية ويستمر معها ولا يسارع إلى التوبة ولا يتوب منها ففي أغلب الأحوال أنه يموت عليها، ولهذا أجمع أهل هذه الملة على وجوب التوبة وعدم تأخيرها.قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: واجبة على الله واجب تفضل به وامتن به علينا، وإلا الله من يوجب عليه؟ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ وهو كل سيئة من شأنها أن تسوء إلى النفس البشرية فتلوثها وتدسيها يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17] أما عمداً وتحدياً وعدم مبالاة بالله فمثل هذا لا يتوب الله عليه. ومن هذه الجهالات أن يقول: سأتوب إن شاء الله، أو إذا زال كذا، أو إذا حصل كذا، أو يقول: لو كان هذا حرام فلم فعله الشيخ الفلاني؟ أو لو كان هذا مما يكرهه الله فلم يفعله فلان وفلان؟ هذه أنواع الجهالات.بخلاف من يتحدى الله فيقول: أعرف ربي أنه حرم وأنا سآتيه، فمثل هذا لا يتاب عليه.ومن يقول: هذا ليس بحرام، ولا يفهم أنه حرام، فهذا نوع من الجهالة، وبمجرد أن يقبل على الله فإن الله يقبله ويتوب عليه، وله التوبة.ولاحظ هذا القيد فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ أولاً: بِجَهَالَةٍ وثانياً: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] والقرب هنا نسبي، فليس مسافة كيلو أو ميل أو عشرة، ولا مسافة يوم ولا عام ولا عشرين عاماً، فمن هنا كانت الحيطة تتطلب أنك بمجرد ما تفعل المعصية أن تقول: أستغفر الله وأتوب إليه.وإليكم صورة أمام أعينكم: في سوق التمَّارين كانت هناك امرأة مؤمنة زوجها في غزوة من غزوات المؤمنين، فاضطرت إلى أن تأتي إلى السوق لتشتري تمراً لأولادها إذ هذا غذاؤهم، فوقفت على بائع التمر، وأخرجت يدها بيضاء كفلقة القمر؛ لأنها مستورة، فأخرجت النقود، فما إن رآها الفحل التمار حتى أعماه الشيطان فأكب على ذلك الكبش يقبله، ثم قالت: أما تتقي الله؟ فأفاق والله من ذلك السوق وهو يجري ينتف شعر لحيته، ويحثو التراب على رأسه، وعاد يصرخ ويبكي إلى هذا المسجد .. إلى الروضة وهو في حالة لا تتصورها، فسأل أحد الصحابة فرده، وانتظر حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب بالمسلمين وشكا إليه وهو يبكي، فقال: ( صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم. قال: إن الله يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فمسح دموعه ). والله يقول: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ). هذه هي التوبة.أما أن يستمر الليالي الطوال والأيام والأعوام على معصية من كبائر الذنوب فأنى له أن يتوب، ولكن باب الله واسع؛ فكم من إنسان لازم معصية عشر سنين وأقدره الله على التوبة وأعانه عليها فتاب، وكم من إنسان هلك في أسبوعه الأول، ومن هنا الحيطة تقتضي بمجرد ما أشعر أنني أخطأت تقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله وأتوب إليه.
عدم قبول توبة من ازداد كفراً بعد إيمان
قال تعالى في الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ [آل عمران:90] فكانوا مؤمنين، فلما بعث فيهم عيسى عليه السلام كفروا بعيسى وادعوا أنه ساحر وأنه ابن زنا وأنه.. وأنه..؛ محافظة على أموالهم ومناصبهم وعلى رئاستهم بين إخوانهم، والعوام يتبعون العلماء.ثم قال: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [آل عمران:90] أي: فزادوا كفرهم الأول كفرهم بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وهؤلاء أخبر تعالى أنه لن يقبل توبتهم، لأنهم ليسوا بأهل لأن يتوبوا، ولو تابوا فلن تقبل توبتهم ولن يتوبوا، فإنهم كفروا على علم في المرة الأولى، ثم كفروا في المرة الثانية، وكفرهم ليس مجرد تكذيب، بل يضاف إليه الكيد والمكر والقتل وسفك الدماء وإثارة النفوس و.. و.. وجرائم أخرى فعلوها.وقد حاولوا قتل النبي ثلاث مرات، ومات والله متأثراً بالسم الذي سقته الخيبرية.وهذا النوع يقول فيه تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] والضلال بعيد.وهذه مسألة أخرى نضرب لها مثلاً: فهناك فرق بين الضلال القريب والضلال البعيد، والآية فيها ضلال بعيد، فلو أراد أخونا أن يمشي إلى مكة الليلة، فاتجه شمالاً، ومشى طول الليل فتبين له أن مكة في الجنوب وليس في الشمال، فرجع وأمكنه؛ لأن الزاد ما زال عنده والإعياء ما أخذه والراحلة معه، لكن إذا ما كان قد مشى وواصل المشي شهراً أو شهرين فوصل إلى تركيا مثلاً فكيف يرجع؟ فما بقيت له قدرة على الرجوع؛ لأن ضلاله بعيد.ففرق بين الضلال القريب والبعيد، فمن هنا قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] لأنهم توغلوا في الكفر والشر والفساد والظلم والخبث، وما أصبحوا أهلاً لرضا الله أبداً، فلا يقبلهم الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ...)
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [آل عمران:91] أي: كفروا بالله ولقائه .. بالله ورسوله .. بالله وكتابه .. بالله وشرائعه، وماتوا على الكفر، فما أسلموا بعد ذلك ولا رجعوا، فهؤلاء يقول تعالى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [آل عمران:91] كل هذا يوم القيامة في عرصاتها .. في ساحة فصل القضاء. وهل هناك مال يومئذ؟ لا، وهذا من باب التقريب للأذهان، فتوبتهم لا تقبل، والفداء لا يقبل، ولو أراد أحدهم أن يفتدي وكان يملك ملء الأرض ذهباً وقدمه والله ما قبل منه، إذ العمل قد انتهى، والدار دار جزاء إما نعيم مقيم أو عذاب أليم.قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: من العرب والعجم .. من اليهود والنصارى .. من أي جنس وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ماتوا على الكفر، هؤلاء: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ لو قال: رب! هذه الأموال كلها وأنقذني بها من دخول النار؛ إذ يوم القيامة لا دينار ولا درهم، بل ولا نسب ولا حسب، قال تعالى: فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، وكل ما في الأمر: هل النفس زكية طاهرة أو خبيثة منتنة؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] وزكاتها يومئذ، وطهارتها مبنية على تزكيتها اليوم وتطهيرها بالإيمان وصالح الأعمال وبإبعاده عن الشرك والعصيان.ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:91] أي: موجع.ما هذا العذاب الأليم؟قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:13-14]، اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16] أي: تدري؟ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:43-44] والأثيم هو المتوغل في الآثام من الشرك والكفر إلى الظلم والشر والفساد، فقد خبثت نفسه، وهذا هو طعامهم، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:45-46] فهذا الزقوم لما يأكلوه يغلي في بطنه كما تسمع الغليان في القدر، كغلي الحميم، لا، كالماء الحار لما يغلو خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إلى أين؟ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:47-48] فهذا عذاب جسماني قد يطاق ويتحمل، ووراءه عذاب نفسي لا يطاق وهو قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] أي: ذق إنك أنت العزيز في الدنيا الغالب المعتز بوجودك وبلادك وكرمك، فهذا عذاب الروح أشد من عذاب البدن، وإلى الآن الأحرار كلمة في أعراضهم تقتلهم أكثر من ضربة بالسيف.وهل تريدون ألواناً من هذا العذاب؟قال تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ موحد ومشرك فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج:19] ثياب من نار من يفصلها ويقطعها الزبانية يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:19-21] أي: مرزبة على رأسه مقامع من حديد.ماذا تقولون؟ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [يس:63-64]. والله تعالى نسأل أن يقينا عذاب النار، فلهذا لا يصلين أحدكم صلاة حتى يستعيذ بالله من أربع، وهي آخر ما يصلي على النبي يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال ). وما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات. وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91] فلا يوجد من ينصرهم بتأخير العذاب أو بتفتيره عن أوقات معينة، فقد انطوت الحياة كلها وما بقي إلا عالمان أعلى وأسفل .. عليون وسجين، ليس هناك حياة أخرى، وأهل النار في سجين، وإن كانوا من أهل التوحيد فإنهم يصهرون فيها ويلبثون فيها أحقاباً ويحترقون حتى يصبحوا كالحمم أي: كالفحم، ثم يخرجهم الله بتلك الحسنة وهي قولهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله! ويقدمون أو يساقون إلى نهر يسمى: نهر الحيوان، مبالغة في الحياة، فيغسلون فيه فينبتون كما ينبت البقل، ثم يدخلون دار السلام. هذا إن كانوا موحدين لم يشركوا بالله شيئاً، لكن من ذنوبهم أنهم سفكوا الدماء .. أكلوا أموال الناس .. فجروا، كذا .. وماتوا بدون ما توبة، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] فهذه حسنة التوحيد.يا من قلوبهم مع الله! أبشروا حتى لو عذبتم ما شاء الله في عالم الشقاء تعودون إن شاء الله إلى دار السلام.نسأل الله ألا ندخل النار وألا نعذب لا ساعة فيها ولا يوم، بل نريد أن ندخل مع السابقين: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:10-14] اللهم اجعلنا من هذا القليل.
تفسير قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ...)
قال تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ [آل عمران:92] يا معشر المؤمنين والمؤمنات حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92] وسيجزيكم عليه قل الجزاء أو كثر بحسب عمله. وهذه الآية معشر المؤمنين والمؤمنات نزلت فينا لا في اليهود ولا في النصارى؛ لأننا تواقون إلى البر، وسباقون، وكل يرغب أن يكون من الأبرار، والأبرار جمع بار وهو المطيع الصادق في طاعته لله ورسوله، قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا [الانفطار:13-15] متى؟ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [الانفطار:15-16].يا من صاموا وصلوا! يا من قاموا الليل! يا من بذلوا أنفسهم! يا من يسارعون في الخيرات ويسابقون! يا عمر! يا فلان! تعالوا إلى هذا الإرشاد الإلهي وهو: اعلموا أنكم لن تنالوا البر وجزاءه وهي الجنة دار النعيم، ولن تنالوا وصف الأبرار على الحقيقة حتى تنفقوا في سبيل الله مما تحبون، أما الذي لا ينفق أو ينفق مما يكره لا مما يحب فلن يصل إلى هذا المستوى؛ لأن لفظ البر كلمة جامعة للخير كله، والمراد به هنا: الجنة، إذ هي جزاء الأبرار، فلن تنالوها حتى تنفقوا مما تحبون.والحمد لله! ما قال: حتى تنفقوا ما تحبون وإلا خرجنا الليلة من بيوتنا: حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].واشرأبت أعناق المؤمنين لهذا النداء القرآني، فهذا عمر قال: يا رب! أنا ما عندي إلا الجارية الفلانية هي أحب ما أحب من الجواري، فهي لك يا رب، فعتقها.أما ولده عبد الله فقال: أنا عندي نافع مولاي فهو لك يا رب، فأعتق نافعاً .ومِن الصحابة من كان عنده فرس هي أحب ما يكون إليه فقال: هذه فرسي لك يا رب! فهي الذي أحب.وجاء ذاكم الصحابي الجليل طلحة صاحب حديقة بيرحاء، وبئرها كان موجوداً، والآن زال، وقد رأينا بئرها وشربنا منه، فقال : ( يا رسول الله! لقد نزل عليك قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ) أي: حائط بيرحاء، وعنده بساتين أخرى لكن هذه ذات أشجار وظلال ونخيل وماء عذب، وهذا الماء شربنا منه بعد ألف وأربعمائة سنة.قال الصحابي: ( ضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال له الرسول: بخ بخ، ربح البيع. اجعلها في أقاربك، فوزعها بين أقاربه ).ولو يقوم إمام المسلمين الآن ويقول: نريد أن نغزو فأنفقوا مما تحبون، فالذي يقدم سيارة ممتازة يكون حاله كحال هذا الصحابي، والذي يقدم سيارة مهللهة فلا ينفع.أقول: الحمد لله! ما قال: أنفقوا ما تحبون، فمن يطيق؟ بل قال: مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، فإذا كان عندك قطع من الذهب فأنفق منها قطعة، وإذا كان عندك قطع من الفضة فأنفق منها قطعة، وإذا كان عندك من البساتين الكثير وأحب إليك البستان الفلاني فأخرجه تصدق به، وهكذا. وفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زال المؤمنون يفعلون.قال تعالى: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ قل أو كثر فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92] ومعنى هذا: لازمه أنه يجزيكم عليه، ويعطيكم ثوابه، والحسنة بعشر أمثالها، وريال الذي راتبه ألف ريال يعدل مائة ريال الذي راتبه عشرة آلاف ريال، فتختلف الحسنة بأصحابها، فإن كانوا أغنياء فدرهمهم ليس كدرهم الفقير الذي لا يملك، ومعنى هذا أن باب الله مفتوح، فيا من يريدون أن يدخلوا الجنة فإنها مفتحة الأبواب. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [آل عمران:90] فلو كان كفروا ثم تابوا قبلوا كما تقدم في الآية السابقة، لكن ازدادوا كفراً وتوغلوا فيه فلن تقبل التوبة، فخبثوا، وما أصبحت أرواحهم قابلة للطهر والصفاء وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ [آل عمران:90] والضال هو البعيد الضلال الذي لا يرجع.ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [آل عمران:91] فما تابوا قبل أن يموتوا، فهؤلاء الجزاء : فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فداء مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا [آل عمران:91] لو افتدى به، مع أن هذا لا وجود له، فهو من باب الفرض والتقدير فقط. قال: أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91] ينصرونهم، لا بتخفيف العذاب ولا بتأخيره ولا ولا.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
من هداية الآيتين
قال المؤلف: [من هداية الآيتين: أولاً: سنة الله فيمن توغل في الكفر أو الظلم أو الفسق وبلغ حداً بعيداً أنه لا يتوب ] فلهذا عجل بالتوبة ولا تؤخرها أبداً، ولا تقل: حتى أتزوج .. حتى تعود أمي .. حتى أبني المنزل .. حتى أتوظف، فانتبه لهذه الكلمات التي يمليها الشيطان، فإذا شعرت بأنك أذنبت فقل: أستغفر الله وأتوب إليه .. أستغفر الله وأتوب إليك، خشية أن يحال بينك وبين التوبة.ثم قال: [ ثانياً: اليأس من نجاة من مات كافراً يوم القيامة ] فإذا مات أبوك أو أخوك أو زوجتك أو أمك -والعياذ بالله- على الكفر، فلا نجاة أبداً، وليس هناك رجاء أبداً، أيئس. وإذا مات من مات على الكفر أيسوا المؤمنين من أن يدخلوا الجنة أبداً، وهذا كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا [آل عمران:91] فهذا تيئيس.ثم قال: [ ثالثاً: لا فدية تقبل يوم القيامة من أحد، ولا فداء لأحد فيه ] فلو قدمت أسرتك كلها أو تقدمت الأسرة تقول: يا رب! أدخلنا النار وأنج والدنا وأدخله الجنة؛ والله لا يقبل أبداً، بل لو تقف البشرية كلها وتقول: يا رب! أنقذ فلاناً فقط وأدخله الجنة.ومن أراد الصورة المثالية: فهذا رسول الله قائم على الحوض في عرصات القيامة، وإذا بجماعات ممن ينتسبون إلى الإسلام يقبلون على الحوض فيطردون، فتطردهم الملائكة فيقول: ( رب! إخواني، يقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً ).وأوضح من هذا إبراهيم وقد واعده ربه في القرآن بإنقاذ والده من النار، فلما يجد والده في النار يصرخ: يا رب! لقد واعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وهذا أبي الأبعد في النار فأي خزي أخزى من هذا يا رب! فيقال له: انظر تحت قدميك. وكان رافع رأسه يبكي، فينظر وإذا بين يديه والده آزر البابلي في صورة ذكر الضباع ملطخ بالدماء والقيوح، فما إن يراه إبراهيم عليه السلام حتى يقول: سحقاً سحقاً، فيؤخذ من قوائمه الأربع ويلقى في عالم الشقاء، فتطيب نفس إبراهيم.إذاً: من مات له ميت على الشرك والكفر فلييأس من نجاته، أما من مات على ذنب: آكل ربا .. زنا فعل كذا وعقيدته مؤمنة سليمة فهذا يرجى له، وأما من مات على الكفر، والكفر هو الجحود، فمن جحد كلمة واحدة من شرع الله فهو كافر، والتكذيب من كذب الله أو رسوله في قضية واحدة وآمن بكل القضايا فهو كافر. قول ربنا لنا نحن المؤمنين: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ قلَّ أو كثر فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92]، ولازم ذلك أن يجزيكم، فلا تقل: آه لعل الله ما يدري أنني أنفقت يوم كذا كذا وكذا، فانتبه! فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92].
قراءة في تفسير قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ...) من كتاب أيسر التفاسير
من هداية الآية
قال المؤلف: [من هداية الآية: أولاً: البر وهو فعل الخير يهدي إلى الجنة]، وإياك أن تفهم البيرة فهي خمر عالمية، والمرضى بالجهل مساكين صاروا يورّدونها إلى المدينة بحجة أنها خالية من مادة الإسكار الكحول، وأصبحنا نسمع البيرة: أعطني بيرة في المقاهي. وهذه قبل ثلاثين سنة، والحمد صرخنا وبكينا في هذا الدرس وقلنا: يا جماعة! حتى لو كانت عسلاً ما دام اسمها البيرة فهي حرام.وهذا الشاطبي يقول في أصول الفقه: لو تتناول كأس اللبن أو الماء أو العسل على الهيئة التي يتناولها عليها الشرّيب الذي اعتاد يشرب الخمر؛ فتأخذ الكأس على الطريقة التي يأخذ انقلب فوالله إن لبنك إلى خمر، وإنك آثم.وكذلك الذي يمسك القلم ليكتب به على هيئة الحشاشين أصحاب الدخان، وانظر لما يركب السيارة كيف يعمل السيجارة، وأنت تتناول القلم رغبة في أن تكون مثله فانقلب قلمك إلى سيجارة، وهذا لا يصح.واسم البيرة يكفي، وأكثر من يشربها من أبنائنا الطائشين يشربها من أجل اسمها البيرة.ثانياً: الحجاج والزوار عندما يزورون دولة الإسلام التي يمنع فيها صنع الخمر وبيعه وتوريده، ويجلد صاحبه أمام المسجد، يقولون: البيرة موجودة في المدينة، كيف هذا؟! وهي والله موجودة، فسببتم حكومة القرآن وشتمتموها أمام العالم، وهذه وحدها كافية في تحريم هذه المادة، وهذا السائل حرام أن تقدمه، وقد سببتم دولة القرآن وعرضتموها للطعن والنقد والإهانة.ثالثاً: إنهم يوردون عشرين كرتونة كما يقولون بيرة، ويدسون كرتون الوسكي بينها، والله قد فعلوا، وهذه حيل الفساق والفجار والجاهلين الذين لا يعرفون الله إلا بالانتساب، والحمد لله قد استجابت الهيئة وطاردوهم ومنعوها من الدكاكين. قال: [ ثانياً: لن يبلغ العبد بر الله وما عنده من نعيم الآخرة حتى ينفق من أحب أمواله إليه ]، فإن ورثت باخرة كاملة من البيرة فارمها في البحر، والله ليعوضنك الله أكثر مما رميته، وأنت يا صاحب المقهى إن اشتريتها في غفلة أو جهل فارمها في بئر، واطلب الجزاء من الله، فوالله لن تخيب ولن يخيبك.أما أنت يا ضائع! يا من يتلذذ باسم الحرام في مدينة الرسول! فاعلم أنك على حفا هاوية، وإن لم ينقذك الله هلكت، والذي يشرب البيرة ويتلذذ بها والله لو وجد المسكر شربه، أقسم بالله لما نعرف من سنة الله في الخلق.قال: [ ثالثاً: لا يضيع المعروف عند الله تعالى قلَّ أو كثر، طالما أريد به وجه الله تعالى ]، فالذي يتصدق بمليار كالذي يتصدق بريال، والله لا يضيع أجر هذا ولا ذاك، والذي يتصدق بتمرة كالذي يتصدق بصاع من التمر؛ لأن الله لا يضيع أجر المحسنين.وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (28)
الحلقة (169)
تفسير سورة آل عمران (34)
أحل الله عز وجل لعباده الطيبات من الرزق، ومن ذلك أنه أحل لبني إسرائيل كل الطيبات من المطاعم والمشارب إلا ما حرمه يعقوب على نفسه لنذر سبق وأن نذره، ثم لعصيان بني إسرائيل وطغيانهم وتمردهم على شرع الله عاقبهم الله تعالى بأن حرم عليهم طيبات كانت قد أحلت لهم.
تفسير قوله تعالى: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عندهم ) ، اللهم حقق لنا هذا الرجاء؛ إنك ولينا، ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس ونحن في سورة آل عمران إلى هذه الآيات، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:93-97].
سبب نزول قوله تعالى: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل ...)
معاشر المستمعين والمستمعات!قول ربنا جل ذكره: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ... [آل عمران:93] الآية، ما سبب نزولها؟ما زال السياق مع أهل الكتاب! وها هم اليهود يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: أنت تدّعي أنك على ملة إبراهيم، وها أنت تبيح ما حرم الله على إبراهيم وبني إسرائيل؛ فتأكل لحوم الإبل وتشرب ألبانها، فأين تقيّدك بملة إبراهيم؟!فعلماء اليهود بالمدينة لما نزلت الآيات: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123] قالوا: كيف تقول: أنا على ملة إبراهيم وتستبيح ما كان حراماً على إبراهيم؟فأجاب الرحمن ولي محمد صلى الله عليه وسلم قل لهم: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:93]، فلا لحوم الإبل ولا الألبان ولا لحوم ذات الظفر ولا .. ولا.وقوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أي: لأولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وأولاده الأسباط هي قبائل بني إسرائيل. كَانَ حِلًّا ، ومن يرد على الله؟قوله: كُلُّ الطَّعَامِ على اختلاف أنواعه كان حلاً بمعنى: حلال، لبني إسرائيل اللهم إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران:93]، وبين يعقوب عليه السلام ونزول التوراة قرون ومئات السنين، فالتوراة أنزلت على موسى، فأين موسى من يعقوب؟والآن أسكتهم فقال: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عليه السلام عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران:93].وماذا حرم إسرائيل على نفسه؟كان إسرائيل قد مرض بعرق النسا، عافانا الله وإياكم منه، وفيه آلام يعرفها من أصيبوا به، فنذر لله تعالى إن شفاه ألا يأكل ما يشتهي في هذه الحياة، وأن يترك أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها، فما إن شفاه الله تعالى حتى تركها فلا يأكل لحم الإبل ولا يشرب لبنها، هذا والله لحق.قال: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ وإسرائيل هو يعقوب، ولقب بإسرائيل لأن إيل معناها: اسم الله القوي القدير، وجبريل .. ميكائيل .. إسرافيل .. إسماعيل، فإيل هو الله -بالعبرية- القوي القدير.
علاج نبوي لمرض عرق النسا
هنا علاج لمرض النسا مذكور في هامش الكتاب: [ روى ابن ماجه في سننه ]، وهو من أصحاب السنن، وسننه مقبولة إلا ما ضعفه أهل الحديث، [ عن أنس بن مالك ]، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. خادم نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد تبرعت به أمه وأبوه، فلما نزل الرسول بالمدينة وما عنده أولاد، جاءت به أمه وقالت: هذا ابني يخدمك يا رسول الله!وقد وقع مثل هذا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أم أنس ، فوالله إن رجلاً من الصالحين كان له ولدان فجاءني وقال: يا شيخ! إن فلاناً يخدمك وهو طفل صغير في البيت يقدم الطعام ويشتري كذا، فقلت: سبحان الله، ما زال الإيمان هكذا. وأثنيت عليه ودعوت له بخير، فاللهم اجزه خيراً.فـأنس بن مالك خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، يقول: ( ما قال لي يوماً في شيء فعلته: لم، ولا في شيء تركته: لم تركته ). وهيا نرتقي إلى هذا المستوى، فخدمه في البيت ما قال له في شيء فعله: لم فعلت هذا اليوم، ولا لشيء تركه: لم تركته، فهذا مظهر من مظاهر الأخلاق المحمدية، وصدق الله العظيم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فافعلوا هذا مع نسائكم فقط وجربوا! فهي امرأتك تسكن إليها وتسكن إليك، فإذا قدمت لك ماء لا تقل لها: لا تفعلي يا كذا -بالبذاء- أو لم ما فعلتي كذا؟ ولو قاله وهو يبتسم معها لأثلج صدرها وانشرح ولا بأس، لكن وهو غضبان فلا.وأكثر الناس على هذا إلا من سلم الله وعافاه.فهذه المؤمنة التي تحتك هي أختك وهي التي تربي أولادك، وتجوع إن جعت، وتشبع إن شبعت، وإن مرضت مرضت، فلماذا لا تتأدب معها وتحسن إليها، أليس هناك إلا الكلمة النابية والدفعة القوية!لا إله إلا الله، ماذا أصابنا؟إننا ما ربينا في حجور الصالحين، وهذا هو ذي علتنا.فهيا نتربى من جديد وبسم الله من الليلة بدأنا إن شاء الله.يا أرباب الزوجات! لا تسمع امرأتك بعد اليوم: لم فعلتي أو لم تركتي؟هذبها .. أدبها .. علمها الحلال .. علمها الحرام .. علمها ما يجب، فإذا علمت واقتنعت تمشي على ظلك وورائك.إذاً أنس دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة: ( اللهم بارك في عمره وماله ) فما مات أنس بن مالك إلا وله من الأحفاد أكثر من مائة وثلاثين أو قرابة المائة والثلاثين، وكان نخله في المدينة يلد مرتين، فيطلع يؤبر ويأخذ البلح والبسر، ويطلع مرة ثانية فلا يجد إلا والثمرة الأخرى موجودة.وهذه آيات النبوة المحمدية. وبلغني أنه يوجد في منطقة الفقرة نخل يلد مرتين، من بقايا بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم.وإليكم ما يحدثنا أنس عن رسولنا به، يقول: سمعت بأذني [ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( شفاء عرق النسا ) ]، أي: دواء عرق النسا، ويطلق الشفاء على الدواء؛ لأنه يحصل به تفاؤلاً، [ ( شفاء عرق النساء ألية شاة عربية ) ]، الألية: الذيلة أو الشحمة في عجز الشاة، وقوله: العربية أي: ليست سودانية أو أريترية أو تركية، بل من بلاد العرب شاة عربية، ثم قال: [ ( تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ) ] تذاب؛ لأنها شحم، وأيام كنا في غير هذه الظروف كان الشحم هذا أعز شيء عندنا، فلما نأتي إلى الجزار أنا وعمي كنا نختار أسمن لحم، والآن يدفعون الشحم ويرمونه، فالشحم يجمع ويذوب كالسمن دسم -يا سعادة من يملكه- قولوا: كلمة الشكر! الحمد لله، الحمد لله.قال: [ ( تذاب وتجزأ ثلاثة أجزاء ) ] إما بمغراف وإلا بكأس تقسم ثلاثة أقسام.قال: [ ( ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء ) ]، يقوم الصبح يتوضأ ويصلي وإذا جاء البيت قبل أن يفطر يشرب ذاك الكأس أو الفنجان أو الثلث وإن كان نصف لتر لا بد من هذا ثلاثة أيام وقد شفاه الرحمن.قال: [ ( على الريق كل يوم جزء )، فقال أنس : فوصفته لأكثر من مائة رجل مريض فشفوا بإذن الله. ].الجماعة الطماعون مثلي ومثل عدنان من الغد: لا لا لا..يشترون ويذوبون ويقسمونه قراطيس ثلاثة .. ثلاثة ويبيعون بمائة ريال، على شرط أن تكون الشاة عربية ليست سودانية أو إثيوبية، وأن تجزئها ثلاثة أجزاء بالميزان أو المغراف، وتجعل كل جزء في قارورة أو في آنية، وتختم عليه وتقول لمرضى النسا عافانا الله وإياكم منه: تريدون الدواء؟ تعالوا، وخذ هذه الكمية يوم الخميس والثانية يوم الجمعة والثالثة يوم السبت، لكن لا تعتقد بأن الأيام فيها بركة، يعني: ثلاثة أيام متتالية.
حل كل الطعام لبني إسرائيل إلا ما حرم يعقوب على نفسه بسبب النذر
إذاً قول الله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [آل عمران:93]، ما الذي حرم إسرائيل فقد حرم لحم الإبل ولبنها على نفسه لا على زوجته ولا ولده وهو رسول الله، فما شمل الناس بهذا، فقط لأنه مرض بعرق النسا وآلامه، فنذر لله هذا النذر: إن شفيتني يا رب فلن آكل ما أحبه ولا أشربه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل ولبنها، وهذا حق.إذاً: قال اليهود للرسول: كيف تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحم الإبل وتشرب لبنها؟ فأبطل الله هذه الدعوة واجتثها من أصولها فقال تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ وكل من ألفاظا العموم فتستغرق كل شيء، كَانَ حِلًّا أي: حلالاً: لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أولاد يعقوب: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ فالزمن ما بين موسى وبين يعقوب زمن طويل، فموسى تربى في مصر، لأن لما يوسف عليه السلام ملك مصر وعاش بها ومعه إخوانه ومضت أجيال ومات، ووجد مجموعة من بني إسرائيل منهم موسى وأصحابه، ونبئ الله موسى وأرسله وأنزل عليه التوراة، فالفرق بعيد في الزمان ولا يقدر.إذاً: قل لهم يا رسولنا: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93]، تفضلوا وهاتوا التوراة واقرءوا ونحن نسمع، فهل تجدون فيها أن الله حرم على بني إسرائيل كذا وكذا؟ فما استطاعوا فليس فيها.
سبب تحريم الطيبات على بني إسرائيل
إنما حرم الله على بني إسرائيل لما ظلموا .. لما جاروا وحرفوا واعتدوا وتمردوا على شرع الله، فعاقبهم الله عز وجل فحرم عليهم طيبات كانت قد أحلت لهم؛ عقوبة لهم. قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... [النساء:160]، الآية من سورة النساء.وقال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام:146]، فهذا التحريم حق في التوراة عقوبة الله لبني إسرائيل عاقبهم الله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] ، وبيّنها من سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ أي: ظفر الرجل في الإبل وغيرها: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا ، فلا يحل لهم شحم إلا ما كان راسخاً في المصارين أو لاصقاً مع اللحم، أما الشحم الذي ينفصل فحرام إلى اليوم لا يأكلوه.ونحن المسلمون ماذا حرم علينا؟حرم الله علينا ثمانية، قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أيها المسلمون الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3].هل حرم الله تعالى علينا هذا عقوبة لنا أو رحمة بنا؟والله لرحمة بنا؛ لأن الميتة كلها جراثيم ومكروبات، ماتت معها فما سالت مع دم التذكية، فلا يصح أكلها؛ لما فيها من الأمراض والعلل.أما الدم؛ ففيه جراثيم، لما يذبح الشاة ويجعل الدم في إناء في قصعة، فهذا الدم فيه جراثيم، وهو قذر، ولا طعم له، والنظر إليه فقط لا يقوى عليه العبد الصالح فكيف يأكل الدم؛ لما فيه من المرض.ولحم الخنزير -أعوذ بالله- يورّث الدياثة، فالذي يأكل لحم الخنزير ويعتاده يصبح ديّوثاً، وعلى باب الجنة مكتوب: الديوث لا يدخل الجنة، والديوث هو الذي يرضى الخبث في أهله، فيرضى بأن تزني امرأته .. بنته .. أمه .. لا يبالي، فهذا الديوث، والذين يأكلون لحم الخنزير تتأصل فيهم هذه الخليقة أو الطبيعة، ويصبح يقدم امرأته ولا حرج، واذهب إلى المراقص وقل له: أعطني فتاتك ترقص معي. فيقول: تفضلي ارقصي مع فلان والناس يتفرجون، وهذه دياثة.قال العلماء: الخنزير ديوث ألف مرة لا يغار على أنثاه أبداً، أما الجمل والله لغيرته عجب، قد يأكل، والله حتى الكلاب والقطط تغار .. فكل الحيوانات تغار على أناثيها إلا هذا -العياذ بالله- الخنزير فلا يغار أبداً.وأنتم تسمعون سب العوام يقولون: اسكت يا ديوث!وفي أيام العنترية لو واحد يقول لك: يا ديوث فإنك تذبحه وتقتله، ولا ترضى بهذه السبة.إذاً: حرم الله لحم الخنزير: أولاً: فيه علل وأمراض. وثانياً: يورّث هذا الخلق الهابط عن خلق الحيوانات.قوله: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فكل ما ذبح لغير ربنا حرام أن نأكله، والإهلال بالحج هو رفع الصوت بقول: لبيك اللهم لبيك حجة. والهلال هلال محرم.والذي يقول: هذه الشاة لسيدي عبد القادر .. هذه الشاة لروح مولاي إدريس .. هذه الشاة لمولانا أو سيدنا فلان. فهذه الشاة لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يأكل لحمها؛ لأنها تقرب بها إلى غير الله، وكيف ترضى أن يتقرب المؤمن أو الإنسان إلى غير ربك وتسكت وتأكل فإذاً أنت راض بعبادة غير الله ويا ويلك.لكن يقولون: نحن ما ذبحنا لسيدي عبد القادر ولكن ذبحنا لله، والدليل أننا نقول: باسم الله، فالذابح لما يذبح يقول بالعادة .. بالعرف: باسم الله، ولا يقول: باسم مولاي فلان، فهذه الشاة لسيدي فلان، أذبحها له. والقضية هي هي، فليس هناك فرق أبداً، فما أهل به لغير الله لا يحل أكله، والسر في ذلك أنه يورّث فيك الكفر والشرك، وأي داء أو خطر أعظم منهما؟!والحمد لله انتصرت دعوة التوحيد وقد أرادها الله فقلَّ الآن من يفعل هذا.نعم قد يوجد من يغرس في بستانه فيقول: هذه النخلة نخلة سيدي عبد القادر ؛ حتى يبارك الله في كل النخل وينبت، أو هذه الزيتونة لسيدي فلان. أو يشتري في آخر الشتاء قطيعاً من الغنم وفي الربيع يقول: هذه الشاة لسيدي فلان؛ حتى تبارك الغنم. وهذا ما زال عند الغافلين، فلا يجعلون لله شيئاً، وصار أجدادنا العرب والمشركون أفضل منهم.فإن قال قائل: كيف تقول هذا يا شيخ؟أقول: اسمع الله يقول من سورة الأنعام: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136]، هذا الكلام ليس كلام محمد بن عبد الوهاب ، إنما كلام الله، فالمشركون قبل نور الإسلام يقولون: هذه الشاة التي لا تلد هي لله، أما الشاة التي لا تلد فهي للعزى أو لمناة أو لصنم من الأصنام، وكذلك هو حال الذي يغرس فيقول: هذه النخلة لله، وهذه للعزى، فهناك بعض الإنصاف، أما حال بعض الناس الآن فلا يجعلون لله شيئاً، فقط للولي.إذاً: فعاتبهم الله وندد بهذا السلوك وأبطله فقال مخبراً عنهم: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ أي: خلق مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ، قال: بزعمهم؛ لأن الله ما شرع هذا ولا أنزل به القرآن ولا بعث به الرسول، فهو من عندهم فقط وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ، بمعنى: إذا كان الذي جعلوه للشركاء كالنعجة ولدت .. البقرة ولدت .. النخل أطلعت، والذي جعلوها لله ما أنتجت، والكثير لا تنتج، فما يحولون لله شيئاً ليعطوه للحجاج وإلا لأهل البيت، وإذا كان الذي لله هو الذي أنتج، والذي للشركاء ما أنتج يحولونه، والله في غنى عنه. وهذا عجب! وهذا هو الإنسان إذا قادته الشياطين.قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ [الأنعام:136]؛ لأن الله ما طلب هذا ولا أمر به، وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ، أي: لا يحولوه لله، وإن كانت ناقة الله ما ولدت لا يحولونها .. زرع الله ما نبت لا يحولونه، وإن كان قد أنبت زرع الله أو نخله وما جعلوا للآلهة ما أنبت يحولونه؛ بدعوى أن الله غني وليس في حاجة، فقلنا لإخواننا وعلمناهم: على الأقل اجعل نخلة لله ونخلة لـعبد القادر مثل المشركين، واجعل شاة لله وشاة لـعبد القادر مثلاً، فلم الله لا تجعل له شيئاً؟وهذا هو نتاج الجهل فلا لوم عليهم ولا عتاب، فمن علمنا؟ من عرفنا؟ من هدانا؟ من دلنا؟إنها أمم تعيش على الجاهلية.وإلى الآن الأعاجم في بلادهم وهم نسبة في العالم الإسلامي نسبة عظيمة ما عرفوا الله، فهل ذهبنا إليهم وعلمناهم؟ هل جلسنا بين أيديهم؟ هل بكينا أمامهم؟ هل .. هل .. كيف يعرفون؟دلوني؟ لا يعرفون.وكيف نعلمهم ونحن أيضاً جهلنا وأبينا أن نتعلم ورفضنا التعلم واشتغلنا بالباطل واللهو؟على كل حال السعيد من سعد في الدار الآخرة، والشقي من شقي. قال تعالى: قل لهم يا رسولنا: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا اقرءوها إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فوقفوا.
تفسير قوله تعالى: (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون)
قال تعالى: فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [آل عمران:94]، وقال: ما ليس بحق وادعى دعاوى باطلة: فَأُوْلَئِكَ البعداء هُمُ الظَّالِمُونَ [آل عمران:94]، وانتصر الإسلام وانهزم اليهود، فأولئك هم لا غيرهم الظالمون ، أي: الذين يضعون الأشياء في غير موقعها.
تفسير قوله تعالى: (قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم ...)
قال تعالى لرسوله ولأمته يعلمنا: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ، قولوا: صدق الله! ما أكذبهم؟ وبيّن عوارهم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ يا معشر أهل الكتاب! حَنِيفًا ، أي: مائل عن أنواع الباطل والشرك والضلالات إلى الحق وحده، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:95]، فأنتم تنتسبون إلى إبراهيم وتعتزون بأن اليهود كالنصارى، وحاشا إبراهيم أنه كان يعبد الأصنام فما كان من المشركين بل كان إمام الموحدين.ولو تأخذ الآن جهال المسلمين أيضاً وتقول لهم: هل كان محمد صلى الله عليه وسلم يقيم مولداً؟ هل كان ينذر لسيدي فلان وفلان؟ هل علم ابنته فاطمة هذا؟ هل كانت عائشة تقول هذا؟الجواب: لا.. لا. إذاً: لم تبتدعون وتقولون؟!
تفسير قوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ...)
قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]، هذا إعلان، وهو رد على اليهود الذين قالوا: إن أول بيت بني هو بيت المقدس، فكيف تترك قبلتك إلى بيت المقدس وتستقبل البيت مع أن بيت المقدس أول بيت بني لله في الأرض، وهذه كذبة. فلما تحولت القبلة إلى مكة بعدما استقبل النبي والمؤمنين بيت المقدس سبعة عشر شهراً، أي: سنة وخمسة أشهر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع -كما علمتم- إلى أن يحول الله قبلته إلى الكعبة، كما قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فجن اليهود كيف هذا الأمر وقالوا: كان بيت المقدس أمس والكعبة غداً وبعد غدٍ في المشرق فلا يثبت على شيء.أما إخواننا الآن فيقولون أكثر من هذا، لأنهم ما عرفوا الطريق إلى الله فيقولون هذا الكلام فيما بيننا نحن المسلمين.إذاً: قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96]، فأسكتهم، مع أننا نعلم أن إبراهيم بنى البيت بإذن الله وهو الذي جدّد بنائه في الحقيقة، وقد كان كومة من تراب جرفته السيول، وقد بناه الله لآدم وحواء عند نزولهما؛ فقد أصابتهما وحشة، لأنهم نزلوا هذا العالم لا يرون أحداً، فبنى الله لهم هذا البيت فيأتيانه ويطوفان به ويسألان حاجتهما ويتبركان به فتزول تلك الوحشة، وإلى الآن المؤمن الصادق الرباني تزول وحشته إذا كان يطوف بالبيت.ولما جدّد البناء أمر أن يبني بيت المقدس فبناها بعد الكعبة بأربعين سنة، فمضت أربعون عاماً ثم رأى أن يبني بيت المقدس في فلسطين.فقول الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ أي: لله بني وُضِعَ لِلنَّاسِ وضع للناس ماذا يفعلون به؟ يزيلون الوحشة ببيت ربهم فيطوفون ويتبركون ويدعون ويحجون ويفدون إليه من الشرق والغرب فهو بيت ربهم؛ لتقبل دعواتهم وترفع درجاتهم وتعظم حسناتهم، ففيه عظائم الفوائد.قال: لَلَّذِي بِبَكَّةَ مكة وبكة سواء من البك، الذي هو الدفع، بكّه: دفعه، ومكّه كذلك، ومن أراد أن يدخل البيت بقوة يدفعونه: يبكّونه ويمكّونه، فسميت مكة وبكة لأجل هذا.قوله: مُبَارَكًا فالبركة لا تفارقه أبداً والله العظيم.قوله: وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فالمشرق كالمغرب، والشمال كالجنوب، والمؤمنون حتى على عهد نوح .. على عهد هود .. على عهد صالح كانوا يحجون والرسول يقول: ( كأني بصالح على ناقة كذا يلبي في فجاج مكة ). ولفظ العالمين يدخل فيه كل الأجناس البشرية فليس خاصاً بالعرب ولا ببني فلان.
تفسير قوله تعالى: (فيه آيات بينات مقام إبراهيم ...)
قال تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97]، الآيات جمع آية، أي: علامة تدل على كذا وكذا، فهي آيات واضحات بينات منها: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97]، مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان يقف عليه ويبني الكعبة، فيقوم فوقه؛ لأنه كان هو وإسماعيل فقط، فإسماعيل يناول إبراهيم الحجارة والطين، وإبراهيم يسوي، فلما ارتفع الجدار احتاج إلى شيء ليصعد فوقه، فجيء بهذا الحجر يعلو عليه إبراهيم ويبني المنطقة هذه متر اثنين، ويحولون إلى الجهة الثانية وهكذا حتى اكتمل البناء، وتركه ما بين الحجر الأسود والركن الشامي، ثم جرفته السيول بمرور القرون، وهو الآن في مكانه الذي هو الآن فيه، فلما أرادوا أن يحولوه اجتمعت كلمة العلماء أن يبقى في مكانه كما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا كان عند جدار الكعبة.وكونه آية فإن إبراهيم لما كان واقفاً عليه قائماً ساخت قدماه فيه، فأثر القدمين كما هو، وهذه آية.قال: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، ليس كالآن يسرقون، وأيام لا حكم إسلامي ولا ولاية ربانية عندما كان العرب مشركون كافرون ألقى الله في قلوبهم ألا يسرق في الحرم سارق ولا يفجر فاجر ولا يؤذي آذي، وهذا تدريب الله عز وجل، ووالله أن الرجل ليمر بمن قتل أباه وهو في الكعبة وفي الحرم يلوي رأسه ولا ينظر إليه أبداً، فلهذا قال بعض أهل العلم: هذه الجملة لفظها خبر، ومعناها إنشاء، وهي على أصلها.نقول: وهذا أيام كان لا حكم إسلامي، فلما وجد الحكم الإسلامي كان يجب أن يؤمّن كل من يدخل الحرم، فتقطع يد السارق ويقتل القاتل، ويبقى الحرم آمناً تنام فيه وتضطجع في ليك ونهارك لا تخاف شيئاً، فيجب أن يكون هذا: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
قال: [ وفي المسجد الحرام دلائل واضحات منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقي أثر قدميه عليه مع أنه صخرة من الصخور ومنها زمزم ]، زمزم أعظم آية، وقد حفر أو أخرج ماءه بقدم جبريل قال هكذا بعقبه ففار زمزم، وقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً )، وتمضي القرون والآن ستة آلاف سنة وزمزم كما هو، ودلوني على عين في أمريكا .. في بريطانيا .. في مصر مضى عليه ستة آلاف سنة، لا وجود له.قال: [ والحِجر ]، أي: حِجر إسماعيل فقد كان يسكن هناك عند الكعبة، حيث بنى البيت مع أبيه، وتزوج وأنجب، والآن نطوف بالحجر، ولا نطوف داخل الحجر؛ لأنه ليس بالكعبة، فالحجر آية.قال: [ والصفا والمروة]، وهما آيتان تذكران بعهد هاجر وإسماعيل، وهي تطلب الماء لابنها الرضيع وهو يتلوى من شدة العطش، فتعلو على المروة وعلى الصفا وتنادي وتطالع فلا تجد شيئاً فتجري في الوادي وتعلو على المروة هكذا سبع مرات وإذا بالهاتف يهتف وهي تقول: أسمعت .. أسمعت .. هل من مغيث؟ تنظر وإذا على طفلها رجل قائم -هذا جبريل- فما إن دنت منه قليلاً حتى قال هكذا بعقبه ففارت زمزم وذهب جبريل إلى السماء.قال: [ ومنها الأمن التام ]، وهذه أعظم آية، [ لمن دخله فلا يخاف غير الله تعالى؛ إذ قال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، ثم هذا الأمن له والعرب يعيشون في جاهلية جهلاء والفوضى لا حد لها، ولكن الله جعل في قلوبهم حرمة الحرم وقدسيته ووجوب أمن كل من يدخله؛ ليحجه أو يعتمره، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] ].والحج إن شاء الله ندرسه دراسة وافية، ويوزع عليكم الكتاب، ودراسته ذات قيمة؛ لأن كل مسألة يذكر حكمها وحكمتها، ولا تجدونه في غير هذا الكتاب.وصل اللهم على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (29)
الحلقة (170)
تفسير سورة آل عمران (35)
البيت الحرام هو أول بيت وضع للناس للتعبد فيه والطواف به، وقد كتب الله على المستطيع من عباده حج هذا البيت، والواجب الإتيان بهذه الفريضة مرة في العمر وما زاد فهو تطوع، ولا يجوز لمن ملك القدرة والاستطاعة على الحج ألا يحج؛ لأنه بذلك يكون قد فرط في ركن عظيم من أركان الإسلام.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سابق عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ لنحظى بتلكم البشرى التي جاءت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عندهم )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء؛ إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الخمس، درسنا الأربع منها، وانتهينا إلى الآية الخامسة.تلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:93-97].نستمع إلى شرح هذه الآيات من الكتاب تكرارً لما سمعناه أمس وعلمناه.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات: ما زال السياق في الحجاج مع أهل الكتاب ] اليهود والنصارى [ فقد قال يهود للنبي صلى الله عليه وسلم ] وذلك أيام كانوا معه في المدينة قالوا: [ كيف تدعي أنك على دين إبراهيم وتأكل ما هو محرم في دينه من لحوم الإبل وألبانها؟ ] كذا قال اليهود في المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تدعي أنك على دين إبراهيم وملته وتأكل ما هو محرم في دين إبراهيم من لحوم الإبل وألبانها، [ فرد الله تعالى على هذا الزعم الباطل الكاذب ] أي: رد عليه [ بقوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا [آل عمران:93] أي: حلالاً لبني إسرائيل ]، وبنو إسرائيل من هم؟ قال: [ وهم ذرية يعقوب الملقب بإسرائيل ] أي: بعبد الله القوي القدير، قال: [ ولم يكن هناك شيء محرم عليهم في دين إبراهيم اللهم إلا ما حرم إسرائيل "يعقوب" على نفسه خاصة وهو لحوم الإبل وألبانها، وذلك لنذر نذره وهو أنه مرض مرضاً آلمه ]، وقد علمنا أنه عرق النسا، فلما آلمه هذا المرض في رجله، قال: [ فنذر لله تعالى: إن شفاه الله ترك أحب الطعام والشراب إليه ]، أي: نذر لله نذراً إن شفاني ربي أترك أحب الطعام إلي وأحب الشراب، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه لبنها لبن الإبل.قال: [ وكانت لحوم الإبل وألبانها من أحب الأطعمة والأشربة إليه فتركها لله تعالى، هذا معنى قوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران:93] ]؛ لأن التوراة أنزلها الله على موسى، وبين موسى ويعقوب قرون عدة.قال: [ إذ التوراة نزلت على موسى بعد إبراهيم ويعقوب بقرون عدة، فكيف تدعون يا يهود أن إبراهيم كان لا يأكل لحوم الإبل ولا يشرب ألبانها؟! فأتوا بالتوراة فاقرءوها؛ فسوف تجدون أن ما حرم الله تعالى على اليهود إنما كان لظلمهم واعتدائهم، فحرم عليهم أنواعاً من الأطعمة وذلك بعد إبراهيم ويعقوب بقرون طويلة ]. فهذه مظاهر الجهل في اليهود من جهة ومظاهر الكذب والخيانة من جهة أخرى.ثم قال: [ قال تعالى في سورة النساء: فَبِظُلْمٍ ] أي: فبسبب ظلم [مِنَ الَّذِينَ هَادُوا أي: اليهود حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]. وقال في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا [الأنعام:146]. ولما طولبوا بالإتيان بالتوراة وقراءتها بهتوا ولم يفعلوا، فقامت الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقوله تعالى: فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ [آل عمران:94]، بعد قيام الحجة بأن الله تعالى لم يحرم على إبراهيم وعلى بني إسرائيل شيئاً من الطعام والشراب إلا بعد نزول التوراة باستثناء ما حرم إسرائيل -أي: يعقوب- على نفسه من لحمان الإبل وألبانها كما علمتم، فأولئك هم الظالمون لكذبهم على الله تعالى وعلى الناس، ومن هنا أمر الله تعالى رسوله- محمداً صلى الله عليه وسلم- أن يقول: صدق الله فيما أخبر به رسوله ويخبر به وهو الحق من الله. إذاً: فاتبعوا يا معشر اليهود ملة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن أبداً من المشركين ] وها أنتم مشركون -والعياذ بالله-.قال المؤلف: [ هذا ما تضمنته الآيات الثلاث.وأما قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]، فإنه متضمن الرد على اليهود الذين قالوا: إن بيت المقدس هي أول قبلة شرع للناس استقبالها فلم يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ ] قالوا هذا لا سيما لما ترك بيت المقدس بعدما استقبلها سبعة عشر شهراً، قالوا: كيف هذا؟ وهي أول بيت وضع للناس، وكذبوا.قال: [ وهي متأخرة الوجود في نظرهم وكذبهم، فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس ]، إي والله، بل الكعبة بنتها الملائكة لآدم، وحجها نوح وهود وصالح والأنبياء قبل إبراهيم.قال: [ وأنه جعله مباركاً ] أي: البيت العتيق مباركاً [ يدوم بدوام الدنيا، والبركة لا تفارقه، فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف به يجدها ويحظى ويظفر بها، كما جعله هدىً للعالمين. فالمؤمنون يأتون حجاجاً وعمّاراً فتحصل لهم بذلك أنواع من الهداية، والمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في صلاتهم، وفي ذلك من الهداية للحصول على الثواب وذكر الله والتقرب إليه أكبر هداية. وقوله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ [آل عمران:97] يريد في المسجد الحرام دلائل واضحات منها: مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقي أثر قدميه عليه مع أنه صخرة من الصخور ] وإلى اليوم آيات، وبعض من يجامل ويراعي الملاحدة يقولون: كان طيناً وهل الصخر يكون طيناً حتى تنزل فيه القدم؟والله ما كان إلا صخراً من جبل أبي قبيس، ولكن لتدوم الآية إلى يوم القيامة فلما وقف عليها إبراهيم ارتسمت قدماه على الصخرة إلى اليوم.ثم لو ما جاء الرسول صاحب المعجزات والآيات وأقر هذا وصلى خلف المقام وتركه في مكانه فلك أن تقول: هذه اجتهادات وآراء، لكن أما قال الله عز وجل: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فهل معنى هذا أن المسجد ومكة كلها مقام إبراهيم؟ المراد من مقام إبراهيم الحجر الذي كان يقوم عليه وهو يزاول بناء البيت، وسن هذا الرسول وبينه، فمن طاف بالبيت سبعة أشواط لا ينتهي طوافه إلا إذا صلى خلف المقام كالمصلي يصلي الظهر أربع ركعات ولا تنتهي صلاته حتى يقول: السلام عليكم، وكذلك الطائف يبقى طوافه معه حتى يصلي ركعتين خلف المقام.قال: [ ومنها زمزم والحِجر والصفا والمروة وسائر المشاعر كلها آيات ] أي: علامات على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته وتدبيره وعلى قدم هذا البيت قدماً عجيباً من عهد آدم، فكيف يدعي اليهود أن بيت المقدس أولاً؟ والرسول أخبر أن ما بين بناء الكعبة الذي بناه إبراهيم وبيت المقدس أربعين سنة.نعم سليمان بن داود بنى المسجد الأقصى في عهد دولته وعظمته كما بنيناه نحن وجدّدناه في عهد الإسلام، لكن أصل البناء وقع من إبراهيم، فإنه لما هاجر من العراق نزل بالقدس، وولد له يعقوب.في القدس أين كان يصلي؟ وكيف نقول: هذا بناه سليمان؟! وهذا بعض المفسرين من المعاصرين قالوا هذا الكلام.أما كان إبراهيم يصلي؟! وأين كان يصلي؟ وماذ كان يستقبل؟إذاً: سليمان عليه السلام جدد البناء ورفعه، هل المسجد النبوي على عهد الرسول كما هو الآن؟ فرق كبير.قال: [ ومنها الأمن التام لمن دخله، فلا يخاف غير الله تعالى، قال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، ثم هذا الأمن له والعرب كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء وفوضى لا حد لها، ولكن الله جعل في قلوبهم حرمة الحرم وقدسيته ووجوب أمن كل من يدخله ليحجه أو يعتمره ].الآن إذا لم يكن لنا رجال أمن وحرس ومؤمنون قد لا يأمن الحاج ولا الزائر؛ لأن الأمر أسنده الله إلينا وإلى الدولة المسلمة، وقبل أن لا يكون إسلام ولا دولة ولا حكم، كان الله هو الذي يتولى الأمن، فوالله إن أحدهم ليمر بقاتل أبيه في الحرم لا ينظر إليه بل يغمض عينيه ويمشي، ولو وجده خارج الحرم لقتله، فهذه آيات تدل على علم الله وقدرته ورحمته ووجوده وحكمته.
تفسير قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].الحج بفتح الحاء، والحِج بكسرها، وأحسن ما تقول: هما قراءتان: قراءة نافع الحج بالفتح، وقراءة حفص الحج بالكسر، والأصل فيهما لغتان: لغة أهل نجد ( الحِج )، وأهل الحجاز ( الحَج )؛ لأن الألسن تختلف بحسب المناطق، فهي بلد واحد ويختلف الناس في النطق.إذاً: اقرأ الحَج والحِج ولا تتحرج، فالكل جائز وواسع، والقرآن نزل على سبعة أحرف.وقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ [آل عمران:97]، هذه الصيغة صيغة إلزام وإيجاب، وهي أعظم من صيغة: حجوا أو فرضنا عليكم الحج، فهذه لله حق على عباده المؤمنين، وهي أبلغ من كلمة: حجوا أو ليحجن أحدكم.فقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ أي: حق واجب.قوله: حِجُّ الْبَيْتِ ، وهذا الحج مرة واحدة في العمر واجبة، وما عدا ذلك فهو فضل كبير، ويكره للمؤمن أن يمضي عليه خمس سنوات ولا يحج، وقبل الخمس السنوات لا بأس، وهناك في الروضة كأنكم تشاهدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل يقول له: ( أفي كل عام يا رسول الله؟! فيسكت الرسول، أفي كل عام يا رسول الله؟! ) فلا يريد الرسول أن يجيبه، وفي الثالثة يقول له: ( لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم )، فلو كان الحج واجباً كل عام فلا تقدر أمة الإسلام عليه؛ لأن الرسول يعرف أن الإسلام ليس في المدينة أو في الحجاز، بل سيبلغ أقصى الشرق وأقصى الغرب فكيف سيأتي الناس يحجون؟! وحجاج المغرب فقط كانوا يقضونها سنة ذهاباً وإياباً فكيف بمن في أقصى الشرق وأقصى الغرب.فالحج فرض مرة واحدة في العمر، ولله حق واجب على الناس أن يحجوا بيت الله، فهو الذي أمر ببنائها.ولكن هل الله في حاجة إلى بيت؟الجواب: ولهذا كانت الآية الأخيرة قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، وإنما هذا البيت بناه لآدم وحواء لما اشتاقت نفسهما إلى الله فقد كانا في الملكوت الأعلى مع الله يكلمهم ويسمعون كلامه، فنزلوا إلى هذا العالم الهابط فانقطعت تلك الصلة فأصابتهما تلك الوحشة التي نحن نشكوها الآن، والله يعلم.فبنى لهم هذا البيت ليزورانه ويطوفان به ويسألان الله حاجاتهما وهما بين يديه، وبقي في ذرية آدم إذ هو للعالمين أبيضهم وأسودهم وعربهم وعجمهم، أولهم وآخرهم إلى يوم القيامة.وقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا الاستطاعة هنا بمعنى القدرة، تقول: أطاع الشيء واستطاعه قدر عليه، وتقول: لم يستطع أي: لم يطعه فعجز، وأحسن ما تحفظون: أن الاستطاعة تتوقف على الزاد والراحلة، ويتفرع عن الراحلة: أمن الطريق، فأنا عندي راحلة أركبها أو باخرة أو سيارة، ولكن في الطريق موانع كحروب فحينئذ لا أستطيع، والأمن لا بد منه، فإن كان يخاف على نفسه في الطريق لوجود لصوص ومجرمين أو قطاع طريق أو ما إلى ذلك، فحينئذٍ ينتظر حتى يزول هذا الخوف.والزاد لا بد من طعام يأكله ويشرب في طريقه، فقد يمشي شهرين .. ثلاثة وهو يحج، فكيف يأكل ويشرب، ولا بد وأن يترك لأسرته ما يعيشون عليه في غيبته شهر أو شهرين مثلاً.ولفظ الزاد والراحلة يشمل ويجمع كل ما يعوق عن الحج ويصرف عنه.والراحلة قد لا يحتاج إليها المرء لكن لا بد أن يستطيع المشي، فإذا كان شيخاً كبيراً أو مريضاً لا يقدر، أو ضعفت رجلاه فهو لا يستطيع وهذا معناه أنه ليس عنده راحلة يرحل عليها.فقوله: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أي: الزاد والراحلة وما يتطلبه ذلك من الأمن والقدرة، ومن هنا من كان عاجزاً لشلل في جسمه ومرض أقعده فهو معفو عنه، وتجوز النيابة عنه فيحج عنه وليه أو قريبه، ولا بد من أن يعطي نفقة لمن يحج عنه، أما إذا كان قادراً على المشي، وإنما أوعزه المال أو الأمن فينتظر العام والأعوام حتى يفتح له المجال.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال المؤلف: [ معنى الآيات: قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، لما ذكر تعالى البيت الحرام وما فيه من بركات وهدايات وآيات ألزم عباده المؤمنين به وبرسوله ألزمهم بحجه؛ ليحصل لهم الخير والبركة والهداية ]، نعم قد يشعر العبد بعدم الحاجة إلى الهداية والبركة، لكن الله لرحمته بأوليائه المؤمنين لما أودع بيته هذا الخير وهذا الكمال فرض على أوليائه؛ حتى يظفروا ويفوزوا بهذه الخيرات والبركات؛ لأنه وليهم، والولي لا يريد لوليه إلا خيره وكماله وسعادته، فليس الله في حاجة إلى هذا الحج وهو في غنى كامل، ولكن لما أودع هذا البيت وهذا الحج من الهداية والبركات والخيرات، ألزم أولياءه المؤمنين أن يحجوا، ما داموا قادرين على ذلك.قال: [ ففرضه بصيغة: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ، وهي أبلغ صيغ الإيجاب ]، أي: أبلغ من حج أو حجوا أو لتحجن.قال: [ واستثنى العاجزين عن حجه واعتماره ]، والاعتمار: العمرة ومعناها الزيارة، قال: [ بسبب مرض أو خوف أو قلة نفقة للركوب والإنفاق على النفس والأهل أيام السفر ].وعند شرح هذه الآية ذكر الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار عند اشتراط الأمن فقال: كان الأمن على عهد الجاهلية بتدبير الله، فألقى الله في قلوبهم احترام هذا البيت وهذا الحرم وتقديسه، كما ألقى في نفوسنا حب الطعام والشراب.كذلك على شركهم وجهلهم وجاهليتهم فإذا علق أحدهم في كتفه أو في عنقه قشرة من قشور الحرم كان يمشي من مكة إلى نجد إلى تبوك إلى اليمن فلا يخاف إلا الله.قال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة:97] فتسوق إبلك أو غنمك للحرم هدية تهديها لله رب البيت ليطعمها أولياءه؛ وعلمها بعلامة تدل على أنها مهداة للحرم. فيخرج القبائل وأولادهم وهم جياع يريدون الناقة أو الشاة فيجدونها معلمة يقولون: امش.والخائف يأخذ من قشر شجر الحرم قطعة ويربطها في عنقه ويمشي، وكل من يراه يقول: هذا للحرم، واقرءوا هذه الآية من سورة المائدة آخر ما نزلت: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ومعنى (قياماً للناس): أن حياتهم متوقفة عليها قائمة عليها، ومعنى (والشهر الحرام): إذا أعلن عن دخول القعدة أو الحجة أو محرم أو صفر انتهت الحرب، والأمم المتحدة والله لا تستطيع ذلك، حتى سمي رجب برجب الأصم، فلا تسمع قعقعة السلاح أبداً، وهذا من تدبير ربنا.وقد قلت لكم: لما جاء الإسلام ودولته ورجاله أسند الله القضية إلى الحكام والمؤمنين، ولما كان لا حاكم ولا دين ولا معرفة أسند هذا وألقاه في قلوب العرب، ولما جاءت الدولة وجاء النظام والحكم ما وجد سراق ولصوص، وعهد السعودية فيه خير عظيم، والله لا نظير له إلا في العصور الذهبية.وقال الشيخ رشيد رضا : أين الأمن في هذه الديار على عهد الملك حسين ؟ وقال: ألف الشيخ أبو بكر خوقير رسالة بين فيها التوسل الجاهلي، فأخذه حاكم مكة وولده بالسلاسل والأغلال وأدخلهما السجن حتى مات ولده، وبقي الشيخ أبو بكر خوقير في السجن حتى أطلقه السلطان عبد العزيز لما دخل مكة.كتب رسالة ضد الخرافات والشركيات؛ لتعرفوا لماذا امتدت مدة الخرافة والشركيات في الأمة الإسلامية؛ لأن الحكام كانوا على تلك الضلالات، فمن رفع صوته بالتوحيد قال: اسجنوه.أنا أحياناً أفكر: هذه القرون التي شاعت فيها هذه الضلالات أين الحكام؟ يوجد علماء لم ما يستطيعون وهم يشاهدون: القبور تعبد، والأشجار والأحجار؛ أين حكام المسلمين؟لأنهم كانوا من هذا النوع.يدلك على هذا هذا الشيخ ألف رسالة فقط في بيان التوسل الحق، ما هو بالقبور والصياح، فما كان من حاكم مكة الشريف إلا أن سجنه وولده، ومات ولده في السجن معه من أجل رسالة.وبقي الشيخ حياً في السجن حتى دخل عبد العزيز وحكم مكة وأطلق سراحه، وهذه تفيد طلبة العلم. فاحمدوا الله عز وجل أن الناس الآن يدعون إلى الله وتوحيده في العالم الإسلامي بأسره، وليس هناك من يضغط عليه أو يسكت وهو يدعو إلى التوحيد، الحمد لله!كذلك الأمن الذي حصل في عهد هذه الدولة، وقد كان الحجاج من قبل أيام الخوف يبتلعون الجواهر في بطونهم، حتى إذا تغوط أرسلها فخرجت وغسلها ويعودها إلى بطنه أو كذا.ولا تفهم أننا تمدنا وتحضرنا، فوالله إنك لا تزال تجد من السرقة والتلصص والإجرام العجب العجاب، وقد حدثني شاب قال لي: يا شيخ! والله إن والدتي وأبي كانا يحجان كل عام لأجل السرقة، وقد بنيا من ذلك عمارة ذات كذا وكذا.إذاً: ماذا تقولون؟الحمد لله، اللهم أبق هذا الظل علينا؛ حتى لا نفتن في ديننا ودنيانا كما فتن آباؤنا وأجدادنا.أو تغضبون؟ لا تريدون السعودية؟ إذاً تأتيكم الدولة اليهودية؟نعم، من كفر نعمة الله سلبها، فهذه سنة الله ماضية، والله العظيم! ما كفر عبد نعمة الله إلا سلبها الله منه، فالمفروض أن يتعاون كل المؤمنين في الشرق والغرب على إبقاء هذه البقية الباقية، فيدعمونها بطهارة أنفسهم وزكاة أرواحهم والصدق.لكنهم لا! لا يريدون، في الداخل يفجرون لتسقط، وفي الخارج يكيدون ويمكرون لتسقط وهكذا؛ فلهذا نبكي وما نفع البكاء.وهذا رشيد رضا يقول: أين الأمن الذي كان في الجاهلية؟ فإن الشيخ أبا بكر خوقير ألف رسالة ينقض فيها التوسل الباطل ويبين التوسل الحقيقي فسجن هو وابنه، حتى مات ولده في السجن من أجل رسالة، فكيف إذاً لو دعا في الجماهير وقال: هذا شرك وباطل، وبقي في السجن حتى أخرجه السلطان عبد العزيز لما حكم.قال المؤلف: [ وقوله تعالى في آخر الآية: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]].أي: أن من كفر الحج ولم يحج وأنكره فلا تفهم أن الله في حاجة إليه! وبنينا البيت وما حجوا، فإنه غني عن العالمين. ولا يخطر ببالك أن الله في حاجة إلى حج الناس وأفرضه عليه وألزمهم به: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] فتصبح للناس منة على الله لا، فإن الله غني عن العالمين كلهم، كان ولم يكونوا، وحياتهم كلها بيده، فهو موجدها، وهو معدمها، وأرزاقهم وكل ما لديهم هو من الله المنعم المتفضل به.فإن الله غني عن العالمين. قال: [ فإنه خبر منه تعالى بأن من كفر بالله ورسوله وحج بيته بعدما ذكر من الآيات والدلائل الواضحات؛ فإنه لا يضر إلا نفسه، أما الله تعالى فلا يضره شيء، وكيف وهو القاهر فوق عباده، والغني عنهم أجمعين؟! ].ومن هنا استنبط بعض الأصحاب كـعمر وعلي أن من قضى على الحج ولم يحج استخفافاً وعدم مبالاة فإن شاء فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً؛ أخذاً من نور الآية: وَمَنْ كَفَرَ أي: بالحج فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] وكلمة كفر دالة على الكفر، لكن لا يحمل إلا على شخص قدر واستطاع ولم يحج استهتاراً واستخفافاً، وعدم مبالاة، فهذا معناه أن مرض الكفر في قلبه. فإن الله غني عن العالمين.معاشر المؤمنين والمؤمنات! هل الحج واجب على الفور أو على التراخي؟الجواب: للعلماء قولان: لكن الذي يعول عليه ويؤخذ به أن العبد إذا توفر لديه القدرة المالية والبدنية فلا يحل له أن يؤخره، فلا نقول: على الفور بحيث لا بد، ولا نقول: على التراخي، فنقول: من قدر عليه أي: استطاع أن يحج فليعجل وليحج، ومن كانت هناك موانع فلينتظر حتى تزول بإذن الله تعالى.
هداية الآيات
قال [ من هداية الآيات: أولاً: ثبوت النسخ في الشرائع الإلهية، إذ حرم الله تعالى على اليهود بعض ما كان حلاً لهم ]، أي: دلالة على وجود نسخ في الشرائع: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا [البقرة:106] وإن وجد من اليهود من لا يقول بالنسخ فلا قيمة لهم.والنسخ في الشرائع الإلهية ثابت، فما كان حراماً أو حلالاً مثلاً على عهد إبراهيم أو يعقوب جاءت شريعة موسى فنسخه الله، وما كان حلالاً على عهد عيسى جاء الإسلام ونسخه؛ لأن النسخ للأحكام يتوقف على معرفة المشرع لحال المشرَّع لهم، ولظروفهم وما يترتب عليهم. ما هو لمجرد كذا، بل نظراً إلى مصالح الناس يحل الله أشياء اليوم ويحرمها غداً بكتاب وشريعة.أما الإسلام فلم يطرأ عليه نسخ قط بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ شرعه الله للبشرية كلها؛ ولهذا لا يمكن أن يأتي زمان لا يتلاءم مع الصيام، أو لا يتلاءم مع الزكاة، أو لا يتلاءم مع تحريم الزنا أو الربا، مستحيل! [ ثانياً: إبطال دعوى اليهود أن إبراهيم كان محرماً عليه لحوم الإبل وألبانها ]، رد الله هذا فقال لهم: هاتوا التوراة واقرءوا إن وجدتم.[ ثالثاً: تقرير النبوة المحمدية بتحدي اليهود وعجزهم عن دفع الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.رابعاً: البيت الحرام كان قبل بيت المقدس، وأن البيت الحرام أول بيت وضع للتعبد بالطواف به ]، ولا يقبل أي صوت يدعي أن مكان كذا كان قبل كذا وكذا.والآن يوجد عند الروافض بيت في كربلاء، يعتبرون زيارته أعظم وأجل من زيارة الكعبة، فجعلوا الكعبة باطلة، ولا حرج؛ لأن من وضع لهم ذلك سلخهم سلخاً من الإسلام، وكومهم أكواماً تأكلها النار، وهذا مسخ، ولعل يد اليهود معهم.[ خامساً: مشروعية طلب البركة بزيارة البيت وحجه والطواف به والتعبد حوله ]، فيمشي الرجل يصلي فرضه طلباً للبركة، وآخر يزور بيت المقدس طلباً للبركة، ويعتمر أو يحج التماساً للبركة حيث وضعها الله عز وجل.ولا حرج بزيارة البيت وحجه والطواف به والتعبد فيه، بل يجوز أن تزور عبداً صالحاً وتجلس معه وتقول: نأخذ بركة تحصل لي! على الأقل من كلامه معك وتوجيهه لك، فضلاً على أنك لا تسمع باطلاً ولا تشاهد منكراً، فتقضي الساعة كلها حسنات.كذلك إذا جلست مع سيئ فإنك تكتسب الآثام، لأنه قد يقدم لك شراباً حراماً أو طعاماً مسروقاً، فطلب البركة والتماسها مشروع في دين محمد صلى الله عليه وسلم.[ سادساً: وجوب الحج على الفور لمن لم يكن له مانع يمنعه من ذلك ]. أما إذا كان أطفاله صغاراً، أو الزاد ما كمل، أو يخشى على المزرعة أن تفسد إذا غاب عنها؛ فإذا ما كان هناك أي مانع أبداً فيجب أن تحج، ولا تؤخر الحج.ومن الموانع كذلك أن أحد أبنائك قد مرض، أما إذا كان ليس هناك مانع وهو في عافية كاملة، والنقود موجودة والطريق آمن فلا يؤخر الحج، فإنه لا يدري قد يموت قبل العام المقبل.[سابعاً: الإشارة إلى كفر من يترك الحج وهو قادر عليه، ولا مانع يمنعه منه غير عدم المبالاة ] وهنا نورد هذه الآثار كما في الهامش.قال: [ الإجماع على أن الحج مرة واحدة في العمر؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا، ولو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم )].قال: [ ذكر القرطبي عن مجاهد قوله: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96]].قال: [ وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض. قال: ( المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً )] وهذه رواية مسلم ما هي رواية أبي فلان! أو سنن فلان. قال: [ ( أربعون عاماً، ثم جعلت الأرض مسجداً، فحيثما أدركتك الصلاة فصلِّ ) ] فالأرض كلها مسجد.وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (30)
الحلقة (171)
تفسير سورة آل عمران (36)
لما أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام كفر به أهل الكتاب وأعرضوا عن دعوته رغم علمهم بصدقه وتحقق بشارات كتبهم فيه، ولكن حملهم الحسد على ذلك، وهم لم يكتفوا بذلك ولكنهم زادوا عليه بأن حاولوا صد من آمن بالله عن دينه، لذلك فقد حذر الله عباده المؤمنين أشد التحذير من اتباع أهل الكتاب، لما في اتباعهم من النكوص عن الدين القويم إلى ظلمات الكفر والضلال.
تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في هذه الليلة ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا بك يا ولينا! إنه لا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وانتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:98-101].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!تقدم لنا ما بينه تعالى من شأن أهل الكتاب اليهود والنصارى وبخاصة اليهود، إذ زعموا أن بيت المقدس قد بني قبل الكعبة، وزعموا أن إبراهيم عليه السلام لم يبن البيت، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: أنت تدعي أنك على ملة إبراهيم وفي نفس الوقت لا تستقبل قبلته التي كان يستقبلها! فرد الله تعالى عليهم أباطيلهم رداً حاسماً، وها هو تعالى يوبخهم ويبكتهم بهذه الآيات الكريمة.
تنزه الله عن مخاطبة أهل الكتاب مباشرة
يقول الله لرسوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:98] فتنزه تعالى أن يخاطبهم، فما هم أهل لأن يقول الله: يا أهل الكتاب! وانظر لما أراد المؤمنين ناداهم باسمهم: يا أيها الذين آمنوا! فما أسند النداء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المؤمنين أولياء الله، يحبهم ويحبونه، فناداهم: يا أيها الذين آمنوا!أما اليهود فلبعدهم عن الله وخبث نفوسهم، ولشرهم وطغيانهم وفسادهم ما ناداهم بل أسند إلى رسوله أن يناديهم.وهل تشعرون بهذا أم لا؟فالشخص إذا كان يعادي آخر فإنه لا يكلمه، بل يقول: كلمه أنت! واطلب منه كذا.قل يا رسولنا والمبلغ عنا صلى الله عليه وسلم: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:98] وهنا يعلم تعالى أنهم يعلمون، وأنهم على علم بما جاء به رسول الله من الحق والهدى، وأن الإسلام هو دين الله وملة إبراهيم والأنبياء.
كفران أهل الكتاب بآيات الله
يا أهل العلم والمعرفة! لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:98] بعد علمكم ومعرفتكم، وعوامهم لا شأن لهم، لكن خواصهم وعلماؤهم يعرفون كما نعرف نحن، وقد حملهم على الكفر والاستمرار عليه والكيد للإسلام والمكر به وبأهله الحفاظ على مراكزهم ومناصبهم، وعلى أملهم البعيد في أن تعود مملكة إسرائيل ودولتهم وعزهم وفخارهم. فهذه الحقيقة. ووثقوا فيما سمعتم.وقوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:98] أي: ولو لم يكونوا علماء فكيف يقال: تكفرون، وتجحدون بعد العلم والمعرفة؟وآيات الله منها أن هذا البيت العتيق بناه إبراهيم وإسماعيل، وأنه قبلة العالم بأسره، وأنه وجد قبل إبراهيم، وما إبراهيم عليه السلام إلا جدد بناءه مع إسماعيل، وأن بيت المقدس ما بني إلا بعد أربعين سنة، فبنى إبراهيم الكعبة بأمر الله تعالى، أو جدد بناءها، ثم أمره أن يبني بيتاً في أرض فلسطين، فبنى بيت المقدس، وإن جددها سليمان على نمط عال وراقٍ، لكن إبراهيم بناها لما كان يقيم هناك بعد هجرته من أرض بابل.إذاً: قوله: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ومنها النعوت والصفات التي في التوراة والإنجيل، وهي تقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم باسمه وبصفاته ونعوته، فجحدوها وأنكروها وأولوها وحرفوها؛ حتى يبعدوا العالم عن الإسلام، فلهذا بكتهم ووبخهم.
معنى قوله تعالى: (والله شهيد على ما تعملون)
ثم قال: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:98] فهم يعملون المكر .. الكيد .. الدس .. الخديعة .. التحريف .. التأويل، وفي هذه الجملة التهديد لهم بالانتقام منهم، وإنزال البلاء والشقاء بهم وعليهم.فقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:98] أي: من المكر والخداع والغش والتضليل.
تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن ...)
قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ أي: قل يا رسولنا لهم، أما أنا فلا أناديهم ولا أكلمهم، فما هم أهل لأن يكلمهم الله عز وجل، فقد هبطوا إلى الحضيض بالشرك والكفر والنفاق والخداع والتضليل.فقوله: قُلْ أي: يا رسولنا! يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ [آل عمران:99] به، فلم تصرفون المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب؟ فإذا أسلم أنصاري أوسياً أو خزرجياً يأتون إلى بيته، ويأخذون في فتنته، وإذا أسلم أحدهم عادوه وأعلنوا الحرب عليه، فلم تصدون عن سبيل الله وتصرفون الناس عن طريق يسعد أهله السالكين له والقائمين عليه؟ فهذا توبيخ وتأنيب وتبكيت.ثم قال: تَبْغُونَهَا عِوَجًا [آل عمران:99]أي: تريدون سبيل الله معوجة، وسبيل الله مستقيمة لا تنتهي بالسالكين إلا إلى رضا الله ودار السلام، فلم تطلبونها معوجة منحرفة، يقولون: نحن نعرف أنه رسول، ولكن رسول العرب ما هو رسولنا نحن. فيصرفون إخوانهم عن الإسلام، وإلى الآن ما زال حالهم هكذا.قال: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ [آل عمران:99] أي: على ما تعلمونه من صحة هذه الدعوة، وصحة نبوة صاحبها وأنها دين الله الحق الذي لا دين سواه.إذاً: خواصهم والله كانوا عالمين وعارفين، ومنعهم من الدخول في الإسلام مراكزهم ومناصبهم، وحتى يبقوا في نظرهم شرف بني إسرائيل، وحتى لا يذوبوا في الإسلام والمسلمين، أما عوامهم فإنهم يقودونهم كالبهائم، فرؤساؤهم يحرفون يؤولون، ويفعلون ما شاءوا من أجل أن تبقى هذه الزمرة اليهودية، لكن يقول تعالى بعد ذلك: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران:99].إذاً أهل الكتاب يبغون سبيل الله معوجة منحرفة، لا تقود إلى دار السلام وإلى رضا الله، فيحرفون شريعة الله، ويريدونها معوجة لا مستقيمة، وأنتم شهداء على هذا الذي تعملونه وتعترفون وتقرون به، والله ليعرفون أن محمداً رسول الله، وألا دين إلا الإسلام.ولا تعجب! فقد وجد من المسلمين من غرته الحياة الدنيا، وهو يعرف الحق ويعدل عنه، إلا أن هذه الطائفة والعياذ بالله تعالى واجهت رسول الله والمؤمنين.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ...)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذي أوتوا الكتاب ...)
قال تعالى في نداء آخر لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:100-101].هذه الآيات جاء في سبب نزولها أن شاس بن قيس اليهودي وأحد رجالات اليهود الماكرين، مر بمجموعة من الأوس والخزرج في مكان ما وقد كانوا نازلين فيه يتكلمون ويتحدثون، وكانوا مستبشرين فرحين مسرورين بالإسلام وبما هداهم الله إليه، فاغتاظ شاس اليهودي وتأسف وتحسر كيف أن الأوس والخزرج الذين كانوا يعيشون على عداء كامل وعداوة تامة بينهم، كيف يتحدون اليوم ويتعانقون ويتصافحون؟!وقد قامت حرب بعاث والتي دامت أربعين سنة بين القبيلتين الأوس والخزرج، وكان اليهود هم الذين أشعلوا نارها، وهم الذين فرقوا بين قبيلتين أصلهما واحد، وديارهما واحدة؛ وكل ذلك من أجل أن يجدوا مكاناً يسودون فيه، ولو ترك الأوس والخزرج متحابين متعاونين فلا مكان لليهود، بل سيعيشون أذلاء هابطين، لكنهم أوقدوا نار الفتنة بينهم، وأججوا شعلة الحرب فيهم أربعين سنة بما يسمى حرب بعاث، وكان الذي أوقد نار هذه الفتنة هم اليهود؛ ليبقى لهم وجود!أما الآن فإن أعداءنا من اليهود والنصارى يظنون نفس الأمر أننا لو اتحدنا وأصبحت كلمتنا واحدة فإنهم سيخسرون الشيء الكثير، لكن فرقة المسلمين أوجدت لهم مكاناً بينهم ينتفعون بها.وتبدأ القصة من أن المدينة قبل الإسلام كان يسكنها الأوس والخزرج، وأصلهما من اليمن، بسبب ما حصل لسد مأرب فهربوا ونزلوا هنا في المدينة، وبعضهم الآخر نزل في الشام، وكان اليهود قد نزحوا من الشام ونزلوا المدينة وخيبر وفدك وتيماء، وقد هربوا من ضغط النصارى؛ إذ كان النصارى يبغضون اليهود أشد من بغضنا نحن لليهود، والعلة أنهم يعتقدون أن اليهود قتلوا إلههم وصلبوه، والذي يعتقد أن إنساناً قتل ربه لا يرضى عنه، بل هو كافر، وفعلوا بهم العجب، فهرب اليهود من بلاد الروم إلى بلاد العرب، هذا من جهة.ومن جهة أخرى كان اليهود يتطلعون إلى نبوة آخر الزمان وخاتم الأنبياء؛ لما يجدون في التوراة والإنجيل من البشارات الإلهية عن نبي آخر الزمان، وأنه يخرج من جبال فاران، وأنه من ولد إسماعيل، وهذه النعوت موجودة عندهم. فنزحوا إلى هذه البلاد رجاء أن يستقبلوا النبوة الجديدة، وينضموا تحت رايتها، ويحققون أهداف بني إسرائيل.فلما ظهر لهم أن الأمور ليست في صالحهم شرقوا بريقهم، ووقفوا حرباً ضد الرسالة الجديدة، ومن مظاهر ذلك ما نحن بصدده.فقد مر شاس بن قيس اليهودي الحَبر العالم بمجموعة من الأوس والخزرج يتبادلون الحب والولاء والطهر والصفاء فاغتاظ وتألم، فجاء بيهودي وقال: اجلس بينهم وذكرهم بحرب بعاث، وأنشد بعض الأشعار التي كانوا ينشدونها لإثارة الحمية والحماس، فأنشد الأوسيون والخزرجيون تلك الأشعار التي فيها السب والشتم، وإذا بنار الفتنة تتأجج، وقالوا: لن ننتهي إلا بحرب! وتواعدوا بالحرة: غداً نلتقي هناك بسيوفنا.وبالفعل خرجوا من الغد بسلاحهم ورجالهم؛ لينتقم بعضهم من بعض، وأُعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحادثة؛ فخرج صلى الله عليه وسلم ماشياً على قدميه، هو وبعض رجاله من المهاجرين، فما إن شاهدهم حتى رفع صوته صلى الله عليه وسلم قائلاً: ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! ) فما زال يكررها حتى سالت دموع القوم، وبكوا وتعانقوا، وذهبت تلك الفتنة إلى غير رجعة إلى يوم القيامة.فهاتان الآيتان نزلتا في هذه القضية، والعبرة -كما تقولون وتفهمون- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلنستمع نداء الله لهم ولنا معهم.
نداء الرحمن لأهل الإيمان
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100] لبيك اللهم لبيك! فقد نادانا، وإن نادى غيرنا فما نحن بمؤمنين. والحمد لله!وكل مؤمن ومؤمنة إذا سمع: يا أيها الذين آمنوا! فليعطها أذنه وسمعه، ولينتظر ما يقول ربه، وهذا عبد الله بن مسعود يقول: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا! فأعرها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه. فخذ نصيبك يا عبد الله!ونداءات الرحمن لأهل الإيمان سمعناها بآذاننا، وحفظناها في صدورنا، وها نحن نطبقها حرفياً في حياتنا، والحمد لله!وللأسف أن ملايين المسلمين ما سمعوا أن الله ناداهم، ولا فهموا أن الله يناديهم أبداً، وعلة هذا الجهل، وعلة الجهل الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأقبلنا على الأغاني والملاهي والطبول والمزامير والفكاهات والأحاجي والقصص والخرافات والشركيات قروناً عديدة! فكيف نعلم؟!وأسألكم بالله: أيوحى إلينا وأنت لا تتعلم؟! وقد ختمت النبوة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا بد إذاً من طلب العلم، ولا بد من معرفة ما أنزل الله وما شرع الله وما أمر ونهى عنه الله، والجهل هو محنتنا.
التحذير من طاعة فريق من أهل الكتاب
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هذه نصيحة إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] وهنا يدخل النصارى، فإن تطيعوا فريقاً مختصاً، وهم أهل المكر والخديعة والتضليل والفتنة، والعياذ بالله يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] فلما أطاعوهم وخرجوا إلى الحرة لولا أن الله أنقذهم بالرسول صلى الله عليه وسلم لعادت الجاهلية من جديد؟ والرسول بأعلى صوته يقول: ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! ) أي: ما مت بعد!وهنا كررنا هذا القول مئات المرات والله شاهد، وقلنا: يا معشر المؤمنين! أيها المسئولون! يا آباء البنين اسمعوا! إنكم تضعون أبناءكم بأيدي المعلمين من أهل الكتاب! فيجلسون بين أيديهم السنوات فكيف يعودون إليكم ربانيين مؤمنين صالحين؟ أما تجب طاعة المعلم؟ بلى. تجب!وأنا إذا كان معلمي يهودياً أو نصرانياً، قساً أو حَبراً من الأحبار، فإني سأجلس بين يديه يعلمني أربع سنوات إلى خمس سنوات وينفث في نفسي روح الكفر؟!وللأسف أن الوزارات في العالم الإسلامي عرباً وعجماً يتولاها أولئك الخريجين، وخمسة وسبعين في المائة هم من خريجي جامعات أوروبا وروسيا والبلاد الشيوعية، فهؤلاء الوزراء في المال .. في الاقتصاد .. في الحرب .. في السلم .. في كذا .. معصومون؟ كيف يتحركون؟ يتحركون بغير ما علموه وعرفوه؟الجواب: والله إلا من عصم الله، لا يتحركون إلا بما فهموه وعلموه، ومن هنا حقروا الإسلام والمسلمين، وأعرضوا عن كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وقالوا في أهله: خرافيون ورجعيون وكذا وكذا.هذا هو السر، واسمع الحكيم العليم يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، ومن يقول: لا يا رب! لا يردوننا؟ أيقول هذا عاقل؟!والواقع شاهد، فلم تعطلت شريعة الإسلام وأبعد القرآن وهجرت السنة، وترك الحكم بكتاب الله وسنة رسوله؟ لم؟ وما سبب ذلك؟والله إنه للجهل المركب الذي تلقاه أبناؤنا ورجالنا من معلميهم، سواء الذين يعلمونهم الفيزياء أو الهندسة أو الديمقراطية أو قل ما شئت، فينفثون فيهم سمومهم، وإن أنفقوا عليهم الأموال فلا ينفقونها ليتعلمون حب الله ورسوله والمؤمنين، وكره الكفر والكافرين.وهذه الآية عجب فكأنها نزلت الآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا وما قال: إن تطيعوا أهل الكتاب إنما قال: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا أي: مختصاً، وهم الذين يثيرون الفتن ويحرضون على الباطل والشر من أجل هبوط هذه الأمة وعدم صعودها ورقيها، وقد أطعناهم والواقع شاهد، فلِمَ يستقل الإقليم ولا يطالب السلطان عبد العزيز بأن يبعث لهم قضاة ورجالاً يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ بل ما إن يستقل حتى يعلن عن دولته وقانونه بعيداً عن الإسلام والمسلمين!أعيد القول وسوف تسألون يوم القيامة: من أوجد دولة عبد العزيز ؟الضلال الذين يكرهون التوحيد يقولون: بريطانيا!والله ما أوجدها إلا الله، وتعلموا هذا إن كنتم تعقلون، فلما خفتت أنوار الإسلام، ووضع الغرب قدميه العفنتين على صدور المسلمين من إندونيسيا إلى موريتانيا، فالعرب والعجم الكل تحت أقدام الاستعمار، وصفق اليهود والنصارى والضلال والغافلون، فما بقي للإسلام شأن لا قرآن ولا سنة ولا دعوة، فأيس الناس كيف يعود القرآن يحكم من جديد؟ فجاء الله عز وجل بهذه الدولة، وأسباب مجيئها ليست بشيء، ولكن الله أراد، وحكم عبد العزيز بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعالم يشاهد وينظر، والجاهلون يصفقون للعالمين، والعالمون يكرهون التوحيد والإسلام والمسلمين! وشاهدوا بأم أعينهم الأمن الذي تحقق في هذه البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وشاهدوا الطهر والصفاء اللذين تحققا بحكم الله عز وجل، ولا ينكر هذا إلا مغرض أو جاهل مسحور يتكلم بما لا يعلم.فظهرت آيات الله، وأخذ الله عز وجل يحرر المسلمين بعد أن أذاقهم مر العذاب بالهون والدون لفسقهم وفجورهم وجهلهم وإعراضهم عن الله.وأول إقليم تحرر وقد عاصرناهم إقليماً بعد إقليم، وكان الواجب على أهل ذلك الإقليم ما إن تسلموا زمام الحكم وخرجت فرنسا أو إيطاليا أو بريطانيا كان الواجب أن يرسلوا وفداً إلى عبد العزيز أو من خلفه، ويقولون: هذا الإقليم استقل وتحرر، وهذه مفاتيحه فعين والياً عاماً، فهذا إقليم من أقاليم الدولة الإسلامية، وابعث قضاة يطبقون قال الله قال رسول الله، ويبقى البلد له خيراته وبركاته، ولكن تطبق فيه شريعة الله، فيؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، وتجبى فيه الزكوات، وتقام فيه الصلاة إجبارياً، وتغلق أبواب المخامر، وتدمر المصانع، والحمد لله ستتسع رقعة البلاد الإسلامية، فينتقل إلى الإقليم الثاني والثالث والرابع والخامس، فمن ثم تكون الخلافة الإسلامية قائمة، وأمة الإسلام أمة واحدة، وأمرهم واحد.لكن لم أعرض المسلمون عن هذا؟خوفاً من الله!والآن يبكون ويبكون، وماذا يجدي البكاء فقد مزقتنا خلافتنا بأيدينا، وأعرضنا عنها.ونعود إلى: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] فأكثر الوزراء والمسئولون في الدول العربية والإسلامية بعد استقلالها وأيام استقلالها هل هم بدو من أصحاب الكتاتيب؟ من حفاظ القرآن؟!إن حفظة القرآن يقرءونه على الموتى، ولا وظيفة ولا مال، والله العظيم! أما الذين ساسوا وقادوا البلاد فهم خريجو جامعات بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا.إذاً: ماذا ترجون من هؤلاء والله يقول: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] صدق الله العظيم.أما تبكون على المسلمين وأمورهم؟ أين الإسلام؟و( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم )! وها نحن نشاهد الفتن تنتقل من بلد إلى بلد والمسلمون يحترقون.
تفسير قوله تعالى: (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله ...)
العجب من ظهور الكفر بين المسلمين مع وجود تلاوة القرآن ووجود الرسول
يقول تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] يا للعجب! بعدما قرر الله يقيناً أننا إذا أطعنا هذا الفريق من خبرائهم وعلمائهم وساستهم، لأننا جهلة وهم عالمون، وأخذنا نقلدهم ونمشي وراءهم؛ يردوننا كافرين! تعجب الرحمن لنتعجب نحن: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101].وقضية شاس اليهودي تتناول هذا اللفظ، ولكنها انتهت، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونوره يلوح فعادوا إلى الله، لكن يبقى هذا الحكم: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ فمن أين يأتيكم الكفر أو يدخل عليكم أو يفسد قلوبكم والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]؟وقد بينا مئات المرات في هذا المسجد المبارك، وما بلغنا أن مؤمناً نقل مثل هذا أو تكلم به، لا في بيته ولا مع جلسائه، وإن تكلم يقولون له: خيالات، هذا خيال فقط ولا حقيقة له!ومعنى الآية أنه لا يتأتى الكفر لنا ولا يدخل قلوبنا ما دام القرآن يقرئ علينا ويفسر لنا ويبين لنا، وسنة رسوله تشرح وتبين وتقودنا! فإن نحن اعتزلنا وبعدنا عن الكتاب والسنة فلا محال من الكفر، فالمناعة انتهت!
التحذير من ابتعاث أبناء المسلمين إلى بلاد الكفر دون قيود وشروط
قلت مئات المرات: المفروض أننا لو ابتعثنا عدداً من أبنائنا يدرسون في روسيا أو أمريكا أو بريطانيا، فيجب أن نؤجر لهم منزلاً خاصاً بهم، وأن نجعل فيه مصلى يصلون فيه، وأن نبعث معهم عالمَين ربانيين بالكتاب والسنة، فيدرسون في الكليات ثم يعودون إلى مقرهم النوراني فيتلقون الكتاب والحكمة ويتهجدون ويعبدون الله، ويعودون إلى كلياتهم وكلهم نور فيغمر ذلك المربي أو المعلم، وقد يدخل في رحمة الله والإسلام من كلمة يسمعها من مؤمن من هؤلاء المؤمنين!أما أن نبعثهم ونرمي بهم في أحضان العواهر!وقد نددنا بتلك الإعلانات والتي فيها: وانتهت العطلة الصيفية: فمن يبعث ولده إلى بريطانيا ليتعلم أربعين يوماً اللغة البريطانية، وينزلونهم في أسرة من العواهر الكفار!فكيف يعودون أسألكم بالله؟!وصرخنا وبكينا وقلنا: هذا موت .. هذا دمار، كيف تبعث ابنك أربعين يوماً في العطلة ليعيش مع العواهر؟! أستغفر الله! وهل الكافرات مصونات عفيفات؟!إنه شاب من شبيبة الإسلام ترميه بين أحضان الفتيات فكيف يسلم من الفجور؟ وهذا الواقع الذي نصرخ منه له أسبابه، ومن ذلك أن المسلمين لما استقلوا ما عرفوا الله، فكرهوه وكرهوا دينه وملته، وتغنوا بالاشتراكية والديمقراطية وأعرضوا عن الإسلام، وبعثوا أولادهم يتعلمون الكفر أحبوا أم كرهوا.وبهذه الأذن سمعت في فرنسا مسئولاً في سفارة من السفارات يقول: لما يقولون: إلى متى هذا الحجاب وهذا كذا؟ قال: نقول لهم: ما هي إلا أوقات فقط، ولا بد من التدريج. ففهمت أنهم يريدون مسخنا ولكن بالتدريج وليس بالقوة! فالحجاب ليس بممنوع، لكن شيئاً فشيئاً.وماذا عسانا أن نقول والله ينادينا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:100-101] ماذا تقولون في هذه الآية: جديدة أم قديمة؟ولما سمع إخواننا من الجن آيات كهذه قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]. ولكننا كالأموات.هل فسرت هذه الآية في العالم الإسلامي؟وهل بلغكم أنهم يبعثون مع طلابهم أئمة يربونهم؟والله لو فعلوا هذه النظرية وقد قلناها من عشرات السنين؛ لصار مركز الطلاب مركزاً للدعوة الإسلامية! فيؤذنون فيه والنصارى يسمعون ثم يأتون يسألون العالِم: ما هذا الإسلام؟كما قد قررنا وقلنا: ينبغي للمسلمين إذا دخلوا إلى مبنى الأمم المتحدة أن يدخلوا بعمائمهم وطرابيشهم، لا أن يدخلوا كاليهود والنصارى، وأين المسلم؟!فلما يدخلون مبنى الأمم المتحدة أو مجلس الأمن بالمشلح أو العمامة يقولون: من هذا؟ فيقال لهم: هذا مسلم! فيقولون: وما مسلم؟ فهو ما سمع بالإسلام. ثم يقال له: إن كنت تريد أن تسمع عن الإسلام فامش وراءه، فهو نازل في الفندق الفلاني فيعلمك!فبالزي فقط ندعو إلى الإسلام! لكن للأسف الشديد حتى الزي لا يوجد.كذلك المسلمة لو سافرت للضرورة معك! فلا تنزع عنها الحجاب من الطيارة، بل دعها تسافر محتجبة حتى يقولوا: ماذا هذا؟ فيقال لهم: هذا الإسلام، فيقول: ما هذا الإسلام؟ فيسألون أهله ويبدءون يتساءلون.لكن لا، أكثرنا يقول: لا نريد أن نعرف أننا مسلمون.فجحدنا الإسلام، وعلة هذا الجهل، ليس الجهل بالفيزياء أو بالتقنية، إنما الجهل بالله ومحابه ومكارهه، وما أعد لأوليائه وما هيأ لأعدائه.
طريق عودة المسلمين إلى دينهم وعزهم
إن قال قائل: لا تلمنا يا شيخ! هذا هو واقعنا، نحن ما ربينا في حجور الصالحين، وقد مضت علينا قرون ونحن نعيش في الخرافة والشرك والجهل، ثم انتكسنا انتكاسة أخرى، فتعلمنا من اليهود والنصارى وتحضرنا بحضارتهم وسلكنا سبيلهم، فكيف نعود؟فأقول لهم: يقول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] فهيا نعود!يقول: صعب يا شيخ! أن نعود.أقول: والله إنها لأسهل من أن تشرب كأس لبن، لأن ولاية الله من يقاومها؟ من يقهر الله أو يذل أولياءه؟فإن قال قائل: ما هو الطريق السهل الميسر؟أقول: الطريق السهل أن أهل القرية العربية والأعجمية وسكانها ألف .. ألفان .. ثلاثة آلاف نسمة يقولون: هيا نعود إلى الإسلام من جديد! فنعود بسم الله، ويبدأ إمامهم على المنبر يوم الجمعة يقول لهم: أبناءنا إخواننا! هي نأخذ على أنفسنا عهداً لله أننا لا نغيب عن بيت ربنا كل يوم من المغرب إلى العشاء، فإذا مالت الشمس إلى الغروب نغلق باب التجارة إن كنا تجاراً، ونرمي المسحاة من أيدينا إن كنا فلاحين، والمطرقة إن كنا حدادين، ونتوضأ ونأتي بنسائنا وأطفالنا إلى المسجد بيت الرب، فيجلس النساء وراء الستارة، ومكبر الصوت بينهن، والأطفال دونهن في صفوف عجيبة كالملائكة، والفحول أمامهم، ويصلون المغرب، ثم يجلس لهم عالم بالكتاب والسنة، فقط يعلمهم الكتاب والحكمة، ويأخذون في التلقي يوماً بعد يوم.وكذلك هو حال أهل الأحياء في المدن يوم الجمعة يقول لهم خطيبهم: معاشر المستمعين! من اليوم لا يتخلفن رجل ولا امرأة عن صلاة المغرب والعشاء في مسجدنا هذا؛ لنتلقى الكتاب والحكمة، وفي صدق يقبلون على المسجد، ويتلقون ليلة آية وأخرى حديثاً، كما قد مثلنا هذا وجربناه في كتاب المسجد ففيه ثلاثمائة وستين آية وحديثاً، ونظل على ذلك سنة كاملة ونحن نمرن المسلمين على هذا، ولا حركة أبداً.فإن سأل سائل: ماذا ينتج كل هذا؟الجواب: والله إن النتيجة لهي أن يسود الحب والولاء والأخوة والصفاء، وينتهي الغش والخداع والكذب والنفاق والإسراف والتكالب على الدنيا، وتصبح القرية أو الحي كالملائكة، فلا جوع ولا فقر ولا خوف ولا بلاء، والله ليفيضن المال، حتى إن من راتبه عشرة آلاف يبحث كيف ينفقها.إذاً فلم لا نقبل على هذا ويصبح مذهبنا واحداً؛ فلا حنفي ولا حنبلي ولا مالكي ولا زيدي ولا أباضي، بل مسلمون، قال الله وقال رسوله، وفي قريتهم أو في حيهم، في بيوت الله طول العام، ساعة ونصف فقط أو ساعتين، والله لا منقذ لأمة الإسلام وقد هبطت إلا هذا، إلا أن تعود إلى الكتاب والسنة بهذه الطريقة.فإن قلتم: هذا أمر صعب، فلم تقولون: وليس هناك إلا الجهاد أو الديمقراطية أو يقتل بعضنا بعضاً؟يا أبنائي! هناك نيران مشتعلة في الجزائر لها أربع سنوات وستنتقل من بلد إلى بلد، ولا يطفئها إلا الله، ولا تطفأ إلا بالإيمان الصحيح والعودة الربانية.
الاعتصام بالله بوابة الهداية
قال تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] ألا وهو الطريق الموصل إلى الجنة دار السلام.لكن كيف يعتصم بالله؟ الجواب: يستمسك بحبل الله النازل من السماء.وما هو حبل الله؟ حبل الله هو القرآن الكريم، كتاب الله عز وجل.والله تعالى أسأل أن يهدينا والمؤمنين إلى أن نعود إلى ربنا، فتنشرح صدورنا وتطيب نفوسنا، ونجد لذة الأنس بذكر ربنا. فاللهم حقق لنا ذلك، إنك ولينا وولي المؤمنين.وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (31)
الحلقة (172)
تفسير سورة آل عمران (41)
تقوى الله عز وجل طريق كل خير، والتقوى تحمل المؤمنين على طاعة أوامر الله عز وجل، ومما أمر الله به عباده المؤمنين أن يعتصموا بحبله المتين، وهو دين الله القويم، وحذرهم سبحانه وتعالى من التفرق والاختلاف، فالاختلاف سبب كل شر، والتفرق ضعف وهوان، وما أوتي المسلمون إلا من هذا الباب.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ راجين من ربنا عز وجل أن يهبنا ذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ). فحقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وما زلنا مع هذه الآيات، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].وهذا النداء مسبوق بآخر وهو موضوع درسنا البارحة، وتلاوة الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:100-101]. خلاصة هذا النداء هو أن الله نادانا بعنوان الإيمان؛ لأننا أحياء، نسمع ونفهم ونقدر على أن نعمل أو نترك، وتشريفاً لنا ما قال لرسوله: قل يا أيها الذين آمنوا! بل تولى نداءنا مباشرة بنفسه، بخلاف أهل الكتاب قال: قل يا أهل الكتاب! فتنزه الله أن يناديهم! فما هم أهل لذلك، لا سيما عندما يذكر فظائعهم وخسرانهم وأباطيلهم.
خطورة طاعة أهل الكتاب
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] والله العظيم المخبر هو الله، الذي يقلب القلوب، والذي غرز الغرائز، وطبع الطبائع، وسن السنن، ووضع النواميس والقوانين، أيخبر ويخطئ؟! لا والله ما كان.فما من مسلم يطيع جماعة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين لا هم لها إلا تكفيرنا وإبعادنا عن نور الله ورحمته، فما يطيعها أحد إلا وقع في شَرَك الكفر والعياذ بالله.وقد سمعتم وقلت لكم: هناك خطأ وقعت فيه أمة الإسلام وهي لا تدري، فقد بعثت بأبنائها وشبيبتها -ومع الأسف وبناتها أيضاً في بعض البلاد- ووضعتهم بين أيدي الماكرين من علماء أهل الكتاب من يهود ونصارى، فيدرسون السنين العديدة الأربع والست والسبع والثمان سنين.أسألكم بالله: ألا يفرغون فيهم باطلهم؟! ويملئون قلوبهم بشرِّهم وكفرهم؟وتجلت الحقيقة وقلنا: إن أكثر من تولى حكم المسلمين من إندونيسيا إلى موريتانيا هم خريجو تلك الجامعات، فتجدونهم في وزارة المال .. في وزارة العدل .. في وزارة التعليم .. في وزارة كذا وكذا، وهم قد حشوا وملئوا ببغض الإسلام وكرهه!ثم يقودون أمتهم بحسب ما في قلوبهم، والله إن منهم من يجامل المسلمين مجاملة، وهو لا يثق فيهم ولا يعد نفسه منهم، بل فوقهم، بل يصفونهم بأنهم رجعيين .. متخلفين .. جهال! لأنهم ليسوا كمشايخهم في أوروبا وأمريكا! وأحلف لكم بالله: والله إن إبعاد المسلمين عن دينهم بعد أن استقلوا عمن استعمرهم لمحنة جاءتهم من مسئولين درسوا عند الكافرين، وأشبعوا بمفاهيمهم وعلوم معارفهم، فعز عليهم أن يصلوا أو يدعوا إلى الصلاة! وإذا ما رأيتم فسوف تسمعون بهذا في قبوركم قبل النشر والحشر، وتنكشف الحقائق.فإن قال قائل: يا شيخ! ماذا تريد منا؟الجواب: كان المفروض بنا عندما نبعث بعثة من أبنائنا إلى روسيا .. إلى الصين .. إلى أمريكا .. إلى اليابان .. إلى أوروبا؛ ليتعلموا الصناعة والتقنية وما نحن في حاجة إليه؛ أن نبعث معهم علماء شرعيين، ونلزمهم بطاعتهم إلزاماً، ونعد لهم سكناً خاصاً على حسابنا نحن المسئولين بالدولة. فيتحول ذلك المركز إلى إشعاعات نورانية! ويعودون من كلياتهم وتمارينهم ليركعوا ويسجدوا بين يدي ربهم، ويدرسوا الكتاب والسنة، فتغمر تلك البلاد أنوارهم، ويدخل الناس في الإسلام معهم، لكن مع الأسف يبعثونهم ويضعونهم بين يدي أعداء الله ورسوله، فكيف يسلمون؟! نعم قد يسلم واحد، لكن العبرة بالأكثرية لا بالأقلية.فهل إذا وضعوا لهم مركزاً خاصاً يتعلمون فيه الهدى ويعبدون الله يأمنون؟إي والله! أما قال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] فيتعلمون في الصباح من أساتذة الكفر المضطرين إلى التعلم عنهم هذه الماديات، ويعودون في الليل ليبيتوا ركعاً سجداً، يتلى عليهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.وهذا ما دل عليه كلام ربنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100] كالخبراء .. المعلمون .. المستشارون .. الفنيون .. السياسيون، وما قال: إن تطيعوا الذين أوتوا الكتاب، لا! سبحان الله العظيم! إنما قال: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا خاصاً هيئ للفتنة ونشرها يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100].
العجب من ظهور الكفر مع تلاوة القرآن وتعليم السنة
ثم قال في صورة تعجب: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ بعد إيمانكم وأنوار قلوبكم، كيف والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]؟!دعنا من تلاميذنا في الخارج، ونعود إلى ديارنا في الداخل، وكيف زاغت قلوبنا، وضلت فهومنا، وتهنا في متاهات الشرك والباطل والفسق والفجور؟ ألكوننا تتلى علينا آيات الله وفينا رسوله؟ لا والله! إنما لأننا بعدنا كل البعد عن تلاوة كتاب الله وهداية رسوله صلى الله عليه وسلم.ومن يمنعنا أن نزل ونسقط؟ ومن يمنعنا أن نضل ونتيه ونفجر؟أين المناعة؟فالقرآن نقرؤه على الموتى فقط، فإذا مات ميت نقرأ عليه القرآن في المقبرة أو في بيته؛ من أجل أن نأكل الرز واللحم.وقالت علماء الزمان: من فسر القرآن الكريم وأصاب فقد أخطأ، أي: حرام أن تفسر كلام الله، فإنك تهلك، وإن أخطأ فقد كفر، فألجمونا بلجامهم وأسكتونا وقطعوا أنفاسنا.فقلنا لهم: وماذا نفعل بالقرآن؟!قالوا: اقرءوه على الموتى.معشر المستمعين والمستمعات!ثبت عندنا يقيناً في بلاد استعمرتها فرنسا، وفي إقليم من أقاليمها، وقد جاء حاكم عام يقود تلك المنطقة من فرنسا، فأخذ يتجول في المدينة، فوقف على كتاتيب الطلاب في المساجد يتعلمون القرآن؟ فعجب ذلكم الفرنسي وكاد يغمى عليه أن المدارس مفتوحة ووزارة المال تنفق ومع ذلك وجدت هذه الكتاتيب؟ فلا معنى لهذا، أغلقوها، فليست فرنسا في حاجة إلى هذه الكتاتيب على الأرض، إنما عليها أن تنشئ المدارس وتبعث بالمعلمين. وصدر الأمر بإغلاق الكتاتيب، فألهم الله تعالى مؤمناً وقال: يا مسيو! لا معنى لإغلاقك هذه الكتاتيب وسد أبوابها، فهذه الكتاتيب تعلم القرآن من أجل أن يقرءوه على الموتى، فقط على الموتى؟ فقال: على الموتى فقط، أما الأحياء فلا يفهمون ولا يقرءون. قال: إذاً: خلهم يقرءون، والله العظيم!فإذاً هبطنا فمن يرفعنا؟ وهل من رافعة؟الآن الرافعات ملأت ديارنا تحمل الإسمنت إلى الطابق العاشر، وقد كنا نتحدث عن الرافعة فلا يفهمنا إخواننا، إلا الذين ينزلون الموانئ والمراسي، ويشاهدون الرافعة تأخذ السيارة من السفينة وتضعها في الأرض، أو تأخذ الطن من الأرض وتضعه في السفينة.الآن الرافعة معروفة فهي ترفع من كان على الأرض إلى عنان السماء، وعندنا رافعة حرمها البشر بكيد الكائدين ومكر الماكرين من فريق من أهل الكتاب، وهذه الرافعة تتجلى لنا قوتها وسلطانها وقدرتها على الرفع، فقد رفعت العرب الذين كانوا كالبهائم في الأرض، فالأحباش مستعمرون اليمن، والنصارى مستعمرون الشمال، والمجوس محتلون الشرق، وليس هناك إلا هذه البقية في الحرمين فقد حماها الله، فرفعتهم هذه الرافعة خمسة وعشرين سنة وصاروا سادة العالم وأئمة البشرية.ما هذه الرافعة؟إنه القرآن الكريم. واقرءوا لذلك قول الله عز وجل من سورة الأعراف: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:175-176] لا إله إلا الله! هذا قرآن أم ماذا؟فقوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي: يا رسولنا! نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا كالحية لما تنسلخ من ثوبها، وتتركه حنش أبيض. فقوله: آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا أي: حولوها إلى الرفوف، وإلى القبور يقرءونها فقط، وليس هناك من يقول بها أو يعمل بها أو يتعظ بها أو يهدي بها.إذاً: ففقدنا الحصانة والمناعة، والمناعة كانت في القرآن، فلما انسلخ منه وتركه على الرفوف جرى الشيطان وراءه، إذ لا حصانة ولا مناعة؛ فأدركه فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]، والغي لفظ يكاد يتقيأ منه الإنسان، وأهله هم الغاوون أي: الفاسدون الأخباث الهابطون.ثم يقول تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176]، ما قال: لرفعناه بأيدينا أو بملائكتنا، قال: لَرَفَعْنَاهُ بِهَا أي: بالآيات، إذ هي الرافعة للبشرية من سقوطها في أوضار الذنوب والآثام، وأوساخ الدنيا والجرائم والموبقات.فليست الرافعة معاشر الأبناء في الاشتراكية أو الديمقراطية.إنه والله لَفي القرآن، فعندما يؤمن الإنسان به ويقرأه، ويفهم مراد الله منه ويطبقه، فتلك هي الرافعة.ثم قال: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176]، وقد كنا نسمعهم يقولون: الخبز للجميع، والدولة كلها قائمة على تحقيق الخبز! أهؤلاء بهائم وحيوانات، فقط وفروا لهم الخبز فقط! وهذا في النظام الاشتراكي.إذاً: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176]، فما اتبع عقله أبداً فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] في أي شيء؟ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ [الأعراف:176] بالعصا يَلْهَثْ أي: لسانه مدلى، وتتركه في الظل والماء بين يديه والله وهو يلهث.وكنا نقول: والله لن تنقطع لهثة العرب والمسلمين إلا إذا عادوا إلى الكتاب والسنة. ومضى الآن أربعون سنة .. خمسون سنة وهم معرضون عن الكتاب والسنة، فلم ينته لهثهم وحيرتهم أبداً، فقولوا: آمنا بالله.وهذا هو القرآن الذي يقرأ على الموتى.إذاً قوله: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فأيما فرد أو جماعة أو أسرة أو قرية يعيشون على تلاوة القرآن والسنة وتطبيقهما والعمل بهما لو اجتمع أهل الأرض من شياطين وبشر على أن يكفروهم والله ما كفروهم، ولا استطاعوا أن يبعدوهم عن الله ودينه؛ لأن المناعة أودعها الله في القرآن والسنة.
الاعتصام بالله طريق النجاة
وأخيراً: يقول تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ [آل عمران:101] أي: يستمسك بدينه وشريعته، وبما يحملها من كتابه وهدي رسوله، ويشد على ذلك علمه أنه قد هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، فلن ينتهي به إلا إلى سعادته وكماله، فهو ليس بمعوج، بل صراط يصل بسالكه إلى سعادة الدنيا والآخرة، وهذا إعلام الله وإخباره، ولا يتطرق إليه أبداً الضعف.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ...)
أهمية تقوى الله
جاء النداء الثاني فهيا نتدارسه، فيقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لبيك اللهم لبيك، فماذا تريد منا يا ربنا؟ قال: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] وهذا الأمر لنا. أي: اجعلوا بينكم وبين غضبه وسخطه وعقابه وعذابه وقاية وكافية.ما هذه الوقاية؟هل هم رجال الفن أو مصانع الذرة والسلاح؟! هل هي الجيوش الجرارة والأنظمة العصرية؟!هذه ليست هي الوقاية، فوالله ما تقينا هذه أبداً، فالله فوقها، وهو الذي دبرها وأوجدها وسخر الأيدي التي صنعتها.إذاً: بِم يتقى الله؟يتقى الله عز وجل بطاعته في أمره ونهيه، وطاعة الرسول من طاعة الله، وطاعة إمام المسلمين من طاعة الله، وطاعة المربي من طاعة الله، وطاعة الوالدين من طاعة الله، وما هناك إلا طاعة الله وقد تفرعت عنها الطاعات الأخرى، فطاعة الله بها يتقى عذابه وغضبه.وطاعة الله تكون يا عبد الله ويا أمة الله بفعل أمرٍ أمر به وترك نهي نهى عنه، وإن كانت النفس تحب ذلك وترغب وتشتهي، فما هناك حيلة والله أبداً.فقط أن نعرف أوامر الله ونواهيه، ونصحح العزم في صدق على أن ننهض بالأمر ونختلي ونبتعد ونجتنب النهي، ولا يتقى الله بشيء سوى هذا.من هنا: أولاً يجب تحقيق الإيمان إذ لا يقدر على هذا إلا مؤمن.وهل نحن مؤمنون؟ وكلمة (إن شاء الله) لا تنفعنا.تريدون عرض شاشة قرآنية تشاهدون فيها أنفسكم، وإن وجدتمونا فيها فنحن مؤمنون، وإن ما وجدتمونا فما نحن بمؤمنين، وإن وجدتمونا في جهة وليس في أخرى فإيماننا ضعيف مذبذب.تريدون أن تشاهدوا أنفسكم أو لا؟وإليكم الشاشة الأولى من سورة الأنفال المدنية، والتي نزلت بعد وقعة بدر عندما اختلفوا في الغنيمة، وادعى من ادعى الإيمان وهو غير مؤمن صحيح الإيمان، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي: بحق وصدق الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4].كيف حالنا يا معاشر الناظرين إلى الشاشة القرآنية؟إن قلت: يا عبد الله! اتق الله فلا تسب الدين، تجده يسخر ويضحك! أهذا مؤمن؟!إن قلت: يا أمة الله! استتري واحتجبي والزمي بيتك، تخرج لسانها وتسخر منك! أهذه مؤمنة؟إن قلت لبائع الدخان والحشيشة وأشرطة الباطل: يا عبد الله! اتق الله، لا تنشر هذا الباطل بين المؤمنين، يقول مع الأسف: الزبائن لا يشترون منا إذا ما عندنا هذا؟ وهل هذا توكل على الله والله يقول: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].إن شاء الله رأيتمونا في الشاشة.والشاشة الثانية من سورة التوبة أخت سورة الأنفال ولا فاصل بينهما، يقول تعالى: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ [التوبة:71] وهذه الصيغة بمعنى: والمؤمنون والمؤمنات بحق؛ لأنها رد على المنافقين والمنافقات في السياق الأول بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وانظر إلى أخيك إلى جنبك هل أنت وإياه بعضكما أولياء بعض؟ فإذا استغاثك: أي صاحبي! تقف إلى جنبه أو تضحك وتتركه.وإذا رأيته والكلاب تمزق ثيابه ولحمه تمر بعيداً تقوله: دعه، أهذه هي الولاية؟!وإذا رأيته جائعاً والجوع يقطع أمعاءه، وأنت شبعان والتمر في جيبك، أهذه هي الولاية؟!وقد بينا وعلم العالمون حقيقة أن هذا الولاء معناه الحب والنصرة، وأيما تأويل آخر تسمعونه فهو باطل، والتأويل الحق أنه الحب والنصرة، فتحب أخاك المؤمن وإن كان أرمد أعمش أسود مريض وسخ، وتقف إلى جنبه وتنصره متى استنصرك وطلب نصرتك، وبدون هذا فلا ولاية.ثم قال: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71]، وعندما تدخل بلاد المسلمين لا تجد من يقول: يا أبناءنا! هذا باطل، يا عم! هذا لا يجوز. يا سيد! أذن المؤذن أغلق الباب واذهب إلى المسجد، أبداً، لا يوجد من يأمر بالمعروف، ولا من ينهى عن منكر يشاهده في السوق أو في البلاد ولا .. ولا أبداً، فلا أمر ولا نهي.أهؤلاء مؤمنون؟! وكيف هي نسبة الإيمان؟وعلى الأقل يطبقون هذا الأمر في بيوتهم، فيا عبد الله! مر أباك أو أمك أن يطهرا بيتهما من هذه الأوساخ وهذه الأراذل من صور الخلاعة والدعارة وأصوات المجرمين، فإن الملائكة قد رحلت منه، فيجيبك أنه لا يستطيع، أهذا هو الإيمان؟!وللأسف أن أحدهم قد يجد ابنه معلقاً الصليب في عنقه فيسكت ويقول: دعه يلعب.وهذه الآية لا ندري هل نحن من أهلها أو لا: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]؟إن شاء الله رأيتم المؤمنين في هذه الشاشة، ومن وجد نفسه غائباً فليعد، فإن باب الله مفتوح، حتى يتأكد من صحة وجوده في هذه الشاشة البيضاء القرآنية.والأمر بالمعروف والله من أيسر ما يكون، فصديقك أو زميلك الذي يحبك وتحبه أما تقول له: يا فلان! صلّ الصبح ولا تتركها.أتعجز عن هذه النصيحة؟! فكيف تحبه إذاً؟كذلك إذا أخذ يأكل وما قال: بسم الله، أما تقول له: سم الله يا أخي؟!وإذا أكل بشماله، قل له: اتق الله، حرام الأكل بالشمال فأنت مؤمن؟وهكذا في دائرة أسرتك وإخوانك تؤدي هذا الواجب، وتصبح آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر.
تقوى الله تكون في حدود الاستطاعة
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، هنا احتار المسلمون وقالوا: كيف نستطيع أن نتقي الله حق تقاته، وما الذي نتقي به الله، ولو نملك السماوات والأرض لا نستطيع، فالسماوات والأرض يقبضها بيده فكيف نتقيه؟والجواب أيها الأحباب: هو أننا نتقيه في حدود طاقتنا، فما طلب منا أكثر من ذلك، إذ قال من سورة التغابن: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، أي: اتقوا الله في حدود طاقتكم، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( تقوى الله حق تقاته أن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يطاع فلا يعصى )، فنفعل هذا في حدود طاقتنا، فنذكر الله ولا ننساه أبداً، فنذكره عند الأكل .. عند الشرب .. عند القيام .. عند القعود .. عند الملاقاة .. عند الصلاة، عند ذبح الشاة .. عند الركوب .. عند النوم .. عند اليقظة .. فنذكر الله طول الليل والنهار، ولا ننساه أبداً. وما يشق علينا ذكره.كذلك نشكره على آلائه وإنعامه علينا ولا نكفرها أبداً. فإذا قيل لك: كيف حالك؟ تقول: الحمد لله، نحن بخير، قد أنعم علينا بنعمة السمع .. بنعمة البصر .. بنعمة الأمن .. بنعمة الطهر، ونحن في خير .. في عافية.. وهكذا لا نكفر نعمة من نعمه أبداً، ونحمده على كل نعمة.ولا نعصيه إلا إذا أكرهنا أو نسينا أو جهلنا، وتلك هي طاقتنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] أولاً.
الموت على الإسلام
ثم قال تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وهل نملك هذا يا رب؟ إي نعم، أنت قادر على أن لا تكفر ولا تفسق ولا تفجر، فعندك قدرة فجاهد نفسك، حتى لا تموت إلا على الإسلام.نعم قد تضطر في بعض الظروف أو بعض الأماكن إلى أن تهاجر وتخرج من ذلك البلد، وترحل من تلك العمارة فتسكن في أخرى. وإذا خشيت أن يعبث بعقلك وقلبك ويفسد إيمانك وتموت على سوء خاتمة، فقد فرض الله الهجرة فرضاً، وأيما مؤمن وجد نفسه في مكان لا يستطيع أن يعبد الله فيه وجب عليه أن يهاجر، فينزل الجبال أو التلال أو الأودية، ولا يبقى في بلاد لا يستطيع أن يعبد الله فيه خشية أن يموت على غير الإسلام، أو يموت وما أسلم قلبه ولا جوارحه لله: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
الدعوة إلى الاعتصام بحبل الله والتحذير من التفرق
ثالثاً: ومن نصائح مولانا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103]، وحبل الله هنا هو القرآن الكريم .. السنة .. الإسلام .. الدين الإسلامي، فهذه كلها جاءتنا منه وتدلت علينا، فمن استعصم بها وشدد لا يخشى السقوط أبداً، ولا يهوي في عذاب النار. ثم قال: وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وما تقولون في التفرقة حرام أو حلال؟وقد عرف العدو خطر الفرقة والتفرق فقال: والله لأفرقنهم حتى يصبحوا أهلاً لأن نسوقهم كالأغنام والأبقار، وفعلاً فرقونا، وبدءوا بالقريب ثم البعيد، وفي العصر الحاضر هناك نيف وأربعون دولة.آلله أمركم بهذا؟إذاً: لِم تعصون الله عز وجل، وتفرقون دولتكم وتمزقونها، فالدولة ذات ألف مليون التي ترهب الإنس والجن إذا كبروا كبر الكون معهم، لكنهم تمزقوا إلى نيف وأربعين دولة حتى أصبحوا أذلة مهانين مدانين لا يستطيعون أن يقولوا كلمة في الدنيا.فتفرقنا ليس بالقوة، وإنما ملئونا بالوطنيات والجنسيات.أتدري ما وطنك يا عبد الله؟ الأرض كلها لك يا عبد الله.وكلمة (وطن) أي وطن هذا؟! حتى قالوا: قال الرسول -يكذبون عليه-: ( حب الوطن من الإيمان! ) وهل حب الطين والتراب من الإيمان! أعوذ بالله.فالمسلمون دارهم واحدة، نعم يوجدون في أقاليم متعددة، ولكن أمرهم واحد، فإذا قال إمام المسلمين: الله أكبر رددوها، وإذا قال: الجهاد في سيبل الله، رفعوا أصواتهم: حي على الجهاد، لكننا تفرقنا حتى نذل ونهون كما هو الواقع.وفرقونا بالمذاهب؛ الزيدية .. الأباضية .. الرافضية .. الـ .. الـ .. آلله أمر بهذا؟ ألسنا أتباع النبي صلى الله عليه وسلم؟ أما نحن الذين أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، فنور الله بأيديهم كتابه وهدي نبيه، ومن أراد أن يفرقنا أو يمزق شملنا فنلعنه ونبعده من ساحتنا، وتبقى أمتنا أمة واحدة.وفرقونا طرقاً فهذا: قادري .. رحماني .. عيساوي .. عيدروسي .. إدريسي! لا إله إلا الله.وفي القرية الواحدة تجد: غناء وقصائد وأناشيد وشاي وأكلات، وهؤلاء أصحاب سيدي أحمد . وفي طرف القرية الأخرى كذلك أناشيد وقصائد وترنمات وأكل وشرب، وهؤلاء قادريون، وهؤلاء كذا، فلا إله إلا الله، وهذا في القرية الواحدة.ومن أراد أن تتجلى له الحقيقة، فقد أخبرنا العالمون: أن مصر عاصمة العالم العربي بها سبعون طريقة.إذاً فمن مزقنا، من فرقنا؟ آلله أذن في هذا؟ أما قال: وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] فعصينا وأصابنا ذنبنا ويكفي في ذلك فقرنا وذلنا وخلافنا وبلايانا ورزايانا والعياذ بالله؛ لأننا ما اعتصمنا بحبل الله، ولا تآخينا وتواددنا وتحاببنا، وأصبح منهجنا واحد، فهذا زيدي، وهذا أباضي، وهذا كذا، وهذا كذا، والأصل هذا مؤمن مسلم، وقال الله وقال رسوله.وقد مضت فترة تكون أنت جالس في درس، فيأتي آخر يجلس ويأتيه قريبه وصديقه، ويقول له: قم .. قم، لا تسمع، هذا وهابي يفسد عليك قلبك، فيأخذونه من حلقتنا، وأي مرض أعظم من هذا؟والمدرس يقول: قال الله وقال رسوله، وهو يقول: ما قال شيخنا فلان ولا فلان وفلان، قم لا تسمع.وكان عندنا طالب يمني جاء يشتغل حداداً، يصلح الدوافير، وحضر عندنا الدرس، قال: أوصاني أبي وأمي: يا فلان! لا تجلس في حلق الدروس في المسجد النبوي؛ لأنهم وهابيون يفسدون عليك دينك. ويحلف لي بالله يقول: وكنت أمر بالحلقة داخل المسجد ولا أراك إلا شيطاناً على الكرسي!! لكن أراد الله إنقاذ هذا المؤمن، فجاء به إخوانه من اليمنيين وقالوا: أنت ما لك؟ هذا ليس وهابياً، هذا شيخ جزائري، وكيف تقول: وهابي؟ أنت واهم فقط، واسأل الناس. فهدأت نفسه وسكن روعه، وأخذ يجلس ويجلس، والحمد لله حتى عرف الطريق ودرس وتخرج من الجامعة، وهو الآن داعية إلى الله. وهذا مثال فقط.إذاً فرقنا بأيدي وأصابع أعدائنا.وكلمة (وهابية) الأصل فيها اليهود والنصارى، حتى لا ترى أمة الإسلام هذه الدولة وقد أنشأها الله تحمل راية: لا إله إلا الله محمداً رسول الله، فصرفوا قلوب العرب والمسلمين عنها حتى لا يقتدوا بها أو يأتسوا.فلما استقللنا في الشرق والغرب قالوا: لا ترفع راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى لا ننتسب إلى القرآن والسنة، لأن كلمة: لا إله إلا الله معناها: لا يعبد إلا الله، فلا عبد القادر ولا عيدروس ، وكلمة محمد رسول الله معناها: لا يتابع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قال الله وقال رسوله.إذاً: وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فتفرقنا يا ربنا بدون قدرة منا ولا طاقة فسامحنا، فهيا اجتمعوا قد سامحناكم، وبدأنا يا ربنا ولك الحمد.ويدل على هذا أنه قبل خمسين سنة أو خمسة وأربعين سنة، لو يؤلف حنبلي كتاباً في الفقه الحنبلي وهو حق، أو مالكي أو شافعي أو حنفي، فكل من يرى الكتاب يقول: هذا ليس في مذهبنا، فلا يقرأ أبداً، مع أن المذاهب الأربعة والله إنهم على الحق، وعلى نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وقع خلاف في الفهم فقط للكتاب والسنة، وما مزق هذا الفهم أمة الإسلام أبداً، ومع هذا من يقرأ الكتاب يقول: هذا الكتاب شافعي، وأنا مالكي.والآن ومنذ أربعة أو خمسة وأربعين سنة أصبح المسلمون الواعون صغاراً وكباراً المهم عندهم قال الله وقال رسوله، سواء جاء من طريق أحمد أو أبي حنيفة أو من غيرهما.ويدل لهذا كتاب منهاج المسلم الذي ندرسه وهو الآن يقرأ في العالم الإسلامي، حتى عند النساء؛ لأنه أولاً في المقدمة قلت لهم: والله ما خرجنا عن المذاهب الأربعة قيد شعرة.ثانياً: كل مسائله قال الله وقال رسوله، والآن يقرأ بسهولة، فجمع الله قلوب المؤمنين عليه، وهناك انفراج؛ لأن السياسة هبطت، ولو كان الحكام كما كانوا والله ليؤدبونك ويسجنونك: كيف تقرأ هذا الكتاب على غير مذهبنا! ومرة في المغرب أصدر الحاكم قراراً أن من يقبض يديه في الصلاة يقبضون عليه.وقد ألف أبو بكر خرقير رسالة يبين فيها التوحيد من الشرك في التوسل فقط في الحق والباطل، فسجنه الملك وسجن معه ولده في مكة، ومات ولده في السجن، وبقي الشيخ في السجن حتى دخل عبد العزيز وحكم وأطلق سراحه، وكل ذلك من أجل رسالة في التوحيد!فالذي صرف العالم الإسلامي أن الحكام هبطوا، فقد كانوا يسمعون كلام علمائهم: هذا المذهب خامسي فلا نقبل، وانفرجت والحمد لله، والله نسأل أن تستمر وتدوم هذه.
فضل الله على المؤمنين بتأليفه بينهم
قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران:103] الحمد لله، اذكروا نعمة الله عليكم، وذكر النعمة يتطلب شكرها، فقولوا: الحمد لله.ثم قال: إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً لبعضكم بعضاً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103]، الحمد لله، الحمد لله.وهذه الحادثة قد تكلمنا عليها في قضية الأوس والخزرج، وهذه الآيات فيهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ونعود إليها في يوم ما.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (32)
الحلقة (173)
تفسير سورة آل عمران (37)
لما أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالإسلام، وأنزل عليه القرآن، كان ذلك مؤذناً بسقوط الممالك القائمة على الوثنية والديانات المحرفة، فسقطت دولة فارس ودولة الروم وشتت الله شمل يهود، ومنذ ذلك الحين وهذا الثالوث الأسود لا يدخر وسعاً في حرب الإسلام، ومحاولة انتزاع سبب قوة المسلمين من صدورهم، ألا وهو كتاب الله العظيم القرآن الكريم.
تسمية القرآن بالروح
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات من سورة آل عمران، وتلاوة الآيات المباركات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:100-103].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهان السامعين وخاصة أن من بينهم زواراً وحجاجاً ما كانوا قد سمعوا ولا علموا ما درسناه في الأيام السابقة.أقول: القرآن الكريم سماه الله منزله بالروح في ثلاث آيات، فالله تعالى خالقنا ورازقنا وموجد العوالم كلها سمى القرآن الكريم الروح.وهل يوجد حيوان بدون روح؟ وهل توجد حياة في كائن بدون روح؟الجواب: والله ما كان، ولنستمع إلى الآية التي فيها تسمية القرآن بالروح؛ فقد جاء من سورة الشورى قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، أي: وكذلك أوحينا إليك يا رسولنا روحاً من أمرنا، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فسماه روحاً ونوراً. وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، فالقرآن الكريم روح ونور.أسألكم بالله: هل توجد حياة بدون روح؟الجواب: لا.وأسألكم بالله: هل الماشي في الظلمات يهتدي إلى مراده بدون نور؟الجواب: لا، ولنحفظ إن القرآن روح ولا حياة بدونه، ونور ولا هداية بدونه.وهل هناك برهنة أو تدليل على ما تقول يا شيخ؟الجواب: نعم، فالعرب في هذه الديار كانوا وثنيين مشركين ممزقين مفرقين، وفارس من الشرق تستذلهم وتستعمرهم، والروم والرومان من الشمال يذلونهم ويستعمرونهم، والأحباش من الجنوب يستعمرونهم ويستذلونهم. فما إن نزل فيهم هذا القرآن، وطلعت شموسه ولاحت أنواره وفي خلال خمسة وعشرين سنة دان لهم أكثر المعمورة، وأصبحوا هداة وقادة، ولم تعرف الدنيا أمة أكمل ولا أطهر ولا أصفى ولا أعدل ولا أرحم ولا أقوى من تلك الأمة في ثلاثة قرون؛ بسبب ماذا؟ هل بالمال .. بالفلسفة .. بالتقنية .. بالعلوم الآلية؟ الجواب: والله ما كان ذلك، وإنما كان بالقرآن وبيانه على لسان المنزل عليه.
أمثلة على تأثير القرآن في أصحابه من الجيل الأول
قد يلطخ ويلوث الملاحدة والأعداء تاريخ الأمة البشرية وتاريخ الأمة الإسلامية، ولكن لن يستطيعوا أن يوجدوا أمة طابت وطهرت واستقامت وقادت البشرية إلى الكمال كما كانت أمة الإسلام في ثلاثة قرون: قرن الصحابة، وقرن أولادهم، وقرن أحفادهم بالقرآن فقط.أعطيكم أمثلة وبرهنة:فهذا عمر رضي الله عنه يستدعيه أحد ولاته في دولة الخلافة العمرية لتناول الطعام، فيقدم له سفرة ملونة، وإن كانت لا تبلغ طعامكم اليوم، فينظر عمر إلى ألوان الطعام فينتفض كالأسد ويقوم، فيقول له واليه: ما لك يا خليفة رسول الله لا تأكل؟ فقال رضي الله عنه -واسمعوا تربية القرآن-: إني خشيت وخفت أن أكون ممن قال الله تعالى فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20].فهل رأيتم مثل هذا الرجل؟ وهل سمعتم في دنياكم اليوم بمثل هذا الموقف؟!وهذا سلمان الفارسي الأعجمي من ديار فارس، وقد تنقل واستعبد مرات، حتى وصل إلى مدينة النور، فأسلم، وهو مجوسي وأبوه كان ناظر النار التي كانوا يعبدونها والقيم عليها، وقد قال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( سلمان منا آل البيت )، فآل محمد صلى الله عليه وسلم هو كل مؤمن تقي، والفاسق الفاجر الكافر هو عدو وليس من أولياء محمد، وإن كان ابن أخيه أو ابن عمه.فـسلمان لما ولاه عمر على إحدى مدن العراق والياً عاماً، جاءت قافلة تجارية من الشام، وكانت القوافل تحمل بضائعها على الإبل والبغال والحمير في أوروبا وفي بلاد العرب. فدخلت القافلة، ومر سلمان الفارسي والعصا في يده يتجول في البلاد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فما إن شاهدته القافلة التجارية الشامية حتى قالوا: هذا حمال، احمل معنا بضائعنا إلى الفندق، فظنوه صعلوكاً، وأخذ حقيبة من وراء وحقيبة من أمام وأخرى على رأسه، ومشى وراءهم إلى الفندق، فاعترضهم من أهل البلاد رجل يقول: ويحكم! أتستخدمون أمير المسلمين؟! هذا والي المدينة، فجروا وراءه يبكون: سامحنا لوجه الله، نحن ما عرفناك فهات الحقائب! قال: لا، أبداً، سأصل بها إلى الفندق، ما أنا ومن أنا؟ ألست عبد الله أحمل لإخواني أمتعتهم ماداموا في حاجة إلي.وهل تحلم الدنيا بمثل هذا الموقف عندكم يا سكان الأرض قاطبة؟ونحن بمجرد ما يترقى أحدنا بنجمة في كتفه يرتفع ويتكبر، وبمجرد ما يعلو راتبه أو تربح تجارته ينتفخ وينتفش.لكن ما السبب؟ وما العلة؟ وما السر؟الجواب: أولئك حيوا على روح القرآن واستناروا بنوره، فكملوا واهتدوا، ونحن أين القرآن منا؟ وكل محاكم المسلمين باستثناء هذه البقعة تدخلها لا تجد قرآناً فيه ولا تفسيراً له فيه.
دور الثالوث الأسود في إفساد الأمة الإسلامية
عدو المسلمين مكون من ثلاث طوام: المجوس واليهود والنصارى.لكن لِم تكون هذا العدو منهم؟ إليكم البيان:
الدور المجوسي
أما المجوس عبدة النار فما إن سقط عرش كسرى على يد عمر ، ثم أخذ تاج كسرى ووضعه على رأس سراقة بن جعشم رضي الله تعالى عنه وأرضاه.وسراقة هذا لما صدر حكم قريش بالإعدام على رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا في ناديهم بمكة واتخذوا قراراً بإعدام محمد! والذي أملى هذا القرار هو عدو الله إبليس عليه لعنة الله، إذ دخل عليهم في دار الندوة وهم مجتمعون، فهذا يقول: نسجنه إلى الأبد، وهذا يقول: ننفيه من البلاد بالمرة. فجاء إبليس وقال: تأخذون برأيي، وجاء في صورة رجال نجد وهم معروفون بالحكمة والسياسة. فقالوا: نعم يا شيخ. قال: إن سجناه لا تستطيعون أن تضمنوه في السجن، سيأتي رجال ويطلقون سراحه، وخبتم، وأما نفيه فإنه سيكون عصابات في الخارج ويغزوكم، وما هذا برأي، والرأي أن توزعوا دمه على قبائل قريش، فتختارون أربعين شاباً، وكل شاب يمثل قبيلة أو فخذاً أو بطناً ويضربونه ضربة رجل واحد. فيموت ويتوزع دمه بين القبائل، فماذا يصنع بنو هاشم؟ هل يحاربون العرب كلهم، فيقبلون الدية ويسكتون. قالوا: هذا الرأي وقد أصبت. فصدر الحكم بإعدامه.ومكث الرسول صلى الله عليه وسلم في غار ثور مع الصديق ثلاث ليالٍ هاربين، وقريش تطلبهم تقذف الحجارة، وأعماهم الله عز وجل وما رأتهم، وكأني بـأبي بكر يقول: يا رسول الله! لو رفع أحدهم قدمه لرآنا، وحزن أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما بالك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما )، وجاء هذا بعدما نزلت سورة التوبة بالمدينة بعد كذا سنة: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وخرجا والخريت الجغرافي أمامهما يدلهم على الطريق الذي ليس فيه مخاوف.وأعلنت قريش عن جائزة قيمتها مائة بعير لمن يأتيها برأس محمد، وكان سراقة من رجالات العرب وأبطالها فقال: أنا أفوز بهذه الجائزة، وتلون وغير طريقه ولباسه حتى لا يعرف ويتبع، وركب فرسه وسيفه على كاهله، فمضى يتلمس أخبار رسول الله وصاحبيه، فلما انتهى ووصل إليهم إذا بالفرس يعلق في الأرض بقدميه ويسقط -وهذه من معجزات النبوة المحمدية- ورفع الفرس رجليه وحافره ومشى، ثم وقع مرة أخرى، فعرف سراقة أن هذا نبي الله. فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ( كيف بك يا سراقة إذا توجت بتاج كسرى )، فالرسول هارب شارد مطارد ويقول لهذا الجاني الطالب له: ( فكيف بك إذا وضع على رأسك تاج كسرى ).وتم ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد قبض رسول الله وقبض الصديق وتولى عمر وغزا وفتح، وكان سراقة مع جيشه في ديار فارس، فلما قُتل كسرى أخذ عمر تاجه ووضعه على رأس سراقة ، وهذه وحدها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.إذاً: ما إن سقط عرش كسرى حتى تكون حزب وطني يعمل في الظلام للانتقام من الإسلام الذي أسقط عرش كسرى.ودخلت البلاد في الأنوار الإلهية، وأصبحت فارس بقعة من النور، ولكن هذا الحزب الذي يعمل في الظلام لإعادة عرش كسرى يعمل، وأول طلقة أطلقها هذا الحزب في جسم الإسلام هو قتل عمر في محرابه. والذي قتل عمر بن الخطاب هو أبو لؤلؤة الفارسي المجوسي، وقد كان عبداً من عبيد الرجال، ولكن يوحى إليه بطريق خفي من الحزب النظامي، وهذه أول رصاصة في جسم الإسلام.
الدور اليهودي
أما اليهود فكانوا يحلمون من سنين .. من قرون، ويتطلعون إلى آخر النبوات، وفي التوراة والإنجيل بيان ذلك، وكانوا ينتظرون خروج رسول من جبال فاران -جبال مكة-، فإذا خرج آمنوا به وانطووا تحت لوائه ورايته، وقادهم لإعادة مجد بني إسرائيل، وعاشوا في المدينة يتطلعون يوماً بعد يوم، وإلا ما جاء بهم من القدس في الشام إلى مدينة سبخة وحرة وحفنة التمر؟ جاءوا لتطلعهم إلى النبوة الخاتمة للنبوات.وما إن لاحت أنوار النبوة في مكة وأخذوا يتجمعون ويتطلعون، وعندما جاء وفد قريش يسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أهل علم، والعرب جهال، قالوا لهم: سلوه عن ثلاثة أسئلة إن أجاب عنها كلها فما هو بنبي، وإن لم يجب عنها فليس بنبي، وإن أجاب عن بعضها وسكت عن البعض فهو نبي.وكان الوفد برئاسة أبي سفيان فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسئلة عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، فلما سألوه قال صلى الله عليه وسلم: ( غداً أجبيكم عن أسئلتكم )، انتظاراً للوحي، فعاتبه ربه من أجل أنه ما قال: إن شاء الله، فانقطع الوحي خمسة عشر يوماً، وزغردت نساء قريش، وقالوا: انفضح الرجل، وتركه ربه وقلاه، فهو ليس بنبي وقد عجز. ومسح الله دموع حبيبه ببشرى عظيمة: بسم الله الرحمن الرحيم: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]، فالحالف هو الله. والمحلوف عليه: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، أي: ما تركك ولا أبغضك؛ لأن أم جميل كانت تغني بالشوارع وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى:4-6]، وقد مات أبوه في السنة التي ولد فيها، وماتت أمه بعد ذلك وعمره أربع سنين وَوَجَدَكَ ضَالًّا لا تعرف شيئاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا [الضحى:7-8]، فترك له والده جارية وناقة أو خمسة من النوق فأغناه، فكانت هذه السورة بشرى عظيمة لرسول صلى الله عليه وسلم، فانشرح صدره وطابت نفسه.ونزلت سورة الكهف تحمل قصتين: قصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين، وفيها قول الله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] أي: حتى تقول: إن شاء الله.وهنا نذكر قصة سليمان بن داود والتي قصها علينا رسول الله في هذا الباب: ( قال سليمان: لأطأن الليلة أو لأطوفن بمائة جارية، فتلد كل جارية ولداً يقاتل في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فلم تلد واحدة من المائة جارية، إلا واحدة ولدت ولداً مشلولاً نصف ولد )، ووضعوه على كرسيه ليشاهده، لأنه ما تأدب مع الله، وما قال: إن شاء الله.ونحن لما هبطنا بلغنا أن بعض الدوائر الحكومية في العالم الإسلامي إذا قال أحدهم: إن شاء الله، يقول الآخر: لا تقل: إن شاء الله، فلا يقبلون منه أن يقول هذا. فلا يحل لمؤمن أن يذكر الله ويذكره، ويقول: أفعل أو لا أفعل.ونسي هؤلاء أن هذا الإنسان لا يتحرك إلا بالله، ولا يسكن إلا بإرادة الله، فلهذا إذا لم يقل: إن شاء الله وحنث تلطخت روحه بالنتن والعفونة، ولا تغسل لا بماء ولا صابون ولا بعملية جراحية، ولا بصيام ولا .. ولا، لا تغسل إلا بالمادة التي وضعها الله لذلك، وهي كسوة عشرة مساكين عمامة وثوباً، أو إطعامهم، أو عتق رقبة، وفي الأخير صيام ثلاثة أيام إن لم يستطع.وهذه هي المواد التي تزيل ذلك الأثر الناتج عن كونه يقول: أفعل، ولم يقل: إن شاء الله، فنسب القدرة إليه.والصواب يا عبد الله! أنك إذا قلت: أسافر غداً، فقل: إن شاء الله، وإذا قلت: سنلتقي غداً عند فلان فقل: إن شاء الله، وإذا قلت: أقوم وأتوضأ، فقل: إن شاء الله، والذي مضى من الأفعال لا تقل فيه: إن شاء الله، فإن الله شاءه، فإن سئلت: هل صليتم المغرب؟ فلا تقل: إن شاء الله، فقد شاء الله وصلينا، لكن قل: سنصلي العشاء إن شاء الله، ولو لم يشأ والله ما صلينا، فيخسف بنا الأرض، ففي الكلام الماضي لا معنى لكلمة: (إن شاء الله)، فقد شاء ووقع، لكن للمستقبل احفظ هذه الكلمة: (إن شاء الله)، ومن قال لك: لا تقل: إن شاء الله، فقل: إن شاء الله رغم أنفك.إذاً: اليهود ما إن طلعت الشمس وانتشر نورها، وهزم المشركون في بدر في السنة الثانية حتى كشروا عن أنيابهم، وعرفوا أن الريح ليست لهم، وأن هذه النبوة لا تخدمهم، فإن هم دخلوا في الإسلام ذابوا، وانتهى وجودهم كيهود وبني إسرائيل، وأصبحوا من عامة البشر، فقالوا: إذاً لن نسلم ولن ندخل في هذا الدين.وبحثوا عمن يتعاون معهم على ضرب الإسلام ومحوه فوجدوا المجوس والحزب الوطني اللذين يعملان في الخفاء فتعانقوا، وإلى الآن هم متعاونون، وعملوا ما عملوا في المدينة ثم أجلوا منها.
الدور النصراني
لما انتشر نور الإسلام في شمال إفريقيا، ودخل من الغرب إلى أوروبا ومن الشرق، صاحت النصارى وقالوا: يا ويلنا! هذا النور سيغمرنا. فبحثوا مع من يتعاونون، فوجدوا اليهود والمجوس فتعانقوا، وكونوا الثالوث الأسود، وإلى الآن متعاونون.
شاه إيران يحتفل بذكرى قيام الدولة الساسانية
لطيفة سياسية: كان شاه إيران يحكم البلاد وقد قرأت بلساني ونظرت بعيني مجلة في الدار البيضاء فيها: أن الشاه يقيم ذكرى للدولة الساسانية التي مضى عليها ألفان وخمسمائة عام.وفكروا يا عقلاء: حاكم مسلم يحكم مملكة إسلامية يحتفل بذكرى دولة مجوسية مضى عليها ألفان وخمسمائة عام! فماذا تقولون؟قولوا: لا نعرف.لو أن العرب احتفلوا بموت أبي جهل أو عقبة بن أبي معيط أو بقتلى بدر من المشركين هل يقال فيهم: مسلمون؟! مستحيل!فهؤلاء يحيون ذكرى الجاهلية. وأولئك يحيون ذكرى المجوسية فماذا تقولون فيهم؟ وهل تشكون أن هذا كفر؟!ووراء ذلك لابد من إعادة مجد الساسانيين وعرش كسرى.
دور الثالوث الأسود في انتزاع القرآن الكريم من صدور المسلمين وإخراجه من حياتهم
الآن أصبح الثالوث متكوناً من: المجوس .. اليهود .. النصارى، وإلى اليوم التعاون مستمر.وأخذوا يعملون متعاونين في الظلام، فخاضوا حروباً مع الإسلام وأهله، واندحروا وانهزموا في مواطن كثيرة، وكادوا ييأسوا، فاجتمعوا وبحثوا عن سر هذه القوة التي لا تقهر، وهذا السلطان الذي لا يسقط، فعثروا على الحقيقة، وقالوا: سر هذا هو القرآن الكريم والسنة، فإذا استطعتم أن تذهبوا من بين أيديهم القرآن وتلهوهم عن سنة الرسول وبيان القرآن أمكنكم أن تضربوهم ثم تسودوهم وتتحكموا فيهم، فقالوا: هيا نعمل، وحاولوا أن يسقطوا حرفين فقط كلمة (قل)، وانعقدت محافل بحثوا فيها كيف يسقطون من القرآن كلمة (قل)، فوالله ما استطاعوا. فالقرآن يحفظه النساء والرجال والحضر والبدو، ولم يستطيعوا أبداً أن يذهبوا بذلك النور.إذاً: ماذا صنعوا؟قالوا: اصرفوهم عن دراسته وفهمه.لكن كيف صنعوا؟قالوا: اجعلوا القرآن يقرأ على الموتى، ومن ذاك التاريخ إلى اليوم يقرأ القرآن على الموتى فقط، فيحفظه الأبناء، ويحفظه الرجال لا لشيء، إلا ليقرأ على الموتى، حتى علمنا أن في بلاد سوريا مكتباً خاصاً بهذه القضية، فمن مات له أب أو أم يتصل بالهاتف على المكتب ويقول: نحتاج عشرة من الطلبة يقرءون القرآن! أو خمسة على قدر الحال! فيقال له: من فئة مائة ليرة أو خمسين ليرة؟ فإذا كان الميت غنياً من فئة مائة ليرة، وإذا فقيراً خمسين ليرة.وأصبح القرآن من إندونيسيا إلى موريتانيا لا يقرأ إلا على الموتى! فأكثر من ألف سنة تقريباً لا يقرأ إلا على الموتى.أما لِم لا يفسر ويبين مراد الله منه لعباده ليعملوا، فقالوا: إن هناك قاعدة ومن أراد أن يقف عليها فعليه بحاشية الحطاب على مختصر خليل، وفيها قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ، فإذا فسرت وأصبت فأنت مخطئ، وخطؤه كفر، وإذا فسرت وأصبت فأنت آثم. فكمموا أفواه المؤمنين وألجموهم، وما بقي من يقول: قال الله أبداً، فالقرآن يقرأ على الموتى.أدلل لكم بما أنتم عليه، من منكم أيها الزوار يقف ويقول: نحن إذا كنا جالسين تحت ظل شجرة أو جدار في الصيف، أو كنا في مجلس نقول لأحدنا: أسمعنا شيئاً من كلام الله، أو تجلس بجوار سارية المسجد ويمر بك من يحفظ القرآن فتقول: يا شيخ! يا سيدي! من فضلك اقرأ عليّ شيئاً من القرآن، وما حصل هذا أبداً.إذاً: فارقنا القرآن، وفارقتنا الروح فمتنا، ومن قال: كيف تقول: متنا؟أقول: أما سادتكم بريطانيا وحكمتكم فرنسا وإيطاليا وهولندا، فمائة مليون مسلم كانوا تحت أقدام ثلاثة عشرة مليون، أما ذللنا وهِنا وهبطنا؟ وسبب ذلك أننا متنا، قالروح علت وارتفعت، وعشنا بدون روح، وهذا شأن من لا روح له.والرسول صلى الله عليه وسلم كان جالساً وجلس إليه عبد الله بن مسعود فيقول: ( يا ابن أم عبد ! اقرأ عليّ شيئاً من القرآن، فيعجب عبد الله ويقول: أعليك أنزل وعليك أقرأ؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري، فيقرأ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] ثلاثين آية، وإذا برسول الله يبكي والدموع تسيل من عينيه، وهو يقول: حسبك حسبك، فلما انتهى إلى قوله الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] بكى رسول الله ).إذاً: عرفتم الثالوث ماذا فعل بنا؟لا تقولوا: استعمرونا وأذلونا هذا كله ماض، لقد أماتونا وأخذوا الروح وسلبوها، وكتب الفقه التي تدرسونها في الشتاء والربيع ما فيها قال رسول الله أبداً، بل قال سيدي فلان .. قال فلان .. قال فلان.فأبعدونا عن الروح والنور، فهلكنا وضللنا.قلنا: هيا نعود.قالوا: لا نستطيع يا شيخ، ولا نقدر.قلنا: نحن لم نقل لكم: اخرجوا من أموالكم ودياركم، لا، فقط: هيا بنا نؤمن إيماناً حقاً وصدقاً، فيعود كل شيء.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
نداء الله لأهل الإيمان
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100] إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فقل: لبيك اللهم لبيك، وقد كان عبد الله بن مسعود يقول: إذا سمعت القارئ يقرأ: (يا أيها الذين آمنوا) فأعرها سمعك، وأعطها أذنك فإنك منادى، ألست مؤمناً؟فقوله: (يا أيها الذين آمنوا) يعني: أن مولاك يناديك، فاسمع.وقد عرفنا نحن أهل الدرس بالاستقراء والتتبع، أن الله ما نادانا إلا لواحدة من أربع، إما ليأمرنا لما فيه كمالنا وسعادتنا، أو لينهانا عما فيه شقاؤنا وخسراننا، أو ليبشرنا ليزداد إيماننا وصالح أعمالنا، أو ليحذرنا من المفاسد لننجو ونسلم من المهالك والمعاطب، أو ليعلمنا ما نحن في حاجة إليه.وقد جمعت نداءاته تعالى تسعون نداءً، وهي عند المؤمنين، فما اجتمعوا عليها ولا قرءوها ولا درسوها، وما زلنا هابطين.ومن يقول: نحن في القرية الفلانية نجتمع كل ليلة على نداء نحفظه ونفهم مراد الله منه، ونعزم على العمل وعلى الترك؟ ولا أحد. عشرات الآلاف وزعت، لِم ما دقت ساعة الحياة وما زلنا هابطين.
التحذير من طاعة الكافرين
قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسمعوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، هذا خبر الله، وهو صحيح إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا أي: فريقاً خاصاً من المستشارين والساسة والمدرسين والمعلمين؛ تطيعوهم: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100].والهبوط الذي أصاب أمتنا سببه أن جل الوزراء والمسئولين والحاكمين تخرجوا من مدارس اليهود والنصارى، وكل الشهادات السياسية من عندهم، فجلسوا بين يدي أساتذتهم يعلمونهم فأطاعوهم.ثم قال: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ما الذي يحصل؟ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، عرفتم العلة أو لا؟ والعالم الإسلامي قد مد عنقه للخبراء والمستشارين و.. و.. من العالم الشرقي والغربي حتى من روسيا.إذاً: كيف تريدونهم أن يقيموا دولة الإسلام، وقد ختم على قلوبهم، وصرفت نفوسهم؟!والله يخبر بالواقع: إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، هذه الأولى.
التمسك بالكتاب والسنة حصانة للمسلمين
والثانية: يقول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فالحصانة والمناعة هي أن نعيش على روح الله ونوره؛ الكتاب والسنة.واسمع الله يقول: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ فمن أين يأتي الكفر والحال أنكم: تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101].وهنا ذكرنا مئات المرات، وقلنا للمسئولين من العالم الإسلامي: إذا اضطروا إلى أن يبعثوا أولادهم ليتعلموا في الشرق والغرب في ديار اليهود والنصارى؛ فعليهم أن يبعثوا معهم علماء، وأن يعدوا لهم مساكن خاصة بهم ينزلون بها، فيصلون الصلاة في الجماعة ويتلون كتاب الله، ويتلقون الكتاب والحكمة من ذلك العالم المنتدب لهذه المهمة، فيطلبون العلم المادي ويعودون سالمين آمنين، فلا يصل إلى قلوبهم زيغ ولا كفر ولا.. ولا؛ لأن الكتاب يتلى عليهم كل ليلة، وسنة الرسول بين أيديهم.وقوله: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، أي: مستحيل أن يأتي الكفر لقلب أشبع بمعرفة الله وحب الله، وهو يسمع كل يوم كلام الله وكلام رسول الله، لكن مع الأسف بعثوا أبناءهم فعادوا شبه مسلمين فقط، يسخرون من الإسلام.وهنا: عرفتم أن المناعة والحصانة توجد في الكتاب والسنة، وهذا هو الحل، وهذا هو الطريق، والله إن أردنا أن نعود إلى الطريق السوي المنجي المسعد؛ فعلينا أن نعود إلى الروح فنحيا وإلى النور فنهتدي بالكتاب والسنة.كيف الطريق؟ كيف الوصول إلى ذلك؟تقرر مئات المرات: أهل كل قرية من قرى العالم الإسلامي، عرباً أو عجماً عليهم أن يوجدوا عالماً بالكتاب والسنة، وأن يلتزموا في صدق؛ فإذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، فلا مصنع يشتغل، ولا متجر، ولا مزرعة، ولا .. ولا، ويأتي أهل القرية بنسائهم وأطفالهم يصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون كما جلسنا، وآية من كتاب الله يتغنون بها حتى يحفظوها، ثم تشرح لهم وتفسر، ويبين لهم مراد الله منها، فإن كانت عقيدة عقدوها في قلوبهم، ولن تنحل إلى يوم القيامة، وإذا كانت أدباً تأدبوا بها من تلك اللحظة، وإذا كانت خلقاً تخلقوا، وإذا كانت واجباً عزموا على القيام به، وإذا كانت ممنوعاً محرماً عزموا على تركه، وغداً حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحفظونه ويفسر لهم، وتوضع أيديهم على المطلوب، وكلهم عزم؛ نساء، رجالاً، أطفالاً، أغنياء، فقراء، أشرافاً .. باعة .. كلهم جماعة واحدة في قريتهم، فليلة آية وليلة حديثاً، ومع هذا العلم وهذا التصميم والله ما تمضي سنة فقط إلا وتلك القرية كأنهم ملائكة، فلا غش ولا كذب، ولا خداع، ولا زنا، ولا ربا، ولا فجور، ولا ظلم، ولا يجوع بينهم جائع ولا يعرى عارٍ، ولا يظلم مؤمن؛ لأنهم أسرة واحدة.يتحقق هذا أو لا؟والله ليتحققن هذا حسب سنة الله عز وجل، أليس الطعام يشبع والنار تحرق، وكذلك الكتاب والحكمة يرفعان الإنسان إلى منارات الكمال.ومن شك قلنا لهم: يا أهل القرية! من أتقاكم من أحسنكم؟أعلم أهل البلد هو أتقاهم لله، وأفجرهم أجهلهم بالله، وهذه سنة الله، فوالله لا سبيل إلى نجاة العالم الإسلامي لأي بلد إلا هذا.فنرجع إلى الله في صدق.فإذا دقت الساعة السادسة مساءً ذهب اليهود والنصارى إلى المقاهي والمقاصف والملاهي، وذهب المسلمون إلى بيوت ربهم بأطفالهم ونسائهم يتعلمون الكتاب والحكمة، وخلال سنة واحدة والله ليصبح إنتاجهم المادي أضعاف ما كانوا، ووالله لتتوفر أموالهم وتزيد؛ لأن السرف والترف قد انتهى، والتكالب على الشهوات انتهى، فهذا هو الطريق، ولا نحتاج إلى فلوس ولا إلى رشاش، فيصبحون كالملائكة، والحكام يجلسون معهم فيتبركون بهم!!وهل هناك طريق سوى هذا؟والله لا وجود له، ولو يخرج عمر والله ما استطاع إلا على هذا المنهج.وهذه الآية بين أيدينا ونواصل دراستها غداً إن شاء الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:100-101]، فليلة الكتاب وليلة السنة هو الكتاب والنبي، وبدون هذا لن نسمو ولن نرتفع ولن نسود، بل ولن ننجو إلا من شاء الله من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.هل فهم السامعون هذا؟ وهل تتحدثون به في القرية أو لا؟بلغونا أن قريتكم شبعت، فتدرس الكتاب والحكمة، وإذا قالوا: ما عندنا عالم نبعث لهم عالماً، فيجلس بين أيديهم سنة واحدة وراجعوا الحياة كيف تبدلت وتغيرت، أما بدون هذا فإن كثر المال عم السرف والبذخ والإسراف، وإن قل المال صار الشح والسرقة والتلصص، وهكذا لا ينجو إلا من أنجاه الله، واذكروا هذا وانووا النية الصادقة على أن تعملوا به وتبلغوه، وأجري وأجركم على الله. والسلام عليكم ورحمة الله.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (33)
الحلقة (174)
تفسير سورة آل عمران (39)
إن القرآن الكريم ما ترك شيئاً تتوقف عليه سعادة العالمين في الحياتين الأولى والآخرة إلا بيّنه، وجاءت السنة النبوية مفصلة لما أجمل، وما من شيء ينفع العباد ويهمهم في أمر معاشهم ومعادهم إلا بيّنه لهم عليه الصلاة والسلام، فاجتمع للناس النبراسان الأكملان، باتباعهما والأخذ بهما ينال العباد السعادة والغفران، وبالإعراض عنهما وتنكب طريقهما يتحقق للناس الشقاوة والخسران.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات، إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل.وبالأمس كنا مع هذا النداء الإلهي الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:100-101].
عظمة تأثير القرآن والسنة في أتباعهما
ما زلنا مع هذا النداء معاشر الإخوان والأبناء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فالمنادي هو الله، وسبحان الله! هل الله هو الذي نادانا؟ إيه وعزته وجلاله.كيف بلغنا هذا النداء؟الجواب: بلغنا من طريق وحيه إلى رسوله، فقد نبه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بغراء حراء، ثم أرسله رسولاً للعالمين، بعد أن بلغ من العمر أربعين من السنين، وأنزل عليه كتابه القرآن العظيم، وهذا الكتاب ما قدرته البشرية حق قدره.وهذا الكتاب الحاوي لمائة وأربعة عشر سورة، وهذا القرآن العظيم ما ترك شيئاً تتوقف عليه سعادة العالمين في الحياتين الأولى هذه والآخرة الآتية إلا بينه، واقرءوا: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، وهذا أبو هريرة صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم يقول اسمعوا: ( علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء )، أي: ما ترك شيئاً يكفل شهادتنا ويبعدنا عن شقائنا وخسراننا إلا علمه، ( حتى علمنا الخراءة ) أي: علمنا كيف نخرأ.والبشرية اليوم تعيش بعيدة كل البعد عن هذه التعاليم الإلهية، ففقدوا هذا النور وعاشوا في الظلام.نعم ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك شيئاً تحتاج إليه أمته المؤمنة به إلا بينه، حتى كيف تجلس لقضاء حاجتك بينه والله العظيم، فكيف إذن بالسياسة في الداخل والخارج، وكيف بالاقتصاد.وكلمة واحدة ما أخذ بها عبد وافتقر قط، وقد تكلم صلى الله عليه وسلم بمئات الآلاف، وكلامه صلى الله عليه وسلم من يوم أن أوحي إليه كل كلامه حكم وعلوم ومعارف.وائتني بكلمة من كلامه لا تحمل هدى أو حكماً؛ ومن ذلك قوله: ( ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد )، فالذي يقتصد في طعامه وشرابه وكسائه ومركوبه ومسكنه لا يفتقر أبداً، والفقر يصيب الذين لا يقتصدون، والشاهد عندنا في كلمة واحدة من ملايين الكلام: ( ما عال من اقتصد ).وقد جربت هذا، وهدانا الله إليه، والآن نيفنا على ثلاث وسبعين سنة وما سألت أحداً ديناراً ولا درهماً قط، ولا مددت يدي لأتناول ما لا يحل لي، وسر هذا الاقتصاد، فإن رزقت ريالاً أنفق بحسب الريال، وإن رزقت عشرة أنفق بحسب العشرة، والشاهد عندنا فقط في كلمة واحدة لم يستطع أحد أن يلفظها غير رسول الله: ( ما عال من اقتصد ).إذاً: هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم اختاره الله .. اصطفاه .. اجتباه .. انتقاه من أصلاب الآباء والأمهات؛ من إسماعيل بن إبراهيم إلى جده عبد المطلب إلى والده عبد الله ، فما اختلط بشيء اسمه زنا، فنطفة حفظها الله عدة قرون؛ هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.هذا الذي قال واصفه: إنه لأشد حياء من البكر في خدرها، فالبكر غير الثيب تكون في خدرها مخدرة فيه محجوبة تستحي أن تقول كلمة أو يسمع صوتها رجل، وقد كان الرسول أشد حياء من البكر في خدرها، وما واجه أحداً من أصحابه وقال: لم قلت أو لم فعلت؟ وما لطم امرأته بيده.وهذا تلميذه أنس بن مالك الأنصاري لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة جاءت به أمه وقالت: هذا ابني يخدمك يا رسول الله في البيت، وقد كان ابن سبع سنين أو ثمان، فخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، يقول رضي الله عنه: ( خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي يوماً في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ أو في شيء تركته: لم تركت هذا أبداً ).وأنتم ماذا تفعلون بنسائكم وأولادكم؟للأسف يوجد الضرب والشتم والطلاق!كيف هذا؟! ولا يحل لمؤمن أن يروع مؤمنة، ولا يحل لمؤمن أن ينظر نظرة شزراً إلى مؤمن؟!أين نحن؟الحمد لله نتبجح، لعلكم تقتدون: لقد أقمت مع أم أولادي تغمدها الله برحمته ستين سنة تقريباً، والله ما لطمتها بيدي، ولا قلت لها يوماً: أنت طالق أو إن فعلت كذا فأنت طالق، ولا قلت لها كلمة تغضبها أبداً.وتبلغنا الأخبار عنكم معاشر المستمعين! السب والشتم والطلاق.. فلا إله إلا الله، أين يذهب بنا؟إلى مسارح الباطل والظلام، والعلة الجهل، فما ربينا في حجور الصالحين، فكيف إذاً نستقيم؟! كيف نهتدي؟! كيف نتهيأ لرضا الله تعالى وحبه؟!
الطريق القويم هو طريق تلقي الكتاب والحكمة
الطريق كما ذكرنا في قوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] أي: من أين يأتيكم الكفر وكيف يصل إلى قلوبكم والمناعة كاملة والحصانة تامة، وهما أنكم تتلقون الكتاب والحكمة كل يوم وليلة، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]؟فمن هنا لا حل لمشكلتنا ولا مخرج لنا من ظلمتنا، ولا طمع في أن نسود ونقود كما ساد أسلافنا وقادوا البشرية إلا إذا عدنا لتلقي الكتاب والحكمة فقط، فلا مذهبية ولا طائفية ولا وطنية ولا حزبية ولا جمعية، مسلمون فقط.وهل كان على عهد رسول الله مذهب حنفي .. مالكي .. أباضي .. زيدي .. إمامي .. شافعي ..؟لا والله لا يوجد إلا أمة الإسلام.وهل كان على عهد أصحاب رسول الله مذهب وطائفة؟والله لا يوجد.وهل كان على عهد أحفاد رسول الله وأبناء أصحابه طائفية؟الجواب: لا، مسلمون فقط.فعرف هذا العدو كما علمتم وأبعدنا عن الكتاب والحكمة، وأبعدنا عن القرآن والسنة بمكر من أشد أنواع المكر، حيث حول القرآن إلى الموتى والمقابر، وهجروا السنة.وأعطيكم مثالاً في الديار الجزائرية فأيام كنا بها كان بعض الجزائريين يجلسون في محراب الجامع الكبير، ويقرءون صحيح البخاري للبركة لا ليتعلموا حكماً شرعياً أبداً، فقط يقرءون صحيح البخاري للبركة، وجئنا المدينة مهاجرين، فوجدناهم في تلك الروضة كل رمضان كان أعيان البلاد ورجالات المدينة يجتمعون حلقة عظيمة ليقرءوا صحيح البخاري للبركة إلى هذا العام، وليس فيهم من يرد يقول: لا.فهل السنة والحكمة النبوية تقرأ للبركة؟ أيعقل هذا الكلام؟ إيه لقد عقلوه، يقرءون حدثنا .. حدثنا .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسأل عن حكم لا في الآداب والأخلاق ولا السياسة المالية، ولا الاقتصاد والحرب ولا السلم.. أبداً.إذاً: ذبحنا رسول الله وأقبرنا القرآن.وهذا مكر الثالوث الأسود: المجوس واليهود والنصارى، ومازال هذا العدو متعاوناً مع بعضه بعضاً، لا يريدون أن تلوح أنوار الإسلام كما لاح الصليب، وعرفوا كيف يتحكمون بنا تحكماً كاملاً.فإن قلنا: هيا نعصهم.قالوا: لا نستطيع يا شيخ.قلنا: لم؟ هل وضعوا الرشاشات على أبوابنا؟ لا لا، كيف لا نستطيع؟ أنعجز أن نبرهن وندلل على أننا مسلمون، ثم في حينا نحن آل المدينة من مدننا الإسلامية يتصل بعضنا ببعض، نقول: هيا نعود.اسمعوا يا أبنائي ويا إخوتي! من غدٍ لا يتخلف رجل ولا امرأة، والكل إذا دقت الساعة السادسة مساء يتطهر ويتوضأ ويحمل امرأته وأولاده إلى بيت ربه .. إلى المسجد الجامع، فإذا أتيت متأخراً تمر بالحي لا تجد دكاناً مفتوحاً، لا حلاقاً ولا تاجراً، ولا مطعماً ولا مقهى أبداً، فإذا سألت: أين أهل المدينة؟ يقولون لك: في بيت الرب، سبحان الله! في بيت الرب؟ إي والله، وهذه الكلمة ترعب الشياطين، وتصيبهم بالخذلان: أهل القرية كلهم في بيت الرب!ويصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون جلوسنا هذا، إلا أن النساء وراء الستار محتجبات، والأولاد الصغار صفوف بيننا وبين أمهاتهم كالملائكة لا يلتفتون، ونتلقى الكتاب والحكمة، والكتابُ موجود محفوظ بحفظ الله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، ألف وأربعمائة سنة وخمسة عشر عاماً، ولم يستطع العدو مهما تلون أن يحذف حرفاً واحداً فضلاً عن كلمة أو جملة من كلام الله، والله لولا الله ما بقي إلى اليوم.أين التوراة؟ (75%) كذب.أين الإنجيل؟ الإنجيل الواحد حولوه إلى خمسة أناجيل، فبعد أن فضحوا اجتمعوا في روما وجعلوا الأناجيل خمسة وثلاثين إنجيلاً، ثم لما تفطن لهم الأذكياء وعابوهم وعيروهم اجتمعوا اجتماعاً آخر وجمعوها في خمسة أناجيل، بمعنى: أن كلمة الله خمسة من أربعة، والأربعة كذب وتضليل، فلهذا ضل النصارى ضلالاً بعيداً.والمسلمو على ما أصابهم وحل بهم كتاب الله بين أيديهم ما نقص منه حرف واحد ولا تغير له معنى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيض لها أيضاً رجالاً؛ فحموها وحفظوها وصانوها، وما يمر بهم حديث إلا وعرفوه هل هذا من النبوة المحمدية أو من كذب الكاذبين.إذاً: أهل القرية في مسجدهم الجامع أو أهل الحي في حي مدينتهم، إذا اجتمعوا على الكتاب ليلة والسنة أخرى، لا يكفرون أو يرتدون أو يفسقون أو يفجرون؛ لأن الله خالق القلوب ومصرفها قال: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فمن أين يأتي الكفر، ونقول: من أين يأتي الفجور والفسق والظلم والشر والخبث والفساد؟! ويصبح أهل القرية كأسرة واحدة، لا فرق بين أبيض وأسود ولا أحمر وأصفر، ولا عربي ولا عجمي، ولا صغير ولا كبير ولا غني ولا فقير، يتلقون الكتاب والحكمة.سلوني: كيف تصبح تلك القرية؟قلنا مرات: لو ظهرت في الآفاق لحججناها وزرناها كما تزار مكة؛ لنشاهد آثار الكتاب والحكمة كيف حولت الإنسان إلى شبه ملك، ونعم إي والله، لا يقوى على أن يقول كذبة، بل يجوع ثلاثة أيام ولا يمد يده لمال غيره.فالكتاب والحكمة هو الطريق، وأهل القرية عندما اجتمعوا سنة وهم يدرسون قال الله وقال رسوله، هل بقي فيهم من يقول: أنا مذهبي كذا؟ هل بقي فيهم من يقول: أنا حزبي كذا؟ هل بقي فيهم من يقول: أنا من جماعة كذا؟ هل بقي فيهم من يقول: أنا من وطن كذا؟ والله لم يبق لهذا وجود، وعدنا كما بدأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الطريق.والبلاد التي فيها فتن دائرة اليوم بسبب الجهل وسوء التصرف والتدبير، فنقول لهم: اصبروا عاماً .. عامين حتى تنطفئ نار فتنتكم، وعودوا إلى بيوت الله عز وجل بنسائكم وأطفالكم ورجالكم، أغنيائكم وفقرائكم، علمائكم وجهالكم، أمة واحدة لا مذهبية ولا طائفية ولا حزبية.والبلاد التي هي الآن آمنة ولا تمنع من دخول المسجد ولا الاجتماع فيه، ولا تعلم الكتاب والحكمة في بيوت الله لم ما تأخذ هذا الطريق وما المانع؟الجواب: لا مانع إلا الأهواء والشهوات والأغراض، وقدر الله نافذ.وهذا الحديث يا معاشر المؤمنين والمؤمنات هو معنى قوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فنقول: كيف تفسقون أو تفجرون أو تظلمون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ والرسول وإن مات فسنته .. تعاليمه .. هدايته .. هداه موجود مع القرآن، وما من آية إلا ويفسرها لك حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سر مناداة الله لأهل الإيمان
هكذا نادنا مولانا جل جلاله وعظم سلطانه بعنوان الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:102]، وهنا سر يخفى على الكثيرين: لماذا ما قال: (يا أيها الناس)، ولم ما قال: أيها المسلمون، إنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:102]، أي: يا من آمنت بالله رباً وإلهاً وبالقرآن هداية ونوراً وبمحمدٍ نبياً ورسولاً، وبالإسلام ديناً؟السر هو أن المؤمنين أحياء، والكافرين أموات.اسمعوا معاشر الحجاج والزوار، وإن شئتم حلفت لكم بالله: المؤمن بحق يسمع إذا ناديته .. يعقل إذا خاطبته .. يعطي إذا طلبته .. يمنع إذا نهيته؛ لكمال حياته، والكافر ميت.تريدون دليلاً أو لا؟أيام كنا سائدين وحاكمين، وتحتنا أهل الكتاب من يهود ونصارى أو من يسمون بالذميين، هل كنا نأمر الذمي بأن يصلي؟ والله ما نأمره، هل كنا نأمر الذمي بأن لا يشرب خمراً؟ لا لا. هل كنا نأمر الذمي بأن يصوم؟ هل كنا نقول له: اخرج وجاهد معنا؟ والله ما كان، لماذا؟ لأنهم أموات وليسوا بأحياء، وإن قلت: يأكلون ويشربون وينكحون فالحمير والخيول والبغال والدجاج كذلك، فالحياة التي صاحبها إذا ناديته سمع النداء .. إذا علمته علم .. إذا قلت: افعل، فعل، وإذا قلت: اترك ترك، هذا هو الحي، فهذه حقيقة تأملوها وعودوا بها إلى دياركم، فالإيمان هو الحياة، وإن ضعف ضعفت الطاقات البشرية، وبقدر ما يضعف إيمانك يا عبد الله تضعف طاعتك لله ورسوله، وبقدر ما يزيد إيمانك ويرتفع منسوبه بقدر ما تقوى وتقدر على الطاعة، وإن كانت الطاعة تدعوك إلى الخروج من مالك كله، أو تقديم نفسك فداءً لله، ولهذا يجب أن نحقق إيماناً وأن نرعاه رعاية كاملة حتى لا ينقص ولا يضعف أبداً، ويزيد الإيمان ويقوى على الطاعة.سبحان الله، طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ينتجها الإيمان، وتلك الطاعة تزيد في طاقة الإيمان والله العظيم، وقم في ليلتك وتوضأ وصل ركعتين وابك يرتفع منسوب إيمانك إلى ما فوق المائة وتسعين، يزيد على طول، ولولا إيمانك ما قمت في آخر الليل ولا صليت، فالإيمان يأخذ ويعطي، لا إله إلا الله!وهذا هو السر في نداء الله لنا بعنوان الإيمان؛ نادانا تسعة وثمانين نداء: (يا أيها الذين آمنوا).ولِمَ ينادينا؟ينادينا ليأمرنا بفعل أو اعتقاد أو قول، وما من شأنه يزيد في طاقة إيماننا، ويؤهلنا لكرامة الدنيا وسعادة الآخرة، أو ينادينا لينهانا عما من شأنه أن يثبطنا أو يقعد بنا عن الكمال، أو يحرمنا السعادة في الدنيا والآخرة، أو ينادينا ليبشرنا فتنطلق أعضاؤنا تعمل بسرعة وتتزود من صالح الأعمال، أو ليحذرنا من عواقب سوء حتى نتجنب تلك العواقب ونبتعد عنها؛ لأننا أولياؤه، والله لا يرضى أن يؤذى وليه أو يخسر أو يتحطم أو يشقى، وحاشى لله، أو ينادينا ليعلمنا علوماً ومعارف من شأنها تزيد في طاقات إيماننا، وتزيد في أعمالنا وتزيد في سعادتنا.إذاً الله عز وجل ينادينا ليأمرنا وينهانا ويبشرنا وينذرنا ويعلمنا؛ لأننا أولياؤه، واسمعوا أبو هريرة في صحيح البخاري يروي لنا عن أبي القاسم فداه أبي وأمي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، يقول: ( قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، أي: أعلنت الحرب عليه، فيا ويلك يا عبد الله، ويا ويلكِ يا أمة الله أن تؤذي ولياً من أولياء الله، فمن آذى ولياً في عرضه .. في دمه .. في ماله، فقد تعرض لأن يعلن الله الحرب عليه، ومن يعلن الله الحرب عليه مستحيل أن يحارب الله وينتصر.
دور الثالوث الأسود في تغيير مفهوم الولاية لله
عرفتم الثالوث الأسود: اليهود والنصارى والمجوس، فلما عرفوا ما عرف المؤمنون: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) فأصبح أهل القرية أو أهل المدينة أو المسافرون في سفرهم لا يؤذي أحدهم أخاه، ولو بكلمة نابية، فلم يبق ظلم ولا زنا ولا فجور ولا خيانة، ولا ولا، لأنهم أولياء الله، فكيف إذاً: يؤذي ولي الله ولي الله؟ مستحيل، فقالوا: نستطيع أن نقلب حالهم فيصبح بعضهم يأكل بعضاً ويذبح بعضهم بعضاً، ويزني رجالهم بنسائهم، كيف؟قالوا: نحصر الولاية في الموتى! فلا ولي بيننا، لكن الولي من مات وبنينا على قبره قبة خضراء أو بيضاء، ووضعنا على قبره تابوتاً من أغلى أنواع الخشب، ووضعنا على الخشب أزر من الحرير، فهذا ولي الله .. هذا الذي يحلف به .. هذا الذي ينذر له النذور .. هذا الذي ترتعد فرائصنا إذا تعرضنا لأذاه، أما الأحياء فاسرقهم واكذب عليهم، وسبهم، واشتمهم، وازن بنسائهم، ولا شيء عليك.وأقول: هذه الكلمات تقال في هذا المسجد من أربعين سنة، ولو تدخل إلى القاهرة ذات الملايين من العلماء والمؤمنين، وتدخل وتقول لأول من تلقاه في الطريق من المطار أو من القطار: يا سيد! أنا جئت من بلاد أريد أن أزور ولياً، فوالله ما يأخذ بيدك إلا إلى قبر، ولا يفهم أن هناك الملايين في القاهرة من الأولياء الأحياء.وما نقوله في القاهرة نقوله في إسطنبول .. في كراتشي .. في مراكش .. في تونس .. في الجزائر .. في العراق .. في اليمن .. في المملكة قبل عبد العزيز فقط. وقبل عبد العزيز وأولاده، والله ما يفهم أن ولياً في السوق بين الناس، إلا من مات وضربت عليه القبة وعُبد من دون الله.من خط هذه الخطة؟ من وضع هذا المنهج؟إنه الثالوث، فقد شاهدونا إخوة لا يسرق مؤمن مؤمناً، ولا يكذب مؤمن على مؤمن، ولا يفجر مؤمن بنساء مؤمن، سبحان الله!فقالوا: كيف نفعل معهم؟قالوا: نحول الولاية منهم إلى موتاهم، وبعيني وأذني وأنا طفل حدث مثل هذا في القرية، كان هناك مشايخ يتحدثون قالوا: فلان كان إذا زنا لا يمر بضريح سيدي فلان! وإذا زنا في قرية لا يستطيع أن يمر على شارع أو زقاق فيه قبر سيدي فلان، فانظر، يحارب الله والمؤمنين ويفجر بنساء المؤمنين ولا يخاف الله ولا يبكي ولا ترتعد فرائصه، ويخاف من الولي الميت، فما يمر بالشارع الذي فيه قبره!!والقضاة عندنا كان إذا رفعت إلى القاضي قضية يقول: ( والبينة على المدعي واليمين على من أنكر )، هذه الكلمة وضعها أبو القاسم، وقضاة العالم كلهم لا يستطيعون أن يخطئوا هذه: ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر )، فبكلمة واحدة قام القضاء عليها؛ لتعرفوا من هو رسول الله، فيجيء الرجل إلى القاضي يقول: فلان سرقني، يقول: هات البينة، يقول: ما عندي، لكن أنا أعرف أنه سرق شاتي وذبحها، ما هناك بينة احلف، أنت تعترف أو لا؟ قال: أنا ما سرقت، احلف، قال: أنا أحلف، قال: احلف بالله، والله .. والله .. سبعين مرة ما سرقت، يقول الخصم: يا سيادة القاضي! هذا يحلف بالله مرة، لكن قل له يحلف بسيدي عبد الرحمن، أو بمولاي فلان، فلما يقال له: اسكت لا تحلف بالله فأنت متعود على الكذب، لكن احلف بسيدي فلان! فيخاف ولا يستطيع! قلنا للقضاة: لم؟ قالوا: ماذا نصنع؟ نحن نحافظ على أموال الناس وحقوقهم.قلنا لهم: لم تقبلون اليمين بغير الله، قالوا: اليمين بالله يحلفونها لأنهم جهال؛ لكن إذا قلت له: احلف بسيدي عبد القادر يقول: لا، ما يستطيع.فانظر إلى أين وصلنا، فأصبحنا نعبد الأولياء عبادة كعبادة الله.كذلك أمي رحمة الله عليها، وأنا كهذا الغلام قبل أن أعرف التوحيد، كان عندها خصومة أخوها مع امرأته؛ فمرت بقبة على جبل قالت: يا سيدي فلان! إذا كان انتصر أخي في الخصومة على زوجته أفعل لك كذا وكذا!وهذا الأمر من وجود النذور للأولياء عام من إندونيسيا إلى موريتانيا، فيأتي بالكبش ويقدمه لسيدي فلان، ومعنى هذا أننا عدنا إلى الجاهلية والشرك الأول، إي والله، وسبب هذا أنهم أبعدونا عن الكتاب والسنة، فغشانا الجهل وغطانا، ووضعوا لنا هذه المحنة فحولنا إلى عبدة الأوثان.ومن قال: هذا ليس بصحيح، نقول له: استعمر العالم الإسلامي وحكمته بريطانيا وإيطاليا وأسبانيا وفرنسا وبلجيكا، فكيف الموحدون المسلمون يحكمهم الكافرون، وماذا تصنع بقول الله: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، أيكذب الله؟ أبعد هذا تقول: أعطني دليلاً على هذا، فأصبحنا وثنيين، وحسبك أنه يحلف بالله سبعين مرة كاذباً ولا يحلف بسيدي عبد القادر صادقاً أو كاذباً.
مفهوم الولاية الحقيقية لله
نعود إلى أولياء الله، تعرفون عنهم شيئاً؟جاء من سورة يونس عليه السلام ما بين هود والتوبة، جاء قول الله عز وجل: أَلا [يونس:62] أداة استفتاح للحديث وتنبيه للمحدث، بمعنى: أنت واعٍ تسمع؟ فهذه تركناها مع القرآن، فلا نفهم له معنى، إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا خوف عليهم لا في الدنيا، ولا في القبر ولا يوم القيامة، ولا حزن ينتابهم لا في دنياهم ولا في أخراهم.ولا تظن أن هذا الكلام ليس بصحيح، فقد رأينا ولي الله يدفن أولاده وهو يبتسم ولا يعرف الحزن، ويفقد كل شيء من جيبه ولا يحزن.يقول: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] هؤلاء أولياء الله، من هم أولياء الله؟ سيدي عبد القادر .. إدريس .. العيدروس .. البدوي ، وقد علمنا هذا الخبراء الفنيون أهل الكتاب الثالوث الأسود: اليهود والنصارى والمجوس.ما السر؟أبعدونا عن الكتاب والحكمة، فقالوا: نجهلهم أيضاً في قضية الولاية حتى يصبح المسلمون يشيع بينهم الزنا .. اللواط .. السرقة .. الكذب .. الغش .. الخداع .. الربا، والباطل بطريقة واحدة، ما هي هذه الطريقة؟قالوا: نعلمهم أنهم ليسوا أولياء الله، فأعداء الله يأكل بعضهم بعضاً، أما أولياء الله من يستطيع أن يسب واحداً منهم أو يشتمه أو يتعرض له، كيف لا وهم يتقربون إليهم في مدينة من مدننا العربية: سيدي فلان! إذا جاء الزوار كما بلغني لا يأتون إلى الضريح يمشون؛ إنما يأتونه حبواً، وقد بينت لكم أن الواحد منهم أمام القاضي يحلف بالله سبعين مرة ولا يبالي ولا يحلف بالولي.إذاً: سلبونا ولاية الله وأضفوا علينا ثوب أعداء الله، إذاً: فليأكل بعضنا بعضاً من خلال السرقة .. الخيانة .. الغش .. الكذب، حتى الرجل يضرب امرأته، ويضرب ولده، والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ).معشر المستمعين والمستمعات! هل يجوز الآن يا من علمت أن تنظر إلى مؤمن وتقول له: اسكت يا كلب .. امش يا خنزير كما كنت تقول؟ والله لا تستطيع.هل تستطيع أن تمر بامرأة مؤمن وتأخذ تنظر في امرأته من رجليها إلى رأسها؟ والله لا تستطيع أن تؤذي هذا المؤمن.ولو سقط من جيبه دينار أو مليار هل تستطيع أن تأخذه وتسكت؟ والله ما كان.والسر أنهم أبعدونا عن الله، فأصبحوا أولياء للشياطين، وتركنا ولاية الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه.وإليكم بيان هذه الولاية، يا من يرغب في ولاية الله يرفع يده، الليلة تضفى عليك وتصبح من أولياء الله.قالوا: لا نستطيع يا شيخ، تريد أن تقول لنا: لا تكذبوا، لا تسرقوا.. لا.. لا، لا نستطيع.إذاً: ترضون بأنكم أعداء الله؟اسمع بيان الله للولاية والأولياء، لما أعلن ذلك الإعلان: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، كأن سائلاً يقول: من هم أولياؤك يا رب؟ فهذه الجملة مستأنفة استئنافاً بياناً واقعة في جواب سؤال، فلما أعلن هذا الإعلان العظيم: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، تتطلع النفوس: من هم أولياؤك يا رب؟ فأجاب تعالى بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فقط لا عربي ولا عجمي ولا شريف ولا وضيع، ولا في الأولين ولا في الآخرين، فقط آمن واتقى وواصل التقوى المتجددة.فهؤلاء آمنوا حق الإيمان، وكانوا طول حياتهم يتقون سخط الله وغضب الله، بحيث لا يتركون واجباً أوجبه، ولا يفعلون حراماً حرمه قط، فهؤلاء هم أولياء الله، ومن منكم يرغب أن يكون منهم؟ قولوا: كلنا، إننا والله لمنهم.فهؤلاء آمنوا الإيمان الحق، وعاشوا طوال حياتهم يتقون الله، فلا يقولون كلمة كفر، ولا ينظرون نظرة تسخطه، ولا يأخذون ريال لا يرضاه يعيشون على التقوى.وكيف تعرف نفسك أنك ولي الله؟قال تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، وإياك أن تشك: لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [يونس:64]، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم البشرى بقوله: ( الرؤيا الصالحة يراها أو ترى له )، فالبشرى في الحياة الدنيا رؤيا منامية صالحة يراها هو أو يراها عبد صالح ويبلغه ما رأى، أما عند سياق الموت فسوف يشاهد مواكب الملائكة تزف إليه البشرى ذاتها، واقرءوا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] آمنوا واستقاموا: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] هذا تنزل الأفواج فوج بعد فوج، ماذا تقول لهم: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، أما في عرصات القيامة وساحة فصل القضاء: وَتَتَلَقَّاهُم ُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103]، سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73].إذاً: يا أولياء الله! إياكم أن تنقضوا هذه الولاية؛ بأن تشتم امرأتك الليلة أو تسبها، أو تنظر إلى مؤمنة مارة في الشاعر وتحملق بعينيك فيها، أو تقضي الساعات بعد الآن مع التلفاز وأنت تشاهد عواهر يغنين ويرقصن أعوذ بالله! أو تسمع صوت كافر في بيتك وهو يتكلم وأنت تنظر إليه، فهذه تتنافى مع ولاية الله أبداً، ولن تكون ولي الله، وإذا لم تتق ما يغضب الله فكيف تحقق الولاية، أليست إيمان وتقوى؟يا ابننا الحلاق كيف تحلق في وجوه الرجال أعوذ بالله، هذا ولي الله؟يحلق في وجوه المؤمنين من أجل خمسة ريالات وعشرة؟!اكتب على الصالون هذا محل تحسين الحلاقة وليس حلق الوجوه، لتكون ولي الله.يا من يبيع في دكانه التبغ والسجائر وأنواع الدخان، لمن تبيع هذه؟ لأولياء الله؟ كيف يصح هذا؟من الآن بع الحلويات والبطاطس، وأما الدخان فلا تبع.. وهكذا تترقى يا عبد الله حتى تصبح حقاً ولي الله.اللهم اجعلنا من أوليائك.. اللهم اجعلنا من أوليائك.. اللهم اجعلنا من أوليائك.. واضفِ علينا آلائك ونعمائك، إنك ولينا وولي المؤمنين.وصل اللهم على محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (34)
الحلقة (175)
تفسير سورة آل عمران (4)
توعد الله الكافرين يوم القيامة بأن يكونوا وقوداً للنار، ولن تغني عنهم أموالهم التي جمعوها، ولا أولادهم وإن كثر عددهم، وذلك لأنهم اتبعوا سنة من قبلهم من آل فرعون وغيرهم في تكذيبهم بالرسل وإنكارهم للرسالة، وقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يبشر كل من أنكر رسالته وعانده ورفع راية العداء له أنهم سيغلبون في الدنيا ثم سيحشرون يوم القيامة إلى النار التي أعدت لهم.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).وبشرى ثانية قال فيها صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ).وثالثة: ( ما من مؤمن يصلي الفريضة -كما صليتم العصر- ويبقى في المسجد ينتظر الصلاة الآتية حتى يصليها إلا كانت الملائكة تصلي عليه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى يصلي أو ينصرف ).تعجبون من هذا؟ من نحن؟! وما نحن حتى تصلي علينا الملائكة الأنوار؟!لو أردنا أن نفرض على أحدهم أن يصلينا علينا مرة واحدة هل نملك ذلك؟ هل نقدر عليه؟ هل نستطيعه؟ الجواب: لا. ولكنه فضل الله علينا ورحمته! الملائكة تصلي علينا بقولها: اللهم اغفر لهم! اللهم ارحمهم! حتى نصلي المغرب أو العشاء وننصرف، ومع هذا نسبة الذين يحضرون بيوت الله ويطلبون فيها الذكر والعلم واحد إلى ألف، وتسعمائة وتسعة وتسعون في غفلتهم نائمون! أليس كذلك؟ بلى. ولا عجب إذ يقول الله عز وجل لآدم عليه السلام في عرصات القيامة: ( يا آدم خذ بعث النار، فيقول: يا رب وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين )، إلى جهنم وواحد إلى الجنة، فلا عجب إذاً ولا غرابة في كفر الكافرين وضلال الضالين وإجرام المجرمين.ولقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات النورانية وهي أربع آيات، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:10-13]. هذه الآيات من سورة آل عمران عليهم السلام.
معنى المحكم والمتشابه
أذكركم! بالأمس علمنا أن القرآن الكريم فيه المحكم، فما موقفكم أيها المؤمنون من ذلك؟ قولوا: نؤمن بمحكمه ومتشابهه، كل من عند الله.والمحكم ما معناه؟ المحكم ظاهر بيّن واضح نعمل به ونعيش عليه ونطبقه. والمتشابه: ما خفي معناه وستره الله عنا؛ لعجزنا وليبتلينا فنؤمن بالمحكم ونفوض أمر المتشابه إليه سبحانه.
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الذين يتبعون ما تشابه من آيات الكتاب
أيضاً: سبق أن عرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذين يبتغون المتشابه: ( احذروهم ) ، فلهذا واجبنا تجاه أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه: هجرانهم والإعراض عنهم؛ لأنهم مبتدعة من أهل الأهواء، فلا نجادلهم ولا نتكلم معهم؛ لأنهم مرضى بأهوائهم وقلوبهم يريدون إفساد ديننا علينا، فواجبنا الإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم، وهجرانهم الكامل، إذ قال الرسول: ( احذروهم ) هكذا!
استحباب الدعاء وطلب النجاة عند ظهور الزيغ ورؤية الفتن
عرفنا أيضاً: استحباب الدعاء بطلب النجاة عند ظهور الزيغ ورؤية الفتن والضلال، كما فعل أبو بكر رضي الله أيام حروب الردة، فقد كان إذا صلى المغرب وصار إلى الركعة الثانية قرأ فيها بقول الله تعالى: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].أيضاً: تذكرون ما قالت الصدّيقة عائشة وقد رأت وسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: ( لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماًً ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) ، هذا عزمنا على حفظه وعلى أن نقوله كلما استيقظنا.
صفات الراسخين في العلم
قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7]. ذكرنا الراسخين في العلم، فمن هم هؤلاء هل يعني ابن عباس وحده أم من؟ الجواب: الراسخ في العلم من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه، ذلكم الراسخ في العلم. من هم الراسخون في العلم؟ بشرنا رسول الله وقال: ( من برت يمينه )، ما معنى برت يمينه؟ أي: لا يحلف إلا على حق، ( وصدق لسانه ) فلا ينطق بكلمة كذب قط، فما يقوله دائماً الصدق والحق، ( واستقام قلبه ) فلم يزغ يميناً ولا شمالاً، هؤلاء هم الراسخون في العلم.
طلب الهداية والرحمة من الله
قال الله: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، علمنا الله هذا الدعاء لما لا ندعوه به؟ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] .
جمع الله الناس ليوم لا ريب فيه
قال الله: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران:9] يجمعنا ليوم لا شك فيه، وهو يوم القيامة، اليوم الآخر، يوم البعث والنشور، يوم الحساب والجزاء بعد نهاية هذه الدورة التي طالت بنا. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، الوعد والميعاد لا يخلفهم الله عز وجل، فلا بد وأن يجمعنا مع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ونتلقى الجزاء حسب عدل الله عز وجل ورحمته.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم...)
أما آياتنا الأربع في هذه الأمسية المباركة، فنبدؤها بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10]. هذا خبر أم لا؟الجواب: الصيغة صيغة خبر، يقول الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10] .النار في الدنيا توقد بالفحم وبالحطب وبالغاز، ويوم القيامة مادة اتقادها: لحوم البشر وعظامهم، والله العظيم تتقد النار يوم القيامة بلحوم الكافرين والمشركين، قال تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، أي: من الحجارة والأصنام التي كانوا يعبدونها.هذا الخبر يشمل: أولاً: وفد نجران الذي جاء يتبجح ويجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريد أن يقنع رسول الله بأن عيسى عليه السلام ابن الله! أعوذ بالله! الأعمى لا يقول هذا، والجن تعجبت كيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة؟! مجانين هؤلاء؟ أيوجد ولد بدون زوجة؟ مستحيل، كيف يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟! ثم هذا الولد أيها النصارى كبرتموه وعظمتموه وعبدتموه وجعلتموه إلهاً يعبد مع الله، وعلقتم الصلبان في أعناقكم وحتى على سيارتكم، فأنتم تعتقدون أن اليهود قتلوه وصلبوه! وقبل أن يسحرهم اليهود كان الصليبي لا يفتح عينيه في يهودي من بغضه له، فهو لا يريد أن ينظر إليه؛ لأنه قاتل إلهه، فكيف ينظر إلى من قتل ربه؟! فهل الإله الذي يعطي ويمنع ويبسط ويقبض ويحيي ويميت يقتل ويصلّب؟! كيف يعقل هذا الكلام؟!ملايين النصارى من أمريكا إلى اليابان يعتقدون هذا الباطل وهذه الخرافة والضلالة ويموتون عليها!قبل أن يوجد عيسى من كان يدير الكون؟ وأمه العذراء من أوجدها؟ من نفخ فيها من روحه حتى كان عيسى؟! لا توجد خرافة أعظم من خرافة النصارى في تأليه عيسى، والآن لما ارتقوا بعض الشيء في الماديات قالوا: نحن ما عبدنا عيسى لذاته؛ بل عبدناه من أجل الله؛ لأن الله يحبه، وهذا كذب.إذاً: نقول لهم: اسألوا عن الله وتعالوا نعرفكم به! ما دمتم تؤمنون بأن عيسى ابن الله فتعالوا نتعرف إلى الله! هل الذي كان ولم يكن شيء قبله يكون له ولد يا خرافيين؟!هل الذي يقول للشيء كن فيكون يحتاج إلى ولد؟تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً!ثانياً: يدخل في حبر الوعيد: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10] المشركون عامة، ويدخل رأساً اليهود المتبجحون في المدينة، فهذه الآية اشتملت على وعيد الله للنصارى واليهود والكافرين.
سبب ذكر الله للأموال والأولاد في هذه الآية
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10].لماذا ذكر الله الأموال والأولاد؟ لأنهم ما أصروا على الكفر وثبتوا عليه ونفوا التوحيد وهربوا منه إلا من أجل أموالهم وأولادهم، والحفاظ على المركز والوظيفة! إذاً: ذكر تعالى المال والولد هنا؛ لأن سبب بقاءهم على الكفر والإصرار عليه بعدما لاحت شموس الهداية ونزل القرآن وبعث الله الرسول هو الحفاظ على أموالهم وأولادهم ومراكزهم. والآن اليهود كالنصارى لم يدخلوا في الإسلام بعد علمهم به -بالنسبة إلى كثير منهم- إلا للحفاظ على حياتهم المادية، وصدق الله العظيم إذ قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:10]، أي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161] لا بد من هذا القيد، فهو لازم وضروري. ما معنى كفروا؟ أي: سبوا الله، سبوا رسوله، وصفوا الله بما لم يصف به نفسه، نسبوا إليه العجز والنسيان والغلط والخطأ كاليهود، جعلوا له آلهة تشفع لهم عنده خرافة وضلالة! كفروا: جحدوا رسوله وخاتم أنبيائه محمداً صلى الله عليه وسلم! جحدوا القرآن وأنكروه وقالوا: ليس بكلام الله، وهكذا.. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10]، لن تغني عنهم أدنى غنى أبداً.
الذين كفروا هم وقود النار يوم القيامة
قال الله: وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10] أولئك البعداء -واللام في أولئك للبعد في هذا المقام- أولئك البعداء عن ساحة الخير والصلاح والطهر والصفاء هم لا غيرهم، هم وحدهم وَقُودُ النَّارِ [آل عمران:10]، وحطبها الذي تلتهب به. الخبر هذا عظيم! ولهذا والله لو تأتي بمؤمن صادق الإيمان فتصلبه وتقطعه على أن يكفر بالله ما كفر بالله! إليكم موقف غريب وما هو بغريب إلا أننا تركنا سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم! أتعرفون خبيباً ؟ من هو خبيب هذا؟ هذا ولي الله في مكة، عذبه أهل الشرك بمكة؛ لأنه قال: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، سجنوه في بيت، فكانت امرأة الرجل تأتيه بالطعام -ليس كطعامنا ولكن كسرة من خبز- فتجد عنده العنب يأكله، فتسأله: من أين لك هذا يا خبيب ؟ فيقول: من الله. كان هذا في بني إسرائيل ، وكان أيضاً في المسلمين. وأما في بني إسرائيل فـمريم البتول العذراء نذرتها أمها لله، لا لإبراهيم ولا إسحاق ولا يعقوب نذرت لله ما في بطنها -ونساءنا ينذرن لسيدي عبد القادر - فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا أي: خالصاً، فلما ولدته وجدته بنتاً فقالت: إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ . فخرج بها من خرج بين علماء بني إسرائيل وصلحائهم يقول: من يكفل هذه النذيرة؟ فالكل رغب أن يكون هو الكافل والكفيل فاضطروا إلى القرعة واقترعوا وفاز بها زكريا؛ لأن امرأته أخت حنا ، وكان زكريا وضعها في غرفة مرافقة للمسجد كالمقصورة؛ لتعبد الله، إذ ما خلقت إلا لذلك، وما أرادت أمها إلا أن تعبد الله، فكان إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف فيعجب ويقول: أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]. استفاد زكريا من هذا أم لا؟ الجوب: ما إن رأى هذا المنظر وهذه المرأة العجب حتى قال: لم لا أدعو الله أن يرزقني ولداً، رغم كوني كبير السن وامرأتي عاقراً، فالله يفعل ما يشاء، قال تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]. لما شاهد العبرة وهو من أهل العبرة اجتاز عليها بعبارة إلى أن يسأل الله الولد وهو في شوق وحاجة إليه، وكان يمنعه من الدعاء كونه كبير السن ولم تجر العادة بابن الثمانين والتسعين والمرأة العاقر العقيم، لكن لما رأى آيات الله وعجائبه في الخلق قال: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا [آل عمران:38].واستجاب الله لدعائه: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39].
تفسير قوله تعالى: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم...)
قال تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [آل عمران:11]. يعني: حال المشركين واليهود ونصارى نجران حالهم كحال فرعون وقومه ومن قبلهم عاد وثمود ذاقوا العذاب.فرعون تبجح تبجحاً ما تبجحته أحد، قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال لرجاله: اصنعوا لنا آلات نطلع إلى السماء نبحث عن إله موسى هذا وإني لأظنه من الكاذبين! وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [القصص:38]. قال العلماء: والله ما قال هذا إلا ليخادع البلهاء والبسطاء وإلا فهو موقن أنه ليس بإله ولا بالله ولا يستطيع أن يصل إلى السماء، لكنه استغفل قومه! وظهرت آيات الله في أخذه وعقابه فألقاه في أعماق البحر هو ورجاله!أين عاد ذات العماد الشداد، الذين قالوا: من أشد منا قوة، سلط الله عليهم ريحاً لسبع ليالي وثمانية أيام فقط فما أبقت منهم أحداً، أصبحوا كالنخيل المحطمة الهابطة في الأرض.وأين ثمود؟ وأين.. وأين؟ أهلكهم الله!إذاً: حال هؤلاء النصارى واليهود والمشركين كحال الأولين: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ .
تكذيب الكافرين بآيات الله
قال: كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا هذه العلة كذبوا ، جحدوا وأنكروا وكفروا بآياتنا. ما هي آيات الله؟ هي العلامات التي أعطاها لرسله؛ ليبينوا بها للناس من هو خالقهم، من الرحيم بهم، من مولاهم وسيدهم سواء كانت التوراة أو الإنجيل، أو كانت المعجزات على أيدي الرسل. أما كذب فرعون وقومه بالآيات؟ بلى تسع آيات عجب، أولها العصا وآخرها انفلاق البحر وما آمنوا، العصا تتحول إلى جان تهتز! وأعظم من هذا: أنهم أقاموا مهرجاناً حضره أهل البلاد من شرقها إلى غربها وهي مباراة وجاء السحرة بحبالهم ونفخوا فيها بالسحر فأصبحت كلها حيات وثعابين، فخاف موسى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:67-69]، فألقها وقال بسم الله ففتحت فاها فدخل ذلك الباطل كله في جوف تلك الحية، إذا بتلك الثعابين المرهوبة كلها تدخل في جوف عصا موسى، وما إن رأى السحرة تلك الحال حتى خروا ساجدين على الأرض، آمنا برب موسى وهارون، ما وسعهم إلا أن يقعوا على الأرض يرتعدون! وهددهم فرعون وأراد وقتلهم وصلّبهم فلم يردهم ذلك عن دينهم! كنا نقول: خبيب العبرة لما صدر حكم أبي سفيان عليه السلام رضي الله عنه في إعدام خبيب أيام كان رئيس الدولة الكافرة، أخرجوه من الحرم؛ لأنه لا يجوز القتل في الحرم -كفار ويؤمنون بهذه النعم- خرجوا به إلى الحل إلى التنعيم، وجاءت الأمة وراءه تتفرج، وخبيب على أعواد المشنقة، فبعثوا خبيراً سياسياً يساومه، فقال له: هل ترضى أن محمداً في مكانك هذا وأنت تطلق الآن وتعود إلى أهلك؟ مساومة، لو قال: نعم أرضى لأطلقوه. ولكنه قال لهم: اسمعوا، والله لا أرضى أن يشاك بشوكة وهو في مكانه الذي هو فيه وأن أعود أنا إلى أهلي، فصلبوه! لكن قبل أن يصدر حكم التنفيذ، قال: اسمحوا لي أن أصلي ركعتين، فسمحوا له بذلك! والآن في سجونكم أيها العرب لو يطلب هذا والله ما يعطوه، لم؟ لأن أولئك كانوا من قديم وبقايا الفطرة السليمة موجودة فيهم، الصدق والوفاء والرحمة والولاء موجود فيهم، تناقلوه، ونحن شاخت الدنيا بنا نحن في آخر عمرنا! فلا تعجب.قال :اتركوني أصلي ركعتين، فتركوه يصلي فقام فتوضأ وصلى وخفف وما أبطأ؛ خاف أن يقولوا: انظروا الخوف من الموت كيف يفعل به! طول الصلاة خوفاً من ساعة الموت! قال: لولا أني خشيت أن تقولوا خاف من الموت فأخذ يطيل الصلاة لأطلتها كما كنت أطيلها وأصلي، لكن دفعاً لهذا الخاطر الباطل استعجلت. فرضي الله عن خبيب وأرضاه! ما سر هذا الصبر والشجاعة؟ يا معشر العقلاء إنه اليقين، ارتفع إيمانه إلى مستوى اليقين.وعندنا مظاهر أخرى: أصحاب الأخدود في نجران، تسرب إليهم الإيمان فآمنوا، وكان الحاكم يهودياً، فحكم عليهم بإحراقهم في النار، واقرءوا: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِين َ شُهُودٌ [البروج:1-7]، فكان يؤتى بالرجل فيقال له: تعود إلى دينك وإلا تلقى في النار؟ فيقول: لا إله إلا الله، فيدفعونه إلى النار، ويؤتى بالمرأة فتسأل: تعودين إلى دين آبائك وأجدادك؟ فتقول: لا، آمنت بالله، فيدفعونها إلى النار! وجاء دور امرأة وفي يديها رضيعها ضمته إلى صدرها وفاه معلق بثديها، فلما وقفت ورأت النار ملتهبة خافت، كيف يحترق هذا الطفل؟ فتأخرت وأحجمت فأنطق الله الطفل الرضيع، وقال: أماه أدخلي من النار إلى الجنة دار السلام.
حلقات الذكر وتدارس كتاب الله هي طريق التغيير
آه متى نؤمن؟ متى نحصل على هذا الإيمان؟ ما الطريق يا أبناء الإسلام؟تعرفون الطريق أم لا؟ الطريق ما قررناه من سنتين أو ثلاث سنين! الطريق هو -اسمعوا! بلغوا! علموا- أن أهل القرية من قرى المسلمين سواء كانت في بلاد العجم أو العرب، القرية ذات العدد المحدود كذا مائة أو ألف نسمة يتعاهدون على أن لا يؤذن المغرب وفي القرية رجل أو امرأة خارج المسجد بأطفالهم ونسائهم! يشتغلون في الفلاحة.. في التجارة إلى الساعة السادسة مساءً، فإذا دقت الساعة السادسة أوقف العمل، وتوضأ، حمل زوجه وأطفاله ونسائه إلى بيت ربه العظيم الجليل، إلى بيت الرب، فيصلون المغرب وكأنهم نسمة واحدة، ولما يفرغون من صلاة المغرب وأداء السنة النافلة ركعتين يجتمعون حول مربٍ عليم يعلمهم الكتاب والحكمة من صلاة المغرب إلى العشاء وهم ساكنون سكوننا هذا يتعلمون الكتاب والحكمة، ويوماً بعد يوم والعام كله وأهل القرية بنسائهم ورجالهم لا يتأخر منهم أحد إلا مريض أو ممرض! أسألكم بالله كيف سيصبح إيمانهم؟ كل يوم يسقونه بماء النور الإلهي فينمو ويزيد فيبلغ درجة اليقين!وفي نفس الوقت لا يبقي كذب ولا خيانة ولا غش ولا خداع ولا سرقة ولا حسد ولا كبر ولا باطل ولا ترف ولا سرف ولا شره ولا طمع أبداً، تنمحي بهذا النور الإلهي وتصبح قرية كأنها كوكب في السماء تنير هذه الأرض! والقرية الأخرى والمدينة، أحياؤها الخمسة أو العشرة أهل كل حي يتعهدون ألا يتخلف رجلاً ولا امرأة من السادسة حتى يصلوا العشاء، ويحضرون كلهم وتغلق أبواب الدكاكين والمقاهي والمعامل، وترمى المساحي وآلات الحرافة، ويجتمعون كلهم في بيت ربهم، فيتعلمون ليلة آية وليلة حديثاً، يتعلمون الكتاب والحكمة، وتزكو أنفسهم وتطيب وتطهر فتتجلى حقائق الإيمان، وتظهر آيات اليقين فينتهي الباطل ويختفي الشر والخبث والظلم والفساد، ويصبحون أولياء الله لو رفعوا أكفهم إلى الله على أن يزيل الجبال والله لأزلاها، ولن يستطيع من على الأرض أن يكيدهم أو يمكر بهم وينجو؛ لأنهم في حماية الله؛ ولأنهم أولياء الله.هل هناك طريق غير هذا؟ والله لا وجود له أبداً، جربوا ما جربتم! الاشتراكية! الديمقراطية! الرأسمالية! العربية! الوطنية! جربوا الخرافات كلها.. المنظمات.. الأحزاب.. الجمعيات.. الطعن.. السب.. الشتم، وبعد دلونا على خير نراه! وسؤالي الآن: هل هذا أمر صعب مستحيل؟ هل هذا أمر تمنعه الحكومات الموجودة الآن في العالم الإسلامي؟ والله ما تمنعه، أقسم بالله، والله سيأتون ويجلسون معكم، ما إن تتجلى تلك الأنوار والحقائق وإذا بهم معنا، فينتهي الظلم، حتى الشرطة تنتهي، ما بقي لها مجال، فكلهم في المسجد! فهيا نطبق هذا؟ ستقولون: لا نستطيع. إذاً: لماذا تتعنترون وتكفرون الحكام وتخرجون عليهم وتقاتلونهم؟ من أجل ماذا؟ من أجل إيجاد الدولة الإسلامية؟ كم سنة وأنتم تقاتلون؟ أين هي؟ لن تكون هذه الدولة إلا إذا كان أفرادها من المؤمنين والمؤمنات.إياكم أن يقول لكم أبو مرة: اسمعوا هذا العميل هذا الذنب ماذا يقول ، والله ليسمعونها ويقولونها، وقالوها وهم أغبياء جهلة لا بصيرة لهم ولا نور ولا هداية.عرفنا أن اليقين هو السبب، أما إيماننا هذا فلا، ما يستطيع أن يترك معصية ألفها، تورط في ربا فلا يستطيع أن يتخلص منه، تورط في حشيشه ما يستطيع أن يتركها، تورط في عقوق أبويه وسبهما فيألف ذلك، ما استفاد، ليس هناك إيمان حقيقي ولا طاقة دافعة.
معنى قوله تعالى: (فأخذهم الله بذنوبهم)
يقول الله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بماذا؟ بِذُنُوبِهِمْ . الذنوب بريد العذاب! الذنوب هي التي تصل بالمذنب إلى عذاب الله في الدنيا والآخرة، هي التي تصل بالعذاب إلى أصحابه! هل تعرفون معنى الذنوب؟نحن مع إخواننا وأبنائنا العوام طول العام نقرب لهم المعاني ويفهمونه وتستنير قلوبهم، لما يجري أمامك حيوان هارب من أين تمسكه؟ من ذنبه. فلا تأتي من أمامه وتأخذه من رأسه، بل تمسكه من موخره، فالله عز وجل يؤاخذ عباده بذنوبهم! ولكن هل يكون هذا قبل أن يذنبوا؟ لا لا، لما يذنبوا يأخذهم بذنوبهم، قال تعالى: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ . والذنوب جمع ذنب وهي المعصية، وترك الطاعة لله عز وجل.وقد يسأل سائل: ما معنى المعصية وترك الطاعة يا شيخ؟ إذا قال لك الله: قف ووقفت أطعت، وإذا قال: اجلس وجلست أطعت، وإذا قال: لا تأكل البرتقال وأكلت عصيت، ما أكلت أطعت، فطاعة الله هي فعل المأمور به، وترك المنهي عنه. لم يؤاخذنا على هذا؟ لأن فعل المأمور يزكي أنفسنا ويطهرها ويسمو بها إلى السماء ودخول الجنة، ومعصيته بترك ما أمر بفعله أو اجتناب ما نهى عنه يخبث نفوسنا ويلطخها فتهبط إلى الدركات السفلى في عالم الشقاء، فهو يأمرنا وينهانا لصالحنا، فوالله ما أمر ولا نهى إلا من أجلنا! وهذا الأب يأمر ولده وينهاه لصالحه أم أنه يريد أن يعذبه؟ لصالحه! إذا نهاه عن مجالسة الضائعين وعن استعمال الدخان أليس من صالحه؟بلى. والله أرحم من الأب بابنه فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ، وإن شئت فقل بسبب ذنوبهم
معنى قوله تعالى: (والله شديد العقاب)
قال الله: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [آل عمران:11]، شديد المعاقبة قويها، يستطيع أن يقلب البلاد ظهراً على باطن، يصيب بالوباء فلا ينجو أحداً، يصيب بالزلازل فيفنون عن آخرهم، يصيب بدولة كافرة يسلطها على تلك الأمة فتذلها وتهينها شديد العقاب أي: عقابه قوي وقاس؛ لأنه الجبار العظيم.
تفسير قوله تعالى: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون...)
قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12] ، فوجه الله تعالى الخطاب لمصطفاه ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: قل يا رسولنا أيها المبلغ عنا، قل لمن؟ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، الله أكبر! قم أنت الآن وبلغ أمريكا والهند والصين والعالم الكفري، قل لهم: والله لتغلبن ولتدخلن جهنم، وتمضي سنة الله فيكم، بلغ عن رسول الله.قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، بماذا كفروا؟ بالإسلام وأبو أن يعترفوا به دين الله، وما كفروا إلا للحفاظ على أموالهم وأولادهم ومناصبهم، وما كفروا إلا أنه يكلفهم بأن يصلوا ويصوموا ويتصدقوا! أذكركم! لما شاعت وراجت البلشفية الحمراء الشيوعية ووضعوا ذلك المبدأ العجيب الغريب، والذي استساغه البشر من غير أهل القرآن والسنة وهو: (لا إله والحياة مادة). من وضع هذا المبدأ؟ وضعه بنو عمنا اليهود، لا عامة اليهود والدراويش والبهاليل، بل رؤساء ورجالات المأسونية التي تدير دفة العالم في هذه الأيام! قالوا: كيف نهبط بالبشرية وخاصة الصليبين -أعداء اليهودية- والمسلمين؟ قالوا: نوجد لهم مبدأ ننسيهم الله، بالأدلة والبراهين (لا إله والحياة مادة فقط)، وراجت الفكرة ودرست حتى في مدارس بعض العرب، وأظن في الثانوية درسوا نظرية داروين ، وهي تقول: أن الإنسان أصله قرد! أعوذ بالله، أولاد حواء يتناسلون جيلاً بعد جيل خلال هذه القرون، يعرفون أمهم وأباهم فيأتي هذا بخرافة ويقول: أصلك قرد، ويصفق له الهابطون!!لا إله إلا الله! ما انقطعت البشرية قروناً وجاءت من جديد، والله ما انقطعت، من حواء إلى اليوم والبشر يلد بعضهم بعضاً، فكيف يسوغ بيننا أن أصل الإنسان قرد؟! ودفنوا القرد في الأرض وأخرجوا رأسه قالوا هو هذا!! فحاصرهم علماء أوروبا الصليبيون وأخذوا في جلسات خاصة يضغطون عليهم وقالوا وأخيراً: لو نقول: الله لقلتم صلوا، فلهذا لا نقول الله أبداً، فضاغطوهم وحاصروهم: من خلق الكوكب؟ الماء؟ من أنزل كذا؟ أين.. أين.. فشلوا. قالوا: تريدون أن نقول الله، إذا قلنا الله تقولون صلوا، ولذا لا نقول الله، فانكشفت سوءتهم وظهرت عورتهم، وإلى الآن في كل مكان لا ينكر الإسلام إلا المصر على الفسق والباطل والفجور ولا يريد أن يستقيم ولا يطهر، أما منطقياً وعقلياً فلا وجود لمانع أبداً يمنع الإنسان من أن يعترف بأنه مخلوق وأن له خالق وأنه أنزل كتبه وبعث رسله ليتربى ويكمل ويسمو! قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا قل يا رسولنا للذين كفروا سَتُغْلَبُونَ إي والله العظيم وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، وهذا تناول أولاً اليهود من بني النضير فقد انهزموا وتحطموا، وكذا من بني قينقاع وقريظة دفنوا هنا، وآخر المسجد كانت مقبرة لهم، سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، بئس المهاد مهدوه لأنفسهم، مهدوا وأوجدوا لهم عذاباً في عالم الشقاء.
تفسير قوله تعالى: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا...)
قال تعالى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13] . قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ، أي: علامة كالشمس في رابعة النهار فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ، الفئة: الجماعة يفيء بعضها إلى بعض التقتا تلاقيا في ساحة المعركة. أين كان هذا اللقاء؟ والله في بدر. أي بدر؟ هذا ماء في طريق مكة، بئر الذي حفره يقال له: بدر، فسميت القرية به في بدر، فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهي فئة محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وَأُخْرَى فئة ثانية كَافِرَةٌ جاحدة منكرة للخير والكمالات البشرية يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ من تدبير الله عز وجل لما بدأ السيف والرمح في بدر أن المشركين لما نظروا إلى أصحاب الرسول وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فقط نظروا إليهم وأنهم أضعاف منهم ، وقللهم في أعين المؤمنين، فالمؤمنون لما شاهدوهم وهم قرابة الألف قللهم الله فنظروا إليهم فكأنهم أقل منهم، حتى تحتدم المعركة وتسيل الدماء!إذاً: قد كان لكم آية على صدق دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، على صدق هذا الكتاب ورسوله من أن المشركين الكافرين سينهزمون وسيتحطمون وسيئول أمرهم إلى جهنم وبئس المهاد، ها هي آية انظروا إليها يا معشر اليهود في المدينة! لما انهزم المشركون في بدر، بنو قينقاع بدءوا يتبجحون وقالوا: اسمع يا محمد! لا تظن أننا كمن لقيتهم لا يعلمون ولا يعرفون القتال، لو قاتلتنا لعرفت من نحن، تبجحوا، فقال تعالى لهم: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [آل عمران:13] .
تأييد الله لعباده المؤمنين بالنصر على الأعداء
قال الله: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:13] منهم الذين يشاء الله تأييدهم؟ بيض أم حمر؟ أغنياء أم فقراء؟ دائماً أنبه السامعين والسامعات إلى أن مشيئة الله قائمة على الحكمة، من يشاء نصرهم؟ أولئك الذين قدموا لله قلوبهم ووجوههم وانتهت آمالهم في دنياهم وأصبحوا لا هم لهم إلا رضا ربهم، هؤلاء الذين أقبلوا على الله هم الذين ينصرهم ويؤيدهم، أما الذين قلوبهم ممزقة هذا ينظر للمرأة وهذا للمال وهذا للوظيفة وهذا للحياة وهذا كذا فهذا التشتت وأهله لا ينصرون، وليسوا أهلاً لنصرة الله. إذاً: تأييد الله يكون للمؤمنين الصادقين الذين أسلموا قلوبهم لله ووجوههم لله. كيف أسلم قلبي لله؟ أنزعه وأعطيه لله؟ ما معنى أسلموا قلوبهم لله؟ قال تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22]، وإسلام القلب لله: أن لا يتقلب قلبك طول العام ولا يدور إلا في طلب رضا الله، حركة القلب ودورانها من أجل الله، لا هم لي إلا أن يرضى الله عني، فهذا هو إسلام القلب لله، وإسلام الوجه فلا تبقى له وجهة يتجه إليها إلا رضا الله وطلب طاعته، فهؤلاء يهديهم الله وينصرهم.
الاعتبار بنصر الله وتأييده لعباده المؤمنين
قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]، إن في ذلك النصر لأولياء الله والهزيمة لأعدائه عبرة!في هذه الأحداث الجليلة عبرة لأولي الأبصار والبصائر، فمن الآن عرفوا أن لا نصر إلا من الله، فلا يطلبون النصر من الشرق والغرب ولكن يطلبونه من الله، برفع أكفهم إليه بعد استقامت القلوب والوجوه، وبانطراحهم بين يديه، لا هم لهم إلا أن يرضى عنهم، ثم يتحقق النصر! ومن أراد أن يمتحننا يقول لنا: هيا نعود إلى بيت الله من جديد حتى ننمو ونسمو ونكمل أربع سنين فقط إذا دقت الساعة السادسة مساءً لا يبقى رجل ولا امرأة خارج المسجد، الكل يتعلمون الكتاب والحكمة أربع سنين والأمة كلها أولياء لله عز وجل، ومن ثم لو رفعنا أكفنا إلى الله ما ردها صفراً ولا خائبة.
لا حياة ولا هداية بدون القرآن
معشر المستمعين! عرفتم هذا الكلام كلام الله، هذا الذي كنا نقرأه على الموتى قروناً ولا يجتمع عليه ولا يدرس أبداً، ومن فعله كفروه، ووضعوا قاعدة مُرة: (تفسير القرآن صوابه خطأ) أي: إن فسرت وأصبت مراد الله فأنت مخطئ مذنب، (وخطأه كفر)، فكممونا وألجمونا قروناً!قتلونا؛ لأن القرآن هو الروح ولا حياة بدون الروح، القرآن هو النور ولا هداية بدون نور.وسرني أمس أن خطاباً وردني من بهلولة من الصالحات في ديارنا افتتحت الخطاب وتقول: الحمد لله الذي جعل القرآن روحاً لا حياة بدونه، وجعله نوراً لا هداية بدونه! فقلت: كيف وصل هذا الخبر واجتاز عشرات الآلاف؟ آمنا بالله، فحمدنا الله أن هذا الدرس مبارك، ونفع الله به في الشرق والغرب؛ لأنه كلام الله.نعم. لا حياة بدون القرآن ولا هداية بدونه، واقرءوا لذلك قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فهل تطلب أمة حياة بدون القرآن؟ هل تحيا؟ تحيا كالقردة والخنازير ينزل بعضها على بعض، أما حياة الطهر والصفاء والمودة والإخاء والحب والتلاقي والتعاون فوالله لن تتم إلا على القرآن إيماناً به وحفظاً له ودراسة وتعلماً، وتطبيقاً وتنفيذاً لأحكامه! هل تريد أن تهتدي بأمتك أو بشعبك أو بإخوانك أو ببيتك إلى حب الله ورضوانه بدون القرآن؟ والله ما وصلته ولا ظفرت به، فالقرآن هو النور: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، سماه الله نوراً؛ فإن انعدم النور تتخبط في الظلام! والبرهنة على ذلك قاطعة! كيف سلط الله علينا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وهولندا؟ أين ممالك الهند الإسلامية التي حكمت المجموعات من التجار البريطانيين؛ لأنهم هبطوا؟ كيف يسلط الله على أوليائه أعداءه؟ هذا من شأن الله العزيز الحكيم! متنا سلبونا الروح وأبعدونا عن النور فهبطنا فركبوا على أجسادنا وإلى الآن نساق هذا المساق وننتظر يوماً لا تنزل فيه الكوارث والمصائب والويلات، ولا يكون إلا إذا استيقظنا وعدنا إلى الله! وقد يقول قائل: يا شيخ! كيف نعود؟ أمر صعب، مستحيل هذا؟ فأقول له: والله ما هو بصعب والله هو بمستحيل أبداً، فقط ساعتين من كل أربع وعشرين ساعة نبكي بين يدي الرب في بيته، نبكي يوماً بعد يوم فيرفع الله شأننا ويعلي قدرنا ويذهب آلامنا وأحزاننا.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (35)
الحلقة (176)
تفسير سورة آل عمران (38)
لقد أنعم الله عز وجل على أمة الإسلام بأن عصمها بالكتاب والسنة، فمتى ما تمسكت هذه الأمة بكتاب ربها وسنة نبيها حازت الفلاح في الدنيا، والفوز بالجنات في الآخرة، ومتى ما أطاعت أعداء الله الحريصين على إفسادها، فتنكبت طريق الهدايتين، وأعرضت عن سبيل النبراسين أصابتها سنة الله التي لا تتخلف فتاهت في سبل الضلال، وحارت في دياجير العماية والظلام.
التمسك بالقرآن الكريم هو سبب سمو أمة الإسلام وعلوها
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل.وقد عرفتم معشر المستمعين والمستمعات أن القرآن الكريم روح، وأنه لا حياة بدون روح، والقرآن الكريم نور، ولا هداية بدون نور، والماشي في الظلام لا يصل إلى غرضه ولا ينتهي إلى أمله، ولهذا كان الكتاب الكريم والحكمة المحمدية -أي: السنة النبوية-؛ كانا سلم رقي هذه الأمة، وكانا معراج رسولها إلى غاية كمالها.
كيد أعداء الأمة وتآمرهم على القرآن والسنة
لعلكم تذكرون أن عدو هذه الأمة المسلمة تكون من اليهود والمجوس والنصارى، فلما انهزموا في المعارك؛ معارك السيف والسنان، عرفوا سبب سمو هذه الأمة وعلوها؛ وعرفوا سبب رقيها وسيادتها بعد طهرها وصفائها. فقالوا: إنه القرآن والسنة، فاحتالوا ونجحوا، فحولوا القرآن إلى المقابر والأموات، ومن إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً ومن عدة قرون لا يقرأ القرآن إلا على الموتى، وطلبة القرآن يحفظونه لهذا الغرض؛ ليقرءوه على الموتى.أما السنة فقد أبعدوها، وإن كانوا يقرءونها فللبركة.وقد قلت لكم: إنه كان في هذه الروضة النبوية الشريفة يجتمع أهل الغفلة ويقرءون صحيح البخاري بركة، لا لتعلم الحكمة، ولا لمعرفة الحلال والحرام، ولا الواجب والمندوب، ولكن للبركة، فقطعونا عن سلسلة وحبل وصولنا إلى السماء، وما زالت أمة الإسلام في غفلتها إلى اليوم.
استجابة الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل في تعليم أمة الإسلام
القرآن الكريم هو كتاب الهداية، والسنة النبوية بيان لذلك الكتاب، وشرح هدايته وتفصيلها. وأذكركم بما قاله إبراهيم الخليل وولده إسماعيل وهما يبنيان هذه الكعبة، وإذا بهما يتقاولان الكلمات الآتية: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، وهذه دعوة إبراهيم وولده إسماعيل، وقوله: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ ، أي: في ذرية إسماعيل قبل أن يوجدوا، ابعث فيهم ماذا؟ رَسُولًا مِنْهُمْ ومهمته ما هي؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .وتمضي القرون وتتوالى السنون، ويصبح لإسماعيل مئات الآلاف بل ملايين الذرية، واحتاجوا إلى رسول يعلمهم الكتاب والحكمة، فاستجاب الله لإبراهيم وإسماعيل، وبعث في ذريتهما محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان يجلس لأولاد إسماعيل يعلمهم الكتاب والحكمة ويهذبهم ويزكي أرواحهم.وامتن الله علينا بهذه النعمة في آيتين؛ في آل عمران وفي الجمعة، إذ قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، ومن سورة آل عمران: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164].وسمت أمة الإسلام وعلت وارتفعت، وبلغت مستوى لم تحلم به الدنيا، ولم تعرف البشرية أمة أرقى ولا أسمى ولا أطهر ولا أصفى، ولا أعز ولا أكرم، ولا أعلم ولا أعرف من تلك الأمة، استجابة الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل.
من مظاهر كيد الثالوث الأسود بالمسلمين
تحويل قراءة القرآن إلى الموتى دون الأحياء
عرف العدو المكون من المجوس الذين سقط عرش كسراهم، وأطفئت نار عبادتهم وتأليههم؛ ومن اليهود الذين خابوا وخسروا؛ وذهب أملهم في إعادة مملكتهم؛ ومن النصارى الذين خافوا أن يغمر هذا النور ديارهم؛ فتذهب تلك السيادة والكرامة لقسسهم ورهبانهم، فتضامنوا على إطفاء هذا النور.لكن كيف وصلوا إلى إطفائه؟ بالسحر؟ لا، بالسيف والرمح؟ لا، فما يستطيعون.قالوا: نميتهم، لكن كيف؟قالوا: إن روحهم التي سموا بها وارتفعوا بها وسادوا هي القرآن والحكمة المحمدية المبينة المفصلة الشارحة لكلام الله، فحولوا القرآن إلى المقابر وإلى ليالي العزاء، فإذا مات ميتنا نجمع مجموعة من طلبة القرآن يقرءون على ميتنا من أجل إنقاذه من النار، وتشترى الختمة الواحدة بألف دينار.وانعدم من يقول لأخيه: يا أخي! أسمعني شيئاً من كلام ربي. فلا يوجد هذا أبداً، ولا تمر بجالس في المسجد ويقول: يا أخي! إن كنت مساوياً له في السن، أو يا أبتِ! إن كنت أكبر منه، أو يا ولدي! إن كنت أصغر.. أسمعني شيئاً من كلام ربي.أسألكم بالله: هل حصل هذا فينا؟ ومن صرفنا عن القرآن؟هل بلغكم ما سمعتم، وقد رددت عليكم هذا القول لتحفظوه؛ قالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر.أي: من يستطيع أن يقول: قال الله إذاً؟فإذا فسر آية وأصاب معناها أخطأ وارتكب خطيئة، ومن يقوى على ارتكاب الخطايا، وإن أخطأ في تفسيرها كفر، ومن يقوى على أن يكفر؟فألجمونا وكمموا أفواهنا، وما بقي من يقول: قال الله.إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ ماذا نصنع؟نعم أراد الله حفظه وبقاءه، فقالوا: نقرؤه ونحفظه لنقرؤه على الموتى فقط، وأما الأحياء فلا ينتفعون به.وهنا لطيفة عرفناها من أهل العلم: كان حاكم فرنسي في بلد إسلامي في شمال إفريقيا أيام استعمرتنا فرنسا، فاستبدل بحاكم آخر، وفرنسا كغيرها تستبدل الحاكم في الإقليم كل عام أو عامين، فجيء بهذا الحاكم يتجول في المدينة فعثر على الكتاتيب في المسجد يقرءون القرآن فتعجب، وجدهم جالسين على الحصر أو على التراب وفي أيديهم ألواح من خشب، وأقلام من قصب، ومظاهر الفقر والحاجة عليهم، فقال: ما هذا؟ قالوا: يتعلمون القرآن.قال: يتعلمون القرآن! هل أذنت لهم الحكومة؟ وماذا يريدون من هذا التعلم؟! أعجزت الحكومة عن فتح المدارس لتعليمهم وترقيتهم؟ ما عجزت، فإلى المدارس وأغلقوا هذه الكتاتيب فإنها لا تنفعهم. فلمس هذا الحاكم وخاف أن هذا القرآن يعيد الحياة لأمته فخاف.وألهم الله أحد المؤمنين فقال: يا سيادة الرئيس! أبكيت النساء والرجال وآلمت الأمة بقرارك هذا، فهؤلاء يقرءون القرآن من أجل الموتى، فإذا مات ميت يقرءون عليه القرآن، لا لأجل وظيفة ولا عمل ولا سياسة ولا.. فقال: لأجل هذا فقط ؟ قال: إي نعم، قال: إذاً: افتحوا الكتاتيب، فما دام القرآن يقرأ على الموتى فقط فخلوهم وحالهم.فهل عرفنا الطريق وعدنا إلى القرآن؟الجواب: ما زلنا والله يشهد.فهذا القرآن الكريم هو الروح التي بها الحياة، وقد فعل بنا العدو ما فعل وهبطنا.
تشويه ولاية الله في العباد
الكلمة الثانية التي نرددها وهي: من هم أولياء الله يرحمكم الله؟ سيدي عبد القادر ؟ سيدي العيدروس ؟ مولاي إدريس ؟ سيدي عبد الرحمن .. سموا أولياءكم.هؤلاء هم الأولياء؟ إي والله، فقط من مات وبني على قبره قبة ووضع على القبر تابوت من خشب، ووضعت عليه الأزر الحريرية، وأوقدت الشموع ليلة الإثنين والجمعة فهذا ولي الله، وهذا الذي يحلف به، وهذا الذي يستغاث به، وهذا الذي تساق له الأبقار والعجول، وهؤلاء هم الأولياء! فوضعوهم موضع الله عز وجل، فيحلفون بهم كما يحلفون بالله، والله ليجلونهم أعظم من الله، ويخافونهم أعظم مما يخافون الله.لكن: لم فعل الثالوث بهذه الولاية بهذه الطريقة؟ وما السر؟السر عرفت قول الله عز وجل في صحيح البخاري من طريق أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، وفي رواية: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته ) أي: أعلمته، ( بالحرب ) بيني وبينه، ومن يستطيع أن يؤذي ولي الله فيقول فيه كلمة سوء بشتمة أو عدم مبالاة.إذاً: ماذا فعل العدو؟سلبنا ولايتنا أيها الأحياء، ووضعها على الموتى، لم؟ من أجل أن يزني بعضنا بنساء بعضنا .. من أجل أن يسرق أحدنا مال أخيه المؤمن .. من أجل أن يكذب على أخيه المؤمن .. من أجل أن يضربه بعصاه أو ببندقيته.لعلي واهم! أسألكم بالله: ألا يوجد في ديار المسلمين زنا .. سرقة .. كذب .. خداع .. غش .. إزهاق الأرواح .. قتل المؤمنين .. إخافتهم؟!ولو كنا نعتقد أن هؤلاء أولياء الله، فإننا لا نستطيع أن ننظر إليهم فقط بنظر شزر، أو أن نكذب على ولي الله أو نسخر منه، أو نفجر بنسائه.ونحن كما تعرفون نستطيع أن نحلف بالله ولا نقدر على أن نحلف بسيدي فلان تعظيماً وإجلالاً له، حتى إن القضاة في بلاد العالم الإسلامي أصبحوا يُحلِّفون الخصوم بالأولياء ولا يحلفونهم بالله؛ لعلمهم أن هذا الإنسان يحلف بالله سبعين مرة ولا يبالي، ولا يقدر على أن يحلف بسيدي فلان.إذاً: أفقدونا ولاية الله، ونقلوها من الأحياء ووضعوها على الموتى، ومشينا وراءهم، وأكثر من سبعمائة سنة إلى ألف سنة ونحن هكذا؛ وإذا خرجت للسوق تجد هذا يشتم هذا، وهذا يسب هذا، وهذا يعير هذا.. ولا يقوى أن يقول في ولي كلمة، فترتعد فرائصه أبداً ولا يستطيع؛ لأن الولي ميت، وهذا الإنسان حي.وقد قلت لكم: إلى الآن باستثناء الذين سمعوا هذا الهدى؛ لو تسألوا رجلاً عن ولي في قريته فإنه لا يهتدي أبداً إلا إلى ميت، ولا يفهم أن في القرية ذات الخمسة آلاف نسمة بينهم ولي أبداً، ولا ولي إلا الميت المدفون.لكن هل في الإمكان أن نغير وضعنا أو لا نستطيع؟هيا نعود إلى الكتاب والسنة، ونعود إلى معرفة ولاية الله ونحققها في أنفسنا.
كيفية اكتساب ولاية الله
ولاية الله تكتسب بشيئين فقط: الإيمان وتقوى الرحمن، فكل مؤمن تقي هو لله ولي، وأحلف لكم بالله: كل مؤمن تقي هو لله ولي، فيحرم أن تنظر إليه بنظرة شزر، ويحرم عليك أن تمسه بأصبعك إهانة له أو إذلالاً، ويحرم عليك أن تنال من عرضه بكلمة، أو من ماله بفلس واحد، فهو ولي الله، فكيف تؤذي ولي الله! أما تخاف الله؟ ( إن الله ليثأر لأوليائه كما يثأر الأسد الحرب ) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم. فهيا نعود.معشر الأولياء! هل مرتبتكم واحدة أو متفاوتون؟التفاو ت حاصل، ونحن رتب على طريقة الجيوش، فأول ما يدخل الشاب للعسكرية يقال فيه: عسكري، وعام عامين يرتقي إلى جندي أول، ثم ملازم، ثم ملازم أول، ثم رقيب، ثم نقيب، ثم عريف، ثم كذا، ثم جنرالا.وأولياء الله كذلك ليسوا بمرتبة واحدة بل يتفاوتون، لكن ما من مؤمن يتقي الله إلا وهو ولي الله، فيحرم عليك أن تناله بسوء، وإن أبيت إلا أن يعلن الله الحرب عليك فاستعد ولن تفلح ولن تنجح أبداً وأنت تؤذي أولياءه.إذاًً: أولياء الله حصلت لهم هذه المنزلة العالية بشيئين: الإيمان والتقوى.
معنى الإيمان
ما الإيمان يا شيخ؟ هل الإيمان دعوى أن نقول: أنا مؤمن؟ لا.الإيمان اعتقاد جازم قاطع راسخ في القلب بوجود الله لا إله إلا هو ولا رب سواه، واعتقاد جازم قاطع بأن محمداً رسول الله، واعتقاد جازم قاطع بأن كل ما أخبر الله تعالى به أو أخبر به رسوله هو واقع كما أخبر، ويستحيل أن ينتقض هذا هو الإيمان، وهذه هي الطاقة الدافعة، وهذه هي القوى التي تحملك على تقوى الله، فإن ضعفت ضعف تقواك يا عبد الله.
آيات قرآنية تبين صفات أولياء الله
ومن باب تقريب المعاني للمستمعين نعرض عليهم شاشة قرآنية، وهم متعودون على شاشة التلفاز والسينما؛ شاشة قرآنية تشاهدون عليها أولياء الله، فمن رأى نفسه بينهم فليحمد الله وليقل: أنا مؤمن، ومن ظهر في زاوية واختفى في أخرى فليعلم أنه ضعيف الولاية، وليعمل على تحقيق ولايته يا ولي الله، ومن لم يجد نفسه بينهم والله ما هو بمؤمن.مستعدون تشاهدون أو لا؟اسمعوا من سورة الأنفال يقول الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه في الرد على الذين يدعون الإيمان وهم كاذبون، قال جل وعز وتأمل هذه الصيغة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي: بحق وصدق، لا بالادعاء والنطق: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، فإذا كان في يدك خاتم من ذهب استعملته للجهل وعدم العلم، ونظر إليك مؤمن فقال: أي فلان! أما تتق الله كيف تتختم بخاتم الذهب؟! فانظر إذا اهتزت عواطفك واقشعر جلدك وخشيت الله ونزعت الخاتم من يدك فأنت والله لمؤمن، وإن أنت لا قدر الله ضحكت أو سخرت واستهزأت فوالله لا إيمان: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، أما أن يذكر الله فيضحك ويسخر ولا يبالي، ويواصل جريمته المتلبس بها، فوالله ما هو بمؤمن.ثم قال: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] فإذا قرئت عليه الآيات ارتفع منسوب إيمانه، فإذا كانت العقرب تشير إلى مائة وخمسين فإنه يرتفع إلى المائتين والزيادة.وعلى سبيل المثال: إذا قام قائم يعظنا ويذكرنا، ويطلب منا عملاً ما، وقرأ آيات الله عز وجل، فمن هش ورغب وأحب أن يعمل وأخرج من جيبه مطلوباً، دل ذلك على أن إيمانه ارتفع وزاد، وأن إيمانه موجود، والدلالة على وجوده ارتفاع منسوبه. وإن قرأت علينا الآيات أمراً ونهياً لنفعل كذا أو نترك كذا، ولم تحصل أي إجابة، ولا رغبة فينا أن نفعل ولا أن نترك..! فوالله من كانوا هؤلاء فليسوا بمؤمنين؛ لأن الذي أخبر بهذا الخبر هو واضع الإيمان في القلوب: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] فإذا ما ازداد الإيمان فليس بموجود، لابد وأن ينمو ويرتفع.ثم قال: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] أي: يفوضون أمرهم إلى الله، ويقفون إلى جنب الله ولا يبالون بالحياة وما فيها من مهام أو آلام.تريدون صورة واضحة.تقول لأحدهم: يا سيد! أنت والحمد لله في خير وعافية، فلماذا تسمح لزوجتك تشتغل مع الرجال؟ أمن أجل الخبز والماء؟ فالله قد تكفل به، ودع امرأتك في بيتك تربي أولادك وتصون عرضك، وتزيد في كرامتك، وتسعدك بابتسامتها وتقديم حاجتك إليها، وهو خير لك من أن تتركها تشتغل مع البوليس أو مع الشياطين في فندق .. أو متجر .. أو كذا ..لكنه يقول: الحياة تطلبت هذا.فأين التوكل على الله؟ وأين تفويض الأمر إلى الله؟واضح هذه الصورة أو لا؟وقد قلنا لهم في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تزيدوا في تعليم بناتكم على الابتداء فقط، فتتعلم خمس سنوات وتصبح تعرف الله وما يحب وما يكره، وكيف تقدم له المحبوب وتبعد عنه المكروه، وتحقق ولاية الله لها، وما هناك حاجة إلى مدرسة ثانوية وجامعية.قالوا: المستقبل.وهناك فتاة دخلت المتوسطة أو الثانوية فغار أبوها وقال: أخرجوها، وأمها مطلقة من سنين، وأبت أن تسلم له بنته فهو بالطائف وهي بالمدينة، فاستدعاني كقريب لها وجلسنا في البيت ومن وراء الستار، فقلت لها: يا بنيتي! تعلمتي والحمد لله كيف تعبدين ربك وتتقربين إليه، فما هناك حاجة إلى هذا التعليم، فطريقه موصلة إلى الدمار والخراب.فقالت وراء الستار: مستقبلي يا بابا .. مستقبلي يا يابا.ومن علمها هذه الكلمة؟فقلت لها: اسمعي. هذه أمك تسمع، والله من زمن أمك هذه إلى وقت فاطمة الزهراء ما توظفت امرأة مع الرجال ألف وثلاثمائة سنة وزيادة، وأنتِ فقط: مستقبلي يا بابا! إن مستقبلك في بيتك مع زوجك وأولادك، وليس مع التحاكي مع الرجال وطلب الوظيفة.والشاهد عندنا: أين التوكل على الله؟فاترك بنتك في بيتك وقد تعلمت وعرفت خمس سنوات وحفظت من القرآن ما شاء الله ومن السنة ما شاء الله، وعرفت كيف تعبد الله، واتركها في البيت تساعد أمها على تربية أخواتها وإخوانها.لكن الشياطين أرسلهم الثالوث الأسود، وإن شئتم حلفت لكم بالله: إن ذلك الثالوث هو الذي حسن تعليم بنات المؤمنين والزج بهم في مدارس الكليات والجامعات ليفقدن الصلة بالله عز وجل.أين التوكل على الله واحجب ابنتك، وفوض أمرك وأمرها إلى ربك.والآن الذين توظفت نساؤهم استعاضوا عن النساء بالخادمات، لينظر إلى ما لا يحل النظر إليهن، ويجالسه وقد يأكل معه، فانمسخوا، ولم يبق إيمان ولا نور، فعرف هذا العدو وما عرفناه؛ لأننا هجرنا كتاب الله، وسيشكونا رسول الله إلى ربه: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].إذاً أيها المستمعون بينكم متوكلون على الله لا على المحراث، ولا على القلم، ولا على الوظيفة .. على الله فلا نعصيه ونجاهر بالمعصية؛ إذ الأمر له وبيده.ثم قال: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:3] تعرفون معنى يقيمون الصلاة بحق؟!فإذا قال المؤذن: حي على الصلاة، في منارة القرية أو المدينة، أخذ أهل القرية يلبسون ثيابهم، ويغلقون أبوابهم، وإذا بمظاهرة لم تعرف الدنيا مثلها، فأهل المدينة كلهم مقبلون على الله، ولم يبق دكان مفتوح ولا مقهى، ولا واقف بالباب ولا أحد.. فالكل إلى الله في خمس مظاهرات في الأربع والعشرين ساعة، ولم يتخلف إلا مريض أو ممرض.فهذا هو إقام الصلاة، وهذا هو الذي ينتج الطاقة ويولد النور في النفس؛ ليعرف صاحبها الطريق إلى ربه.ولكن هل هذا موجود في ديار المسلمين؟ الجواب: المؤذن يؤذن وهو يغني، والمؤذن يؤذن وهو يحلق في وجه فحل ولا يبالي. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [الأنفال:3] وإقامتها أن تقف على قدميها فلا تميل يميناً ولا شمالاً، وتؤدى في أوقاتها المحددة، وبالصفات والهيئات التي نزل جبريل فعلمها رسول الله والمؤمنين. وهذا مظهر من مظاهر الإيمان الحق.أما أن هذا يصلي وذلك لا يصلي، وهذا يصلي وهذا يغني .. فما أقيمت الصلاة.وأخيراً: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3] فدائماً وأبداً مما رزقناهم ينفقون، فليس الإنفاق مرة في العام أو في الشهر، بل الإنفاق متواصل.فإن قيل: كيف ننفق يا شيخ ونحن كذابون، ودجالون، وسحرة، ومتلصصة وبعضنا يكذب فيقول: إنه جائع وهو شبعان، أو يقول: أنا مدين وهو يشتري الحشيش ويأكلها. كيف نصنع؟أقول: هذا يتلاءم معه ذلكم المنهج الرباني في أن أهل القرية يجتمعون في مسجد قريتهم بنسائهم ورجالهم كل ليلة وطول العام، وعلى مدى الحياة فيتعلمون الكتاب والحكمة، ومن ثم يكونون كلهم علماء صادقون صالحون بررة، فتنتفي كل مظهر من مظاهر الخيانة والكذب والباطل لتعلمهم الكتاب والحكمة.ويجعل صندوق في المحراب من حديد، ويقول المربي: معاشر المستمعين! من زاد ريال عن قوته اليوم يدفعه إلى هذا الصندوق، وهو بين خيارين: إما أن ينمى ويأخذ الفوائد المباركة أو يتركه فقط فماله محفوظ وعند الحاجة يتسلمه، وهذا الصندوق إذا مضى عليه ستة أشهر إذا به يفيض، فإن كان أهل القرية من أهل الزراعة أنشئوا مزرعة ربانية، مزرعة في المسجد، وإن كانوا في بلاد صناعية أنشئوا مصنعاً ولو لإنتاج الملاعق أو الإبر، وسوف يبارك الله في ذلك الصندوق ويدر ويجلب المال.ومن ثم فإن أهل تلك القرية هيهات هيهات أن تجد بينهم عارياً أو جائعاً أو مريضاً بدون علاج ولا دواء، فأمرهم واحد وكأنهم بيت واحد.هنا النفقة أنت تطلبها، وأنت تبحث أين تضعها، للتكاثر والتضامن الإيماني المؤمن أخو المؤمن، المسلم أخو المسلم.والآن تستطيع أن تنفق هذا؟ لا تستطيع، ولا تعرف المحل اللائق، فما عندنا صدق ولا وفاء ولا.. ولا.وأخيراً اسمع هذا الختم الإلهي: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4]. كيف حال أبنائنا إن شاء الله؟ وجدتم أنفسكم هنا، أو ظهرتم في مكان واختبيتم في آخر.إليكم شاشة أخرى، ولا تقولوا: الشيخ يشجعنا على السينما والتلفاز والفيديو!هذا فقط من باب أنكم عرفتم هذا، وإلا بيتك يا عبد الله لا توجد فيه شاشة تلفاز ولا فيديو.فإن قيل: لم يا شيخ؟أقول لك: أسألك وأجبني: هل وجود التلفاز في بيتك تعرض فيه صور العواهر والكافرين والمجرمين، ينتج لك يومياً عشرة ريالات؟والله ما كان.هل ينمي كل يوم صحتك وصحة أولادك؟الجواب: لا.هل يرضي عنك الله عز وجل؟الجواب: لا.هل يزيد في معارفك وعلومك الإلهية؟والله لا.إذاً النتيجة أن ترحل الملائكة من بيتك وتنزل منازل الشياطين فقط، وإذا نزلت الشياطين ورحلت الملائكة والله لينتشرن الخبث بين أهلك وأولادك، أحببت أم كرهت.لعلي واهم؟ والواقع واضح، فهبطنا والرسول يقول: ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ).وإن قلت: أنا سياسي ومسئول عن الدولة! فاجعل تلفازاً في غرفة المكتب، واحضر ساعات تتلقى فيها لك ذلك قد تؤجر، لكن بيوت المؤمنين والمؤمنات ماذا يستفيدون من تلك المناظر والملاهي والأباطيل.أما قلت لكم: إن الأطفال تعلموا اللواط من طريقها؟ وتعلموا الفجور بواسطتها وهم صبيان.وزادتنا محنة الصحن الهوائي المسمى بالدش، وتكالب عليه إخواننا كأنهم لا يؤمنون بالله؛ إذ كم صحنا وبكينا؟ وصدر إفتاء من رجل ما تكتحل عين الوجود بمثله هذه الأيام، إنه مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز بن باز بحرمة هذا الفيديو. لكن البعض كأنه يتحدى وبعض السطوح فيها أربعة وخمسة صحون، وهذا يدل على إيمان مؤمنون! هذا خرافة.لكن تذكروا: أين ربكم؟ أين الله؟ بالمرصاد إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14].وها هو رسول الله على المنبر يقول: ( إن الله ليملي للظالم ) الإملاء الزيادة في المال والمتعة والحياة ( ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )، وقرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].والمسلمون الآن ألف مليون في الشرق والغرب تحرروا، وفسقوا، فجروا، وفعلوا كل شيء، فهل أنتم آمنون؟ والله ما هي إلا إملاء لله وإمهالاً، ومن يعش سيذكر هذه الكلمة.أنعيش منحرفين عن طريق الله ونسلم، وتقولوا: سلامتنا وشهادتنا..؟ هيهات هيهات.ومن قال: دلل على ما تقول؟أقول: استذلنا الغرب وسادونا أو لا؟ حكمونا أو لا؟ وفعلوا بنا الأعاجيب أو لا؟كيف هذا ونحن مؤمنون؟الجواب: فسقنا عن أمر الله، وخرجنا عن طريق الله، وسنة الله من أكل السم هلك، ولا تتخلف السنن، فإذا خرجنا عن منهج الله نتحطم لا محالة، طال الزمان أو قصر.وأكثر المسلمين ظنوا أنهم لا يخافون الله، ماذا يفعل؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14] يرصدنا، وفسر هذا رسول الله ( إن الله ليملي للظالم ) والظالم هو الذي ظلم نفسه فدلاها في مهاوي الشر والخبث والعفونة والفساد.إذاً: الآن عرفتم الطريق إن شاء الله؟ فهيا نحقق ولاية الله.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ...)
العصمة في الكتاب والسنة
الآية الكريمة ختمها تعالى بقوله: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] الآية التي نحن بصددها نصها الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:100-101].فإن قيل: يا شيخ! ما تتلى علينا الآيات ولا نسمعها، وما بيننا رسول الله!يا ويلنا إذاً! متى تتلى علينا آيات الله ويكون الرسول فينا؟ إذا اجتمعنا في بيوت ربنا اجتماعنا هذا، نقرأ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] أي: من أين يأتيكم الكفر وأنتم في هذه المناعة وهذه الحصانة العظيمة ويتلى عليكم القرآن، وأنتم أحياء لتتعلموا الطريق إلى الله، وفيكم الرسول يبين ويشرح ويفصل.فالعصمة كل العصمة للأسرة والقرية والعالم الإسلامي في قال الله وقال رسوله، إما أن نخصص وقتاً في الأربعة وعشرين ساعة لنتعلم الكتاب والحكمة، لنزكو ونطهر .. لنسمو ونعلو .. لتنتهي مظاهر الخبث والظلم والشر والفساد، وتتجلى مظاهر العلم والمعرفة والصدق والطهر والصفاء، إما وإما، ولا تفهم أنك حر تعمل ما تشاء، إنما أنت تحت النظارة.
الاعتصام بالله طريق الهداية إلى الصراط المستقيم
ثم قال: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] هذا خبر، والمخبر هو الله.ماذا يقول؟ يقول: وَمَنْ يَعْتَصِمْ أي: من رجل أو امرأة .. من عربي أو عجمي، في الأولين في الآخرين.. فـ(من) من ألفاظ العموم وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ ونعتصم بالله أي: بحبل الله وهو دينه، ومن يعتصم أي: يأخذ بيديه بشدة وبقوة، فلا ينحرف يميناً ولا شمالاً في عقيدته .. في عبادته .. في سلوكه .. وهذا الذي يعتصم بحبل الله فَقَدْ هُدِيَ من هداه؟ الله، إلى أين؟ إلى طريق الجنة إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: الطريق الموصل إلى دار السلام.عرفتم الآن لما حذرنا من موالاة الكافرين واتخاذهم قادة وهداة، فحذرنا من ذلك وأرشدنا إلى العصمة وهي أن نجتمع على كتاب الله وسنة رسوله طول الحياة، وأخيراً قال واسمعوا أيضاً هذا الخبر: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ [آل عمران:101] أي: يستمسك بدينه .. بحبله الممتد من السماء إلى الأرض، فهذا العبد قد هدي إلى الصراط المستقيم الموصل إلى رضا الله وإلى الجنة دار السلام.ونعتصم بالله بأن: أولاً: يجب أن نعرف العقيدة التي شرعها الله وأحبها لنا، ثانياً: يجب أن نعرف العبادات التي شرعها وكيف نؤديها، وبعد ذلك يمكننا أن نستعصم ونعتصم، أما جاهل لا يعرف عن الله شيء، فكيف يستعصم؟وصلى الله على نبينا محمد.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (36)
الحلقة (177)
تفسير سورة آل عمران (40)
إن طاعة المؤمنين لأعدائهم من الكافرين سبب لبعدهم عن كتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبعدهم عن هذين المصدرين سبب لضعفهم وذهاب ريحهم، وتسلط عدوهم عليهم؛ لأنهم إنما يقوون باتباع الكتاب والسنة، وتحكيمها في كل شأن من شئونهم الدنيوية والأخروية.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي التي سبقتها ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:100-103].
مخططات الأعداء في صرف المسلمين عن القرآن
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! عرفنا بتعريف الله لنا أن الذي يطيع فريقاً من اليهود والنصارى والمشركين والكافرين يردوه عن دينه، لكن الآية خصت أهل الكتاب: اليهود والنصارى؛ لأن اليهود لا يريدون أن يبقى الإسلام ولا المسلمون، يريدون فقط أن يبقى بنو إسرائيل، والنصارى لا يريدون أن يغمرهم نور الإسلام، يريدون الصليب ليسودوا على أممهم الجاهلة ويتحكموا فيها.وقد علم أهل الكتاب أن الإسلام روح لا حياة بدونه، ونور لا هداية بدونه، عرف اليهود والنصارى هذا معرفة يقينية. وقد قررنا -على علم- أن القرآن روح ولا حياة بدون روح، وأن القرآن نور ولا هداية بدون نور، فلما عرف أعداء الإسلام هذا صرفوا أمة الإسلام عن القرآن، ففقدت الروح فماتت، وابتعدت عن النور القرآني فضلت وما اهتدت، وقد علمتم -ولا يخالكم تنسون هذا- أنهم حولوا القرآن ليُقرأ على الموتى، فلا يجتمع اثنان تحت ظل شجرة أو جدار أو سارية في مسجد أو على حصير في بيت ويقول أحدهما للآخر: اقرأ عليّ شيئاً من القرآن. أبداً، وإنما إذا مات أحدنا يؤتى بطلبة القرآن يقرءون عليه ثلاث ليال، سبع ليال، أربعين ليلة.. بحسب غناه وفقره، لا أقل ولا أكثر.فلما أخذوا القرآن وحولوه ليُقرأ على الموتى ماتت وضلت أمة الإسلام، ومن ثَّم أمكنهم أن يسودونا ويحكمونا، ويتحكموا فينا من اندونيسيا التي حكمتها بلجيكا إلى موريتانيا والمغرب التي حكمتهم فرنسا، والشرق الأوسط بكامله لبريطانيا وممالك الهند. كيف حكمونا؟! كيف سادوا علينا؟! كيف ساقونا سوقَ البهائم؟ لأنهم أماتونا أولاً، أخذوا الروح القرآن، ولكنهم ما عرفوا أين يضعونه، فقد تعهد الله بحفظه، حاولوا أن ينتزعوا من القرآن كلمة: (قل) فقط وعقدوا مؤتمرات سرية لذلك فما استطاعوا.إذاً: ماذا يصنعون به؟ حوَّلوه ليُقرأ على الموتى فقط، وما زال المسلمون إلى الآن يقرءون القرآن على الموتى! حتى إن بغياً-زانية-في دار البغاء يُؤتى لها إذا ماتت بأهل القرآن يقرءون عليها في بيتها! وعليه فلا تسألني كيف هبطنا؟! كيف متنا؟! كيف سادنا الشرق والغرب؟! كيف عزَّ اليهود الأذلاء وذل المؤمنون الأعزاء؟! تطلب دليلاً؟ الآن علمتم، ولن يَرُدَّ هذا أحد على الأرض.
وصف الله للقرآن الكريم بأنه روح ونور
قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] أيسميه الله روحاً وهو ليس بروح؟! ممكن؟! مستحيل، أيكذب الله؟! لمَ لم يقل: وكذلك أوحينا إليك قرآناً؟ بل قال: روحاً؛ ليعلِّم البشرية أنه لا حياة بدون القرآن، ومن عاش بدونه عاش حياة البهائم، يأكل ويشرب وينكح، وكل آماله في ذلك لا تخرج عنه.وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8] أي نور أنزله الله؟ والله إنه للقرآن، فهو نور، فالذي حفظه، فهمه، عرفه، عاش عليه، لن يضل أبداً، لن يخطئ طريق الحق أبداً، ولن يتيه في متاهات الحياة والنور بين يديه.
كيد الأعداء للكتاب والسنة
إذاً: عرفتم ما فعل بنا أهل الكتاب؟ لقد أبعدونا عن مصدر حياتنا: الكتاب والسنة. وهل تذكرون أن السنة النبوية -وهي المفسرة للقرآن، المبينة لأحكامه، الشارحة لكلماته- في عصور الهبوط تُقرأ للبركة، يجتمعون في الروضة في المسجد النبوي يدرسون البخاري فقط حدثنا حدثنا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، ولا يسألون عن حكمٍ في الأموال، ولا في السياسة، ولا في الاجتماع، ولا في الحرب، ولا في السلم، ولا في الآداب، ولا في الأخلاق، ولا في العقيدة، ولا في العبادة، أبداً، يسمعون فقط، فإذا فرغوا رفعوا أيديهم يدعون ليحصلوا على بركة دراسة كتاب البخاري!أزيدكم: توجد مؤلفات ومصنفات في الفقه، في العقيدة، لا يوجد فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمَ؟ لأن العدو أراد أن يميتنا، وأن يهبط بنا لنساويه وننزل إلى الدرك الأسفل دونه، فعرفوا الحياة والنور فأبعدونا عنهما فضللنا في متاهات الحياة وإلى الآن.
دعائم الدولة القرآنية الإسلامية
يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] من يقول: لا يا رب؟! أعوذ بالله، إن الواقع شاهد، ثم لمَ لما استقل العالم الإسلامي عن مستعمريه في الشرق والغرب ما طبق شريعة الله؟ من يقف ويدلل ويبرهن؟إن قلت: قد جهلوها فكيف يطبقونها؟! قلنا: الدولة القرآنية الإسلامية تقوم على ثلاثة دعائم يعرفها النساء والرجال والصبيان والعلماء والجهال، وهي بعض آية فقط من القرآن الكريم، إذ إن القرآن الكريم يحتوي على ستة آلاف آية ومائتين وأربعين، كل آية علامة أكثر من الشمس تدل على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وسميت الآية آية أو علامة -لا فرق بين آية وعلامة- لتدل على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، جاء ذلك في سورة الحج المدنية المكية، إذ بعضها مكي وبعضها مدني، جاء فيها قول الله عز وجل: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] ما معنى: مكناهم في الأرض؟ سوَّدنهم، حكَّمناهم، أصبحوا حاكمين سائدين في الأرض. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] ماذا فعلوا؟ الذي عاصرناه مع آبائكم أيام استقلالاتكم، أنه إذا تم الاستقلال ماذا نصنع؟! حفلات الرقص، والاختلاط، وشرب الخمر، والكذب، والصياعة، فهذه هي حفلات الاستقلال!!وأنتم لا تعرفون لأنكم أحداث، لكن كبار السن يعرفون حفلات رقص الاستقلال، والله يقول: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41] أي: أزمِّة الأمور بيد الله.فأيما إقليم يستقل عن الاستعمار، وتتكوَّن فيه دولة، هذه الدولة إن لم تقم على هذه القواعد الثلاث والله ما سعد أهلها، ولا طابت حياتهم، ولا كمُلوا، بل يسلبها الله في يوم ما من الأيام، فبلغوا أن هذا الشيخ الكبير في المدينة يعلن طول العام على أن محنة يقترب منها العالم الإسلامي وتقترب منه، وهي والله لأشد مرارة من الاستعمار، إلا أن ينقذنا الله بتوبة صادقة في أربع وعشرين ساعة، أمَا لو نستمر هكذا معرضين عن الله، عن ذكر الله، عن عبادته، نستحل ما حرم، ونستبيح ما منع، ونترك الواجبات، ونتخلى عن المسئوليات، وكأن الله لا وجود له، مع علمنا أن الله بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِا لْمِرْصَادِ [الفجر:14]، أتعرفون الرَصَد؟ يجلس فيه الرجل ويطلع على كل ما يجري.وعليه؛ فإما أن يتوب المسلمون -في أي بلد- ويرجعون إلى الله، فيكتب لهم المناعة، ويسودهم ويعزهم، وإما أن تستمر الحال هكذا حتى تدق ساعة سنة الله تعالى، فلله سنناً لا تتبدل ولا تتغير لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].
حكم وفوائد إقامة الصلاة
ما المانع أن نعود ونحن قادرون على العودة؟! يصدر قرار حكومي، جمهوري، ملكي، سلطاني: أنه لا يتخلف عن الصلاة جندي عسكري ولا مدني، فإذا دقت الساعة وأذن المؤذن تقف الحياة كلها، وتُقبل الأمة على ربها-ولهذا خلقت-فإذا قضيت الصلاة انتشر المؤمنون في الأرض ينتجون ويوجدون ويصنعون، فوالله لو أقيمت الصلاة بهذه الطريقة لاختفى الظلم، والفسق، والفجور، والكذب، والخيانة، والشر، والفساد تلقائياً.ولنقرأ لذلك قول الله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، وكأن سائل يقول: لمَ؟ ما فائدة إقامة الصلاة؟ فكان الجواب بالعلة: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] الصلاة إذا أقامها العبد أو الأمة من شأنها أو من خواصها أنها تمنعه من أن يأتي الفواحش أو يرتكب المنكرات، وعندنا مثل -نكرره- على ذلك وهو: لو مشينا في أي بلد إسلامي إلى المحافظ، أو مدير الشرطة والأمن، ونقول: يا سيادة الرئيس أعطنا قائمة بالجرائم التي ارتكبت في هذا الأسبوع أو في هذا الشهر، هذا زنى، وهذا سرق، وهذا ضرب أمه، وهذا لعن أباه.. وتُرفع القضية قطعاً للشرطة، فهي مدونة عندهم، فأعطانا القائمة، وأنا أقول لكم: والله لن تجد نسبة أكثر من 5% من أصحاب الجرائم من مقيمي الصلاة، و95% من تارك الصلاة ومن المصلين الذين ما أقاموا الصلاة، وهذا الكلام كررته أربعين سنة وزيادة، فهل وجد من نقضه فذهب إلى مدير الشرطة وقال: أعطنا قائمة بالمجرمين لهذا الأسبوع، ووجد أكثر من 5% من مقيمي الصلاة؟! إن سنة الله لا تتخلف، فالطعام يشبع أو لا؟ الماء يروي العطشان أو لا؟ الحديد يقطع أو لا؟ النار تحرق أو لا؟ الجواب: نعم، وإقام الصلاة سنة من سنن الله لن تتخلف، والمقيم للصلاة لا يأتي الفواحش ولا يرتكب المنكر.وإن سألت عن العلة سؤال فلسفة: إقام الصلاة عملية لتوليد الطاقة، عملية لتوليد النور، فهي كمولدات الكهرباء، إذا أُديت أداء صحيحاً في أوقاتها المحددة بشروطها وأركانها فلن تتخلف عن إنتاجها، بل تنتج النور يغمر قلب الإنسان، فيظهر على سمعه، على بصره، على لسانه، على جوارحه، والذي ما صلى من أين يأتيه النور حتى يعرف قبح الجريمة وسوء المنكر؟! والذي صلى وما أقامها حق إقامتها، وما حسَّنها فما ولَّدت وأنتجت؟! الفقيه يقول: صلاته باطلة، فمثلاً: صلى أحدنا المغرب ركعتين فقط، هل يقول له فقيه: صلاتك صحيحة؟! لا، وإنما يقول له: أعد صلاتك، فصلاتك باطلة، ولو أنه قال: أنا سأصلي المغرب أربع ركعات، فأنا في صحة وعافية، وقال: لمَ لا نزيد ركعة؟! فصلى المغرب أربع ركعات تفضلاً منه، فهل تجد فقيهاً يقول له: صلاتك صحيحة؟ لا والله، بل صلاته باطلة، فالفقيه يقول: باطلة، ونحن نقول الليلة ماذا؟! يا سامعيّ! ماذا نقول؟ ما أنتجت النور المطلوب منها، فهي عملية فاسدة، ما ولَّدت الحسنات، فيبقى القلب في ظلمة، وتنتشر الظلمة ودخنه على جوارحه، فيسمع الباطل ويرضى به، وينظر إلى الحرام ويتلذذ به، وينطق بالسوء ويجد له لذة وراحة، ويمشي على قدميه إلى الباطل ولا يتعجب؛ لأنه فاقد للنور، واسمعوا حتى أبرهن لكم: حديث البخاري، وهو حديث قدسي، أي: من كلام الله أوحاه إلى رسول الله، خارجاً عن القرآن، أي: ما هو في القرآن، وبالتالي فكلام الله: القرآن والحديث القدسي الذي يأتي به جبريل إلى رسول الله، أو يلقي الله في روع رسول الله فيفهم عنه، فهذا هو الحديث القدسي، وإليكم نصه:يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) يا ويح من يسرق أموال المؤمنين! من يفجر بنسائهم! من يسفك دماءهم! من يأكل لحومهم! من يحتقرهم ويزدريهم، أو يهينهم ويذلهم! على شرط أن يكونوا أولياء الله، أما إذا كانوا أعداء الله فافعل فلا حماية ولا مناعة، إنما هذه المناعة لأولياء الله تعالى فقط.والدليل على ذلك: أن قومك في بلادك لا يذكرون ولياً بسوء أبداً، ولا يستهينون به ولا بضريحه ولا بقبره، مع العلم أنه قد يكون ليس بولي، لكن استقر في أذهان المؤمنين على أن أولياء الله هم الذين ماتوا وضربت عليهم القباب، ووضعت عليهم التوابيت، ووضع عليها الأُزر الحريرية، ووقدت الشموع.. والآن لا ندري هل هناك شموع أو كهرباء؟ كنا نعرف إضاءة الشمع على قبر السيد ليلة الإثنين، ليلة الخميس والجمعة، وكأنه يبيت يقرأ على الشمعة! أمة هابطة، ميت تجعل له شمعة في قبره! ماذا يصنع؟ لا إله إلا الله! كالذي يضع له قصعة من الثريد! هل يأكل منها؟! ومثله الذي يقرأ عليه حزباً وحزبين من القرآن! هل يقوم يتفكر فيها؟! يتدبرها؟! لا إله إلا الله! وصلنا إلى هذا؟ إي والله.من فعل بنا هذا؟ إنه الثالوث الأسود المكون من اليهود والمجوس والنصارى، واسأل إذاعة بريطانيا عن هذا الثالوث الذي عزم على أن يطفئ نور الله؛ لأن هذا النور أضاء الدنيا، وهم يحبون الظلام ليعيشوا فيه، ما يريدون الحق ولا العدل ولا الطهر ولا الصفاء ولا الكمال.يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) أي: أعلنت الحرب عليه، فأسألكم بالله، هل الذي يحارب الله ينتصر عليه؟! هل ينكسر وينهزم ويتمزق؟ لا. وإن آذيت أولياء الله -طال الزمان أو قصر- والله لتتحطمن، فالحرب معلنة إلا أن تتوب، وهذا أمر مشاهد بالعيون.وقوله: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ) فتح لكم الباب أيها الطلاب لتدخلوا إلى قصر الولاية فتتخرجوا منها أولياء أفضل من عبد القادر، وسيدي أحمد فقال: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء )، أي: يتزلَّف ويتملَّق حتى يحبه سيده، والعوام يعرفون هذا فيما بينهم، فإذا أراد أن يحصل على شيء من عندك يأتي إليك فيصلح لك نعلك مثلاً، أو يتقرب إليك، أو يشكرك، ويقول لك: أنت سيد، أنت كذا، سمعنا عنك كذا وكذا.. حتى يستميلك، ولكنهم لا يعرفون التملق إلى الله. ستقول لي: يا شيخ! علماؤكم ما عرفوا هذا حتى يعرفه العوام؟ فأقول: التزلف إلى الله والتملق ولو بذكره.قوله: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ) لا أفضل من الفرائض أبداً، فيا من يريد أن يتملق إلى الله ليحبه ويواليه، الفرائض أعظم من النوافل بسبعين مرة، والغافلون يستهينون بالفريضة ويعبثون بها، ويتقربون ليلة كاملة بالنوافل وهي لا تنفع، ولذا فاعلم الفرائض، واعرف كيف تؤديها، واعرف أوقاتها وشروطها.. وتقرب بها إلى الله، فإنك ما تقربت بشيء أفضل منها.( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) تأملوا إماء الله وعبيد الله ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل ) أي: بعد أداء الفرائض، ( حتى أحبه )، فإذا أحبك الله نم فالمخاوف كلهن أمان، إذا أحبك عصمك فلا يرضى أن تتلوث ولو بكلمة سوء، فإن الله طيب لا يقبل إلا الطيبين، إذا قربك وأدناك وأصبحت وليه حفظك من التلوث، بل لن تتلوث أبدأ.إذاً: ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) كم سنة؟ كم شهراً؟ ما يزال يتقرب يوماً بعد يوم، شهراً بعد آخر، عاماً بعد عام ( حتى أحبه ).ونضرب المثل بالمعتاد، فقد بينا لكم في السابق أن ولاية الله أهلها يتفاوتون فيها، إذ إن كل الحاضرين أولياء الله، لكن مستواهم غير واحد.وقلنا: إن أصحاب رسول الله رضي الله عنهم ليس مستواهم واحداً، فـأبو بكر أفضلهم، ولكن الولاية ولاية، فمن آمن واتقى فهو ولي الله.كما ضربنا مثلاً بالرتب في الجيش، فهذا عسكري، وهذا ملازم أول، وهذا عريف، وهذا عقيد، إلى عشرة أو عشرين جنرالاً، عرفتم هذا أو لا؟ فهل بالإمكان أنك من أول أسبوع تدخل الجيش فتصبح جنرالاً؟ لا، إلا أن يشاء الله، فيهيئك تهيئة خاصة في أمر ما.قال: ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل ) يوماً بعد يوم ( حتى أحبه )، هنا أحببت أن أقول: من الجائز أن يُدخل عبد الله في طلب رضا الله وحب الله شهرين أو ثلاثة أو أربعة وإذا هو ولي الله، قد أحبه الله، وقد يعمل في هذا الشأن عشرين سنة حتى يظفر، وذلك لقصوره ولعدم أدائه هذه العبادات على وجهها، ولهذا قال: ( وما يزال -يوماً بعد يوم- يتقرب إليّ -أي: بأداء الفرائض والنوافل- حتى أحبه ) .وهنا معاشر المستمعين والمستمعات! من منكم يرغب أن يعرف هل أحبه الله أو لا؟ لو أجد من يخبرني أن الله يحبني لكدت أطير من الفرح؛ لأن من أحبه الله أمّنه، وحاشا لله أن يعذب أولياءه.أيها المتسابقون! أيها المتنافسون! هل منكم من عرف أنه أُحب أو لا؟ من يرغب أن يعرف؟ قولوا: كلنا، أو لستم في حاجة إلى هذا؟ نعوذ بالله.اسمع كلامه تعالى يبين لنا ويعرفنا الطريق، يقول: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به )، إذا وجدتَ نفسك يا بني أو يا أُخيّ لا تستطيع أن تسمع ما يغضب الله، وترتاح وتسعد لسماع ما يحب الله فاعلم أنك وصلت، وبالتالي فهؤلاء إذا سمعوا كلام الله، كلام رسول الله، كلام الحق، كلام الخير، كلام المعروف يرتاحون ويصغون ويسمعون ويطيب لهم المجلس، وإذا سمعوا كلمة منكرة، كغيبة، أو نميمة، أو أغان، أو أصوات عاهرات.. لا يستطيعون أن يجلسوا، وإنما يأخذون نعالهم ويخرجون، بل والله ليغلقون آذانهم، وكأنهم مدفوعون إلى هذا؛ لأن الله أحبهم، ومن أحبه الله لا يرضى له أن يلوث روحه بسماع الغيبة والباطل والكذب والسب، وهذه الحقيقة-والله-نسلٍّم بها كما علمتم.قال: ( وكنت بصره الذي يبصر به ) الولي أن ينظر إلى المؤمن فيرتاح، ينظر إلى أمه، إلى زوجته، إلى أولاده، إلى أقاربه.. فيسعد بالنظر إليهم، ولا يستطيع أن ينظر إلى امرأة لا تحل له؛ لأنه يشعر وكأن اللهب في وجهه، فلا يشعر إلا وقد طأطأ رأسه وأغمض عينيه، لأن الله أحبه، فلا يتركه يتلوث ويتلطخ بالآثام والجرائم وهو حبيب الله، وإنما يحفظه من ذلك، وجرب ذلك في نفسك، فإذا وجدتَ أنك لا تقوى على أن تسمع الباطل، ولا أن تنظر إلى الحرام، فاعلم أنك قُبلت من يوم ما أصبحت هكذا.قال: ( وكنت لسانه الذي ينطق به )، فملك الله سمعك فلا يسخره إلا في رضاه، وملك بصرك فلا يسخره إلا في رضاه، وملك لسانك فلا تستطيع أن تنطق إلا بما يحب، فتجلس مع أخيك-ولي الله-عاماً وعامين ما تسمع كلمة سوء أبداً، ما ينطق بها، من عصمه؟ من حفظه؟ إنه الله؛ لأنه تقرب إليه حتى قبله ورضي عنه وأحبه، فهنا يحفظه حتى لا يتلوث، وإن زلت القدم ووقع الشيطان عليه، ووضع عصابة سوداء على عينيه، وارتكب يوماً ذنباً من الذنوب، فإنه يلهم على الفور أن يستغفر الله، ويندم ويتألم ويحزن حتى يزول ذلك الأثر، وتبقى الولاية ثابتة.قوله: ( وكنت يده التي يبطش بها ) الأبطال يختطفون الفارس من على صهوة جواده على الأرض ويأخذون القنطار ويرفعونه، والله لا يستطيعون أن يتناولون بأيديهم كأس خمر، ولا يستطيعون أن يمسوه بأيديهم أو يلطمون وجه مؤمن؛ لأن يده ملكها الله، فلا يستخدمها إلا فيما يرضيه ويحبه ( وكنت يده التي يبطش بها )، فإذا ملك يدك سخرها فيما يحب لا فيما يسخط.قوله: ( وكنت رجله التي يمشي بها )، قد عرفنا أيام كنا مع العوام يعجز الرجل أن يمشي مائة خطوة إلى المسجد، فيصلي في بيته، لكن إن أُعلن عن حفل غناء ورقص أو عرس ووليمة، فإنه يمشي عشرة كيلو أو عشرين كيلو! فانظر العجب؛ لأن الله ما ملك رجله، وإنما ملكها الشيطان، فيدفعه إلى حيث يغضب الله جل جلاله، ولا يدفعه حيث يرضى الله جل جلاله.وأخيراً يقول الله تعالى: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني ) أي: طلب الحفظ ( لأعيذنه، ولئن استنصرني لأنصرنه )، وأعظم من ذاك وذا ( وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ) لا إله إلا الله! أبشروا يا أولياء الله، يعلم أن وليه يكره الموت وهو لا يريد أن يؤذي وليه، ولكن لا بد من الموت ( وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته )، هذا سبب التردد. إذاً: هنيئاً لكم يا أولياء الله. عرفتم الطريق إلى الولاية، فزكِ نفسك يا عبد الله وطيبها وطهرها بأنواع العبادات، فإذا طابت وطهرت قبلك الله ووالاك، وإذا مت أنزلك بجواره.أما الروح الخبيثة العفنة المنتنة بأوضار الذنوب، والآثام، والشرك، والكفر، والربا، والزنا، وقتل النفس، والغيبة، والنميمة، والحسد، والكبر.. فهذه الظلمات صاحبها ما يرقى إلى السماء، ولا ترفع روحه إلى الله.والدليل على ما نقول: قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهذا حكم الله صادر علينا، فهل هناك من يعقب على الله ويبطل حكمه؟! أمَا قال في سورة الرعد: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]؟ أيما قاضٍ يصدر قضاء أو حكماً قد يعقَّب عليه، قد يخطئ أو يجهل أو ينسى، أما الله فمن يعقب عليه؟! قَدْ أَفْلَحَ [الشمس:9] ما معنى: أفلح؟ التجار يعرفونه في تجارتهم، في مزارعهم، ألا وهو بمعنى: فاز ونجا من المرهوب وظفر بالمرغوب المحبوب. واسمع إلى حال أصحاب الأرواح الخبيثة التي سببها الكفر والتكذيب وعدم العمل بما تطهر عليه النفس، جاء في آية من سورة الأعراف ما ننساها: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]. وسم الخياط: الإبرة التي لها ثقب يدخل فيه الخيط، ذاك سم الخياط، فهل البعير أو الجمل الأورق يستطيع أن يدخل في عين الإبرة؟! مستحيل. إذاً: فصاحب الروح الخبيثة مستحيل أن يدخل دار السلام، إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40] يعني: لأرواحهم، فالروح لما تقبض يعرجون بها إلى السماء فتغلق الأبواب في وجهها وتهبط إلى الأسفل وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، الذين أجرموا على أنفسهم، فصبوا عليها أطنان الذنوب والآثام فنتنت وتعفنت، وما أصبحت أهلاً للملكوت الأعلى لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ فراش وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ أي: أغطية، فالنار فراشهم وغطاؤهم وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41] هذا جزاء الظالمين أرضاً، الذين ظلموا أنفسهم الطيبة الطاهرة وهم صبية وغلاماناً، فلما بلغوا وأصبحوا مكلفين أخذ يصبون عليها أطنان الذنوب والآثام ظلماً لها، فخبثت وأنتنت وتعفنت، فلن يرضاها الله ولا نحن أيضاً.والآن لو يجيئنا فحل يلبس ثياب ملطخة بالقيح والدماء، والرائحة المنتنة، فهل نفسح له في المجلس؟ لا، وإنما نقول له: اذهب يا نجس، اخرج، فكذلك دار السلام دار الطهر والصفاء، لا يدخلها -والله- إلا الطيبون الأطهار الأصفياء، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].
الطريق إلى ولاية الله تعالى
معاشر المستمعين! هذه ذكرى لا ننساها، فلو قيل لنا: كيف نرجع إلى الله وقد غشينا الظلم والفسق والفجور، وخرجنا عن عبادة الله وطاعته، وتهنا في متاهات الحياة؟ ما الطريق؟ دلونا؟ تقولون على علم: لن تستطيع يا عبد الله أن تستقيم على منهج الله إلا إذا عرفت الله، وعرفت ما يحب وما يكره، وعرفت كيف تتملق وتتزلف إليه بأداء ذلك المحبوب، والبعد وترك ذلك المبغوض المكروه، فلا طريق إلا العلم، وكلمة إبراهيم وإسماعيل ما ننساها: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فهل استجاب الله أو لا؟ نعم، استجاب في ذرية محمد وإسماعيل، وأصبحت تلك الأمة مضرب المثل في الكمال ثلاثة قرون، ثلاثة أجيال، ثم تسلط عليها الثالوث فهبط بها.فهيا نعد، فلا طريق إلا أن نعود إلى بيوت الله بنسائنا وأطفالنا، في جامع القرية أو الحي، وذلك كل ليلة من غروب الشمس إلى أن نفرغ من صلاة العشاء، فنحفظ آية من كتاب الله بعد أن نتغنى بها وتدخل كلها في قلوبنا، ثم يبين لنا المربي العليم الحكيم مراد الله منها، ثم العمل والتطبيق بها، يوماً آية ويوماً حديثاً، وعند ذلك سنة ويتغير وضع البلاد تماماً، ويصبح أهل القرية كلهم أولياء الله، حتى لو أنهم رفعوا أيديهم على أن يُزيل الله الجبال لأزالها.. على أن يدمر عدوهم لدمره، أما قال الله: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه )؟أرأيتم أهل إقليم -مدنهم وقراهم- قالوا: الآن نعود إلى الله، وعادوا إلى تعلم الكتاب والحكمة في صدق، وأخذوا يتعلمون ويعملون، سنة أو سنتين فقط، كيف يصبحون؟ لاشك أنهم سيصبحون أولياء الله كالملائكة، وتهجرهم الشياطين من الإنس والجن. وإن أردت التفصيل: فوالله ما يبقى فقر، ولا هون، ولا دون، ولا ذلة، ولا مسكنة، ولا ظلم، ولا خبث، ولا شر، ولا فساد أبداً.. يصبحون فاعلين، يبحثون في الأرض ويخرجون كنوزها، ويزرعون فينبت النبت، وتنزل بركات السماء بدون أن يتكلفوا شيئاً، فقط قالوا: نرجع إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحقق دعوة إبراهيم وإسماعيل، فيؤذن للمغرب فتأتي إلى القرية فلا تجد رجلاً ولا امرأة إلا في المسجد، دقت الساعة السادسة في المدينة فلا تجد أبداً إلا من هو يهرع إلى بيت الله، يتعلمون العلم الحقيقي: قال الله، قال رسوله، ويتدرجون في التطبيق والعمل، وبالتالي فمستحيل أن يبقوا فجرة أو فسقة أو مجرمين، سنة الله لا تتبدل.هذه هي الدعوة فقوموا بها، والعودة العودة والإنابة والتوبة الصادقة إلى الله.لما نجتمع في المسجد كلنا هل يبقى فينا من يقول: سامحوني أنا مالكي؟ هل سيوجد من يقول هذا الكلام؟ يستحي.هل سيوجد من يقول: أنا حنفي؟ هل يبقى من يقول: أنا زيدي؟ أنا أباضي؟! لا وجود لهذا، وإنما قال الله قال رسوله، أصبحنا أمة واحدة كما أراد الله، فالبعد عن الكتاب والسنة هو الذي مزقنا فرقاً وأحزاباً وجماعات. وهل يبقى بين الربانيين من يقول: هذا وطنه كذا وهذا كذا، وهم أمة واحدة؟!لا. يا حجاج بيت الله! يا وافديّ المسجد النبوي! هل علمتم هذا؟ ادعوا بهذا وبلغونا نزوركم، نزور هذه القرية التي إذا دقت الساعة السادسة أقبلوا على بيت الله، وهم مجتمعون بنسائهم وأطفالهم يتعلمون الكتاب والحكمة، ومن أراد أن يدلل نقول له: أهل قريتك أعلمهم بالله أتقاهم لله، أليس كذلك؟ بلى، فهل عرفتم علماء ربانيين زناة؟ لائطين؟ مرابين؟ خونة؟ والله ما كان، بل أعلمنا هم أطهرنا، فلا سبيل إلى الطهر والصفاء إلا هذا العلم فقط، العلم الجاد الصادق، نجلس في بيت ربنا نستمطر رحمته، ونطلب هداه ومعرفته، فاذكروا هذا ولا تنسوه.وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (37)
الحلقة (178)
تفسير سورة آل عمران (42)
تقوى الله عز وجل سبب كل فلاح، فلابد للعبد أن يتقي الله حق تقواه، باتباع ما أمر به سبحانه، وما أمر به رسوله صلوات الله وسلامه عليه، واجتناب ما نهى عنه سبحانه، وما نهى عنه رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وبذلك يتحقق لهم الإيمان الحق الذي امتدحهم الله سبحانه وتعالى به في مواطن كثيرة من كتابه العزيز.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع نداء من نداءات الرحمن لأهل الإيمان، والنداء من سورة آل عمران، ونصه بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].
الحكمة من مناداة الله لعباده المؤمنين
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قد سبق أن علمتم-زادني الله وإياكم علماً-أن الله جل جلاله وعظم سلطانه لا ينادي عباده المؤمنين إلا لواحدة من أربع: إما ليأمرهم باعتقادي أو قولي أو فعلي، ما من شأنه أن يزكي نفوسهم ويطهر أرواحهم؛ لتستوجب رضاه والنزول بجواره، أو يناديهم لينهاهم عما من شأنه أن يُخبِّث نفوسهم، فيدنو من سخط الله وغضبه. وما ينهاهم عنه فقد يكون اعتقاداً باطلاً، أو قولاً سيئاً، أو عملاً فاسداً، إذ هم أولياؤه وهو مولاهم ووليهم، ولا يرضى لهم أبداً أن يتلوثوا، أن تتعفن أرواحهم فتصبح كأرواح الشياطين، فيلعنها بعد أن يسخط عليها، ويبعدها من ساحته، أو يناديهم ليبشرهم بما من شأنه أن يزيد في إيمانهم وأعمالهم الصالحة، أو يناديهم ليحذرهم، لينذرهم من مخاوف، من عقائد أو سلوك أو عمل، من شأنه أن يغضبه عليهم، وهم أولياؤه وهو وليهم، فلا يرضى لهم أبداً أن يخبثوا ويتلوثوا، أو يناديهم ليعلمهم العلم النافع لهم، ذاك العلم الذي هو نور يهتدون به إلى ما يحقق لهم إرضاء ربهم عز وجل عنهم، هكذا عرفنا فلا ننسى هذا.
نعمة الإيمان سبب لمناداة الله لنا
وشيء آخر يا معشر الأبناء والإخوان! ويا مؤمنات! من نحن حتى ينادينا رب السموات والأرض وما بينهما، الذي خلق الخلائق كلها، الذي أدار الأفلاك كلها، الذي بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير، الغني الذي كل شيء مفتقر إليه وهو غني عما سواه؟! من نحن حتى ينادينا؟! كيف أصبحنا أهلاً لأن ينادينا؟! الجواب: إنها نعمة الإيمان، لما آمنا به وعرفناه، وأحببناه ورغبنا في جواره وما عنده أحبنا، ولذلك ينادينا ليأمرنا أو ينهانا، ليبشرنا أو ينذرنا، ليعلمنا ما نحن في حاجة إلى معرفته والعلم به، فقولوا: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.
مناداة الله لعباده المؤمنين بأن يتقوه حق تقواه
نادانا في هذا النداء ليأمرنا أولاً: بتقواه عز وجل حق التقوى، نادانا بعنوان الإيمان؛ لأننا مؤمنون، والمؤمنون أحياء يسمعون ويبصرون، يعقلون ويفهمون، يقدرون على الأخذ والعطاء، على الفعل والترك، أما الكافر فهو ميت، وهل الميت ينادى؟! وهل إذا نوديَ يسمع؟ وإذا أُمر يفعل؟ وإذا نهي ينتهي؟ الجواب: لا، وإنما ينادى الحي.وقد تذكرون برهنة هذا وقد تنسونها، كيف تفرقون بين حياة المؤمن والكافر؟ هل تذكرون ما علمتم؟ أن أهل الذمة من أهل الكتاب والمجوس في ديارنا لا نأمرهم بالصلاة، ولا نأمرهم بالصيام، ولا نأمرهم بالزكاة، ولا نأمرهم بالحج، ولا نأمرهم بالجهاد، ولا بالرباط، ولا بالصدقات، لماذا؟ خوفاً منهم؟! أليسوا تحت رايتنا ونحن السائدون؟! لمَ لا نأمرهم وننهاهم؟ لأنهم أموات، أتأمر ميتاً؟! كيف يعقل هذا؟! فإذا نفخنا فيه الروح وحيي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فمُره بالغسل يغتسل، مره بالصلاة يصلي، انهه عن الخمر وما يتعاطاه من المحرمات ينتهي؛ لأنه حيي، أصبح حياً بين الأحياء، أما وهو ميت فكيف نكلف الأموات؟! هل أدركتم هذه الحقيقة؟ برهنة كالشمس، والذي يرد عليك ويقول: ما هذا؟ كيف تفرق بين الأحياء وتقول: هذا حي وهذا ميت؟ فقل له: الحياة حياتان: حياة بهائمية لا قيمة لها، وأهلها كالأموات، بل هم أضل، وحياة حق، وهي حياة الإيمان والمعرفة، وهذه التي يُكلَّف صاحبها، وينهض بالتكاليف ويقدر عليها.
حقيقة الإيمان بالله تعالى وأصاف المؤمنين به تعالى
ما هو الإيمان؟ كل يدعي أنه مؤمن، فهل عرفت الله الذي آمنت به، أو تقول: هاه! لا أدري؟ كيف تؤمن بما لا تعرف؟! إن كنت آمنت فدلل وبرهن على إيمانك، وقد تعلمتم -زادكم الله علماً- آيتين واضحتين في القرآن الكريم، من أراد أن يمتحن نفسه هل هو مؤمن أو غير مؤمن فلينظر إلى آية في سورة الأنفال، وآية أخرى في سورة التوبة، فإن رأى نفسه تنطبق عليه تلك الآية مع مواكب المؤمنين فليبشر، وليهلل، وليكبر، وليحمد الله، وليقل: إني مؤمن، وإذا وجد غير ذلك فكيف يكون مؤمناً؟! وكيف يقول: أنا مؤمن؟! وأتل عليكم هاتين الآيتين لتشاهدوا بأنفسكم هل تنطبق فيكم أم لا؟الأولى: من سورة الأنفال، بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2]، يا عرب! إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2]، هذه الصيغة ترد على دعاة الإيمان بالباطل، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الأنفال:2] بحق وبصدق لا بالادعاء والنطق، و(إِنَّمَا): أداة حصر وقصر إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] أي: يرتفع منسوب الإيمان عنده، وكأنه يشير إلى المائة والخمسين إلى مائتين وعشرين، على الفور، دلالة على وجود إيمان حي، وإلا كيف يرتفع؟! إذا تليت عليه الآيات ولم يرتفع منسوب إيمانه فهو ميت وغير حي، إيمانه جامد ليس بسليم ولا صحيح، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] فاللهم اجعلنا منهم، آمين. أجرح إخواننا، وهم مستحقون للجراح حتى يعالجوا أنفسهم، الذي يبيع المحرمات في مدينة الرسول توكل على الله؟! يقول: لولا بيعي لكذا وكذا.. ما حصلت على قوتي، ولا عشت! بالإجمال: المتوكل على الله لا يتعاطى ما حرم الله من أجل الخوف من الجوع أو المرض أو الموت، إذا أمره الله أو نهاه لا يبالي بمخاوف الشياطين وما تزينه أو توسوس به، ويصبر على ترك ما حرم الله، ذلك هو المتوكل على الله، الذي يفوض أمره إلى الله، إن عذبه حمده على التعذيب، وإن أسعده حمده على السعادة، اطرح بين يديه وفوض أمره إليه، إلا أن هذا يا أبنائي لا يتم لأناس ما عرفوا الله، كيف يتم لهم وهم ما عرفوه حتى يتوكلوا عليه؟! الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:3-4]، هذه الآيات من سورة الأنفال ما سمع بها المسلمون؛ لأنهم لا يقرءونها على الموتى؟! إذاً: كيف وجدتم أنفسكم يا أبنائي؟ هل انطبقت هذه الآيات على كل واحد منكم أم لا؟ من وجد ذلك فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فليسأل الله من فضله.الآية الثانية: من سورة التوبة، وذلك لما ادعى المنافقون ما ادعوه من الإيمان، قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ [التوبة:71] بحق وصدق لا بالادعاء والنطق، و(أل) هنا للأصالة وللعراقة والمتانة في اللفظ وَالْمُؤْمِنُون َ [التوبة:71] بحق، وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، المؤمن ولي المؤمن، والمؤمنة ولية المؤمن والمؤمنة، ومن هنا سادهم الحب والولاء، فلا يكذب مؤمن على مؤمن، ولا يشتم أو يسب المؤمن المؤمنة، ولا يغش ولا يخدع ولا يهزأ ولا يستسخر ولا.. ولا.. فضلاً عن أن يتركه فريسة للعدو من الشياطين والإنس، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] النصرة الكاملة، والحب الشامل الكامل، فالذي لا يحب المؤمنين -والله- ما هو بمؤمن، والذي يخذل المؤمنين ويهزمهم ويعرِّضهم للمحن والإحن والبلاء؛ والله ما هو بمؤمن، والذي ينهك أعراضهم ويأكل أموالهم ويمزق كرامتهم ويهينهم ويدوسهم بنعاله؛ والله ما هو بمؤمن.وإن قلتم: يا شيخ! أمة المسلمين هذه حالها في كل مكان، فالجواب: ما عرفوا الله حتى يؤمنوا به، كيف يعرفونه وما سألوا عنه، ولا قرعوا أبواب العلماء، ولا نزلوا على عتبة أبوابهم يطالبونهم بمعرفة الله؟! يسأل أحدهم عن البصل والثوم، وعن الفحم واللحم، ولا يسأل عن الله! كيف يعرف الله؟! وقد عرفتم الدليل على معرفة الله: هو حبه له وخوفه منه، فالذي لا يحب الله ما عرفه، والذي لا يخاف الله والله ما عرفه، ماذا نصنع؟ هيا نتعلم، قالوا: ما نستطيع أن نتعلم! لمَ لا نستطيع أن نتعلم؟ هذا أمر أعظم من أي عظيم في حياتنا، لمَ لا نتعرف إلى ربنا حتى نحبه ونخافه؟!إذاً: وَالْمُؤْمِنُون َ [التوبة:71] بحق وصدق، وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] الولاء والبراء سائدة في الأحزاب والجماعات والمنظمات! وحب المؤمنين لبعضهم البعض فريضة الله، إذ إن آية الإيمان وعلامته: نصرة المؤمنين لبعضهم بعضاً؛ لأن ذلك من أوجب الواجبات، وألزم ما يلزم يا عبد الله ويا أمة الله، أما أن يزني بعضهم بنساء وببنات بعض، ويسرق أموالهم، ويحتقرهم ويزدريهم، ويتكبر عليهم، ويحسدهم ويبغضهم و.. و.. و.. من هذه الفضائح، ويقول: نحن مؤمنون! أين الإيمان؟! أين الولاء؟! يقتل بعضهم بعضاً، ولا يستطيع أحد أن يقول: هذا باطل أو منكر، أو يدعوا إلى صلح أو مصالحة، أين الولاء؟! يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71] فلهذا تدخل قرية المؤمنين أو مدينتهم لا تسمع -وإن عشت بينهم أربعين سنة- بأن فلاناً زنى أو فلانة زنت، بمن يزني وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟! كيف تزني هذه المرأة وهي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فلا تسمع أبداً بجريمة من الجرائم إلا نادراً؛ لفقدان وانطفاء نور الإيمان على العبد، فيحصل هذا مرة في زمانه، أما أن يعيش أهل البلد يزني بعضهم بنساء بعض، فهذا من المنكر العظيم، ولو أقص عليكم ما أسمع وما يسألونني تبكون الدماء، نسأل: أفي مدينة الرسول؟! ما هذا الذي حصل؟! ما هذه الانتكاسة؟! أردة بعد إيمان؟! أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! حتى الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر يسخرون منهم، ويستهزئون بهم، ولا يلتفتون إليهم.
هلاك الصالح والطالح إذا كثر الخبث
صاح أبو القاسم صلى الله عليه وسلم في عشية من العشايا لغبار وغيم وسحاب وعواصف ويقول: ( ويل للعرب من شر قد اقترب، فتقول أم المؤمنين: أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟! فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم، إذا كثر الخبث )، نعم نهلك وبيننا الصالحون إذا كثر الخبث، وهذا حديث صحيح، وقد وضع القواعد التي لا تنخرم على مدى الحياة، والخبث هو الغش، الخداع، الكذب، النفاق، الزنا، اللواط.. ماذا أقول؟ أي شيء هو خبث. ومع الأسف عرف هذا خصومنا، عرف هذا أعداؤنا، عرف هذا اليهود والنصارى، فعملوا على نشر الخبث في العالم الإسلامي، فخمَّت ديار العالم الإسلامي بالخبث، وندر الطهر فيها والصفاء، وهي تتأهل للفتنة العامة، والضربة الربانية، وهذا البلد الأمين، وهذه البقعة الطاهرة، تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يحكمون شرع الله، فتضايق الأعداء، وتململوا، وتحرجوا، كيف يصنعون؟ كيف يعملون؟ فعرفوا، ومددنا أعناقنا فهبطنا! من يوم ما أصبحت العاهرات تغني في بيوتنا عرفنا الطريق إلى الهاوية! هذا بيت مسلم تدخله فتجد رجلاً وامرأة ومعهم البنون والبنات وعاهرة تغني على شاشة الفيديو والتلفاز! أهذا البيت يُحتضن بالطهر؟! والله ما احتضنه الطهر.والعجيب-كما ذكرنا-أنك تجد هذا في مدينة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقد قلنا هذا وبكينا، فتمر بأسواق المدينة فتجد دكاناً من أعلاه إلى أسفله يحتوي على أشرطة أغاني، بل حول مسجد رسول الله قبل أن تهدم هذه المباني، كان هناك دكان يسمى بالديكور أو بالبلكور، من أعلاه إلى أسفله يحتوي على أشرطة أغاني، من يشتريها؟! من يغني في بيته؟ آلله أمر بهذا؟! لا والله، وهل الرسول سمح بهذا وهو الذي يقول: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ) ويغضب ويتجلى الغضب في وجه الطاهر، فتعرف ذلك أم المؤمنين وتقول: أتوب إلى الله ورسوله، ويقول: ( أزيلي عني قرامَك يا عائشة )، وهي خرقة من الصوف فيها صورة منسوجة بالصوف على نافذة تُسْتُر بها بعض حاجتها. والآن خمَّت البلاد من الزنا والعهر والجرائم، ولولا هذه الدويلة-التي نسأل الله أن نموت ولا تموت-وهذا الظل والله لرأيتم -إن عشتم- العجب العجاب، مُسخت القلوب، انطفأ نور الإيمان، ونحن تائهون في متاهات لا ندري ما مصيرنا؟! فهيا نتب. كيف يتصور هذا في مدينة الرسول؟! في بلد الإسلام وشرعه ينتشر هذا الخبث بين الناس؟! جاءني إلى البيت مؤمن يبكي ويقول: أشاهد الرجال يدخلون على بيت جاري! ماذا أصنع؟ قلت له: علِّمه، انصحه، ابعث زوجتك لتنصح زوجته. وآخر يقول: كذا وكذا. وواحدة تقول: زوجي يعرف إحدى عشرة امرأة! ما هذا الخبث؟! كيف انتشر؟! بالسحر؟! والله ما له من أسباب سوى أننا فتحنا أبوابنا وقلوبنا للشياطين، والأغاني والمزامير والطبول، وما إلى ذلك وشيئاً فشيئاً حتى قست القلوب وماتت لدى أكثرنا، وسوف نذوق الألم والمرارة إن طالت الحياة بنا.
العلم النافع طريق إلى معرفة الله تعالى
هذا الله عز وجل يأمرنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] فهيا بنا نعمل على أن نتقي الله، قولوا للناس: اتقوا الله، وأولاً: عرفوهم بالله حتى يعرفوا عظمته، سلطانه، قدرته، وجوده، رحمته، ملكوته، ثم عرفوهم بمحابه، علموهم ما يحب ربهم وما يكره، وعلموهم كيف يفعلون المحبوب، وكيف يقدمونه له تملقاً وتزلفاً ليرضى ويحب، ولا يعذب ولا يشقي.عدنا من حيث بدأنا، ووالله ما هناك حيلة، لو يخرج عمر ما استطاع إلا من طريق: هيا يجب أن نتعلم.كيف نتعلم؟ المدارس والجامعات والكليات موجودة، فماذا تريد من هذا العلم؟ أين يُذهب بعقلك؟! قلنا: أين آثار تلك المدارس والجامعات والكليات؟! أين آثارها في مظاهر الحياة.. في العز والكرامة.. في الصدق والوفاء.. في الطهر والصفاء.. في المودة والرحمة والإخاء.. في الرغبة في الملكوت الأعلى؟! أين آثار ذلك؟! إن وجودها أصبح كعدمها؛ لأن العدو الذي رسم ووضع الخطط، وضع طلب العلم للوظيفة فقط، وأتحداكم أن تأتوا لي برجل -واسمحوا لي إن شئتم أو ادعوا علي- يقول لولده: يا ولدي! تعلم كيف تعرف ربك، تعلم كيف تعبد مولاك، تعلم كيف تحصل على رضاه، بل لا نجد إلا: تعلم لتكون كذا وكذا.. تعلم لتصبح كذا وكذا.. وهذا كان مع الذكور، والآن والله مع الإناث أيضاً، تعلمي لتكوني كذا وكذا.. فكيف نرتفع وقد لصقنا لصوقاً كاملاً بالأرض؟!
الطريق إلى رفعة هذه الأمة
بحت حلوقنا ونحن نردد هذه الكلمة، وملها الغافلون أيضاً، فأصبحوا لا يريدون سماعها: الطريق -إن أردنا أن نتعلم العلم الذي يرفعنا إلى الملكوت الأعلى، هو: أن يجتمع نساؤنا ورجالنا في بيوت ربنا، هذا الاجتماع على هذه الصورة في بيوت ربنا المتواجدة في كل حي وفي كل مكان من مدننا، نساؤنا وراء الستار، وأبناؤنا دونهن، وفحولنا -كأنتم- في الأمام، والمربين بين أيديهم، وفي ليلة يحفظون آية من كتاب الله، وليلة أخرى يحفظون حديثاً من أحاديث رسول الله، فيحفظون ويفهمون، وكلهم عزم وصدق في أن يعملوا بما علموا، فيعودون والأنوار تغمر قلوبهم وجوارحهم، وذلك كل ليلة وطول العام وعلى مدى حياتنا، ووالله الذي لا إله إلا الله غيره -ولا تقولوا: لمَ يحلف الشيخ كثيراً؟ أما ينتقد الناس الحلف؟ والجواب: الله يحلف، ورسول الله يحلف، إذ إن الحلف حتى يُقبل الخبر ويصدق، وهذا شأن الإنسان، إذا لم تحلف له لا تطمئن نفسه- لا يمكن لأهل بلد في العالم الإسلامي أن يعودوا إلى الطهر والصفاء، والولاء والمودة ولإخاء، إلا إذا سلكوا هذا المسلك الذي سلكه رسول الله والمؤمنون، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، ولم يبق مقهى ولا مطعماً ولا دكاناً ولا متجراً ولا.. ولا..إلا أُغلق؛ لأن كل أهل المدينة أو القرية قد تطهروا، وحملوا نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، يستمطرون رحماته، ويطلبون آلاءه وإنعامه وإحسانه إليهم، ويتعلمون الهدى، وعند ذلك والله ما تمضي سنة وما في القرية جاهل وجاهلة بربها، وإذا زال الجهل وحل محله العلم فلا تسأل عن الطهر كيف ينشر؟! وعن الولاء والمودة ولإخاء كيف يتم؟! فكل مظهر من مظاهر الباطل والسوء اختبأ، وإن شذ شاذ فالشاذ لا حكم له.وإن قالوا: نحن لا نستطيع على ذلك! قلنا لهم: كيف لا تستطيعون وأنتم تقتدون بالنصارى، وتعتزون بسلوكهم وبنظامهم وبديمقراطيتهم وبحضارتهم، وهم إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل، ولبسوا أحسن ثيابهم، وأخذوا نساءهم وأطفالهم إلى دور السينما، إلى المراقص، إلى المقاصف، إلى الملاهي، إلى الملاعب، حتى نصف الليل أو ثلث الليل؟! استطاعوا هذا ونحن الذين نريد أن نسود الدنيا، ونقود البشرية لا نضحي بساعة ونصف! ونحن الذين نريد أن نخترق السبع الطباق، وأن ننزل بالملكوت الأعلى في الفراديس العلى؟! هذه المسافة كيف نجتازها؟ كيف نصل إليها؟ نشح بساعة ونصف نتعلم فيها هدى الله؟ أين يُذهب بعقولنا لو كنا عاقلين؟ لمَ العلماء لا يرددون هذا الكلام؟ هل أنهم لم يفهموه؟ لا، بل هو مكتوب علينا. جاء في سورة الأعراف قول الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الأعراف:175]، من يأمر؟ الله، ومن المأمور؟ رسول الله، ومن المقروء والمتلو عليهم؟ نحن. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ [الأعراف:175]، كيف ينسلخ منها؟ هل كان يلبسها كالثوب؟! تعرفون الثعبان يا أهل الصحراء ينسلخ من ثوبه ويترك الأبيض نظيفاً، ويذهب هو أسوداً، فالآيات هي كتاب الله وسنة رسوله، والانسلاخ منها: وضعها على الرفوف، وعدم قراءتها ودراستها والعمل بها والتفقه بما فيها. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175] أي: أدركه، كان الشيطان خائفاً يوسوس من بعيد، ما يقوى على أن يصل إلى هذا القلب المعمور بالنور، فلما زالت الحصانة وانتهت المناعة -إذ كانت في كتاب الله وهدي رسوله-أصبح ذاك الإنسان أهْلاً لأن يركبه الشيطان، فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175] والغاوي من الغي، أي: الوساخة، الكذب، الزنا، الربا، اللواط، الغش، الخداع، خلف الوعد، الكره، البغض، فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]؛ لأن الشيطان هو الذي يغمسه في هذه الأغياء، فيعلمه الخيانة والكذب والفجور والباطل والشرك وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176] لمَ هذه الآية ما يقرؤها العرب والمسلمون؟! هل لأنها لا تُقرأ إلا على الموتى أم أنها طويلة؟! وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ [الأعراف:176] بماذا؟ بِهَا [الأعراف:176]، أي: بالآيات، فهل هناك رافعة لأمة العرب من هبوطها وسقوطها غير آيات الله؟ والله لا رافعة لهم، فقد جربوا الاشتراكية وقالوا: اشتراكيتنا نوالي من يواليها، ونعادي من يعاديها، فتمزقوا وتمنطقوا أكثر من أربعين سنة، وبعد أين وصلوا؟! كذلك الجمهورية، أين آثار الجمهوريات؟ أصبحت نيراناً أحرقت من فيها، والآن يطالبون بالديمقراطية والعدالة! وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [الأعراف:176] ما هي الرافعة؟ آيات الله، هل سبق أن رفعت أو لا؟ نعم، سبق أن رفعت أمة العرب حتى أصبحت مضرب المثل في كمال البشرية، فقد كانت أمة جاهلة لاصقة بالأرض وثنية تعبد الأوثان، فرفعتها خلال خمسة وعشرين سنة فقط. وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176]، هذا هو الواقع، فأبناؤنا وبناتنا تعلموا لأجل الوظيفة والخبز، كل شيء للخبز. وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176] لا عقله ولا هدى الله له.إذاً: ماذا حصل؟ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176]، لو كنا لا نحفظ القرآن لقلنا: كيف أن القرآن فيه هذه الكلمة؟! فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] من هذا؟ الذي انسلخ من آيات الله ومشى في ظلمة الحياة، فاستولت عليه الشياطين فأغوته وحطمت كرامته، وأصبح في هذه الوضعية كالكلب إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] بالتجربة، إن جريت وراء الكلب والعصا بيدك لهث وأخرج لسانه، وإن تركته تحت الشجرة والظل والماء بين يديه والله يلهث -شاهدناهم- فوالله لن ينتهي لهث العرب والمسلمين إلا إذا عادوا إلى الرافعة، لا فلسفة ولا باطل ولا.. ولا.. وإنما قال الله وقال رسوله، إيمان صادق، وقلب متفتح يريد الملكوت الأعلى.قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:102] لو كنا صادقين لقلنا: يا رب! كيف نتقيك؟ علمنا، دلنا. يقول: عليكم بعلمائكم يعلمونكم كيف تتقون الله، وإن شاء الله غداً نتعلم كيف نتقي الله تعالى.والله أسأل أن يتوفنا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (38)
الحلقة (179)
تفسير سورة آل عمران (43)
ولاية الله عز وجل هي أمل كل عبد من عباده، ومنتهى مطلب كل من على ظهر هذه البسيطة، وهذه الولاية لا تتحقق لكل أحد، ولا يدركها كل من تمناها، فقد اشترط الله على من أراد نيل ولايته أن يتقيد بعدة صفات، ويحقق عدداً من الخصال؛ ومن هذه الخصال أن يلتزم العبد تقوى الله عز وجل، وأن يلتزم جماعة المسلمين القائمين بأمر الله، وغير ذلك من الصفات.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) اللهم حقق لنا طلبنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومع هذا النداء الإلهي الكريم، وتلاوته بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].
سر مناداة الله تعالى لعباده بوصف الإيمان
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! عرفنا فيما مضى أن هذا النداء يحمل ما يلي:أولاً: الأمر بتقوى الله عز وجل، فهيا نطع ربنا، أما نادانا بعنوان الإيمان لأننا مؤمنون فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:102]؟ فقلنا: لبيك اللهم لبيك، مر نفعل، انه نجتنب، بشر نفرح، أنذر نخاف ونحذر، علم نتعلم، كلنا استعداد، وذلك لأننا أحياء، ولأن الإيمان روح وصاحبه حي، والحي يسمع ويأمر وينهى، ويمتثل ويترك لكامل حياته.
معنى قوله تعالى: (اتقوا الله)
قوله: اتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:102] ما معنى: أمره لنا بتقواه؟ أي: أن نتقي غضبه وسخطه وعذابه، وقل: اتقوا الله: خافوه، ارهبوه، اخشوه، ولازم ذلك أن تطيعوه.إذاً مرة أخرى: نتقي الله بطاعته فيما أمر، وفيما نهى عنه وزجر، إذ لا يمكن لآدمي أو جني أن يتقي عذاب الله وسخطه بدون طاعته عز وجل، فأطيعوه بفعل ما أمركم بفعله، وترك ما نهاكم عن تركه، والمأمور والمنهي يدور على أعمال القلوب والألسن والجوارح.إذا أمر الله بمعتقد -سواء استطعنا إدراكه وفهمه أو عجزنا لضعفنا- أمرنا أن نؤمن به، كأن يُخبرنا بأنه تعالى فوق عرشه، بائن من خلقه، وكأن يُخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة وينادي: ( هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه )، فنقول: آمنا بالله، ولا نقول:كيف ينزل؟! بل آمنا فقط، وذلك لعجزك يا ابن آدم، ولضعفك، ولعدم قدرتك على ذلك، إذ إننا قد عرفنا أن طاقاتنا محدودة، فالطاقة البدنية صاحبها يستطيع أن يحمل كيساً من الدقيق، وقد يعجز عنه آخر، كذلك الطاقة البصرية قد تبصر إلى مدى ستة أميال عشرة أميال، ثم يعجز بصرك فلا تستطيع أن ترى، أيضاً طاقة سمعك، فقد تسمع صوتاً ينادي من ثلاثة أميال من عشرين ميلاً، ثم تعجز فلا تستطيع أن تسمع، فكذلك عقلك يدرك في حدود محدودة، ولا يستطيع أن يدرك كل شيء، فإذا أمرنا الله تعالى بعقيدة فيجب أن نعتقدها ونعقدها في قلوبنا، سواء قدرنا على فهمها أو عجزنا، والمثال الذي ذكرته لكم واضح، فإذا كان الله ينزل إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر وينادي، فلا نقول: كيف؟! فالله أخبرنا، ورسوله يقول: ( إن الله ينصب وجهه لعبده في صلاته ) فإذا قلت: الله أكبر ودخلت في الصلاة، فالرحمن جل جلاله ينصب وجهه لك، وهو معك، فلا تقل: كيف؟! فهو يعلم السر وأخفى، يعلم نبضات العروق وتدفق الدم فيها، لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137]، أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ( كان الله ولم يكن شيء قبله ) آمنا بالله.كذلك إذا أمرنا أن نقول قولاً فيجب أن نطيعه ونقول، ولو كان ذلك القول يتنافى مع أغراضنا، مع شهواتنا، مع أطماعنا، مع متطلبات حياتنا، قد أمر الله فأطعه، واتق عذابه بطاعته، فإذا نهانا عن قول أو عمل ينبغي أن ننتهي، إذ تقوى الله عز وجل تكون بالخوف والرهبة منه، والخوف والرهبة يحملان العبد على الطاعة، فالخائف يطيع، والذي لا يخاف ما يطيع.
الإيمان والتقوى طريق تحقيق الولاية لله
وأذكركم بشأن التقوى، فهي الخطوة الثانية في تحقيق ولاية الله عز وجل، فمن أراد أن يصبح ولياً لله، أو يمسي من أولياء الله، فعليه بالإيمان والتقوى، فالذين لا يتقون الله لا يصبحون أولياء الله أبداً، وهذا أمر مفروغٍ منه، وذلكم لما حفظتم وعلمتم من قول الله عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، فإذا رأيت العبد لا يخاف من غير الله، ولا يحزن لموت امرأة ولا ولد، ولا لفوات مال، فاعلم أنه ولي الله، لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] لا في الدنيا، ولا في البرزخ -أي: في الحياة بين الحياتين- ولا يوم القيامة، منفي عنهم الخوف والحزن، لكن أعداء الله هم محط الخوف والحزن في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. كأن سائلاً يقول: من هم أولياؤك يا رب الذين قلت فيهم: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]؟ قد يقول لك العوام: سيدي عبد القادر، مولاي إدريس ، سيدي العيدروس! فهم لا يعرفون أولياء لله بين الناس أبداً، وإنما يعرفون أولياء الله الذين ماتوا وبنيت على قبورهم القباب، ووضعت عليها الستائر الحرير، وأنيرت قبورهم بالمصابيح، أولئك أولياء الله عندهم! أما أولياء الله الأحياء في الأسواق والمتاجر والمزارع فلا يعرفونهم أبداً.وقد تكرر هذا القول فبلغوه؛ لأنه لا يزال (95%) منا معاشر المسلمين! لا يعرفون أننا أولياء الله، وإنما أولياء الله -في نظرهم- الذين ماتوا وعُبِدوا من دون الله بالذبح والنذر لهم، والحلف بهم، والخوف منهم عند وجودنا أمام قبورهم، أولئك الأولياء حسب اعتقاد العوام، أما الموجودون على سطح الأرض، يبيعون ويشترون، ويحرثون ويحصدون، ما هم بأولياء! فهل هناك من يرد علي لعليَ واهم؟الجواب لا، لا يوجد، وقد عرفنا سر ذلك معرفة علمية يقينية، فقد أراد الثالوث الأسود، وأراد العدو أن يهبط بنا لنصبح دونه، فقنن هذه القوانين، وحصر ولاية الله في الموتى فقط من أجل أن يستبيح الأحياء دماء بعضهم بعضاً، وأعراض بعضهم بعضاً، وأموال بعضهم بعضاً، فترى المسلمين في القرية هذا يزني بامرأة أخيه، وهذا يسرق ماله، وهذا يسبه ويشتمه، وهذا يتكبر عليه ويترفع فوقه، وهذا يزدريه ويحتقره، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، من هذا مع ولي من أولياء الله ما يقدر على أن يقول في ولي: يا كذا.. ممن ماتوا وبنيت عليهم القباب، فهل فهمتم هذه وبلغتموها أو ما زلنا نبكي فقط؟هيا نسافر إلى دمشق، أو بغداد، أو القاهرة المعزية، أو كراتشي الباكستانية، أو اسطنبول، وبمجرد ما ننزل من الطائرة وندخل المدينة، أول من يقابلنا من أهل البلاد نقول له: يا سيد! جئنا لنزور أحد أولياء الله في هذه المدينة، فمن فضلك دلنا على ولي، والله -إن لم يكن حضر في هذه الحلقة وعرف- لا يقودونا إلا إلى قبر، ولا يفهم أن في كراتشي ولياً بين الناس، ولا في اسطنبول ولا في بغداد ولا في دمشق ولا في مراكش، اللهم إلا الذين بلغتهم هذه الدعوة، وقد انتشرت ففهموا، أما أولئك فلا يفهمون وجود ولياً بين الناس، ولهذا وجد الشتم، والتعيير، والتلصص، والسرقة، والخيانة، والزنا، والفجور، فلا إله إلا الله! لو كانوا مع أولياء الله يفعلون هذا؟! أحدهم ما يستطيع أن يحلف بالكذب بولي من أولياء الله.فهل عرفتم من هم أولياء الله؟ الجواب من رب الأرباب، إذ قال في بيان ذلك: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].
التحذير من إيذاء أولياء الله تعالى
احذر يا عبد الله! احذري يا أمة الله! أن تؤذي ولياً من أولياء الله ولو بكلمة شر، أو نظرة شر، أو كلمة قاسية، وما أجمل أن تدخل سوق المؤمنين وتخرج، وتدخل مساجدهم وتخرج، فلا تجد من يسب أخاً له، أو يشتمه، أو يعيره، أو يحاول أن ينال منه شيئاً من ماله أو جسمه أو عرضه؛ لأنهم أولياء الله، فمن يؤذي ولي الله والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الأسد الحرِب )؟! فهل الذي يعرف هذا يعتدي على ولي الله؟! يسخر منه؟! يستهزئ به؟! يمكر به؟! يفجر بامرأته؟! والله ما كان.إذاً: تنال ولاية الله بأمرين اثنين: الإيمان، والتقوى الدائمة المتجددة المتكررة، إذ قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] يتقون من؟ الله؛ حتى لا يغضب ويسخط عليهم، أو يمحو اسمهم من ديوان أوليائه.كيف نتقي الله يا أبناء الإسلام؟ نتقيه بطاعته، بالإذعان له، بالتسليم له، إن قال: آمِن، قلت: آمنت، قال: قل، قلت، قال: قف، وقفت، قال: سر، سرت، فهذا هو الإيمان، وهذه هي التقوى.
سؤال أهل العلم لمعرفة ما يحب الله وما يكره
بالأمس نبهت وعلَّمت وقلت: الذي لا يعرف أوامر الله ولا نواهيه، أسألكم بالله هل يتقي الله؟ لا، كيف يتقيه؟! فلابد من معرفة كل ما يحب الله، وكل ما يكره الله، من الاعتقادات والأقوال والأفعال، بل والصفات والذوات أيضاً؛ لأن هناك صفات يكرهها الله، لا يحب لعبده أن يتصف بها، كالخيلاء ومشية التكبر.وبالتالي فكيف نستطيع أن نعرف محاب الله ونستوفيها، ونعرف مساخط الله ونجمعها، فنصبح عالمين بما يحب ربنا وبما يكره؟ هل يحصل هذا بالمنام؟ بالتمني؟ أسألكم بالله بم يحصل؟يحصل بالطلب، فاطلب تجد، وحسبك أن تسمع قول الله في كتابه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] (فَاسْأَلُوا): فعل أمر، أيأمرنا ولا نلتفت إلى أمره؟! كفرنا به، أم تكبرنا عليه، أم ماذا أصابنا؟! أليس هذا أمره؟ يا من لا يعرف محاب الله، يجب أن تسأل أهل العلم عنها حتى تعرفها، يا من لا يعرف مساخط الله، اسأل أهل العلم حتى تعرفها فتتركها حتى لا تُغضب الرب عليك.هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون رسول الله؟ ، نعم، فهذا ابن مسعود وقف في الصف وقال: ( يا رسول الله، أي شيء أحب إلى الله؟ قال -جواب العالم-: الصلاة على وقتها -أحب شيء: الصلاة على أول وقتها- قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين )، فأصبح ابن مسعود يبر بأبويه، يؤثرهما على نفسه، يجوع ولا تجوع أمه، يعرى ولا يعرى أباه، ( قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله )، فما نودي إلى الجهاد إلا كان في وسط الصف، يسأل أو لا؟ والرسول نفسه يعلمهم بالسؤال فيقول: ( ألا ) تعرفون: (ألا)؟ ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله ) أي: نبئنا، أخبرنا، لمَ ينبئهم بأكبر الكبائر؟ ليجتنبوها، وحتى يحققوا تقوى الله لهم، ( بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله ) فلم يبق أبداً ممن سمعوا من المؤمنين والمؤمنات من يرضى بأن يشرك بالله ولو في كلمة، والشرك بالله يكون باعتقاد وجود من يخلق أو يرزق أو يدبر أو يحيي أو يميت أو يعطي أو يمنع أو يضر أو ينفع في هذه الأكوان، فلا يصرف عبد الله ولا أمته عبادة الله لغير الله ولو بانحناء.كثير من شبيبتكم أيها المؤمنون! ومن أحفادكم وأولادكم يقبل يد أبيه أو الشيخ، هكذا، ويسجد، يُقبَّل وهو فحل أطول منك! فهل يجوز هذا؟ هل هناك من يستحق أن يُسجد له على الجبهة والأنف سوى الله؟ والله لا أحد، فالركوع لا يكون إلا لله.ومن المؤسف: أن أبطال الكرة -والعياذ بالله- لما ينتهي اللعب ويريدون أن يتفرقوا يركعون للشيطان! ومع الأسف فيهم من يزعم أنه مؤمن. أرأيتم كيف يركعون للشيطان؟!آه! لا يحل لمؤمن يؤمن بالله ولقائه أن يصرف عبادة من العبادات لمخلوق من مخلوقات الله يحمل العذرة والبول العفن في بطنه، فكيف يركع له ويسجد؟! كيف ينحني له؟!وهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سيد البشر، والله ما رضي أن يُسجد له، جاء أحدهم من أهل الشام، وأراد أن يفعل كما يفعل مع حكامه ومسئوليه، فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )؛ لما له عليها من حقوق، ولكن لا سجود إلا لله.
حكم الحلف بغير الله
الحلف بغير الله، هذا الشرك الواضح بيننا وضوح الشمس والقمر، ثلاثة أرباع المسلمين يحلفون بحق فلان وسيدي فلان، وكأن هذا ليس من الشرك أبداً، بل يحلف بالله سبعين مرة ولا يبالي، ولا يستطيع أن يحلف بولي من أولياء الله الموتى، وقد كررت هذا القول على علم لتنقلوه، فقد حدث أيام الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا، أنه أخذ بعض القضاة يحلَّفون الخصوم بالأولياء ولا يخلفونهم بالله! وسألناهم فقالوا: إذا قلنا له: احلف بالله، فإنه سيحلف سبعين مرة ولا يبالي، وإذا قلنا له: خذه إلى سيدي فلان وليحلف عنده يرتعد ويخاف! مع أن الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول في جامع الترمذي: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، ( من حلف بغير الله فقد كفر ). وبينا لكم كيف الشرك؟ وفيم أشرك؟ في عظمة الله، تلك العظمة مخلوق من مخلوقات الله؛ لأن أصل الحلف هو تعظيم المحلوف به وإجلاله وإكباره؛ لما له من سلطة وقوة وقدرة وجناب عظيم، فإذا حلفت بمخلوق فقد أعطيت مما هو لله لهذا المخلوق، وأشركته في العظمة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) أشرك هذا المخلوق في حق الله، في عظمة الله، ولعلكم لا تعلمون أن الفطرة البشرية في الجاهلية أنه لا يحلف إلا بشيء عظيم، فلا يحلف بالشيء المهان كالقط والكلب وما إلى ذلك، وإنما يحلف بما هو عزيز وعظيم، ومن هنا من حلف بغير الله فقد أشرك في عظمة الله وجلاله وكبريائه.وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( فقد كفر )، فقد قلت لكم وعلمتم أن الكفر معناه: الجحود، التغطية، الستر، فمن حلف بغير الله فقد غطَّى الله وستره وجحده، حتى حلف بغيره، لو تجلى له الله عز وجل ما يستطيع، كيف يحلف بغيره؟ فمن حلف بغير الله فقد كفر الله، وجحده، ولو ما جحده لمَ لا يحلف به؟! وكيف يحلف بغيره وهو يؤمن به؟! وماذا نصنع مع هؤلاء؟ نقول لهم: توبوا، قولوا: لا إله إلا الله.إذاً: لابد من معرفة ما نتقي الله تعالى فيه، وهو أوامر ونواهي جاءت في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن لم يعرف تلك الأوامر ولا تلك النواهي -والله- لن يكون ولياً لله، ولو طار في السماء ونحن نشاهد، أو غاص في الماء ونحن نبصر، والله ما هو بولي لله أبداً، تذكرون هذه أو نسيتموها؟ قالت الحكماء: ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علَّمه. أي: إذا أرادك الله ولياً له وأنت جاهل علمك، كيف يعلمك؟ يعطيك ذكاء فارطاً، فلا تسمع كلمة إلا تحفظها، يبعثك إلى حِلق الذِكر ويدفعك دفعاً، يبعث بك إلى أبواب العلماء فتقرع الباب وتسأل حتى تتعلم، فهو يعلمك بالإيحاء الخاص، لا أنك بنبي.
طريق تعليم المؤمنين محاب الله ومكارهه
ما هو الطريق لتعليم المؤمنين والمؤمنات محاب الله ومكارهه؟ هل هي المدارس والمعاهد والكليات والجامعات؟! حقاً هي وضعت للتعليم، ولكن صرفناها لغير الله، وقد قلنا لهم: اتركوها لدنياكم، اتركوها لتعليم الصناعات ومهن الحياة، وأما تعليم محاب الله ومكارهه فإنه لا يتم في غير بيوت الله عز وجل، إذ الآتي إلى المسجد لا يرجو شهادة يظفر بوظيفة بها، ولا سمعة ولا شهرة يرتفع بها، وإنما يجيء فيتململ ويطِّرح بين يدي الله في بيته يتعلم محابه ومساخطه، ليحب ما يحب ربه، ويكره ما يكره ربه، وليعمل المحبوب ويقدمه لمولاه، ويبتعد عنه المكروه والمبغوض له. يا علماء الإسلام! أين أنتم؟ ماتوا.. سبحان الله! أين علماء الإسلام؟ كأنني قاربت الموت، فلهذا ما أصبحت أخاف، أين العلماء؟ لا وجود لهم أو غطيتموهم؟ كذا شهراً بل سنة ونحن نقرر هذه الحقيقة، لن نعود إلى الصراط السوي والطريق المستقيم لنكمل ونسعد إلا إذا عدنا إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن يجتمع نساء ورجال القرية وأولادهم في جامعهم الذي بنوه باللبن والطوب، بالخشب والشجر أو بالحديد والاسمنت، يصلون المغرب ويجلسون جلوسنا هذا، النساء وراء، والأطفال دونهن، والفحول أمامهم، ويجلس لهم عالم رباني، يعلمهم ليلة آية من كتاب الله، وأخرى حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك لن يبقى مذهب ولا فرقة ولا طائفة ولا جماعة؛ لأن أهل القرية أصبحوا كنفس واحدة، فقد أخذوا يتعلمون: قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وسلم، في العقيدة، في العبادة، في الآداب، في الأخلاق، في المعاملات، فلا تمض سنة إلا وهم أولياء الله، لو رفعوا أيديهم إلى الله على أن يزيل جبلاً لأزاله، فيصبحون في حماية الله، من عاداهم أعلن الله الحرب عليه، فمزقه وشتت شمله وأهلكه، ولا يكلف هذا المؤمنين شيئاً، فلا يوقِف مزارعهم ولا متاجرهم، ولا يوقِف أعمالهم أبداً، فكل البشر إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل وأقبلوا على اللهو والباطل والأكل والشرب، والمؤمنون عرب وعجم في قراهم ومدنهم أولى بهذا أو لا؟ ولا سبيل إلى توحيد أمة الإسلام، وجمع كلمتها وقلوبها، وإطفاء نار التحزب والخلاف والفتنة بينها إلا هذا الطريق، أحببنا أم كرهنا.ووالله لن يسعد حكامهم، ولن تطيب حياتهم، ولن يشعروا بطمأنينة ولا سلام ولا سعادة إلا على هذا المنهج، من يرد عليّ؟ يا أهل البصائر قولوا، عندنا مثل: يا أهل القرية الفلانية! نسألكم بالله من هو أتقاكم لله، فلا يسرق ولا يزني ولا يكذب ولا يخون؟ الجواب: أعلمنا، أو في هذا وهم؟! في أي مكان أعلم أهله أتقاهم لربه؟ لمَ؟ لأنه عرف الله وعرف ما يحب وما يكره، وعرف ما لديه لأعدائه ولأوليائه فاتقى الله، أما أن تأمر جاهلاً بتقوى الله فلن يتقي الله؛ لأنه ليس أهلاً لتقوى الله.
دور العلماء في تعليم الناس ما يحب ربهم ويكره
ما زلنا ننادي: يا علماء الإسلام هيا! والله لولا المسجد النبوي لرحلت إلى قرية أو حي من أحياء مدينتنا وناديت في أهل الحي: أن اجتمعوا، هاتوا نساءكم، هاتوا أبناءكم، نصلي المغرب ونجلس إلى صلاة العشاء فنبكي بين يدي الله ونتضرع له، نتعلم هداه، نتعرف إلى محابه كل ليلة، وانظر إلى ذلك الحي كيف يزدهر، كيف تطيب النفوس وتطهر القلوب، ويتم الإخاء والمودة والحب، اتركوا أبوابكم مفتوحة طول الليل، من يأتيها؟ ما هناك من يجيب! ماذا نصنع؟وشيء آخر قلته غير ما مرة: حتى في البلاد التي فيها الحكم العسكري والضغط و.. لما يشاهد المسئولون اجتماع القرية في مسجدهم على هذا النور، والله لأتوا وجلسوا معهم واطمأنوا، واستفادوا أموالاً كثيرة يصبحون في غنىً عنها؛ لأن هذا التجمع في الله ينتهي معه الفقر المدقع، إذ إن العامل ناشط مبارك العمل، فينتهي الإسراف والشهوات والبذخ، والخبز والزيت كافيان، فلا نريد البقلاوة والحلاوة، ويتوفر الثياب واللباس، وتستريح الدولة، فهل ما نستطيع أن نفعل ذلك؟ يا علماء! أين الكتاب المفتوح إلى علماء المسلمين وحكامهم، إلى مسئولي أمة الإسلام علماء وحكام؟ بمن البداية؟ بالعلماء أو بالحكام؟بالعلما ء، والحكام يكفيهم مهمتهم، ولذا لابد أن العلماء هم الذين يقرعون أبوابهم، ويقدمون الهدى لهم، فهذا كتاب مفتوح كأنما وزعناه على القبور إلى الآن! سنة إلى الآن؟ هذا في فاتح المحرم، والله سنة، كأنما نشرناه على قبور الموتى، ما بلغنا أن عالماً حاول هذه الحركة بأدب واتصل بالمسئولين وقال: نجمع إخواني في هذا المسجد ولا.. ولا.. لا في الشرق ولا في الغرب، لا في العرب ولا في العجم، أبداً، كأن هذا الكلام باطل، أو خرافة، أو ضلالة، أو يجلب بلاء، أو يسوق إلى فتنة، والله لا ذاك ولا ذا، ما هو إلا أن نعود إلى الله؛ لنطهر ونصفوا ونكمل ونسعد، وينتهي الخبث من ديارنا، وينتهي الشر والفساد؛ ليظهر الحب والولاء، وينتهي كل مظهر من مظاهر الضعف والهبوط، إذا السُلَّم للرُقي هو ما قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
معنى قوله تعالى: (حق تقاته)
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، قال العلماء: حق التقوى: أن يذكر الله فلا ينسى -وها نحن نذكره ولا ننساه- وأن يشكر فلا يكفر -له نعمة، ولو خيط في إبرة، ما من نعمة إلا والله مسديها والمتفضل بها، لما تفتح وتنظر تقول: الحمد لله، أنا نظرت بفضل الله- وأن يطاع فلا يعصى، لا في أمر أوجبه ولا في نهي حرمه.وهنا جاءت آية من سورة التغابن خففت عن نفوس المؤمنين، وهي قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] اتقوا الله بالقدر الذي تقدرون وتستطيعون عليه، فمن أراد أن يحمل كيساً يحمل، فإن عجز تركه، ولا يقول: أنا ما أستطيع، لا، أولاً: قم طاعة لله واحمد، فإذا أراد أن يصوم ما يقول: ما أستطيع أن نصوم، وإذا أذن الظهر عجز أفطر، لما يعرف أنه اتقى الله في حدود طاقته، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] فهذه كالمخففة لعموم هذه الآية، وما قاله العلماء نعيش عليه، نذكر الله فلا ننساه، ونشكره فلا نكفره، ونطيعه فلا نعصيه. وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (39)
الحلقة (180)
تفسير سورة آل عمران (44)
لا تزال أمة الإسلام بخير، ولا يزال الدين في منعة، ما اعتصم المسلمون بحبل الله المتين، وما كانت كلمتهم واحدة ورأيهم غير مختلف، وقد امتن الله على عباده من أمة الإسلام أن جمعهم على كلمة الحق، فكانوا بنعمته إخواناً، وأن أنقذهم من ظلمات الضلال والكفر وهيأ لهم الهداية والرشاد، وكل هذا من آيات الله التي يهتدى بها المهتدون.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل -القرآن الكريم- رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن ما زلنا مع هذا النداء الإلهي من سورة آل عمران عليهم السلام، وتلاوة هذا النداء بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].
مناداة الله لعباده بأن يتقوه حق التقوى
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نادانا الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه فكان هذا شرفاً لنا وإلا فمن نحن؟ وما نحن حتى ينادينا ملك الملوك، ذو الملك والجبروت، المحيي المميت، الذي يضع الأرض في كفه ويطوي السموات السبع في أخرى؟! لكنها منة الله علينا حيث رزقنا الإيمان به وبلقائه وبكتابه وبرسوله وبقضائه وبقدره فحيينا، أي: أصبحنا أحياء نسمع ونبصر وننطق ونأخذ ونعطي لكمال حياتنا، فلما أحيانا نادانا: يا أيها الذين آمنوا، فأجبناه: لبيك اللهم لبيك، مر نفعل، انه نترك، بشر نفرح، أنذر نحذر، علم نتعلم، هذا استعدادنا معشر الأحياء، أما الأموات فأنى لهم ذلك، وهذا النداء الكريم اشتمل على ما يلي: أولاً: على الأمر بتقواه عز وجل حق التقوى، وعرفنا -زادنا الله معرفة- أن الله يُتقى عذابه وسخطه وغضبه بطاعته وطاعة رسوله، فيا من يريد أن يتقي عذاب الله فلا ينزل عليه، وغضب الله وسخطه فلا يكون عليه، أطع الله ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم. كما عرفنا أن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله تكون بفعل الأوامر المستلزمة للوجوب، وبترك النواهي المستلزمة للتحريم، فبهذا يُطاع الله ورسوله، وبهذا يتقى الله جل جلاله وعظم سلطانه.
طريق معرفة أوامر الله ونواهيه
وهنا بكينا وقلنا: ما هي أوامر الله؟ وما هي نواهيه؟ ما عرفنا؟ ماذا نصنع؟ ما نستطيع أبداً أن نطيعه في شيء ما عرفناه، فتقرر عندنا أنه لابد من طلب العلم، ومن أعرض ولوى رأسه وأبى فمصيره معروف، من أعرض أعرض الله عنه، لابد من معرفة أوامر الله ونواهيه، والطريق إلى ذلك سؤال أهل العلم، إذ قال تعالى في آيتين من كتابه العزيز من سورة النحل والأنبياء: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] والمراد بالذكر: القرآن الكريم، فمن سأل وعلم عرف واتقى الله، ومن لم يسأل لم يعرف، وإذا لم يعرف كيف يتقي الله؟! مستحيل.
مصير المسلمين عند جهلهم بأوامر الله ونواهيه وإعراضهم عن شرعه
لو نظرنا إلى أمة الإسلام ذات الألف مليون -مضت عليها قرون- لوجدنا خمسة وتسعين في المائة لا يعرفون أوامر الله ولا نواهيه، إذاً كيف يتقون الله؟! كيف يتقون نقمه وعذابه وبأسه؟! ومن ثم سلط الله عليهم أعداءه وأعداءهم فسادوهم، وحكَموهم، وأذلوهم، وتحكموا فيهم، وأهانوهم، وأخرجوهم عن دائرة الكمال، وما زلت أقول: إن العالم الإسلامي لينتظر ساعة من أسوأ الساعات وأشدها؛ لأن الله تعالى مكَّن لهم في الأرض فأبوا أن يعبدوه، وأعرضوا عنه وعن كتابه وذكره، وغرتهم الحياة الدنيا بزخارفها، وقد كررنا القول: أين ربكم؟ بالمرصاد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14]. إذاً: فالعالم الإسلامي تحت النظارة، وفي إمكانهم أن يعلنوا عن وحدتهم في أربع وعشرين ساعة، والصوت يدوي فيدخل كل بيت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وهذا كان متعدياً ومستحيلاً فيما مضى، لكن الآن في إمكانهم أن يجتمعوا على كتاب واحد يدرسونه، كلهم رجالاً ونساءً في العالم الإسلام بأسره، ولا مشقة في ذلك، بل في الإمكان أن يبايعوا إماماً لهم -الله أكبر إمامنا فلان- وإذا بالأمة الإسلامية تحت راية لا إله إلا الله محمداً رسول الله، وأسهل من أكلها البقلاوة وشربها الشاي، فقط تسلم قلوبها ووجوهها لله، وتصبح بلاد المسلمين حقاً بلاد المسلمين، لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي، كما في إمكانهم أن يطبقوا شريعة الله -فيزول الجهل ويظهر العلم- فيجتمع علماء الفقه ليضعوا الدستور الإسلامي في أربعة أيام، وفي أربعين يوماً يُطبع منه مئات الآلاف، ويوضع في يد كل حاكم ويقول لمسئوله: طبقوا شرع الله، وهذا كان مستحيلاً في القرون الماضية، ولو فعلنا ذلك فإننا سنطير في السماء كالملائكة، فما المانع أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله تعالى حتى تنتهي الفوارق، فلا عنصريات ولا تحزبات ولا مذاهب ولا تجمعات، وإنما مسلم فقط؟إن هذا الخير متوفر والمسلمون معرضون، فماذا عسى أن يكون مستقبلهم؟ أهملهم الله، إن لله سنناً، صدقت يا أبا عبد الله، قال: أمهلهم، إي نعم، إن الله يمهل ولا يهمل، وكأننا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على منبره ذاك يخطب في المؤمنين، ثم قال لهم: ( إن الله ليملي للظالم ) يزيده ( حتى إذا أخذه لم يفلته )، وقرأ قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، ما المراد بالقرى؟ العواصم، الحواضر، ما يقول: البادية، إذ البلاء في المدن، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102]، والحال أنها ظالمة، ظالمة لربها، ظالمة لنفسها، ظالمة لغيرها، أي: ما نهجت منهج الله المؤدي إلى سعادتها وكمالها، كالذي يحتسي السم ويشرب الخمر ويلاعب الأفاعي والحيات، فهل يسلم هذا؟! إذاً: فعلى المسلمين أن يتعلموا محاب الله ومكارهه، وكيف يؤدون تلك الفرائض على الوجه الذي من شأنه أن يولد لهم الطاقة النورانية في قلوبهم،وقد تكرر العلم عندنا أن هذه العبادات مولدة للنور، فأنت لا تدري إذا صمت ماذا حصل؟ وإذا صليت لم تدر ماذا حصل؟ إن هذه العبادة التي شرعها الله العليم الحكيم لعباده شرعها لهم من أجل تزكية نفوسهم وتطهير أرواحهم، فإذا كان الماء والصابون من شأنهما تطهير الأجسام أو الأبدان أو الثياب فكذلك العبادة إذا أداها عبد الله أو أمة الله بإخلاص لله -أداها وقلبه مع الله لا يتلفت إلى سواه، وأداها كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا زاد فيها ولا نقص منها، ولا قدم جزءاً ولا أخر آخر- فإنها تولد النور المسمى بالحسنات، فإذا زكت روح العبد أو الأمة رضيه الله وقبله ورفعه إليه.أما إذا كانت روحاً خبيثة عفنة من أوضار الذنوب والآثام، ولم تزك يوماً، ولم تطهر ساعة، فإن مصيرها سجين أسفل الكون، ولا ترتفع إلى الله، ولن تصل إلى الملكوت الأعلى، وهذا بنص كتاب الله تعالى، أما قرأنا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]؟ متى يدخل البعير في عين الإبرة؟! مستحيل، فكذلك صاحب الروح الخبيثة المنتنة بأوضار الشرك والمعاصي، مستحيل في حق روحه أن ترقى إلى الملكوت الأعلى. أيضاً: عرفنا حكم الله الصادر علينا إنساً وجناً، أولين وآخرين، حكم الله الذي لا يُوارِب، إذ قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهل في الإمكان أن يُنقض هذا الحكم؟ من يقوى على نقضه أو التعقيب عليه والله القائل: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]؟! وهنا تقرر مصيرك يا ابن آدم ويا ابن الجان، فإن أنت عملت على تزكية نفسك فزت وأفلحت ونجوت من عذاب النار، وسكنت الجنة دار الأبرار. وإن أنت لوثتها بأكل الربا وتعاطي الزنا وسب العلماء وسب المؤمنين و.. و.. و.. أصبحت عفنة كأرواح الشياطين، فهيهات هيهات أن تقبل هذه الروح في الملكوت الأعلى، فالذي خلق الماء العذب والصابون المطهر للأبدان هو الذي أوجد كلمة: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو الله أكبر، أو الحمد لله، وما قالها مؤمن موقناً بها عالماً بمعناها إلا وعملت في نفسه الزكاة والطهر والصفاء، ولن تتخلف، ولا قال كلمة سوء أو نطق بكلمة باطل أو خبث إلا وانعكس أثره على نفسه ظلمة وعفناً ونتناً والعياذ بالله تعالى. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، وقد علمتم أننا نذكره ولا ننساه، ونشكره ولا نكفره، ونطيعه ولا نعصيه، وبذلك نكون قد اتقينا الله حق تقاته، وبهذا أمرنا.
معنى قوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
لننتقل إلى الأمر أو النهي الثاني، وذلك بعد أن نادنا وأمرنا بتقواه حق التقوى، نهانا أن نموت على غير الإسلام، فقال تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] و(اللام) هنا ناهية، فلا تمت يا عبد الله إلا وأنت مسلم، وقبل ذلك أمرنا بتقواه حق التقوى من أجل أن يرفعنا إليه بعد أن يطهرنا ويزكي نفوسنا، وهو ذا ينهانا عن الموت على غير الإسلام، لماذا؟ خشية أن ننقطع؛ لأنك قد تزكي نفسك أربعين سنة، بل سبعين سنة، ثم تقول كلمة الكفر فتتحول إلى عفن وإلى نتن والعياذ بالله، وعند ذلك يحال بينك وبين الملكوت الأعلى. وكلمة الكفر إن أردتم لها مثلاً فبحبة الهيدروجين أو الذرة، إذ إنها في وزن حمصة، لكنها تنسف مدينة بكاملها، فكذلك كلمة الكفر كلمة واحدة تبطل كل عمل صالح قد عملته، ولا عجب. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فإن من مات غير مسلم حرم من لقاء الله، استحال أمره أن يرفع إلى الملكوت الأعلى.
معنى الإسلام المطلوب تحقيقه
وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] قد سبق أن بينا للصالحين والصالحات معنى الإسلام، إذ إن الإسلام هو: أن تسلم قلبك ووجهك لله، فيا فلان هل أسلمت؟ نعم. هل أديت حق فلان؟ ما معنى: أسلم يا عبد الله؟ وأُسلم ماذا؟ أسلم قلبك ووجهك لله، فالمسلم الحق عبدٌ أسلم قلبه ووجهه لله تعالى، وفي القرآن: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، كيف أعطي وجهي لربي؟ لا ننظر إلا إليه، لا نرى إلا هو، كيف أسلم قلبي لله؟ لا يتطلب أربع وعشرين ساعة إلا في طلب رضا الله. فهذا إسلام القلب والوجه لله، فما لنا إلا الله، نأكل ونشرب لله، نبني ونهدم لله، نبيع ونشتري لله، ننام ونستيقظ لله، نتزوج ونطلق لله، لا تخرج أعمالنا أبداً عن دائرة رضا الله عز وجل، فهل عرف المسلمون هذا؟ وهل في إمكانهم أن يفعلوه؟ ما يستطيعون، ما عرفوا. إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، إذ كان صلى الله عليه وسلم يقول: ( إني أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية )، فأعلمنا بالله أتقانا لله، وأجهلنا بالله أفجرنا عن طاعة الله. عرف هذا الثالوث المكون من المجوس واليهود والنصارى معرفة يقينية، فأبعدونا عن العلم ووضعونا في برك الجهل نشرب منها ونرتع، والقرآن يُقرأ على الموتى منذ قرابة ألف سنة ولا يُقرأ على الأحياء وإنما على الموتى فقط من إندونيسيا إلى الدار البيضاء. أي سخرية هذه؟ أي استهزاء هذا؟ أي أجنون هذا؟ أي أموت هذا؟ تضع بين يديك ميت وترغبه وتعظه وتخوفه وتهدده بعذاب الله في الآيات، هل يقوم يتوضأ ويصلي؟! هل يقوم يستسمح منك ويقول: سامحني؟! كيف هذا؟! أين عقولنا؟! لا إله إلا الله! القرآن يُقرأ على الموتى؟! من فعل هذا بنا؟! اليهود.وأيضاً بقيت الأنوار المحمدية -السنة النبوية- ماذا فعلوا بها؟ قالوا: السنة فيها الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والصحيح والضعيف، اتركوها ويكفينا مصنفات الفقه التي صنفها علماؤنا! وما أصبح الرسول يُذكر بينهم، من يقول: قال رسول الله؟ أبعدهم العدو عن مصدر حياتهم كاملة، لا كتاب ولا سنة، فكيف نعرف الله والطريق إليه؟! معاشر المستمعين -وخاصة الغرباء والزوار- هل بلغكم هذا الكلام وسمعتموه؟ هل فهمتم ما سمعتم؟ دلوني على شخص يقول: تعال أسمعني شيئاً من القرآن، في قرية أو في حاضرة أو في أي مكان، هُجِر كتاب الله، والذين يقرءونه إنما يقرءونه على الموتى ليأكلوا الخبز والحليب، لا ليُعرف الله ومحابه ومكارهه.
تعاليم ربانية لمن أراد أن يموت مسلماً
يا من صح عزمه على ألا يموت إلا مسلماً، أنصح لك بالتالي، إليك هذه التعاليم:
أولاً: أن لا ننسى الله أبداً
أولاً: أن لا تنسى الله أبداً، دائماً اذكره، فإذا أكلت: باسم الله، شربت: باسم الله، فرغت من الطعام: الحمد لله، نمت: باسم الله، استيقظت: باسم الله، أخذت المعول أو الفأس: باسم الله، ضربت: باسم الله، وعندها تصبح حياتك كلها مع الله، ومثلك لا يموت على غير الإسلام، وأما الذين يتعرضون للموت على غير الإسلام هم الذين يعرضون عن ذكر الله، هم الذين ينسون الله.إذاً: فأول ما ينبغي أن نعلم ونعمل ألا ننسى الله أبداً، نذكره طول النهار والليل، حتى عند الدخول إلى المرحاض تقول: باسم الله الذي لا إله إلا هو، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، الرجس النجس الشيطان الرجيم، وثم تسكت فلا تتكلم، فإذا خرجت ألقيت برجلك اليمنى خارج المرحاض وقلت: الحمد لله الذي رزقني لذته وأبقى في جسمي قوته.
ثانياً: أداء الواجبات باجتهاد وصدق
ثانياً: أداء الواجبات باجتهاد وصدق -ومن أعظمها: الصلوات الخمس- إذ إن أداء هذه الفرائض والمحافظة عليها فيه ضمان للموت على الإسلام، والذي يتلاعب أو يتهاون بها، يأتيها يوماً ويترك يوماً، والله إنه لعرضة لأن يموت على غير الإسلام.وبالتال فالذي يسلك الطريق في صدق، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، يُرجى له أن يصل إلى غايته، والذي يتلاعب ويمشي خطوات ويرجع للوراء، أو يميل ذات اليمين وذات الشمال، قد لا يبلغ هدفه، ولا يصل إلى غايته.
ثالثاً: الابتعاد عن الكفر وأهله
ثالثاً: الابتعاد كل الابتعاد عن الكفر وأهله، فلا تقيمن بين كافرين، فإنك لا تأمن أن تنتكس وتنقلب على رأسك، فلهذا حذر أبو القاسم من ذلك وقال: ( لا تتراءى نارهما ) ، فالبعد كل البعد عن أهل الكفر.
رابعاً: البعد عن أهل الفسق والفجور
رابعاً: البعد عن أهل الفسق والفجور، فإنهم يعدونك بالعدوى، فلهذا قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28] أي: احبس نفسك مع أهل لا إله إلا الله، ألزمها بالعيش معهم والبقاء بينهم، وتجنب مجالس الباطل والسوء.
خامساً: الحذر من كتب ومصنفات أهل الكتاب
خامساً: الحذر من كتب ومصنفات كتبها المجوس واليهود والنصارى، إذ إن هذه الكتب قراءتُها تفتح لك أبواب الردة وتصاب بها وأنت لا تشعر، فهذا عمر رضي الله عنه كان في يده ورقات من التوراة، فنظر إليه رسول الله وسأله ما هذا؟ فقال: ورقات من التوراة، فقال له صلى الله عليه وسلم: ( ألم ائتكم بها بيضاء نقية؟! كيف يهدونكم وقد ضلوا؟! ارمها يا عمر )، وقد عرفنا أن مئات الآلاف من المسلمين هلكوا بتتلمذهم لعلماء الإلحاد والشرك والكفر، والانقياد لهم والإذعان لتعاليمهم، فماتت قلوبهم وأصبحوا أجساماً بلا أرواح، وأكثرهم يموت على سوء الخاتمة.
سادساً: تطهير البيوت من المعاصي والآثام
سادساً: طهروا بيوتكم كما طهرتم مجالسكم، أنصح لكم فأقول: أخرجوا كل آلة تعرض صور الخلاعة والدعارة والنساء والرجال، وتسمعكم أصوات الكفر والكافرين، إذ إن هذه أخذ يظهر أثرها ويموت أهلها على سوء الخاتمة، فانتبهوا، وإذا أُلزمتم بالحديد والنار فهاجروا، اتركوا البلاد التي ألزموكم فيها بأن تعمروا بيوتكم بالشياطين وترحِّلوا منها الملائكة لتعيشوا مع الشياطين، كيف يرحمونكم؟! أسألكم بالله، الذي امتلأ بيته بالشياطين كيف يستطيع أن يموت على الإسلام؟! ومرة ثانية أقول: من أُجبر وأُلزم بأن يدخل الفيديو والتلفاز والسينما في بيته بالقوة فيجب عليه أن يهاجر، يلتحق بالجبال وبالسهول والأودية أو بمناطق أخرى، ولا يرضى أبداً أن يتهيأ لأن يموت على غير الإسلام، وقد سمعت اليوم خبراً عظيماً: جاءت امرأة تشكو زوجها فقالت: زوجي لا يصلي! كيف لا يصلي؟! شكته للمحكمة فصلى فترة ثم ترك الصلاة، فقلت لها: ماذا يصنع؟ قالت: لا يعمل شيئاً، فقط هو جالس في البيت عند التلفاز أمام الأغاني والمسلسلات، وعنده مال أودعه في بنك، وهو يعيش على فوائده! فلأول يوم سمعنا هذا! كم يعطونهم؟! خمسة في المائة؟ اجعلها سبعة، إذا كان عنده سبعمائة ألف؟ كم يعطونه؟ سبعين ألفاً، ومع ذلك لا يصلي ولا يعمل شيئاً، وإنما يفجر فقط ويغني. الآن تبين لنا آثار الربا أم لا؟ إن هذه البنوك من وضع الثالوث وتخطيطه، ومد المؤمنون أعناقهم واستسلموا للشيطان، والمؤمن بحق يرضى أن يموت جوعاً ولا أن يأكل لقمة حراماً، يرضى أن يعمل الليل والنهار من أجل الخبز والزيت -إن أمكن- ولا يرضى أن يجاهر ربه بالمعاصي، لكن الشياطين التي ملأت بيوت القوم وطردت الملائكة هي التي تزين لهم هذا وتحسنه. إذاً وهو أخيراً: طهروا بيوتكم من الشياطين، فإنها لا يخلو منها بيت، ترى فيه تلك الصور في فيديو أو تلفاز أو آلة سينما أو أي آلة، ومن كذب بهذا فقد كذب رسول الله وكفر، ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ) والذي يعيش زمناً وهو مرتاح النفس، يضحك مع أهله، مع عاهرة تغني أو ترقص، والله ما نستطيع أن نجزم له بالموت على الإسلام، ولكن كيف ينجو ويموت وقلبه مع الله؟! فهل عرفتم نهي مولاكم: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]؟ فابعثوا، فاعملوا، فابعثوا على كل وسيلة من شأنها أن تحفظ لك إيمانك وطهرك وصفاءك في قلبك حتى تُسلَّم روحك لملك الموت وهي كأرواح الملائكة في الطهر والصفاء، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا [آل عمران:102] والحال أنكم مسلمون، قلوبكم ووجوهكم لله.
تفسير قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...)
قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
معنى قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً)
جاء أمر آخر لنا نحن أولياء الله المؤمنين المتقين: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103] أغنياؤكم فقراؤكم أمراؤكم علماؤكم خدمكم نساؤكم أولادكم، كلكم، والمراد بحبل الله الممتد من السماء إلى الأرض: الإسلام بشرائعه، بأحكامه، بآدابه، بأخلاقه، والذي يمثله القرآن الكريم، فتمسكوا به، عضوا عليه بالنواجذ، وإياكم والفرقة، فلا تقل: أنا شافعي وتستبيح ما شئت، ولا يقول هذا: أنا حنفي ويفعل ما يشاء، ولا يقول هذا: أنا حنبلي، أنا مالكي، فلا فرقة، وإنما الجمع فقط، وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل القرون الذهبية -خير القرون- وهم لا ينتمون إلا إلى الله ورسوله، مسلمٌ، قال الله قال رسوله.وهذا يتطلب منا أن ندرس كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهما نرد ومنهما نصدر، فهيا بنا نعد إلى دراسة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيهما الغناء الكامل، لكن للأسف أصبحت السنة تُقرأ للبركة، فنقرأ كتاب البخاري إلى اليوم للبركة، مع أننا قد استيقظنا، وها نحن ندرس كتاب الله من أربعين سنة -الحمد لله- فهل ضللنا بقراءة كتاب الله ودراسته؟ والله ما ضللنا، وإنما اهتدينا، وهل دراستنا لأحاديث رسول الله تفرق شملنا وتشتت جماعتنا، وتجري العداوة والبغضاء بيننا؟! لا. أبداً.
الفرقة والاختلاف سبب في طمع الأعداء في الأمة الإسلامية
قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103] أغنياؤكم فقراؤكم أمراؤكم علماؤكم خدمكم نساؤكم أولادكم. كلكم يا أهل الإسلام اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، فإن الفرقة هي الحالقة، ما إن تفرق المسلمون وأصبحوا مذاهب وطرقاً حتى تسلط عليهم عدوهم، فسادهم وحكمهم وأذلهم كما علمتم وكما تعلمون. الآن لنا أربعة وأربعون دولة، آلله أمر بهذا؟ هل الرسول أوصى بهذا؟ أسألكم بالله، هل هذه تفرقة أم جمع؟ لمَ لا نعلن عن الوحدة في أربع وعشرين ساعة؟ تعالوا إلى الحرم الشريف، إلى الروضة ونقول: بايعنا فلاناً، هاتوا كتاب الله واحكمونا به، وتصبح ديارنا واحدة، لا شامي ولا يمني، لا شرقي ولا غربي، لا عربي ولا أعجمي، وبذلك نأمن ونسود ونقود وننقذ البشرية من وهدة الضلال والفقر والعياذ بالله، ما المانع؟ قلوبنا مريضة، ما تربينا في حجور الصالحين، وعندنا براهين قاطعة، ونحن مع أبنائنا وإخواننا مللناهم من هذا الكلام . أبرهن لكم أم لا على أننا لسنا بأهل للكمال والإسعاد؟ دبر الله الأمر -ولا مدبر إلا هو- فوضع العالم الإسلامي تحت أقدام بريطانيا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال، إنها آية من آيات الله، سبحان الله! المسلمون أصبحوا مسودين محكومين تطبق فيهم شرائع الكفر؟! إنها أعظم آية من آيات الله، وفجأة وبعد سبعين مائة من السنين أزال الله سلطان الكفر وحرر المسلمين من اندونيسيا إلى بريطانيا، فاستقلوا وتحرروا، وهذه فتنة أخرى. وقد قلت والله يعلم: لو ربينا في حجور الصالحين، وكانت نفوس علمائنا ورجالنا ونسائنا ومشايخنا وأهل البصيرة فينا، لو كانت البصيرة حقة، والنفوس طاهرة، كان المفروض -واسمعوا- أيما إقليم يستقل عن فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، أيما إقليم يأتي إلى الدولة القرآنية، لكن قد يقول قائل: يا شيخ أين هذه الدولة؟ إنها ليست بموجودة، لا، أوجدها الله جل جلاله وعظم سلطانه، وهي آية من آياته، ومعجزة من معجزات الأنبياء، وإلا فكيف والعالم الإسلامي تحت أقدام الكفار، ويأتي عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ويعلن عن دولة القرآن في الرياض! أين بريطانيا؟ أين فرنسا؟ أين أمريكا؟ كيف يتم هذا؟! والله ما تم إلا بالله، ومن شك فلينظر إلى إخوانه في كل ديارهم، هل لهم أن يطبقوا الشريعة؟ لا، إنهم يخافون من الكفار وهم مستقلون! يمالقون ويتملقون الكفار بإعراضهم عن الشريعة وعدم تطبيقها، ويأبى الله ويأتي بهذا الرجل فيعلن عن دولة القرآن، ويؤسسها على دعائم وضعها الله لا سقراط ولا نابليون ولا فيلسوف، أربع دعائم وضعها الله عز وجل، كم سنة ونحن نذكر هذا، والعالم الإسلامي يستقل من الوقت إلى الوقت، ولا استطاع إقليم عربي أو أعجمي أن يقيم دولته على قواعد وضعها الله بنفسه؟ ما هذه القواعد؟ اطلبوها في الدساتير البريطانية لا توجد، إنها لا توجد إلا في القرآن الذي حوَّلوه ليُقرأ على الموتى فقط. جاء في سورة الحج المدنية المكية قوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، كلام من هذا؟ هل يحتاج إلى تفسير؟ الذين إن مكناهم، أي: سوَّدناهم، حكَّمناهم، ملكوا، ماذا فعلوا؟ أقاموا الصلاة إجباراً، إذا قيل: حي على الفلاح وقف دولاب العمل، ووقفت الحياة كلها، وأقبل المؤمنون على بيوت ربهم، إذ لذلك خُلِقوا، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، على هذه الدعائم أقام عبد العزيز دولته هذه التي بقيت باقية، أقامها على هذه الدعائم فأقيمت الصلاة، وجبيت الزكاة، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، واستقل العالم الإسلامي قطراً بعد آخر، وهذا محل الشاهد. فلو كنا أهلاً للسيادة والعزة والطهر والكمال، فأيما إقليم يستقل يأتي وفد منه ويقول: يا عبد العزيز، استقل الإقليم الفلاني، جزء الدولة الإسلامية، ابعث لنا قضاة، وابعث والياً عاماً يدير هذا الإقليم، فهمتم هذه اللغة أو لا؟ ممكن ما تقبلونها، والله الذي لا إله غيره لو كنا أهلاً للكمال لكان كل إقليم يستقل ولو كان كالباكستان مائة مليون، يأتي رأساً إلى عبد العزيز ويقول: استقل القطر الفلاني، ابعث قضاة يطبقون شرع الله، ابعث والياً عاماً يطاع بطاعة الله ورسوله، وهكذا في ظرف سبعين سنة والعالم الإسلام كل عام عامين يستقل إقليم، وإذا بأمة الإسلام أمة واحدة، فلمَ لا نفعل هذا؟ أجيبوا؟ إنه الجهل المركب، وظلمة النفس، وحب الدنيا والشهوات والأهواء، والإعراض عن ذكر الله وشرعه ودينه، فهل هناك غير هذا؟ والله ما هو إلا هذا. من يرضى بهذه الدويلات والأقاليم؟ إن بلاد المسلمين بلد واحد، حكمهم واحد، شريعتهم واحدة، فلمَ تفرقوا؟ عصوا الله وفسقوا عن أمره، وخرجوا عن طاعته، ولم يعتصموا بحبله، وتفرقوا، فأذاقهم الله المرارة، في هذه الظروف التي أصبحنا كأننا نقرب من الجنة، فلو كان العالم الإسلامي أمة واحدة لكنت تشاهد ماذا؟ما تستطيع أن تدرك النعيم الذي يفيض على المسلمين. حب وولاء، طهر وصفاء، مودة وإخاء، ربانية لا تحلم بها، لكن استجابوا للعدو، وأعرضوا عن الله ورسوله وكتابه، فهم إذاً تحت النظارة، ولا تبكي وتقول: الخلافة والدولة؛ لأننا لو كنا رشداً فأيما إقليم يستقل يُقدِّم مفاتيحه، وحتى دول الجزيرة -البلد الواحد- جزيرة الإسلام، كل إقليم منطقة للاستقلال، ماذا ينتظرون؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14] فاتت الفرصة وضاع الأمل إلا أن يشاء الله يقلب تلك القلوب ويلويها. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:102-103] بهذا أمرنا، فنعيش -والحمد لله- لا على مذهبية ولا وطنية ولا إقليمية، وإنما مسلم أعيش لله.
معنى قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم)
وأخيراً يقول تعالى لنا: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران:103]، هذه وإن نزلت في أصحاب رسول الله فهم آباؤنا وأجدادنا، لما اجتمعت كلمتهم بعد التفرق جاء النور والهداية، وجئنا للإسلام والمسلمين، فهي نعمة ما تنسى، نذكر الله تعالى ونشكره عليها. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (40)
الحلقة (181)
تفسير سورة آل عمران (45)
يدعو الله عز وجل عباده المؤمنين إلى طاعته، ويحضهم سبحانه وتعالى على تقواه واتباع سبيله، وأن يكونوا عباده المسلمين، وحتى يكون العبد من المسلمين فعليه أن يلتزم الآداب الإسلامية، ومن هذه الآداب أن يبقى لسانه رطباً بذكر الله عز وجل، وأن يؤدي واجباته الشرعية باجتهاد وصدق، وأن يفارق أهل الكفر والعصيان والفجور، وأن يطهر نفسه وبيته من المعاصي والآثام، وغير ذلك من الآداب الإسلامية.
تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقط رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! ما زلنا على عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع ذلكم النداء الإلهي العظيم من سورة آل عمران، وتلاوته بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].
التقوى طريق تحقيق ولاية الله تعالى
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نادانا مولانا أولاً ليأمرنا بتقواه، إذ تقواه عز وجل -كما علمتم- هي الخطوة المؤكدة لولاية الله لعبده الله المؤمن وأمته المؤمنة، والأمر بتقوى الله عز وجل معناه تحقيق ولاية الله للعبد، إذ لا يكون العبد ولياً لله إلا إذا كان تقياً لله. واذكروا قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فهذه التقوى عليها مدار تحقيق سعادة الدنيا والآخرة، إذ إن أهلها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقد نبهنا إلى أنه لا يتأتى لعبد ولا لأمة من إماء الله وعبيده أن يتقي الله بدون ما لم يعلم ما يتقيه فيه، فثبت أن طلب العلم فريضة أكيدة، فالذي لا يعرف ما أوجب الله ولا ما حرم الله -أسألكم بالله- كيف يفعل واجباً ما عرفه؟! كيف يحذر ويتقي محرماً ما عرفه؟! غير ممكن أبداً. فوجب على كل من دخل في الإسلام أن يعرف ما أمر الله به وما نهى عنه بنية أن يفعل المأمور، وأن يجتنب المنهي.وكما قد علمتم أكثر من هذا، أن كل أوامر الله ونواهيه تدور على تزكية هذه النفس وتطهيرها، ففعل الأوامر أدوات تزكية، وترك المحرمات إبقاء على التزكية كما هي، فالذي يصلي ركعتين ويشتم مؤمناً كأنما غسل ثوبه ثم أفرغ عليه زنبيلاً من الوسخ، وهذا عابث ولاعب، والذي أدى الزكاة فزكت بها نفسه ثم انغمس في أكل الحرام من السرقة والربا، كان كمن اغتسل بالماء والصابون ثم أفرغ عليه زنبيلاً من القاذورات والأوساخ. ففعل الأوامر أدوات تزكية، واجتناب المنهيات إبقاء لتلك التزكية على ما هي، فإنه إذا ارتكب كبيرة معنى ذلك أنه عم ذلك الأثر وأفسده، ولهذا أرشدنا الرسول الكريم بقوله: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها )، وقعت نجاسة في يدك أفرغ عليها الماء واغسلها، وقعت لطخة من دم في ثوبك أفرغ عليها الماء واغسلها، كذلك قلت كلمة سوء، نظرت نظرة محرمة، تناولت ما لا يحل لك، عجل بالتوبة، واعمل الصالحات، فإنها تحيلها إلى كتلة من النور، ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ). إذاً: هذه هي التقوى التي أمر بها المولى عز وجل لصالحنا قطعاً.
معنى قوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
ثانياً: نهانا الله فقال: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فنهانا أن نموت على غير الإسلام فيفسد كل ذلك الذي بنيناه وينهدم كما علمنا، فلو أن عبداً عبد الله سبعين سنة ليلاً ونهاراً، ثم قال كلمة الكفر أو الشرك ومات عليها انمحى ذلك كله ولم يبق له أثر، ومن هنا أرشدنا ولينا -وله الحمد والمنة- على أن نحافظ على إسلامنا لله، أي: نسلم قلوبنا ووجوهنا لله حتى يتوفانا ونحن مسلمون، والإنسان لا يدري تقلبات الحياة، فقد يأتي يوم يكره فيه العبادة ويبغض فيه الصالحين.وهذا الصديق ابن الصديق ابن الصديق، يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول في ابتهاله بينه وبين ربه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، أتدرون متى قال هذه الكلمة؟ قال هذه الكلمة لما جلس على أريكة الملك، وحكم الديار المصرية، وأصبح مالكها، ودانت له بالطاعة، وجاء الله بأبويه وإخوته، وتم له كل مطلوب في هذه الحياة، فبدل أن يقبل على النساء وعلى اللهو والطعام والشراب، إذ إنه كان في نِعم متوالية، بدل أن يقبل على اللذات والشهوات، بعد أن حضرت بين يديه، وتم له السلطان عليها والقدرة، رغب عنها بالمرة، واتصل بذي العرش يقول له: يا رب، يا خالقي، ويا رازقي، يا إلهي الذي ليس لي إله سواه، قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:101]، وهي النبوة وتعبير الرؤى -ولا ننسى تعبيره لرؤيا الملك وهو في السجن- فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يوسف:101]، يا خالق السموات والأرض، أنت لا غيرك، أنت وحدك، وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [يوسف:101] . إذاً: توسلتَ إليك رب بإنعامك عليّ، وها أنا أريد منك شيئاً واحداً وهو أن تتوفني مسلماً وتلحقني بالصالحين، فهل عرفتم هذا؟ إخواننا آباؤنا أبناؤنا من أهل الجهل والغفلة بمجرد ما يجلس على أريكة، سواء كانت وظيفة أو شركة، بدل أن يفزع إلى الله ويشكو ويبكي بين يديه يستفرغ ذلك كله في الشهوات، وكأنما أعطاه الله ما أعطاه ليعصيه به وحاشا لله. تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، هل تسألون ربكم هذا أو لستم في حاجة إليه؟! لم لا نسأل؟! يا فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي [يوسف:101] وليس لي ولي سواك في الدنيا والآخرة معاً، أطلب منك أن تتوفني مسلماً، أي: على الإسلام، إسلام قلبي ووجهي لك، وقد علمنا من قبل معنى إسلام القلب والوجه، فأسلم قلبك لله، فلا تفكر أبداً إلا في ما يرضي الله، لا تلتفت بقلبك إلى غير الله، لا مانع ولا معطي ولا ضار ولا نافع ولا رافع ولا واضع إلا هو، أعطه قلبك ووجهك، فلا تلتفت إلى أحد سواه، أنت وليي فليس لي ولي سواك.
بعض التعاليم لمن أراد أن يموت مسلماً
كما بينت لكم ما ينبغي أن نسلكه لنحصل على هذه الجائزة العظمى وهي أن نموت مسلمين، فمن ما بينت لكم: البعد عن مجالس السوء والباطل حتى لا تسري العدوى إلى قلبك من قلوبهم، فهذا الله جل جلاله يوصي رسوله ويقول له: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28]، فاحذروا مجالس السوء -وأنتم تعرفونها- كمجالس الغيبة والنميمة والقمار والكذب والأغاني والمزمار والأباطيل والأضاحيك فأهلها قلوبهم ميتة. ثم طهروا بيوتكم ونقوها، اطردوا الشياطين منها -وقد أعطاكم الله قدرة على ذلك- واملئوها بالملائكة أهل النور، فلا يرى الله تعالى في بيتك في حجرتك في غرفتك شاشة للتلفاز أو الفيديو، كما لا يرى الله عاهرة من عاهرات الدنيا تغني أو تتبجح وتتكلم، أو يرى كافراً أو فاسقاً في بيتك يتكلم بالباطل وينطق بالسوء. وقد ظهرت آثار هذه الفتنة، وأصبح الناس يموتون على سوء الخاتمة، إذ إن لله سنناً لا تتبدل أبداً، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، ومجالسة السوء والإقبال عليه وإعطاؤه القلب والنفس نهايته أن يموت العبد وهو لا يقول: لا إله إلا الله. واذكروا قول الله عز وجل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وإرشاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن )، والله عز وجل يقول -وقوله الحق- في سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، حق أوجبه على نفسه تفضلاً منه وتكرماً على عبده، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، ما السوء؟ موسى؟ سكيناً؟ سماً؟ ما السوء؟ قيل: إن عالماً بالرياض يعرف السوء، فهل نبعث إليه واحداً يعلمنا السوء أو ليس هناك حاجة؟ وإن قالوا: إنه غير موجود في الرياض، فقد التحق بالهند، فهل نبحث من نبعث إليه أو ليس هناك حاجة؟ ما السوء؟ السوء: كل ما أساء إلى نفسك، فلوثها بالعفن والنتن والظلمة من سائر الذنوب والآثام، كل ما يسيء إلى تلك النفس الطاهرة فيخبثها أو يلوثها فذلكم هو السوء، وعليه فيدخل في السوء كل معصية صغرت أم كبرت، وإنما التوبة على الله حقاً وصدقاً منته تفضله إحسانه، وإلا فمن يوجب على الله شيئاً وهو قاهر الخلق وملك الكل؟! لكن من إحسانه يوجب على نفسه اطمئناناً لقلوبنا، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17] أولاً، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] ثانياً. ما معنى: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]؟ أنواع الجهالة كثيرة، منها: أن يقول: هذا العالم الفلاني يفعل في هذا، فلو كان حراماً ما فعله، فهذا نوع من الجهالة، ومنها: أن يقول: هذا أحسن من أن أقتل فلاناً أو أفعل كذا وكذا، يهون هذا الذنب ويخففه، كذلك من الجهالة أن يقول: سيتوب الله عليّ وأتوب، أو يقول: إذا فعلت كذا أتوب، فهذه أنواع الجهالة، ويخرج منها ذاك الذي يتعمد معصية الله والفسق عن أمره عناداً ومكابرة على علم، ومثل هذا لا يتوب الله عليه، إنما يتوب الله على من فعل المعصية بجهالة من الجهالات، ثم يتوب من قريب، لا يؤجلها العام والأعوام، أما الذي يعرف أن الله حرم هذا ويفعله ساخراً وضاحكاً، فمثل هذا لا يتوب أبداً، ولا تقبل له توبة، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17] عليم وحكيم يضع كل شيء في موضعه. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، الباب أُغلق، ما تنفعه تلك التوبة، وقد بين الحبيب صلى الله عليه وسلم هذا الإجمال بقوله: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) إن الله يقبل توبة العبد والأمة ما لم يغرغر، تعرفون الغرغرة؟ آه، ما يُفصح، عندنا لها مثل الحاضرون ما عرفوه، أيام كانت البطارية -الحجر- التي نُشغِّل بها الإذاعة -سبحان الله- الكهرباء كالروح لا محالة، وهي الطاقة، لما تفرغ تلك الطاقة تصبح تلك البطارية تغرغر، فتسمع لها خشخشة، وكأن الروح كادت أن تخرج، فسبحان الله! الكهرباء هذه سواء بسواء، فإذا غرغرت وحشرجت الروح في الصدر فلا تقبل توبة العبد، ونحن لا ندري متى نموت؟ أو فينا من يعلم ذلك؟ يكذبكم من يدعي أبيضاً كان أو أسوداً. إذاً: فمن هنا وجب علينا أن نأخذ بالإرشاد المحمدي: أتبع السيئة الحسنة، والتوبة بإجماع أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة على أنها تجب على الفور، فلا توجد توبة يقول لك: أخرها أسبوعاً، أو انتظر بها حتى يأتي فلان، أو انتظر حتى تتوظف، أو انتظر حتى تتزوج، فهذا كله باطل ولا وجود له، وكل هذا من أجل أن نحقق مطلوب الله منا، ألا وهو: أن نموت مسلمين، فقلوبنا لله لا للشيطان ووجوهنا لله لا للشياطين.
أمر الله لعباده بأن يعتصموا بحبله ولا يتفرقوا
ثم جاء الأمر الثاني: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، كيف نعتذر اليوم إلى الله؟ واعتصموا، الاعتصام: الالتفاف حول الشريعة، وأخذها بعقائدها وعباداتها وآدابها وأخلاقها وأحكامها، اعتصامٌ كامل بذلك الحبل الممتد من العرش إلينا، ألا وهو الإسلام وكتابه وشرائعه. كيف حالكم معاشر المسلمين؟! كم مذهباً عندكم؟ سبعون، كم طائفة؟ كم حزباً؟ كم دولة؟ أين الاعتصام بحبل الله؟! أين عدم التفرق؟! وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقد خلعنا أيدينا من حبل الله وتركناه مدلى، وقلَّ من يُمسكه، فغضب فانتقم، لما تفرقنا وتمزقنا سلط الله علينا أوروبا التي كانت ترتعد فرائصها إذا قيل: عربي عند الباب. حدثنا الشيخ رشيد رضا في مناره عن شيخه محمد عبده رحمهما الله ورضي عنهما -وهناك فئة لا هم لها إلا النقد والطعن! وإنه لضلال في ضلال- قال: كنت في فندق في باريس -أستغفر الله- أو سويسرا فقلت لربة الفندق: أريد ماءً أتوضأ به، فجاءته بإناء فيه ماء -الشيخ محمد عبده يتوضأ ليصليَ المغرب أو الظهر- قال: فلما فرغت من الوضوء من ذلك الماء -ممكن في صحفة أو غيرها- جاءت طفلة جويرية صغيرة تحبو كعادة الأطفال الصغار، وأرادت أن تمس الماء، فقالت لها أمها: كخ كخ. فقالت البنت: ماما ماما ديدان ديدان. أي: العربي هذا سقطت منه هذه الديدان! فانظر كيف حذرت الأم الطفلة وقالت لها: كخ كخ، ابعدي، لمَ يا أماه؟ فيه وسخ هذا العربي، فالبنت انحسرت عنه فقالت: ماما ماما، ديدان، حشرات موجودة، جراثيم! فإذا أرادت هذه الأم أن تخوف ابنتها تقول: عربي عند الباب! فهل عرفتم أوروبا؟ واسألوهم، إذا أرادت الأم أو الأب أن يخوف ولده يقول له: عربي عند الباب! وكلمة: (عربي) عندهم يعني: مسلم، فكل مسلم عربي، صيني هندي بخاري، كل مسلم عربي، فكلمة: (عربي) هذه طغت؛ لأنهم هم الذين نشروا نور الله، وأخذوا الإسلام وبلغوه الشرق والغرب. فهؤلاء عرفوا كيف يعاملوننا، فمزقوا جمعنا وشتتوا شملنا، فقط الطرائق في قرية واحدة سبع طرائق: التجانية، القادرية، العيساوية، الرحمانية، الأحمدية، وكل طريقة يجتمع أهلها فيشربون الشاي ويأكلون، لا رابطة ولا جامعة، فهم على مذاهب شتى، فإذا قلت لأحدهم: هذا هو الحديث، يقول لك: لا، أنا مالكي! اسأل كذا، فيأتي للآخر فيقول لك: لا، أنا حنفي! آلله جاء بهذا؟! هذه مظاهر الخلاف والفرقة، كما جاءت مصيبة أكبر وهي الحزبية، فهذا حزب فلان، وهذا حزب فلان، وهكذا لما هبطنا سلط الله علينا أوروبا فساسونا وسادونا، من يقول: لا، والله إلا هذه البقعة فقط، كرامة الله لرسوله ولبيته، والعالم الإسلامي تحت أقدام الكفار، لمَ؟ لأنهم عصوا ربهم.قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وهؤلاء نفضوا أيديهم من حبل الله وتركوه وتفرقوا، وبالتالي حقت عليهم كلمة العذاب. وإلى الآن ما زال المسلمون متفرقين جاهلين متخاصمين متباعدين، فلا إله إلا الله! وتأتينا مجلة كشمير اليوم إلى البيت فنشاهد الدماء مسفوكة والعظام مكسرة، فماذا نصنع؟ تأتي أنباء البوسنة والهرسك و.. و.. والشيشان فماذا نفعل؟ جاءتني اليوم ورقة منشورة عن أحد الإخوان قال: وصل إلى البوسنة والهرسك من المدينة ثلاثة آلاف مجاهد. كذب هذا! ثلاثة آلاف مجاهداً؟! أين تدربوا؟! أين تعلموا؟! كيف يجاهدون؟! يذهبون ليزاحموا أولئك المبتلين الممتحنين في قرص العيش؟! بماذا يجاهدون؟! أهكذا الجهاد؟! إن الجهاد في أمة لا إله إلا لله أن يقودها أمام واحد، هو الذي يبعث بالكتائب ويرسل بالفيالق التي تغزو وتفتح، أما أن ننتكس هذه الانتكاسة ونجاهد هذا الجهاد فلا عندما نكون أمة هابطة لا نستطيع أن نجاهد في أي بلد؛ لأننا ما ربينا في حجور الصالحين، ولا تجمعنا جامعة ولا تربطنا رابطة، وليس لنا من الآداب والأخلاق ما يوحد كلمتنا أو يؤاخي بيننا، فنحتاج إلى تربية ربع قرن على الأقل، خمسة وعشرين سنة حتى نعرف قيمة الجهاد. إخوانكم في الجزائر أربع سنوات أو ثلاث إلى الآن يريقون دماء بعضهم بعضاً، ويمزقون لحوم بعضهم بعضاً من أجل الجهاد، وإقامة الدولة الإسلامية؟ هل ستقوم؟! أين الذين تقوم عليهم الدولة؟ أين أولئك الأبرار الصادقون الصالحون أولوا البصائر والنهى الذين يذوبون في ذات الله، الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟ أمة هائجة تجري وراء الشهوات والأطماع هل يمكنها أن تتلاءم وتنحني بين يدي الله فتعطيه القلب والوجه حتى يسودها شرع الله؟ واحسرتاه! ولكن ماذا يجدي البكاء والتأوه، من الآمر بهذا الأمر: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] إنه الله.
معنى قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم)
وآخر أمر: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [آل عمران:103]، المسلمون في الهند قبل دخول الإسلام عليهم كانوا أعداء لبعضهم البعض، المسلمون في الشام، في إفريقيا، في أي مكان قبل وجود الإسلام ما كانوا على المودة والإخاء، بل كانوا على الفرقة والبلاء، وبخاصة أهل المدينة -الأوس والخزرج- فقد دارت رحى الحرب بينهم أربعين سنة، وذلك بين قبيلتين من أصل واحد أيضاً، ولكنه الجهل والكفر والعمى والضلال، فجمع الله بين قلوبهم بصورة عجيبة بالإسلام
امتنان الله على رسوله بأن ألف بين قلوب المؤمنين
واسمع قول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63]، فلو تأتي الآن دولة كبيرة كأمريكا، وتأتي بباخرة كلها دينار أمريكاني أو دولار وتقول للجزائريين: تحابوا، تعاونوا، تلاقوا، تعانقوا، خذ شيكاً بمليار، خذ شيكاً بكذا، فهل تزول الأحقاد والإحن والبغضاء والفتن؟ والله ما تزول، يأخذون المليارات، ويأخذون في الإسراف فيها والفساد والشر، فلا ننفع. لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63]، ما معنى: مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [الأنفال:63]؟ من الأموال؟ لا تفهم أن المال يوحد بين الناس، بل والله إنه يزيد الفتنة، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]، ألف الله بينهم بهذا النور القرآني، بمعرفة الله ومعرفة محابه ومساخطه، ومعرفة ما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه. هذه هي المعرفة التي ألفت القلوب ووحدت بينها، ألف الله بينهم أن هداهم للإيمان، وأن جمعهم حول رسوله الكريم، يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وفترة من الزمن وإذا هم على قلب رجل واحد.وإن قلت: هذه القضية تتعلق بالأوس والخزرج أو بالأنصار والمهاجرين، ونحن بيننا وبينهم قرون، فكيف يذكرنا الله بها؟ فأقول لك: أما سمعت الله يقول: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [إبراهيم:6]؟ يذكرهم بأن أنجاهم من آل فرعون، فكم بينهم من الزمن؟ ثلاثة آلاف سنة. ويقول ليهود المدينة: اذكروا هذه النعمة، فلا يقولون: أوه هذه بعيدة؛ لأن تلك الوحدة وذلك التآلف والحب هو الذي نقل إلينا هذا النور والإسلام فعشنا عليه. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، كانت القبائل العربية تتقاتل، والقبائل في كل بلاد العالم قبل الإسلام تتقاتل.
وجوب شكر نعم الله علينا
وهنا معاشر المؤمنين والمؤمنات! نذكر النعم فلا ننساها، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع بين يديه طعام، لا بقلاوة ولا رز بخاري ولا مصلي ولا.. ولا..، بل طعامه من تمر أو غيره لا يقول: ما هو؟ وما هذا؟ بل يأكل قرص عيش، أو كسرة خبز ثم يقول: ( الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة )، فالحمد لله رأس الشكر، فاحفظوا هذا يا عباد الله، فمن لم يحمد الله ما شكره. ثم تأتي السنة الأخرى وهي: ما رفع طعام الرسول أو مائدته أو صحفته من بين يديه إلا وقال: ( الحمد لله -لا تستعجلوا- حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنىً عنه ربنا ) فالصحابي يقول: ما رفع رسول الله صحفة أو مائدة إلا قال هذا اللفظ حتى مات، فكيف حالكم أنتم؟ هل تقولون هذا؟ إذا أردت أن تركب سيارتك والمفتاح بيدك ماذا تقول؟ هل تشكر الله؟ أليست هذه السيارة نعمة؟ والله لنعمة، إنها تسير بنا في الطرقات، وتقطع المسافات التي كنا نقطعها في الأيام في ساعات، والدابة التي تدب على الأرض، سواء كانت حماراً أو بغلة أو فرساً أو جملاً ماذا علَّمنا الله تعالى عند ركوبها؟ ماذا قال؟ قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14]، فارفع رجلك يا عبد الله وضعها على جانب السيارة وقل: الحمد لله الذي سخر لي هذا وما كنت له مقرناً. والسفينة علمنا إذا ركبناها أن نقول: باسم الله مجراها ومرساها. أما الطائرة فلا تسأل، وطائراتكم أيها المسلمون -باستثناء هذه الأمة الطاهرة أو الحكومة الإسلامية- تباع فيها أنواع الخمور، تباع في السماء! ولا يذكر اسم الله، ولا يقال فيها: الله أكبر، فأين شكر الله على هذه النعم؟ إذاً: الشاهد عندنا: اذكر النعمة تشكرها، أما أن تنساها والله ما تشكر، فنحن مأمورون بذكر النعمة أو بشكرها؟ بذكرها؛ لأننا إذا ذكرناها شكرناها، لو قال: اشكروا، لا نستطيع ونحن لا نعرف النعمة ولا نذكرها، فأولاً: اذكروا النعمة؛ لأنك إذا ذكرتها شكرت الله، فإذا مشيت فاذكر قدميك وساقيك ورجليك، وأخوك يمشي على عصا، فهلا قلت: الحمد لله؟ وإذا مشيت وترى أخاً أعمى بين يديك أو ضعيف البصر وأنت تبصر، فهلا قلت: آه! هذه نعمة، أذكر الله وأشكره عليها. في جيبك ريال وعشرة وعشرون، وآخر ليس في جيبه ريال ولا قرش واحد، فهلا قلت: الحمد لله والشكر له. كذلك تجلس على مائدة فتأكل ما شاء الله من الأطعمة، فتذكر أن أناساً بجوارك وفي بلدك وغير بلدك ما وجدوا هذا الطعام، فهلا قلت: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله. ولنذكر حادثة حتى نعمل بما نعلم والشكر لله، فإذا تعلمنا المسألة والله من جريدة وما هي من كتاب، ما نستطيع إلا أن نعمل بها!كنا بمدينة بريدة في رحلة للدعوة أو محاضرة، واستدعانا أستاذ من أساتذة البلاد للغداء، فوضع السفرة والغداء، وله شيخ أكبر مني، فلما وضعت السفرة وأقبلنا عليها نأكل وذاك الشيخ يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، ينظر في تلك النعم من الرز واللحم ويقول: الحمد لله، والله حتى فرغنا وهو يقول: الحمد لله، الحمد لله، وإن شاء الله تنتقل إليكم. ومضت سنتان أو ثلاث وحدثت بها في هذا المسجد وانتشرت، وجمعني الله بآخر في الرياض، كذلك ما إن وضعت السفرة وأخذ الأكلة يأكلون إلا وهو يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله. إذاً: ذكر النعمة يا أبنائي يحملك على شكرها، وأما أن تتجاهل النعمة وتغمض عينيك عنها ولا تلتفت إليها، فلا يمكن أن تشكر الله عليها، بل اذكر تشكر. ولا تسألني عن نعمة الشكر، فالشكر قيد النعم، إذا النعمة حاصلة فقيدها الذي تقيدها به هو شكر الله، وهو أيضاً يجلب النعم ويأتي بها، فإن فقد عبد الله الشكر خرجت النعم من بين يديه، ولا يطمع في أن يحصل على مثلها، واقرءوا قول الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ [إبراهيم:7] هذه فيها معنى: وعزتي وجلالي لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ [إبراهيم:7] فماذا؟ إِنَّ عَذَابِي [إبراهيم:7] ما قال: ولئن كفرتم لأسلبنها أو لأحرمنكم منها، فهذه العبارة لا تؤدي الغرض، لكن التي تؤدي إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء، يمشي في صحة فيصبح مشلولاً، يمشي في رغد من العيش فيصبح فقيراً ، يصبح في أمن وإذا به في مخاوف، فهذا ألوان العذاب إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، فاذكروا معاشر الأبناء هذا، ولا تنسوا نعم الله، فإنها أداة الشكر، اللهم اجعلنا وإياكم من الشاكرين. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (41)
الحلقة (182)
تفسير سورة آل عمران (46)
إن طاعة كثير من علماء اليهود والنصارى بالأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تودي به إلى الكفر، شعر بذلك أم لم يشعر، فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم، وإنما يعصم المسلم من مثل ذلك التمسك بكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بهما لم يضل، وعن سبيل الهداية لم يزل.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، حقق اللهم لنا هذا الموعود، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران، وما زلنا مع النداءين الكريمين أتلوهما وتأملوا ما جاء فيهما، وقد عرفتم الكثير ولا ينقصكم إلا أن تتذكروا ما علمتم، ثم ندرس الآيات دراسة في الكتاب -أي: التفسير- إذ لو درسناها بدون قراءة لما جاء فيها في التفسير، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:100-103].
معنى الآيات
هذه الآيات شرحها في هذا التفسير، فلنستمع ولنتأمل، قال الشارح غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ بعد أن وبخ الله تعالى اليهود على خداعهم ومكرهم وتضليلهم للمؤمنين، وتوعدهم على ذلك، نادى المؤمنين محذراً إياهم من الوقوع في شباك المضللين من اليهود، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وذلك أن نفراً من الأوس والخزرج ] والأوس والخزرج سكان هذه المدينة، وقد كان يقال لها: يثرب، وهم من قبائل اليمن، وذلك لما تحطم السد وشرد أهل البلاد نزح من نزح إلى الشام، ومن نزح نزح في طريقه، فبقي الأوس والخزرج هنا، وبعد أن طلعت الشمس المحمدية فيهم سماهم الله بالأنصار، إذ نصروا دين الله ورسوله والمؤمنين. قال: [ وذلك أن نفراً ] سبعة أنفار أو ثمانية [ من الأوس والخزرج كانوا جالسين في مجلس ] من مجالسهم في مدينتهم [ يسودهم الود والتصافي ] أي: جالسين يسودهم الود والتصافي والحب [ وذلك ببركة الإسلام الذي هداهم الله تعالى إليه، فمر بهم شاس بن قيس اليهودي ] عليه لعائن الله، فلما رآهم صامتين مبتسمين هادئين ساكنين مسرورين اغتاظ، وما طابت له الحياة [ فآلمه ذلك التصافي والتحابب، وأحزنه بعد أن كان اليهود يعيشون في منجاة -بعيدة - من الخوف من جيرانهم الأوس والخزرج؛ لما كان بينهم من الدمار والخراب ] أي: من الحروب، فقد دامت حرب أخيرة بينهم في الجاهلية أربعين سنة، واليهود ينعمون ويضحكون، أعداؤهم يتقاتلون وهم في راحة. قال: [ فأمر شاس شاباً ] من شبيبة المدينة [ أن يذكرهم بيوم بعاث ]. أرأيتم الإعلام اليهودي؟ إن اليهود اليوم أخبث من اليهود الذين مضوا لما علمتم أن الدنيا ما تنتهي حتى تشيخ البشرية فيزول ذلك الكمال البشري شيئاً فشيئاً، كنشأة الإنسان، ينشأ ذكياً طاهراً نقياً أربعة عشر سنة أو خمسة عشر ثم بعدها يشب، ويبدأ الطيش والمكر وكذا.. وإذا عرج على الستين أخذ يهبط حتى يخرف، فالدنيا هكذا، الكمال الذي كان في العرب لا يوجد الآن في خريجي كليات المشركين في أوروبا وغيرها.والشاهد عندنا -وهي لطيفة-: ما يمضي عام إلا والذي بعده شر منه، وعلة ذلك أن البشرية تكبر وتشيخ شيئاً فشيئاً، فتصبح تعبث بالحياة.قال: [ فأمر شاس شاباً أن يذكرهم بيوم بعاث، فذكروه وتناشدوا الشعر، فثارت الحمية القبلية بينهم، فتسابوا وتشاتموا حتى هموا بالقتال ] عرفتم ما فعل شاس؟ جاء بشاب مغرور لا يدري، فقال له: ذكرهم بأيام بعاث، فذكرهم فأخذوا يتناشدون الشعر كما كانوا، ويشتم بعضهم بعضاً حتى هموا بالقتال. قال: [ فأتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم ] ذهب من ذهب إليه وقال: تعال، الأنصار كادوا يقتتلون [ فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم وذكرهم بالله تعالى وبمقامه بينهم ] أي: بمقام الرسول بينهم ووجوده فيهم [ فهدءوا، وذهب الشر ونزلت هذه الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، فحذَّرهم من مكر أهل المكر من اليهود والنصارى، وأنكر عليهم ما حدث منهم، حاملاً لهم على التعجب من حالهم لو كفروا بعد إيمانهم؛ فقال عز وجل: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101] صباح مساء، في الصلوات وغيرها، وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] هادياً ومبشراً ونذيراً، وأرشدهم إلى الاعتصام بدين الله. وبشر المعتصمين بالهداية إلى طريق السعادة والكمال، فقال: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ [آل عمران:101] أي: بكتابه وسنة نبيه، فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، ثم كرر تعالى نداءه لهم بعنوان الإيمان تذكيراً لهم به، وأمرهم بأن يبذلوا وسعهم في تقوى الله عز وجل، وذلك بطاعته كامل الطاعة، بامتثال أمره واجتناب نهيه، حاضاً لهم على الثبات على دين الله حتى يموتوا عليه، فلا يبدلوا ولا يغيروا، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وأمرهم بالتمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، وأرشدهم إلى ذكر نعمته تعالى عليهم بالألفة والمحبة التي كانت ثمرة هدايتهم للإيمان والإسلام، بعد أن كانوا أعداء متناحرين مختلفين، فألف بين قلوبهم فأصبحوا بها إخواناً متحابين متعاونين، كما كانوا قبل نعمة الهداية إلى الإيمان على شفا جهنم، لو مات أحدهم يومئذ لوقع فيها خالداً أبداً، وكما أنعم عليهم وأنقذهم من النار، ما زال يبين لهم الآيات الدالة على طريق الهداية الداعية إليه؛ ليثبتهم على الهداية ويكملهم فيها، فقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103] ] هذا شرحٌ لتلك الآيات، فهيا نضع أيدينا على ثمارها، وعلى نتائجها وعبرها علَّنا ننتفع بذلك.
هداية الآيات
قال الشارح: [ هداية الآيات: ] ولكل آية هداية تهدي المؤمن إلى رضوان الله وجواره الكريم[من هداية الآيات: ]
أولاً: أن طاعة علماء اليهود والنصارى يؤدي بالمسلم إلى الكفر
[ أولاً: أن طاعة كثير من علماء اليهود والنصارى بالأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تؤدي بالمسلم إلى الكفر، شعر بذلك أم لم يشعر، فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم ]، وبينا هذا بياناً شافياً، وسمعتموه في إذاعة القرآن، فانتبهوا، إذ إن طاعة كثير من اليهود -لا كل اليهود- والنصارى والأخذ بنصائحهم التي يقدمونها لنا وبتوجيهاتهم السياسية والمالية والعلمية والاجتماعية والديمقراطية وما يشيرون به على المسلم، افعل كذا، لا تفعل كذا، يؤدي بالمسلم إلى الكفر، شعر بذلك أم لم يشعر، فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم.وقد بلغني اليوم من أحد الناس: أن امرأة مصرية زوجها ملحد علماني فرفعت أمرها إلى المحكمة وطالبت بالطلاق لأنه كافر، فطلقها القاضي، فأذاع اليهود من إذاعة لندن فقالوا: إن المصريين تأخروا بهذا الحكم خمسين سنة إلى الوراء! كيف تُطلِّق المرأة عن زوجها لأنه علماني، أو لا يؤمن بالله واليوم الآخر؟! تبجحت إذاعة لندن بهذا.والشاهد عندنا: قولوا: صدق الله العظيم، أقول على علم: إن الكثيرين ممن يسوسون العالم الإسلامي من وزراء وخبراء وفنيين ومسئولين، كثيرون منهم لما كانوا يدرسون هذه العلوم المادية في روسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، تخرجوا وقد سمموهم وأفسدوا قلوبهم، ومن قال: لمَ؟ ما الدليل؟ أقول: الدليل: أنهم مصرون على الباطل، وتطبيق الهوى، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله، ولو كانوا أحياء بإيمانهم بصراء لا يثبتون على هذا، لا بد وأن يطالبوا بالإسلام وتطبيق شريعته، لكنهم كالمسحورين. أو ما فهمتم هذه اللغة؟ أنت تجلس بين يدي كافر يربيك عشرين سنة حتى تأخذ الدكتوراه، عشر سنوات وأنت تسمع منه وتتلقى منه وهو كافر، أما ينتقل كفره إليك؟ هل أنت معصوم؟ شاب يجلس في مجلس فاسد سبعة أيام أربعة أيام فيقلبوه إلى خبيث منتن، فكيف بالذي نضعه بين أيدي مربين علماء مسيح ويهود ونصارى يتعلم منهم؟! ما يسلم إلا أن يشاء الله، وهذا كلام الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:100-101]. من أين يأتي الكفر؟ يا للعجب وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، وهذا قد بيناه مئات المرات، لكن صوتنا هذا لا يسمع. هل يمكن أن اليهود سحرونا؟! نقول: ينبغي إذا أردنا أن نبتعث بعثة من أبنائنا أن نبعث معهم عالَمين، وأن نسكنهم في منزل واحد، وأن يكون في المنزل مسجداً، فإذا خرجوا من المدرسة يأتون إلى تلك القاعة النورانية، فيتعلمون الكتاب والحكمة، ويعبدون الله عز وجل، فيعودون أطهر مما كانوا؛ لأنهم حبسوا كذا سنة في بيت الله يتلقون الكتاب والحكمة، أما أن نبعث بهم وهم شبان، حمقى، طائشين، هائجين، شهواتهم عارمة، نبعث بهم يدرسون، من يسلم منهم من الزنا والعهر؟ ومن يسلم منهم من الباطل؟ ومن ومن؟ إلا أن يشاء الله.في بلادنا هذه المكرمة السعيدة بدولة الإسلام، يأتون ولكن ما يُفصحون، لا بد وأن يصلي ويقول: لا إله إلا الله، لكن بلاد حرة أخرى يسب فيها الله والرسول ويسخر منك، فهل فهمتم هذه أم لا؟ لمَ لا تبلغونها؟ والمحنة أيضاً: أنهم يبعثون بناتهم وفتياتهم يتعلمن في سويسرا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا! كيف يعدن هؤلاء؟ عواهر مائة في المائة، ومن أجل ماذا؟ ومن شرع لنا تعليم بناتنا الكفر والباطل؟ إنهم اليهود والنصارى، الذين يقولون: حتى لا تبقى المرأة ميتة في البيت، ميتة في البيت! تعال نبين لك حياتها في البيت، فأنت الميت وأمك وامرأتك، المرأة في بيتها تعبد الله أربعاً وعشرين ساعة، فهي تذكره دائماً، فهل هذه ميتة؟! إنها تربي البنين والبنات وتخرجهم صالحات، وتقوم بشئون زوجها، وتسعده في فراشه وفي طعامها وشرابها، كل هذا العمل لا تأتي به فرنسا كلها، قولوا: مسجونة في البيت! ونحن نمد أعناقنا لأننا جهالاً لا نعرف شيئاً، ماذا أنتج لهم تعليم بناتهم في الضلال والزندقة والباطل؟ هل لهم أن يدلونا؟ والشاهد عندنا: قول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101]، والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]؟ هذه هي المناعة، هذه هي الحصانة، أما أن نبعدهم عن الكتاب والسنة بالمرة ونطرحهم ونضعهم بين أيدي مربين كفرة، ونقول: يؤمنون، فهذا ليس بمعقول، بل إنهم يكفرون، فبلغوا هذا للمسلمين.
ثانياً: أن العصمة في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
[ ثانياً: العصمة] كل العصمة [ في التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بهما لم يضل ] ولن يضل، وأخذنا هذا المعنى من قول الله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]، فأيما أسرة أو قرية أو أمة أو جيل من الناس يعيشون على كتاب الله وسنة الرسول، فلا يضلون ولا يكفرون ولا يفسقون -ووالله ما كان- بل مستحيل، فإنها سنن الله التي لا تتبدل، فالطعام يشبع، والماء يروي، والحديد يقطع، والنار تحرق. فلماذا لم تتوقف هذه السنن؟ هل أصبحنا في وقت الماء لا يروي أبداً؟ هل تشرب برميل ماء فلا تروى؟! هل أصبحت النار لا تحرق؟ هل هذه السنة تبدلت؟! لا. إذاً: الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله من سنن الله أن صاحبهما لن يزيغ ولن يكفر ولن يهلك أبداً.
ثالثاً: الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال
[ ثالثاً: الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال، وأخيراً من الهلاك والخسران ] في الدنيا والآخرة، فلا زيغ في القلب ولا ضلال في الحياة، ولا هلاك في الدنيا والآخرة، ولا خسران للذين تمسكوا بالإسلام. والبرهان على هذا: ما زلنا نقول: أنت في بيتك تمسِّك بالكتاب والسنة، وانظر هل تزيغ أو تهلك؟ هل تخسر؟ والله ما كان، سواء أسرة أو قرية، وقد بينا غير ما مرة: القرون الثلاثة الذهبية، هل اكتحلت عين الوجود بمثلها؟ والله ما كان، وعرف هذا الأعداء، فهم يشوهون ويزيدون وينقصون كالكلاب يلهثون، ولكن مستحيل أن يوجد جيل أو أمة تبلغ ذلك المستوى الذي بلغته تلك القرون الذهبية من الصحابة وأولادهم وأحفادهم، إنه الكمال المطلق في عقولهم، في آدابهم، في سلوكهم، في حياتهم كلها. سبب ذلك ماذا؟ تعاليم سقراط؟ الفلسفة الكاذبة؟ التاريخ الهائج؟ إذاً ماذا؟ ما هو إلا قال الله وقال رسوله، التمسك بالكتاب والسنة عقيدة وخلقاً وآداباً وشرائع وأحكاماً وقوانين. وقلنا لهم: تعالوا نريكم بأعينكم يا حسدة، لما هبط العالم الإسلامي إلى الأرض أين كان؟ كان في السماء، هبط فوضع الغرب قدميه أو أقدامه على العالم الإسلامي، ممالك الهند حكمتها شركة تجارية بريطانية، أُسود المغرب وأبطاله شمال إفريقيا كان يضرب بهم المثل، وضعت فرنسا أقدامها على رقابهم وبالت عليهم. الشرق الأنور الأوسط كله يرزح تحت وطأة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. فكيف هذا؟ ما السبب يا فلاسفة، يا علماء الاجتماع، يا علماء النفس؟ دلونا؟ والله ما يعرفون، هبطوا لأنهم احتالوا عليهم منذ قرون، أبعدوهم عن القرآن إي والله، حوَّلوا القرآن ليُقرأ في المقابر والمآتم، ليُقرأ على الموتى فقط، ويحك! أن تقول: قال الله، اسكت، كيف تقول بدون علم: قال الله؟! والسنة تُقرأ للبركة، ففقدوا مصدر الحياة فماتوا، انتشر الشرك، وعمَّ علماء أزهريين بعمائمهم وهم يركعون ويسجدون على القبور! لا إله إلا الله! قرون فقدوا العقيدة، فقدوا النور، فقدوا الهداية، وأصبح في القرية خمس طرق، الآن مصر المعزية بها سبعون طريقة، وإن كان خفت صوتها لكن ما زالت أصولها سبعين طريقة، من التجانية إلى القادرية إلى.. إلى..، لا إله إلا الله! المذاهب مفرقة، الطرق.. و.. وبالتالي سلط الله علينا الغرب فحكمونا، وشاء الله عز وجل أن يريهم آية من آياته، ومع هذا عموا وصموا، لا إله إلا الله! ففجأة طلعت شمس الإسلام من جديد، قالوا: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود احتل الرياض وأعلن عن دولة القرآن! كيف هذا؟! قالوا: نعم، زحف من بلد إلى بلد، ووصل إلى المدينة فحاربوه وقتلوا رجاله، ثم انتقل إلى مكة وجلس عبد العزيز على كرسي الملك.لطيفة ذكرها الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار فقال: زرت الملك عبد العزيز وهو في قصر المعابدة، وقصر المعابدة كان لدولة الأشراف، قال: فلما دنوت تلوت آية من سورة يونس، وهي قوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [يونس:13] الله أكبر! لما ظلموا أو لا؟ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:13-14] قال: وإذا عبد العزيز يغلبه البكاء والنشيج، فأين أنت نازل يا عبد العزيز ؟ في قصر المعابدة تبع الأشراف، من أجلسك هناك؟ من ملَّكك؟ أليس الله؟ لمَ؟ ليبتليك، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14]. ونحن صبية في الكُتّاب نتعلم القرآن لنقرأه على الموتى فقط، حتى أمي رحمة الله عليها -وهي من الصالحات إن شاء الله- قالت: يا رب! أسألك أن تجعل ولدي إما طالب قرآن وإما جزار. لماذا؟ لأن اللحم عندنا من العام إلى العام، أو كل ستة أشهر مرة، وسلوا أجدادكم، الجزار لا بد أن يأتي باللحم وبالكرشة وبكذا، أو طالب قرآن يقرأ على الموتى ويأتيها بقطعة اللحم يلفها في منديله ويأتي بها، رحمة الله عليها. إذاً: هذا الشيخ يعلمنا القرآن ونحن صبية، فقال: الآن السلطان عبد العزيز في مكة ومر رجل معه كيس في الشارع فيه دقيق، ومسه آخر بأصبعه -هذا الرجل- فبلغ السلطان أن هذا الرجل أراد أن يسرق أو كذا، فقام فقطع له أصبعه -وهذه مبالغة- قطع أصبعه لأنه مسَّ كيساً ليس له، وليس له ذلك، وبالتالي ساد الأمن في هذه الديار، وما عرفته والله إلا أيام الخلفاء الراشدين والقرون المفضلة. أمن حارت به الدنيا، لا يوجد في أوروبا ولا في أي مكان، ما عنده تلفوناً ولا رشاشاً ولا طيارة ولا..، يخرج المؤمن من المدينة إلى حائل، إلى الأحساء، إلى أبها، إلى الرياض لا يخاف إلا الله، فلا إله إلا الله! أمن وطهر، فقد انتهت الجريمة، فلا خلاعة ولا زنا ولا فجور ولا.. ولا..، وما شذ فلا قيمة له، إذ قد شُذَّ حتى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن منذ ثلاث وأربعين سنة قلت لكم: كنا ننزل في بيت بلا أبواب أبداً، ودكاكين الذهب والله ما هي إلا خرق تلقى عليها، ويذهب صاحب الذهب إلى بيته يقيل ويتغدى وينام ثم يأتي! سحر هذا أم ماذا؟ كيف تحقق هذا؟ إذاً: أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. هذه هي النعمة. والشاهد عندنا: العرب والمسلمون يقولون: هؤلاء وهابيون، خوامس! وقد جاءني - وأنا طفل- أحد الصالحين من تلامذة العقبي في العاصمة بالأصول الثلاثة، وقد طبعت في الجزائر لأن دعوة الإصلاح منتشرة على عهد العقبي ، فأعطيت الكتاب لشيخي الذي يعلمنا القرآن، وكان ذكياً وفطناً، فتصفح الكتاب وهو على المنصة أو الدكة، ثم قال لي: يا أبا بكر ! هذا الكتاب طيب، ولكن قالوا: مؤلفه خامسي، مذهب خامسي! وأخذ العالم الإسلامي ينهش ويعض ويكسر ويحطم، لا يريد هذا النور أن يبقى أبداً، لكن الله قهرهم.وجاء دور الاستقلال، وهنا قلت: إن القوم عموا وصموا - فجاء دور الاستقلال- فأول قطر استقل -اسمعوا يا أحداث- هو انسحاب فرنسا من سوريا ولبنان، فكان المفروض والواجب القرآني الإسلامي الإيماني بمجرد ما خرجت فرنسا أن يبعثوا وفداً إلى السلطان عبد العزيز، وكان يومها هو هو، ويقولون: استقل هذا الإقليم عن دولة الكفر فلينضم إلى دولة القرآن. افهموا أن الشيخ يتكلم معكم ولا يعتبر ساسة الدنيا ساسة، بل هم جهلة يعيشون في الظلام، وأعود فأقول: كان المفروض أن يأتوا إلى عبد العزيز ويقولون له:يا سلطان عبد العزيز! استقل هذا الإقليم، ابعث لنا قضاة يطبقون شريعة الله، يحكموننا بالإسلام، وابعث خليفة لك يضيء هذا القطر وينضم إلى المملكة، وتطبق شريعة الله في دمشق وفي بيروت وفي تلك البلاد كما هي في المدينة والرياض والأحساء وحائل وتبوك. يسعدون أو لا؟ أو ما تعرفون؟ والله لو فعلوا لسعدوا في الدنيا والآخرة. ثم فجأة استقل العراق عن بريطانيا، فلو قالوا: يا سلطان عبد العزيز! ابعث قضاة، كنا نُحْكَم بالهوى، وابعث والياً عاماً يخلفك في تلك الديار، وهكذا استقل الأردن، استقلت مصر، استقلت كذا.. خمسة وثلاثون سنة والخلافة قائمة، أمة الإسلام أمة واحدة. لمَ ما فعلوا هذا؟ كل إقليم يستقل ماذا يصنع؟ الجمهورية، الديمقراطية، الوطنية، كذا.. مضى هذا من أجل أن يذوق المسلمون الذل والهون والدون والشقاء والخسران في الدنيا قبل الآخرة. أليس هو هذا أيها المسلمون؟ أين ثمار الاستقلال ونتائجه؟! فهل عرفنا الآن أو لا؟ قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103]، فما حبل الله سوى دينه وكتابه وهدي رسوله وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101] لن يضل ولن يشقى أبداً. إذاً الهداية الثالثة: [ الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال، وأخيراً من الهلاك والخسران ] والله الذي لا إله غيره! لو أن دولة في أوروبا تسلم غداً بلجيكا أو بريطانيا أو هولندا أو أي دولة، وتقيم الدولة كما أقامها عبد العزيز، للاحت في آفاق أوروبا أنوار لا حد لها، ولدخل الناس في دين الله أفواجاً، آيات الله، لكن اليهود والنصارى لا يريدون هذا، فهاهم الآن في البوسنة والهرسك فقط ما هم بالمسلمين، فقط قالوا: مسلمون، وإلا لا شريعة ولا ولا ولا، وأوروبا في كرب وهمّ وحيرة، يعقدون مؤتمرات في الداخل والخارج من جهة أن هؤلاء مظلومين، ومن جهة أنهم يريدون الإسلام، وهم في فتنة، فكيف لو أسلمنا قلوبنا ووجوهنا لله؟! أربعة وعشرون ساعة فقط ويهتز العالم بأسره.وكيف نسلم يا شيخ؟ بينا الطريق، فليس فيه كلفة، فقط معاشر المسلمين! من الليلة يجب أن نجتمع في بيوت ربنا بنسائنا وأطفالنا ورجالنا، نتلقى الكتاب والحكمة، ونبكي بين أيدي ربنا؛ فإنه سوف يعزنا ويرفعنا. فهل هذا يكلف شيئاً؟ ما إن تقبل الأمة على ربها، وتجتمع في بيوته يقودها نور الله -الكتاب والسنة- حتى تنتهي الخلافات، وينتهى الباطل والشر والخداع والتكالب على الدنيا والعبث والسخرية والفجور، كل هذا يمحى، سنة الله لا تتبدل، وتعود أمة الإسلام من جديد، بالحجارة تهدم كل سور من أسوار الكفر، بل ما يتركها الله للحجارة، وإنما يفتح عليها أنواعاً من السلاح ما عرفته أوروبا؛ لأن الله معها.معاشر المستمعين! هذا كلام اليهود والنصارى على علم به وعلى يقين، والمسلمون ولا واحد في المائة يعرف هذا ويسمع به، أما هم فيعرفونه يقيناً على علم.
رابعاً: وجوب التمسك بالدين الإسلامي وحرمة الفرقة والاختلاف فيه
قال: [ رابعاً: وجوب التمسك بشدة بالدين الإسلامي، وحرمة الفرقة والاختلاف فيه ] فلا مذهبية ولا طرقية ولا وطنية ولا.. ولا..، وإنما مسلم، وهذا شأن المسلم، لكن ما يريد الأعداء ذلك، فقد قسمونا مذاهب وطرقاً، قسمونا دياراً ووطنيات، فهل في الإسلام وطنية؟ وطن الإسلام الأرض كلها، ليس فلسطين فقط، أوروبا كاملة يجب أن تكون للمسلمين، أمريكا وكل ما فيها، ما هي قضية طين وتراب، وإنما يجب أن يُعبد الله في الأرض ولا يعبد غيره، لكن الوطنية درسناها في كتب السياسة.
خامساً: وجوب ذكر النعم لأجل شكرها
قال: [ خامساً: وجوب ذكر النعم لأجل شكر الله تعالى عليها ] بمَ يشكر الله؟ بطاعته وطاعة رسوله، بعد الحمد لله الطاعة لله ورسوله، وهي شكر النعمة. هل أمر تعالى بهذا؟ أما قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [آل عمران:103]؟ لمَ نذكرها يا رب؟ من أجل أن تشكروها، فمن ذكر شكر، ومن جحد وأنكر كيف له أن يشكر؟! الذي لا يعترف أنك أعطيته سيارتك كيف يقول: جزاك الله خيراً؟ فإذا اعترف أنك أعطيته سيقول لك: جزاك الله خيراً، فاذكروا تشكروا، ومن لم يذكر والله ما يشكر.
سادساً: أن القيام على الشرك والمعاصي وقوف على شفير جهنم
قال: [ سادساً: القيام] أي: البقاء [ على الشرك والمعاصي وقوف على شفير جهنم ] القائم الواقف على الشرك في عقيدته، في عبادته، في أحكامه، القائم على المعاصي، ارتكاب المحرمات، غشيان الذنوب، ترك الواجبات؛ هذا معناه أنه واقف على شفير جهنم. أتعرفون الشفير؟ إنه حافة البئر، والواقف على حافة البئر يكاد أن يسقط. ثم قال: [فمن مات على ذلك وقع في جهنم حتماً بقضاء الله وحكمه ] وقد قال الله: وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ [آل عمران:103]. أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (42)
الحلقة (183)
تفسير سورة آل عمران (47)
أمة الإسلام هي خير الأمم، لأنها حملت مهمة تبليغ الدين بعد انتقال نبيها صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وقد حث الله أفراد هذه الأمة أن تحمل لواء الدعوة إلى التوحيد، والأمر بالمعروف في أوساطها، والنهي عن المنكر؛ لأن ذلك هو طريق الفلاح والفوز برضا الله عز وجل ودخول جنته.
تفسير قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي تليها ندرس كتاب الله عز وجل -القرآن العظيم- رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، حقق اللهم لنا هذا الموعود، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران، ومع قول ربنا جل ذكره بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:104-109].
معنى قوله تعالى: (ولتكن منكم)
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من القائل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104] وصفها كذا وكذا؟ والله لهو الله، إذ هذا كلامه في كتابه أوحاه وأنزله على المصطفى الذي اصطفاه من كافة الخليقة، واجتباه لهذه الرسالة، محمد صلى الله عليه وسلم. إذاً: هذا أمر، والأمر مثل: قم، صلِ، انطق، افهم، والآمر إذا كان الله فهل يُعصى؟! لا يصح العصيان أبداً، لا يصح عصيانه وإلا العصا، إذاً: ولتكن منكم يا معشر المسلمين، و(اللام) هنا لام الأمر يجب أن تكون منا. أُمَّةٌ [آل عمران:104]، والأمة: العدد الكبير من الرجال الذين أمرهم واحد، معتقدهم واحد، منهجهم واحد، أملهم واحد، تجمعهم جامعة، فلا يكونون أفراداً متفرقين.
صفة ومهمة: (الأمة) في قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104] ما مهمتها؟ ما الذي وصفت به؟ قال تعالى: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، والخير ضد الشر، الخير ما يحصل به كمال الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، وما يحصل به شقاؤه وخسرانه ونقصانه في الدنيا والآخرة فهو شر وليس بخير.
تفسير معنى: (الخير) في قوله تعالى: (يدعون إلى الخير)
يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] الخير ما يحصل به الكمال والسعادة للإنسان، وينجو به من الشقاء والنقصان والخسران، وبالتالي فما هو هذا الخير؟ ألا إنه الإسلام بعقائده وآدابه وأخلاقه وعباداته وشرائعه وأحكامه، هذا هو الخير الذي يجب أن يكون من المسلمين من يدعون إليه، يدعون الأبيض والأصفر، الأحمر والأسود، العربي والعجمي من بني آدم أجمعين. وَلْتَكُنْ [آل عمران:104]، يجب أن تكن؛ لأن الله أهلَكم لذلك، وهيأكم له وأعدكم، فبعث فيكم رسوله، وأنزل عليكم كتابه، ورزقكم الإيمان الصادق به وبما جاء به رسوله، فأنتم متأهلون لهذه المهمة. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ [آل عمران:104] أيها المسلمون، أُمَّةٌ [آل عمران:104]، كم عددها؟ لا يقال: لها عدد، إنما المهم أن يوجد بين المسلمين من يغزو ويفتح ويعلن كلمة التوحيد ويدعو البشرية إليها، هل امتثل المسلمون هذا؟ إي والله، لو ما امتثلوا هذا ما اجتمعنا هذه الليلة، ولا كان فينا إسلام ولا مسلمون، ولكن الذين امتثلوا هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأولادهم وأحفادهم وأحفاد أحفادهم، فهم طيلة ثلاثمائة سنة وهم ينشرون راية العدل والحق في العالمين، حتى انتهى الإسلام إلى المحيط الأطلنطي، فقال أحدهم وقد رمى بفرسه في البحر: لو أعلم أن وراء هذا البحر أمة لمشيت إليها. وشرقوا وانتهوا إلى ما وراء نهر السند أداءً لهذا الواجب، ويعلم الله لقد قاموا به، فلقد كانت منهم أمة الجهاد والغزو والفتح، لا للدنيا ولا للمال، ولكن لامتثال أمر الله. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، ألا وهو الإسلام، فهل وراء الإسلام من خير؟ قولوا! لا، فهيا بنا نتجول في ربوع العالم، نبدأ بالبرازيل وننتقل إلى كندا، ونترك أمريكا في الوسط، ونشرق ونغرب إلى اليابان، إلى الصين، أي خير هم فيه وعليه؟! الفجور، الخداع، الكفر، الباطل، المقاطعة، بلاء عظيم! أين الخير؟ الخير هو الإسلام، فهو نعمة الله، إذ قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
واجب العلماء الربانيين في السعي لتوحيد الأمة
الآن هل أمة المسلمين وِجدت من هذه الأمة؟ من هم؟ يجب أن يكون للمسلمين إمام يؤمهم، قائد يقودهم، هادي يهديهم، مرشد يرشدهم، مصلح يصلحهم، هذا الإمام يجب أن يعد العدة، وأن يجيش الجيش ويهيئوه ويغزو به بلاد العالم، هل لاستعمار الأمم واستغلال أموالهم وثرواتهم واستذلالهم وإهانتهم؟! لا والله، وإنما لإدخالهم في رحمة الله، لتطهيرهم وتصفيتهم وتزكيتهم، وإعدادهم لسعادة الدنيا والآخرة.بعبارة أقرب: من أجل أن يعرفوا ربهم وخالقهم، رازقهم ومدبر أمرهم، ثم يعبدوه بما شرع، فتلك العبادة هي التي تكملهم في آدابهم وأخلاقهم ومعارفهم، وتسعدهم في دنياهم وأخراهم، إذ ليس للبشرية سوى هذه الأمة، فمن يقوم بهذه الرسالة؟ الكاثوليك عبدة الأهواء والشهوات، أم الملاحدة، أم المجوس؟ من يحمل هذه الرسالة؟ هل يوجد غير المسلمين؟! فهيا نطيع ربنا، دلونا على الطريق، جماعات تقول: الحاكمية، الجهاد، الحكام كفار، الأمة كافرة، وصاحوا وذُبِحوا، وصاحوا وخُنِقوا، وصاحوا وماتوا ولا شيء، لعلي واهم؟ قم وقل لي: أما رأيت كذا؟ حينئذ نقول: نستغفر الله ونتوب إليه.هل أقمتم حكماً إسلامياً؟ أطلعت شمس تلك البلاد وأصبحت تضيء الحياة للناس، وأصبحت مضرب المثل؟ تعالوا وزوروا هذا البلد وشاهدوا الأنوار، الصفاء والطهر، والأخوة والولاء، العزة والكرامة، انظروا إلى تحكيم شرع الله! ماذا نصنع؟ هيا دلونا، لو تقوم جماعة من الربانيين الصادقين أولياء الله الذين إذا رفعوا أكفهم إليه ما ردها خائبة أبداً ولا صفراً، لو سألوه أن يزيل الجبل لأزاله، لو أقسموا على الله لأبرهم وما حنثهم، هذه الجماعة الربانية تزور العالم الإسلامي إقليماً بعد آخر، وتقرع باب كل حكم وحكومة، وتقول: هيا بنا نتعانق، نحيي هذه الأمة بعد موتها، ويبتدئون من بلد إلى بلد وهم يعركون ويُلَيِّنون و.. و.. وفجأة وإذا بحكام العالم الإسلامي وعلمائه قد اجتمعوا في هذه الروضة، إذ ما هو صعب الآن، بالطيارة خلال أربع وعشرين ساعة وهم فيها، ما هو كالزمان الأول مستحيل. فيقولون: بايعناك يا إمام المسلمين، ثم يا علماء! لا تخرجوا من هذه الروضة حتى تضعوا دستور أمة الإسلام، القرآن والسنة وما عليه فقهاء وعلماء الأمة، في خلال أربعين يوماً والدستور يطبق من إندونيسيا إلى موريتانيا بأيدي القضاة والحكام -الكتاب موجود- أربعون يوماً فقط وأمة الإسلام أمة واحدة، فإذا قلت لها: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] وجدتها قائمة، الجيوش العربية الإسلامية أصبحت تقام فيها الصلاة ويعبد فيها الله، وانتهت الضلالة والخرافة، وانتهى هذا الفسق والمجون والباطل، ولاحت أنوار الصدق والوفاء، وأصبحت كلمتهم كلمة أولياء الله، فيغزون ما شاء الله، بل إذا اتجهوا صوب إقليم دخل في رحمة الله، فماذا ترون؟ أو ما هناك حاجة إلى هذا الدرس يا شيخ! اترك هذا؟! أيجوز هذا؟ نقرأ ونمشي، ألسنا مأمورين؟ وَلْتَكُنْ [آل عمران:104] من؟ مِنْكُمْ [آل عمران:104] نقول: لا، نحن غير مؤمنين، تكون من غيرنا، نرضى بهذا؟ نقول: ما نحن بمؤمنين، اتركنا! لا أبداً، نرضى أن نُحرَّق، نصلب، نقتل وما نرضى أن نكفر ونتخلى عن إيماننا. وَلْتَكُنْ [آل عمران:104] هل الأمر صعب؟ لا، بل سَهُل الآن، وكما قلت لكم وأعيد القول من فتوحات الرحمن: لو بيننا ربانيون سالمون، صالحون، صادقون، خمس عشرة عالماً، عشرون، مائة من العالم الإسلامي، وتتكون لجنة من خيارهم وتقوم بزيارة مسئولي أمة الإسلام وحكامهم، وتعرض عليهم منهجاً ربانياً لجمع كلمة هذه الأمة، وتوحيد صفها؛ لتنهض بواجباتها، وتقوم بأداء رسالتها، فلا أظن أنهم يخيبون أبداً؛ لأنهم يعرفون كيف يعرضون، وأنوار الله تلوح من أفواههم ومن أبصارهم، وفجأة وإذا موعدنا شهر كذا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يخرجون من هذه الروضة إلا وقد بايعوا إمامهم: أنت إمام المسلمين، ويعودون يطبقون شرع الله، وفجأة وإذا بالبلاد كلها أنوار؛ لأن الوقت مناسب، والزمان مواتي، لكن قبل وجود هذه المواصلات كان هذا من أبعد البعيد، كيف تزور هذه البلاد وأنت تحتاج إلى أربع سنوات وأنت تمشي حتى تصل، بينما الآن يطوفون بالعالم الإسلامي في ثلاثين يوماً، بل أقل، فأين هؤلاء الأولياء الصالحون؟ ما وِجِدوا بيننا؟! لمَ؟ لأن آباءهم وأمهاتهم ما رُبُوا في حجور الصالحين، فما تربوا هم في حجور الصالحين، فكيف يوجدون بهذا الصلاح؟! كيف يحصل هذا؟! ونقول: كيف؟ نقول: ما وجدوا، فأين هؤلاء؟ لو وجِدوا لجمعوا كلمة المسلمين، لوحدوا صفوفهم، لطهروا قلوب المؤمنين من الشرك والضلالات والخرافات والأوهام والأطماع والشهوات، لكن إن وجد هذا فقد قلت لكم: قطعاً هذا أمر سهل ويسير في هذه الظروف.
الطريق الموصل إلى الله تعالى
قد تقولون: هذه بعيدة، أنى لنا أن نصل إليها، كيف توجد هذه؟ ماذا نصنع؟ نعود من حيث بدأنا، وأنا أحلف بالله، وبعض الإخوان يلومونني لماذا أحلف؟ لا تلوموني، فأنا أحلف اقتداء بربي، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والحلف من أجل أن تطمئن النفس إلى القول وتقبله، فمن أراد أن يرحم أناساً يحلف لهم، من أراد أن يصدقوا الخبر يحلف لهم، والحلف الحرام بسيدي عبد القادر ورسول الله وفاطمة والحسين، فهذا من الشرك والعياذ بالله، الحلف بالباطل حرام، والحلف بالكذب فسق وفجور، لكن الحلف على الحق دين الله عز وجل. فأقول: الطريق السهل الميسر الذي نُري الله تعالى فيه قلوبنا وصدقنا في إيماننا، ورغبتنا في لقائه والسير في الطريق الموصل إليه، هو أن نأخذ بمبدأ: أن أهل القرية كأهل الحي في بلاد العرب والعجم على حد سواء، إذا دقت الساعة السادسة مساءً يقف دولاب العمل، لا دكاناً ولا مقهى ولا مطعماً ولا مصنعاً ولا مزرعة ولا.. ولا.. أهل القرية أهل الحي يتوضئون بسرعة، يلبسون أحسن ثيابهم ويحملون نساءهم وأطفالهم في صدق إلى بيت ربهم، وهل لربهم بيت خاص؟ إي نعم، المسجد، وإن ضاق وسَّعوه، وليسوا في حاجة إلى الحديد والإسمنت، يوسعونه بالخشب والحطب، باللبن والتراب، يجتمعون في بيت ربهم، أذَّن المغرب في الساعة السابعة والربع وإذا بأهل الحجاز كلهم في بيوت الله، أما الجهة الشرقية فبيننا وبينها نصف ساعة، والأمة كلها في بيوت الله، فيصلون المغرب والنساء وراء الستائر، والأطفال النورانيون دونهن، والفحول من أمثالكم أمامهن، ويجلس لهم عالم من ذاك النوع الرباني، فيدرسون كتاب الله وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقط قال الله وقال رسوله، لا أباضي ولا زيدي ولا نخولي ولا رافضي ولا مالكي ولا شافعي ولا حنبلي ولا حنفي ولا حزبي ولا وطني، وإنما أمة لا إله إلا الله، أمرها واحد، يخاطبها رب واحد، يهديها إلى الصراط المستقيم إله واحد، لا فرق بين عربي ولا عجمي، ولا أبيض ولا أسود، أهل القرية أهل الحي يتعلمون كتاب الله وحكمة رسوله، ليلة بعد ليلة، وفي عام وعامين تصبح تلك القرية وكأنها في عهد رسول الله وأصحابه. ما الذي يحصل بالعلم؟ يحصل به المودة، الإخاء، الحب، الولاء، التعاون، الزهد في أوساخ الدنيا وأوضارها وشهواتها وأطماعها، يتوفر المال عند الناس فماذا يصنعون به؟ من كان ينفق في الشهر عشرة آلاف ينفق ألفين ويفيض الزائد، ماذا يصنع به؟ لعلي واهم؟ والله لكما تقولون، عندما يصبح أهل الحي كأمة واحدة، جسم واحد، ماذا يصنعون بالمال؟ يفيض عليهم، وتنتهي مظاهر الضعف: الخيانة، الغش، الخداع، الكذب، الكبر، الحسد، الزنا، اللواط، ال.. ال.. انتهت، مُسِحَت، وهل تُمسح يا شيخ؟ إي نعم، سنة الله التي لا تتبدل، ونضرب المثل دائماً فنقول: أعلم أهل القرية اليوم في بلاد العرب أو العجم أعلمهم بالله ومحابه ووعده ووعيده أتقاهم لله، وأقلهم فجوراً، وأقلهم خيانة وكذباً، وأقلهم باطلاً وشراً، والله العظيم، فهل في من يشك بهذا؟ ومن ثَمَّ ما تكلفنا شيئاً، كل ما في الأمر أن النتاج يقوى، قلوبنا تتغير، يصبح ما يحصل عليه العامل وينتجه أضعاف ما كان قبل، فنحن نصلي الصبح ونقبل على الأعمال في البساتين، في المزارع، في المصانع بصدق وجد، بإخاء ومودة وتعاون، والله لننتج أكثر ما تنتجه مصانع الشرك والباطل والكفر، لا تقولوا: إذاً نعوِّق الحياة ونقف بها والناس يتقدمون، والله نصبح في وضعية يفتح الله أبواب العلم والمعرفة، فننتج ما لا تنتجه دول الكفر، وبهذا نكون قد أطعنا ربنا وامتثلنا أمره في قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104].وهنا قد يقول قائلٌ: أنت فسرت الخير بالإسلام، وهذه الأمة -كما هو معروف- أمة الجهاد والغزو، كما أنك تقول: لو اجتمعنا في بيوت الله بنسائنا وأطفالنا نتلقى الكتاب والحكمة، فسننتقل من وضعية إلى وضعية أحسن، ونصبح.. ونصبح.. فكيف ونحن قد تركنا الجهاد؟! الجواب: نحن الآن لسنا في حاجة إلى أن نغزو، لا بريطانيا ولا إيطاليا، ولا تخوفوهم؛ لأن بلادهم مفتوحة لنا، فادخل وابن المسجد، وادع إلى الله، ووزع الكتاب والنَشْر ولا تخف، ولسنا في حاجة إلى أن نرسي سفننا في ميناء كذا لندخل إلى كذا، أبداً، انتهى هذا، فقط هيا ندعو إلى ربنا، كيف يا شيخ؟لقد بينا وقلنا: لمَ لا تتكون لجنة عليا، والمسئول عنها رابطة العالم الإسلامي، هذه التي بكينا وصحنا كذا سنة حتى تكونت، فتكوَّنت الرابطة، وتكوَّنت الجامعة الإسلامية، وتكون صوت الإسلام أو نداء الإسلام، هذا كله بسبب هذه الدعوة، فهل انتبهتم أو لا؟ أو نحلف لكم؟ والله العظيم، لو أن عندي الآن الرسالة التي رفعتها إلى جلالة الملك سعود، لاشتريتها بألفين ريال وهي ما تساوي عشرة قروش، لكن ضاعت، رفعنا رسالة وطبعتها بالآلة، ورفعناها إلى المسئولين، وكان مفتي الديار السعودية الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، أحد كبار العلماء في أيام الملك سعود رحمة الله عليه، وقلنا: لابد من القيام بهذا الواجب، أي: إنشاء جامعة أو معهد لتخريج الدعاة، فأمة الإسلام يأكلها الجهل ويغشيها ويعميها الضلال والشرك، فمن ينقذها؟ لابد من مصدر لتخريج العلماء أهل التوحيد والمعرفة لتطهير القلوب والنفوس، فوافق على تكوينها، فكذلك لابد من جماعة تربط العالم الإسلامي بعضه ببعض، وقد أخذ العالم يستقل إقليماً بعد إقليم. لا بد من هيئة عليا للعلماء تتكلم باسم العالم الإسلامي فتكونت الرابطة فكانت صوت الإسلام ولكن النتاج قليل؛ لمعوقات، ولأن القائمين عليها ما هم من النوع الذي نحلم به من الربانيين والأصفياء، أهل كرامة الله هم من نوعنا، فلهذا ما خطونا الخطوة الواسعة.الشاهد عندنا: الآن تتكون لجنة عليا من العالم الإسلامي تضم من كل إقليم -كبير وصغير- عالماً أو عالمين، وإذا بمجلس العلماء أفراده ينيفون على الثمانين، فكل دولة تبعث عالمين، هذه اللجنة العليا للإسلام لما تجتمع تكوِّن منها لجنان؛ لجنة إلى أمريكا، لجنة إلى أوروبا الشرقية، إلى أوروبا الغربية، لجنة إلى اليابان، أخرى إلى الصين.. إلى بلاد الكفر، وتدرس أوضاع الجاليات الإسلامية، وتتعرف إلى أعدادهم، وإلى مذاهبهم، وإلى سلوكهم، وإلى حاجاتهم، وبعد أربعين يوماً أو شهرين تأتي بخريطة، الإقليم الفلاني فيه كذا، الدولة الفلانية فيها كذا.إذاً: فهيا ننشر الإسلام، وحينئذ يكوِّنون ميزانية سرية خفية حتى لا نفزع اليهود أو الصليبيين، يسهم فيها كل مؤمن ومؤمنة بقرش؛ لأنها ضريبة الجهاد، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران:104]، يشارك فيها كل مؤمن، فأهل كل إقليم العلماء الذين منه يتولون الاتصال بالأفراد نساء ورجالاً يعلمونهم بأنه لا بد من المشاركة في هذه الميزانية في نشر الإسلام ودعوته في العالم، وفي خلال أربعين يوماً يعرفون أكبر ميزانية في العالم، فتكرس وتأخذ اللجنة العليا أولاً: تنتقي الكتاب اللائق بتدريسه وتعليمه، تنتقي العلماء الربانيين الصادقين، وتبعث العالم والكتاب بيده، وتتولى نفقة المسجد أو المدرسة على حسابها، وفجأة وإذا بتلك الجالية من أمريكا إلى أوروبا إلى اليابان أمرهم واحد؛ لأن مصدر النفقة واحد، ولأن الكتاب الذي يدرس واحد.وعلى سبيل المثال: منهاج المسلم، فأيما مسلم يقول: أنا لا أدرس هذا، مُسح اسمه من الإسلام، ما هو بمسلم؛ لأن هذا الكتاب يجمع المسلمين، فلا فرق بين شرقي، لا بين شافعي ولا حنفي، لا بين زيدي ولا أباضي، ولا بين مسلم ومسلم، يجتمعون في بيت الله، يتلقون الكتاب والحكمة، وتنمو أخلاقهم، وتسمو معارفهم، وإذا بالنور ينتشر، وإذا بالكفار من جيرانهم يغمرهم نورهم، فيطلبون هذا النور ويظفرون به، والله العظيم لو شاهد الكفار أنوار الإيمان حولهم لما رغبوا عنها ولطلبوها.وبالتا ي نكون قد قمنا بواجب نشر الدعوة وبرئت ذمتنا، العوام والعلماء والحكام والأغنياء والفقراء.. كلهم برئت ذمتهم، وأصبحوا قد أدوا واجبهم، وكوَّنوا ما طلب الله أن يكوِّنوا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، فهل فهمت هذه يا دكتور أحمد؟ واضحة أم لا؟ ما الذي يمنع أن تكوَّن لجنة عليا وقد طالبنا بهذا في كتاب مكتوب إلى مسئولي الأمة علماء وحكاماً، ومضت عليه سنة، وما تحرك عالم ولا حاكم؟ أنا لا ألوم الحكام وإنما ألوم العلماء أولاً؛ لأن العالم لم يأت الحاكم فيبين له، وعليه فإننا آثمون، ما أدينا واجبنا، ما قمنا بأمر ربنا، عفوك يا عفو يا كريم، رحماك يا رب العالمين.
أهمية وجود هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مدن وقرى المسلمين
قوله تعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا توجد في العالم الإسلامي قط إلا في هذه المملكة، وقد أوجدها عبد العزيز رحمه الله؛ لأنه استقل عن العالم الكافر، والمسلمون مازالوا تحت سماء بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا، فكيف يكوِّنون هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم محكومون؟!إذاً: أعذرناكم أيام كنتم محكومين، لكن لما حكمتم واستقللتم وسدتم، وأصبحت لكم الحكومة المستقلة، لم لا تكوِّنون هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! نادوهم، ادعوهم: يا حكام كذا وكذا وكذا، من إندونيسيا إلى المغرب، لمَ لا تكونون هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أهم عصاة؟ إي والله، لم يطيعوا الله تعالى، أما وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]؟ لمَ نكوِّن أنواع البوليس على اختلافها؛ الدَرَك، الشُرَط ولا يوجد من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟! البوليس في يده الكُرْبَاج والصفارة يدور طول الليل والنهار، يشاهد منكراً ما يقول: هذا منكر، يشاهد معروفاً متروكاً ما يقول: يا عبد الله ما لك؟ لا، ما هي مهمتي؟! لا، لا، ما تتهمهم بهذا يا شيخ عبد الله اتركنا، اسمع، أنا ماشي في الطريق لمَ تعترضني سامحك الله؟! أنا أقول: استقل الإقليم عن بريطانيا، فيجب أن تكوِّن فيه هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووالله لو وجد في ذلك الإقليم -الذي استقل أمس عن بريطانيا أو فرنسا- علماء ربانيون صادقون لألزموا الحاكم أن يفعل، ولفرح بذلك؛ لأن الحكام ليسوا بجهلة، علمتموهم؟ جُهال وضلال؛ لأنهم تخرجوا من مدارس روسيا وأمريكا وبريطانيا، كيف يصبح وزيراً أو حاكماً وهو أمي؟! معقول هذا الكلام؟ لابد وأن يحمل الماجستير، الدكتوراه في علم السياسة، في علم النفس، فأين درسوا؟ في المسجد النبوي؟! أنفي ما قال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101]؟ نحن الذين بعثناهم فدرسوا حتى كفروا، أنلومهم؟ ما لنا؟ أين عقولنا؟ سنقول: لو كان هناك علماء ربانيون لطالبوا الحاكم عندما استقل البلد أن يوجد هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يفرض إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ لأمر الله تعالى بذلك عند وجود الحكم والاستقلال، ما ننسى آية الحج: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].لكن قد يقول قائل: يا شيخ، هذا الكلام نظريات قرآنية، فأين الواقع؟ ما رأينا الواقع، أقول: تعالوا إلى السعودية تشاهدون الواقع -إذا قالوا لهم: هذه رجعة إلى الوراء- تشاهدون هذا البلد المبارك، لولا الخليط الآن والارتكاسات، وماذا نقول؟ الذين يحاربون هيئات الأمر بالمعروف في داخل المملكة أكثر من خارجها، فهم يتقززون منها، ومع هذا والله لا يوجد بلد آمن من هذا البلد، ولا أطهر من هذا البلد، ومن يرد علي يخرج معي إلى البيت ويقول: أنا آخذك إلى البلد الفلاني الذي ليس فيه زنا ولا عهر ولا خيانة ولا كذب ولا.. ولا..، هاتِ، والله لا آمن ولا أطهر من هذا البلد، بسبب ماذا؟ الحكومة السعودية؟! هل عندها سحر؟ والله ما هو إلا إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووالله العظيم -لا تقولوا: الشيخ يحلف- يا ويل الذين يثبطون الحكومة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكتبون في الصحف، إنهم مرضى؛ لأنهم درسوا في الخارج، فيتقززون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما هو أمر الله يجب أن يكون في كل قرية من قرى المسلمين، رجالٌ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، حتى لا ينتشر المنكر بينهم فيهلكوا، حتى لا يختفي المعروف فينزلقوا ويتحطموا، ويسلط الله عليهم من يذلهم ويدوسهم بنعاله. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] إي: الإسلام، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، كذا أو لا؟ فهيا نعتذر إلى ربنا، يا ربنا ما نستطيع، ما نقدر على أن نكوِّن، يقبل هذا العذر؟ نبحث عن الأسباب.
معنى قوله تعالى: (وأولئك هم المفلحون)
قال: وَأُوْلَئِكَ [آل عمران:104]السامون الأعلون، أشار إليهم بالبعد لعلو منزلتهم، والآن الحكومات والشعوب الإسلامية والكافرة كلها هابطة، والحكومة هذه البقية الباقية عالية والله العظيم، أو ما تثقون بهذا الكلام؟ أو لعلكم تقولون: هذا الشيخ يتملق! إن هذه كلمات يوحيها إبليس يمرض بها القلوب والعقول، ما يسمحون لمؤمن يقول كلمة حق أبداً، يتملق فقط، والتملق إذا قال الكذب أو قال الباطل، إذا دعا إلى المنكر من أجل إرضاء أصحابه، أما أن تكتم الحق، فهل هذا يصح من مؤمن؟! هذه البلاد من عفَّنَها؟ العالم الإسلامي يهشمها ويحطمها في كل مكان، فتجد السب والشتم والتضييع، ولا يقولون فيها خير أبداً ويذكروه، جبنا ديارنا وعرفناها في الشرق والغرب، والله لولا الله ما بقيت إلى اليوم أبداً. وَأُوْلَئِكَ هُمُ [آل عمران:104] لا غيرهم، الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] فالله يكذب؟ أعوذ بالله! تعالى الله عن الكذب، عرف الأشياء قبل أن يخلقها، كونها قبل أن توجد، فهل يجهل هذا؟ وأولئك الذين كونوا أو كانت منهم أمة تدعو إلى الإسلام وتجاهد وتبتع، وأمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديارها، هؤلاء هم وحدهم المفلحون، ما قال: (وأولئك المفلحون)، وإنما قال: وَأُوْلَئِكَ هُمُ [آل عمران:104] فلمَ أتى بالضمير(هم)؟ ليقصر الفلاح عليهم، ووالله لكما قال تعالى: هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فما معنى الْمُفْلِحُونَ ؟ الفائزون، وما معنى: الفائزون؟ هل الفائزون بجائزة نوبل؟! الله أكبر! أهل القرآن يقولون: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] إي والله، واقرءوا هذه الآية الكريمة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، من يقول: إلا نفوس بني هاشم، إلا نفوس الطِليان. هل هناك من يستثني؟ لا. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، من حكم بهذا الحكم؟ الله، فهل استطاع أن ينقضه كائن في الكون؟ نافذ أو لا؟ إذاً: اسمع: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، أيتها الشغيلة، أيتها العملة، يا عمال! اعملوا، واصلوا العمل في الليل والنهار، ولا تطالبون اليوم بالأجر، إذ هذه دار عمل وليست دار أجر وجزاء، لا إله إلا الله! اعمل الصالح والطالح، والجزاء ليس هنا أبداً، فهي ليست دار جزاء، وإنما هي دار عمل، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ [آل عمران:185] متى؟ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، أجور العمل سواء كان شراً أو كان خيراً وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]. ما هذه الأجور؟ دولارات، مليارات، إبل، أغنام، قصور؟! بين الأجور فقال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185] أي: أُبعد عنها وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فهل عرفتم الفوز أو لا؟ وأخيراً: اذكروا حكم الله فينا وقد صدر: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].معاشر المستمعين والمستمعات! هيا نزكي أنفسنا ولا يضرنا سقوط البشرية كلها في الهاوية، ليعمل كل واحد منا على تطهير نفسه بهذه العبادات المتقنة المقننة، وبالبعد عن كل ما حرم الله، من نظرة محرمة، أو لقمة محرمة، أو كلمة سيئة، أو حركة باطلة، بهذا تفلح يا عبد الله، وتفلحين يا أمة الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].اللهم اجعلنا من المفلحين الفائزين يا رب العالمين، اللهم إن بيننا من يشكو الألم والمرض، فاشف مرضانا يا رب العالمين، وزكِ نفوسنا، وطهر قلوبنا ونورها لنا يا رب العالمين، وتوفنا وأنت راض عنا، وأدخلنا -يا ربنا برحمتك- في عبادك الصالحين.وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (43)
الحلقة (184)
تفسير سورة آل عمران (48)
الأمة المحمدية هي أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأجل أن تكون دعوتها على بصيرة فلابد لكل داعية فيها أن يعلم محاب الله عز وجل فيأمر بها، ويعلم مكاره الله ومساخطه فينهى عنها، ومتى ما قامت الأمة بهذا الواجب العظيم حفظ الله أمرها في الدنيا، وكتب لها الفلاح في الآخرة.
تابع تفسير قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات المباركات من سورة آل عمران عليهم السلام، وتلاوة الآيات -التي شرعنا في درسها البارحة- بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:104-109].
وجوب وجود جماعة من المسلمين تدعو إلى الإسلام
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! عرفنا وعلمنا وفهمنا وأيقنا أن على أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل أزمنتها وعصروها أن توجد فيها من يدعو إلى الإسلام، قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104]، فلا خير أعظم من الإسلام، وبالتالي فلابد من إمام تبايعه أمة الإسلام، وأن يكون له جيش عظيم يغزو ويفتح من أجل نشر دعوة الله، وإدخال البشرية في الإسلام الذي هو رحمة الله، وهذا واجب ضروري، سواء قلنا: كفائي أو عيني، فأين إمام المسلمين؟ تفرقوا عنه ومزقوا بلاده وكوَّنوا دويلات وجماعات! إذاً فكيف يوجد لهم جيش إسلامي يدعو فيغزو ويفتح؟!إذاً: يجب أن تلتئم جراحاتهم، وأن تجتمع كلمتهم، وأن تتحد رايتهم، وأن يحملوا راية الدعوة إلى الله عز وجل، وإلا فهم آثمون بتركهم هذا الواجب، اللهم اغفر لنا وارحمنا.وقد ذكرت لكم فيما مضى ولعل بيننا من ينقل هذه الكلمات الحقة: مادمنا قد عجزنا عن الغزو والفتح، وقد فتح الله لنا بلاد العالم من الصين واليابان إلى أمريكا وأوروبا، فباسم الله نكوِّن لجنة عليا يشترك فيها من كل إقليم من أقاليم العالم الإسلامي عالم أو عالمان، وهذه اللجنة المكونة من أربعين أو خمسين عالماً تتولى نشر الدعوة الإسلامية بالكتاب والمعلم، وقبل ذلك بالدينار والدرهم.كما قلت لكم: إنه في الإمكان أن يرسموا خريطة للجاليات الإسلامية الموجودة في العالم، ويُعرف عددها وحاجتها، ثم توضع ميزانية تُفرض على كل مسلم في العالم الإسلامي أن يساهم بدينار، وهذه الأموال لا نريد أن نتبجح بها في الصحف والإعلانات فنثير أحقاد اليهود والماسونية والصليبيين، وإنما تتم في حالة سرية، والحكمة تقول: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، ثم يبعث إلى تلك الجاليات بعالم أو عالمين أو ثلاثة أو أربعة على قدر اتساع رقعتهم، ومعهم الكتاب الذي يوحد كلمتهم وصفوفهم، وحتى لا تبقى الفرقة ولا مظهر لها، وإنما كلهم مسلمون، فلا مذهبية ولا طائفية ولا عنصرية ولا وطنية، وإنما ديننا الإسلام الذي مصدره الكتاب وسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم.وتمشي القافلة فلا تلبث أكثر من ربع قرن إلا وقد تضاعف أعداد المسلمين في العالم الخارجي، ولا يبعد أن تظهر دويلات إسلامية، ونكون بهذا قد أدينا هذا الواجب، ولنحمد الله على أن أراحنا من حمل السلاح وغزو البلاد وفتحها، إذ إن الله قد فتحها فالحمد لله، فهل تذكرون هذا أم لا؟ ننتظر حتى توجد الخلافة الإسلامية؟! متى؟ إن الباب مفتوح أمامنا انشر دعوة الله تعالى، بل يستطيع المسلمون أن يتجولوا في تلك البلاد بدون ما أمر من فوق أو من تحت، وبالتالي فالذي له ساعة في وقته له أن يزور بلداً ما على أن يحسن لغتهم، وله أن يتصل بفلان وفلان، فيعلمهم دين الله تعالى، وكل ما في الأمر أن الله رحمنا لضعفنا وعجزنا، ففتح لنا أبواب العالم لننشر الإسلام بكل راحة وطمأنينة.أما ديارنا الإسلامية فنحن قد هبطنا فمن يرفعنا؟ ورفعتنا ليست مستحيلة أبداً، إذ إن العالم الإسلامي اليوم كبلد واحد، فإذا كبرت في الشرق سمعت تكبيرتك في الغرب، وإذا رفعت يديك: وارباه، سمع دعاءك كل مؤمن في الشرق والغرب، فتستطيع أن تأتي إلى مكة في نصف يوم من أي بلد، وتأتي إلى المدينة في أقل من أربع ساعات.
الطريق إلى إيجاد جماعة من المسلمين تدعو إلى الله تعالى
والمهم والطريق هو -كما علمتم- أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله تعالى، فنطرحهما بين يديه، وترجمة ذلك أن نقبل على ربنا في بيوته، فنبكي بين يديه بنسائنا وأطفالنا كل ليلة حتى يستجيب دعاءنا، ويجمع كلمتنا، ويطهر أرواحنا، ويزكي نفوسنا، وهذا لا يكلفنا شيئاً، فكيف لا ندلل على أننا مفتقرون إلى الله محتاجون إلى رحمته لأننا في أسوأ الأحوال وأقل الظروف؟ يجتمع أهل القرية في مسجدهم، وأهل الحي في مسجدهم، وذلك من المغرب إلى العشاء كاجتماعنا هذا، ويتعلمون الكتاب والحكمة، ويزكون أنفسهم، واسمعوا إلى قول الله فيكم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، أي: القرآن والسنة، فهل فينا يا أهل هذه الحلقة من يعتز بمذهبه فيقول: أنا حنفي، أنا شافعي، أنا مالكي، أنا حنبلي، أنا أباضي، أنا زيدي؟ لا أبداً، فالذين يجلسون في صدق فيتعلمون الكتاب والحكمة أصبحوا مسلمين، فلا عنصرية ولا طائفية ولا مذهبية، وإنما فقط نتبع هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولسنا في حاجة إلى من يبين لنا ذلك، وإنما إذا اتضح ولاح سلكناه ولا نبالي بالشرق ولا بالغرب؛ لأننا نريد أن ننزل بالملكوت الأعلى، نريد أن نخترق ونجتاز السبع السموات الطباق لننزل بدار السلام، فإذا كان هذا يكلفنا أن نجتمع في بيت الله ونبكي بين يديه طول حياتنا، فهل هذا غال؟ رخيص هذا.وشيء آخر: أين السياسيون؟ أين علماء النفس؟ أين علماء الاجتماع الذين يستطيعون أن يردوا على الله ورسوله؟ والله ما إن يطرح المؤمنون بين يدي ربهم إلا وقد انتهى كل مرض في قلوبنا، فلا غش، ولا خداع، ولا كبر، ولا غيبة، ولا نميمة، ولا سحت، ولا ربا، ولا زنا، ولا باطل، بل تنتهي كل هذه الأخباث المتنوعة، وهذا الظلم المتنوع، وهذا الشر والفساد، ولو تجتمع البشرية كلها على إزالته والله ما تزيله إلا على هذا الهدي الإلهي، ولو يضعون مع كل إنسان عسكري، والله ما يستطيع أن يستقيم، وإنما يكذب ويخدع ويغش ويخون، فلمَ لا نعرف هذا؟ فهيا نطهر قرانا ومدننا من هذا الخبث الذي خمت له الأجواء، ومن هذا الشر والفساد الذي طغى، ومن هذا العجز والضعف الذي أصابنا، بله من الحاجة والفقر، فما السبيل إلى ذلك؟ وما الطريق إلى ذلك؟ أن نحقق ولاية الله، أن نصبح أولياء الله، فالله قد نفى عن أوليائه الخوف والحزن فقال: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. من هم أولياء الله تعالى؟ يقولون: العيدروس وسيدي عبد القادر والبدوي وفلان وفلان! إن أولياء الله كل مؤمن تقي لله تعالى، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، أي: يتقون سخط الله وغضبه وعذابه، بمَ يتقونه؟ بالمظلات؟ بالكهوف؟ بالطائرات؟ يتقونه بتسليم قلوبهم ووجوههم لله تعالى، بطاعة الله وطاعة رسوله، هذه الطاعة محتاج العبد إلى أن يعرف فيمَ يطيع الله؟ فيمَ يعصه؟وطلب العلم فريضة، وبالتالي فما الطريق إلى طلب العلم؟ عيينا، فتحنا في العالم الإسلامي مدارس وكليات، ومازال الجهل مخيماً، إذاً كيف نتعلم؟ دلونا على الطريق يا رشداء، يا عقلاء، ما الطريق إلى أن نتعلم؟ أو لستم بموقنين بما نتكلم به؟ والله لن يزول هذا الجهل وهذه الظلمة إلا إذا أقبلت الأمة على ربها في صدق، وأصبحت تجتمع في بيت ربها بنسائها وأطفالها، فيتعلمون الكتاب والحكمة طول العام، بل طول الحياة، في وقت يجب ألا يبقى فيه عمل، إذ الكفار لا يعلمون من الساعة السادسة إلى نصف الليل، ونحن نرفض هذا ونعمل حتى أننا لا نصلي المغرب في جماعة، ولا نجلس بين يدي معلم يعلمنا.
ضرورة إنشاء هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل قرى ومدن المسلمين
قال تعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، وقد قلنا في الجملة: لمَ الدويلات الإسلامية عربها وعجمها لا توجد بها هيئات تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قالوا: هذا يكلف ميزانية جديدة! قلنا: نقسم الميزانية نصفين، نصفها للبوليس والشرط، ونصفها للهيئة، إذ البوليس والشرط لتحقيق الأمن، والهيئة لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فينتهي نصف الشر أو ثلاثة أرباعه، وشيء آخر: والله ليوجد من المسلمين من لو يأذنون لهم فيعطونهم سمة رسمية، ولا يحتاجون إلى مكافأة شهرية ولا عامية، لكن للأسف تستقل الدولة أو الإقليم ولا يريدون إنشاء هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونستطيع أن نقول: إن الذي صرفهم هو الماسونية، لكن نحن الذين نمد أعناقنا لكل أحد، فالماسونية نلعنها، والمستعمرون الذين كانوا يحكموننا والله ما ألزمونا بألا نأمر بمعروف ولاننهى عن المنكر، بل ولا نصدق ذلك، فإقليم من الأقاليم يقول: لا، فنحن لما خرجت بريطانيا فرضت علينا ألا نفعل كذا! والله ما كان، لم ما يفعلون؟ ما يريدون الدار الآخرة؟ استغنوا عنها أم ماذا؟ نكل أمرهم إلى الله، اللهم اشهد فقد بلغنا.
دعائم الدولة الإسلامية
وقد بينت لكم ولهم بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضهما الله عز وجل على الدولة التي تقوم في البلاد، وهذه ليست نظرية وإنما سياسية، إذ إن دعائم الدولة الإسلامية أربعة:الأولى: إقامة الصلاة، ومعنى إقامة الصلاة أن المؤذن إذا قال: حي على الصلاة، وقف العمل، وأقبل المؤمنون على بيوت ربهم، فالجندي والعسكري كالمدني، والعامل كمراقبه، وأقبلوا على الله ليستمدوا قواهم، ويستمدوا رحمته وعونه لهم، وفي خلال ربع ساعة تنتهي الصلاة، ثم اندفعوا وراء أعمالهم، وذلك خمس مرات في الأربعة والعشرين ساعة؛ ليبقوا دائماً أولياء الله، ولتبقى ولاية الله ثابتة لهم.ولا تسألني عن النتائج المادية المحسوسة الملموسة من إقامة الصلاة، إذ لو أقيمت الصلاة اختفى كل وجه للباطل والشر والظلم والخبث والفساد، الأمر الذي لا تستطيع قوى الأمن بأي حال من الأحوال أن تحققه، بينما إقامة الصلاة والله ليحققه، أما قال العليم الحكيم: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]؟ وكررنا هذا القول -واشهد اللهم وإننا لمودعون- وقلنا لهم: تعالوا إلى أي بلد من العالم الإسلامي العرب والعجم، ونأتي بمحافظ المدينة ونقول له: يا فلان أعطنا قائمة بأسماء المجرمين في هذا الأسبوع، فيقدم لنا القائمة: هذا ضرب أباه، وهذا سرق أمه، وهذا فعل كذا، فقلت: والله لا نجد في تلك القائمة نسبة أكثر من 5% من مقيمي الصلاة، و95% من المصلين وتاركي الصلاة، والآن أربعين سنة ولم يعرفوا هذا، فالمقيم الصلاة الذي يناجي ربه على علم وبصيرة خمس مرات يخرج فيلوط ويزني ويكذب ويفجر ويسرق؟! والله ما كان، وإن وقعت مرة في عمره انغسل منها وانمحى ذنبه ببكائه وصيامه النهار وقيامه الليل. فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، لم؟ لأنها ما أنتجت لهم الطاقة النورانية، إذ الصلاة إن لم تقم على قدميها وساقيها كما هي لتنتج وتولد الطاقة النورانية في القلوب فإنها لا تنفع لضعفها، فهي صلاة بلا خشوع لا تولد هذا النور. إذاً: والآن لنعلم معاشر المؤمنين والمؤمنات! أن قول الله تعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] وآيات أخرى دالة على أنه يجب على المؤمن أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، سواء كان مسئولاً أو غير مسئول، وذلك في القرية أو في الحي أو في السوق أو في الطريق أو في المسجد أو في البيت، فإذا رأى معروفاً متروكاً مهملاً، يلفت النظر إلى تاركه ومهمله، ويرغبه في فعله، ويكون بذلك قد أدى واجبه، وإن رأى منكراً مرتكباً مفعولاً في قرية أو في السوق أو في المدينة أو في المسجد أو في أي مكان، وهو يعلم أنه منكر، فينبغي أن ينبه أخاه بلطف ولين على أن هذا منكر، ومثلك لا يفعله، وأنت ولي الله، وهنا يتطلب الموقف معرفة المعروف ومعرفة المنكر، فالذي لا يعرف المعروف كيف يأمر به؟! قد يخطئ، والذي لا يعرف أن هذا الكلام منكر أو هذه الحركة منكر، أو أن هذا العمل منكر، كيف ينهى عنه؟!
أهمية معرفة محاب الله ومساخطه لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر
عدنا من حيث بدأنا: يجب علينا أن نعرف محاب الله ومساخطه، ومحابُ الله هي المعروف، ومساخطه هي المنكر، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يعيش زمناً وهو لا يعرف ما يحب ربه ولا ما يكره مولاه؛ خشية أن يترك المحبوب فيغضب عليه ربه، أو يرتكب المكروه فيسخط عليه ربه، فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يعيش فترة يتمكن منها من السؤال والعلم والمعرفة، وهو لا يعرف المعروف ولا يعرف المنكر، إذ المعروف هو ما أحبه الله فشرعه في دينه، وأنزله في كتابه الذي أوحاه إلى رسوله، والمنكر هو المبغوض لله تعالى، أو ما حرمه الله تعالى، أو هدد فاعله، أو توعده، أو وضع له حداً من الحدود، سواء كان عقيدة أو قولاً أو عملاً، وبالتالي نعلم هذا كله في المساجد فقط، أما المدارس والكليات فلا، وقد بلغني -وأنا ما أطيق أن أسمع الأخبار- أن أعداداً كبيرة من خريجات الجامعات في البلاد العربية الآن يتزوجن بإطاليين وأسبان وأمريكان! مع أن الواجب على إمام المسلمين لو تزوجت امرأة مسلمة بكافر أن نغزو تلك البلاد، وأن نحرر تلك المرأة المؤمنة، ولا نترك الكافر يعلوها ويحول بينها وبين عبادة ربها. والآن فتياتنا وبناتنا علمناهن ورفعنا قيمتهن، فتخرجن من الكليات والجامعات، وبعث بهن إلى سويسرا وأسبانيا، وبالتالي يتزوجن اليهود والنصارى! فاسمعوا أيها المؤمنون! من الآن امنعوا بناتكم من دخول الجامعات في المدينة النبوية، لا أقول: من الجامعات في القاهرة المعزية، لكن قدي يقول قائل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟ والله ما إن تزول هذه الراية -لا قدر الله- ويتولى الحكم إخوانكم، تصبح أوضاعكم أسوأ من أوضاع البلاد الأخرى، ويتسابقن بناتكم إلى أوروبا ليتعلمن، وتحل الخيبة وينزل البلاء والشقاء.ومع هذا مادمنا مندفعين وراء تعليم بناتنا، والزج بهن في الكليات والجامعات -هو الطريق المعروف- فلابد وأن ينتهي إلى كشف الوجوه والخلاعة والدعارة والوصول إلى البلاء، فهل يوجد علماء نفس يجادلوننا؟ أو علماء سياسة؟ أو علماء الحكمة؟ إن الله سنناً لا تتبدل ولا تتغير، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، فكذلك الزج بالبنات في الجامعات والكليات والمدارس الثانوية وغيرها من أجل الرغبة في الدينار والدرهم مآله معروف، ولن يفلح إلا من شاء الله، ونحن أتباع النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم نعلم بناتنا كيف يعبدن الله؟ كيف يعشن على ذكر الله؟ كيف يربين البنين والنبات على نور الله وهداية الله؟ كيف يسعدن أزواجهن في بيوتهم؟ لا نعلم من أجل الوظيفة، إذ الوظيفة عمل رسمي يُعطى صاحبه مالاً معيناً.آه لما بدأت الصحف تظهر عندنا، وخاصة صحيفة المدينة والبلاد والرياض، أخذوا يطالبون بحماس: إلى متى والبنت السعودية في دياجير من الظلام؟! لم لا تُفتح مدارس للبنات؟! فكتبت رسالة بعنوان: الإعلام بأن العزف والغناء حرام، وهم يضربون ضربتين، مرة: لمَ تبق بنات السعودية في الظلام، افتحوا لهن مدارس؟ لمَ تبق إذاعتنا محطمة مهجورة ما فيها امرأة تغني، ولا فيها صوت كذا؟ وفعلاً انتصروا، وذلك لأننا -كما علمتم- نمد أعناقنا إلى الأعداء، ما هناك روح إيمانية ولا بصيرة، فقلت: والله إن فتحتم لهن المدارس الابتدائية لتطالبون بالثانوية، وإذا انتقلتم إلى الثانوية والله لتطالبون بالجامعة، وقد تم هذا كله بالحرف الواحد، والآن والله لتطالبن بالوظيفة، وفعلاً بدءوا الآن يطالبون بتوظيف النساء! وإذا تململنا وتململ آباؤهن وقالوا: كيف تتوظف النساء؟! إن التعليم غير الوظيفة، وهذا لا ينفع، فيبعثون بهن بالليل إلى جامعات أوروبا ليتعلمن العلوم التي البلاد في حاجة إليها! لأجل أن نصل إلى الوظيفة لا إلى الله. وعلى كل حال معشر المستمعين والمستمعات! احفظوا بناتكم عن الفتن، وإن جعن وإن عطشن وإن عرين خير لهن من الخروج عن دائرة الآداب والأخلاق والعقيدة والإيمان والإسلام، وحتى لا تكون سبباً في الفتنة إذا ظهرت.وقد بلغنا اليوم أن الحكومة قللت من استقدام الخادمات، فحمدنا الله عز وجل على ذلك، والآن ما يجد إبراهيم أو عثمان خادمة، إذاً: فيقول لابنته: اجلسي، اتركي هذه المدرسة واشتغلي مع والدتك في البيت، إذ والله لو شغلنا بناتنا في بيوتنا ما احتجنا إلى خادمات جاهلات، وبعضهن فاسقات ساحرات مبطلات، وترتب على مجيئهن البلاء وما يغضب الجبار.ونعود فنقول: يجب على المؤمن أن يعرف المعروف الذي يأمر به، ويعرف المنكر الذي ينهى عنه، وليس شرطاً أن تعرف كل معروف حتى تأمر بالمعروف، أو تعرف كل منكر حتى تنهى عن المنكر، وإنما حسبك إن عرفت أن إقامة الصلاة فريضة الله، وواجب على كل مؤمن ومؤمنة، فإذا وجدت من أهملها أو أعرض عنها فمره بذلك، أو عرفت أن الغيبة هي ذكر إنسان غائب في مجلس، وتعريته ونقده، فإذا كنت في مجلس وسمعت من يؤذي مؤمناً فقل: يا إخواننا! لا تذكروا أحداً وهو غائب، إذ إن هذه غيبة محرمة، أيضاً في مرة من المرات مرت بك امرأة كاشفة عن محاسنها في بلاد الطهر كهذه -والحجاب قائم والحمد لله- فأمرها بستر وجهها ومحاسنها، لكن بالكلمة الطيبة، وقد كان عندنا أحد الطلاب وقد مات، فقد كان يقرب من تلك المرأة المتبرجة ويلتفت بعيداً عنها ويقول: يا أمة الله! غط وجهكِ، ويمشي ويبتسم، وهو بهذا قد أدى الواجب الذي عليه .إذاً: يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( بلغوا عني ولو آية )، فمن عرف آية، بمعنى: حفظ الفاتحة، ثم سمع أمياً يصلي وهو لا يحسن قراءة الفاتحة، فيجب أن يقول له: يا عبد الله! تعال أعلمك الفاتحة، ويخلو به في جانب المسجد ويعلمه.أيضاً لو دخل أحدكم إلى بيت صاحبه فوجد في التلفاز نساء يغنين ويرقصن، فيبين له أن هذا لا يجوز، أو وجد كلباً في حجرة صديقه، فيتغدون والكلب إلى جنبهم يلهث، ولا يعرف أن وجود هذا الكلب في هذا المكان حرام، فقل له: يا عبد الله! أبعد هذا الكلب، ضعه عند حراسة الباب أو عند الغنم، لا عندنا في الحجرة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ).كذلك إذا زرت أخاك ووجدت عنده مغنية تغني في التلفاز وامرأته وبناته يشاهدهن، فقل له: هذا ما ينبغي، فأنتم مسلمون، طهروا بيتكم، وكل ذلك بكلمة طيبة، وبالتالي يكون قد أديت الأمانة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر.والذي لا يعرف مسألة لا يجوز له أن يأمر وينهى بدون علم، بل لابد وأن يكون قد عرف المعروف معرفة حقيقية، وعرف المنكر معرفة حقيقية، وحينئذ يأمر وبالتي هي أحسن، وعندنا نظام رباني فاسمع: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، فادع يا عبد الله إلى ربك بالحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه، والموعظة الحسنة: هي التي ترغب العبد في فعل الخير أو تبغض إليه فعل الشر، فتذكره بالدار الآخرة وما فيها، وإن جادلك من جادل فجادله بالتي هي أحسن؛ لأنه لابد من الكلم الطيب المعسول كما يقولون حتى يصل إلى قلبه ويستفيد منه، فهل عرفتم من هم المفلحون الفائزون؟ أبعدهم الله عن النار وأدخلهم الجنة.
نهي الله للمسلمين أن يسلكوا طريق أهل الكتاب في الفرقة والاختلاف في الدين
وقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا [آل عمران:105]، وهذا نهي، فاسمعوا يا عباد الله! وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105] في الدنيا والآخرة. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا أي: تفرقوا بعدما كانوا أمة أصبحوا أمماً، بعدما كانوا جماعة أصبحوا جماعات، واختلفوا في: هذا حلال وهذا حرام، هذا حق وهذا باطل، وهؤلاء هم أهل الكتاب وبصورة خاصة اليهود والنصارى، وَأُوْلَئِكَ أي: البعداء، لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ لا يقدر قدره ولا يعرف حقيقته إلا الله تعالى.وهنا أذكركم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة )، اليهود كانوا قبل النصارى، ( وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاثين وسبعين فرقة )، رواه الترمذي وهو صحيح، وقال: هذا حديث صحيح، وفعلاً فقد وجدت ست فرق في أمة الإسلام، وهي: الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية، وانقسمت كل فرقة إلى اثنتي عشرة فرقة، فيكون مجموع تلك الفرق كلها اثنتان وسبعون فرقة، والناجية هي الثالثة والسبعون.فأولى هذه الفرق: الحرورية، نسبة إلى حروراء مدينة بالكوفة أو بالبصرة، ثم بعد ذلك القدرية الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، وثالثاً: الجهمية محرفوا صفات الله ومؤولوها، ورابعاً: المرجئة الذين ليس عندهم ذنب أبداً، وإنما كل شيء يغفره الله تعالى، وخامساً: الرافضة أو الشيعة، وأخيراً: الجبرية القائلون: بالجبر، فيقتل ويقول: أنا مجبور! ويسب أمه ويصفعها ويقول: أنا مجبور! وكل ذلك حتى يستبيح كل شيء، وكل هذه الفرق لو تتبعتها في كتبها تجدها. إذاً: ما هي الفرقة الناجية؟ بنو هاشم؟ بنو تميم؟ الفرقة الناجية هي التي عقائدها وعباداتها وآدابها وأخلاقها وقضاؤها وحكمها على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فعقيدتك كعقيدة رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وكل الصحابة، وصلاتك وعبادتك تؤديها كما كان الرسول يؤديها وأصحابه ومن بعدهم، وزكاتك وصيامك وآدابك وأخلاقك وسلوكك دائماً مأخوذ من رسول الله وأصحابه، فهذه هي الفرقة الناجية، ومن عداها ففي النار؛ لأن العبادة إذا أُديت كما شرع الله فإنها تزكي النفس البشرية وتطهرها، فإذا زكت نفس العبد قبله الله في دار السلام، والعبادات التي تتنافى مع عبادة الرسول وأصحابه بالزيادة والنقص، أو بالتقديم والتأخير، هذه العبادة فاشلة، ولا تزكي النفس، وإذا لم تزكُ نفس العبد فكيف يدخل الجنة؟! فهل ينقض الله حكمه؟ أو هل هناك قوة أقوى من قوة الله؟ وهل صدر حكم الله على البشرية بأن من زكى نفسه دخل الجنة، ومن دساها دخل النار؟ نعم، ونجد ذلك في قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فكن ابن من شئت، وعش في أي مكان شئت، إذا لم تزك نفسك -وأنت قادر على تزكيتها- فلن تفتح لك أبواب السماء، ولن تدخل الجنة مع الداخلين، وهذا حكم الله.وقد انتهت واندرست كل هذه الفرق والطوائف، إذ ما وجدت إلا للفرقة والتقسيم والضلال والعياذ بالله، وأنت مسلم أمرك الله بكذا، فقل: سمعاً وطاعة، أمرك الرسول بكذا، فقل: سمعاً وطاعة، نهاك الله ونهاك رسوله، فقل: سمعاً وطاعة، ولا تقل: أنا زيدي، أنا أباضي، أنا اثني عشري، بل لا تقل: أنا مالكي ولا شافعي ولا حنبلي، بل مد عنقك وقل: طاعة لله ورسوله.إذاً: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، ونحن قد جاءتنا البينات، فكتاب الله خالد والله حافظه، وسنة الرسول حفظها الله وهيأ لها رجالاً يحفظونها، ولم يبق عذر لأحد من المسلمين، بل ومن الكافرين، ومن طلب وجد، والذين خرجوا عن أمة الإسلام لمَ لا يسألون العلماء ويرجعون إلى دين الله؟ لمَ يبقوا متعصبين جماعات جماعات، يضحك عليهم الشيطان وأولياؤه؟ من أجل أن يستقلوا ويكونوا الدولة على المذهب! إنها فعلة يهودية، وقد مد المسلمون أعناقهم وقبلوا الفرقة وانهزموا أمام الطغيان والشر، وأبوا أن يُقبِلوا على الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/46.jpg
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (44)
الحلقة (185)
تفسير سورة آل عمران (49)
الدنيا هي دار العمل، والآخرة هي دار الجزاء، فمن عمل في الدنيا الأعمال الصالحات، وقطع عمره في مرضاة الله، والعمل بأمره واجتناب نهيه جاء يوم القيامة أبيض الوجه، ودخل في رحمة الله عز وجل وجنته، وأما من أقام على المعاصي في الدنيا، ولم يأتمر بأمر الله عز وجل ورسوله، ولم ينته عن نهيهما فإنه يجيء يوم القيامة أسود الوجه، ويستحق سخط الله وعقابه.
تابع تفسير قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت، الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) حقق اللهم لنا هذا الموعود، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.هذا وقد انتهى بنا الدرس من سورة آل عمران إلى هذه الآيات التي درسناها ليلتين متتاليتين، وها نحن في الليلة الثالثة، ولعل الله يوفقنا لختمها ونهايتها، وإليكم تلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتأملوا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] جعلنا الله منهم، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:105-109].
وجوب إيجاد جماعة في الأمة لنشر دعوة الله في العالم
أولاً: علمنا موقنين بأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل أزمنتها وعصورها لابد فيها من جماعة تغزو وتفتح، وتدعو وتنشر دعوة الله في العالم، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] الذي هو الإسلام، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104].وقلنا: يجب على كل أهل إقليم من أقاليم العالم الإسلامي أن يوجدوا هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونظرنا إلى واقعنا فوجدنا أمة الإسلام أعرضت إعراضاً كاملاً عن هذا الواجب إلا ما شاء الله، كالدولة السعودية التي أسسها المرحوم عبد العزيز، فما زالت هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمة، وخصوم لا إله إلا الله يحاربونها في كل مكان، وإن حاربها اليهود والنصارى فلا عجب ولا غرابة؛ لأنهم لا يريدون أن نسعد وننجو، ولكن كون المحاربين لها من المسلمين فهذه التي لا تطاق.
الأسس الأربعة لقيام الدولة الإسلامية
قال تعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] بلغوا: لا يحل لمن أقام دولة في أرض الإسلام، وادعى أنه استقل بشعبه، وأصبح يدير مملكته أو إقليمه أو سلطنته أو جمهوريته، لا يحل له ألا يوجد هيئات من أهل العلم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإن تكبر عن هذا، أو خاف وانهزم، فمآل دولته الخراب والسقوط والنهاية المرة، أحبوا أم كرهوا؛ لأن الله تعالى قال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41] أي: حكمناهم وسوَّدناهم وأصبحوا حاكمين، أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].فهذا إخبار بما يجب أن يكون، فإذا مكنك الله يا فلان وأصبحت حاكماً تدير مملكة أو قطراً أو جمهورية أو سلطنة، إن لم تقم دولتك على هذه الأسس الأربعة، فالعاقبة لله، وسوف تذوق أنت وقومك مرارة الحياة وآلامها، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، ماذا يصنعون؟ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] إجباراً، إلزاماً، لا يحل لمواطن مهما علا شأنه أو نزل ألا يصلي في دولة الإسلام، والذي يتركها معرضاً عنها يستتاب ثلاثة أيام أو يقطع رأسه إلى جهنم، وأن تجبى الزكاة جباية نظامية إسلامية حتى صاع الشعير ورأس العنز؛ استجابة لأمر الله، أما أن نستبدل بها الضرائب الفادحة أو غير الفادحة، ونعرض عن جباية الزكاة، فمعناه: أننا أعرضنا عن الله وذكره، وتكبرنا عن الله وشرعه، قلنا هذا أو لم نقل.
إيجاد هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة صمام أمان من العذاب
ثالثاً: لابد كما كوَّنا هيئات الشرط والبوليس والدَرَك للأمن وتحقيقه، فيجب أن نكوِّن هيئات يأمر رجالها بالمعروف وينهون عن المنكر، فإن رفضنا فالزمام بيد الله، أما قال: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41] أو عاقبة الأمور عند بريطانيا وفرنسا؟ سوف تنزل بهم المحنة.فإن قيل: يا شيخ! لمَ تقول هذا؟ فنقول على علم: أما أنزل الله بالمسلمين بلاء عظيماً؛ إذ سلط عليهم هولندا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا والبرتغال وأسبانيا، فأذلوهم وأهانوهم وسادوهم وتحكموا فيهم ونكلوا بهم؟ فعل الله هذا أو لا؟ خائفون؟ تجاملون؟ فعل أو لا؟ إي نعم، مع أن أجدادنا الذين تسلط عليهم كانوا أتقى منا اليوم، كان عندهم الحياء والمروءة والرجولة، ونساؤهم محتجبات، ومع هذا لما أعرضوا ضربهم الله.وأما اليوم بعد هذه النعم المتتالية يعرض المسلمون عن ربهم، فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، لا يقيمون صلاة ولا يجبون الزكاة! فأين ربنا؟ بالمرصاد: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ [الفجر:14].إما أن يتوبوا قبل أن تدق الساعة، وإما والله سينزل بلاء ما عرفوه، مع أنهم في وضعيتهم هذه هم في بلاء، وليسوا في خير ولا في راحة ولا في سعادة، وإنما خبث وظلم وشر وفساد وتكالب.فهل عرفتم مضمون: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]؟ والجائزة: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] الناجون من العذاب، الفائزون بالنعيم المقيم لا غيرهم.
التحذير من مشابهة الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
قال الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ [آل عمران:105] البعداء، لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، ينهانا أن نكون كاليهود والنصارى في تفرقنا واختلافنا، ونزاعنا وصارعنا، ويعلمنا أن هذا الصنف من الناس لهم عذاب عظيم، حتى لا نتفرق ولا نختلف، فهل خِفنا مما خوفنا الله؟ الجواب: لا أبداً، أصبحنا أكثر من أهل الكتاب في الفرقة والخلاف، فعندنا ثلاثٌ وأربعون دولة، آلله أمر بهذا؟ أمة واحدة أم أمم؟ كم دستوراً -قانون- عندكم تحكمون به؟ عشرات، أين دستور الله: كتابه وسنة رسوله؟ على الرفوف في المكاتب، أما المحاكم فلا، هذه مقتضيات العذاب أو لا؟ والله لمقتضياته، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:6]، يمهل ولا يهمل، على ذاك المنبر الشريف يخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المؤمنين فيقول: ( إن الله ليملي للظالم ) يزيد في أيامه وطغيانه وحياته، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102]، العواصم والحواضر، وليست جغرافية الملاحدة، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102] عاصمة كذا، وعاصمة كذا، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ [هود:102] شديد الألم، أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] فقل لهم: انتظروا.
تفسير قوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه...)
والآن مع قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، اذكروا يا عباد الله، يوم القيامة وساعة فصل القضاء، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] فتصبح وكأنها الأقمار المشرقة، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] فتصاب بالظلمة والسواد حتى كأنها الليل المظلم، وقطعاً سيتحقق هذا.
جزاء المبيضة وجوههم والمسودة وجوههم يوم القيامة
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] بين لنا ربنا جزاء المبيضة والمسودة وجوههم، فقال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران:106]، فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106]؟ ما لكم؟ ألستم كنتم بمؤمنين؟ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106]، فماذا يقولون في ساعة فصل القضاء؟ الاستفهام للتوبيخ والتأنيب والتعنيف والتقرير، وفيه إشارة إلى أن الذين يعبثون بدين الله ويستهزئون به، ويسخرون منه، ويعطلونه -وإن انتسبوا إلى الإسلام- فوالله لتسود وجوههم، وهذه فضيحة لهم.
قول الإمام مالك في قول الله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه...)
هذا مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وإمام دار النبوة، يروى عنه في العتبية أنه قال: لا توجد آية في كتاب الله أشد على هذه الأمة من هذه الآية؛ لأنها لا تتناول اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، فلا يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟ ثم هل كانوا مؤمنين؟! فهذا يتناول هذه الأمة.اسمع، قال: روى ابن القاسم -تلميذ مالك- عن مالك شيخه في العتبية -كتاب معروف- أنه قال: ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، قال مالك : إنما هذه الآية لأهل القبلة بدليل قوله: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106]، فهاتوا لنا علماء معاصرين يؤولون هذه الآية، ويقولون: إنها في المشركين واليهود والنصارى، لا، فاليهود والنصارى قد انتهى أمرهم، فهل يقال لـأبي جهل: أكفرت بعد إيمانك؟! هو لم يؤمن حتى يقال له ذلك، وهل يقال لابن غوريون أو لـستالين: أكفرت بعد إيمانك؟ هو كان كافراً، إنما يقال هذا لمن يدعون أنهم مسلمون، فلا إله إلا الله! والسر في ذلك: أن هذه العبادات، وهذه الأحكام والشرائع ضمنها الله كفالة، وهي أنها تكفل سعادة الدنيا والآخرة، وذلك إذا طبقت على الوجه المطلوب، لكن إذا وقفت الشريعة، وعطلت أحكامها -كما هو واقع العالم الإسلامي إلا ما استثنينا من هذه الرقعة- فهل إذا سُئلوا يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم وإلا كيف عطلتم شريعتنا واسودت وجوهكم؟! لأنها فضيحة ربانية، كذلك أهل الأهواء الذين حرفوا عقيدة الإسلام، فزادوا ونقصوا وكذبوا وافتروا، وهم يدعون أنهم مسلمون، وإذا دعوناهم إلى الكتاب والسنة، إلى قال الله ورسوله، تأففوا وترفعوا، وقالوا: لنا معتقدنا ولكم معتقدكم، فهؤلاء أهل البدع المخطئة المفسقة، فآيات الله فيهم أن تسود وجوههم، ويقول لهم الرب وملائكته: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:106]، تجحدون بالقول أو بالعمل؛ لأن هذه العبادات إذا لم تؤد على الوجه المطلوب فلا تزكي النفس ولا تطهرها، فإذا صليت الصلوات الخمس ولم تصليها كما صلاها الرسول وأصحابه، فوالله لن تولد لك الطاقة، ولن تنتج لك النور، وهات صلاتك واعرضها على فقيه رباني من أهل السنة وقل له: صلاتي صحيحة أم لا؟ يقول لك: صلاتك باطلة؛ لأنك نقصت فيها كذا، زدت فيها كذا، أخرجت منها كذا، فبطل مفعولها، وهذه هي الحقيقة، ولذلك لو عرفوا لأكبوا على كتاب الله وسنة رسوله يبكون، وطالبوا العالمين بأهل السنة أن بينوا لهم الطريق إلى الله، لا الكبر والعنترية والاعتزاز بالقبيلة وبالإقليم وبالدولة وبالمذهب وبكذا، وكأن لم يكونوا عبيد الله.فهذا مالك يقول: إن هذه الآية لأهل القبلة، وليست في المشركين والكافرين، وإنما لأهل القبلة الذين ينتسبون إلى الإسلام ويصلون إلى الكعبة، وذلك لقول الله تعالى لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106] وإلا فكيف اسودت وجوهكم؟!إذاً: فما الذي تستفيدونه؟ هو أن نحافظ -ما حيينا- على معتقدنا الرباني السليم، وعلى عباداتنا كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤديها ونحن موقنون، لا بدعة ولا ارتداد ولا انتكاس ولا باطل ولا.. ولا..، حتى نُبعث إن شاء الله وينزل بنا ماء من السماء فتبيض له وجوهنا فنصبح كالقمر.
تفسير قوله تعالى: (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله ...)
قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107]، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم. ففي رحمة الله ألا وهي الجنة ورضا الرحمن، خالدين فيها لا يموتون ولا يخرجون منها ولا يرحلون، إنها بشرى عظيمة، إذ إن هذه الآية تساوي الدنيا وما فيها.مرة ثانية: اذكروا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران:106]، بذنوبهم وآثامهم، بشركهم وكفرهم وعنادهم، بإعراضهم عن ذكر الله، مع انتسابهم إلى الإسلام والمسلمين، فهؤلاء يقول لهم الله بنفسه، بل ينزه نفسه أن يكلمهم، فملائكته تكلمهم وتقول لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:106]، ويساقون إلى جهنم كما تُساق الإبل. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107]، لا يسألون ولا يستنطقون أبداً، فما إن ابيضت وجوههم إلا وقد عرفوا أنهم إلى دار السلام إلى الجنة.
تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق...)
وأخيراً: يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [آل عمران:108]، هذه التي سمعتم آيات الله وعلاماته الدالة على وجوده رباً وإلهاً عليماً حكيما قوياً قديراً تغلل علمه في كل شيء، قدرته لا يعجزها شيء، آية تدل على وجود الله وعلمه وقدرته ورحمته وحكمته، وتدل على نبوة محمد ورسالته، إذ لو لم يكن رسوله لما أنزل عليه هذا القرآن، ولما أوحى إليه هذا الهدى وهذا البيان، تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [آل عمران:108]، ينزل بها جبريل بأمر الله تعالى، وجبريل يقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ [آل عمران:108]، بشرى، حاشا لله أن يريد الظلم للعالمين، إنسهم وجنهم، أبيضهم وأسودهم، أولهم وآخرهم، والله ما يريد الله الظلم لأحد، فهو منزه عن الظلم؛ لأن الظلم من شأن العجزة والضعفة والمحتاجين، فهم يظلمون من أجل أن يُكمِّلوا حالهم، أما الغني عما سواه فكيف يظلم؟! وأي داعٍ للظلم؟! إنما الذي يظلم هو العاجز الضعيف، يريد أن يُكمِّل قوته، وأن يزيد فيها، أما القوي الكامل فكيف يظلم؟! إذاً: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ [آل عمران:108]، بل يريد رحمتهم وهدايتهم وسعادتهم وكمالهم؛ لهذا أنزل كتابه، وبعث رسوله، وبين هذا البيان، وفصل هذا التفصيل.
تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض...)
وأخيراً يأتي هذا التعقيب: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109]، من يقول: إلا الإقليم الفلاني لنا؟ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109]، هل هناك من يقول: إلا القطر الفلاني فهو لنا، إلا الحكم فهو لنا، أين ستالين ولينين وجماعة موسكو؟ في جهنم، وأين تلك العنجهية والعنترية والتعالي؟ انتهوا، مائة سنة من هذه الليلة لم يبق منهم كلب ولا خنزير، إذ إن كل ما في السموات وما في الأرض للباقي الخالد، أما الذي يفنى ويزول ويذهب، أسوأ أحواله هل يملك شيئاً فيقال: له كذا وكذا.
طلب الحوائج من الله
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:109]، إذاً: يا فقراء، اطلبوا من هذا الغني، تريدون عزة وسلطان ودولة اطلبوها من الله، فهو يقول لكم: طبقوا شريعتنا، امشوا على منهجنا، تكملون وتسعدون، لكن لا نريد سعادة ولا كمال، وإنما نريد الخبث والظلم والهزؤ والسخرية! إذاً: ابقوا كما أنتم. إن هذا الإعلان عجيب، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109]، يا طلاب الدولة! يا طلاب الرئاسة! يا طلاب المال! يا طلاب العزة! يا طلاب الطهر! يا طلاب الصفاء! يا محتاجون إلى أي شيء، اطلبوه من الله، أو هناك آخر نطلبه منه؟ ليس هناك من يملك إلا هو، فالله ملكاً أبدياً ما في السموات وما في الأرض، فكل من أراد سعادة في الدنيا وفي الآخرة فيطلبها من الله، أما أن يطلبها من الشياطين بالحيل والمكر والخديعة والخبث والنتن والعفونة والله ما ظفر بشيء، ومآله الخسران الأبدي.أردت أن تتزوج، عليك برب الأرباب، قم آخر كل ليلة وصل ركعتين وابكي وقل: زوجني يا رب، والله يأتيك بها كحوراء، تريد عملاً تقتات منه وتسد حاجتك، اقرع باب الله، ما هو بالغش وبالحيلة والمكر والخديعة، وإنما اركع واسجد وابكي عاماً عامين يفتح لك الباب، تريد أن يرفع عنك الظلم وأنت مظلوم مهان فكذلك، وهكذا. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:109]، من كل شيء بيده، هو الذي بيديه، ممن نطلب هذا إذاً؟ نطلب من أمريكا؟ من فرنسا تقوينا؟ من أسبانيا تمدنا؟ اطلبوا من الله.
كل الأمور مردها إلى الله سبحانه وتعالى
وأخيراً: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:109]، مردها كلها إليه تعالى، فما بقي لنا إلا أن نقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علمونا محاب الله لنحبه، علمونا مكاره الله لنتركها، علمونا كيف نعبد ربنا من طريق رسولنا، بينوا لنا سنته؟ الجواب: تعالوا إلى بيوت ربكم يعلمكم، فإن رفضتم فلن تموتوا إلا بعداء أشقياء، وهي سنن الله التي لا تتبدل، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، وطلب الهداية من الله يهبها لمن طلبها، وطلب الغنى وعدم الحاجة من الله الله، فهو الذي يغني عبده، وهكذا، أما أن تستغني عن الله، أو لا تعلن احتياجك له، وتطلب حاجاتك من الشياطين والأهواء، فوالله لن تفلح، وإنما تتعب سبعين سنة ثم تتحطم؛ لأن الله قال: وَإِلَى اللَّهِ لا إلى غيره، تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران:109]، كلها، أمور الدنيا والدين، أمور الدنيا والآخرة، قولوا: آمنا بالله.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ معنى الآيات: بعدما أمر الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بتقواه، والتمسك بدينه، ونهاهم عن الفرقة والاختلاف، وحضهم على ذكر نعمه؛ ليشكروها بطاعته، أمرهم في هذه الآية بأن يوجدوا من أنفسهم جماعة تدعو إلى الإسلام، وذلك بعرضه على الأمم والشعوب، ودعوتهم إلى الدخول فيه، كما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديار الإسلام وبين أهله، فقال تعالى مخاطباً إياهم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] - ولتكن منكم أي: يجب أن تكون منكم طائفة يدعون إلى الخير، أي: الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر- وبشرهم بأن الأمة التي تنهض بهذا الواجب هي الفائزة بسعادة الدنيا والآخرة، فقال: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، الفائزون بالنجاة من العار والنار، وبدخول الجنة مع الأبرار.وفي الآيات (105) (106) (107) نهاهم أن يسلكوا طريق أهل الكتاب في التفرق في السياسة والاختلاف في الدين، فيهلكوا هلاكهم، فقال تعالى مخاطباً إياهم: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ، فلا ينبغي أن يكون العلم والمعرفة بشرائع الله سبباً في الفرقة والخلاف، وهما أداة الوحدة والائتلاف، وأعلمهم بجزاء المختلفين من أهل الكتاب؛ ليعتبروا فلا يختلفوا، فقال تعالى: وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، لا يقادر قدره ولا يعرف مداه، وأخبرهم عن موعد حلول هذا العذاب العظيم بهم، وأنه يوم القيامة حينما تبيضّ وجوه المؤمنين المؤتلفين القائمين على الكتاب والسنة، وتسودّ وجوه الكافرين المختلفين القائمين على البدع والأهواء، فقال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، وبيّن جزاء الفريقين فقال: فأما الذين اسودت وجوههم من سوء ما عاينوه من أهوال الموقف، وما أيقنوا أنهم صائرون إليه من عذاب النار ].لطيفة: اسودت وجوههم بسبب ماذا؟ قال: من سوء ما شاهدوا من أهوال الموقف، وما أيقنوا أنهم صائرون إليه من عذاب النار، فلذلك اسودت وجوههم. قال: [ فيقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ، إذ هذه وجوه من تلك حالهم، فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:106] بالله وشرائعه.وأما الذين ابيضت وجوههم فلم يطل في الهول موقفهم حتى يدخلوا جنة ربهم، قال تعالى: فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:107].وفي الآية (108) شرف الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بخطابه والوحي إليه، فقال: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [آل عمران:108]، أي: هذه الآيات المتضمنة للهدى والخير نقرأها عليك بالحق الثابت الذي لا مرية فيه، ولا شك يعتريه، فبلغها عنا وادع بها إلينا، فمن استجاب لك نجا ومن أعرض هلك، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ [آل عمران:108]، فلا يُعذب إلا بعد الإعلام والإنذار.وفي الآية الأخيرة (109) يخبر تعالى أنه له ملك السموات والأرض خلقاً وتصرفاً وتدبيراً، وأن مصير الأمور إليه، وسيجزي المحسن بالحسنى، والمسيء بالسُّوأى ].
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: وجوب وجود طائفة من أمة الإسلام تدعو الأمم والشعوب إلى الإسلام، وتعرضه عليهم، وتقاتلهم إن قاتلوها عليه ].وقد بينا هذا وقلنا: لا بد من وجود إما الجهاد وإما لجنة عليا كما هي اليوم، وإن شاء سوف تسمعون بوجود لجنة عليا تكونت؛ لأنكم بلَّغتم، وتحدثتم بهذا في بيوتكم، وسوف تنقل إلى بعض الصالحين المسئولين فيكونونها. قال: [ ووجوب وجود هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مدن وقرى المسلمين.ثانياً: حرمة الفرقة بين المسلمين والاختلاف في دين الله ].فالذين يرفضون الوحدة والاتفاق على منهج الحق ملعونون هالكون، والذين ينادون: تعالوا، قال الله وقال رسوله ناجون والحمد لله.قال: [ ثالثاً: أهل البدع والأهواء يعرفون في عرصات القيامة باسوداد وجوههم.رابعاً: أهل السنة والجماعة وهم الذين يعيشون عقيدة وعبادة على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يعرفون يوم العرض بابيضاض وجوههم. خامساً: كرامة الرسول على ربه وتقرير نبوته، وشرف من آمن به واتبع ما جاء به.سادساً: مرد الأمور إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة، فيجب على عقلاء العباد أن يتخذوا لهم عند الله عهداً بالإيمان به وتوحيده في عبادته، بتحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ]. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (45)
الحلقة (186)
تفسير سورة آل عمران (5)
زين الله عز وجل لعباده زينة الدنيا ومحاسنها وما فيها من النساء والأولاد والأموال فتنة لهم وامتحاناً واختباراً، وذلك حتى يأخذوا منها ما أباحه لهم، وما سمح لهم بأخذه والاستمتاع به، ويجتنبوا ما نهاهم عنه وحرمه عليهم من هذه النعم، ثم أخبرهم تعالى بأن ما أخذوا وما تركوا ما هو إلا متاع الحياة الدنيا والله عنده في الآخرة الجنة لعباده المؤمنين الصادقين.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ) . اللهم حقق رجاءنا يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين!وها نحن اليوم مع آية واحدة من كتاب الله، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]. وقبل أن نشرع في تدارس هذه الآية الكريمة نتذاكر ما علمناه بالأمس! تذكرون أننا عرفنا أن الذنوب هي بريد العذاب، إذ قال تعالى: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أخذهم الله فعذبهم أشد العذاب؛ بسبب ذنوبهم، فالذنوب بريد المهالك والمعاصي وبوابة الخسران والشقاء والعذاب.والذنوب: هي المعاصي، معصية الله في أمره أو نهيه ذنب، ومعصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره أو نهيه ذنب، فمن أمر ولم يفعل كمن نهي وفعل، كلاهما أذنب، فيؤاخذ بذنبه ما لم يتب ويتوب الله عليه.
الإيمان والعمل الصالح هما سلم الصعود إلى الملكوت الأعلى
من منكم يذكر لنا مراقي الصعود؟ ما هي المرقاة التي نخترق بها السموات السبع وننزل بالفردوس الأعلى؟الطلبة يخافون أو يستحون؟! الإيمان والعمل الصالح هما مرقاة الصعود إلى الملكوت الأعلى، وإن طلبتم بيان ذلك فأنتم عليمون به، فقد عرفتم حكم الله الذي صدر علينا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:9-10]، والله إذا حكم فلا معقب لحكمه، فهو الذي أخبر بنفسه في سورة الرعد فقال: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]!تأملوا! قول الله عز وجل من سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ، طاعة الله وطاعة الرسول أليست هي الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي؟! بلى.والطاعات: فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، أمر بالإيمان والعمل الصالح، ونهى وحرم الشرك والمعاصي، اسمع لتشاهد هذه المرقاة: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]! كيف انتظم هؤلاء في سلك هذه المواكب في الملكوت الأعلى؟ ما هي المرقاة؟ ما هو السلم؟ ما هو البريد؟ إنها طاعة الله عز وجل، وطاعة الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، واللفظ واضح كوضوح الشمس، ولفظ (من) من ألفاظ العموم، فكل من يطع الله والرسول سواء كان ذكراً أو أنثى، عربياً أو أعجمياً، فقيراً أو غنياً، شريفاً أو ضيعاً مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]!أين هم الذين أنعم الله عليهم؟ أين رسول الله؟ في الملكوت الأعلى.أين أرواح الشهداء؟ أين أرواح المؤمنين؟ في الفراديس العلى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]. اللهم اجعلنا منهم ووالدينا يا رب العالمين!
إنعام الله على عباده الطائعين بنعمة الإيمان به
هنا سؤال يُطرح على السامعين والسامعات: بماذا أنعم الله عليهم؟ بالأموال؟ بالذرية والأولاد؟ بالمناصب العالية؟ بالجاه والسلطان؟ نريد أن نعرف بماذا أنعم عليهم؟ من نسي فليقرأ سورة الفاتحة ويتدبر قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، إذ أنعم عليهم بأربع نعم: الأولى: نعمة الإيمان بالله، وبما أمر الله أن نؤمن به ونصدق وإن كان وراء العقول -كما يقولون- فإذا قال تعالى شيئاً نؤمن بما قال، ونقول: آمنا!في ذات ليلة وهو صلى الله عليه وسلم جالس كالبدر وحوله الكواكب الزهر من أصحابه قطع الدرس وقال: (آمنت به، آمنت به ) وأخذ بلحيته الطاهرة ، فما هذا الذي أُمر الرسول أن يؤمن به على الفور؟ ( أوحى الله إليه أن رجلاً فيمن كان قبلنا من الأمم السابقة كان يركب بقرة ) فلاح.. مزارع ركب بقرة ( فقالت له: إنا لم نخلق لهذا ) فالبقرة للسقي والحرث وليست للركوب عليها، فلما كان هذا مما لا يعقل ما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: ( آمنت به ). لأنها رفعت رأسها إليه وقالت: ما لهذا خلقت! البقرة نطقت بلغة الرجل، ورفعت رأسها إلى الخلف وهو عليها وقالت: ما لهذا خلقت! فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( آمنت به، آمنت به )، وكان الشيخان غائبين عن المجلس فقال صلى الله عليه وسلم: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ) ثقة في إيمان الرجلين!ومعنى هذا يا أبناء الإسلام! إذا أمر الله بالإيمان بشيء فسلموا وقولوا: آمنا به، سواء أدركتموه أو لم تدركوه فليس أمامك أيها المسلم إلا أن تقول: آمنت به!
إنعام الله على عباده الطائعين بمعرفته سبحانه بأسمائه وصفاته وجلاله وكماله
ثاني نعمة: معرفة الرحمن، معرفة الله، معرفة الله بأسمائه وصفاته، بجلاله وكماله، بآياته في الكون، بمخلوقاته؛ إذ ما من مخلوق إلا والله خالقه؛ فدل ذلك على واسع علمه وعظيم قدرته! من منكم يقول: أنا عرفت الله؟ من منكم يقول:أنا أنعم الله علي بمعرفته فعرفته؟ نحن نقول: عرفنا ربنا، فما هي البراهين على معرفتنا لله أو عدم ذلك؟ ما الدليل؟ اسمعوا وعوا! معرفة الله في القلب تثمر شيئين متى وجدا كانت المعرفة موجودة، ومتى انتفيا أو انتفى أحدهما فلا معرفة، وهما: حبه تعالى والخوف منه. من لم يخف الله والله ما عرفه! من لم يحب الله عز وجل والله ما عرفه! أنت الآن بفطرتك تحب من تسمع عن شجاعته.. عن كماله.. عن سخائه.. عن علمه.. عن طهره.. عن صفائه.. فتحبه لصفاته وليس شرطاً أن تراه أبداً، فكلنا يحب رسول الله لما له من صفات الجلال والكمال، وكلكم يحب علي بن أبي طالب ؛ لشجاعته.إذاً: من لم يحب الله ولم يخفه ما عرف الله!ومعرفة الله تثمر وتنتج للعارف شيئين ضروريين لحياته حتى يستقيم على منهج الحق وهما: حب الله، والخوف منه، فمن أحب الله عمل كل ما يحب في حدود طاقته، ومن خاف من الله هجر وهرب من كل ما يكره الله.
إنعام الله على عباده الطائعين بتعريفهم محابه ومساخطه سبحانه
النعمة الثالثة: معرفة محابه ومساخطه، معرفة ما يحب الله من الاعتقادات القلبية والأقوال والأعمال الذاتية، ومعرفة عكس ذلك وضده وهو ما يكره تعالى من الاعتقادات والأقوال السيئة والأعمال الفاسدة والصفات الذميمة، فلا بد من معرفة ما يحب الله حتى الكلمة الواحدة: (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، ولا بد من معرفة ما يكره الله حتى الكذبة. هذه هي النعمة الثالثة: معرفة ما يحب الله وما يكره، وإذا قلت لنا: كيف أعرف ذلك؟ يقال لك: اقرع أبواب العلماء واسألهم، اقرع كتابه وادرسه، امشي وراء رسوله وتتبع سيرته تجد ما يحب الله وما يكره، أما أن يوحي إليك وأنت في مزرعتك أو مصنعك فهذا مستحيل، والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] ، وهذا أمر، اسألوا! من نسأل يا رب؟ أهل الذكر. ما الذكر هذا؟ إنه القرآن: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1].وإذا لم نجد من نسأل ماذا نصنع؟ يجب أن نرحل ونركب بعيراً أو بهيمة أو طيارة أو باخرة حتى نجد الشخص الذي يعرف ما يحب ربنا وما يكره! قد تقول: يا شيخ هذا متعب، وهذا غير معقول؟ فأقول لك: ارحل من هذه القرية التي لا يوجد فيها من لا يعرف ما يحب الله وما يكره وانتقل، هاجر كما هاجر الأصحاب من مكة إلى المدينة؛ ليتعلموا الكتاب والحكمة! فإذا قلت: لا أستطيع! سأقول لك: كيف تستطيع أن تخترق سبع سموات وتنزل هناك؟ أهذه سهلة؟ مستحيلة هذه، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]، فكل من لا يعلم يجب عليه أن يسأل حتى يعلم أحب أم كره، وبذلك يفترض أن لا يوجد بين المسلمين جاهل إلا من كان حديث عهد بالإسلام؛ إذ هذا نظام حياتهم، من لا يعلم يسأل حتى يعلم، ولا يشترط أبداً القلم ولا القرطاس، فإذا كنت تريد أن تأكل ولأول مرة فائت إلى عالم وقل له: كيف أتناول الطعام؟ سيقول لك: إذا وضع الطعام بين يديك فقل: (بسم الله)، وتناوله بيدك اليمني، ولا تأكل من حافة القصعة، وكل مما يليك فقط، وإذا أكلت فلا تشبع، بل كل بقدر ما تقيم صلبك وحياتك، ثم إذا ختمت فالعق أصابعك كما كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يلعق إن كان فيها إدام، ثم قل: (الحمد لله)، وبهذا تكون قد تعلمت كيف تأكل، فعلم امرأتك وأولادك ما تعلمته!
إنعام الله على عباده الطائعين بنعمة التوفيق للعمل
أخيراً: النعمة الرابعة: توفيق الله لك يا عالم أن تعمل بما علمت، إذ لو خذلك الله وما وفقك فستصبح كعلماء اليهود المغضوب عليهم!لم غضب الله عليهم؟ لأنهم علموا وأبوا أن يعملوا، آثروا الدنيا وأوساخها بعدما علموا فغضب الله عليهم، قال الله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، صراط المغضوب عليهم من اليهود لا نسلكه ولا نمشي عليه، وكذا صراط الضلال والجهال من النصارى، لا نمشي وراءهم! إذاً: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] أنعم الله عليهم بأربع نعم هي: أولاً: الإيمان؛ لأن هذه النعمة تطلب من الله، فكم وكم ممن طار في السماء وغاص في الماء ما آمن، فهذه نعمة تطلبها من الرحمن.ثانياً: معرفته عز وجل، وهذه تطلبها من الكتاب والسنة، وسؤال أهل العلم.ثالثاً: معرفة ما يحب وما يكره سبحانه، وهذه تطلبها من أهل العلم، وترحل من بلد إلى بلد لتظفر بها. وأما الأخيرة فنعمة التوفيق، فاطرح بين يدي الله وتململ بين يديه وأنت تبكي: رب زدني علماً! رب وفقني لما تحب وترضى! فيوفقك، ومن ثم -إن شاء الله- تجدون أنفسكم قد اخترقتم سبعة آلاف وخمسمائة عام، وما هي إلا لحظات فقط والشيخ على سرير الموت، وموكب من الملائكة -وليس ملكاً واحداً- فيسلم عليه ملك الموت: السلام عليكم، فلو كنت حاضراً لرأيت الابتسامة على وجهه وهو فرح، وتزف إليه البشرى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31]، الله أكبر! لأن هذا الميت آمن واستقام، ما اعوج ولا انحرف ولا زاغ، وواصل مسيرته! وروحه ما هي إلا لحظات وهي تحت العرش! وهنا قد يقول قائل: لحظات وهي تحت العرش يا شيخ؟ فأقول له: نعم، هذا فوق مستوى عقولنا، فقل: آمنت بالله! وقد صار أعظم من هذا، من بيت أم هانئ رضي الله عنها إلى بئر زمزم أجريت عملية جراحية لأول مرة في القلب، وغسل القلب وحشي بالإيمان والحكمة، وأسري به إلى بيت المقدس، ومن بيت المقدس إلى ما وراء دار السلام، وعاد صلى الله عليه وسلم. تقول أم هانئ : ما زال فراشه دافئاً ما برد!!
تفسير قوله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين...)
الآن مع قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، من المزين؟ إنه الله الذي زين لعباده الحسن الجميل، وذلك لحكم عالية.
معنى قوله تعالى: (زين للناس)
ما معنى (زين)؟ هل أنت تحب الطعام وتحب الشراب أم لا؟ بلى، كيف تحب هذا؟ من جعل هذا الحب فيك؟ إنه الله، فهو الذي زين لك هذا! وأنت أيها الفحل تحب امرأتك وتأتيها ولولا التزيين الإلهي والله ما تنظر إلى ذلك المكان ولا ترضاه لنفسك، ولكنها غرائز غرزت وطبائع طبعت لحكم عالية، من أبسطها: لولا أن الله زين لك حب الطعام والشراب ما كنت لتعيش، ولو قلت: أنا لا آكل ولا أشرب -كما يفعل الغافلون في السجون فيضربون عن الطعام حتى الموت- فلا بد أنك ستموت. إذاً: زين الله لك هذا حتى تحيا وتمتد حياتك لتذكره وتشكره.ومن ذلك أيضاً: قضية إتيان الأنثى في تلك الصورة، فهذه والله لولا أن الله زينها ما أقبل عليها آدمي ولا عرفها. لِم زينها الله؟ للتناسل وتواجد بالبشرية لتذكر الله وتشكره، وهذا تدبير الحكيم العليم.إذاً: الله يزين هذه الأمور لعباده لحكم عالية، مع ملاحظة أن الله يزين الحسن، والشيطان يزين القبيح، فكن مع ما يزين الله الحكيم العليم، وإياك أن تكون مع ما يزين الشيطان الرجيم، فالشيطان لا يزين إلا القبيح، والله لا يزين إلا الحسن، وتزيين الله عز وجل لحكمة، وتزيين الشيطان أيضاً لحكمة، فيزين لك الخبائث والمحرمات من أجل أن تهلك معه، والقضية قديمة الجذور والأصل، فالشيطان -عليه لعائن الله- حسد أباكم آدم وتكبر، ومن ثم لما أبلسه الله وأيئسه من الخير وأصبح قانطاً آيساً لا يدخل دار السلام أبداً سأل الله عز وجل أن يطيل عمره إلى نهاية الحياة من أجل أن يزين لبني آدم المنكر والباطل، والشرك والكفر، والفسق والفجور؛ ليهلكوا معه ويصبحوا معه في دار البوار والعذاب والشقاء، كما أخبر الله تعالى عنه في كتابه فقال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، اللهم اجعلنا منهم! وقال: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّ هُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39]، فهيا نشرح الواقع: تزيين الطعام الحلال، والشراب الحلال، والنكاح الحلال حسن أم قبيح؟الجواب: حسن. وتزيين اللواط والزنا، وشرب الخمر والمسكرات حسن أم قبيح ؟الجواب: قبيح. فكل قبيح لا تفهم أن الله شرعه، أو أمر به ورغب فيه، وكل حسن تعرف أن الله أمر به وشرعه، فإبليس يزين القبيح، والرحمن جل جلاله يزين الحسن، ولذلك قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمران:14]، فما قال (زينت) أو (زينا) بل قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمران:14] من بني آدم!
الشهوات التي زينها الله عز وجل للإنسان
قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ [آل عمران:14] فماذا زُين لهم؟ الجواب: زين لهم حب الشهوات، والشهوات جمع شهوة، بمعنى المشتهى، فمثلاً: حبة التفاح تنظر إليها فتشتهيها، فتلك هي الشهوة.
الأولى: شهوة النساء
قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14]، من ينكر هذا من البشر؟ روسي؟ ياباني؟ من هذا؟ لا أحد ينكر هذا، فهذه غرائز غرزها الرحمن في بني آدم لحكم عالية، وقد قلت لكم: والله لولا أنه غرز هذه الشهوة ما اندفع الآدمي إليها أو حتى الحيوان وما توالدت البشرية، وما كان لها وجود.قوله: مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14]، النساء: واحده امرأة، وليس له مفرد، والنساء واحدة النساء، امرأة، ولا يخطر ببالك أنه مادام قد زين هذا فلتأته أنت مع من شئت من بنات ونساء المؤمنين بالعهر والزنا والفجور، لا ، بل انزع هذا من ذهنك؛ لأنه سبحانه زينه لحكمة وهي التناسل وكثرة البنين والبنات؛ ليعبد الله عز وجل، وليس لذات الغريزة والشهوة.إذاً: من زين له الشيطان الزنا أو اللواط فهذا التزيين للقبيح الذي هو أشد قبحاً، ودائماً نقول: ما أعرف! ما أقبح! ولا أبشع ولا أرخص ولا أذل ولا أنتن من يأتي الذكر الذكر، وقد بلغنا: أن في أوروبا أندية مخصصة للواط!! وذكر أن أحد أئمة الإسلام الأمويين، وهو عبد الملك بن مروان ناشر الدعوة وحامل رايتها زمناً، وقف على منبر دمشق يخطب الناس فحلف بالله: لولا أن الله تعالى أخبرنا عن قوم لوط ما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر. لا يخطر ببال العربي أن الرجل ينزو على الرجل أبداً.أما اليوم فقد وردني كتاب عند باب المسجد من مؤمن يبكي، يقول: إن أخاً له يأتي أخاً له في بيته، وقد قمنا بتأديبهما وضربنا وعذبنا وما استطاعا أن يتركا! لا حول ولا قوة إلا بالله! من أين تعلموا هذا؟ كيف وصلنا إلى هذا؟ لقد كان العرب حتى البغال لا يدخلونها بلادهم، ولا توجد في هذه الديار بغلة إلا الدلدل التي أهداها مقوقس مصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع مارية القبطية.لِماذا كان العرب لا يدخلون البغال ديارهم؟ لأن البغلة تتولد من إنزاء الحمار على الفرس، يسلطون الحمار على الفرس فتنتج بغلة. هذا العرب لا يعرفونه أبداً، ولا يستسيغون أن حماراً ينزو على فرس، مستحيل.. أبداً.وما عرفت هذه الجريرة وهذه الفاحشة - اللواط- إلا في خلافة عمر ، فقد ضبط الصحابة اثنين من العجم في البحرين ينزو أحدهما على الآخر، فاحتار الصحابة كيف يفعل بهما، فقال علي : نطلقهما من أعلى الجبل إلى الأرض، ونرميهم بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط.آه! هذه الجريرة تمارس في بيوت الإيمان؟! أتدرون من علمهم؟ إنه إبليس، أبو مرة! ما هي الآلات التي تقدم بها إليهم؟الجواب: إنه التلفاز، الفيديو، الصحن الهوائي، الدش، فتعلم الأولاد العهر والفجور مما يشاهدون! آه.. أين الإيمان والمؤمنون، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )؟! وإذا رحلت الملائكة من يحل محلها؟! تحل محلها الشياطين. والشياطين ما مهمتها؟ تزيين القبائح. ائتوني بسياسي يتكلم معي، يقول: هذه رجعية وتخلف،سأقول له: يا هذا! أتحداك أن تعدد لي النتائج المباركة الطيبة التي نمت بيننا عندما أدخلنا هذه الآلات في بيوتنا! هل كثرت الأموال؟ ولا ما استفدنا منها ريالاً واحداً! هل أصبحنا شجعان؟ لا والله فقد عبث بنا أذل الخلق من اليهود! فما الذي تحقق؟ لا شيء.إذاً: أيها العاقل الرشيد، نحن نظام حياتنا لا نقول الكلمة إلا إذا عرفنا أنها تنتج خيراً، ولا نتحرك حركة يميناً ولا شمالاً إلا إذا علمنا إذن الله بها، وأنها تنتج خيراً، فكيف نطرد الملائكة من بيوتنا؟ وكيف هجرنا بيوت الرب وتركناها ثم طردنا الملائكة حتى من بيوتنا؟ هل بعد هذا نستطيع أن نعيش طاهرين؟ كيف نطهر؟ هل ماتت الشياطين أو أعلنوا عن هزيمتهم؟! لا والله، وكنا الأمة تخلت عن دينها!وإن فرضنا أنك سياسي، ولابد وأن تطلع على أحداث العالم ولم تنفعك الصحف فاجعل التلفاز في غرفتك أيها الفحل، واضبط أوقات النشرة أو أوقات العرض وادخل وأغلق الباب عليك في الغرفة، ووالله لو تجعله في المرحاض لكان أفضل! وانظر ذاك واسمع الأخبار وما جرى في الحادثة وأغلقه واخرج.قد يقول قائل: لِم هذا يا شيخ؟ فأقول: لأننا عرفنا أنفسنا، هبطنا وما ارتفعنا، ماذا أفادنا هذا؟ زادنا بلاء ومحنة فقط.
الثانية: حب البنين
قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ [آل عمران:14]، والبنات! أيضاً؟ لا.. لا، البنين فقط، ولو قال: (والأولاد) لدخل في ذلك البنات، فهن مولودات، لكنه قال (والبنين)، وأهل هذه الديار، أهل المروءات قديماً كان إذا بشر أحدهم بأنه ولدت له بنت يظل في كرب ويسود وجهه، ويستحي أن يلتقي مع الناس: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:58-59].عمر رضي الله عنه فعلها قبل أن يسلم! ولدت له بنت في مكة فدفنها حية، حفر لها وأخذت تمسح التراب من لحيته، ودسها، وبكى على هذه في الإسلام! مغفور لك يا ابن الخطاب ، فهذا كان في عهد الجاهلية غير عهد الإيمان والإسلام.إذاً: قال: (والبنين) ليكونوا فيلقاً تمر بهم بين الرجال ليحموك، ليحوطوك بالحماية، ولهذا تحبهم!أما الآن فيحبونهم حب شهوة فقط، لأنهم ما ينفعون، أو من أجل الراتب فقط! من فعل بنا هذا؟ إنه الثالوث الأسود، خصوم لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ المجوس، واليهود، والنصارى، ومددنا أعناقنا وساقونا إلى المهاوي والمهالك وما شعرنا بعد.إذاً: حب البنين لأنهم يجاهدون ويقاتلون وينشرون دعوة الله ويبنون ويصنعون، ويسافرون ويتجرون ويربحون، أما البنات فلو قال تعالى: (حب البنين والبنات) فسيقول أحدهم: لا.. لا، هذا ليس كلام الله، نحن لا نحب البنات، ولكن الله قال: (والبنين).
الثالثة: حب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة
قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ [آل عمران:14] مقنطرة، أي: بعضها فوق بعض، والقنطار: ألف أوقية ومائة، والأوقية معروفة عند الناس، وهم يحبون القناطير- أي: الكثرة- لأنها غريزة مطبوعة في النفس. وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران:14]، وقدم الذهب على الفضة لأنه أرقى.لِم قلوب البشرية متعلقة بالذهب؟ لأن الذهب أجمل من الزبدة، وأحلى من العسل، وأطيب من اللبن! أسألكم بالله! من ربط القلوب الآدمية بهذه الطينة؟ لا إله إلا الله، آمنت بالله! هل جاء زمان أو وقت كره الناس فيه الذهب والفضة؟ لا، ولهل واهم يقول: لعلها أيام الشيوعية، فأقول: لا، فقد ربط الله قلوبهم بهذه لينتظم الكون وتنتظم الحياة إلى نهايتها، آمنت بالله.
الرابعة: حب الخيل المسومة
قال تعالى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ [آل عمران:14]، وهذه شُغلنا عنها بوجود السيارات، وقد كان للخيل قبا وجود السيارات أهمية كبيرة فالذي لا يملك فرساً لا قيمة له، وقد كانت الأمة تجاهد على أرجلها وعلى خيولها، وفرسانها يركبون الخيول سواء العرب أو العجم، الدنيا كلها، والآن هبطت الخيول لوجود السيارات فقط، ومع هذا ما زالت محترمة، وإذا جاء في يوم من الأيام وانتهت المادة وانقطعت السيارات سنعود إليها من جديد، فهي محفوظة، ولعل أحدكم لو يهدى إليه فرس لفرح به مع أنه ليس في حاجة إليه، ولكنه فرس موسوم جميل، فتبيت ليلتك تحمد الله وتشكره إن كنت مؤمناً.
الخامسة: الأنعام
قال: وَالأَنْعَامِ [آل عمران:14]. ما هي الأنعام؟ في ثلاثة أصناف من الحيوان: الإبل، والبقر، والغنم، والغنم منها الماعز، ومنها الضأن، مزينة لأهلها، يحبونها.
السادسة: الحرث
وجاء الختم الإلهي، فقال: وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] . (الحرث) يدخل فيه كل المزارع والحقول من إنبات الحبوب إلى نبات الورود والرياحين، ولو تهدى إليك الآن حديقة لطرت بها فرحاً! من غرز هذا فينا؟ إنه الخلاق العليم؛ من أجل أن تنتظم الحياة وتسير إلى نهايتها.
معنى قوله تعالى: (ذلك متاع الحياة الدنيا)
قال: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] أيها المستمعون وأيتها المستمعات! (ذلك) المزين لكم المذكور في الآية من حب النساء والبنين والقناطير من الذهب والفضة والحرث مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14].والمتاع: ما يتمتع به ويزول، لما تسافر تأخذ معك زنبيلاً فيه الخبز والتمر، فتأكله ولا يبقى منه شيء، فتحمل معك ما يكفيك في سفرك. هذا هو المتاع.(الحياة الدنيا) أي: القريبة. فتترك متاعها وترحل، ولنقرأ آية سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، فهذا المتاع في الحياة الدنيا زينه الله للابتلاء والاختبار والامتحان، وهو زائل ومنتهٍ، (لنبلوهم) من يأخذ بما أحل الله، ويتخلى عما حرم الله، ومن ينغمس فيما حرم الله فتتمزق نفسه وتخبث وتصبح كأرواح الشياطين.
معنى قوله تعالى: (والله عنده حسن المآب)
قال: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، أرأيت هذا الختم الإلهي؟ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] والآخرة عند من؟ عند الله حسن المرجع والمآب.ومعنى هذا: يا عباد الله! يا أولياء الله! خذوا من دنياكم ما حل لكم وطاب، وميلوا إلى التقتير والتقليل؛ لأن آمالكم في السماء وليست في الأرض؛ لأن: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]! إذاً: اذكروا ما عند الله، فإنه يصرفكم عما حرم الله. وَاللَّهُ عِنْدَهُ [آل عمران:14] ماذا؟ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14] أي المرجع في الجنة دار السلام، دار النعيم المقيم.
الحكمة من تزيين هذه الشهوات للإنسان
عرفتم هذا؟ ما هي النتيجة الطيبة؟النتيجة: عرفنا أن هذا المحبوب المزين زينه خالقه للفتنة وللاختبار والامتحان، فلنأخذ منه ما أذن لنا فيه وسمح به لنا، ونتجنب ما نهي عنه وحرم علينا؛ لأننا ممتحنون، فإن نحن كابدنا فقراً.. كابدنا تعباً ومشقة، فلنصبر ولنعلم أن وراء ذلك: النعيم المقيم، الذي لا حد له ولا حصر، وإليكم كلمات الحبيب صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ) هذا الكلام الحكيم من أستاذ الحكمة ومعلمها، ( حفت الجنة بالمكاره ) فإذا أنت لم تغامر وتتقوى وتمزق تلك المخاوف وتقبل على عبادة الله لن تدخل الجنة، فالجنة محفوفة بما تكره النفس! آه.. الصيام! كيف نترك الطعام والشراب؟ كيف نترك كذا، محفوفة بما تكره النفس.. الزنا حرام، ما تزوجنا كيف نصبر ليلاً ونهاراً الأعوام والسنين؟ إذاً: حفت الجنة بالمكاره. تقول: كيف هذا الحج؟ أمشي على رجليّ وأنا في الأندلس؟ كيف أصنع؟ الاعتراف بالحق! لو صفعك مؤمن فقل: سامحتك! تجوع وتعطش ولا تمد يدك إلى مال غيرك لتسرقه! هذه المكاره تحوط بالجنة، فإن أنت اجتزتها وتجاوزتها دخلت دار السلام! ( حفت الجنة بالمكاره ) كحمل راية الجهاد مع إمام المسلمين، لابد للشبان والكهول أن يخرجوا إلا مريض، أو عاجز، وهذا تكرهه النفس! أصحاب الأموال أيها المؤمنون من عنده فضل عن قوته فليضعه غداً في صندوق الجهاد، تجد نفسك مضطر لابد وأن تخرج. قال: ( وحفت النار بالشهوات )، شهوات الربا، الزنا، الغش، اللهو، الباطل، الخداع، عقوق الوالدين، سب المؤمنين وتكفيرهم، كل هذه محاطة بالنار حتى يدخلها، ويقول فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، يقول: ( اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )، هذا كلام أستاذ الحكمة ومعلمها، اسمع ما يقول لنا يا عبد الرحمن!يقول: (اتقوا الدنيا) كيف نتقيها؟ نجعل بيننا وبينها وقاية فلا ننغمس في أوضارها وأوساخها، ولا نتكالب عليها، بل نأخذ منها الزاد فقط للوصول إلى القبر. لم ننغمس في الأموال فنصبح في أسوأ الأحوال؟ أنت موظف، فاكتف بوظيفتك ولا تفتح دكاناً، أنصحك!يا عبد الله ! أنت في خير وعافية فلا تفتح باب شر عليك، وتبدأ تتطلع ماذا فعلنا، وماذا ربحنا! قال: ( اتقوا الدنيا ) أي: انتبهوا! خافوها واحذروها بأن لا تقعوا في أحضانها فتهلككم ( واتقوا النساء ). كيف نتقي النساء يا رسول الله؟ تخاف من فتنتهن، فإذا مرت امرأة كأنها حية أو ثعبان، فأغمض عينيك واهرب ( فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ). بنو إسرائيل.. أبناء الأنبياء قادوا العالم بطهرهم وصفائهم، حتى بدأت فتنتهم بالكعب العالي فهبطوا! الزائرون لا يعرفون الكعب العالي، اذهبوا إلى أسواق المدينة يعلموكم ما هو الكعب العالي، حذاء كعبه رقيق إذا لبسته المرأة تصبح تتمايل، الشيطان يجعلها تتمايل هكذا.. وهذا الكعب العالي من سنة اليهود.وهذه الصديقة رضي الله عنها رأت بعض نساء المؤمنات تخرج وهي متزينة، فقالت: أو تردن أن ينزل القرآن فيكن كما نزل في بني إسرائيل. والشاهد عندنا: أن فتنتهم كانت بالنساء وإلى الآن فتنتنا في النساء. إذاً: علموا بناتكم ست سنين في المدرسة الابتدائية، وإذا تعلمن كيف يعبدن الله ويتقينه، فاحجبوهن في البيت يخدمن أمهاتهن، ويساعدن على تربية الصغار، ويتهيأن للأنوار؛ فيتزوجن وينجبن البنين والبنات. أما أنك تعلمهن للمستقبل، مستقبلك يا ابنتي! وهي تقول: مستقبلي يا بابا! ثم يتقدمون لخطبتها في الثامنة عشر فتقول لهم: لا، مشغولة، وفي الخامسة والعشرين فتقول: لا، حتى تأخذ شهادة الجامعة وتتخرج، وبعد ذلك تبحث عن وظيفة، والشيطان يوسوس لها، ويوجد لها وظيفة وتنتهي حياتها ولا تستفيد منها شيء، فلا وألف لا.إذاً: فتنتنا بدأت وكانت من النساء كفتنة بني إسرائيل، ولو أن النساء طاهرات صالحات ربانيات -والله- لأسعدن الفحول والرجال، لكن ما دمن شهوانيات راغبات في المال والمتعة والتمتع بالحياة فسيعكرن الحياة على أزواجهن.على كل حال: عمر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال: الآن يا رب. أي: ما دمت زينت لنا هذه فمن الآن، فأنزل الله تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15].. وهذا هو درس أو آية غد إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (46)
الحلقة (187)
تفسير سورة آل عمران (50)
لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا، وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام ويحملون هم تبليغه، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا، ذكرهم سبحانه وتعالى بخير عظيم وهو أنه جعلهم خير أمة أخرجت للناس، وامتن عليهم بأن وقاهم من كيد أعدائهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا، بل وسلط عليهم المؤمنين وغضب عليهم بما كانوا يفسقون.
تفسير قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة من يوم السبت والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي والعالم أجمع، وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الموعود، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس في سورة آل عمران عليهم السلام إلى هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران:110-112].معاشر المؤمنين والمؤمنات! يقول تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، هذا خبر من أخبار الله التي لا يتطرق إليها غير الصدق، فيخبر تعالى مبشراً مهنئاً هذه الأمة بأنها خير أمة أخرجها الله للناس، إذ ما وجدت على وجه الأرض أمة سمت ووصلت إلى ما وصلت إليه هذه الأمة الإسلامية في الخير وعلو الدرجات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. كُنْتُمْ [آل عمران:110]، أي: وجدتم، خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، والمخرج لها هو الله عز وجل، و(الناس): لفظ يشمل البشرية كلها، عربها وعجمها، أولها وآخرها على حد سواء.ثم بين وجه الخيرية، وكيف اكتسبناها وظفرنا بها وحصلنا عليها، فقال تعالى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، أي: لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا، وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا، ذكَرهم بخير عظيم، وبشر وأعلن عن خيريتهم وأفضليتهم فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].وفي هذا إجمال، وقد بينا (المعروف) الذي تأمر به هذه الأمة ألا وهو شرع الله عز وجل، وما عرفه الله من خير، فيدخل فيه الإسلام وكل شرائعه، إذ ما شرع الله لعباده إلا خيراً، و(المنكر) الذي ينهون عنه يشمل الكفر والشرك، وكل ما كره الله وأبغضه وحرمه ونهى عنه، سواء من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات والذوات. وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، ولازم إيمانهم بالله أنهم آمنوا بكل ما أمرهم الله أن يؤمنوا به، كالملائكة والكتب والرسل والبعث والجزاء، وكل غيب من الغيوب التي أخبر الله عنها وأمر بالإيمان بها، فلا تفهمن من قول الله تعالى: وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]: لا تؤمنون بغير الله، بل تؤمنون بالله وبكل ما أمرنا الله أن نؤمن به، سواء كان من عالم الغيب أو الشهادة، فإذا أمر الله بأن نصدق بكذا وجب على المؤمن أن يصدق.وأركان الإيمان الستة قد بينها جبريل عليه السلام، ونحن والحمد الله على علم بها، ومع ذلك إذا صح الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا بأن نصدق بحادثة معينة وجب الإيمان بها، ولا قيمة لعقولنا حتى ترفض أو تقبل، فكيف إذا أخبر الله تعالى؟!
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال: [ لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا، وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا، ذكرهم بخير عظيم فقال لهم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كنتم خير الناس للناس ) ] وهذا حديث صحيح، فكيف حالنا اليوم؟ هل نحن خير الناس للناس؟ ما قدمنا للناس شيئاً، بل غرقناهم في الباطل والمنكر، هبطنا فائتسوا بنا وسلكوا سبيلنا، فهذا عمر رضي الله عنه عام حجه وهو خليفة للمسلمين رأى في الناس دعة وقعوداً، فقرأ هذه الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، ثم قال: من سره وأفرحه وأثلج صدره أن يكون في هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها، أي: من سره أيها المؤمنون! أن يكون في هذه الأمة الممدوحة المعلن عن كمالها فليؤد شرط الله فيها، وشرط الله فيها: الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك لما كنا نجاهد ونغزو ونفتح ونعلن عن كلمة لا إله إلا الله والبشرية تدخل فيها، وتجلى للبشرية صدقنا وعدلنا ورحمتنا وإحساننا وكمالاتنا، انجذبوا إلى الإسلام ودخلوا فيه.لكن لما وقفنا وهبطنا الآن أصبحوا لا يقبلون الإسلام؛ إذ لم يشاهدوا أنواره ولا آثاره بين المسلمين، فهل نبقى هكذا أو نحاول أن نعود إلى ما كنا؟ الواجب أن نحاول، والطريق الذي ما زلنا لا نعدله هو أن نخلص قلوبنا ووجوهنا لله، ونطرح بين يدي الله نبكي في بيوته بنسائنا ورجالنا، ونتلقى الكتاب والحكمة، وما هي والله إلا فترة قصيرة ونحن أولئك الذين أسوة للبشرية في الكمال البشري، ومن غير هذا الطريق فلا عصا تنفع ولا سحر يؤتَّى.قال: [ كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كنتم خير الناس للناس )، ووصفهم بما كانوا به خير أمة فقال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمران:110]، وهو الإسلام وشرائع الهدى التي جاء بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، وهو الكفر والشرك وكبائر الإثم والفواحش، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وبما يتضمنه الإيمان بالله من الإيمان بكل ما أمر تعالى بالإيمان به، من الملائكة والكتب والرسل والبعث الآخر والقدر.ثم دعا تعالى أهل الكتاب إلى الإيمان الصحيح المنجي من عذاب الله فقال عز وجل: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ [آل عمران:110]، بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من الإسلام، لكان خيراً لهم من دعوى الإيمان الكاذبة التي يدعونها ] أي: ولو آمن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لكان خيراً لهم من هذه الدعاوى الفارغة، وأنهم يدعون إلى اليهودية والصليبية، إذ كل ذلك من الدعاوى الباطلة، فهذا الله عز وجل الحكيم العليم يقول لهم: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ [آل عمران:110]، بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به عن الله من هذه الشرائع والعبادات والقوانين، لكان خيراً لهم مما هم عليه من دعوى أنهم يؤمنون، وأنهم موقنون، وهو كله كذب وباطل. قال: [ وأخبر تعالى عنهم بأن منهم المؤمنين الصادقين في إيمانهم ]، أي: من اليهود، وقد دخل من النصارى ملايين والآيات تنزل بالمدينة.قال: [ وذلك كـعبد الله بن سلام وأخيه، وثعلبة بن سعيد وأخيه ]، وهؤلاء من يهود وعلماء المدينة الذين آمنوا [ وأكثرهم الفاسقون الذين لم يعملوا بما جاء في كتابهم من العقائد والشرائع، ومن ذلك أمر الله تعالى بالإيمان بالنبي الأمي، واتباعه على ما يجيء به من الإسلام ] وهذا عندهم في كتابهم، فلمَ لم يؤمنوا به؟ قد عرفوه وأنكروه وجحدوه وتنكروا له، وذلك للحفاظ على اليهودية الملعونة المزعومة، وحتى لا يذوبوا في روح الإسلام. قال: [ ثم أخبر تعالى أن فساق أهل الكتاب لن يضروهم إلا أذى يسيراً، كإسماعهم الباطل، وقولهم الكذب، وأنهم لو قاتلوهم ينهزمون أمامهم، مولينهم ظهورهم، فارين من القتال هاربين، ثم لا ينصرون على المسلمين في أي قتال يقع بين الجانبين ] وهذا ما أخبر به الله تعالى في الآية الثانية إذ قال: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111]، أي: مجرد أذىً فقط باللسان، كالمهاترات والكذب، وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ [آل عمران:111]، في يوم ما، يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ [آل عمران:111]، أي: يعطوكم ظهورهم وأدبارهم ولن يقفوا أمامكم، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [آل عمران:111]، وهذه بشرى للمسلمين وقد حصل ذلك، وهو الواقع. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112]، وهذا في اليهود، والضرب كطبع وختم، والذي ضربها عليهم وألصقها بهم هو الله خالقهم، ذلك لأنهم كفروا به وبما بعث به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولقتلهم الأنبياء والعلماء، ولارتكابهم جرائم لا حد لها، فقد أهانهم الله وأذلهم فضرب عليهم الذلة. أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112]، أي: حيثما وجدوا في العالم، وصدق الله العظيم، إذ حيثما وجد اليهودي في العالم فهو أذل من الذليل إلى أن ارتبطوا بأوروبا وأمريكا كما يأتي في الآية الكريمة، إذ قال تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، فإذا ارتبطوا بالله ودخلوا في دينه، رفع ذلك الذل وأصبح اليهود من أعز الناس وأكرمهم، أو ارتبطوا بمعاهدة مع دولة عظيمة كما ارتبطوا أولاً ببريطانيا التي رفعتهم وسادوا أوروبا، ثم أمريكا، فهم أعزة ونحن الأذلة. إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وهذه الآية مخصصة لعموم آية الأعراف وهي قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ [الأعراف:167]، يا رسول الله، لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، فهذه الآية في سورة مكية، وهذه السورة -آل عمران- مدنية.فاسمع إلى قول الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ، أي: أعلن، لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ [الأعراف:167]، أي: اليهود، لَيَبْعَثَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، وهذا عام خصص بهذه الآية التي نزلت بعدها من سورة آل عمران، إذ قال تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وذلك حتى لا تفهم أن قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [الأعراف:167]، أنهم إذا أسلموا يبقى العذاب عليهم، لا أبداً، بل إذا ارتبطوا بدولة أو معاهدة قوية فإنه يرفع العذاب عنهم، لكن إذا لم هناك إسلام ولا معاهدة فيبقون أذلة، بل أذل من الحيوانات، وقد عرف هذا البشر كلهم، إذ ليس هناك أذل من اليهودي؛ لأنهم أصحاب مكر وخداع وغش وكذب، مع أنهم أقلية لا يساوون أي شعب من الشعوب، لكن فتح الله تعالى لهم الباب إذا أرادوا أن يخلصوا فقال: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]. إذاً: ضرب الله تعالى على اليهود الذلة والمسكنة أينما ثقفوا وفي أي البلاد وجدوا، ولن تفارقهم الذلة والمسكنة في حال من الأحوال إلا في حال دخولهم الإسلام وهو حبل الله، أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك حبل الناس، وهذا علمه الله قبل أن يكون، وما كان النصارى يفرحون باليهود، إذ الثابت عنهم تاريخياً أن النصراني المسيحي لا يفتح عينيه في اليهودي، بل ينزه بصره أن ينظر إلى يهودي؛ بحجة أنه قاتل إلهه، فالذي يقتل ربك كيف تنظر إليه؟! لكن تم ما أخبر الله تعالى به واستطاعوا أن يحتالوا على البشرية، فكان أول ضربة ضربوها بأن أوجدوا المذهب البلشفي الشيوعي الأحمر، ووالله لهم صانعوه وناسجوا خيوطه، وهم الذين نشروه في العالم، وبذلك خف الضغط عليهم، واتسعت رقعة الأرض لهم، بل ورفعوا رؤوسهم، والآن ثلاثة أرباع المسيحيين بلاشفة، ومن ثم أصبح اليهودي يتعنتر في ألمانيا التي هي مخ الصليبية، وظهرت البلشفية الشيوعية، وساقت العالم، ووقع الذي وقع، وخف الضغط على اليهود، والآن لما أدت الشيوعية وظيفتها عوضوها بالعلمانية، فقالوا: كل شيء للعلم فقط لا للدين، وهكذا يعبثون بالبشرية، وهذا شأن الأمة إذا مدت أعناقها لعدوها. قال: [ كما أخبر تعالى في الآية (112) أنه تعالى ضرب عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا، وفي أي البلاد وجدوا، لن تفارقهم الذلة والمسكنة ] والمسكنة هي الفقر والحاجة والضعف.قال: [ إلا في حال دخولهم في الإسلام أولاً وهو حبل الله، أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك حبل الناس.كما أخبر تعالى عنهم أنهم رجعوا من عنادهم وكفرهم بغضب من الله ] أي: ذاك العناد والكفر الذي عاشوا عليه رجعوا خائبين، رجعوا بغضب من الله [ وما يستتبعه من عذاب في الدنيا بحالة الفاقة والفقر المعبر عنها بالمسكنة، وفي الآخرة بعذاب جهنم، كما ذكر تعالى علة عقوبتهم: وأنها الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير حق، وعصيانهم المستمر، واعتداؤهم الذي لا ينقطع، فقال تعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ] أي: كتبنا عليهم تلك الذلة والمسكنة بسبب عصيانهم أولاً لله ورسله، وثانياً: باعتدائهم بقتلهم الأنبياء والعلماء، وارتكابهم الجرائم التي لا حد لها.يقول تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، أي: نحن إن شاء الله تعالى، فكل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويؤمن بالله وبما جاء عن الله فهو منهم، وكل من تخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتورط في الموبقات والجرائم هبط وانسل منهم؛ لأن التعليل واضح: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:110]، وهم أقلية كما علمتم، وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:110]، أي: المتوغلون في الفسق، والفسق: الخروج عن طاعة الله ورسوله، يقال: فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وبالتالي كل من خرج عن دين الله فهو فاسق.ثم قال تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111]، أي: مجرد كلام يقولونه، أما أن يقاتلوا وينتصروا على المسلمين فلا، وقد وقع ذلك، فهل انتصر اليهود على العرب في حرب فلسطين؟ لو كان العرب هم المسلمون بحق، والفلسطينيون يشهدون بأن اليهودية إلى الآن أذل مخلوق، إذ ما يستطيع اليهودي أن يواجه مسلماً واحداً. وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ [آل عمران:111]، ما قال: وإذا قاتلوكم، وإنما قال: إن يقاتلوكم؛ لأن هذا نادر، أي: أن يقاتل اليهود المسلمين، لكن عندما هبطنا هذه الأيام في فلسطين فقط، فليس من المؤمل فيه أن اليهود يقاتلون المسلمين، قال: وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ [آل عمران:111]، من باب الفرض، فلن يضروكم أبداً، بل يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [آل عمران:111]. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112]، أي: أينما وجدوا، سواء في الجبال أو في السهول أو في أوروبا أو في أي مكان من العالم، اللهم إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وحبل الله هو الإسلام، فإذا اعتصموا بحبل الله، أي: دخلوا في الإسلام إيماناً وإسلاماً وإحساناً أعزوا وكملوا، وما أصبحوا يهوداً ولا أهل ذلة ولا مسكنة، وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، وهذه ما ننساها، إذ إنهم استطاعوا أن يسحروا أوروبا وأن يستولوا على أموالها بعد أن مسخوها، ولو بقيت الصليبية النصرانية كما هي ذات آداب وأخلاق وعطف ورحمة، وتبغض اليهود بغضاً لا حد له ولا نظير له، ما كانوا ليستولوا على أموالهم وتجارتهم ومصانعهم، لكن سحروهم أولاً ثم حولوهم إلى بلاشفة حمر، إذ ثلاثة أرباع المسيحيين في أوروبا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، أي: أنهم ملاحدة. وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:112]، أي: عادوا مهزومين أذلاء مغضوباً عليهم من الله، وضربت عليهم المسكنة، أي: الفقر والحاجة. ذلك [آل عمران:112]، أي: حصل هذا، وتم هذا، وفعلنا هذا؛ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112]، فقد قتلوا زكريا، وقتلوا ولده يحيى، وحولوا قتل عيسى، إذ إنهم صلبوا من شبه لهم بعيسى، وكأنهم قتلوا عيسى عليه السلام، وسحروا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، بل وأطعموه السم في خيبر، ومات وأثر السم في لسانه، وكادوا له في بني النضير وأرادوا أن يرموا عليه الصخرة أو الرحى.كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقتلون سبعين نبياً في اليوم الواحد، وفي المساء تكون أسواقهم عامرة بالبيع والتجارة والشراء، وكأن الأمر عادي، ومع هذا فباب التوبة مفتوح، فلو يسلم اليهودي يصبح مثلنا أو خيراً منا، إذ العبرة بطهارة النفوس وزكاتها وليس بالأصل، إذ لو نعود إلى الأصل فأصلهم أشرف الأصول، إذ إنهم أبناء الأنبياء، وأحفاد إبراهيم وأولاده. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112]، أي: في الزمان الأول قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا [آل عمران:112]، أي: لما تمردوا على شرائع الله وخرجوا عن طاعته، وتوغلوا في الاعتداء، فذبحوا الأنبياء، وقتلوا العلماء.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: إثبات خيرية أمة الإسلام ]، إذ إن هذه الآيات قد أثبتت -وهي كلام الله- خيرية هذه الأمة، فلن يستطيع على وجه الأرض إنس ولا جن أن ينفي خيرية هذه الأمة وقد أثبتها الله عز وجل، ورسوله يقول: ( كنتم خير الناس للناس )، وما زلنا والله، إذ لو نعود إلى الله تعالى لنفع الله بنا البشرية وأنقذها من الخلود في النار، ومن الهبوط والسقوط والحيوانية التي تعيش عليها، ولكن ذنبهم هو الذي جر لهم هذا، فهم الذين احتالوا على هذه الأمة ومكروا بها وخدعوها وأضاعوها، ففقدوا من يهديهم ومن يصلحهم. قال: [ وفي الحديث النبوي الشريف: ( أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ) ] أنتم، أي: أيها المسلمون، تتمون سبعين أمة، أي: تكملون من الأمم البشرية سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله والله العظيم، ويكفي شهادة الله بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وبالتالي لو أراد أو حاول أحدهم أن يهبط بهذه الأمة، أو ينفي عنها كمالها ما يستطيع، إذ الله يخبر في القرآن الكريم بخيرية هذه الأمة فيقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران:110]، والرسول يقرر في السنة النبوية فيقول: ( أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله ) ، فالحمد لله، وأنبهكم إلى أمر وهو ألا تنظروا إلى خيرية أمتكم، بل ليعمل كل واحد منا على أن يحقق ما به الخير، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويؤمن بالله، ولن يمسح منه هذا اللقب أبداً. [ ثانياً: بيان علة خيرية أمة الإسلام، وهي الإيمان بالله، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ] أي: أن علة خيرية أمة الإسلام: الإيمان بالله وبكل ما أمر الله أن نؤمن به، والجهاد في سبيل الله لنشر راية التوحيد، لكن لما تركنا الجهاد ما أصبحنا خير أمة؛ لأن الجهاد بذل الجهد والطاقة لهداية البشرية، فنصل إلى بلادها وندعوها إلى الإسلام، كرهت أم أبت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مكان من الأرض، فهذه مهمة هذه الأمة لإنقاذ البشرية جمعاء. [ ثالثاً: قال: وعد الله تعالى لأمة الإسلام ما تمسكت به ]، أي: بالإسلام، فما ضيعت وما فرطت في قاعدة من قواعده ولا في ركن من أركانه، [ وعد الله لأمة الإسلام ما تمسكت به ]، وإلى يوم القيامة، [ بالنصر على اليهود في أي قتال يقع بينهم ].ولهذا صحنا وبكينا أربعين سنة وقلنا: لو أن إخواننا الفلسطينيين -والله شاهد- اجتمعوا وبايعوا إماماً منهم، وتجمعوا في طرف من الأرض وأقاموا الصلاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر سبع سنين فقط، وإذا هم أولياء الله تعالى، وقالوا: الله أكبر، والله لهزموا اليهود، بل والله ما إن يتحرك هذا الجيش الرباني حتى يأخذ اليهود في الرحيل، ثم على شرط أيضاً وهو لا أنهم يخرجون اليهود فقط، بل يواصلون المسيرة إلى أقصى الشرق وإلى أقصى الغرب، فما المانع من هذا كله؟ كأن يتجمعون عندنا في طرف المملكة، أو في طرف لبنان، أو في طرف سيناء مصر، فيتربون نساءً ورجالاً وأطفالاً، فيقومون الليل ويصومون النهار، ويصبح الرجل إذا نظر إلى وجه أخيه يرى النور يلوح من وجهه، ثم يعلنونها: الله أكبر، والله ثلاثة أيام واليهود تشتتوا، ثم يلتفتون إلى جيرانهم فيقولون لهم: يا أهل لبنان تدخلون في رحمة الله؟ قالوا: لا إله إلا الله، يا أهل الأردن تدخلون في رحمة الله؟ يا أهل كذا وكذا.ماذا يكلفنا هذا؟ فقط أن نعبد الله بحق، وأن نسلم إسلاماً حقيقاً فقط، أما الآلام والأتعاب فهاهي معنا، سواء مع الغنى أو الفقر، وما زال الباب مفتوح، فوالله لن يخرج اليهود من أرض فلسطين إلا المسلمون بحق، ولهذا ويلكم أن تقاتلوا اليهود فإنهم يهزمونكم، ولا ننسى قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لتقاتلن اليهود )، يا رسول الله! أين اليهود الذين نقاتلهم؟ إنهم حفنة وثلة وطائفة قليلة، والإسلام قد انتشر في الشرق والغرب؟! ( والله لتقاتلن اليهود )، الله أكبر، تعجب الأصحاب كيف نقاتل اليهود وقد أ جلاهم عمر وطردهم ولم يبق يهودياً منهم، وهم أذلة في بلاد الروم وفي غيرها؟ لكن سيكون لهم شأن، وستكون لهم دولة، وستكون لهم قوة، إذاً ولا بد من قتالهم.( ثم لتسلطن عليهم )، وهذه قد استفدنا منها كلمة سياسية رددناها أربعين سنة في هذا المسجد، فقلت: لو أن العرب أسلموا قلوبهم لله تعالى ودخلوا في رحمته، وخلعوا المعاهدة التي تربط اليهود في أوروبا، وشاء الله أن أمريكا التي تنصرهم تعثر على مؤامرة يهودية تسعى بأن تضر أمريكا، فإنهم يذبحونهم ويقتلونهم، ونظير هذا لما أراد ألله أن يذلهم اكتشف هتلر النازي مؤامرة يهودية لضرب ألمانيا، فوالله قتلهم وتتبعهم وأذلهم في العالم بأسره، فقتل منهم ثلاثين ألفاً، وما بقي يهودي في ألمانيا، فلو أن المسلمين أو العرب أسلموا قلوبهم لله تعالى، فأقل شيء أن تكتشف أوروبا أو أمريكا مؤامرة يهودية لضرب العالم وإفساد البشرية، وعند ذلك سيضربونهم أو يسلطوننا عليهم فنقتلهم، وهذا هو نص الحديث: ( ثم لتسلطن عليهم )، فالله هو الفاعل.( ثم لتسلطن عليهم فتقتلوهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه شجر اليهود )، واليهود الآن يحتفون بهذا الشجر وينمونه أكثر من العنب والتفاح! وذلك لأنه ما يخبر عنهم، فإذا جاء المسلم يبحث عن اليهودي فإن هذا الشجر يغطيه ولا يخبر عنه.والشاهد عندنا هل الشجر يكذب؟ هل الحجر يكذب؟ كيف يقول: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، وهو ليس بمسلم؛ لأنه ما أعطى لله لا قلبه ولا وجهه، فأين الإسلام؟!وسيأتي هذا اليوم لا محالة، لكن هل نحن موجودون؟ الله أعلم، لكن ما زلنا نقول: والله لو نعود إلى الله بالطريقة السليمة الربانية، وذلك بأن يعلنون في بلاد العالم الإسلامي: هيا نعد إلى الله عز وجل، فيجتمعون بنسائهم وأطفالهم ورجالهم في بيوت ربهم كل ليلة من المغرب إلى العشاء، فيتعلمون الكتاب والحكمة، ويبكون ويذرفون الدموع أسفاً وحزناً وألماً، وما هي إلا ساعات وإذا بالباطل يزول والخبث ينتهي والشر ينمحي، وأمة الإسلام كلها ربانية، إذا سألت الله شيئاً أعطاها، ولا نحتاج إلى أن نكون جيلاً يطير في السماء ويغوص في الماء، وإنما نسلك هذا الطريق الذي يعتبر من أيسر الطرق وأسهلها، ولكن مضروب على قلوبنا، مسحورون، واليهود هم الذين سحرونا. [ رابعاً: صدق القرآن في إخباره عن اليهود بلزوم الذلة والمسكنة لهم أينما كانوا ] في الشرق أو الغرب، إلا بأحد الحبلين كما ذكر الله تعالى، وقد عرفناهم في شمال أفريقيا، وذلك لما انتصرت ألمانيا أصبح اليهودي أذل من الشاة في الجزائر أو في تونس، فلا يتكلم ولا ينطق، لكن عزوا وانتصروا وارتفعوا عندما حولوا الصليبيين إلى بلاشفة حمر، ولا ننسى هذه الحقيقة. [ خامساً: بيان جرائم اليهود التي كانت سبباً في ذلتهم ومسكنتهم ].فهل أصابهم الله بالذل والمسكنة لعرقهم أو لشيء آخر؟ لا، ولذلك نحن نعرف أن المسلمين أطهر الخلق وأعزهم، لكن لما خبثت نفوسهم ولطخوها بالشرك والمعاصي والجرائم أذلهم الله، فسلط عليهم الكفار فحكموهم وسادوهم.قال: [ وهي الكفر المستمر ] بدون انقطاع [ وقتل الأنبياء بغير حق ] وهل الأنبياء يقتلون بحق؟ قتل إنسان يعتبر فضيعة كبيرة، لكن إذا كان بحق فلا بأس. قال: [ والعصيان ] أي: التمرد على طاعة الله ورسوله [ والاعتداء على حدود الشرع ] وهذه ظاهرة غريبة وهي واضحة. أسألكم بالله! من الذي كون بنوك الربا؟! أجدادنا؟! النصارى؟! والله إنهم اليهود، وذلك حتى نهبط فلا يرفع لنا دعاء، ولا تستجاب لكم كلمة، فهم الذين كونوا هذه البنوك الربوية ونشروها في العالم، بل وإلى الآن يعملون ليل نهار لإفساد البشرية. ستقولون: كيف هذا يا شيخ؟ بينته غير ما مرة فقلت: المفروض فينا نحن المسلمون: أن أهل كل قرية يجمعون ما زاد عن قوتهم وتوفر في صندوق واحد من حديد أو خشب، وينمونه في طرق التنمية كالتجارة أو الزراعة أو الصناعة، وبذلك تجتمع قلوب أهل القرية فيتحابون ويتآلفون؛ لأن مالهم أصبح في يد واحدة، ثم من ذلك الصندوق يسلفون أو يقرضون من أراد أن يستلف، والمؤمن إذا استقرض أو استلف سوف يرد ذلك أو يقدم دمه وقلبه؛ لأنه المؤمن الحق، وهذه الرابطة قضى عليها اليهود بإيجاد البنوك، فلم يبق من يسلف ولا من يقرض ولا من يساعد ولا من يتعاون أبداً، وقد حاول أناس أن يوجدوا شركات مساهمة فما أفلحوا، فهل عرفتم ما فعل اليهود؟ إن هذه ظاهرة واحدة فقط مما ذكرنا، أما العهر والزنا وأندية اللواط -وكل هذا من صنائعهم- فحدث ولا حرج، وكل ذلك من أجل أن يهبطوا بالبشرية ويعلو فوقها، ويوجدوا مملكة بني إسرائيل التي تحكم الشرق والغرب، وليس لأجل الأكل والشرب، وإنما من أجل أن تعود لهم مملكتهم، إذ البشرية كلها عدو لليهود.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (47)
الحلقة (188)
تفسير سورة آل عمران (52)
إن من كفر بالله وجحد حقه لن تغني عنه أمواله وإن كانت مثل حبات الرمال، ولن يغني عنه أولاده وإن استقوى بهم؛ لأن سبب كفره هو حرصه على هذه الأموال والأولاد، ومهما أنفق الكافر من أموال لإطفاء نور الله وللصد عن دينه فسينفقها ثم ستكون عليه حسرة، وحتى لو أنفق ماله في وجوه الخير في الدنيا فلن ينتفع بها لأن الكافر لا ينتفع بالعمل الصالح.
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، فإنك مولانا ولا مولى لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس ونحن في سورة آل عمران إلى هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:116-117].
معنى الكفر في الآية
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه أخبار إلهية، والمخبر بها هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، فالخبر الأول: يقول تعالى مؤكداً هذا الخبر: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:116]، وسواء كانوا من العرب أو العجم، من أهل الكتاب أو من المشركين، من المجوس أو غيرهم، فما معنى: كفروا؟ كفروا بماذا؟ نريد أن نعرف شيئاً عن هذا الكفر؛ لأن الوعيد شديد، والجزاء عظيم، والمفزوع إليه الله أن ينجنا من هذه الفتنة.أولاً: الكفر معناه: الجحود، يقال: كفَر نعمة الله، أي: جحدها، وفلان كفر ما كان بيننا وبينه من الخير والبر والإحسان، أي: جحده، فالكافر جاحد، وهذا الجحود يتناول أولاً -كما هو مذهب البلاشفة الشيوعيين والملاحدة الدهريين-: جحود وجود الخالق عز وجل، وهذا كفر باطل هابط ممزوج مردود، ولا يقول به إلا هؤلاء الذين صنعهم اليهود بأفرادهم، وإلا فالفطرة البشرية تصرخ بوجود خالقها ورازقها ومدبر أمرها، بل مضت قرون على البشرية -آلاف- ما أنكر فيها أحد -عربي أو أعجمي- وجود الله، وما كان إنسان من عهد آدم إلى هذا القرن يوجد من ينكر وجود الله، إذ الفطرة تعد هذا وتقرره، لكن لعبة اليهود التي صنعوها واستطاعوا أن ينجحوا فيها فقد أوجدوا المذهب الشيوعي الدهري البلشفي، فقالوا: لا إله والحياة مادة!وأُطايبكم بتلك اللطيفة: حدثنا أحد إخواننا كان مهاجراً من فرنسا إلى المدينة، يقول: كانت له صديقة فرنسية أيام كان عيشه في فرنسا، هذه الصديقة أُصيبت بالإلحاد؛ لأن المدارس علمانية، ولذلك من أراد أن يدرس الدين فليدرس في المدارس الخاصة، أما مدارس الحكومة فمدارس علمانية، فقد كانوا يعلمونهم الإلحاد، ونظرية داروين انتقلت حتى إلى بلاد العرب ودرسوها في الثانوية والكليات، ولا عجب؛ لأننا تابعون إلا من رحم الله، فهذه الصديقة التي تبلشفت -وهي مسيحية- كلما ذكرها بالخالق، بالرب تعالى تسخر منه، وتقول: أنت متخلف، أنت رجعي، إلى متى وأنت هابط؟ قال محدثنا غفر الله له: وشاء الله أن تتزوج وتحبل، ثم بلغه أنها مريضة في المستشفى، وأن الطلق يهزها لتضع، قال: فدخلت عليها وسمعتها تصرخ: يا رب، يا رب، يا رب، قال: فتعجبت، فأخرجت ألف فرنك أو ألفين وقلت لها: نادي كما كنت تنادي بهذه، لم عجزت الآن؟! وقبل ذلك كان إذا ذكرها بالله تخرج الكيس وتقول: هذا هو الله الذي ينفعنا! لكن لما هزَّها الطلق وشاهدت الموت: الله، الله، يا رباه، يا رباه، قال: فلما أريتها الجنيه وقلت لها: ادع هذا، سخطت علي وغضبت وقالت: اذهب عني.فهذه كانت بلشفية ملحدة، لكن لما دقت ساعة الهلاك وعرفت أيقنت أنه لا ينفع إلا الله، فهي تنادي: يا رباه، يا رباه، وقوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وقوم إبراهيم، أقوام نتلو قصصها في كتاب الله، فما مر بنا أن قوماً أنكروا وجود الله قط، بل وثقوا فيما تسمعون، فلم يوجد من ينكر وجود الله إلا هذه الطائفة التي كونها اليهود المعروفة بالبلاشفة والشيوعيين فقط، والبشر كانوا يؤمنون بالخالق الرازق، ويؤمنون بالتوسل إليه بالآلهة التي صنعوها وزينها لهم الشيطان، لكن لا ينكرون وجود الله، كذلك العرب كانوا في القمة في الشرك والعياذ بالله، وأنتم تسمعون عنهم في التاريخ أنهم كانوا يحلفون بالله ويؤمنون بالله! ومع هذا كما تسمعون في القرآن أنهم كانوا يسخرون من النبي والقرآن، ويكذبون بالبعث والجزاء.والمراد من هذا: أن كلمة: (كفروا) لا تفهم منها أنهم اليهود فقط، أو النصارى أو العرب، بل يجب أن نعرف ما الكفر حتى نتجنبه، حتى نذهب من ساحته ونبعد من رائحته الكريهة.فخلاصة القول: كل من جحد وجود الله، أو جحد أسماء الله، أو جحد صفات الله، أو جحد عبادة الله، أو جحد نبياً من أنبياء الله فضلاً عنهم جميعاً، أو كذب بخبر من أخبار الله، سواء أطاقه عقله واستطاع أن يفهمه أو لم يفهمه، أو كذب رسول الله في حادثة معينة من أمور الشريعة أو الدار الآخرة فهو كافر، والمؤمن هو الذي صدَّق بوجود الله، وبكل ما أخبر الله به، وآمن بكل ما أمر الله أن نؤمن به، ولو أن عبداً آمن بالقرآن الكريم وكذب فقط بآية واحدة وقال: مثل هذه لا أؤمن بها، فهل يبقى مؤمناً؟ والله لا يبقي مؤمناً، وإنما كفر بالله تعالى، كذلك آمن بكل الرسل إلا أنه قال: إن فلاناً -عيسى- لا أصدق أنه رسول الله، فقد كفر وخرج من ملة الإسلام، إذ إن الكفر: التكذيب والجحود والإنكار لله وبكل ما أمر به من الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، والقضاء والقدر، والبعث والجزاء، وأحوال الآخرة وما يقع فيها من شقاء أو سعادة، فذلكم الكافر، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:116] بهذا المعنى.
لطيفة في قوله تعالى: (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً)
يقول تعالى عنهم: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:116].وهنا لطيفة: لمَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:116]؟ لأن كفرهم سببه المال والولد، والحفاظ على أموالهم وأولادهم حملهم على أن يكذبوا رسول الله، والاعتماد عليهما -المال والولد- على أن صاحبهما لا يشقى ولا يكرب ولا يحزن ولا يخسر في الدنيا، هذه النظرية باطلة، وذكر تعالى المال والولد لعلمه بخلقه، وأن الكافرين يعتزون بأموالهم وأولادهم، كالاعتزاز أيضاً بالجيوش، والاعتزاز بالوطن، والاعتزاز بالحيل، وبالتالي كل من كفر لا بد وأن لكفره عاملاً وسبباً من الأسباب، وأكثر ما يحمل على الكفر هو الحفاظ على المال والولد، إذ الاستغناء يجعل هذا الغني لا يبالي بما يُطلب إليه من الدين، أو ما يُدعى إليه من الإيمان والعمل الصالح، وصدق الله إذ قال: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28]، وتأمل واقعنا تجد المؤمنين كغيرهم، إذ إن أكثر الذين يعرضون عن ذكر الله سبب ذلك اعتزازهم واستغناؤهم بأموالهم وأهليهم، فأبطل تعالى هذا بقوله: لَنْ [آل عمران:116] التي تفيد التأبيد، لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:116]، فإذا أراد أن يضربهم في الدنيا بوباء من الأوبئة، بأن يسلط عليهم عدواً من أعدائهم، بأن يسلبهم عقولهم، بأن يفني ما لديهم وما عندهم من الأولاد والمال، فهل هناك من يرد عنهم شيئاً؟! تُغني عنهم أموالهم وأولادهم؟! لا؛ لأن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فمن الخير للإنسان أن يفزع إلى الله ويلجأ إليه ويحتمي بحماه، أما أن تغتر نفسه بما لديه من سلطة أو جاه أو مال، ويعرض عن الله معتزاً بما عنده، والله لن يغني عنه من الله شيئاً متى أراده الله؛ لأن كثيراً من كفار العرب -الذين كفروا وحاربوا- كانوا معتزين بأموالهم وأولادهم، فهذا الوليد بن المغيرة كان معتزاً بأولاده وماله، واقرءوا ذلك في سورة المدثر، اليهود كذلك حافظوا على كفرهم وأبوا الإسلام معتزين أيضاً بأموالهم ورجالهم. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10]، متى أراد أن يُنْزِل بهم نقمه، وأن ينزل بهم عذابه.
وصف النار التي أعدها الله للكافرين
ثم جاء الخبر الثاني وهو قوله: وَأُوْلَئِكَ [آل عمران:10] البعداء، المنحطون الهابطون، الذين ما أصبحوا يتسمون بسمات البشر والعقول البشرية، أولئك البعداء أصحاب النار الذين لا يفارقونها ولا تفارقهم، كما هو صاحب اللسان لا يفارقه أبداً، فكذلك النار لا تفارقهم أبداً.فأولاً: ما هي هذه النار؟ لولا أن الله عز وجل أوجد لنا جزءاً منها من سبعين جزءاً، لكان البشر يكذبون بشيء ما عرفوه، فقطع الله عز وجل عليهم الحجة وأرانا النار، وبها نصطلي ونستدفئ ونطبخ، فهي موجودة، فمن ينكر هذه النار؟! جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80]، هذه النار وهذا اللهب وهذه الحرارة أصلها من تلك النار التي هي في عالم أسفل، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن نارنا هذه جزء من سبعين أو ستين جزءاً من نار الدار الآخرة.ثم هذا الكوكب النهاري -كوكب الشمس- بإجماع البشر على أنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، هذا الكوكب كله نار، فمن أوجد نار هذا الكوكب؟ آباؤنا؟! أجدادنا؟! أيضاً هذا الكوكب الناري -كما نقول غير ما مرة- ما دام أنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فقد قال علماء الإسلام قبل أن يعرف هذا علماء الكفر: لو وضعنا البشرية كلها في الشمس فقط ما سدت جزءاً أو زاوية من زواياها! مع أنه كوكب يجري ويسبح بهذه الضخامة والعظمة طول الحياة، فمن أوجده؟ تلقائياً؟! أتوماتيكياً؟! خرافة الهابطين وسفه السافهين، إنه الله خالق كل شيء.فهذه النار وصفها الله تعالى بأوصاف لو يؤمن بها العبد وتُتلى عليه أو يتلوها يخر مغشياً عليه، وحسبنا منها ما بلغنا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم من أن بعض الناس الأشقياء يوضع في تابوت -صندوق- من حديد ويغلق عليه، ويقذف في ذلك العالم فيعيش بلايين السنين، لا يأكل ولا يشرب ولا يسمع ولا يبصر ولا ينطق، ويمزقه الخوف والجوع والعذاب ملايين السنين، فكيف نأكل أو نشرب؟! كيف نضحك؟!وهذه النار قد عُرضت في ذلك المحراب، شاشة بيضاء قبل أن تعرف البشرية عرض دور السينما وشاشات التلفاز، والله لقد عرضت في محراب رسول الله، في جداره الذي يصلي إليه، وقد شاهدها وشاهد النساء فيها، وآلمه لهبها في وجهه حتى رجع القهقرى، حتى أشاح بوجهه، وليس ذلك العرض الهابط الكاذب، وإنما عرض حقيقي.ثم ليلة الإسراء والمعراج عند عودته مر بها وشاهد ما يتم وما يجري فيها، هذا العالم العظيم، هذه النار حروفها قليلة: (ن، ر، ا) لكن ماذا نعرف عنها؟ لو نستعرض آيات القرآن.أما طعامها وشرابها فالحميم والزقوم، والحميم هو: الماء الحار الذي يشوي الوجوه، والله ما يرفع الإناء ليشرب ويدنيه من وجهه من شدة الظمأ والعطش حتى تتهرى بشرته وتنزل، أما الضريع: فهو الشوك، وقد عرفه العرب في صحرائهم، وهو طعام أهل النار، وكذلك الزقوم، وحسب الأشقياء أن يعيشوا في عالم يفقدون آباءهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم، فلا يعرفهم أحد ولا يعرفونه بلايين السنين، فأي نار هذه؟! ماذا نقول؟!ضرس أحدهم كجبل أحد، إذ يخلق الله تعالى لهم أجساماً ما هي كأجسامنا هذه، وإنما يخلقهم خلقاً جديداً، عرض ما بين كتفي الكافر في النار والله كما بين مكة وقُديد، مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً، فإذا كان عرضه هكذا فضرسه والله كجبل أحد، إذ كيف يعيشون ملايين السنين لو لم تكن أجسامهم هكذا؟! كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56].لطيفة: لما قدَّم أبو جهل -عليه لعائن الله- لأولاده العجوة من المدينة وصِحاف الزبدة قال: تعالوا نتزقَّم، هذا هو الزقوم الذي يهددنا ويخوفنا به محمد، فكلوا العجوة والزبدة، فأنزل الله تعالى فيه قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة، جاء في سورة الدخان قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-48]، وقولوا له: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، ذق هذا العذاب الروحي الذي هو أشد مليون مرة من العذاب البدني، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:49-50] أي: تشكون. وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ [آل عمران:116]أي: أهلها الذين لا يفارقونها، هُمْ [آل عمران:116]أي: لا غيرهم، فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:116] والخلود: البقاء الأبدي، فلا يموتون ولا يحيون، ولا تنتهي النار أبداً، ولم يشأ الله نهايتها وإفناءها والقضاء عليها، إذ خلقها لحكمة فلا تخرج عن حكمته، فهل عرفتم جزاء الكفار؟إذاً: فهيا نحمد الله على أنا مؤمنون: الحمد لله، الحمد لله، بينما أمثالنا بلايين هم كافرون في الشرق والغرب.
تفسير قوله تعالى: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر...)
قال تعالى: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117].
إنفاق الكافرين الأموال لإطفاء نور الله تعالى
الخبر الثاني: يقول تعالى: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:117]، والآية تعني: جماعات تهدم الإسلام وتحطمه وتنفق على ذلك الأموال، وعلى رأسهم هؤلاء اليهود والصليبيون، فهم ينفقون أموالهم لإحباط دعوة الله وإبطالها، ولحمل البشرية على الكفر وإبعادها عن الإيمان، ولإخراج الناس من نور الإيمان إلى ظلمة الكفر، ولا شك أنهم ينفقون أموالاً طائلة. مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ [آل عمران:117] من أموال في هذه الحياة الدنيا، وليس ينفقونها على أبدانهم فيطعمون ويشربون ويكتسون ويسكنون، وإنما أناس ينفقون الأموال لإطفاء نور الله، وقد نجحوا في ذلك، مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:117]، لهذه الأغراض السيئة.
معنى قوله تعالى: (كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم)
كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران:117] أي: مثل الريح، والريح معروفة وخاصة ريح الشتاء والبلاد الباردة، والصر: صوت بارد شديد، صوت يُسمع منها، وبردها قاتل.هذه الريح أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117]، والمراد من الحرث: ما يحرث للأرض من سائر الزروع، كالبر والذرة والشعير وما إلى ذلك، أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117] أي: زرع قوم.
معنى قول الله تعالى: (ظلموا أنفسهم)
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117]، ظلموا أنفسهم بماذا؟ كفروا، فسقوا، فجروا، جحدوا، اعتدوا، ظلموا، أفرغوا وصبوا على أنفسهم أطنان الذنوب والآثام. ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117]، وهل يوجد إنسان يظلم نفسه؟ إي نعم، ومسكينة تلك النفس التي بين جنبيه، فبها يسمع ويبصر وينطق ويقوم ويقعد، هذه الروح التي أُودعت في جسمه كأرواح الملائكة طهراً وصفاء، ونوراً وإشراقاً، فيؤاخذ بمجرد أن يصل إلى مستوى التكليف، وتصبح كلمته ينعكس ظلها على روحه وحركته، كلما أذنب ذنباً صب عليها طناً من القاذورات والأوساخ، فهو بذلك قد ظلمها.ثم هل أودعت نفسه في جسمه مظلمة، منتنة، عفنة، خبيثة؟ لا والله، وإنما نفخها الملك المكلف بنفخ الأرواح وهي نور تتلألأ، والذي حوَّلها من نور إلى ظلمة، ومن طهر إلى خبث، ومن خير إلى شر وفساد، يكون قد ظلمها.إذاً: فكل الفجار والفساق والكافرين والمجرمين والمشركين والظالمين ظلموا أنفسهم، وليس من حقهم أن يفعلوا ذلك، ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117] فهل عرفتم بمَ ظلموها؟ أخذوا السياط وضربوها كالبهيمة بين أيديهم؟! لا، وإنما ظلموها بأن صبوا فوقها أطنان الذنوب والآثام، فاسودت وأظلمت وخبثت وتعفنت.فهل يُرى ذلك في خارج الحياة؟ إي نعم، فأصحاب هذه النفوس الخبيثة هم الذين يزنون بنسائنا، هم الذين يحسدوننا على ما آتانا ربنا، هم الذين يتمنون زوال نعمة أنعم الله بها علينا، هم الذين يحتالون علينا ويأخذون أموالنا، أليس هذا مظهراً من مظاهر هبوط النفس واسودادها وخبثها؟ وهل صاحب الروح الطاهرة النقية يفجر؟! والله ما يفجر، وهل صاحب الروح النقية الطاهرة يكذبك؟ والله ما يكذبك، وهل يمد يده إليك ليأخذ مالك أو يخنقك؟ والله ما كان؛ لأن روحه مشرقة طاهرة، إذاً: فمن هو الذي يأتي هذه الجرائم؟ صاحب الروح الخبيثة، إذ إنه كلما ازداد خبثها ازداد شر هذا الخبيث وظلمه وفساده.
معنى قوله تعالى: (فأهلكته)
كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117]، أهلكت ماذا؟ ذاك الزرع الذي كاد أن يصبح سنابل يملأ العين بخضرته وجماله، أصابته تلك الريح فقضت عليه، فكذلك هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم يقضون على مستقبلهم، ويصبح مصيرهم الفناء والخراب والشقاء والدمار، ولما أصابهم بما أصابهم به من الخسران والخراب والدمار والهلاك في الدنيا والآخرة ظلمهم الله؟ والله ما ظلمهم؛ لأن الله حكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه، فلما أصابهم بالدمار والخراب سلط عليهم دولةً اجتاحتهم ودمرتهم، سلط عليهم وباء دمرهم وأفناهم، سلط عليهم فقراً وجوعاً فأهلكهم، وضعَ ذلك الحكيمُ العليم في موضعه؛ لأن الله حكيم عليم، إذا أصابك الله يا عبد الله بمصيبة فاعلم أنه الحكيم العليم، حكمته وعلمه اقتضيا أن يصيبك بهذا المرض أو الألم، فلهذا ما من مصيبة إلا بذنب، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].أنتم الآن هادئون سالمون راضون، فلو الآن يسب بعضكم بعضاً، ويشتم بعضكم بعضاً، ويلْكِمُ بعضكم بعضاً، فإذا بالدماء تسيل، وإذا بالجيش يطوقكم، وإذا بكم تبيتون في السجن، فهل ظلمكم الله أم ظلمتم أنفسكم؟كذلك لو تذهب الآن إلى بيتك وتقول لزوجتك: يا أم إبراهيم هات الشحم واللحم كله، فأكلت حتى امتلأ بطنك، وأصبحت لا تستطيع الحركة، ثم نقلوك إلى المستشفى، فهل ظلمك الله أم ظلمت نفسك؟أيضاً الآن أنا ظالم لنفسي بينكم والله العظيم، فقد شعرت بمغص هناك، ثم خف الآن والحمد لله، وذلك بأني شربت أربعة أكئوس من الشاي الأخضر، مع أن أكلي كأكل الطفل، وغدائي لا يغدي طفلكم، لكن مع فراغ البطن أربعة أكئوس من الشاي أصابني المغص، فهل ظلمني الله؟ لا، وإنما ظلمت نفسي، وقد هممت أن أقول للدكتور: ماذا أعمل لهذا المغص؟ ما هو الدواء؟ لكن الله لطف فسكتُ، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117].كذلك لما استولى علينا الشرق والغرب وحكمنا، هل ظلمنا الله؟ حاشا لله، وإنما ظلمنا أنفسنا؛ لأننا انقدنا وجرينا وراء الباطل، وجهلنا بربنا وعصيناه، وفسقنا عن أمره وعبدنا سواه، ومزقنا كلمتنا وشتتنا أمتنا وأصبحنا مذاهب وطوائف، فدقت ساعة الانتقام، فأذاق الله أمة الإسلام العذاب، وهذا الذي نصرخ به، وأن الأمة الإسلامية متهيئة وأنها تحت النظارة، ووالله إن لم تتدارك بالأمة بالتوبة الصادقة، فتجتمع على كتاب الله، وتعود إلى منهج رسول الله، لنزل بها بلاء أعظم من بلاء الاستعمار، والغافلون ما يشعرون بهذا. أمة الإسلام أصبحت أمماً تعبد الطين والوطن، وتُعرض عن ذكر الله وكتابه، وتتعلق بالأوهام والضلالات، وتعتز بالباطل، فلا إله إلا الله! إلى أين تريد أن تصل هذه الأمة؟ ولكن أنفسهم ظالمون لها، والله ما ظلمهم أبداً.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
قال [ شرح الكلمات: كَفَرُوا [آل عمران:116] ]: كذبوا بالله ورسوله وشرعه ودينه. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ [آل عمران:116]: لن تجزي عنهم يوم القيامة أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً، إذ لا مال يومئذ ينفع ولا بنون. مَثَلُ [آل عمران:117] أي: صفة وحال ما ينفقونه لإبطال دعوة الإسلام أو للتصدق به ] وهم كافرون، فهل تنفعهم صدقاتهم من بناء المستشفيات وتوزيع الأدوية مع السعي إلى تكفير الناس؟! كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران:117]، والآن الصليبيون ينفقون أموالاً طائلة، فهل هذه تغني عنهم من الله شيئاً؟ إن مثلها: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117]، والله لا ينتفعون بحسنة؛ لأنهم كفار، وينفقون ضد الإسلام للتنصير والتكفير.قال الشارح: [ الصر: الريح الباردة الشديدة البرد التي تقتل الزرع وتفسده، الحرث: ما تحرث له الأرض وهو الزرع. ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117]: حيث دنسوها بالشرك والمعاصي فعرضوها للهلاك والخسار ].
معنى الآيات
قال [ معنى الآيات: لما ذكر تعالى حال مؤمني أهل الكتاب وأثنى عليهم بما وهبهم من صفات الكمال، ذكر هنا في هاتين الآيتين ما توعد به أهل الكفر من الكتابين وغيرهم من المشركين على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب؛ ليهتدي من هيأه الله تعالى للهداية، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:116] أي: كذبوا الله ورسوله، فلم يؤمنوا ولم يوحدوا، لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [آل عمران:116] أي: في الدنيا والآخرة مما أراد الله تعالى بهم شيئاً من الإغناء؛ لأن الله تعالى غالب على أمره، عزيز ذو انتقام، وقوله تعالى: وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:116] فيه بيان حكم الله تعالى فيهم، وهو أن أولئك البعداء في الكفر والضلال المتوغلين في الشر والفساد، هم أصحاب النار الذين يعيشون فيها لا يفارقونها أبداً، ولن تغني عنهم أموالهم التي كانوا يفاخرون بها، ولا أولادهم الذين كانوا يعتزون بهم ويستنصرون، إذ يوم القيامة: لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] سليم من الشك والشرك والكبر والعجب والنفاق.هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية: فقد ضرب تعالى فيها مثلاً لبطلان نفقات الكفار والمشركين، وأعمالهم التي يرون أنها نافعة لهم في الدنيا والآخرة، ضرب لها مثلاً: ريحاً باردة شديدة البرودة أصابت زرع أناس كاد يُحصد -أي: الزرع- وهم به فرحون، وفيه مؤملون، فأفسدته تلك الريح، وقضت عليه نهائياً، فلم ينتفعوا بشيء منه، قال تعالى في هذا المثل: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ [آل عمران:117] أي: أولئك الكفار، فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:117] أي: مما يرونه نافعاً لهم من بعض أنواع البر، كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ [آل عمران:117] أي: تلك الريح الباردة، حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117] أي: زرعهم النابت، فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117] أي: أفسدته، فحرموا من حرثهم ما كانوا يؤملون، وَمَا ظَلَمَهُمُ [آل عمران:117] حيث أرسل عليهم الريح فأهلكت زرعهم، إذ لم يفعل الله تعالى هذا بهم إلا لأنهم ظلموا بالكفر والشرك والفساد، فجزاهم الله بالحرمان، وبذلك كانوا هم الظالمين لأنفسهم، قال تعالى: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117] ].
هداية الآيات
قال [ من هداية الآيتين:أولاً: لن يغني عن المرء مال ولا ولد متى ظلم وتعرض لنقمة الله تعالى.ثانياً: أهل الكفر هم أهل النار، وخلودهم فيها محكوم به، مقدر عليهم لا نجاة منه.ثالثاً: بطلان العمل الصالح بالشرك والموت على الكفر ] فقد يعمل العبد عشر سنين أو خمسين سنة وهو صائم قائم، وإذا بكلمة كفر تخرج منه فتمحو ذلك كله، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، أي: أن بطلان العمل الصالح هو بالشرك وبالموت على الكفر، ومن هنا نعلم أن المشرك يصوم ويتصدق، فهذا الكافر عبد الله بن جدعان الذي سألت عنه أم المؤمنين الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: ( ما تقول فيه يا رسول الله؟ قال: هو في النار، قالت: كان يذبح في الحج الواحد ألف بعير، ويكسو ألف حلة )، من يفعل هذا؟! قال: ( هو في النار؛ لأنه مات على الشرك، مات ولم يقل يوماً: رب اغفر لي وارحمني ). [ رابعاً: استحسان ضرب الأمثال في الكلام لتقريب المعاني ]، فالله ضرب المثل من أجل أن يقرب المعنى إلى الناس ولينتفعوا بما يسمعون، وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (48)
الحلقة (189)
تفسير سورة آل عمران (53)
حرم الله عز وجل على عباده المؤمنين اتخاذ مستشارين من أهل الكفر، وحرم إطلاعهم على أسرار المسلمين ومواطن ضعفهم وقوتهم، لما في ذلك من الضرر الكبير الذي يلحق بالمسلمين، وذلك لفساد الكافرين تجاه المسلمين، وما يحملونه في قلوبهم من إرادة الشر لهم، والفرح بما يصيبهم من العنت والنصب والبلاء، وإنما يظهرون لأهل الإيمان النصح والمحبة ويبطنون في أنفسهم البغض لهذا الدين وأهله.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي والعالم أجمع- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فهنيئاً لكم معشر المؤمنين والمؤمنات.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وهانحن مع هذه الآيات المباركات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:118-120].
مناداة الله لعباده بوصف الإيمان
فهيا نتغنى بهذه الآيات، فنكرر تلاوتها، ونتابع معانيها، وما تهدف إليه، وما تدعو إليه، وما تحققه لنا -معشر المؤمنين-إن كنا مؤمنين صادقين. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:118] نادانا ربنا، فلبيك اللهم لبيك، نادانا بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمنين أحياء، والحي يسمع النداء ويجيب، وإن أُمر فعل، وإن نُهي ترك، وإن بُشر استبشر، وإن حُذِّر حَذر، وإن عُلم عَلِم وتعلم، هذا العلم علمناه الله، وأصبحنا أهلاً له، فالحمد لله، وملايين المسلمين لا يخطر ببالهم هذا ولا يعرفونه! فيا معاشر المستمعين! هل أنتم متفاعلون مع هذه الآيات؟مرة أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، ربنا لك الحمد، فقد بينت لنا إن كنا نعقل، أما إن فقدنا عقولنا، وتهنا في متاهات الدنيا، وأصبحنا كالمجانين فما ننتفع بهذه الآيات. هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119] أي: كالتوراة، أو الإنجيل، أو الزبور، وكل كتب الله، وهم لا يؤمنون بكتابكم. وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا [آل عمران:119] قل: يا رسولنا، قل يا عبد الله المؤمن: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119] فلا يضرنا غيظكم شيئاً، سبحان الله! إنه تعليم مولانا، قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، كيف يضرنا كيدهم ونحن أولياء الله، والله محيط علمه بهم؟! الله أكبر! هل هذا القرآن يجوز قراءته على الموتى؟! آه، يا للعجب! يا معشر العرب! هذا القرآن يُقرأ على الموتى وما أفقنا إلى اليوم! وإن قلت: لا يُقرأ القرآن على الموتى، يعجبون، كيف لا يُقرأ على الموتى؟! آلله أنزله ليقرأ على الموتى؟! إن هذه الآيات الثلاث لا يوجد واحد في الألف من مسئولي العالم الإسلامي قرأها وعرفها، ولا دروا ما هي، لعلي واهم؟ من يرد عليّ؟ وبالتالي كيف يسوسون البشرية؟! كيف يقودون أهل: لا إله إلا الله؟! إنهم لا يلامون؛ لأن آباءهم وأمهاتهم لا يعرفون القرآن إلا ليلة الميت، فيقرءونه على الميت سبع ليال، أو إحدى وأربعين ليلة، وكأن القرآن ما نزل إلا للموتى، فعجب هذا أو لا؟ والآن الحمد لله هذا النداء تضمنته نداءات الرحمن، وأصبح الآن يقرأه المسئولون، فقد وِزِّع كثيرٌ منه، واليوم طلبوا منا القوات المسلحة إذناً بطبع هذا الكتاب وتوزيعه على كل أفراد القوات، فالحمد لله، وهذا نداء منها، إذ إنها تسعون نداء.والمفروض أن كل مؤمن يضع هذا النداءات عند رأسه، وقبل أن ينام يستمع إلى نداء من نداءات ربه، فيقول: الحمد لله، الحمد لله، الله يناديني! أية نعمة أعظم من هذه؟! يناديني سيدي ومولاي ليعلمني وليهذبني وليرفعني، وما نصغي ولا نسمع! وهل كل مؤمن ومؤمنة يسمع هذه النداءات يبقى جاهلاً؟! والله ما يبقى جاهلاً، يبقى ضالاً؟ والله ما بقي ضلاله إلا أن يشاء الله، فهو قد عرف أن الضلال لمن فقد الهداية والنور، أما الذي هدايته تقوده والنور أمامه كيف يضل؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:118]، نادانا الله عز وجل -نحن معاشر المؤمنين والمؤمنات- بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمن حي؛ لأن الإيمان بمثابة الروح، والأجسام لا تحيا إلا بالأرواح، فإذا خرجت الروح مات الجسم، فكذلك الإيمان والله بمثابة الروح، فلما حيينا بفضله ومنته علينا، وأصبحنا أحياء، نادانا ليعلمنا، ليؤدبنا، لينجينا، ليبعدنا عن المساخط والمهالك.
معنى قوله تعالى: (لا تتخذوا بطانة من دونكم)
ثم قال لنا: لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118]، وهنا اللام ناهية، لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118]، ما هي هذه البطانة؟ البطانة من تستبطنهم وتطلعهم على بطائن أمورك وخفاياها، فأيها المسئول! سواء كنت قائداً عسكرياً، أو كنت إماماً للمسلمين، أو كنت صاحب متجر، أو مصنع، فمصنعك لا تريد أن تطلع عليه غير المؤمنين الصالحين، كذلك تجارتك ومورد أموالك، لا تريد أن تطلع عليه إلا الخواص، الذين تطمئن إليهم، أما أن تطلع عليه أعداءك فسوف يحرمونك من ذلك. لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118] من غيركم، أي: من اليهود والنصارى والبلاشفة الشيوعيين والمجوس والمشركين والكافرين، وقوله: مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران:118] فقط، أخْرِج المؤمنين، فلا استثناء إلا للمؤمنين، ومن عداهم هم دوننا، من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والملاحدة، بل كل الكافرين، فقد نهانا مولانا أن نتخذ بطانة من دوننا من الكافرين، فنستبطنهم ونطلعهم على خفايا أمورنا وأسرارنا الحربية والسلمية؛ ليكملنا ويسعدنا ويعزنا.
معنى قوله تعالى: (لا يألونكم خبالاً)
ثم بين وعلل فقال: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا [آل عمران:118]، والخبْل: الفساد والشر، أي: لا يقصرون في إفساد حياتكم عليكم، وقائل هذا هو الله خالق القلوب، وواهب العقول، والعليم بذات الصدور، فإن قلت: لا، كفرت، كذبت الله، وأعوذ بالله أن تكذب الله، وهل لك قيمة حتى تكذب العليم الخبير؟! فالأعداء لا يقصرون أبداً في إفساد الحياة عليكم، وصدق الله العظيم، إذ إلى الآن لا يريدوا للعالم الإسلامي أو أي بلد إسلامي أن يسمو أو يسعد أو يكمل أبداً؛ لما في نفوسهم من الحقد والغل على الإسلام والمسلمين.
معنى قوله تعالى: (ودوا ما عنتم)
وَدُّوا [آل عمران:118]، أبلغ وأكثر لتأدية المعنى من: (أحبوا)، وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، العنت: المشقة الشديدة، مثل: الذي كُسِر وجبر، ثم ازداد كسراً بعد الجبر، فهذا معنى العنت، وهو أشد من المشقة، وما قال: ودوا مشقتكم، وإنما عنتكم؛ ليبقى المسلمون دائماً في بلاء وفقر وجدب وضعف وخلاف وهزيمة وشر وهكذا، فهذا الذي يودونه. وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، احذر أن تقول: لا، يوجد يهود ونصارى لا يحبون لنا إلا الخير! والله ما كان، ولن يكون حتى تطهر تلك القلوب، وتحيا تلك النفوس الميتة، وتتصل بالملكوت الأعلى، وتؤمن بلقاء الله وما عند الله، ثم يحبون كل مؤمن ومؤمنة، ولا يودون له الشقاء ولا التعاسة ولا البلاء، أمَا وهم يعرفون أنهم هم أصحاب النار والجحيم الخالدون فيها، والمسلمون أهل السعادة والكمال، فكيف يحبونهم؟!فإن قيل: يا شيخ! أنت تقول هذا الكلام! إن هذا أمر واقع، فما الذي أنزلنا من علياء السماء إلى الأرض؟ القرآن؟! أولياء الله؟! إذاً فمن؟ والجواب: هم، فقد حولوا قلوبنا إلى قلوب شرك وباطل وأوهام، أبعدونا عن نور الله فعشنا في الظلام، افترقنا وتنازعنا وتناحرنا، وأكل بعضنا بعضاً، وضاعت آدابنا وأخلاقنا، وهبطنا حتى ساسونا وسادونا، وهم يديرون دفة حكمنا، فهل هناك من يرد عليّ من أهل العلم والسياسة؟ أهل السياسة والبصيرة يعرفون هذا، أما الجهال فلا تسأل عنهم.
معنى قوله تعالى: (قد بدت البغضاء من أفواههم...)
ثم يزيدنا ربنا بياناً فيقول: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [آل عمران:118]، أي: بغضهم الشديد لنا ظهر من ألسنتهم، ومن يجلس إليهم ويستمع منهم والله ما يلبث حتى يسمع كلمات دالة على بغضهم لنا.قوله: وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، أي: ما تخفي صدورهم من بغضنا وحسدنا، وحب سقوطنا وضعفنا وعجزنا ومصيبتنا، أعظم مما قد يظهر على ألسنتهم.
معنى قوله تعالى: (قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)
وأخيراً: يقول لنا ربنا -سامحنا يا رب-: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ [آل عمران:118]، ماذا نقول؟ ربنا لك الحمد، ولا نقول: جزاك الله خيراً، إذ إنه صاحب الخير، فاللهم لك الحمد على ما علمتنا وبينت لنا، ونحن نأسف أننا ما عرفنا بيانك، ولا أخذنا بآياتك، فارتبكنا وهبطنا وتمزقنا، والمنة لك يا رب العالمين. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، وإذا كنتم لا تعقلون فلن تشاهدوا الطريق أبداً، وإلا فإن الله بين الطريق -سبيل النجاة- على أوضح ما يكون، ولكن أين العقول؟ العقول ذهب بها الهوى والدنيا والشهوات، وغطاها الجهل وظلماته، وارتبك العالم الإسلامي وهو الآن في محنة. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ [آل عمران:118]، فلك الحمد يا ربّ أن بينت لنا، وقلت: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، فالذين لا يعقلون ما ينفعهم البيان أبداً، فالمجنون، والخبل، والبهلول، إذا قلت له: الطريق من هنا، فاسر عن يمينك إلى كذا، ثم يأتيك المحل الفلاني، ثم امش حتى تصل إلى كذا، فإنه لا يفهم؛ لأنه لا يعقل، ما عنده عقل.
تفسير قوله تعالى: (هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم...)
قال تعالى: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]. هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ [آل عمران:119] عجيب هذا الكلام الإلهي! لما جاء بالهاء في (أنتم) ما استعجل فقال: هؤلاء، وإنما (هَا)، أَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]، إذ عواطف المؤمنين والمسلمين تطغى عليهم، فقد يحب المسلم جاره اليهودي أو النصراني أو المجوسي، وخاصة إذا أحسن إليه وشاهد منه بعض الإحسان، ولا يفكر في قلبه، وما ينطوي عليه صدره من الغل والحسد للإسلام والمسلمين، فمن يرد على الله؟ أعوذ بالله! هَاأَنْتُمْ [آل عمران:119] وخاصة قبل نزول هذه الآيات، قبل نزول هذه التعاليم الإلهية، قال لنا: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]، صدق الله العظيم، إي والله، لا يحبونكم.ثم قال: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119]، لفظ: (الكتاب) يا طلبة العلم ما هو بمفرد، وإنما هو اسم جنس بمعنى: الكتب الإلهية، كقولك: الإنسان، هل هو واحد؟ لا، إذ إن كل البشرية إنسان. هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119] والبرهنة: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ [آل عمران:119] الإلهي، كُلِّهِ [آل عمران:119]، فلو كان مفرداً ما يقول: كله، لكن (الكتاب) اسم جنس المراد به الكتب الإلهية، فنحن نؤمن بالتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف موسى، وصحف إبراهيم، وصحف شيث وإدريس وهكذا، كل ما أنزله الله من كتاب نحن نؤمن به، وهم لِمَ لا يؤمنون بكتابكم؟! لِم لا يؤمنون بالقرآن ويدخلونه في صدورهم؟! أو ما هم بمؤمنين كما يزعمون؟ أنزله الله أو لا؟ يقولون: هذا كتابه، لِم لا يؤمنون به؟ لأنهم يحافظون على كيان وجودهم، ومن هنا سوف يبغضونكم ويعادونكم، ولا يرون لكم الخير أبداً، فسبحان الله! كيف يُعلٍّم الله المؤمنين؟ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:119]، وهم لا يؤمنون بكتابكم أبداً، بل ولا بآية منه.ثم قال: وَإِذَا لَقُوكُمْ [آل عمران:119]، هذا أيام ضعفهم ووجودهم في المدينة، قَالُوا آمَنَّا [آل عمران:119]، أي: نحن مؤمنون، وَإِذَا خَلَوْا [آل عمران:119] ببعضهم البعض، وما بقي معهم مؤمن في المجلس، عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ [آل عمران:119]، وهذا من عادة الإنسان وفطرته أنه إذا تألم يعض أصبعه، حتى الأطفال الصغار يفعلون ذلك، فهؤلاء إذا خلوا فيما بينهم، وما بقي مؤمن يسمع أو يرى مجلسهم، عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ [آل عمران:119] من شدة الغيظ، فلا يريدون أن يروا مؤمناً سعيداً أبداً.وعند ذلك قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119]، فخفف عن نفسك يا رسولنا، خفف عن نفسك يا شيخ فلان، قل لهم: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119]، وليس شرطاً أن يسمعوك، فما دمت قد علمت هذا فقل لهم الآن: موتوا بغيظكم، لن ينفعكم الغيظ، بل تحترقون به، وهذا أيام كنا أولياء الله والله معنا، فلم نبال بغيظهم، إذ قال لنا ربنا: قولوا لهم: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119]. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]، كل ما في صدر الإنسان وانطوى عليه واختبأ فيه الله عليم به، ولهذا أخبرنا بغيظهم، وأنهم مصرون عليه، وقلوبهم مملوءة، وصدورهم محشوة به، فإذا قال لك اليهودي: لا، نحن لا نحمل لكم غيظاً ولا بغضاً ولا كرهاً! فقل لهم: أخبرنا العلام للغيوب أنكم تبغضون المسلمين، وهذا إخبار الله عز وجل خالق قلوبكم، وموجد صدوركم.
تفسير قوله تعالى: (إن تمسسكم حسنة تسؤهم...)
قال تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، زاد الله تعالى في البيان للآيات، فقال: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ [آل عمران:120]، لا أن تصيبكم، وإنما مجرد المس، كأن نزل المطر بدياركم، الغزوة الفلانية انتصرتم فيها، الرخاء عمَّ الديار، أدنى حسنة تمسَّكم تسؤهم، فيكربون ويحزنون ويتألمون، وكذلك إذا سمعوا أننا أصبحنا ننتج الطائرات المقاتلة يكربون. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ [آل عمران:120] قلَّت أو كثرت، والله: تَسُؤْهُمْ [آل عمران:120]، أي: تصبهم بالإساءة في نفوسهم، لا يريدون أبداً أن يصيبكم خير؛ لأنهم أعداء. وَإِنْ تُصِبْكُمْ [آل عمران:120] لا أن تمسكم مصيبة، وإنما تصبكم مصيبة، كالجدب العام أو هزيمة في معركة، يَفْرَحُوا بِهَا [آل عمران:120]، فتمتلئ صدورهم بالفرح، ويظهر ذلك على ألسنتهم وعلى وجوههم.وبعد: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، وهذه بشرى الله لعباده المؤمنين، لكن بشرطين عظيمين:أولاً: الصبر في البلاء والشدة، فلا نتزعزع.ثانياً: أن نتقي الله عز وجل فلا نعصه، ولا نخرج عن طاعته.وعند ذلك إن نحن صبرنا واتقينا ربنا، والله ما ضرنا كيدهم ولا مكرهم، بل والله لو تألبوا كلهم، وجاءوا من شرق الدنيا وغربها، ما زلزلوا أقدامنا ولا أصابونا بما يضرنا؛ لأن من بيده الملكوت هو الذي يديره، فيخيبهم في كل حملاتهم وظنونهم، ويرجعون خاسرين من حيث أتوا. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، أي: أذاهم، مكرهم، احتيالهم، خبثهم، ما يضر أبداً، إن أنتم صبرتم واتقيتم، وتقوى الله مستلزمة لطاعته في كل الأمر والنهي، في العقيدة، في القول، في السلوك، في اللباس، في كل حياتنا؛ لأنها أنظمة ربانية، إذا تم تنظيمها وأُديت كذلك، فأهلها لن يخسروا أبداً، ولن يضرهم كيد الكائدين.وكرر ذلك بهذا التعليق فقال: إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، هم يبيتون المكر ويتآمرون ويجتمعون في لندن، ويجتمعون في الهند، وفي كذا وكذا، والله مطلع عليهم، فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، إذ إن كل أعمالهم مفضوحة لله مكشوفة بين يديه، فلهذا يا معشر المؤمنين! اصبروا واتقوا، والله لن يضركم كيدهم شيئاً؛ لأن الله سيدنا ومولانا وخالقنا وولينا مطلع على كل تحركاتهم الظاهرة والباطنة. وقد قيل لـعمر -خليفة المسلمين- رضي الله عنه: إن هنا رجلاً نصرانياً من رجالات الحيرة -والحيرة قريبة من العراق- لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم -أي: أنه كاتب ممتاز- أفلا يكتب عنك يا عمر؟ فقال عمر: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين؛ لأنه سيصبح يطلع على كل مهام عمر. والناظر إلى الدول الشيوعية الاشتراكية يوم دخلوا في الاشتراكية، أصبحت بطانتهم كلهم من الروس، خواصهم الذين يسيرون دفة الاشتراكية من الروس، أو من المجر، أو المناطق الروسية من يوغسلافيا. كذلك: جاء أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه وأرضاه وعن الأشعريين كلهم -بحسَّاب نصراني- حسَّاب لا نظير له في الحساب إلى عمر، فانتهره عمر وقال له: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله. فأدب عمر رضي الله عنه أبا موسى رضي الله عنه، مع إتيانه له بحساب لا مثيل له، إذ إنه يستطيع أن يحسب الملايين والبلايين. إذاً: معاشر المسلمين! لا تتخذوا بطانة من غير المؤمنين، فتطلعونهم على أسراركم وخفايا أموركم، وخاصة العسكرية والمالية والتربوية والتوجيهية وغيرها؛ لأنهم يدسون، ما يفرحون بسعادتكم وكمالكم، اللهم اجعل المؤمنين يفيقون.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
والآن مع هداية الآيات لنتتبع ما علِمناه. قال المصنف غفر الله لنا وله: [ من هداية الآيات: أولاً: حرمة -والحرمة: المنع- اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامة، وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإسلامية، والأمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم؛ لما في ذلك من الضرر الكبير ] أي: حرمة اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامة، سواء كانوا بيضاً أو سوداً مطلقاً، وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإسلامية، وما تخفيه وتستره عن الناس.[ والأمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم؛ لما في ذلك من الضرر الكبير على المسلمين ]، فبلغوا هذا، فهم يضحكون عليكم إلا من شاء الله، ولا تلوموهم؛ لأنهم ما عرفوا، ما جلسوا هذا المجلس ولا عرفوا عن الله، ووالله لـ(95%) من مسئولي العالم الإسلامي ما عرفوا شيئاً، منهم دكاترة، أصحاب شهادات، لكن تخرجوا من المسجد النبوي؟! لا، وإنما تخرجوا على أيدي أعداء الإسلام، فملّئوهم وشحنوهم، ووجهوهم التوجيه الذي لا يرجع إلى الله أبداً، ومن طلب البرهنة أو التدليل على هذه القضية، فإليه الدليل:كيف تُسْتَقل ويوجد لنا نيفاً وأربعين دولة، ولا توجد واحدة منها أمر حاكموها بإقامة الصلاة؟! أنتم لا تفكرون هذا التفكير؛ لأننا هابطين، فأسألكم بالله، ما علة وجودنا سوى الصلاة؟ هل هناك شيء غير هذا؟! لماذا لا يُؤمر بإقامة الصلاة؟! السبب: أنهم ما عرفوا، فأبناؤنا وإخواننا غشيهم الجهل، تعلموا من طريق الكفار فهبطوا بهم وأفسدوا عقولهم، وقالوا لهم: يجب أن ننهض، التمدن، الحرية، الترقي، اتركونا من التخلف، اتركونا من الرجوع إلى الوراء، و.. و..، وقد سمعت بأذني مسئولاً من المسلمين في أوروبا يقول: ما هي إلا أيام فقط ونتحرر، وتخرج المرأة عارية تغني، يعني: كالفرنسيات واليهوديات! قال: [ثانياً: بيان رحمة المؤمنين وفضلهم على الكافرين ]، أما قال: تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]؟ فقلوبنا رقيقة، إذ لو عندي جار أو أسير كافر أرحمه وأشفق عليه، فهل عرفتم فضل المؤمن على الكافر أو لا؟ كفضل ماذا؟ كفضل الآدمي على الخنزير! كفضل الآدمي على الكلب والقرد! فإن قيل: يا شيخ! كيف تقول هذا؟! والجواب: قد قرر هذا القرآن فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة :6]، فما البرية يا عرب؟ الخليقة، وهل شر الخليقة القردة والخنازير والحيات؟ لا، فلا حيات ولا ثعابين ولا غيرها، وإنما الكفار من أهل الشرك والنفاق، والدليل: أولاً: أن هذا خالقهم أصدر الحكم عليهم.ثانياً: هل الأفعى أو الحنش أو الأرقط أو الخنزير أو الكلب كفر ربه؟! جحد مولاه؟! حارب أولياءه؟! غش عباده؟! الجواب: لا، وهذا الكافر كفر بربه وجحده، وصنع آلهة باطلة وتركه، وخرج عن عبادته وطاعته! فأيهم أشر إذاً؟! وهل عرف الناس هذا؟ ما عرفوه؛ لأن سورة البينة لا تُقرأ على الموتى، وإنما التي تُقرأ على الموتى يس والملك! ثم قال تعالى بعدها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7] أي: الخليقة، من بَرَأ النسمة يبرأ إذا خلقها، والبارئ هو الله، قال تعالى: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر:24]، وإنما قرئ (البرية) من باب التخفيف، وهي قراءة حفص، فقلبت الهمزة ياء وأدغمت في الياء، وإلا فهي ليست من (برية)، وإنما من (برأ يبرأ بريئة)، بمعنى: مبروءة، على وزن فعيلة بمعنى مفعولة، خليقة بمعنى: مخلوقة.إذاً: شر البريئة هم الكفار والمشركون، ومن قال: كيف تقول هذا ياشيخ؟ فنقول: سائر الحيوانات على اختلافها ما عصت ربها، ولا خرجت عن طاعته، بل ما فطرها عليه وهداها إليه تفعله بانتظام، والإنسان يسب ربه ويكفر به، ويحارب أولياءه، وينتقم من أوليائه، ويفعل ويفعل، وكل هذا ضد الله، فهل هذا أصبح فيه خير؟ هذا كله شر، فهو شر الخليقة. قال: ثالثاً: [ بيان نفسيات الكافرين، وما يحملونه من إرادة الشر والفساد للمسلمين ]، كيف عرفنا هذا؟ هل درسناه في كلية من الكليات؟ في علم النفس؟ لا، وإنما عرفنا ذلك من قول الله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]. قال: رابعاً: [ الوقاية -الكافية- من كيد الكافرين -مطلق كافر- ومكرهم ]، والوقاية: الحبر، وهو شيء يقيني من البرد كالثوب، ومن الشمس كالمظلة، ثم هذه الوقاية أين توجد؟ أين تكمن؟ قال: [ تكمن في الصبر والتجلد، وعدم إظهار الخوف للكافرين، ثم تقوى الله تعالى بإقامة دينه، ولزوم شرعه، والتوكل عليه، والأخذ بسننه في القوة والنصر ]، وسيأتينا لاحقاً -إن شاء الله- معرفة سبب انهزام المؤمنين في أحد، وذلك بعدم الأخذ بسنة النصر، فقد تفرقوا وآثروا الدنيا على الآخرة، فلا إله إلا الله! إن هذا القرآن عجيب.فهيا نسمع للآيات مرة أخيرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:118-119]، وهم لا يؤمنون بكتابكم، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ [آل عمران:119]، ماذا تقولون لهم؟ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:119-120].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (49)
الحلقة (190)
تفسير سورة آل عمران (54)
بين الله لعباده المؤمنين أن الصبر والتقوى هما عدة الجهاد في الحياة، وأن الله عز وجل بولايته لعباده المؤمنين يقيهم مصارع السوء، ويجنبهم موارد التهلكة، ويهيئهم لطريق السلامة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم مثالاً للفئة المؤمنة التي أوشكت على الهلكة، وباتت قاب قوسين أو أدنى من الفشل، إلا أن عناية الله تدركها، ورحمة الله عز وجل تحوطها، فيعود فشلها عزاً وهزيمتها نصراً، كما حدث في غزوة بدر لبني الحارث وبني سلمة.
تفسير قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك تبوِّئ المؤمنين مقاعد للقتال...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وهذه الآيات الثلاث التي انتهى إليها الدرس، نتلوها ونكرر تلاوتها، والمستمعون والمستمعات يحاولون ما استطاعوا حفظها وفهمها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:121-123].
سبب نزول قول الله تعالى: (إذ همت طائفة منكم أن تفشلا والله وليهما)
وهنا أذكركم بما قاله جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وأرضاه، إذ إنه قال: فينا نزلت هذه الآية، وهي قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122]، وهما بنو سلمة من الخزرج، وبنو الحارثة من الأوس، فقد همتا بالعودة عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المدينة لقتال المشركين بأحد، فرجع عبد الله بن أبي ابن سلول بثلاثمائة من المنافقين وضعفة الإيمان، وبنو سلمة وبنو حارثة همتا بالرجوع، ولكن الله عصمهما، فـجابر يقول: فينا نزلت، ولكنا نحب هاتين الآيتين؛ لأن الله قال: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، شهادة الله لنا بأنه ولينا تعدل الدنيا وما فيها؛ لأن نزول هاتين الآيتين فيه معنى التأديب وعدم اللياقة والرضا، أي: كيف تهم الطائفة بالرجوع وتترك رسول الله في المعركة؟! لكن لما كان فيها: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، قال: إني أحب أنها نزلت فينا.فقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ [آل عمران:122]، أي: اذكروا، إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122]، وتعود إلى المدينة تابعة لـابن أبي، وهذا ذم قاتل، لكن لما قال: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، ما ضرنا هذا ولا آلمنا، بل أفرحنا وأثلج صدورنا، إذ شهد الله لنا بأنه ولينا، أو ما تحبون ولاية الله؟ والله لا خير بدون ولاية الله لنا، إذ من لم يواله الله عاداه، ومن عاداه الله خسر ودمره لله وأهلكه، وولاية الله لا تطلب بالملايين أو بالإبل أو البقر، وإنما تطلب بشيئين اثنين ألا وهما: أولاً: الإيمان الصحيح، وبالتالي فلا تظفرن عبد الله بولاية الله إلا إذا آمنت إيماناً صحيحاً، إذا عرضته على القرآن وافق عليه وصدَّق وأمضى.ثانياً: تقوى الله عز وجل، وهي خوف منه يحملك على فعل ما يأمرك وترك ما ينهاك عنه، ودليل هذا قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يقول: منهم أولياؤك يا ربّ؟ بنو هاشم؟! بنو تميم؟! إذاً فمن هم؟ أجاب تعالى بنفسه فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فكل مؤمن تقي هو ولي لله، ولن يكون المؤمن الفاجر ولياً لله، ولن يكون التقي غير المؤمن ولياً لله، بل لابد من إيمان وتقوى.وسر هذا وفقهه: أن المؤمن التقي تطيب نفسه وتطهر وتزكو وتصفو بواسطة الإيمان الحامل على فعل المأمور وترك المنهي، إذ إن فعل المأمورات تزكي النفس، وترك المنهيات تحافظ على الزكاة والطهر كما هي، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].إذاً: ولاية الله -يا من يطلبها- تتحقق لك بالإيمان الصحيح، وتقوى الله عز وجل التي هي فعل ما أمر بفعله، وترك ما نهى عن فعله، والسر في ذلك: أن الإيمان والعمل الصالح يطهران النفس ويزكيانها، فترك المحرمات والمنهيات يحتفظ بزكاة النفس وطهارتها؛ لأنه إذا كان يزكيها ثم يصب عليه أطنان الأوساخ، فهو كمن يغسلها ثم يفرغ عليها براميل الوسخ، وعند ذلك لا تنتفع، بل لابد من فعل المزكيات وترك المخبِّثات والملوثات.وكل ما في الأمر: أنه إذا زلت القدم، وارتكب عبد الله إثماً، فعلى الفور يغسل وينظف ويطيب ويطهر، أي: يندم ويستغفر ويعمل العمل الصالح.فهل عرفتم معنى قول جابر؟ وهي رواية البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: فينا نزلت هذه الآية: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، قال: نحن الطائفتان بنو الحارثة وبنو سلمة، وما أحب أنها لم تنزل فينا؛ لقول الله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، اللهم كن ولينا، اللهم حقق لنا ولايتك.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معاشر المستمعين والمستمعات! نقرأ شرح هذه الكلمات لنتأكد من فهم ما فهمنا.
شرح الكلمات
قال [ قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ [آل عمران:121] أي: واذكر -يا رسولنا صلى الله عليه وسلم- إذ غدوت، والغدو: الذهاب أول النهار ]، والرواح: الذهاب آخر النهار، يقال: غدا فلان وراح، إذا مشى في الصباح، وراح -عاد- بعد الظهر، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: [ وقوله تعالى: مِنْ أَهْلِكَ [آل عمران:121]، أهل الرجل: زوجته وأولاده، و(من) هنا لابتداء الغاية، إذ خرج صلى الله عليه وسلم صباح السبت من بيته إلى أحد، حيث نزل المشركون به يوم الأربعاء ] بقيادة أبي سفيان رضي الله عنه، حيث جاءوا للانتقام وضرب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأنهم ذاقوا الهزيمة في بدر، وقد مضت سنة وعزموا على الانتقام، فجاءوا بأحابيشهم ونزلوا بأحد، وأحد جبل طويل فيه أكثر من عشرة كيلو، وقد نزلوا في طرفه في الوادي، وذلك يوم الأربعاء، وقد عرفتم تشاور النبي مع رجاله، هل يخرجون إلى قتالهم أو يتركونهم حتى يدخلوا المدينة ويقاتلونهم دخل المدينة؟ فالنساء والأطفال يرمونهم من السطوح بالحجارة وغيرها، والمؤمنون الرجال يقاتلونهم داخل الأزقة، وهذا كان اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً، واختاره ابن أبي رئيس المنافقين، ولهذا رجع من الطريق برجاله، وقال: عدل الرسول عن رأيي وأخذ برأي الآخرين، فأنا لا أقاتل. قال: [ وقوله تعالى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:121] ]، ما معنى تبوّؤهم؟ يقال: بوأه الدار، أي: أنزله فيها، وبوأه المكان، أي: أنزله فيه.قال: [ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:121] أي: تنزل المجاهدين الأماكن التي رأيتها صالحة للنزول فيها من ساحة المعركة ]، إذ هو الذي صفَّ رجاله، وأمر الرماة أن ينزلوا بجبل الرماة.فال: [ وقوله: إِذْ هَمَّتْ [آل عمران:122]: حدثت نفسها بالرجوع إلى المدينة، وتوجهت إرادتها إلى ذلك ]، يقال: هم بالشيء، أي: عزم عليه، ولكن الله حفظهم وعصمهم؛ لأنهم أولياؤه المؤمنون المتقون، إذ لو عادوا لخسروا كالمنافقين.قال: [ وقوله: طَائِفَتَانِ [آل عمران:122]: هما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار ]، بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، والأنصار هما طائفتا أو قبيلتا الأوس والخزرج.قال: [ وقوله: تَفْشَلا : تضعفا وتعودا إلى ديارهما، تاركَين الرسول ومن معه يخوضون المعركة وحدهم ]. قال: [ وقوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]: متولي أمرهما وناصرهما، ولذا عصمهما من ترك السير إلى المعركة ].قال: [ وقوله: بِبَدْرٍ [آل عمران:123]، بدر: اسم رجل ]، وعندنا شاب يقال له: أبو بدر، إذ له ولد سمَّاه: بدراً، والبدر معروف، وهو القمر إذا امتلأت جعبته بالأنوار، قال: [ وسمي المكان به لأنه كان له فيه ماء -كان لهذا الرجل بدر ماء في هذا المكان، فسمي المكان به- وهو الآن قرية -أو قُريَّة صغيرة- تبعد عن المدينة النبوية بنحو من مائة وخمسين ميلاً، أي: كيلو متر ]، وأهل البلاد يعرفون ذلك، لكن الذين يقرءون التفسير في الهند أو في أمريكا لابد أن يسألوا: أين توجد مدينة بدر أو قرية بدر؟ قال: [ وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، أي: لقلة عَدَدِكم وعُدَدِكم -وأنتم أذلة في بدر، فقط ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وفرس واحد- وتفوق العدو عليكم ] أي: عدو المشركين، فقد كانوا ألفاً تقريباً.والآن وبعد أن عرفنا المفردات، نسمعكم الآيات مرة أخرى لتتذكروا المفردات: قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:121]، اذكر أيضاً: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:122-123].
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات: لما حذر الله تعالى المؤمنين من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق ]، نعم حذرنا فقال قبل هذه الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، قال: [ لما حذر الله تعالى المؤمنين ] من أصحاب رسول الله، ومن المؤمنين إلى يوم القيامة؛ لأن ذاك الحكم عام، قال: [ لما حذر الله تعالى المؤمنين -حذرهم من أي شيء؟- من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق ]، ما معنى: بطانة؟ البطانة الذين نستبطنهم ونجعلهم مطلعين على أسرارنا وخفايا أمورنا، قال: [ وأخبرهم أنهم متى صبروا واتقوا لا يضرهم كيد أعدائهم شيئاً ]، وهذا تقدم في الآيات السابقة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [آل عمران:118-119]، وهم لا يؤمنون، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا [آل عمران:119-120]، ثم قال الله -وهو محل الشاهد- تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، وذلك لما كشف الله النقاب عنهم، وأزاح الستار عن غيظهم ومكرهم وعدائهم -وليس معنى هذا أنه يخوفنا ويهددنا،لا، وإنما يبين لنا- وضع تعالى لنا الطريق فقال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120].فقوله: وَإِنْ تَصْبِرُوا أي: على ما أمركم الله به ونهاكم عنه، وَتَتَّقُوا الخروج عن آدابه، عما شرع من قوانين في الحرب والسلم، لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].قال: [ لما حذر تعالى المؤمنين من اتخاذ البطانة من أهل الكفر والنفاق، وأخبرهم أنهم متى صبروا واتقوا لا يضرهم كيد أعدائهم شيئاً، ذكرهم بموقفين:أحدهما: لم يصبروا فيه ولم يتقوا فأصابتهم الهزيمة، وهو غزوة أحد.والثاني: صبروا فيه واتقوا فانتصروا وهزموا عدوهم، وهو غزوة بدر، فقال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران:121]، أي: اذكر يا رسولنا لهم غدوك صباحاً من بيتك إلى ساحة المعركة بأحد، تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، أي: تنزلهم الأماكن الصالحة للقتال الملائمة لخوض المعركة، وَاللَّهُ سَمِيعٌ لكل الأقوال التي دارت بينكم في شأن الخروج إلى العدو أو عدمه وقتاله داخل المدينة، عَلِيمٌ بنياتكم وأعمالكم، ومن ذلك همُّ بني سلمة وبني حارثة بالرجوع من الطريق لولا أن الله سلَّم، فعصمهما من الرجوع؛ لأنه وليهما، هذا معنى قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122] أي: تجبنا وتحجما عن ملاقاة العدو، وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، فعصمهما من ذنب الرجوع، وترك الرسول صلى الله عليه وسلم يخوض المعركة بدون جناحيها، وهما بنو حارثة وبنو سلمة، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، فتوكلت الطائفتان على الله، وواصلتا سيرهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلمهما الله من شر ذنب وأقبحه -ألا وهو العودة إلى المدينة وترك الرسول وحده- ولله الحمد ].قال: [ هذا موقف ]، أي: موقف غزوة أحد، قال: [ والمقصود منه: التذكير بعدم الصبر وترك التقوى فيه؛ حيث أصاب المؤمنين فيه شر هزيمة، واستشهد من الأنصار سبعون رجلاً ومن المهاجرين أربعة، وشج رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، واستشهد عمه حمزة رضي الله عنه وأرضاه ]؛ لأنهم ما اتقوا ولا صبروا، فكانت الهزيمة بترك التقوى والصبر.قال: [ والموقف الثاني: هو غزوة بدر؛ حيث صبر فيها المؤمنون، واتقوا أسباب الهزيمة، فنصرهم الله وأنجز لهم ما وعدهم؛ لأنهم صبروا واتقوا، فقتلوا سبعين رجلاً وأسروا سبعين، وغنموا غنائم عظيمة ].إذاً: في أحد ما اتقوا أسباب الهزيمة ولا صبروا عند المواجهة، فكانت الهزيمة المرة، حيث قتل من الأنصار سبعون رجلاً، ومن المهاجرين أربعة رجال، كما استشهد حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، بينما في بدر اتقوا وصبروا، فقتلوا سبعين مشركاً، وأسروا سبعين -ضعف الذين قتلوا- وأما الغنائم فلا تسأل فإنها عظيمة.قال: [ والموقف الثاني: هو غزوة بدر؛ حيث صبر فيها المؤمنون واتقوا أسباب الهزيمة، فنصرهم الله تعالى وأنجز لهم ما وعدهم؛ لأنهم صبروا واتقوا، فقتلوا سبعين رجلاً، وأسروا سبعين، وغنموا غنائم طائلة، قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، فاتقوا الله بالعمل بطاعته، ومن ذلك: ترك اتخاذ بطانة من أعدائكم لتكونوا بذلك شاكرين نِعَم الله عليكم فيزيدكم، فذكر تعالى في هذا الموقف النصر لأنه خير، فقال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، ولم يقل في الموقف الأول: ولقد هزمكم الله بأحد وأنتم أعزة؛ لأنه تعالى حيي كريم ] الله أكبر! آمنا بالله، لو شاء لقال كما قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ [آل عمران:123]، لقال: ولقد هزمكم الله بأحد! لكن فقط ذكَّرهم بالحادثة، ولم يقل: الهزيمة.قال: [ لأنه تعالى حيي كريم، فاكتفى بتذكيرهم بالغزوة فقط، وهم يذكرون هزيمتهم قطعاً ] أي: لما ذكرهم بغزوة أحد، فإنهم سوف يذكرون الهزيمة ويبكون، ولم يقل: ولقد هزمكم في أحد!قال: [ لأنه تعالى حيي كريم، فاكتفى بتذكيرهم بالغزوة فقط، وهم يذكرون هزيمتهم فيها، ويعلمون أسبابها وهي عدم الطاعة وقلة الصبر ]، أي: قلة الصبر عند المواجهة، وأما عدم الطاعة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من حذقه وبراعته وعلمه وفهمه وولاية الله له، لما نزل أحداً جعل الرجال دون الجبل، وجعل ظهورهم إلى أحد، وصفهم صفوفاً، وجعل الرماة أمام أحد -وكانوا خمسة وثلاثين رامياً- على ذلك الجبل، وأمرهم فقال لهم: ( لا تنزلوا من الجبل وإن رأيتم الطير تتخطفنا )، أي: لا تنزلوا من الجبل، سواء كانت الدائرة لنا أو علينا، انتصرنا أو انكسرنا، وعند ذلك أصبح المشركون بين نارين، بين الرسول وأصحابه وبين الرماة، فانهزم المشركون وفروا في بداية الأمر، حتى فررن نساء قريش، لكن الرماة خالفوا الأمر فنزلوا، وكانت هذه معصية، فلما رأى خالد بن الوليد قائد خيل المشركين أن الجبل خلا احتله، فلما احتله وقع المؤمنون بين فكي المقراض، بين المشركين وبين الرماة، وعند ذلك أُصيبوا بالهزيمة ففرَّوا. والشاهد عندنا -حتى لا ننسى- أن الله عز وجل ما ذكرهم بالهزيمة فقال: واذكروا هزيمتكم في أحد، ولكن ذكر الواقعة فقط، وهم سيذكرون الهزيمة، أما في بدر فقال لهم: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]، أي: تشكرون الله على نصره إياكم.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: فضيلة الصبر والتقوى، وأنهما عدة الجهاد في الحياة ]، فهيا نكرر هذا ونبلغه المسلمين عرباً وعجماً، وهنا أقول: هل صبر المسلمون على قتال اليهود في فلسطين؟ بمجرد ما يلتقون ينهزمون، أو يصدر أمراً من الأمم المتحدة بوقف القتال يوقفون القتال، وعند ذلك انتصر اليهود على العالم الإسلامي بكامله، من اندونيسيا إلى موريتانيا، إذ فلسطين بلد الإسلام والمسلمين، وليست بلد العرب والمستعربين، فلما لم يصبر المسلمون في قتال اليهود هُزِموا وانكسروا، واحتل اليهود فلسطين وأقاموا دولتهم عالية الراية شامخة اللواء.كما أقول أيضاً: هل اتقى المسلمون الله في القتال؟ هل اختاروا جيوشهم وأعدوا رجالهم وسلَّحوهم وزودوهم؟ والله ما فعلوا ذلك أبداً، أما إخواننا الفلسطينيون فلا ينتصرون ولن ينتصروا؛ لأنه لا إمام لهم يقودهم، لا إمام لهم بايعوه على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يُعبد الله وحده، ولذلك شأنهم شأن المسلمين، هابطين لا يستطيعون أن تجتمع كلمتهم على إمام واحد فيصلون وراءه، ويقيم بينهم حدود الله، ويدربهم ويروضهم العام والعامين، لكن ما استطاعوا ككل العرب والمسلمين.كذلك الذين في مصر، وفي الجزائر، وفي تونس، وفي المغرب، وفي لبنان، وفي العراق، وفي سوريا وغيرها، ينادون بـ: الحاكمية، والجهاد، وإقامة الدولة الإسلامية! هل أقاموا دولة إسلامية في تونس؟ لا، بل اضطهدوا المسلمين هناك، وأذاقوهم سوء العذاب، كذا في سوريا، أين إمامكم؟ من بايعتم؟ هل روَّضكم؟ هل رباكم؟ هل أصبحت كلمتكم واحدة؟ الجواب: لا، وبالتالي مزَّقوا شملهم، وقطعوا ألسنتهم، وفي مصر كل يوم الدمار والخراب والبلاء، آه! إلى متى تبقى هذه الجماعات متطاحنة متناحرة متخاصمة يكفر بعضها بعضاً؟ فهل عرفنا الطريق أو لا؟ عرفنا، لكن إخواننا لا يستطيعون أن يسلكوا هذا الطريق؛ لأنهم ما رُبوا في حجور الصالحين، والطريق الذي يجمع كلمة المسلمين، ويعلي رايتهم، وينصرهم على اليهود والنصارى والبوذيين والمشركين والكافرين أجمعين، هو أن يتوبوا إلى الله عز وجل توبة نصوحة صادقة، وتبتدئ توبتهم وتظهر آثارها في الدنيا وفي العالم بأكمله، عندما يعترف المسلمون بأنهم أخطئوا الطريق وضلوا السبيل، ونهجوا منهجاً ما يرضاه الله، وعند ذلك يعودون إلى الله تعالى، ويطرحون بين يديه، فيبكون الليالي والأيام في بيوت ربهم، النساء وراء الستائر من الكتان، والأبناء والأطفال والأحداث الذين يمرنونهم على اللعب والباطل، يصطفون دون أمهاتهم، وأمامهم رجالهم وآباؤهم، ويجلس لهم العالم الرباني، العالم بكلام الله وكلام رسوله، قال الله وقال رسوله، من المغرب إلى العشاء وهم يتلقون الكتاب والحكمة، ويزكون أنفسهم، ويهذبون أخلاقهم، ويسمون بآدابهم، اليوم بعد اليوم، والعام بعد العام، وفجأة وإذا بأمة الإسلام قد أقبلت على الله، وقبلها الله، وأصبحت لا نفرة ولا خلاف ولا صراع، ولا تحزبات ولا جماعات ولا وطنيات، وإنما أمة الإسلام أمة واحدة.ومن ثم تتجلى آثار الإيمان والتقوى، فلا حسد، ولا بغضاء، ولا عداء، ولا كبر، ولا عجب، ولا شح، ولا بخل، ولا جريمة، ولا تلصص، ولا خيانة، ولا.. ولا..، وكأنهم تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم.ويومها يكونون قد آمنوا واتقوا، حتى أنهم لو قالوا: الله أكبر، لرددها الكون كله، فهل عرفتم الطريق أو لا؟ في أي مدينة، في أي قرية، في أي بلد، إذا اجتمع أهل القرية في مسجد الله، في بيت ربهم بصدق، يتعلمون الكتاب والحكمة، والله لتطهرن تلك القرية، ولتصفون تلك النفوس، وإذا بهم كأنهم في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيظهر الصدق والطهر والوفاء والرحمة والإخوة والإخاء، ولن تبقى مظاهر البخل ولا الفقر ولا الظلم ولا الفجور ولا الكذب ولا.. ولا..، وإنما أصبحوا كأنهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.فهل هناك طريق غير هذا؟ والله لا طريق، إما أن نتوب، ونقبل على الله، ونتعلم الكتاب والحكمة، ونزكي أنفسنا، ونطهر أرواحنا، ونهذب آدابنا وأخلاقنا، فنصبح حقاً أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا طريق غير هذا. قال: [ أولاً: فضيلة الصبر والتقوى ]، أي: الصبر على طاعة الله ورسوله، والتقوى مما يفزعنا أو يزعجنا من سائر الذنوب والمعاصي، ومن الإهمال والترك؛ لما علمنا الله ودعانا إليه.قال: [ ثانياً: استحسان التذكير بالنعم والنقم للعبرة والاتعاظ ]، أي: يستحسن أن يُذكَّر المسلمون بنعم الله عليهم، وأن يُذكَّروا بالنقم الإلهية ليرهبوها ويخافوها؛ لأن الآية ذكَّرت بهزيمة أحد وبنعمة النصر في بدر، فعلمتنا هذا.قال: [ ثالثاً: ولاية الله تعالى للعبد تقيه مصارع السوء، وتجنبه الأخطار ]، وتجلت هذه في طائفة بني حارثة وبني سلمة، إذ إن إيمانهم وتقواهم جنبهم الهزيمة؛ لأن الله وليهم، وإلا كانوا سيقعون في الهاوية ويسقطون، إذاً فولاية الله للعبد تحفظه من مصارع السوء وتجنبه الأخطار.هل عرفتم ذلك معشر السعوديين المؤمنين؟ أقسم بالله، لو أقبلنا على الله بصدق، وتركنا هذا الباطل وهذا الشر، وكادنا اليهود والنصارى والمشركون والعالم بكامله، ما أذلنا الله لهم، ولا أخزانا أبداً في حربٍ معهم.وقد أرانا آية في حرب الخليج، فقد كانت جيوشنا قليلة ودولتنا واسعة، فجاء العدو من الغرب ومن الشرق ومن الجنوب ومن الشمال، وأرادوا أن يضربوا مدة ثلاثة أيام وإذا هم في مكة، فينتهي وجود هذه الدولة وهذا الإسلام، والذي أوقفهم هو الله عز وجل، ولو ما أوقفهم الله قبل أن تصل أمريكا ومصر وغيرهما، لدخلوا البلاد واحتلوها؛ لأنهم رتبوا ترتيباً عجيباً.ثانياً: يحدثكم رجالات الحرب -والله- فيقولون: ما إن يشاهدنا العدو حتى يرتعدون ويهربون، وبالتالي لا يستطعون أن يقفوا أمام الجيش السعودي، وهذا كلام الله وليس كلامي، إذ إن ولاية الله للعبد تقيه مصارع السوء وتجنبه الأخطار، فإذا أردنا أن نحتفظ بهذه البقية الباقية، فعلينا أن نطهر بيوتنا، وأن نزكي نفوسنا، وأن نهذب آدابنا وأخلاقنا، ونقبل على الله، فاذكروا هذا إن كنتم تذكرون.قال: [ رابعاً: تقوى الله تعالى بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه هي الشكر الواجب على العبد ]، الشكر: الذكر والعبادة، وقد خلق الله الكون كله من أجلنا، ونحن خلقنا من أجل أن نذكره ونشكره، ويتم ذكر الله وشكره بتقواه، بفعل أوامره وترك نواهيه، ولهذا قال: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (50)
الحلقة (191)
تفسير سورة آل عمران (55)
إن النصر وإن كانت له عوامله من كثرة العدد من المقاتلين، وقوة العدة والعتاد، إلا أنه بيد الله وحده، فقد ينصر الضعيف ويخذل القوي، لذا وجب تحقيق ولاية الله تعالى أولاً قبل إعداد العدة، وتحقيق هذه الولاية يكون بالإيمان والصبر والطاعة التامة لله ولرسوله، ثم التوكل على الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلة التي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة ) وهي واضحة، فهل هناك ضوضاء ولغط وأصوات؟ السكينة واقعة، ( إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة )، فأين العذاب؟ والله إنها لرحمة، ( وحفتهم الملائكة )، ولو كنا نقوى على رؤيتهم والله لرأيناهم يطوفون بالحلقة، ( وذكرهم الله فيمن عنده )، وهذه التي تعدل الدنيا وما فيها، أي: أن يذكرنا ملك الملوك، رب السموات والأرض في الملكوت الأعلى، فمن نحن وما نحن حتى يذكرنا؟! ولكن منته علينا، وفضله وإحسانه إلينا، رزقنا الإيمان، وهدانا إلى كتابه وتلاوته ودراسته في أعظم بيت من بيوته، فاللهم له الحمد، وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وها نحن مع قول ربنا جل ذكره بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران:124] منزَلين: اسم المفعول، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ [آل عمران:125-127].
خلاف المفسرين في وقت وسبب نزول هذه الآيات
قول ربنا: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:124]، يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: اذكر يا رسولنا -إذ هو الذي ينزل عليه القرآن ويخاطبه- الوقت الذي تقول للمؤمنين: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران:124]، فهل وقع هذا في أحد أو في بدر؟أهل التفسير منهم من يقول: كان هذا في أحد، لما لم يصبروا ويتقوا حرمهم ذلك، أي: يريدون أن يقولوا: لما كان المؤمنون -أقلية- سبعمائة نفساً والمشركون كذا ألفاً، عند المواجهة طمأنهم الله عز وجل على لسان رسوله، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لم تخافون أو ترتعدون؟ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:124-125]، فلما لم يصبروا ولم يتقوا، ولم يطيعوا أمر رسول الله، ما نزلت الملائكة، وإنما نزلت المصيبة والهزيمة بهم.ولذلك كونها نزلت في بدر أولى؛ لأن المؤمنين كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والمشركين كانوا ألفاً تقريباً، لكن في بداية المعركة أُعلن أن كرز بن جابر المحاربي قد أمد قريشاً بكذا ألفاً من المقاتلين، وهو في الطريق إليهم، فارتعدت نفوسُ المؤمنين، واحتاجوا إلى من يحملهم على الصبر والثبات، فأنزل الله تعالى على رسوله هذه الجمل، فقال لهم -أي: للمؤمنين- في بدر: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ [آل عمران:124] أيها المؤمنون! أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ [آل عمران:124-125]، أي: كرز بن جابر المحاربي ورجاله، مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ [آل عمران:125]، لكن كرز بن جابر فشل وانهزم قبل مجيئه إلى بدر، فمن ثم لم يمدد الله إلا الألف المقاتل من الملائكة كما جاء في سورة الأنفال؛ إذ قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، فهذه الألف نزلت على الخيول مسومة، أي: على رؤوسها ريش أو عمائم صفر كما يفعل المقاتلون؛ ليظهروا وليفزعوا عدوهم، فقاتلت الملائكة، وكان جبريل عليه السلام يقودهم على فرس، وتمت هزيمة المشركين في بدر.واسمع السياق: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:124] لما اضطربوا وقالوا: إن كرز بن جابر المحاربي جاء بآلاف المقاتلين إمداداً لقريش، فقال لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ [آل عمران:124]، أي: ربكم بهذا العدد الذي جاء أو يجيء، أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى [آل عمران:124-125] يمدكم، إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا [آل عمران:125]، والفور من فار القدر، يعني: على الفور بدون تراخي، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125] أي: معلِّمين أنفسهم، فلما عاد كرز ورجع بجيشه ولم يسعف قريشاً في جيشها، ما أنزل الله تعالى الثلاثة ولا الخمسة؛ لأنها بشرط: إن يأتوكم من فورهم هذا، فلما لم يأتوا ما أنزل الله الملائكة.ثم قال تعالى لهم: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ [آل عمران:126]، وإلا لو شاء الله لنصركم بكلمة: انتصروا، ولهزم المشركين بكلمة: انهزموا، لكنها سننه في الخلق، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الذي لا يمانع فيما يريد، الغالب الذي لا يقهر بحال من الأحوال، الْحَكِيمِ [آل عمران:126] الذي يضع كل شيء في موضعه، فالنصر من عنده، ويفعل ذلك، لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، أي: يبيدهم ويهلكهم، أَوْ يَكْبِتَهُمْ ، أي: يذلهم ويهينهم ويعودوا خاسئين أذلا، وقد فعل؛ إذ قتل سبعون وأسر سبعون، وأذل الله المشركين أعظم ذل عرفوه، فرجالاتهم وصناديدهم قتلوا وأسروا.مرة أخرى أعيد الآيات فاسمعوا: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:124]، وكلمة: (للمؤمنين) تعرفون مغزاها؟ أي: الصحيحي الإيمان الصادقين في إيمانهم، وهم الثلاثمائة وعلى رأسهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ [آل عمران:124]، وقال لهم هذا -الرسول- لما ارتعدوا وقالوا: كرز بن جابر جاء بجيش عرمرم يؤيد به أبا سفيان، وهو في الطريق إليهم، فلما رأى الرسول هذه الحال في المعسكر قال لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [آل عمران:124]، أي: ينزلهم الله من الملكوت الأعلى، بَلَى أي: يمددكم، إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ [آل عمران:125]، أما إذا ما صبرتم ولا اتقيتم وهربتم من الآن قبل وصول الإمداد ما يعطيكم شيئاً، إن تصبروا على ملاقاة العدو مواجهته، وتتقوا الله فلا تخرجوا عن نظام الجهاد وما يتطلب من الصبر وعدم الهزيمة. وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125] معلِّمين أنفسهم بعلامات يُعرفون بها، ثم قال لهم لما لم يأت كرز: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، لمَ يفعل هذا؟ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:127]، أو يذلهم ويهينهم ويردهم خائبين، فمن قتل قتل، ومن رجع رجع ذليلاً منهزماً.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
الآن نسمعكم شرح معاني الكلمات أو المفردات كما هي في الكتاب.
شرح الكلمات
قال: [ شرح الكلمات: قوله: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ : الاستفهام إنكاري، أي: ينكر عدم الكفاية -كيف لا يكفي ثلاثة آلاف؟- ومعنى يكفيكم: يسد حاجتكم ] ولا بأس أيضاً أن يكون الاستفهام تقريري؛ لأن (بلى) تدل على هذا، وهو صالح للوجهتين.قال: [قوله: أَنْ يُمِدَّكُمْ أي: بالملائكة عوناً لكم على قتال أعدائكم المتفوقين عليكم بالعدد والعتاد ]، إذ ما مع الرسول إلا فرس واحد.قال: [قوله: الْمَلائِكَةِ: واحدهم ملأك، وهم عباد الله مكرمون مخلوقون من النور، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون ]، وهذا اعتقاد المؤمنين في الملائكة، فهم عباد الله مكرمون، أكرمهم خالقهم، فخلقهم من مادة النور، ولا يعصون الله ما أمرهم، فإذا أمرهم بشيء فعلوا، ولا يعرفون المعصية؛ لأنهم مطبوعون على طاعة الله، فيفعلون ما يؤمرون بفعله.قال: [قوله: بَلَى: حرف إجابة، أي: يكفيكم.مُسَوِّم ينَ: معلمين بعلامات تعرفونهم بها ]، ومعلوم أن الأبطال فيما مضى كانوا يعملون ريشاً على عمائمهم، على رؤوس خيلهم؛ ليظهروا القوة بهذا التسويم والتعليم.قال: [ وقوله: إِلا بُشْرَى لَكُمْ: البشرى: الخبر السار الذي يتهلل له الوجه بالبشر والطلاقة ]، يقال: بشرني فلان بكذا، أي: أخبرني بخبر مفرح وسار فتهلل له وجهي وانطلق، وضده الكآبة والحزن.قال: [ قوله: لِيَقْطَعَ طَرَفاً: الطرف: الطائفة ] من الجيش، قال: [ يريد ليهلك من جيش العدو طائفة ] وقد فعل.قال: [ قوله: أَوْ يَكْبِتَهُمْ: أي: يخزيهم ويذلهم ] يقال:كبته، إذا أذله وأخزاه.قال: [ قوله تعالى: فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ: يرجعوا إلى ديارهم خائبين لم يحرزوا النصر الذي أملوه ] وقد خابوا فعلاً.
معنى الآيات
قال: [ معنى الآيات ] وهي أربع آيات، قال: [ ما زال السياق -أي: سياق الكلام- في تذكير الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما تم لهم من النصر في موقف الصبر والتقوى في بدر ]؛ لأن السياق يحمل المؤمنين على ألا يوالوا الكافرين ولا يودونهم ولا يرهبونهم ولا يخافونهم، إذ إنهم متى صبروا واتقوا فلن يضروهم شيئاً وإلى يوم القيامة.قال: [ فقال: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ عندما بلغهم وهم حول المعركة أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين برجاله يقاتلون معهم، فشق ذلك على أصحابك يا رسولنا، فقلت لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى أي: يكفيكم، إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا أي: من وجههم ووقتهم هذا ]، فلما لم يأتوا ما أنزل الله الملائكة، ما أعطاهم الخمسة ولا الثلاثة؛ إذ قيد هذا بقيد: يأتوكم من فورهم هذا [ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ بعلامات وإشارات خاصة بهم، ولما انهزم كرز قبل تحركه وقعد عن إمداد قريش بالمقاتلين، لم يمد الله تعالى رسوله والمؤمنين بما ذكر من الملائكة، فلم يزدهم على الألف الأولى التي أمدهم بها لما استغاثوه في أول المعركة؛ إذ جاء ذلك في سورة الأنفال في قول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ] أي: تطلبون الغوث والغياث، ونحن نسمع دائماً العوام يقولون: فلان يستغيث بسيدي فلان، وهذه استغاثة الضلال والهابطين، فيقولون: يا سيدي يا فلان أنا في كذا، جئتك من كذا، أنا في حماك، أغثني، اسأل الله لي، مع أن الاستغاثة لا تكون لغير الله؛ لأنه لا يقدر عليها إلا الله، فالضائع الذي يأتي إلى ضريح، أو إلى قبر، أو إلى شجرة، أو إلى مقام ويصرخ: يا سيدي فلان، أنا في كذا، أنا في حماك! لو وقف ألف سنة والله ما أُغيث، ولا يسمعه من يستغيث به، لا فاطمة ولا رسول الله ولا فلاناً ولا علاناً، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أعلمنا إلا بشيء واحد، وهو أن من سلم عليه في قبره رد الله عليه روحه ليرد السلام عليه، أما أن تقول: يا رسول الله امرأتي مريضة! يا رسول الله ولدي فصلوه من العمل! كل هذا هراء وباطل. وللأسف نجد الضلال والجهال يقفون أمام الأضرحة: أعطني، افعل لي كذا.. وهذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام المحنة في الروضة، والمشركون يناوئونهم، والمنافقون يكيدون لهم، واليهود ينابذونهم العداء، فتململوا وقالوا: هيا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم -الاستغاثة جائزة- أي نقول له: يا رسول الله، خلصنا من هذه الفتنة، فسمعهم صلى الله عليه وسلم وهم يقولون ذلك، فأعلن صوته من وراء الستار فقال: إنه لا يستغاث إلا بالله، إنه لا يستغاث إلا بالله، استغيثوا بربكم، أي: اطلبوا منه تعالى الغوث يغثكم، فهل استغاث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بربهم أم بنبيهم؟ بربهم. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال:9] أي: خالقكم ورازقكم، وهاديكم إلى هذا النور، ومعطيكم هذا الكمال.قال: [ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فهذه الألف هي التي نزلت فعلاً وقاتلت مع المؤمنين، وشوهد ذلك وعلم به يقيناً، أما الوعد بالإمداد الأخير فلم يتم ] لم؟ قال: [ لأنه كان مشروطاً بإمداد كرز لقريش، فلما لم يمدهم لم يمد الله تعالى المؤمنين، فقال تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ أي: الإمداد المذكور، إلا بشرى للمؤمنؤن تطمئن به قلوبهم، وتسكن له نفوسهم، فيزول القلق والاضطراب الناتج عن الخوف من إمداد كرز المشركين بالمقاتلين، ولذا قال تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ العزيز، أي: الغالب ] الذي لا يمانع في شيء أراده، قال: [ الحكيم: الذي يضع النصر في موضعه، فيعطيه مستحقه من أهل الصبر والتقوى، لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وقد فعل، فأهلك من المشركين سبعين ] صنديداً، قال: [ أو يكبتهم، أي: يخزيهم ويذلهم، إذ أسر منهم سبعون ] منهم: عقبة بن أبي معيط، فقد أُسر هذا الخبيث وقتل في الطريق، وهو الذي جاء بسلا الجزور -مذبوحة عند الصفا- بقيوحها ودمائها فوضعه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد يصلي حول الكعبة، والمشركون والله يضحكون حتى وقعوا على الأرض، وإذا بجويرية كلؤلؤة تمشي، وهي فاطمة بنت خديجة بنت محمد صلى الله عليه وسلم الهاشمية، فأزالت السلا عن أبيها ونظرت إلى المشركين فسبتهم ولعنتهم، إذ إنهم لا خير فيهم ولا مروءة، أيرضون هذا بنبيهم صلى الله عليه وسلم؟! فما استطاعوا أن يتكلموا بكلمة واحدة؛ لأنها طفلة صغيرة، فهبطوا وخابوا وخسروا.قال: [ وقد فعل -جل جلاله وعظم سلطانه- فأهلك من المشركين سبعين، أو يكبتهم، أي: يخزيهم ويذلهم؛ إذ أُسر منهم سبعون، وانقلبوا خائبين لم يحققوا النصر الذي أرادوه ].وإليكم الآيات مرة أخرى، فاسمع يا عبد الله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: في بدر، والذي يخاطبهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إنه يقول لهم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:124-125]، فلم يمددهم ربهم بِخمسة آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَة؛ لأنه ما تحقق الشرط، وهو أن يأتوكم من فورهم هذا، أي: ما جاء كرز ولا رجاله، إذاً فلا داعي إلى إنزال الملائكة، أما الألف الأولى التي سألوا الله وأعطاهم فهي موجودة معهم يقودها جبريل عليه السلام. بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا ، ليس معناها: أنه قد يمدنا بخمسة آلاف، وبالتالي فلنفرح ولنستبشر، بل لا بد من الصبر على طاعة الله ورسوله، والتقوى الملازمة لذلك، إذ لو ما صبروا واتقوا وجاء كرز برجاله والله ينهزمون؛ لأنه لا يمدهم الله إلا بهذا الشرط: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:125-126]، العزيز يقدر على النصر، وهو الغالب الذي لا يغلب، الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه. لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ [آل عمران:127] أي: ذليلين خاسرين.
هداية الآيات
بعد معرفة معنى الآيات، هيا نستنبط ونستخرج منها درراً نتزين ونتحلى بها، نستخرج منها مبادئ سياسية وعسكرية؛ لأننا عرضة للحرب من الإنس والجن، فنحن في حاجة إلى الهداية الإلهية، فلا توجد آية خالية من الهداية، إذ ما أنزلها الحكيم إلا لحكمة.قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ من هداية الآيات:أولاً: بيان سبب هزيمة المسلمين في أحد، وهو عدم صبرهم، وإخلالهم بمبدأ التقوى، إذ عصى الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا من الجبل يجرون وراء الغنيمة، هذا على تفسير أن الوعد بالثلاثة آلاف وبالخمسة كان بأحد -كما قدمت لكم- وكان الوعد مشروطاً بالصبر والتقوى، فلما لم يصبروا ولم يتقوا لم يمدهم بالملائكة الذين ذكر لهم ]، واذكروا كلمة علي بن أبي طالب : القرآن حمال الوجوه، فالآية في أحد وفي بدر، أي: أنها نزلت في أحد ثم نزلت في بدر تذكرهم بها، وذلك لما خافوا من كرز ورجاله، فالقرآن حمال الوجوه؛ لأنه موجز مختصر، إذ لو كان القرآن كالتفسير لم يحفظه أحد ولم يحمله أحد.مرة أخرى: قال: [ بيان سبب هزيمة المسلمين في أحد ]، ما سبب هزيمتهم؟ [ وهو عدم صبرهم، وإخلالهم بمبدأ التقوى، إذ عصى الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، وكانوا خمسين رامياً [ ونزلوا من الجبل ] لما شاهدوا المشركين هاربين تاركين أموالهم وغنائمهم، فقالوا: نحن أيضاً ندخل مع إخواننا ونحصل على الغنائم، ونسوا قول الرسول: ( لا تبرحوا مكانكم هذا، لنا أو علينا )، ولولا أنه أدبهم وهزمهم لكانوا في أية معركة -وأمامهم معارك إلى يوم القيامة- يقولون: ما دام الله قد أمرنا فانفعل كذا.يذكر الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار -وهو يفسر هذه الآيات- أنه رأى في المنام أن النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته وهو راجع من أحد، والمسلمون وراءه في كرب وهم وحزن، والرسول يقول: لو خيرني ربي بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة؛ لأنهم لو انتصروا مع عصيانهم للرسول وخروجهم عن الطاعة والآداب لاتخذوا هذا سلماً، وفي كل معركة لا يبالون إذا عصوا القيادة وخرجوا عن طاعتها. قال: [ ثانياً: النصر وإن كانت له عوامله ]، ومن هذه العوامل: [ من كثرة العدد وقوة العدة، فإنه بيد الله تعالى ]، إذ إن الله تعالى قال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]. قال: [ فقد ينصر الضعيف ويخذل القوي ] كما فعل في بدر، فقد نصر الضعفاء وخذل الأقوياء.قال: [ فلذا وجب ]، ماذا وجب علينا؟ [ تحقيق ولاية الله تعالى أولاً ] قبل أن نقاتل اليهود أو البريطانيين أو الروس، قبل أن نقاتلهم يجب أن نحقق ولاية الله أولاً، فهل نحن أولياء أو لا؟ إن وجدنا أنفسنا أولياء الله حينئذ نقاتل، وإن لم نحقق ولاية الله، وملكنا الهيدروجين والذرة والصواريخ ما انتصرنا، ولا تقولوا: ماذا هناك؟! نحن أقوى منهم فلنقاتلهم، فأقول: هل قد انتصرنا على اليهود؟ هذه الشلة الهابطة التي هي من أذل الخلق، إذ لا أذل منهم إلى اليوم، إذا انتهر الجزائري يهودياً في بيت فإنه يهرب، وقد عرفنا هذا من العمال، ووجدتُ ذلك أيضاً في دولة فرنسا، فإذا اختلف اليهودي مع الجزائري، وانتهر الجزائري اليهودي والله يذل ويهرب، وصدق الله إذ يقول: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة:61]، فمن يمح هذه الذلة، من يزيلها؟ لكن على شرط أن نكون أولياء الله، فهل العرب والمسلمون أولياء الله؟ فلنسأل، وهيا بنا نمشي إلى القاهرة المعزية، إلى دمشق، إلى بغداد، إلى كراتشي، إلى مراكش وغيرها من البلدان الإسلامية، ونسأل أهل البلاد ونقول لهم: من فضلكم دلونا على ولي من أولياء البلاد، والله ما يدلونكم إلا على ضريح أو قبر، ولا يفهمون ولياً حياً بين الناس، وإنما كلهم أعداء الله! فلا إله إلا الله!كذلك تدخل أي مدينة وتقول لمن تلقاه في أول الطريق: أنا جئت أريد أن أزور ولياً من أولياء الله، والله ما يعرف ولياً في تلك العاصمة إلا ميتاً، وعليه قبة خضراء أو بيضاء، والأزر التي يضعونها على قبره، والناس عنده عاكفون راكعون! فهذا هو الولي عندهم.إذاً: حققنا عملياً أننا لسنا بأولياء، والبرهنة على ذلك: كيف يذلنا اليهود ويقهروننا وهم لا يساوون واحداً إلى ألف، ولا أعني بهذا أنه لا يوجد بيننا ولي لله تعالى، بل يوجد أفراد، لكن الأمة التي قاتلت اليهود ما فيهم أولياء، ولذلك حقق الولاية ثم قاتل الأبيض والأصفر، أما وأنت لا ولاية لك مع الله فكيف ينصرك؟! حتى لو كنت أكثر منه عدداً وعدة؛ لأنه إذا نصرك معناه أنه قد خانك وغشك، والمؤمنون في أحد بعدما عصوا لو نصرهم الله لغشهم وخانهم.قال: [ النصر وإن كانت له عوامله من كثرة العدد من المقاتلين، وقوة العتاد والعدة، فإنه بيد الله تعالى، فقد ينصر الضعيف ويخذل القوي، فلذا وجب تحقيق ولاية الله ]، لما كان النصر قطعاً بيد الله وجب تحقيق ولاية الله حتى ينصرنا، وإن لم نحقق ولاية الله، فنسبه ونكفر به ونشرب الخمر ونتعاطى المحرمات، ثم نقاتل اليهود واليونان! والله ما ننتصر، وهذا هو الواقع، فكم من معركة دارت بين العرب واليهود في سنوات متعددة ولم ينتصر فيها العرب، ولم يطردوا فيها اليهود، بل آخر ضربة احتلوا فيها مدينة القدس.قال: [ فلذا وجب تحقيق ولاية الله تعالى أولاً قبل إعداد العدة، وتحقيق الولاية يكون ] بماذا؟ هل لأنه مسلم؟ لا، وإنما تحقيق الولاية يكون بالإيمان الحق الذي دائماً نقول: اعرضه على القرآن، فإن وافقه وأمضاه فهو إيمان وإلا فهو ضلالة، أيضاً بالصبر، والصبر حبس النفس حتى لا تعصي الله ورسوله، لا بترك واجب ولا بفعل حرام، والصبر على الابتلاء والامتحان الإلهي، فإذا ابتلاك وامتحنك إنما ليرفعك، وليهيئك للكمال.قال: [ وتحقيق الولاية يكون بالإيمان والصبر والطاعة التامة لله ولرسوله، ثم التوكل على الله عز وجل ].قال: [ ثالثاً: ثبوت قتال الملائكة مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر قتالاً حقيقياً -والله العظيم-لأنهم -أي: الملائكة- نزلوا في صورة بشر يقاتلون على خيول، وعليهم شاراتهم وعلاماتهم، ولا يقولن قائل: الملك الواحد يقدر على أن يهزم ملايين البشر، فكيف يعقل اشتراك ألف ملك في قتال المشركين وهم لا يزيدون عن الألف رجل -إياك أن تقول- وذلك أن الله تعالى أنزلهم في صورة بشر، فأصبحت صورتهم وقوتهم قوة البشر، ويدلك على ذلك ويشهد له: أن ملك الموت -ملك الموت عما قريب سيزورنا- لما جاء موسى في صورة رجل يريد أن يقبض روحه ضربه موسى عليه السلام ففقأ عينه، وعاد إلى ربه ولم يقبض روح موسى عليهما معاً السلام. من رواية البخاري ].إذاً: لما ينزل الله الملائكة في صورة بشر، تصبح طاقاتهم وقدراتهم قدرة البشر، لكن لو أنزل الملائكة في صورتهم الحقيقية فإن الواحد منهم سيقلب مدناً على ظهرها، والدليل القاطع على ذلك: لما جاء ملك الموت عزرائيل عليه السلام في صورة إنسان إلى نبي الله موسى عليه السلام ليمتحنه، فقال له الملك: أنا ملك الموت جئت لقبض روحك -وموسى كما تعرفون طويل وقوي، فقد لَكَم مرة قبطياً حتى قتله، ثم تاب إلى الله واستغفره- ففقأ موسى عين الملك، وعاد الملك يبكي إلى الله، وقال: يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فقال له الله: ارجع إليه وقل له: إن ربك يقرؤك السلام، ويقول لك: إذا كنت لا تريد الموت فضع يدك على مسْك ثور -أي: جلد ثور- ولك بكل شعرة عاماً، ثم عرف موسى وقال: ثم ماذا؟ فقال ملك الموت: ثم الموت، فقال موسى: إذاً الآن، وسلَّم نفسه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لو كنت بصحراء سيناء لأريتكم قبره عند كثيب الرمل في المكان الفلاني.وبالتال كيف تردون على من قال: إن هذه خرافة؟! كيف ألفاً من الملائكة يقاتلون ألفاً من المشركين؟ والجواب: أن الله أنزلهم في صورة بشر، وبالتالي فهم في طاقة بشر، وفي قدرة بشر، سواء بسواء، والدليل على ذلك مجيء ملك الموت -على جلالته- في صورة إنسان لقبض روح موسى عليه السلام، ففقأ موسى عين الملك. وصلى الله على نبينا محمد.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (51)
الحلقة (192)
تفسير سورة آل عمران (56)
إن الله عز وجل مستقل بالأمر كله، فليس لأحد من خلقه تصرف في شيء إلا أن يأذن الله عز وجل به، ولو كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد تعرض للأذى الشديد من المشركين في أحد، فداخله الأسف على ذلك، فبين له الله عز وجل أنه ليس له من الأمر شيء، بل الأمر كله بيد الله إن شاء رحمهم وأدخلهم في الإيمان، وإن شاء أبقاهم على الكفر فاستحقوا العذاب يوم القيامة.
تفسير قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال-فداه أبي وأمي والعالم أجمع-صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وها نحن مع هذه الآيات الخمس، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:128-132]. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] هذه الجملة موجهة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد والمجاهد والمدير للمعركة والمبلغ، قد انتزع الله منه هذا، فقال له: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، فهل بقي من الناس من يزعم أن له شيئاً في القول أو العمل؟ كل شيء لله.وهذا لما شُج وجهه صلى الله عليه وسلم، وسقطت رباعيته، وأوذي في أنفه، وكان يكمِّد الجراحات، فقال عليه الصلاة والسلام: ( كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا؟ ) ودماؤه تسيل، وجراحاته تؤلمه، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، فقال بعدها عليه الصلاة والسلام: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ). لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ يا رسولنا، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ويدخلون في رحمة الله، أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].
تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض...)
قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:129].قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:129] خلقاً وملكاً وعبيداً، وليس لغير الله في الملكوت الأعلى والأسفل من له شيء مع الله، بل ولا إبرة، إذ كل ما في الملكوت العلوي والسفلي من الكائنات هو ملك لله عز وجل، وكيف لا وهو خالقه وصانعه وموجده، ثم أيوجد الشيء ويخلقه ثم يكون لغيره؟! إن هذا الغير مخلوق لله مربوب، فالله أوجده وخلقه، إذاً وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ من الكائنات كلها. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، يغفر لمن يشاء من عبيده الذين أنابوا إليه، وتابوا ورجعوا إليه، ويعذب من يشاء ممن أصروا على الكفر والعناد والشرك والظلم والحرب ضد الإسلام، ومع هذا لسنا كالمعتزلة، فيغفر لمن يشاء أن يغفر له، وليس هناك سلطة فوق سلطة الله بأن تلهمه بأن يغفر أو لا يغفر، أو يعذب أو يرحم، إذ له الخلق والأمر، قال عمر : من بقي له شيء فليطلبه، أي: كل الكائنات قائمة على الخلق والأمر، فالله هو الخالق والآمر والمدبر، فمن بقي له شيء فليطلبه. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، لكن علَّمنا أنه يغفر لمن رجع إليه، وتاب من ذنبه، وتخلى عن باطله، وابتعد عن كفره وشركه، وعد الصدق يعدهم الله أن يغفر لهم، وأوعد أيضاً من أصر على الشرك والكفر والظلم وحرب المسلمين بأنه يعذبه، ويبقى المؤمنون العاملون للصالحات إذا خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فالله عز وجل يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ولا نجزم بأن كل مؤمن ارتكب كبيرة من الذنوب ولم يتب منها، أن الله يغفر له، إذ لا يقول هذا ذو إيمان وعلم ومعرفة، وإنما يُترك الأمر لله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، والذي نجزم به عقيدة: أن أهل التوحيد أو أهل الإيمان إذا قارفوا الذنوب، وغلبت سيئاتهم حسناتهم، وطغت عليها، ثم أدخلوا النار، فإنهم يعذبون فيها، فإن وعد الله لهؤلاء أن يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة.إذاً: أهل الإيمان الحق، أهل التوحيد الصحيح الذين ليس في قلوبهم غير الله، إن زلت أقدامهم، وارتكبوا الكبائر من الذنوب، ثم دخلوا بها النار، فحسب قانون الله وسنته، أن وعد الله على لسان رسوله أن يخرجهم من النار ويدخلهم الجنة دار الأبرار، وأما من مات على الكفر والشرك، فقد أخبر تعالى-وخبره الصدق الحق-أنهم في النار خالدون، لا يخرجون منها أبداً. فليهنأ المؤمنون الصادقون أنهم مهما ارتكبوا من الكبائر واستوجبوا العذاب ودخلوا دار الشقاء فإنهم يخرجون ويدخلون الجنة، فلا بد من فهم هذا من قوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، وختم ذلك بقوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:129]، (غفور) على وزن فعول، أي: كثير المغفرة، كسئول بمعنى: كثير السؤال.إذاً: ثقوا بأن الله يغفر الذنوب، وإلا فهذا الاسم وهذا الوصف -غفور- كيف يظهر؟! أيسمي نفسه غفوراً وهو لا يغفر؟! مستحيل، ورحيم أيضاً فيرحم المعذبين الذين استوجبوا العذاب أو ذاقوه، ولن يستطيع كائن من كان أن يقول: فلان قد غفر الله له! أو فلان سيعذبه الله! وإنما يُترك الأمر لله. وأما حكمه على أهل الكفر أنهم خالدون في العذاب والشقاء، فهذا يجب أن يكون عقيدة كل مؤمن ومؤمنة، وإلا فقد كذَّب الله عز وجل.وأما خروج أهل التوحيد من النار بعد أن يعذبوا فيها أحقاباً أو دهوراً، فكذلك عقيدة المؤمنين، فالله عز وجل يخرج الذين ما عبدوا غيره ولا عرفوا سواه، ولكن غلبتهم دنياهم أو شهواتهم أو شياطينهم، فزلت أقدامهم فارتكبوا الكبائر من الذنوب، كأن قتلوا نفساً مثلاً، فهؤلاء إذا كانت سيئاتهم أكثر من حسناتهم فإنهم يدخلون النار، ويخرجون منها بإيمانهم وصالح أعمالهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]، فلا تبكِ إلا على أخيك إذا مات على الشرك، مات على الإلحاد، مات على الكفر، مات على تكذيب الله ورسوله؛ لأن هذا قد فرغ منه. ثم بعد هذا جاء هذا النداء في استطراد عجيب؛ لأن البلاغة تقتضي أن المتكلم أو الخطيب أو غيرهما ما يسترسل في أحداث يمل السامعون، بل لا بد وأن يستطرد حادثة أخرى؛ لتستأنس النفوس وتقبل القلوب.فالآن نحن مع أحداث أحد وبدر من عدة أيام، وهذه الآيات خاتمة، وقلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا؟ )، فقال الله له: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، ثم قال بعدها عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )، فعاد صلى الله عليه وسلم إلى الصواب بتوجيه الله وهدايته له.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة...)
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130].
دعوة المؤمنين للخروج من الربا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:130] لبيك اللهم لبيك، يا أيها السامعون! من كان لديه قليل من المال في البنك الفرنسي السعودي، أو في البنك الأمريكي السعودي، أو في البنك الأهلي، يعزم الليلة على أنه في غدٍ الساعة الثامنة يكون عند باب البنك، يأخذ حقه من المال، فإن وضع خمسين ألفاً أخذها بدون زيادة أو فائدة؛ لأنها لا تحل له ولا لهم، وحينئذ يصبح أخونا قد استجاب لله، وإن أصر فالله يقول: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، قالت العلماء في هذه الجملة: في هذا إشارة إلى أن المستحل للربا، أي: الذي يعتقد حليته ولا يرى حرمته، ولا يثق فيمن يقول: حرام، أنه ارتد وكفر، وهذه قاعدة عامة في كل من استحل محرماً مجمعاً على تحريمه بين المسلمين، أنه قد ارتد وخلع ربقة الإسلام من عنقه بلا خلاف، وعليه فكل من اعتقد حلية محرماً مما حرم الله، واستعمله وقال: لا حرمة عندنا ولا حلال، فقد ارتد وكفر بالله.
قول أهل العلم في قول الله تعالى: (أضعافاً مضاعفة)
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] قال أهل العلم: هذه الصيغة خرجت مخرج الغالب، إذ ليس معناه أنه إذا كان قليلاً فلا بأس أن تأخذه وتأكله، ثم تقول: الآية تقول: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، لا، فهذا خرج بحسب الواقع؛ لأن الرجل يكون في حاجة إلى مال، فيأتي إلى أخيه فيقول له: أقرضني إلى الحج، أو إلى الحصاد، أو إلى أن تعود القافلة الفلانية، فيعطيه قرضاً حسناً، فإذا جاء الوقت وما استطاع أن يسدد، يقول لمن أقرضه: أخرني وزد عليّ، فيقول: أخرناك سنة أخرى وزدنا عليك عشرة أو عشرين أو كذا، فهذا هو ربا الجاهلية، أي: أخر وزد، ويسمى ربا النسيئة، أي: التأخير والتأجيل، وهذا الذي نزل به القرآن فأبطله ومحا أثره بين العرب والمسلمين قروناً.
الفرق بين ربا الجاهلية وربا المعاصرين اليوم
ثم جاء اليهود بعدما استولوا على مصادر العيش والرزق في العالم، فأعلنوا عن الربا بوضوح، وذلك حتى لا تبقى سلفة ولا رحمة ولا إخاء ولا إحسان أبداً، ووضعوا هذا الربا، وحال لسانهم يقول: اتركوا البشرية كالحيات تأكل بعضها بعضاً، بينما ربا الجاهلية أرحم بكثير من ربا اليهود والحضارة الغربية؛ لأن ربا الجاهلية-كما علمتم-تستقرض من أخيك إلى ستة أشهر أو سنة، فإذا عجزت تقول: أخرني وزد عليّ، أما ربا اليهود اليوم فمن أول يوم استلفت عشرة آلاف يحسبونها تسعة، فيعطونك تسعة وفي ذمتك عشرة، وإن استقرضت مائة ألف يعطونك خمسة وتسعين ويكتبون عليك مائة ألف، فإن سئلوا: لمَ تفعلون هذا؟ قالوا: نخشى أنه ما يرد، ومن ثم نخصم عليه من الآن.ومن ثم انتشر الربا في أوروبا أولاً، ثم انتقل إلى العالم حتى لا تبقى رحمة ولا أخوة ولا ود ولا صداقة، والأسرة الواحدة كأن كل واحد منهم من عائلة أخرى، بل من إقليم آخر، وهذا كله من صنع بني عمنا اليهود، وللأسف أننا مددنا أعناقنا إليهم، وقبلنا توجيهاتهم وإرشاداتهم، وقبلنا هذا لما هبطنا، لما أصبح فينا من لا يعرف الله، ولا ما عند الله، ولا ما لدى الله، فضعف الإيمان وتخلخل في النفوس، وما أصبح هناك مودة ولا إخاء، ولا حب ولا صفاء، وبالتالي ماذا نصنع؟ أقبلنا على الربا، مع أن الربا جاءت فيه وعود من الكتاب والسنة لا تُطاق.إذاً: معاشر المؤمنين والمؤمنات! من سبق له أن تورط فليخرج من الورطة، وليتوكل على الله، وليسحب نقوده من البنوك الربوية، ومن لم يقع في هذه الورطة فليحمد الله، وليكثر من حمد الله، وليدع لإخوانه أن ينجيهم الله أيضاً، وأن يخرجهم من هذه الفتنة.
سبب وجود الربا في بلاد المسلمين وكيفية الخلاص منه
معشر المستمعين والمستمعات! إن الربا سببه انحرافنا، وفقدنا لصلتنا بربنا، فأصبحنا كالبهائم، أصبحنا نستلف ولا نرد السلفة، نستقرض من إخواننا ولا نرد قرضاً، نعد ولا نفي بوعد، أسرفنا إذا عندنا الدينار والدرهم، نأكل بلا حساب، ونشرب بلا حساب، ما عرفنا الاقتصاد والصبر أبداً، فلما هبطنا جاءنا البديل وهو البنك فقط، إذاً فما المخرج؟ أصبح هذا المخرج عندنا كالشمس، وهو أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، وأن يصبح أهل الحي من أحياء المدن كأنهم أسرة طاهرة، ويصبح أهل القرية كأنهم أسرة طاهرة؛ وذلك بإقبالهم على الله في صدق، فيجتمعون في مسجدهم الجامع - الذي وسعوه حتى أصبح يتسع لأفراد الحي- كلهم رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، فإذا مالت الشمس إلى الغروب، أوقفوا دولاب العمل، فالفلاح رمى بمسحته ومنجله، والتاجر أغلق باب دكانه، والصانع رمى بالحديدة من يده، فتطهروا وتوضئوا، وجاءوا مقبلين على ربهم في بيته، فيصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون كما جلسنا هذا الجلوس، النساء من وراء الستارة، والفحول أمامهن، والأطفال بينهما، ويتعلمون الكتاب والحكمة كما نتعلمها، ليلة آية وليلة أخرى حديثاً، ووالله ما تمضي سنة إلا وهم أولياء الله، وسلوني عما يحدث في هذه السنة، لم يبق مظهراً للسرقة، ولا للبخل، ولا للشح، ولا للترف، ولا للحزن، ولا للكرب، وإنما تغيرت طباعهم، وزكت نفوسهم، وطابت أرواحهم، فتعيش في تلك القرية سنة لا تسمع كلمة سوء، ولا تشاهد منظراً يغضب الله ورسوله والمؤمنين، وإنما تجد الوفاء والصدق والرحمة والأخوة، ووالله ليفيض مالهم، وعند ذلك ماذا يصنعون به؟ فأكلهم محدود، وشرابهم محدود، ونومتهم محدودة، وعملهم محدود، بل كل حياتهم منظمة تنظيماً دقيقاً، فهل يبقى حينئذ الربا؟ هل يبقى حينئذٍ من يحتاج إلى المال؟ الجواب: لا.هذا هو الطريق، وبدون هذا لو أن الحكام رفضوا البنوك وأغلقوها لأوجدنا في بيوتنا بنوكاً أخرى، وذلك أننا عرفنا عجائز يفعلن هذا، فتمشي إلى العجوز فتقول لها: يا عمتي، تقول لك: أعطني كذا، نعطيك كذا، إذاً فما هو الحل؟ الحل أن نسلم قلوبنا لله، فلا هم لنا إلا رضا الله، ونسلم وجوهنا إليه، فلا نقبل إلا على الله، ويتبع ذلك جوارحنا، فألسنتنا لا تنطق بما لا يرضي الله، أرجلنا لا تمش حيث يسخط الله، أيدينا لا تمتد حيث لا يرضى الله، وهذا والله لهو الحق المبين، وهذا ما يتم بالكرباش ولا بالسحر، وإنما يتم بالطريقة التي سلكها رسول الله والمؤمنون، أي: أن نتعرف على الله، فتمتلئ قلوبنا بحبه وخشيته.والآن نحن في هذه الفوضى سلوا الذين يسلفون إخوانكم: هل ردوا عليهم أموالهم؟ لا يراه طول العام، وقد جربنا هذا والحمد لله تجربة كاملة، وما أظن في حياتي رد عليّ في الوقت المحدد إلا واحداً فقط! إذاً: ما المخرج يا عباد الله؟! هل نبقى هكذا نهبط فقط؟ هيا يا أهل حي بني فلان، من غدٍ نجتمع في بيت ربنا، ولا يتخلف رجل ولا مرأة ولا طفل، وإذا ما اتسع بيت الله نفرش السجادة ونجلس عند الباب، ونعزم على تزكية نفوسنا، وتطهير أرواحنا، وذلك من طريق الكتاب والحكمة، قال الله وقال رسوله، ويجلس لنا رباني عليم بشرع الله، فيأخذ معنا ويهذبنا ويطهرنا وينمي معارفنا ويزيد في كمالاتنا، وكل يوم ونحن نشعر بزيادة من الخير، وفي خلال أربعين يوماً فقط نصبح نعجز أن نغادر المسجد، بل ما تقوى على أن تبقى في الدكان أو في البيت، وهذه سنة الله، أما في خلال سنة فسيصبح أهل الحي كأنهم رجل واحد، يتقاسمون الخير والخيرات على حد سواء.فهل هناك طريق غير هذا؟ نستعمل الإنجيل؟! السحر؟! أو نأتي بعصا هتلر وكل باب أمامه شرطي بالعصا؟! والله ما ينفع، وأقسم بالله أنه لا طريق إلا هذا، أي: أن نصدق ربنا في إسلامنا له، ومن ثم والله لتبحث عن من تعطيهم النقود الفائض عنك، وراتبك كفاك وأنت مقتصد وزاد، وعند ذلك تتمنى أن يأتي إليك مؤمن يقول لك: أقرضني كذا، أو هيا نفتح دكاناً، أو ننشئ مزرعة؛ لما تعلم من صدق أخيك، إذ إنه يرضى أن يقتل ويصلب ويحرق، ولا يرضى أن يخون أو يكذب أو يغتال أو يخدع، وهذا هو المؤمن، إذاً: نحن في حاجة إلى عودة جديدة إلى الإسلام. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:130] لبيك اللهم لبيك! لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، وأصل المضاعفة كانت جارية بها العادة في ربا الجاهلية، خلاف ربا العلمانية اليوم، إذ إنه أفظع وأعظم، بينما ربا الجاهلية تأتي إلى أبي جهل عمرو بن هشام، أو إلى عقبة بن أبي معيط فتقول له: الآن موسم تجارة كذا، فأقرضنا عشرة آلاف درهم، وموعدنا نهاية الموسم، فيعطيك عشرة آلاف، ثم يأت الموسم ولم تستفد أو تربح، فتأتي فتقول: يا عقبة! الأمر لك، إن شئت أخر وزد، أما الآن ما عندي شيء، فيقول: نؤخرك إلى عام آخر ونزيد عشرة! كذلك تمشي إلى أبي سفيان فتقول له: نريد خمسة من الإبل نتجر عليها أو نركب عليها، وفي الحج المقبل نأتيك بها، ثم أخذت الإبل ومشيت، وشاء الله أن ضاعت أو ماتت، ثم جاء الوقت المحدد، فماذا تقول؟ لصدقك وكرامتك تقول: يا أبا سفيان! أخر وزد، أجلني سنة وزد ناقة أو كذا، فهذا هو ربا الجاهلية.أما ربا المعاصرين، ربا البنوك اليهودية، تأتي إلى البنك فتقول: نريد مائة ألف ريالاً، فيسجل عليك مائة ألف ويعطيك خمسة وتسعين! ولا يعطيك مائة ألف ثم يقول لك: ردها مائة وعشرة، فأي الربا أفضل وأهون؟! ربا الجاهلية؛ لأن جهَّال العرب كانوا أكرم الناس، وكانوا أرحم الخلق، وهذا الربا المعاصر ربا اليهود الذين ينظرون إلى الإنسان كوسَخ، سواء كان أسبانياً أو إيطالياً أو بريطانياً، إلا اليهودي، إذ إنهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار، ولهم الحق في الحياة، وكل البشر أوساخ ونجس، فيحتالون على إفسادهم، على تعذيبهم ما استطاعوا، لكن لعجزهم وعدم قدرتهم يتلوَّنون، ومع ذلك الآن استطاعوا أن يسودوا العالم بأسره بالربا.فهيا نعصيهم، ولا نستطيع ولا نقدر على ذلك حتى يعود نور الإيمان إلى قلوبنا، ونصبح نرجو الله والدار الآخرة، وفي ذلك الوقت نستغني عن الحثالات والفضلات، والأطعمة والألبسة الزائدة، فلا نحتاج إلى أن نستقرض، وإنما نكتفي بقرص العيش أو بحفنة التمر.
معنى قوله تعالى: (واتقوا الله لعلكم تفلحون)
وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:130] أي: خافوا الله، لا تعصوه، لا تأكلوا الربا، لا تتعاطوه، لا ترضوا به، لا تقروه. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130] رجاء أن تفلحوا، والفلاح في الدنيا أن تطهروا وتطيبوا وتصفوا وتزكو نفوسكم، وتسعدوا بالإخاء والمودة والطهر والصفاء والعزة والكمال في الدنيا، فلا ذل ولا إهانة ولا فقر ولا بلاء، وتنجوا من مخططات الكفار والماكرين والكائدين من اليهود والنصارى والمشركين، والفلاح في الآخرة أن تزحزحوا عن عالم الشقاء وتدخلون الجنة دار السلام.فاتقوا الله وأغلقوا أبواب الربا، واحذر يا عبد الله أن يراك الله أمام بنك، إلا إذا كنت في بلاد المسلمين، فعرفوا أن في جيبك ألف ريال قتلوك من أجلها، أو في غرفتك هدموها عليك، ففي هذه الحال نقول: ضعوا أموالكم في البنوك لتحميها، ولكن لا تقبلوا فائدة أبداً مهما احتجتم، بل لا تأخذوا فلساً واحداً؛ لأنه حرام. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، هذا الفلاح دنيوي وأخروي والله العظيم، فدنيوي أن يصبح أهل البلاد أو أهل القرية وكأنهم شخص واحد، ولاء وحب وتعاون، وطاعة وإحسان وبر-فإنها سعادة وأي سعادة-فتمشي تجاهد أربعة أشهر لا تخاف على امرأتك ولا على مالك ولا أولادك؛ لأنهم بين إخوانك، يحمونك أكثر مما يحمون أنفسهم، سعادة فلاح في الدنيا بذهاب المخاوف وحصول الأمان والسعادة، وفلاح في الدار الآخرة بالزحزحة عن النار ودخول الجنة، وهذا توجيه الله عز وجل. أما بالنسبة لشركات التأمين، فإذا كانت تؤمن أموالها في البنك، ولا تأخذ فائدة عنه فلا بأس كما قدمنا، وأنت إذا أُمرت أن تأخذ نقودك من البنك الفلاني فلا يضرك ذلك، ونحن قلنا: لا يراك الله عند باب بنك، يعني: تودع وتستلف وتأخذ، وهذا هو مراد المتكلم.
تفسير قوله تعالى: (واتقوا النار التي أعدت للكافرين)
قال تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، أُعدت: أُحضرت، هيئت، وجدت بالفعل، ما تُعَدُّ في المستقبل، فهي موجودة قبل الأرض، وقد أعدت للكافرين بالله وبلقائه وبكتابه وبرسوله وبدينه وبتحليل ما أحل وبتحريم ما حرم. قال أهل التفسير: في هذه الجملة إشارة إلى أن المستبيح للربا كافر، ومعنى المستبيح: أن يقول: ليس هناك حرام، اتركونا من هذا، بخلاف من يقول: حرام وأستغفر الله، فهذا ما يكفر أبداً، فهو يستغفر ويندم، ويجيء يوم يترك المنكر الذي يفعله، أما إذا قال: دعونا من هذا، ليس هناك حرام، فهذا ارتد وكفر وإن صام وصلى.
تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون)
قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132].قوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران:132] محمداً صلى الله عليه وسلم، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، هذه توجيهات الله رب العالمين لهذه الأمة الطاهرة، فأطيعوا الله في أمره ونهيه، والرسول أيضاً في أمره ونهيه وتوجيهه؛ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، أي: يرحمنا الله إذا أطعناه وأطعنا رسوله بكل أنواع الرحمة في الدنيا وفي الآخرة.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
الآيات مرة أخرى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، قال أهل العلم: (أو) بمعنى: حتى، أي: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم أو يعذبهم، فاتركهم ما هم لك، وإنما هم لله عز وجل، وقد عذب من عذب، ورحم وتاب من تاب ورجع إليه، ومن الذين تابوا: أبو سفيان قائد المعركة رضي الله عنه وأرضاه. إذاً: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، فيعذبهم لأنهم ظالمون، والظالمون هم الذين يضعون الشيء في غير موضعه، فبدل أن يعبدوا الله عبدوا الشيطان، وبدل أن يتجروا في الحلال اتجروا في الحرام، وبدل أن يقولوا الطيب من الكلام قالوا الخبيث من الكلام، فهذا ظلم، والظالم يلقى جزاءه في الدنيا والآخرة، وقد بينا غير ما مرة، فلو أنك قمتَ الآن وقلت كلمة سيئة فإن إخوانك سينهالون عليك بالضرب؛ لأنك ظلمت، كذلك كُلْ هذه الليلة خمسة كيلو من الطعام، غداً وأنت في المستشفى من التخمة؛ لأنك ظلمت. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:129]، فإياكم أن تطلبوا ما لله من غير الله، فأنت تؤمن بأن لله ما في السموات وما في الأرض، فكيف تقول: يا سيدي فلان أعطني كذا! إذاً: لا يصح أن تطلب شيئاً من غير الله، إذ ليس من شيء إلا وهو لله في السموات والأرض، لا المطر ولا العشب ولا النبات، ولا الذهب ولا الفضة. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، إرادته مطلقة، ولكن عَلَّمنا أنه يغفر لمن قرع بابه، وسأله التوبة والمغفرة، أما من أعرض واستنكف وتكبر فلا يجري الله وراءه ويقول: تعال أتوب عليك! وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، من أعرض عن الله وأراد العذاب يعذبه، ومع هذا حتى نخرج من فتنة المعتزلة نقول: إرادة الله مطلقة، فأهل التوحيد يدخلون النار ويغفر لهم، بينما المعتزلة يقولون: لا يغفر لهم، وهذا باطل، إذ إن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وهذا إعلان عن إرادته المطلقة، ولكن يعذب بالحكمة ويرحم بالحكمة؛ لأنه هو العليم الحكيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، وقد عرفتم أنه لا يجوز لأحدهم أن يحتج فيقول: ليس هناك مضاعفة، أعطانا خمسين ألفاً، فأعطيناه ألفين فقط، ليس هناك مضاعفة، ولو نصف ريال؛ لأن هذا خرج مخرج الغالب فقط، فلو تقول: من فضلك أعطني مائة ألف وأردها مائة وعشرين ألفاً، والله ما صح ولا جاز أن تأخذ ريالاً أبداً. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ [آل عمران:131] لمن؟ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، أي: الجاحدين والمكذبين لأخبار الله وأخبار رسوله، ولوعود الله ووعود رسوله صلى الله عليه وسلم. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132].وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (52)
الحلقة (193)
تفسير سورة آل عمران (57)
الربا ذنب عظيم وجرم جسيم، لذا فقد أمر الله عباده المؤمنين بعد أن خرجوا من الجاهلية ودخلوا في الإسلام أن يتركوا أكل الربا وكل تعامل به، لما فيه من أكل الأموال بالباطل وظلم العباد، ولما فيه من المفاسد العظيمة فقد أعلن الله الحرب على متعاطيه والمتعاملين به، ومن حاربه الله فأنى له أن يفلح.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وها نحن أيضاً مع الآيات الخمس التي تذاكرناها يوم أمس وتدارسناها، ولم نوفها حقها؛ لأننا ما قرأنا شرحها في الكتاب، فهيا نتذكر ما سبق أن تعلمناه منها، وإليكم تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، وتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا )، ثم قال: ( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) لما نزلت هذه الآية: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، و( أو ) قلنا: بمعنى: حتى. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:129]، وتذكرون أيضاً أنا بينا أن المعتزلة يحتجون بهذه الآية على أن الله لا يغفر كبائر الذنوب، ومن مات عليها يخلد في النار، والآية لا تحمل هذا؛ لأنها في سياق حال الكافرين والمشركين الذين جاءوا يحاربون الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في غزوة أحد وفي غزوة بدر قبلها.فقوله: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، أي: الذين يشاء الله مغفرة ذنوبهم هم الذين تابوا إليه، وأنابوا ورجعوا إليه؛ فآمنوا وصدقوا وأطاعوا الله ورسوله، وأخلصوا في طاعتهما، فهؤلاء وإن عاشوا على الشرك عشرات السنين متى ما تابوا إلى الله قبلهم وغفر ذنوبهم، وأسكنهم الجنان العالية. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]، أي: تعذيبه لمن أصروا على الشرك والكفر وماتوا عليه، أما أهل الإيمان إن ماتوا على كبائر الذنوب إن شاء غفر لهم ولم يدخلهم النار، وإن شاء عذبهم ثم أخرجهم بتوحيدهم من النار، وهذا هو الجمع بين مذهب المعتزلة وعلماء أهل السنة والجماعة.وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، تذكرون أن هذه الصيغة: (أضعافاً مضاعفة) لا تدل على أن الربا لا يحرم إلا إذا تضاعف، وإنما خرجت مخرج الواقع أو الغالب في تلك الأيام، إذ كان الرجل يكون عليه دين لأخيه، فإذا حلَّ الأجل قال: يا أخي! أخر وزد، ليس عندي ما أُسدد به، أخرني حولاً آخر وزد، فيأتي الحول الثاني وما استطاع السداد، فيقول له مرة أخرى: أخر وزد، فيصبح الدين أضعافاً مضاعفة! وكان هكذا ربا الجاهلية، وإلا فدرهم ربا كقنطاره، لا فرق بين القليل والكثير فيما حرم الله عز وجل، فدرهم واحد يعذب الله به صاحبه، وهو والعياذ بالله أفظع من ثلاثين زنية! وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، أي: اتقوا عذابه، اتقوا عقابه، وذلك بطاعته وطاعة رسوله، ولا يتم فلاح إنسان ولا جان إلا إذا زكت نفسه وطابت وطهرت، وتزكو النفس وتطيب وتطهر بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ الحسنات مزكيات للنفس، والسيئات ملوثات مخبثات لها، فمن أطاع الله ورسوله فيما أمرا به زكت نفسه، ومن أطاعهما فيما نهيا عنه فترك الذنوب والآثام احتفظ بزكاة نفسه وطهارتها، وأصبح أهلاً لدار السلام. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]، أي: أُحضرت لهم من قرون، من أزمنة لا يحصيها إلا الله، فهي موجودة مهيأة للكافرين، والكافرون هم الذين كذبوا الله ورسوله في قليل أو كثير، والكافر هو الجاحد المكذب، فمن مات على تكذيب وجحود الله ورسوله، فإنه مهما عمل من الصالحات فلن يغني ذلك عنه شيئاً.فهذا عبد الله بن جدعان الذي كان يذبح في كل حج ألف بعير للحجاج، فيطعمونها أيام وجودهم في الحرم، ويكسو كل عام ألف حلة -بدلة من ثوبين- لفقراء الحجاج، ومع هذا سألتَ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ( هل عبد الله بن جدعان في الجنة؟ قال: لا، هو في النار؛ لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين )، أي: أنه مات كافراً. وبالتالي فالحسنات لا تكون حسنة محسِّنة للنفس مزكية لها إلا إذا كانت مما شرع الله، وعملها عبد الله أو أمته إيماناً واحتساباً، أما حسنات ما شرعها الله، فلن تكن حسنة وإن كانت في ظاهرها من فعل الخير، ثم تلك الحسنة إذا لم تؤد على الوجه الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن تنفع، ولن تزكي النفس.وأخيراً: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، فباب الرحمة مفتوح، أطع الله وأطع رسوله، افعل المأمور واجتنب المنهي، فإنك إن فعلت ذلك وصلت إلى الفلاح، والفلاح ليس ربحك الشاة والبعير، ولا الدينار ولا الدرهم، ولا الجاه ولا السلطان، إنما الفلاح أن تزحزح عن النار وتدخل الجنة، إذ بين تعالى هذا بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
والآن مع الآيات بمفرداتها وشرحها وهداياتها؛ لأننا يوم أمس قد تجاوزنا هذا.
شرح الكلمات
قال: [ قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] والأمر: الشأن، والمراد به: توبة الله على الكافرين أو تعذيبهم ]، أي: ليس لك من أمر تعذيبهم أو هدايتهم يا رسولنا شيء؛ لأن هذا لنا، فنحن لنا ما في السموات وما في الأرض، نغفر لمن نشاء ونعذب من نشاء [ و(شيء): نكرة متوغلة في الإبهام -والجهل- وأصل الشيء: ما يُعلم ويُخبر به ] قل أو كثر، صغر أو عظم. [ قوله: أَوْ يَتُوبَ [آل عمران:128] -قال العلماء:- (أو) بمعنى: حتى، أي: فاصبر حتى يتوب عليهم أو يعذبهم ]، أي: اتركهم حتى يتوب عليهم أو يعذبهم. [ قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ[آل عمران:129]، أي: ملكاً وخلقاً وعبيداً ]، كل ما في السموات وما في الأرض هو مملوك لله، إذ هو خالقه وهم عبيده يعبدونه، قال: [ يتصرف فيهم كيف يشاء، ويحكم كما يريد ].[ وقوله: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130] لا مفهوم للأكل، بل كل تصرف بالربا حرام، سواء كان أكلاً أو شرباً ولباساً ] أو سكناً أو ما كان، وإنما مخرج الغالب أن الأصل في الأموال أنها تؤكل، فلا تقول: أنا لا آكل الربا، ولكن ألبس به ثياباً! أو هذا الحاصل من الربا لا ألبسه، أنا أبني به منزلاً! أو تقول: أنا أروِّح به على نفسي فأذهب به رحلة إلى الخارج! كل هذا باطل، إذ لا يحل درهم ربا ولو كنت ترميه في المزبلة، ولا يحل التصدق به حتى على اليهود والنصارى، ولذلك قد منعنا من أخذه فلنمتنع، وعلى كلٍ قال: (لا تأكلوا) باعتبار الأكثرية والغالب أنه يؤكل. قال: [ الربا -في لغة العرب- لغة: الزيادة ]، يقال: ربا الشيء يربو، إذا زاد وكثر [ وفي الشرع] أي: ديننا [نوعان] لا ثالث لهما [ ربا فضل، والثاني: ربا نسيئة ] فيجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يعرف هذين النوعين. [ ربا الفضل يكون في الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح ] وبعبارة فقهية: يكون في كل مقتات مدخر، أي: في كل ما يقتات ويعيش به الإنسان ويصلح للادخار، أما البطيخ والحبحب والبرتقال لا يدخر [فإذا بيع الجنس بمثله يحرم الفضل، أي: الزيادة، ويحرم التأخير ]. إذا بعت ذهباً بذهب يجب أن يكون الوزن جراماً بجرام، كيلو بكيلو، ويحرم الفضل، أي: الزيادة، كذلك إذا بعت فضة بفضة، فإياك أن تفضل وتزيد، وإنما كيلو بكيلو، قنطار بقنطار، أيضاً بعت قمحاً بقمح، كيساً بكيس، خيشة بأخرى، فلا بد أن يكون كيلو بكيلو، حفنة بحفنة، ولا تزد شيئاً؛ لأنه نوع واحد، كذلك بعت شعيراً بشعير، فإياك أن تفضله وتزيد عليه حفنة أو كيلو، أيضاً الملح يدخل في الربا؛ لأنه عنصر الطعام، فإذا بعت ملحاً بملح، فبع الكيلو بالكيلو، والقنطار بالقنطار، وإياك أن تزيد، فإن زدت فقد رابيت ربا الفضل، أي: ربا الزيادة، وكلمة: (الفضل) تعني: الزيادة، يقال: تعشيتم؟ قالوا: نعم، وهذا الذي بقي؟ قالوا: هذا فضلة، أي: زائد عن طعامنا.فهذه الأجناس وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم كقاعدة، فإذا بيعت ببعضها البعض فيحرم الفضل والزيادة، وإن اختلفت الأجناس، كأن بعت فضة بذهب، أو قنطار فضة بعشرة كيلو ذهب فلا حرج، أو بعت قنطارين شعير بقنطار قمح أو أقل، أو بعت قنطار تمر بعشرة قنطار ملح، كل ذلك لا حرج. إذاً: إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم بحسب الأسواق، أي: زيدوا الفضل ولا حرج، لكن إذا بعت ربوياً بمثله فلا يحل الزيادة من جنسه.قال: [ ربا الفضل يكون في الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، فإذا بيع الجنس بمثله يحرم الفضل، أي: الزيادة -ولو حفنة أو جراماً- ويحرم التأخير ] أيضاً، فإذا بعت فضة بذهب جاز التفاضل، كأن تبيع كيلو فضة بعشرة كيلو ذهب، لكن يجب أن يكون التقابض في مجلس واحد، فلا تأخذ الذهب وتقول: سآتيك بالفضة فيما بعد، أو تأخذ الفضة وتقول: سآتيك بالذهب فيما بعد، لا، بل يجب أن يكون التقابض في المجلس، فإذا بعت تمراً بتمر، كأن بعت برْنياً بعجوة، فيجب أولاً: أن يكون صاعاً بصاع، وثانياً: أن يكون التقابض في المجلس، ولا تقل: أعطني وأنا سآتيك بعد.وعليه فربا الفضل الزيادة فيه محرمة إذا كان الجنس واحد، أما إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم حسب الأسعار والسوق، ويحرم التأخير، أما إذا اشتريت كتاناً بفضة فهذا شيء آخر، أو اشتريت بعيراً بذهب فلك أن تؤخر، لكن هذه الستة التي ذكرناها إذا بعتها فيجب أن يتم ذلك في مجلس واحد، ولا يجوز التأخير.قال: [ ربا النسيئة -هذا سهل-: هو أن يكون على المرء دين إلى أجل، فيحل الأجل ولم يجد سداداً لدينه، فيقول: أخر لي وزد في الدين ]، وهذا ربا الجاهلية، وقد قلت لكم: إن ربا الجاهلية أفضل وأهون من ربا العلمانية اليوم! ووجه التفضيل: أن يكون لك دين على إبراهيم، ثم حل الأجل، فتقول له: سدد، فيقول: ليس عندي شيء، فتقول له: نزيد، فيزيد خمسة في المائة أو عشرة! أما إذا جئت وقلت: سدد، فقال: تفضل دينك، فإنك تأخذ دينك فقط، ولا يعرف العرب الزيادة، فقد كان يستقرض بعضهم من بعض إلى آجال المواسم وغيرها، فإذا حل الأجل يأتي بما عليه من دين، بلا زيادة أبداً، فإن عجز يعتذر فيقول: أخرني وزد.بينما ربا البنوك هذه الأيام أشد وأفظع، فيأتي أحدهم إلى البنك يريد مائتين ألف لسنة، فيعطيه البنك مائة وخمسة وثمانين ألفاً، ويسجل عليه مائتين ألفاً! وهذا هو الواقع، فقد زادوا قبل نهاية الأجل! ولو أتيتهم بالمال لا يقبلونه، بل لا بد من الزيادة أن تنتهي.قال: [ وربا النسيئة: هو أن يكون على المرء دين إلى أجل، فيحل الأجل ولم يجد سداداً لدينه، فيقول له: أخرني وزد في الدين ]، فيتفقون على الزيادة، كثرة أو قلة.قال: [ قوله: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]: لا مفهوم لهذا القول؛ لأنه خرج مخرج الغالب، إذ الدرهم الواحد حرام كالألف، وإنما كانوا في الجاهلية يؤخرون الدين ويزيدون مقابل التأخير حتى يتضاعف الدين، فيصبح أضعافاً كثيرة ]، كانت ألفاً، وفي خلال خمس سنوات وهو يؤخر فيها صارت خمسة آلاف! وهكذا كلما أخر السداد زد ألفاً فوقها، حتى تصبح أضعافاً مضاعفة. [ قوله: تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]: تنجون من العذاب وتظفرون بالنعيم المقيم في الجنة ]، وقد بينا الزحزحة وقلنا إنها: إبعادٌ عن النار ودخول الجنة.[ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131]: هيئت وأحضرت للمكذبين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ]، وليس معنى هذا: أن النار ستوجد يوم القيامة، إذ إنها والله لموجودة الآن وقبل مئات القرون، وقد شاهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه كما شاهد الجنة دار السلام، وعالمنا هذا بالنسبة إلى عالم الجنة وعالم النار قطرة ماء في المحيط الأطلنطي، فعالم الجنة تطوى السموات وهو فوقها، وعالم النار تطوى الأرضون كلها وهو تحتها، ومثل الدنيا إلى الآخرة كمثل أن يغمس أحدنا أصبعه في البحر ثم يستخرجها ويزن تلك البلة، فكم سيجدها إذا كان عنده موازين دقيقة؟! كذلك فإن آخر من يدخل الجنة يعطى مثل الدنيا مرتين، أما أنتم فتعطون إن شاء الله عشر مرات، فأين دنياكم إذاً؟! وأما عالم الشقاء فتعرفون أن ضرس الكافر والله كجبل أحد، وعرضه مائة وخمسة وسبعون كيلو، أي: من مكة إلى قُديد، إذاً: كم تتسع النار؟! قولوا: اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، ولله نفحات ما تدري قد يُستجاب لك.قال: [ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]: لترحموا، فلا تُعذَّبوا بما صدر منكم من ذنب المعصية] .
معنى الآيات
والآن مع الشرح الكامل الوافي لهذه الآيات لنزداد إن شاء الله يقيناً بما علمنا.قال: [ معنى الآيات: صح] أي: ثبت في الصحيح [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد دعا على أفراد من المشركين بالعذاب] ما في ذلك شك [وقال يوم أحد لما شج رأسه وكسرت رباعيته: ( كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ ) فأنزل الله تعالى عليه قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]] لا أمر تعذيب ولا أمر هداية [أي: فاصبر حتى يتوب الله تعالى عليهم، أو يعذبهم بظلمهم فإنهم ظالمون.قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [آل عمران:129] ملكاً وخلقاً، يتصرف كيف يشاء، ويحكم ما يريد، فإن عذب فبعدله، وإن رحم فبفضله، وهو الغفور لمن تاب، الرحيم بمن أناب. هذا ما تضمنته الآيتان الأوليان. وأما الآية الثالثة فإن الله تعالى نادى عباده المؤمنين ] ومن قال نادى هؤلاء المنافقين فكلامه باطل، بل نادى المؤمنين الصادقين في إيمانهم فقال: يا أيها الذين آمنوا [ بعد أن خرجوا من الجاهلية ودخلوا في الإسلام، بأن يتركوا أكل الربا وكل تعامل به ]، فقد كانوا يأكلونه والله العظيم! بل كانوا يتعاملون به كذا سنة بعد دخولهم في الإسلام، إذ ما حرم الربا إلا في المدينة بعد كذا سنة، وذلك لما تهيئوا للامتثال والطاعة، ولقوة إيمانهم بالله تعالى، ناداهم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130]، قال: [ فناداهم بأن يتركوا أكل الربا، وكل تعامل به -ولو ما يؤكل- فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:130]، أي: بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، إذ كان الرجل يكون عليه دين ويحل أجله، ولم يجد ما يسدد به، فيأتي إلى دائنه ويقول: أخر ديني وزد علي، وهكذا للمرة الثانية والثالثة حتى يصبح الدين بعدما كان عشراً عشرين أو ثلاثين، وهذا معنى قوله تعالى: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130].ثم أمرهم بتقواه عز وجل، وواعدهم بالفلاح -إن هم اتقوه- فقال عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، أي: كي تفلحوا ]، والفلاح: أن تزحزح بعيداً عن عالم الشقاء وتدخل الجنة دار السلام، هذا هو الفلاح، لا ربح تجارة ولا وظيفة ولا شاة أو بعير، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]؛ لأن تقوى الله معناها: فعل المأمور، والمأمور لما يفعله العبد بشروطه فإنه يزكي نفسه ويطيبها ويطهرها، وإذا اجتنب المنهي يبقى ذلك الطهر كما هو، بل ينمو ويزيد؛ لأن من اغتسل ثم صب على رأسه بولاً ووسخاً هل انتفع بذلك؟! لا، إذاً لا بد أن يحافظ على ذلك الطهر، وفي هذا حكم صادر عن الله عز وجل على الإنس والجن، ونصه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، أي: نفسه، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:10] أي: نفسه، والتزكية تكون بفعل الطاعات، والتدسية تكون بفعل المحرمات، فالماء والصابون يطهران الأنجاس، والبول والعذرة يوسخان الأبدان، وهذه سنة الله عز وجل، والعجب كيف يجهل المؤمنون هذا؟! لا عجب؛ لأنهم ما سمعوا هذا الكلام أبداً، فالقرآن يقرءونه على الموتى! أما الأحياء فلا.قال: [ قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130] أي: كي تفلحوا بالنجاة من العذاب، والحصول على الثواب وهو الجنة ] دار السلام، جعلنا الله من أهلها.قال: [ وفي الآية الرابعة أمرهم تعالى باتقاء النار التي أعدها للكافرين، فهي مهيأة محضرة لهم، واتقاؤها يكون بطاعته تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:131] ] فمن هم الكافرون؟ أبو جهل؟ قال: [ أي: المكذبين الله ورسوله، فلذا لم يعملوا بطاعتهما؛ لأن التكذيب مانع من الطاعة ] أي: هذه النار للكافرين؛ لأنهم كذبوا فلم يعملوا بما يزكي أنفسهم، ولم يتخلوا عما يدسيها، فبُعثوا وأنفسهم خبيثة كأرواح الشياطين، وبالتالي كيف يدخلون دار السلام؟! مستحيل! قال: [ وفي الآية الأخيرة أمرهم تعالى بطاعته وطاعة رسوله، ووعدهم على ذلك بالرحمة في الدنيا والآخرة ]، وقد بينا كيف نحصل على رحمة الله فقلنا: أن يعيش المسلمون على قلب رجل واحد، متعاونين متحابين متناصحين، أطهاراً أصفياء أنقياء، لا خبث ولا ظلم ولا شر، لا فساد ولا خلف للوعد، لا كذب ولا حسد ولا بغضاء، كأنهم أسرة واحدة، فأية رحمة أعظم من هذه؟! وإذا كانوا هكذا انتفى شيء اسمه عذاب بينهم أبداً، ووجدت الرحمة في الدنيا، وعزوا وسادوا وقادوا البشرية أيضاً، ثم في الآخرة بدخول الجنة دار السلام.قال: [ وكأنه يشير إلى الذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، وهم الرماة الذين تخلوا عن مراكزهم الدفاعية، فتسبب عن ذلك هزيمة المؤمنين أسوأ هزيمة، فقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132] ]، والرماة الذين أمرهم ونصبهم القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم بالبقاء على الجبل كانوا خمسين رامياً، وقد أوصاهم ألا يبرحوا أماكنهم، لنا أو عليهم، وبعد لما شاهدوا الانتصار وفر المشركون، فتركوا أموالهم، والنساء مشمرات على خلاخلهن، هبطوا يجمعون المال، فرأى خالد خلو الساحة أو المركز القوي فاحتله برجاله، وصبوا على المسلمين الحِمم، فكانت الهزيمة النكراء بسبب معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعصية الرسول أثرت في أصحاب الرسول، أما نحن فلا! فنعصي كثيراً ومتى ما أردنا، وبالتالي فمن أولى بالهزيمة نحن أم هم؟ نحن والله، ولهذا نحن مهزومون اليوم، فأذل الخلق اليوم المسلمون، بل والله أذل من اليهود! أبعد هذا نطلب بياناً؟! ما السبب؟ إنها معصية الله ورسوله، وهل هناك غير هذا؟ والله ما هو إلا هذا، فلو تابوا وأطاعوا الله والرسول، خلال أربعة وعشرين ساعة وهم أعز العالم، والدنيا تضطرب لكلمة: الله أكبر!قال: [ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132]، أي: كي يرحمكم، فيتوب عليكم ويغفر لكم، ويدخلكم دار السلام والنعيم المقيم ].الآن استقر معنى الآيات الخمس في نفوسنا إن شاء الله، وهذا خير من خمسين كيلو غراماً من الذهب! ووالله إن الذي وعي هذه الآيات وفهمها وعمل بها لخير له من خمسين قنطاراً من الذهب! أو من بنوك أمريكا وأوروبا.
هداية الآيات
الآن مع هداية الآيات الخمس، إذ لكل آية هداية ورب الكعبة، وكل آية تهدي إلى دار السلام والبعد عن دار الشقاء والبوار، وكل آية تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهل يعقل أن يوجد كلام بدون متكلم؟! ثم هذه الآية من تكلم بها؟ من أنزلها؟ من أوحى بها؟ من قالها؟ الله، إذاً الله موجود، وبالتالي كيف يُنكر أو يكذب به؟! إن هذه الآية من الله على من نزلت؟ على العجائز في القرية؟! على التجار؟! على من؟ اختار الله من البشرية كلها رجلاً واحداً، وهيأه ليوحيَ إليه بها، فمستحيل أن يكون محمداً غير رسول الله! وكيف يوحي إليه وينزل عليه كلامه ولا يكون رسولاًً؟! من ينفي هذا مجنون أو لا عقل له، إذاً كل آية تحمل هذا الهدى. قال: [ من هداية الآيات:أولاً: استقلال الرب تبارك وتعالى بالأمر كله، فليس لأحد من خلقه تصرف في شيء إلا ما أذن فيه للعبد ]، وأخذنا هذه الهداية من قول الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].فإن قال قائل: يا شيخ! ها نحن عندنا أمور نتصرف فيها فكيف ذلك؟ أقول: قد أذن الله لنا فيها، ولو ما أذن لنا فيها فلا يجوز، فالآن أنت تركب سيارة تسرقها؟ يجوز ذلك؟! حرام، أو تشرب شراباً محرماً، هل يجوز لك ذلك؟ لا؛ لأنه ما أذن، ولذلك نأكل أو نشرب أو ننكح أو نلبس في المأذون فيه، أما غير المأذون فيه فحرام وأهله عصاة مجرمون. [ استقلال الرب تبارك وتعالى بالأمر كله، فليس لأحد من خلقه -حتى ولو كان جبريل أو محمد رسول الأولين والآخرين- تصرف في شيء إلا ما أذن فيه للعبد ] بالتصرف، وهذا أخذناه من قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128].[ ثانياً: الظلم ]، والظلم يا عبد الله! يا أمة الله! وضع الشيء في غير موضعه، فلو أن أحدكم نام في وسط الحلقة فقد ظلم؛ لأن هذا المكان ليس محلاً للنوم، وأفظع من هذا أن يتبول في المسجد، فكذلك الذي يركع ويسجد لغير الله؛ لأن الركوع والسجود لا يستحقهما إلا الخالق الرازق، فإذا سجد لـعبد القادر وانحنى أمام إدريس فهذا ظلم، ولهذا فإن الشرك أفظع أنواع الظلم؛ لأن ظلمي لك بسبك أو شتمك أو أخذ ريالك أو الاعتداء عليك هو ظلم بيني وبينك بني الإنسان، لكن كونك تظلم الله الذي بيده كل شيء، وتأخذ حقه وتعطيه لغيره، فهذا من أبشع وأفظع أنواع الظلم، ومثاله لو أنك تختصم مع عامي عند الباب أو فقير كنَّاس فتظلمه، فهل ظلمك إياه كظلمك لأمير المدينة لو تسبه أو تشتمه؟! لا أبداً، فهذا أفظع وأبشع، فكيف بالذي يظلم الله ويأخذ حقه الذي فرضه على خلقه ويعطيه لعبيده؟! أعوذ بالله! ولهذا قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. [ الظلم مستوجب للعذاب -أي: مهيئ له- ما لم يتدارك الرب العبد بتوبة فيتوب ويغفر له ويعفو عنه ]، وهذه قاعدة، أي: أن الظلم من الإنسان مستوجب لعذابه، إلا إذا تداركه الله فتاب عليه وغفر له، أما إذا تركه الله على ظلمه فلا توبة ولا مغفرة، بل والله لا بد من العذاب. [ ثالثاً: حرمة أكل الربا -مطلقاً- مضاعفاً كان أو غير مضاعف ]، أمَا قال الرسول الكريم: ( لدرهم واحد أشد من ثلاثين زنية )؟ إذ ليس عندنا شيء اسمه: ربا خفيف لأنه قليل، لا، فالكثير والقليل سواء.[ رابعاً: بيان ربا الجاهلية، إذ هو هذا الذي نهى الله تعالى عنه بقوله: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130].خامساً: وجوب التقوى لمن أراد الفلاح في الدنيا والآخرة.سادساً: وجوب اتقاء النار ولو بشق تمرة ]، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ).[ سابعاً: وجوب طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم للحصول على الرحمة الإلهية، وهي العفو والمغفرة ودخول الجنة ].معاشر المستمعين! فهيا نتخلص من الربا، فنزور إخواننا وأعمامنا وأخوالنا وأقاربنا ونقول لهم: هيا بنا نخرج من هذه الفتنة، نتعهد ألا يرانا الله غداً أو بعده أمام بنك، ومن عنده نقود يسحبها، وتمشي هذه الروح والناس يبكون نساء ورجالاً، وفي اليوم الأول والثالث والرابع يترك العمال العمل في البنك، وإذا برؤساء البنوك قد داخوا وأصابهم الإعياء، وفي خلال أربعين يوماً يغلقونها، فننتهي من شرها، فهل تستطيعون ذلك؟ أنتم تستطيعون يا أهل النور! لكن نسبتكم إلى أهل الظلام كم؟ ولا واحد إلى ألف، إذاً لا ينفع، وهذا ما يسمى بالإضراب العام، وهو ينفع إذا أضربت الأمة كلها، وهذا هو الهجران الذي أوجبه الله ورسوله، فإذا أخونا أو عمى فسق وأبى أن يتوب قلنا: لن نتكلم معه ولن نتعامل معه، وفي خلال أربعين يوماً يتوب ويبكي.ولو تأملنا في الثلاثة الذين تخلفوا عن المعركة، فقد أعلن الرسول هجرانهم خمسين يوماً، فكانوا يمشون بالأسواق ولا يكلمهم أحد، بل إن نساءهم لا تتكلم معهم، وإنما الواحد منهم تضع له زوجته الخبز وتسكت، وبقي هذا الحال حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت، فهذا هو الهجران الحقيقي، أما أن أقاطعه وأنت تصاحبه، ولا أتعامل معه وأنت تتعامل معه في كل شيء، فهل ينفع هذا؟ ونحن والحمد لله قاطعنا البنوك، فهل انتهت؟ لا؛ لأن المقاطعين لها قليل، لكن إذا الأمة كلها عرفت الطريق إلى الله، فإن هذه البنوك والله لتتحولن إلى مصارف خير وهدى ورحمة، ووالله لتدر وتغل أضعاف ما كانت تدر، وأنا أقسم بالله وإني على علم.فإن قيل: يا شيخ! هذا محال وصعب، لا يمكن، إذاً ما الذي يمكن؟ الذي يمكن أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، وأن يأخذ علماؤنا وحكامنا فيجمعوننا في بيوت الله من المغرب إلى العشاء كاجتماعنا هذا، في كل قرانا ومدننا، النساء وراء، والرجال أمام، ونتلقى الكتاب والحكمة يوماً بعد يوم، والنور يعلو، والمعاني ترتفع، والتقوى تعم، وفجأة خلال سنة ونحن أولياء الله! بل لو رفعنا أكفنا إلى الله ما ردها، ويومها لن يبقى معنىً للشح ولا البخل ولا التكالب على الدنيا ولا التلصص، وأفاض الله رحماته علينا، فهذا هو الطريق الذي نبكي حتى يتحقق أو نموت! ووالله لا طريق إلا هذا، أي: أن نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، فنفزع إلى ربنا، ونطرح بين يديه، ونبكي كل ليلة، ونتلقى هداه ورحمته في قرانا ومدننا، وما هي إلا أيام وقد أغدق الله علينا نعمه وأفاض رحماته، وطريق غير هذا مستحيل أن يتم به شيء.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (53)
الحلقة (194)
تفسير سورة آل عمران (58)
يدعو الله عز وجل عباده المؤمنين بالمسارعة إلى مغفرته وجنته، وهذا لا يكون إلا بالمسارعة إلى التوبة والاستغفار والندم والبعد عن المعاصي، والعمل بما يوجب للعبد دخول الجنة من الأعمال الصالحة؛ كالإنفاق في سبيل الله في السراء والضراء، والتخلق بالأخلاق الحسنة من كظم الغيظ والعفو والإحسان.
تفسير قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي-صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا، فإنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الخمس، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].هيا نكرر تلاوة الآيات مرة أخرى، والمستمعون والمستمعات يتأملون ويتدبرون لاستخراج المعاني التي تحملها هذه الآيات النورانية: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136]، اللهم اجعلنا منهم، آمين، إذ إن لله نفحات، فإذا سمعت الداعي يدعو فقل: آمين لتشاركه في الأجر وفي الجزاء.
أمر الله تعالى لعباده بالمسارعة إلى التوبة النصوح لمغفرة ذنوبهم
معاشر المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، أمر موجه إلى عباده المؤمنين الذين ناداهم في الآيات الماضية، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132]، ثم قال: وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، فنحن مأمورون بأن نستجيب، فهيا نبادر قبل فوات الوقت، وقرئت في السبع: (سارعوا) بدون واو العطف، وقرئت بالواو: (وسارعوا)، والكل واحد.والمسارعة: المبادرة في عجلة دون توانٍ ولا انتظار ولا تأمل، والمسارعة تكون: إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، والمسارعة إلى المغفرة: هي المبادرة إلى التوبة، وكأنما قال: عجلوا فتوبوا إلى ربكم، فأمرنا ألا نأكل الربا، وأمرنا بطاعته وطاعة رسوله، ووعدنا بالرحمة والفلاح، إذاً فعجلوا إلى الهدف. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، والمسارعة إلى المغفرة هي المسارعة إلى التوبة والاستغفار والندم والإقلاع والعزم ألا نعود لهذا الذنب، فهذه هي التي أُمرنا بالمسارعة إليها، أي: إلى المغفرة، فهيا نسارع إلى مغفرة ذنوبنا، وذلك بالإعلان عن التوبة، وبالاستغفار والندم والإقلاع والبعد عن المعصية، سواء كانت من كبائر الذنوب أو صغائرها.ثم أيضاً إلى أين؟ قال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، ونسارع أيضاً إلى جنة عرضها السموات والأرض.إذاً: تقرر عندنا وعلمنا وفهمنا واقتنعنا وأصبحنا موقنين بأن الجنة دار السلام لا يدخلها إلا الطيبون الأطهار الأصفياء فقط، ولا يدخل الجنة من عليه أوضار الذنوب وأوساخ الآثام، فإن أردت يا عبد الله! الجنة دار السلام ادخل الحمام، فتطهر وتنظف واغتسل وتطيب ثم تفضل، أما أن تدخل الجنة بالعفن وبالرائحة الكريهة والله ما كان.فالذي يأكل أموال الناس يجب أن يسارع إلى التوبة ليُغفر ذنبه، بل لا يبيت الليلة إلا وقد بادر إلى التوبة؛ لأن الجنة دار السلام لا يدخلها إلا الأطهار الأصفياء، ومن هنا دعانا ربنا تعالى رحمة بنا وشفقة علينا أن نتطهر من ذنوبنا، وبعد ذلك تفضلوا إلى الجنة التي أعدت وأحضرت -من زمان- للمتقين.وإن سأل سائل فقال: ما هي التوبة؟ فالجواب: التوبة تعني: الرجوع إلى الحق والاعتراف به، والاستغفار، والندم، والعزم ألا يعود أبداً إلى ذلك الذنب، فإن كان الذنب هو أخذ أموال الناس أو سفك دمائهم أو نهش أعراضهم؛ فلا توبة تصح حتى يتحلل منهم، فإن كان قادراً على سداد المال رده، وإن كان عاجزاً عن ذلك طلب منهم العفو والرجاء والانتظار، وإن كان عِرضاًً طلب العفو والمسامحة، وإن كان دماً أراقه كذلك قدَّم نفسه ليراق دمه أو يعفى عنه، وهذه حقيقة لا بد منها، أما إذا كان الذنب بينك وبين الله -كما ذكرنا- كأن تركت واجباً، فالتوبة تعني: الندم والاستغفار وفعل الواجب، وإن كان الذنب ارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب، أو معصية من معاصي الله والرسول، فالتوبة تعني: الندم والاستغفار والعزم على ألا يعود إلى ذلك الذنب. وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، فأولاً: التطهير، ثم بعد ذلك دخول الفردوس، أما وأنت ملوث فلا. وَجَنَّةٍ [آل عمران:133]، أي: وإلى جنة، عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، قال العلماء وعلى رأسهم الحبر عبد الله بن عباس: لو أخذنا السموات رقعة إلى جنب الأخرى وألصقناها بها، وفعلنا بالأرضين كذلك، فإن عرض الجنة أكثر من هذا! أما الطول فلا يعلمه إلا الله، إذ العرض في الغالب مبني على الطول، فإذا كان العرض-مثلاً-ذراعاً فالطول لا شك أنه ستة أذرع، أما لو قال: (وجنة طولها كذا)، فقد يكون الشخص طويلاً ورقيقاً كالحبل، أو سلكاً رقيقاً من المدينة إلى أمريكا، فأي عرض له؟! ما له عرض، لكن إذا ذكرت العرض، فإن الطول ضروري وهو فوق ما تتصور! كما قد عرفنا وقلنا دائماً حتى نتصور قعر عالم الشقاء: هيا نغمض أعيننا ونضع رؤؤسنا بين ركبنا ولنفكر ولنقل: نازل، نازل، نازل، إلى أين؟! كلَّ العقل واندهش، فهل فهمتم هذه أم لا؟ إن عالم الشقاء المعبر عنه بالنار-دار البوار-أعلمَ تعالى أنه أسفل: قال تعالى: رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين:5]، فهذا السفل فكر فيه، أما الجنة دار السلام فهي فوق السماء السابعة، وسقفها هو عرش الرحمن، وسيأتي يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48]، يوم يطوي السماء كطي السجل للكتب، عند ذلك فقد انتهت السموات وانتهت الأرضون، وبقي العالمان: عالم السعادة العلوي، وعالم الشقاء السفلي، وسعة هذا العالم لا يحده عقلك، فقل: آمنت بالله. وقد علمنا أيضاً: أن آخر من يدخل الجنة من أهل الذنوب الذين كانوا في النار أحقاباً يعطى مثل الدنيا مرتين، أي: مثل هذا الكوكب مرتين، وقلنا: إن هذه الكواكب لا تعد ولا يحصي عددها إلا الله، فلو وزعنا هذه الكواكب على أهل الجنة، فأخذ كل واحد كوكباً أو عشرة كواكب، فإنه سيبقي الكثير منها! فلا إله إلا الله! أين نحن؟ أتدرون أين نحن؟ نحن في رحم الدنيا، أتعرفون رحم المرأة الذي خرجتم منه أم لا؟ رحم المرأة عرضه أو طوله ستة سنتيمتر، فلو يمكنك أن تتصل بالجنين في الشهر التاسع -عندما يتخلق- وقلت له: ويحك يا هذا! إنك في رحم ضيق منتن، اخرج إلى سعة، فإنه سيضحك، وسيقول: هذا الذي يخاطبني مجنون! أين يوجد هذا العالم الذي تعنيه؟ فلا تستطيع أن تقنعه أبداً إلا إذا آمن كما آمنا نحن بالغيب، فهو لا يفهم أن وراء هذا الرحم شيء واسع جداً، وإن قلت له مرة أخرى -وهو محفوظ في تلك الدماء-: إنك في رحم ووسط بطن أمك في ذراع طول وعرض، ووراء هذا البطن غرفة أو حجرة، ووراء هذا البطن كذا وكذا، فإنه سيزداد كفراً وتكذيباً، وكذلك هذه هي الحياة كلها، فالآن حياتنا هذه والله لأقل من الرحم، والآن الملاحدة والكفار لا يؤمنون إلا بهذا فقط، أي: بالمشاهدات، أما وراء هذا العالم عوالم فلا، فهي خرافات، وبالتالي فالملاحدة لا يؤمنون بعالم السعادة وعالم الشقاء، لا يؤمنون بعرش الرحمن وكرسي السموات، وإنما لا يؤمنون إلا بهذا المحيط الذي يحيط بهم، فهم محصورون فيه، وهي أضيق من الرحم! إذاً: قال: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]؛ لأنه يريد تعالى رحمة بعباده أن يعلمهم، أن يعرفهم؛ حتى يعرفوا ويفهموا ويعلموا.
المتقون هم أهل الجنة وورثتها بحق
قال تعالى: أُعِدَّتْ [آل عمران:133]، أي: هيئت وأحضرت، والإعداد شيء خاص، كإعداد الضيافة للضيف. أُعِدَّتْ [آل عمران:133]، لمن؟ لبني هاشم؟! لبني إسرائيل؟! لبني تميم؟! كل ذلك لا، إنما أعدت للمتقين، فلا يدخل الفاجر، والأمر واضح. إذاً: فعلموا البشرية أن الجنة دار السلام تورث، لكن لا بالنسب ولا بالمصاهرة ولا بالولاء لغير الله تعالى -الإرث أسبابه ثلاثة: إما نسب، وإما صهر، وإما ولاء- وإنما ورثتها معروفون، قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، وعرف هذا إبراهيم عليه السلام، وسمعناه في ضراعته وبكائه يقول: ربـ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، فالجنة تورث وسبب إرثها التقوى، فاتق الله يا عبد الله، وحافظ على تقواك حتى تلقى مولاك، فأنت من الورثة للجنة، فإن فجرت يا عبد الله فقد خرجت عن طريق الله، وحرمت من هذا الإرث أحببت أم كرهت. أُعِدَّتْ [آل عمران:133]، لمن؟ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، لو قال: لأهل البيت، لبني هاشم، لبني فلان أو علان لتململ البشر، إذ المتقي ليس بيض الوجوه أو سمرها أو حمرها أو سودها، أو قصار الأبدان أو طولها، أو أغنياء الناس أو فقرائهم، اترك هذا كله ولا تلتفت إليه، وإنما فقط: هل هو تقي أو فاجر؟ والسر في أن التقوى هي التي تورث الجنة: أن التقوى تزكي النفس وتطهرها، والله قد أصدر حكمه فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، أي: طيبها وطهرها، وكيفية ذلك أن التقوى حقيقتها خوف من الله تعالى يحمل الخائف على أن يمتثل أوامر الله، فيفعل ما يفعل ويعتقد ما يعتقد ويقول ما يقول، فهذه هي التي تزكي النفس، أيضاً خاف من الله فترك معاصيه، فلم يقارف الذنوب التي تلطخ النفس وتعفنها، وإن زلت قدمه يوماً تاب وصقلها وصفاها وحافظ على ذلك، وعند ذلك أصبح الوارث بحق.وبالتالي فالمتقي عبد خاف من عذاب الله وغضبه وسخطه فأطاعه، وفعل ما أمره أن يفعله، وقال ما أمر أن يقوله، واعتقد ما أراد أن يعتقده، وذلك الاعتقاد والقول والفعل هي والله بمثابة الماء والصابون لتزكية النفس وتطهيرها، فإذا أضاف إلى ذلك اجتناب ما حرم الله من اعتقاد وقول وعمل، فقد احتفظ إذاً بالطهارة والزكاة، أما إذا صلى وسرق، صام وزنا، فهو يوجد له زكاة ثم يلطخها، فلو مات قبل التوبة هلك، إذ إن فعل المأمورات عبارة عن أدوات تزكية وتطهير، واجتناب المنهيات والبعد عنها معناه المحافظة على تلك الزكاة والطهر والصفاء حتى لا يلوث ويفسد.
تفسير قوله تعالى: (الذين ينفقون في السراء والضراء...)
قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، والسَّرَّاءِ -بالسين والراء مهموز-: حالة السرور، أي: ما يدخل السرور والفرح على النفس، وَالضَّرَّاءِ: ما يدخل الضرر على النفس، ولكل منها صور، فمن السراء: الغنى، ومن الضراء: الفقر، ومن السراء: العافية، ومن الضراء: البلوى، حتى قال بعضهم: السراء: الفرح أو العرس، والضراء: الحبس، وعلى كلٍ كلُ ما يدخل السرور على النفس البشرية فهو سراء، وكل ما يدخل الضر أو الأذى على النفس فهو ضراء، لكن قوله عز وجل: يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: في حال الغنى وفي حال الفقر، وهذه الطبقة ممتازة، فهم ينفقون على كل حال، سواء كان المال متوفراً أو كان غير متوفر، فإذا دعا الداعي ووجبت النفقة ينفق بقدر الحاجة والمستطاع، وهذه يا معاشر المستمعين! نعوت وصفات الوارثين للجنة من المتقين، إذ إن قوله: (للمتقين) مجملة، فتأملوا هذه الصفات:أولاً: يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: الإنفاق في حال السراء والضراء، وهذه أمكم والله تصدقت يوماً بحبة عنب، هذا العنب الذي ترمونه في المزابل، إذ إنه كان قوتها يوم ذاك، فأخذت الحبة وقالت لخادمها: أعطها لهذا السائل.إذاً: فذو الألف ينفق من ألفه بحسبها، وذوا الريال ينفق بحسب رياله، وهذا شأن المتقين الخائفين، فهم ينفقون في السراء والضراء.ثانياً: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، والكظم: الحبس، يقال: كظم يكظم، إذا حبس الماء في القربة أو أغلقها، والغيظ: ما يغيظك ويؤلمك، فالمؤمن المتقي الوارث إذا ناله من أخيه شيء آلمه، كأن سبه أو شتمه أو عيره أو أهانه أو تكبر عليه أو لطمه، فإنه لقوة إيمانه وصلته بربه يكظم ذلك الغيظ ولا يظهر منه شيئاً، فيبقيه كله في قلبه، فلا يرد السب بأخرى، ولا الشتم بشتم، ولا يظهر بوجه متغير، بل ما يظهر ذلك الغيظ أبداً، وإنما يكظمه ويحبسه كأنما ربط الماء في القربة أو حبسها بالخيط أو بالعصام، فهل نجرب ذلك؟ امش واركض برجلك أحد إخوانك، وتأمل في وجهه ستجد أنه تغير، بل قد يقول لك: مالك، هل أنت أعمى؟! آه! إن هذه النعوت الكمالية لن نصل إليها إلا بالتربية الحقيقة، فكظم الغيظ ألا يُظهر كلمة تؤذي أو تسيء إلى من آذه، بل وألا ظهر ذلك حتى على وجهه.ثالثاً: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وأما العفو شيء آخر، فإذا آذاه بأن ضربه أو أخذ ماله، فإنه يعفو عنه ولا يؤاخذه، ولفظ: (الناس) يشمل حتى الكفار؛ لأنه ما قال: (والعافين عن المؤمنين)، فهو لكماله ولقوة صلته بربه، ولشعوره بأنه وارث دار السلام، إذا آذاه مؤمن أو غيره فإنه يعفو عنه ويصفح ويتجاوز.وقد يقول قائل: إن شباب أو أبناء حينا يستهزئون بلحانا ويسخرون منا، وآباؤهم وإخوانهم واقفون كالجبال، ولا يتألمون لذلك، بل ولا يؤدبون أبنائهم وإخوانهم؛ لأنه ليس في قلوبهم روح الإيمان، فأقول: وهذا من العفو إن عفيتم عنهم. ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] فلأنهم محسنون أحبهم الله، وفوق ذلك هذه صفة أخرى، فيا أهل الإحسان! اعلموا أن الله يحب المحسنين فأبشروا، و(الإحسان) لفظ عام يتناول الإحسان إلى إخوانك فلا إساءة، ويتناول تجويد وإتقان العمل الذي تقوم به، فإن كنت خياطاً للثياب أحسن الخياطة، وإن كنت طاهياً للطعام أحسن طهي الطعام، وإن كنت نجاراً أحسن نجارتك، فكيف إذا كنت تعبد الله وتسيء إلى هذه العبادة وتفقدها نورها وما تنتجه من الصلاح للنفس والطهر؟! فإذا توضأت فأحسن الوضوء، وإذا صليت فأحسن الصلاة، وإذا حجيت أو اعتمرت فكذلك، وحسبنا أن يعلمنا ربنا أنه يحب المحسنين، إذ ما ليس هناك جملة ترغبنا في الطاعة كهذه، فهل تريد أن يحبك الله؟ أحسن فإن الله يحب المحسنين، أحسن إلى الفقراء والمساكين والجيران والإخوان والأباعد والأقارب، أحسن صنعتك ومهنتك وعملك، أحسن قبل ذلك عبادتك حتى تولِّد لك الطاقة الكافية والنور الذي يزكي نفسك ويطهرها. وهذه التعاليم كان لها أثر في أصحاب رسول الله، فما اكتحلت عين الوجود بأمة أطهر ولا أكمل ولا أرحم ولا أصفى ولا أتقى من تلك الأمة، أعني: الصحابة وأولادهم وأولاد أولادهم، فهل كان ذلك نتيجة الفلسفات الكاذبة؟! الحضارة المادية؟! إنها نتيجة هذه التعاليم الإلهية، فقد آمنوا وعملوا.وحتى لا يقول قائل: وهذه ماذا تفعل الآن؟ من يعمل بها؟ ما تنتج شيئاً؟ لا، فما زلنا نقول: لو أن أهل البيت، لو أن أهل القرية، لو أن أهل المدينة يجتمعون بصدق كل ليلة لتعلم الحكمة والكتاب، والله لظهرت آثار هذه الأنوار القرآنية، ولتجلى ذلك في نسائهم وأطفالهم ورجالهم، ووالله ما سخروا من لحيتك، ولكنهم أموات غير أحياء وما يشعرون.
تفسير قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم...)
قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، ما زال السياق يوضح الطريق أيها السالكون، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135]، والفاحشة: الخصلة القبيحة الشديدة القبح، إذ الفحش معناه: القبح الزائد، ولا بأس أن نفهم فهماً عاماً:فأول فاحشة هي: اللواط، إذ قال تعالى عن قوم لوط: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف:80]، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ [العنكبوت:29].والفاحشة الثانية: الزنا، إذ قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32].ثم كل خصلة قبيحة فاحشة، فلو الآن يقوم أحدكم وينفعل، ويأخذ يسب الشيخ ويلعنه، فهذه فاحشة قبيحة، لو فعلها في الشارع فقبحها أقل، لكن بين المؤمنين في مجلس العلم فاحشة قبيحة، إذاً فكل خصلة قبيحة فاحشة، إلا أن أفحش الفواحش: جريمة اللواط وجريمة الزنا، وبعد ذلك الذي يسب أمه أو أباه من أقبح الفواحش، وهل تذكرون ما سمعتموه؟ وهو أن العرب في ديارهم هذه ما كانوا يسمعون بفاحشة اللواط، ولا يخطر ببالهم هذا، كما تشاهدون الحيوانات، هل الذكر ينزو على الذكر من الحيوانات؟ لا، ولذا كانت أول فاحشة لواط وقعت على عهد عمر أو أبي بكر في البحرين، وذلك أن أعجمياً فعل الفاحشة بأعجمي، ورفعت القضية إلى الوالي واحتاروا في تطبيق الحكم، فقال علي رضي الله عنه-هو من أعلم أصحاب رسول الله-: يُرمى من أعلى جبل ثم يتبع بالحجارة، أي: نعمل به كما عمل الله بقوم لوط، ثم بعد ذلك أفتى العلماء بقتله، سواء بالحجارة أو غيرها.والشاهد: أن الخليفة عبد الملك بن مروان قام خطيباً في الناس فقال: أقسم بالله على أنه لولا أن الله تعالى أخبرنا في كتابه عن قوم لوط، ما كان يخطر ببالنا أن الذكر ينزو على الذكر!لكن لما هبطت هذه الأمة هبط كل شيء، والحمد لله نسبة هذه الفاحشة في بلاد المسلمين أقل بكثير، وتوجد أندية للواط في باريس، في أوروبا، فإذا فعل عبد الله فاحشة-هذا الوارث للجنة-أو خصلة قبيحة، أو ظلم نفسه بأن ترك واجباً، فإنه على الفور يعلن استغفاره وتوبته، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135]، فأولاً: ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] بقلوبهم، ولما يذكرون الله ربهم وهو مطلع عليهم، ويذكرون أمره ونهيه، يفزعون إلى الاستغفار فيستغفرون الله، وهذه هي التوبة، أي: أن يقلع العبد فوراً عن الذنب، وأن يعلن عن توبته بكلمة: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ويواصل الاستغفار وكله عزم على ألا يعود أبداً إلى ذلك الذنب كما لا يعود اللبن في الضرع، فإذا حلبت من الشاة لبناً، فهل يمكنك أن ترجعه إلى الضرع؟! لا ينفع ولو بإبرة، فكذلك توبة العبد الصالح إذا زلت القدم وخرَّ على المعصية، ثم استفاق فذكر الله وتاب، لن يعود إلى ذلك الذنب ولو صُلب أو حُرِّق أو قُتِل، وتلكم هي التوبة النصوح.قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135]، الذي أمر ونهى، الذي رغب وحبب، الذي نهى وخوف وهدد، فهذا الذكر هو الذي يبعث: كيف أعصي ربي؟ ثم بعد ذكر الله يستغفر الله، قال تعالى: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135]، التي قارفوها، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135]، فهل هناك أحد يستطيع أن يطلع على نفسك ويزيل عنها الأثر؟ وهل يمكنك أن تلمس روحك أو تعطيها للطبيب ليلمسها أو ترى الظلم فيها وتمسحه منها؟ لا، إذاً فالذي يغفر الذنوب هو الله فقط، ولذا فليستغفر العبد ربه، وليطرح بين يديه، وليبكى بين يديه؛ حتى يعفو ويصفح ويزيل الأثر من النفس ويطهرها. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا [آل عمران:135]، وهذه صفة كمال أيضاً، وهي عدم الإصرار على الذنب، ومن هذا حاله فإنه قريب سيصل إلى الجنة، فإن تعثر أو وقع فلا يحزن ولا يغتم، وإنما يواصل طريقه إلى الجنة، ومثله من أراد مكة أو غيرها من البلدان، فمشى إليها تسع ليال أو عشر، وقارب الوصول، ثم سقط ووقع، كأن انكسرت رجله، فلا شك أنه سيواصل الطريق حتى يصل إلى هدفه.إذاً: إذا زلت قدم العبد فقال قولاً سيئاً أو فعل جريمة فلا يصر، وإنما على الفور يعلن عن توبته بالاستغفار والندم ويواصل حتى يصل إلى دار السلام، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أن الإصرار معوِّق، وهم يعلمون أن التوبة واجبة، وأنها تمحو الذنب وتزيل الأثر.
تفسير قوله تعالى: (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار ...)
قال تعالى: أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136]، فمن مدح هذا الخير؟ إنه الله، ونعم الأجر الجنة، أجر العاملين لا الكسالى والبطالين، العاملين من صيام بالنهار، وقيام بليل، ورباط في الثغور، وجهاد وصراع في بلاد الكفار المجرمين. أُوْلَئِكَ [آل عمران:136] أي: السامون الأعلون، جزاؤهم -أولاً- مَغْفِرَةٌ من ربهم؛ لأنه لن تدخل الجنة إلا إذا طِبت وطهُرت، ولم يبق عليك ذنب أبداً.ثانياً من الجزاء لهم: وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:136]، كم الجنات؟ أقل ما يعطى أحدكم معاشر المؤمنين! مثل الدنيا عشر مرات، والجنة سميت جنة لأن من دخل تحت أشجارها غطته وجنته، وهذه الجنة قد وصفها خالقها، ووصفها الرائد الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، إذ أسري به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به والله إلى الجنة دار السلام، ومن كذب فقد كفر، والله يقول: وَلَقَدْ رَآهُ [النجم:13]، أي: جبريل، نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13]، أي: مرة أخرى، أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18]، أي: الجنة، كما أنه رأى حوراء لـعمر بن الخطاب ، وخاف من غضب عمر فلم يلتفت إليها وغض بصره، وذكر ذلك لـعمر ، فقال: أعليك أغار يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( علمت غيرتك يا عمر )، فاللهم اجعلنا منهم، اللهم آمين.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (54)
الحلقة (195)
تفسير سورة آل عمران (59)
إن العبد المؤمن منتهى ما يؤمله وجل ما تهفو إليه نفسه أن يدخل في رحمة الله عز وجل في الدنيا والآخرة، وأن يستحق جنته ورضوانه، وقد دل الله عز وجل عباده المؤمنين على الطريق الموصلة إلى ذلك، ألا وهي تقوى الله عز وجل، والتي تحصل بفعل ما أمر الله به والتزامه، وترك ما نهى الله عنه، والمسارعة إلى التوبة عند الوقوع في شيء منها.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم يا ولينا حقق رجاءنا إنه لا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران، ومع الآيات الخمس التي تدارسنها بالأمس، نعيد تلاوتها تذكيراً للناسين، ثم نأخذ في شرحها مرة أخرى كما هو في كتاب التفسير، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].
شرح الكلمات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ شرح الكلمات:قوله: وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، المسارعة إلى الشيء: المبادرة إليه بدون توانٍ ولا تراخ. إِلَى مَغْفِرَةٍ [آل عمران:133]، المغفرة: ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها] أي: تغطيتها [والمراد هنا: المسارعة إلى التوبة بترك الذنوب وكثرة الاستغفار، وفي الحديث: ( ما من رجل -أو امرأة- يذنب ذنباً ثم يتوضأ ثم يصلي ويستغفر الله إلا غفر له ) ]. فقوله: (ما من رجل)، والمرأة كالرجل، وإنما الشارع الحكيم لا يعرض بذكر النساء بين الفحول، وإلا فالحكم واحد. [ وقوله: وَجَنَّةٍ [آل عمران:133]، الجنة دار النعيم فوق السموات -السبع- والمسارعة إليها تكون بالإكثار من الصالحات ]، وهي اعتقادات وأقوال وأفعال.[ قوله: أُعِدَّتْ [آل عمران:133]: هيئت وأحضرت، فهي موجودة الآن مهيأة ]، وحسبنا زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لها منذ ألف وأربعمائة سنة، حيث وطئ الجنة بقدميه الشريفتين، ورأى حورها وقصورها وأنهارها، فرأى نهره الكوثر عليه الصلاة والسلام، ووصفه بأن ريحه أذكى من المسك الأذفر، وماءه أبرد من مائنا المثلج، وأبيض من اللبن، وأحلى من العسل، كما رأى أو شاهد في الجنة حوراء لـعمر فغض بصره وذكر غيرة عمر، فاعتذر عمر وقال: أعنك أغار يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!ثم إنه بمجرد ما تخرج الروح يُعرج بها إلى الملكوت الأعلى، إلى الجنة، ويدون اسمها في كتاب عليين، ثم تعود للفتنة والامتحان في القبر، وتنجح وتعود إلى دار السلام، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، ثم إذا جاء البعث الآخر، وخلق الله الأجسام، تُرسل تلك الأرواح فتدخل كل روح في جسمها، ولا يمكن أن يشتبه عليها أبداً. [ قوله: لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]: المتقون هم الذين اتقوا الله تعالى فلم يعصوه بترك واجب ولا بفعل محرم، وإن حدث منهم ذنب تابوا منه فوراً.وقوله: فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، السراء: الحال المسرة، وهي اليسر والغنى، والضراء: الحال المضرة وهي الفقر ]، والمرض والبلاء.[ وقوله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، كظم الغيظ: حبسه، والغيظ: ألم نفسي يحدث إذا أوذي المرء في بدنه أو عرضه أو ماله، وحبس الغيظ: عدم إظهاره على الجوارح بسبٍ أو ضرب ونحوهما للتشفي والانتقام ]، وهذه الصفة ممتازة وأشرف الصفات، فاللهم اجعلنا منهم، فاصدقوه يجعلكم منهم.[ وقوله: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، العفو: عدم المؤاخذة للمسيء مع القدرة على ذلك]، أما إذا كنت عاجزاً عن مؤاخذته وما آخذته فلست من أهل هذه الصفة، كأن حكم له القاضي بكذا فتنازل عنه، وهو يقدر على أن يرد الكلمة بأبشع منها، أو الضربة بأخرى، لكن يقول: عفونا لله مع قدرتنا على ذلك.[ قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، المحسنون: هم الذين يُبرون ولا يسيئون في قول أو عمل ]، أي: وصْفهم البرور ولا يسيئون في قول ولا عمل.[ قوله: فَاحِشَةً [آل عمران:135]، الفاحشة: الفعلة القبيحة الشديدة القبح؛ كالزنا وكبائر الذنوب.وقوله: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135] بترك واجب أو فعل محرم فدنسوها بذلك، فكان هذا ظلماً لها.وقوله: وَلَمْ يُصِرُّوا [آل عمران:135]، أي: يسارعون إلى التوبة؛ لأن الإِصرار هو الشد على الشيء والربط عليه، مأخوذ من الصر، والصرة معروفة. وقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أي: أنهم مخالفون للشرع بتركهم ما أوجب، أو بفعلهم ما حرم ]، فهم يعلمون أنها مخالفة أو معصية وذنب.[ قوله: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136] الذي هو الجنة ] دار السلام. فهذه هي مفردات الآيات، وقد فهمنا هذا بالأمس، ولكن ما تكرر ازداد يقيناً عند صاحبه.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ معنى الآيات:
ترك المعاصي والذنوب سبب لحصول رحمة الله في الدنيا والآخرة
لما نادى الله تعالى المؤمنين ناهياً لهم عن أكل الربا، آمراً لهم بتقواه عز وجل، وباتقاء النار وذلك بترك الربا وترك سائر المعاصي الموجبة لعذاب الله تعالى، ودعاهم إلى طاعته وطاعة رسوله؛ كي يُرحموا في دنياهم وأخراهم ]، وهذا قد تقدم في الآيات السابقة وهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132]، ثم هنا ناداهم بقوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] الآية.قال: [ أمرهم بالمسارعة إلى شيئين: الأول: مغفرة ذنوبهم، وذلك بالتوبة النصوح ]، والتوبة النصوح: هي التي لا يعود صاحبها إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع، فإذا حلبنا من شاتنا أو بقرتنا أو ناقتنا لبناً فهل في الإمكان أن نرده إلى ضرعها؟! مستحيل، فكذلك التوبة النصوح، فإذا تاب عبد الله أو أمة الله من كبيرة من كبائر الذنوب لن يعود إليها أبداً، والله هو الذي انتدبنا لهذا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] فوصف التوبة بالنصح. [ والثاني: دخول الجنة التي وصفها لهم، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، أي: أحضرت وهيئت للمتقين، والمسارعة إلى الجنة هي المسارعة إلى موجبات دخولها، وهي الإيمان والعمل الصالح، إذ بهما تزكو الروح وتطيب فتكون أهلاً لدخول الجنة ].إذاً: ندبنا الله للمسارعة إلى شيئين: الأول: التوبة النصوح، والثاني: دخول الجنة؛ لأن من تاب بقيت نفسه طاهرة زكية مشرقة، فإذا لفظ ألفاظه الأخيرة خرجت نفسه والله إلى الجنة دار السلام، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]. ].مرة أخرى: قال ربنا عز وجل وهو يخاطبنا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، الذين صفاتهم كذا وكذا، فهيا نسارع إلى مغفرة ذنوبنا بالتوبة النصوح، ومتى تبنا غُفرت ذنوبنا، ثم المسارعة إلى الجنة بالإيمان والعمل الصالح، إذ هما سلم الرقي إلى دار السلام، فمن آمن وعمل صالحاً زكت نفسه وطابت طهرت، وبالتالي من يردها أو يصدها عن دخول الجنة؟! [ هذا ما تضمنته الآية الأولى ].
صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام
قال: [ وأما الآيتان الثانية والثالثة فقد تضمنتا صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام ]، أي: تضمنت الآيتان بعد الأولى صفات المتقين الوارثين لدار السلام، إذ الجنة لها ورثة هم المتقون، فلا يحل أن تقول: بنو فلان أو بنو فلان، أو أصحاب كذا أو كذا، بل كلمة واحدة ما ننساها وهي: إن ورثة الجنة هم المتقون، والمحرومون هم الفاجرون، إذ لا حق ولا نصيب لهم فيها أبداً؛ لأن الجنة موروثة وورثتها المتقون، وتذكرون إبراهيم لما سأل الله فقال: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، وقال تعالى في آية أخرى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].إذاً: المتقون هم الوارثون للجنة، لا لأنهم بيض أو سود أو أغنياء أو فقراء أو عاصروا الأنبياء والمرسلين، وإنما هم قوم زكت نفوسهم بفعل المأمورات والمحافظة على زكاتها بترك المحرمات، فيأتي ملك الموت وأعوانه والروح مشرقة طيبة طاهرة، غير ملوثة بالشرك ولا بالكفر ولا بكبائر الذنوب، فتدخل هذه الروح الزكية الطاهرة الجنة دار السلام. قال: [ فقد تضمنتا صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام، فقوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، هذا وصف لهم بكثرة الإنفاق في سبيل الله ]، لا في سبيل الوطن، ولا رياءً، ولا سمعة، ولا مباهاة، ولا مفاخرة، ولكن في سبيل الله، وسبيل الله كل ما يوصلك إلى رضا الله، إذ كل ما يصل بك إلى رضا الله ليرضى عنك فهو سبيل الله، وبالتالي فالإنفاق على الفقراء، على المساكين، على المحتاجين، على اللاجئين، للإعداد، للجهاد، كله في سبيل الله. قال: [ هذا وصف لهم بكثرة الإنفاق في سبيل الله، وفي كل أحايينهم من غنىً وفقر وعسر ويسر ]، ما هو في وقت معين فقط، بل في الصيف والشتاء والربيع والخريف، في الرخاء والشدة، في اليسر والعسر، في أي الأحوال فهذا شأنهم دائماً. [ وقوله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، وصف لهم بالحلم والكرم النفسي ]، والحليم لا يرد السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، فإن شتمه أو سبه أحد فلا يرد السب بالسب، وإنما يقول: عفا الله عنك، سامحناك، جزاك الله خيراً. [ وقوله: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وصف لهم بالصفح والتجاوز عن زلات الآخرين تكرماً، وفعلهم هذا إحسان ظاهر، ومن هنا بشروا بحب الله تعالى لهم، فقال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] ]، ولفظ (الإحسان) عام، وإن كان هنا إحسان إلى إخوانهم بعدم الإساءة إليهم، والإحسان أيضاً هو إتقان العمل وتجويده والإتيان به على الوجه المطلوب، وذلك من شأنه أن يزكي النفس ويطهرها، فإذا زكت النفس وطهرت أحبها الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، أما الخبث فلا يحبه الله. [ كما هو تشجيع على الإحسان وملازمته في القول والعمل ]. فقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، إعلان عن حب الله لهم، وفي هذا تشجيع للناس على أن يواصلوا الإحسان ولا يتخلوا عنه أبداً. [ وقوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] ]، أي: ذكروا الله أنه حرم هذا، أو أبغض هذا، أو منع هذا، أو توعد بهذا، فذكروا أمر ونهيه، وعلى الفور -بالفاء- فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران:135].قال: [ وصف لهم بملازمة ذكر الله وعدم الغفلة، ولذا إذا فعلوا فاحشة -ذنباً كبيراً- أو ظلموا أنفسهم بذنب دون الفاحش ذكروا وعيد الله تعالى، ونهيه عما فعلوا، فبادروا إلى التوبة -فقال في بيانها مذكراً للناسين- وهي الإقلاع عن الذنب، والندم عن الفعل، والعزم على عدم العودة إليه، واستغفار الله تعالى منه ]، إذاً: التوبة: الإقلاع، أتعرفون معنى قولنا: أقلعت السفينة؟ فكذلك أقلع عن الذنب، أي: انفصل عنه وتركه، كأن يكون في يده السيجارة فيرميها إلى الأرض، أو في يده خاتم ذهب فيرمي به كما فعل أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقوله: (والندم على الفعل)، وذلك أن العبد المقصر يقول يوم القيامة: آه! يا ليتني لم أمش في هذا الطريق، ولا جالست فلاناً، ولا فعلت كذا وكذا مع فلان.وقوله: (والعزم -الباطن- على عدم العودة إليه) كيف ما كانت الأحوال، فهذه هي التوبة، وأما الاستغفار ما ننساه، وأذكركم بأن هناك من عباد الله من أهل التوبة يستغفرون الله كلما ذكروا ذنباً قارفوه ولو من سبعين سنة، إذ قال تعالى في سورة ق مخاطباً أهل الجنة: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:32-35]. فقوله تعالى: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ [ق:32]، الأواب: الرجاع، كلما زلت قدمه رجع إلى ربه، فلا يبيت ولا يقضي ساعة ولا دقيقة على ذنب، والحفيظ الذي لا ينسى ذنبه أبداً، فيذكر أنه فعل ذنباً عام كذا، ما أن يذكره حتى يقول: أستغفر الله، وقد تذرف عيناه الدموع، لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:32-33]، قلبه دائماً يرجع إلى الله، فلا يغفل لحظة أبداً.وقوله: (واستغفار الله تعالى منه)، أي: يقولون: أستغفر الله، أستغفر الله، غفرانك اللهم، رب اغفر لي، كل هذه الصيغ متلونة، فمرة يقول: أستغفر الله، ومرة يقول: غفرانك، ومرة يقول: رب اغفر لي، وقد كان الصحابة يعدون لرسول الله في الجلسة الواحدة: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، مائة مرة، فهذا عبد الله بن عمر -الذكي- يقول: ( كنا نجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدثنا ويعلمنا ويقص علينا، ولكن من اللحظة إلى اللحظة يقول: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، فنعد له هذا القول مائة مرة )، وأنتم على الأقل قولوه مائة مرة في أربع وعشرين ساعة، أو فيه صعوبة؟! قال: [ وقوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] ]، أي: علموا أن من تاب تاب الله عليه، وهذه من عقائدنا وأخلاقنا وآدابنا، ونحن موقنون بذلك ولا نتردد فيه، فقوله: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، أي: من قبل أن من تاب تاب الله عليه، إذ كيف يصر إذاً؟! لو كانوا لا يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، فإن العاصي سيقول: ما دمت أني هالك إذاً أبقى في ذنوبي ومعاصيَّ، لكن لعلمهم السابق أن من تاب تاب الله عليه، هذه الحال تجعلهم يتوبون ولا يترددون في ذلك أبداً، وهكذا روي عن مجاهد، ولا يتنافى مع ما فسرنا به الآية، وورد أيضاً: ( ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة )، إذاً: الاستغفار وهو كلمة: أستغفر الله وأتوب إليه، لو فرضنا أن شخصاً كلما استغفر وسكت أذنب ذنباً، ثم زاد فاستغفر ولو سبعين مرة، ما ضره ذلك، وهذا من باب الفرض، وإلا لا يعقل أن يوجد من يذنب في اليوم سبعين مرة ويتوب سبعين مرة! لكن إن فرضنا هذا.والشاهد في قوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]: أن من تاب تاب الله عليه، وهذا الذي جعلهم يتوبون ولا يصرون أبداً، أما لو كانوا لا يعلمون أن من يتوب يتوب الله عليه، عند ذلك يقولون: إذاً هلكنا، ولنواصل ذنوبنا، لكن علمهم بأن من تاب تاب الله عليه جعلهم لا يصرون على الذنب أبداً، وإنما يتركونه ويتخلون عنه بمجرد أن يذكروا. [ وقوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، وصف لهم بعدم الإصرار، أي: المواظبة على الذنب وعدم تركه وهم يعلمون أنه ذنب ناتج عن تركهم لواجب أو عن فعلهم لحرام.
بيان جزاء من آمن واتقى
وأما الآية الرابعة فقد تضمنت بيان جزائهم على إيمانهم وعلى تقواهم وعلى ما اتصفوا به من كمالات نفسية وطهارة روحية، ألا وهو مغفرة ذنوبهم كل ذنوبهم، وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ومدح المنان -وهو الله؛ إذ من صفات الله وأسمائه المنان- ما جازاهم به من المغفرة والخلود في الجنة ذات النعيم المقيم، فقال: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136] ]، أي: ونعم ذلك الأجر مغفرة ذنوبهم وإدخالهم الجنة، لا الكسالى ولا البطالين الذين لا يعملون، فسبحان الله! قال: أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136]، فانتبه واعمل يا عبد الله ويا أمة الله الليل والنهار، فالدار دار عمل، ولا تسألن الأجر والجزاء اليوم، فإنك إن عُمِّرت يا عبد الله أو يا أمة الله سبعين سنة، تعاني الفقر والمرض والآلام، وأنت تصوم وتقوم الليل وتذكر الله ليلاً ونهاراً، فإن جزاء صلاتك وصيامك وصبرك أمامك في الدار الآخرة، وفي المقابل تجد الرجل فاجراً ساخطاً فاسقاً، وهو صحيح البنية، قوي الذات، الأكل والطعام متوفر لديه، فأين جزاء كفره وظلمه؟ الجزاء هناك، وهل هناك آية تدل على هذا؟ نعم، يقول تعالى في خاتمة هذه السورة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، هل هناك من يعترض أو يعقب أو يقول: إلا نفس فرعون، إلا نفس لينين زعيم الاشتراكية؟! الكل ماتوا، فهل هناك من ينقض هذا الحكم؟! كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، ما معنى: توفون أجوركم؟ أي: مقابل أعمالكم، فيا أيتها النفس اعملي ولا تطالبي بالأجر اليوم؛ لأن هذه الدار دار عمل لا جزاء، فهل يستطيع العمال أن يشتغلوا ساعتين أو سبعة أيام من الشهر ثم يقولون: تركنا العمل، أعطنا أجر عملنا يا رب العمل؟! هل يعطيهم أجورهم أو يقول لهم: نهاية الشهر؟ نهاية الشهر، وكذلك إذا كانت معاومة، أي: أن استلام الأجر يكون في نهاية العام، وهذه طبيعة البشر، فكذلك البشرية كلها تعمل هنا والجزاء هناك في الدار الآخرة، وقد بين تعالى ذلك فقال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]. ولا ننسى أن العاملين للصالحات ينالهم حسن وبركة أعمالهم الصالحة، لكن والله ما هو الجزاء، وأن أهل الفجور والظلم والشر ينالهم شؤم معاصيهم، لكن والله ما هو الجزاء، إذ الدار هذه ليست دار جزاء أبداً، وإنما هي دار عمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ).وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (55)
الحلقة (196)
تفسير سورة آل عمران (6)
الدنيا يهبها الله لمن يحب ولمن لا يحب، وما هي إلا متاع زائل عما قليل يتركه العبد وينتقل إلى الحياة الأبدية في الآخرة، التي أعد الله فيها لعباده المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار، وأعد لهم فيها أزواجاً مطهرة، وأحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً، فيتحقق لهم بذلك النعيم الذي ليس فوقه نعيم.
تفسير قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن يحقق الله تعالى لنا ذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا الرجاء؛ إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِين َ وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:15-17].وهذه الآيات من سورة آل عمران، فهل تعرفون عن هذه السورة شيئاً؟الجواب: عرفنا أنها مدنية، ومرحباً بالمدنيات والمكيات، وعلمنا أن المكيات تعالج العقيدة، تؤهل العبد الصالح لأن يتحمل رسالة الله ويرقى بها إلى الملكوت الأعلى، والمدنيات تحمل الشرائع والأحكام والآداب والعبادات، وكلها أنوار الله.أيضاً: هذه السورة نزلت في وفد نجران الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجادلوه في شأن عيسى عليه السلام، وفيهم نزلت نيف وثمانون آية. أيضاً: من عجيب هذه السورة: أن آخرها نزل قبل أولها بكذا سنة.قال الله تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] هنا أذكركم بكلمة عمر رضي الله عنه -وتعرفون والحمد لله من هو عمر بن الخطاب - لما نزلت الآية التي درسناها فيما مضى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، قال عمر : الآن يا رب. ما دمت زينتها لنا الآن. فنزل بعد ذلك كالجواب عليه قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] أي: قل: يا رسولنا: هل أدلكم على خير من ذلكم وهو كذا.. وكذا.. وكذا! وكلمة (خير) بمعنى: أخير، وهو اسم تفضيل، وحذفت الهمزة لكثرته اختصاراً، والعرب إذا تكرر اللفظ في لسانهم يعدلون عن القوانين. وفي هذا إشارة لا بأس بها -وإن لم نقف عليها- وهي: أن هذه المزينات من الحرث والأنعام فيها خير متى استخدمت في طلب رضوان الله عز وجل ورضاه ورحمته؛ فإن استعملت ضد ذلك فكلها شر، ووالله لا خير فيها. فمثلاً: حب الشهوات من المشتهيات من الطعام والشراب، والنكاح، والإركاب، هذه إذا كان المحب لها يستعملها وينتفع بها وهو طالب رضا الله ففيها خير، ولكنها لا تساوي خير دار السلام! أيضاً: البنين.. الأولاد، إذا سأل العبد ربه الولد بنية أن يعبد الله عز وجل ويكون في عداد الصالحين، وتزوج لذلك وربى الولد ونماه على ذلك ففي هذا الولد قطعاً خير، ولكنه لا يعادل خير دار السلام، وإن هو أهمله وأضاعه وطلبه فقط ليشتد ساعده به فيطغى على الناس ويأكل أموالهم ويعتز عليهم، فوالله ما فيه خير أبداً.أيضاً: القناطير المقنطرة من الذهب أو الفضة وكثرة المال إذا أخذ عبد الله أو أمته يجمعه لله، وبسم الله، ومن أجل أن يتقرب به إلى الله، فيتصدق به على الفقراء والمساكين والمحاويج، ويبني به المساجد ويعبد به الطرق، ويقدمه للمجاهدين عتاداً حربياً، ففي هذه الحال فيه خير، ولكنه إذا اكتسبه من الحرام، وهو ينفقه في الحرام، وحمله على الكبر والتعالي على البشر، ومنع الحقوق منه، فوالله إنه لشر كله، وليس فيه خير أبداً.أيضاً: الخيل المسومة، إذا اشتراها عبد الله بنية الجهاد عليها والركوب عليها في الغزو والفتح، لنشر: (لا إله إلا الله) ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العلف الذي يعلفه لها والله محسوب له بحبة الشعير، وإذا كان يمتلك الفرس للمباهاة والخيلاء والفخر بها ولا يغزو عليها ولا يجاهد، فوالله إنها لحمل حطب إلى جنهم، ولا خير فيها بالمرة.أيضاً: الأنعام من الإبل والبقر والغنم - الضأن والماعز- إن أنت اكتسبتها واقتنيتها من أجل أن تسد حاجتك، ومن أجل أن تقضي متطلبات حياتك من كساء أو منزل أو زواج أو كذا وربيتها ونميتها وأديت زكاتها، وتصدقت بشيء من الألبان والزبد، فهذا فيها خير، وإن اشتريتها للمباهاة والعلو والفخر والطغيان، ومنعت حق الله فيها لا زكاة ولا صدقة ولا.. ولا، فهي والله لا خير فيها.أيضاً: الحرث، وهو كل عمل ينتج، فنحن حارثون، والحرث: كل ما تكتسبه من طريق العمل؛ زراعة، صناعة، تربية مواشي، العمل وإن كان يتناول البر والشعير، والذرة وأنواع الحبوب، فهذه مزينة من قبل الخالق لها، زينها للفطرة البشرية، فما من إنسان عاقل إلا ويرغب في الحصول على هذه المذكورات الخمس: حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14]، ثم يأتي التعقيب فيقول تعالى: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14]، هذا الذي سمعتم يتمتع به في هذه الدار فقط، لا ينتقل منه إلى الدار الآخرة شيء، فهذه الدار محدودة الزمان، معدودة الوقت، نموت بآجالنا، لا نتقدم ولا نتأخر، ولكن مآلنا الفناء والزوال والرحيل منها إلى الدار الآخرة.هذه الشهوات مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14] فافهموا هذا، فلا يحملنكم هذا المتاع على أن تنسوا الحياة الأبدية الخالدة، فإن كانت دار النعيم فلا تسأل عن أنواع النعيم؛ فإنك تعجز عن تقديره بل وتصوره، وإن كانت دار الشقاء.. دار البوار والهلاك.. النار عالم الشقاء، فلا تسأل عن ذلك الشقاء والبلاء والعذاب الأليم.هذه الآيات الكريمة، يقول تعالى في الختام وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، يعلمنا أن عنده حسن المرجع، فيأيها الراجعون! أيها العائدون! إن ربكم عنده حسن المرجع والمآب، فاطلبوه منه، واقرعوا باب الله، سلوه!
معنى قوله تعالى: (للذين اتقوا)
قال تعالى: قُلْ أي: الآن قل يا رسولنا والمبلغ عنا أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] الذي سمعتم، إي والله خير: (بخير من ذلكم) ولكن لبني هاشم؟ للأشراف؟ للأبطال؟ للسادات؟ لمن؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15]. أنبئكم بخير مما سمعتم، ولكنه: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15] كذا الشرط؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15] من هم الذين اتقوا؟ لا يحصرون في إقليم ولا في جيل، ولا في منطقة، بل كل رجل أو امرأة اتقى عذاب الله عز وجل وجعل بينه وبين عذاب الله وقاية كالحصون والأسوار العالية، وهذه الوقاية لن تكون بالجيوش الجرارة، ولا بالمليارات من الدولارات، ولا بالأنساب والأصحاب، والله لا تكون إلا بطاعة الله ورسوله فقط.إذا أمرك سيدك ومولاك فقل: سمعاً ربي وطاعة، وأقبل على العمل وحاول، فإن عجزت واطرحت، فقل: ربّ إنك لا تكلف نفساً إلا وسعها وقد عجزت عن القيام بهذا الواجب! فمثلاً: مريض يتألم، ما طاق الصوم يرفع حاجته إلى ربه ويضع بين يديه عذره، ويقول: ربّ لقد أحببت ولا أحب لي من الصيام، ولكن كما تراني قد عجزت فاغفر ربّ وارحم وتجاوز عما تعلم!وإذا نهاك سيدك عن عقيدة فاسدة.. عن النظر إلى باطل.. عن قول خاسر، عن عمل سيء فابتعد عنه ما استطعت، اهرب من المنطقة كلها، بل من الإقليم كله حتى تتمكن من طاعة ربك عز وجل! وأما طاعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهي من طاعة الله، إذ ما أمر رسول الله بغير ما يأمر الله به، ولا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير ما نهى الله عنه، وهؤلاء المتقون الذين اتقوا سخط الله وغضبه وبالتالي اتقوا عذابه، اتقوه بطاعته وطاعة رسوله. وهنا لطيفة! أذكر بها من لم يبلغهم هذا: والله إن طاعة الله وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لا تعدو كونها تؤهلك وتعدك للسعادة والكمال في الدنيا والآخرة، أما الله فهو غني غنىً مطلقاً إذ كان ولم يكن شيء غيره، فلا تفهم أن طاعة الله وطاعة الرسول ضريبة من الضرائب أمرت بها. والله ما في ذلك شيء، فما هي إلا سلم بدرج ترقى بها إلى سعادتك وكمالك، فمن عصى الله ورسوله هبط إلى أن يتمزق.. إلى أن يتلاشى.. إلى أن يصبح من أهل الخسران الأبدي! ومن باب الترغيب وتحريك الضمائر والنفوس تأتي هذه الأساليب القرآنية وإلا فطاعة الله وطاعة رسوله لن تسعد يا ابن آدم ولن تكمل إلا على هذه الطاعة أحببت أم كرهت. ماذا تقولون في طبيب أمامه مريض يقنن له لقمة الطعام بأوقات محددة وكمية لا تزيد ولا تنقص، فيمنعه من كذا وكذا وكذا، ويأمره بأن يفعل كذا وكذا، لأجل ماذا؟ لأجل برئه وشفائه.إذاً: هل هناك من يتهم الطبيب ويقول: لا، هذا يريد أن يضر به. قال: ما تأكل بقلاوة الليلة، ما تشرب العصير، والله له المثل الأعلى: فقط أحببت أن يفهم المؤمن الواعي والمؤمن البصير أن أوامر الله وأوامر رسوله ما هي إلا سلم للكمال والسعادة: أعرضت عن هذه الطاعة هبطت وتمزقت والله العظيم. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15] الذي سمعتم من قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل عمران:14] الآية: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [آل عمران:15]، اتقوا ماذا؟ اتقوا عذاب الله وسخطه. بماذا يتقونه؟ بالإيمان والعمل الصالح، بترك الشرك والمعاصي، والكلمة الجامعة: بطاعة الله وطاعة رسوله. هل يتقى الله بغير هذا؟ لا والله، فلا سور ولا قبيلة تدفع، ولا حيلة تنفع. اتقوا من؟ اتقوا ربهم. من هو ربهم؟ خالقهم. هل يوجد مخلوق بدون خالق؟ مستحيل! فالذي خلق وصور وأوجد في الأرحام وأخرج من ظلماتها إلى نور هذه الحياة، وأوجد اللبن في ثدي الأم بعد كان دماً قانئاً فأصبح لبناً أبيض مشرقاً وحفظ عليه سمعه وبصره وعقله وبدنه، هذا ربه، هذا سيده، هذا خالقه.
وعد الله للذين اتقوا بجنات تجري من تحتها الأنهار
هؤلاء الذين تقوا ربهم ما لهم؟ وما هو هذا الذي سينبئهم به الرسول وهو خير لهم مما ذكر من الشهوات؟ الجواب: لهم عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:15]، الجنات جمع جنة.. بستان، لكن ما كل بستان يقال فيه جنة، فالجنة والجنان إذا كانت أشجاره قد التفت وأصبحت ملتفة ببعضها البعض، أما شجرة هنا وأخرى هناك والشمس تحرق فليس بجنة هذا. وعدد الجنات لا يحصى، ونحن نعرف عنها واحدة.. الفردوس، فأين توجد هذه الجنات؟ في السماء.فإذا قال قائل: كيف لا تسقط، تبقى النخلة في السماء لا تسقط.. القصور لا تسقط؟ فالجواب: إذا خطر ببالك هذا فقل له: يا عدوي، ارفع رأسك إلى هذا الكوكب النهاري.. إلى الشمس، لِم لا تسقط؟ أحكمته يد أمك هناك؟ لم ما سقط وهو أكبر من الأرض بمليون ونصف المليون مرة؟ أو ما في شمس؟ الكواكب تعد حصى الأودية ولا تعدها فوقنا، فكيف ثبتت؟ بأمر من يقول للشيء كن فيكون.نحن أتباع نبي صلى الله عليه وسلم ارتاد الجنة ووطئها بقدميه الشريفتين، ورآها رأي العين، رأى أنهارها، قصورها، حورها، وتجاوزها، والذي يشك في هذا ميت لا قيمة له.لما قلنا: ما وصلوا القمر، لا الأمريكاني الكذاب، ولا الروسي الساحر، فهذا كذب، ماجت الدنيا وضاقت كيف تقول هذا؟ قلنا لهم: هل آمنوا برائد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم الذي ارتحل من مكة إلى فلسطين في لحظات، ومنها اخترق السبع الطباق إلى الجنة؟ لِم لا يؤمنون ونحن نجري وراءهم ونصفق: وصلوا القمر؟ أي قمر هذا؟ ما قيمته؟والحمد لله، ما مضى نصف قرن حتى كذبوا أنفسهم، فيخرج رائد أمريكي فيقول: والله أكاذيب، ما وصلنا القمر وأنى لنا ذلك، فخافوا وسكتوا، لأنه فضحهم منذ سنة أو سنتين فقط. وأما الجنة فارتادها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، واسمعوا الله الجبار يحلف: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ [النجم:1-5] جبريل عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَه ُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً [النجم:6-13] مرة أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15].عجزت الإنس والجن على أن ينقضوا آية من هذا القرآن، فتاهوا في الأرض حيارى وما استطاعوا. وَلَقَدْ رَآهُ [النجم:13] أي: محمد رأى جبريل، أين؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18] هذا كلام الرحمن الرحيم، هذا الذي حوله العدو إلى المقابر والمآتم يقرأ على الموتى.إذاً: أبواب الجنة ثمانية وأما الجنات والله لا يحصيها إلا الله، والدليل أن أقل واحد له جنتان: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]. إذاً: الجنات لا يحصي عددها إلا خالقها، لكن أبواب الجنة ثمانية، لما تدخل تجد قصورك أنت وجناتك، وهل تعرفون أن أهل الجنة ينظر أحدهم إلى قصر أخيه كالكوكب الغابر في السماء يتراءون منازلهم في العلو كما نتراءى الكواكب في السماء، قولوا: آمنا بالله.
أوصاف أنهار الجنة
قال: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:15]. كم عدد الأنهار؟ اسمعوا الآية المبينة، قال تعالى من سورة محمد صلى الله عليه وسلم والمعروفة أيضاً بـ(القتال): مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15] كم نهر؟ أربعة أنهار: أنهار كاملة من اللبن، وليس لبن أمي ولا غنمتي، بل لبن دار السلام. وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ [محمد:15] الآن الكيلو بمائة ريال، وهناك أنهار تجري من العسل، فأية نحلة أنتجت هذا؟ لا تسأل! لا يحتاج إلى نحل فهذا يتم بأمر (كن فيكون). وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15]، أظنكم تعرفون الخمر، ومواد تركيبها، هذه الخمر حرمها الله تعالى على هذه الأمة؛لأنها أمة الرسالة، أمة الهداية، أمة الريادة، فلم يسمح لهم أن يتجمعوا على كئوب وكئوس الخمر يشربونها؛ فتذهب عقولهم، ويقولون الباطل، وينطقون بالسوء والهجر والكفر! أئمة البشرية هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فلهذا حرمها عليهم تحريماً باتاً، والمدمن لها المواظب عليها ليل نهاراً لن يشربها في دار السلام، والله لن يذوقها، مدمن الخمر لا يذوقها في الجنة أبداً.وإن قلت: علل يا شيخ؟ كيف ذلك؟ فأقول: ما أدمن عليها وواظب عليها أربعين أو خمسين عاماً إلا لأنه ما آمن، إيمانه ليس بسليم ولا صحيح، والله لو آمن ما استطاع أن يعاودها أكثر من ثلاث مرات. وإن شئت أن ترقى رقياً آخر فقل: إذا أدخله الله الجنة يصرف قلبه عن الخمر، فلا يسمع بها ولا يراها ولا يحبها، يصرفه عنها صرفاً كاملاً إذ لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم، فلا يشتهيها ولا يشربها.
الوضوء مفتاح أبواب الجنة
عندنا جائزة: أبواب الجنة الآن موجودة والله، وهناك كلمات تشبه السحر إذا قلتها تنفتح أبواب الجنة لك الآن وأنت في الأرض، اسمعوا أبا القاسم يقرر هذه الحقيقة فيقول فداه أبي وأمي والعالم أجمع وصلى الله عليه وسلم، يقول: ( من توضأ فأحسن الوضوء ) كما شرعه الله في كتابه وبينه رسوله لأمته (ثم رفع طرفه إلى السماء) والطرف: العين، ومنه: أشارت بطرف العين.. ( وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين إلا فتفتحت له أبواب الجنة الثمانية ). كيف تتفتح؟ ليس هناك في فرق بيننا وبينها، آلياً، أبواب المطارات تفتح لك وأنت مازلت بعيداً.. أبواب السيارات في يده آلة يضغط عليها فينفتح باب السيارة.. هذا مثال يقرب المعنى إلينا . إذاً: بمجرد يا عبد الله! يا ولي الله، يا أمة الله المؤمنة تتوضئين وتحسنين الوضوء وترفعين رأسك إلى السماء وأنت المؤمنة وتشهدين شهادة الحق وتسألين الله الطهر والصفاء.. بمجر ذلك تتفتح أبواب الجنة، ولو كنت أمامها والله لدخلت، لكن بيننا وبينها قرون، وسيأتي ذلك اليوم إن شاء الله!
معنى قوله تعالى: (خالدين فيها)
قال: خَالِدِينَ فِيهَا [آل عمران:15]، فلا يخرجون منها أبداً، لا موت ولا تحول أبداً، فأهل الجنة لا يرغبون أن يتحولون عنها أبداً.عندنا لطيفة! نكررها للزائرين: الذين يقرءون سورة الكهف يوم الجمعة لهم جائزة، يقول تعالى في آخرها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:107-108]، أي: لا يطلبون التحول منها أبداً؛ وذلك لوافر نعيمها.وقلنا: الآن سمعنا الذي يسكن في القاهرة المعزية يقول: آه لو زرت باريس، والذي يسكن باريس يقول: آه لو زرت دمشق.. آه لو زرت موسكو وهكذا.. إلا المؤمنون المتقون المهاجرون في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108]، المؤمن الصادق الإيمان، العارف بربه إذا نزل المدينة ونبت فيها وترعرع والله لو يعرض عليه أن يحكم البلد الفلاني والتاج على رأسه لا يخرج من المدينة؛ لأن بها قطعة من الجنة. تعرفون أين هذه القطعة؟ إنها الروضة؛ لقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )، لهذا الجزء في المدينة المؤمنون الصادقون لا يبغون التحول عنها أبداً. يعرض على المؤمن من أهل المدينة: تعال نجعلك أميراً في الرياض، فيقول: لا.. لا. نسند إليك مهام جدة والمواني كلها. فيقول: لا.. لا، لا نخرج من المدينة إلا إذا كان لأمر صدر رغم أنوفنا، كأمر أمير المؤمنين الجهاد فيجاهد ويرجع.اسمعوا! هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدعو الله وبنته أم المؤمنين حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم تسمعه فيقول: (اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك). فتقول: يا أبتاه! كيف هذا؟ الجهاد وراء نهر السند وبالأندلس، وأنت تطلب الموت في المدينة والشهادة؟ كيف تجمع بين الشرق والغرب يعني؟ فيقول لها: اسكتي، فضل الله واسع، ليس شأنك يا حفصة ! واستجاب الله لـعمر، واستشهد في محراب رسول الله، جاء مجوسي منتن عفن مبعوث من قبل الحزب الوطني الإيراني- ليدمر الإسلام وبخاصة عمر نقمة عليه، فهو الذي مزق تاج كسرى ووضعه على رأس سراقة بن مالك بن جعشم - أعطوه التعاليم: أن يقتل عمر وهو يصلي بالمؤمنين، فما إن ركع رضي الله عنه حتى طعنه أبو لؤلؤة المجوسي لعنة الله عليه.والعجيب: لما أغمي عليه رضي الله عنه والدماء تسيل أخذوه فسأل: من القاتل؟ قالوا: أبو لؤلؤة المجوسي. فقال: الله أكبر، الحمد لله، الحمد لله.تحقق طلبه، وجمع الله له بين متباعدات؛ إنه على كل شيء قدير، فكان موته رضي الله عنه شهادة في سبيل الله وموت في بلد رسوله. استجاب الله دعاءه.
المدينة حرام من عائر إلى ثور
عرفتم المدينة أم لا؟ إنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، واسمعوا! بياناً رسمياً هذه الليلة وفكروا وسترحلون منها، لا حق لكم في البقاء، اسمعوا! يقول صلى الله عليه وسلم: ( المدينة حرام من عائر إلى ثور )، عائر جبل كالحمار؛ لأن العير هو الحمار في لغة العرب. وثور: جبيل صغير رابض وراء أحد من الشمال، أحد في الحرم وجبل في مكة اسمه ثور أيضاً، والعرب يسمونه لأنه كهيئة الثور.
معنى الإحداث في المدينة
يقول صلى الله عليه وسلم: ( المدينة حرم من عائر إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً ). من يتحمل هذه؟ نشرح لكم أم أنكم عالمون؟الذي يؤسس بنكاً ربوياً ويأخذ ويعطي هذا أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! الذي يفتح أستوديو للتصوير في مدينة رسول الله أحدث حدث شر وسوء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: ( لعن الله المصورين ). ويقول: ( إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة: المصورون )! الذي يفتح صالون حلاقة كأنه في لندن أو باريس فيحلق وجوه الرجال ويخنثهم، أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! الذي يورد في الخفاء وبالهمسات الكوكائين والأفيون والحشيشة ويروجها في الخفاء والظلام في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! ولا يخرج من هذه اللعنة بل هو أول مستحق لها.والذي يورد السجائر على اختلافها وتنوعها ليشم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرائحة الكريهة في مدينته، مدينة الملائكة والنور ويبيع ويوقع المسلمين الغافلين الجهلة في هذه الفتنة العظيمة أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله!والذي يأتي ببدعة أو خرافة ينشرها في الخفاء وفي البيوت من البدع التي تتنافى مع السنة والكتاب ويروجها في الخفاء كالطرق الصوفية وما إليها هذا أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! أحدث أبشع حدث يفسد على المؤمنين قلوبهم ويدسي أرواحهم.الذي عند بداية العطلة السنوية يوزع مناشير أيها الأبناء تعالوا إلى المكتب أربعين يوماً في لندن تتخرجون علماء باللغة الإنجليزية فيجمع الشبيبة الغافلة ويرمي بها في أحضان الكفر والمسيحية ويتعلمون الرقص والخنا، وشرب الخمر والباطل ويأتي بهم كالمجانين يكرهوننا في زينا وفي لبسنا، هذا أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! فأي حدث أعظم من هذا؟أشار إلي أحد الصالحين: أن الذي يستورد هذه الدشوش أو الصحون الهوائية وينصبه على بيته ليتفرج بكامل أحاسيسه ومشاعره الساعة والساعتين والأكثر فيشاهد مناظر العهر والباطل والخنا والشر والفساد ويسمع أصوات العواهر والمغنين في مدينة الرسول قد أحدث حدث شر وسوء في مدينة رسول الله! آه! لو كان الرسول حياً، يلعنه لعناً يتمزق فيه ويتشتت.إذاً: (من أحدث فيها حدثاً) ما كان موجوداً عندنا في كتابنا ولا في هدي رسولنا بل أحدثه (أو آوى محدثاً) ساعده وناصره وقواه على أن ينشر هذه البدعة أو ينشر هذا الباطل (فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً)، لا فرضاً ولا نفلاً، فالفرائض مردودة والنوافل مردودة.معشر المستمعين والمستمعات! إن شاء الله عرفنا الطريق، فلا نسمع في بيوتنا إلا كلام ربنا، نتملق إلى ربنا، وعندنا إذاعة ربانية لا نظير لها في دنيا البشر، إذاعة القرآن الكريم هذه الإذاعة افتح أبواب أبواقها طول النهار والليل، فلا تسمع امرأة تتكلم ولا تغني، ولا رجلاً يعزف، ولا باطلاً، لا تسمع إلا قال الله.. قال رسوله.. العلم.. الحكمة.. الآداب.. المعرفة.. السياسة السامية الرفيعة. أعرض عن هذه وآتي بإذاعة تغني فيها عاهرة في بيتي؟ أدياثة هذه أم ماذا؟سيقول قائل: يا شيخ لا تلمهم؛ لأنهم ما علموا. إي نعم، لو علموا ما علمتم ما فعلوا، لكن من صرفهم عن العلم؟ لِم لا يحضرون مجالس العلم وهي بالعشرات في الحرمين الشريفين؟ لِم لا يسألون أهل العلم؟ الجواب: لما أصيبوا بما أصيبوا به، ولكن نسأل الله أن يتوب عليهم. اللهم تب عليهم وارحمهم، واغفر لهم يا رب العالمين.
معنى قوله تعالى: (وأزواج مطهرة)
قال تعالى: وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15]. الأزواج: جمع زوجة. والزوجة تجمع على زوجات، وهي الزوج. فكيف يكون الرجل زوج المرأة زوج؟ لأن الزوج ضد الواحد، لما تكون أنت يا عبد الله وحدك فلست بزوج، فلما نأتيك بالفتاة إلى جنبك تصبحان زوج، ومن أجل التنزل مع العوام حتى لا يتضايقوا نزيد التاء؛ لأن التاء تؤنث الذكر، عرفتم: زوجة، لكن القرآن لغته راقية. وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15] من دم الحيض والنفاس، فنساء الجنة والله لا يلدن ولا يحضن فالحيض دم منتن عفن، فنساء الجنة مطهرات من البول والغائط.وأما الطعام الذي أكلته والماء الذي شربته فيتحول الطعام إلى جشاء والماء إلى عرق والله لأطيب من أطيب مسك في دنيا البشر.وهنا أقص عليكم قصة ألطف بها جوكم؛ لأنكم متألمون من طول الدرس: ركب مسيحي لبناني في سيارة أو قطار مع مسلم سني، فأخذ المسيحي يسخر من السني، فيقول: يقولون: أنتم تؤمنون بالجنة، ونحن نؤمن بها، ولكن الجنة أرواح فقط ليس فيها أبدان -هذا معتقد النصارى الهابطين- وتقولون: إن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون، فكيف تصبح بطونهم؟ مراحيض يعني؟ فألهم الله السني المؤمن وهو ليس بعالم -ولكن وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [الأنعام:83]- فقال له: يا هذا! الغلام عندما يبلغ السادس من الشهور يتغذى أو لا؟ فقال: من الشهر الرابع ونصفه وهو يتغذى وينمو على الغذاء. فقال له: وهل بطن أمه أصبح مرحاضاً؟ أين بول هذا الولد وأين غائطه؟ فألقمه حجر وأسكته. فالغلام بمجرد ما يخرج من بطن أمه يبول، فلم ما بال بالأمس في بطن أمه؟ قولوا: آمنا بالله.إذاً: مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15] من كل ما هو أذى، بول أو غائط أو مخاط.
رضوان الله على عباده أكبر من أي نعيم
قال الله: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:15] هذا أكبر! رضا الله أكبر من النعيم كله، وعندنا مثل حي: يا أبا جميل لو تنزل في دار أحد الصالحين، ويقول: ابق عندنا كل واشرب والبس، وهو دائماً غضبان عليك، لا يكلمك ولا ينظر إليك، يتقزز منك، أسألك بالله: ذاك الطعام والشراب يروق لك؟ هل ستشرب بسعادة؟ والله تخرج، تصبر شهرين أو ثلاثة وتقول: مادام يكرهني لا أنزل عنده أبداً.فلهذا نعيم الجنة كله لو فقد رضا الله ما كان شيئاً، ولهذا قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، نعم لأن يرضى علي سيدي ولو حرمني الطعام والشراب المهم أن يكون راضياً عني، أما إذا كان ساخطاً ما قيمة الأكل والشرب واللباس؟!
معنى قوله تعالى: (والله بصير بالعباد)
قال: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]، بصير عليم خيبر بالعباد. لم هذه الجملة(وَاللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )؟ هذا النعيم المقيم لمحمد ورجاله، أم لأهل نجران من النصارى الصليبيين الذين يتبجحون ويقولون: هذا ابن الله ونحن.. ونحن، وغير ذلك من الهراء. إن الله بصير بالعباد، فينزل منازل الأبرار في دار السلام من هم متأهلون لها، ويطرد الآخرين ويرمي بهم في أتون الجحيم. ما هي بالسحر والتدجيل والباطل، تقولون هكذا جزافاً: نحن أولياء الله، فهذا لا ينفع؛ لأن الآيات في وفد نجران وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الذين هم أهل لهذا النعيم المقيم والذين ليسوا له بأهل فمأواهم الجحيم، شرابهم الحميم، وطعامهم الزقوم.
تفسير قوله تعالى: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا...)
قال الله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]. الَّذِينَ يستحقون هذا النعيم يَقُولُونَ رَبَّنَا أي: يا ربنا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]، هذه صفة الذين يقولون ربنا إننا آمنا بك وبلقائك وبرسولك وكتابك ووعدك ووعيدك، وبكل ما أخبرتنا به وأمرتنا بالإيمان به.
التوسل إلى الله بالإيمان والعمل الصالح
إذاً: نتوسل إليك بإيماننا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16] هذه أنفع الوسائل. إننا آمنا يا ربنا فاغفر لنا، توسلوا إلى الله ليغفر ذنوبهم بماذا؟ بجاه فلان أو سيدي فلان؟ آه، ماذا فعل الثالوث الأسود؟ حرموا هذه الأمة يا أبنائي قروناً إلا من شذ وندر؛ حرموهم من التوسل إلى ربهم وأعطوهم فقط وسيلتين منتنتين لا خير فيهما، ولا تنفعان لا في الدنيا والآخرة: اللهم إني أسألك بحق فلان وجاه فلان، تدخل قرية الصعيد بكاملها فلا تجد أحدهم يتوسل إلا بسيدي فلان، لا يوجد منهم من يفهم أنه يقوم في الليلة الباردة يغتسل ويصلي ويبكي ويسأل الله حاجته! لا يتوسل إلى الله وبطنه يؤلمه من الجوع لما يقف جائع عند الباب فيحرم نفسه ليواصل الجوع طول الليل ويطعم ذلك المسكين ويسأل الله بذلك. لا، فهم لا يتوسلون إلابـ: أعطني بحق فلان، وأعطني بجاه فلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.بم توسل هؤلاء المؤمنون من أهل الجنة؟ بإيمانهم بربهم، اللهم إنا آمنا بك وبرسولك فكفر سيئاتنا، أو أذهب هذا الهم والغم عنا، اشف مرضانا.
مجالس العلم هي طريق المعرفة والرقي
الناس اليوم لا يعرفون كيف يتوسلون؟ لماذا لا يعرفون كيف يتوسلون؟ لأنهم طردوا من ساحات النور الإلهي، أبعدوا عن مجالس العلم، والعلم يطلب ولا ينزل عليك وحياً، وإنما العلم بالتعلم. وهذا ابن عباس رضي الله عنه كان يحصل له إشكال في آية أو في حديث أو حادثة ورسول الله قد مات، وأبو بكر مات، فيأتي إلى باب الصحابي في المدينة ويجلس عند الباب، يستحي أن يقرع الباب، فيبقى ينتظر الساعتين والثلاث حتى يخرج الصحابي! ما الذي يحصل؟ المدينة غبار ليس فيها بلاط ولا إسمنت، والغبار يأتي عليه وعلى وجهه، وهو صابر حتى يخرج عمر أو علي أو عبد الرحمن فيقول: يا ابن عباس كيف هذا؟ يقول: أمرنا بالتأدب معكم. بهذا ورثنا العلم وعلمنا وأصبحنا علماء، أما نحن إن نسأل فنسأل بسخرية واستهزاء -جربنا العوام- أو لا نسأل. لماذا لا نسأل؟ كيف نعرف الله حتى نحبه؟ كيف نعرف الله حتى نخافه؟ الشيء الذي لا تعرفه تحبه؟ لا تحبه أبداً. إذاً: هيا نعود، يجب على المسلمين في قراهم، في جبالهم، في تلالهم، في سواحلهم، في أوديتهم، حيثما كانوا، عرباً أو عجماً أن يراجعوا الطريق الذي سلكه رسول الله وأصحابه وأحفادهم، فليس بصعب هذا ولا مستحيل، فلا نكلفك يا بني سوى أن تطرح قلبك لله ووجهك وأن تسلم وجهك لله: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، فقط أهل القرية يتعاهدون على أنه لا يتخلف رجل ولا امرأة ولا طفل عن صلاة المغرب والعشاء في مسجدنا، ونوسع المسجد، إذا ضاق نوسعه، وبلغنا: أن ناساً أخذوا بهذه الدعوة وقالوا: ضاق المسجد علينا ونحن نوسع أعينونا، فأعانهم الصالحون، وقال: ما أصبحنا نرى بعد غروب الشمس رجل ولا امرأة في القرية، كلهم في بيت الرب يصلون المغرب ويجلسون هذه الجلسة ومكبرات الصوت متوفرة منة من الله عز وجل، نساءنا وراءنا ورجالنا أمامنا والستار بيننا، وأطفالنا بين أيدينا، ونتلقى الكتاب والحكمة، ليلة آية من كتاب الله، وأخرى حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوماً بعد يوم وعاماً بعد عام فلا تمضي عدة أعوم إلا أهل القرية كلهم أولياء الله، انتفى بينهم الحسد والبخل والغش، والخداع والنفاق والباطل والشرك؛ انمحى بأنوار الكتاب والسنة. هل هذا فيه صعوبة؟! مستحيل هذا؟! اليهود والنصارى الذين نجري وراءهم ونهتم بهم ونقتدي بهم ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا دقت عندهم الساعة السادسة أوقفوا دولاب العمل كله وذهبوا إلى المقاهي والملاهي، وإلى المراقص والمقاصف ودور السينما يروحون -كما يزعمون- على أنفسهم، ونحن أهل الإيمان، أهل السماء والأرض أين نذهب؟ في الأباطيل والتراهات والكلام السيئ.. وهكذا. كيف نتعلم؟ دلوني؟ والله لا طريقة إلى إنقاذنا إلا هذا أحببنا أم كرهنا، مع أنه لا يكلف شيئاً، والله إن أعمالنا النهارية الدنيوية لتقوى وتصبح أعظم، إذ يوجد عزم وصدق وربانية فلا غش ولا خداع ولا باطل، فنشتغل ثمان ساعات أكثر من أربعين ساعة عند اليهود والنصارى. ماذا أضعنا؟ كل ما في الأمر أنها ساعتان من غروب الشمس تغلق الدكاكين والمقاهي والعمل، نغلق كل شيء ونتطهر ونأتي بأزواجنا وأولادنا إلى بيت ربنا فنتعلم في صدق الكتاب والحكمة، ولا نزال نسمو ونرتفع حتى نصبح كالكواكب في السماء، ولا تسأل عما يفتح الله به علينا بعد ذلك.إذاً: صفات أهل الجنة: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران:16]، يعترفون بذنوبهم أولا، ويطلبون من سيدهم المغفرة، ويتوسلون إليه بإيمانهم وأن يقيهم عذاب النار، خائفين، أي نعم.ومنهم أيضاً: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِين َ وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17] وهذا نأتي عليه في درس آخر إن شاء الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (56)
الحلقة (197)
تفسير سورة آل عمران (60)
يحث الله عز وجل عباده على المسارعة إلى التوبة وعدم التسويف فيها، إذ المسارعة إلى التوبة دليل التقوى وحياة القلب، ولا يزال العبد بخير ما أحدث توبة بعد الذنب، وأقبل على الأعمال الصالحة من إنفاق في سبيل الله، ومعاملة لعباد الله بالإحسان، فإن ذلك يسد الخلل ويجبر التقصير، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
مراجعة لما سبق تفسيره من سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وصح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أتى هذا المسجد -يشير إلى هذا المسجد النبوي- لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )،وقال عليه الصلاة والسلام: ( إذا صلى -أحدنا- العبد الفريضة، وجلس في المسجد ينتظر الأخرى؛ فإن الملائكة تصلي عليه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى يفرغ من الصلاة ويخرج من المسجد )، فلو دفعنا أرواحنا لأن نظفر بهذا الخير ما اتسعت لذلك، ولو خرجنا مما نملك على أن نظفر بهذا الخير ما يكون ذلك كافياً، ولكن فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].أعود فأقول: أسألكم بالله من نحن وما نحن حتى يذكرنا الله في الملكوت الأعلى؟! قطعاً يذكرنا بخير، ويباهي بنا ملائكته.وأخرى أيضاً: من نحن وما نحن حتى تصلي علينا ملائكة الله فتقول: اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم، طيلة ما نحن في بيت الله ننتظر الصلاة؟ إنه لا يسعنا ألا أن أقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، إذ ملايين البشر والله محرومون من هذا، ولا يُعطونَه ولا يظفرون به، ونحن هيأنا الله بفضل منه وإحسان، وأهلنا لهذا الخير، فهيا نحمد الله فنقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.معاشر المستمعين والمستمعات! بالأمس ظننا الوقت قد انصرم وما ذكرنا ما في هذه الآيات من هدايات، فنعود إليها الآن إن شاء الله بعد أن نتلوا الآيات تذكيراً لكم بها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].هذه الآيات الخمس لها هدايات؛ إذ كل آية تحمل هداية، وأُذكركم أن بالقرآن الكريم ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، كل آية تدل دلالة قطعية على وجود الله عز وجل رباً وإلهاً، عليماً حكيماً، قوياً قديراً، وتدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات رسالته، وبيان ذلك: هل يوجد كلامٌ بدون متكلم؟ مستحيل، وبالتالي فهذه الآية تكلم بها الله وأوحاها إلى من أوحاها إليه وأنزلها عليه، فهي تدل دالة دلالة قطعية على وجود الله، ووجود الله عز وجل -كما علمتم- لابد من علم أحاط بكل شيء، ولابد من قدرة لا يعجزها شيء، ولابد من رحمة لا يخلو منها شيء، ولابد من حكمة لا يخلو منها شيء في الكون، فالله عز وجل القوي، القدير، العليم، لحكيم، الرحيم، لا إله إلا هو ولا رب سواه.والنبي محمد صلى الله عليه وسلم أين هو؟ هناك قبره الشريف وإلى جنبه صاحبيه أبي بكر وعمر، وتلك الحجرة حجرة الصديقة عائشة رضي الله عنها، وهذا مسجده وتلك روضته، وقد عاش آباؤنا أباً عن أب إليه صلى الله عليه وسلم، فنحن موقنون بوجود رسولنا في بيته في حجرته أكثر من يقيننا بوجودنا الآن في مسجده، فهذا النبي العربي صلى الله عليه وسلم عاش أربعين سنة أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ثم بعد الأربعين سنة يتفوق بحيث والله الذي لا إله غيره ما وصل ولن يصل إلى مستواه العلمي كائناً من كان، وهذا القرآن الكريم تحدى الله به الإنس والجن على أن يأتوا بمثله فعجزوا، على أن يأتوا بسورة فقط فعجزوا، وما زال التحدي قائماً إلى يوم القيامة، واقرءوا قول الله تعالى من سورة البقرة المدنية: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:23-24]، قال العلماء: هذه الجملة: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، لا يقدر على قولها إلا الله، ووجه ذلك: لو أن اليابان الصناع اخترعوا آلة صناعية من نوع الآلات المستعملة في هذه الحياة، فهل تستطيع اليابان أن تقول: نتحدى البشر لمدة سبعين سنة أن يوجدوا نظير هذه القطعة أو هذه الآلة؟ والله لا يقولون، كذلك روسيا البلشفية الحمراء الملحدة التي تفوقت على الصين واليابان، هل تستطيع أن توجد قطعة من قطع الآلات وتقول: نتحدى البشرية أن توجد مثلها؟ الجواب: لا.فلهذا قول الله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، لا يقول هذا إلا الله؛ لأنه بيده ملكوت كل شيء، فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه وعلمه وقدرته، فهو يعلم أنه لا يوجد أبداً ولن يوجد من يأتي بسورة من مثل هذا القرآن فضلاً عن الإتيان بمثله، ومن ثم طأطأت البشرية والجن رءوسهم، ولم يستطيعوا أن يأتوا بسورة من أميٍ مثل محمد صلى الله عليه وسلم تحمل الهداية والنور للبشرية إلى اليوم.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات:أولاً: وجوب تعجيل التوبة وعدم التسويف فيها لقوله تعالى: وَسَارِعُوا [آل عمران:133] ]، والمسارعة: المبادرة بدون توانٍ، وقد علمنا معشر المؤمنين والمؤمنات! ما أجمع عليه أهل هذه الملة وهو: أن التوبة تجب على الفور، ولا يحل لمؤمن أن يقارف ذنباً ويؤخر التوبة ساعة أو أسبوعاً أو يوماً أو أياماً أو أعواماً، بل إذا زلت القدم وسقط عبد الله في الذنب قال: أستغفر الله وأتوب إليه، ولينفض الغبار عنه وليواصل سيره وطريقه إلى ربه، ولا يقول: سأتوب بعد كذا أو يوم كذا أو عندما يوجد كذا، فإن هذا حرام بالإجماع، إذ لا يحل تأخير التوبة أبداً، نعم قد تعترض العبد أو الأمة وهو في طريقه إلى الله شيء من العقبات أو الهواجس أو الوساوس فيقع، فيلزمه أن يعجل بالتوبة على الفور، وليواصل سيره إلى دار السلام، أما أن يؤخر التوبة فإنه لا يدري هل يعيش ساعة أو لا يعيشها؟ من يضمن له أن يعيش كذا عاماً أو يوماً أو ساعة؟والقرآن الكريم هداية الله تعالى، فنذكر ما قد علمتم وفهمتم وزادكم الله علماً، فيا أهل القرآن! إذ قال تعالى من سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، هذه الصيغة تفهمون منها أن الله أوجب على نفسه هذا الحق، ولا يوجب على الله أحد، ولكن هو يتفضل ويوجب على نفسه ليطمئننا أن هذا حق لنا على الله، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، لمن؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، والسوء يا أهل العلم! كل ما يسيء إلى النفس بالظلمة أو النتن والعفن، كل ما يؤثر على النفس فيفقدها النور والصفاء. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، وليس معنى (بِجَهَالَةٍ): فقط الذي يعرف أن الله حرم هذا أو أوجب هذا معرفة يقينية ثم يسخر أو يستهزئ أو يرفع كتفيه أو يخرج لسانه ساخراً، فإن مثل هذا لا يتوب الله عليه؛ لأنه أذنب متحدياً لله خارجاً عن طاعته، إذ الذي يتوب ويقبل الله توبته من يعمل السوء بجهالة، أي: نوع من الجهالة، كأن لا يعرف الحكم، أو أن يقول: إن شاء الله سيتوب الله عليّ، أو يقول: لو كان هذا يُغضب الله قلمَ فعله الشيخ الفلاني؟! فلابد من نوع من الظلمة حتى يقوى ويقدر على فعل هذه المعصية، لا أنه كإبليس يتحدى الله ويتكبر عن عبادته، وهذه لطيفة دل عليها قوله: يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17].وأما الثانية: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، والقرب هنا نسبي، فنحن لا ندري نسبة هذه القرب، وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تكون على الفور، فإذا زلت القدم فقلت كلمة السوء، أو نظرت النظرة المحرمة، أو ألقيت بلقمة محرمة في فيك، فعلى الفور الفظها وألقها بعيداً عنك، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17]. وَسَارِعُوا [آل عمران:133]، فعجلوا قبل فوات الوقت، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، وتكون بالتوبة النصوح، وإلى جنة: عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، وذلك بزكاة النفس وطهارتها.إذاً: [ وجوب تعجيل التوبة وعدم التسويف فيها ]، فكم إنسان يقول: سأتوب حتى أتزوج! حتى أتوظف! حتى يجيء والدي! حتى نحصد! وفجأة يأتيه الموت فيموت، ولذا فالدين النصيحة، فيا عبد الله! اسأل الله أن يحفظك أن لا تقع في ذنب، وإذا قُدِّر ووقعتَ فعجل بالتوبة، والتوبة ليست أثقالاً ولا أحمالاً لا تطاق، إنما التوبة أولاً: اللهج الصادق بقول العبد: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر لله، مع ندم يَمَضُّ في قلبك ويؤلمك، والبعد عن هذه السيئة، اللهم إلا إذا كان الذنب يتعلق بأخيك، كأن قذفته، أو أكلت ماله، أو نهشت عرضه، فعند ذلك لابد وأن تطلب منه العفو والصفح والمسامحة، أو تعطيه وتمكنه من نفسك ليقتص.فإن قال قائل: كيف أمكنه من نفسي؟! فأقول: تذكرون حادثة بلال رضي الله عنه عندما عيَّره أبو ذر الغفاري بأمه وقال له: يا ابن السوداء -وهو في الحقيقة ابن امرأة سوداء- فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تعير أخاك وتقول له: يا ابن السوداء، إنك امرؤ فيك جاهلية )، فماذا فعل أبو ذر الغفاري؟ جاء فطرح رأسه على الأرض وقال: لا أرفع هذا العنق من الأرض حتى تطأه برجلك يا بلال! فهذا هو جزائي، ولذا فمن الجائز أن تأتي إلى أخيك وتقول: أنا أخذت مالك، أو فعلت كذا وكذا في حقك، وأنا الآن بين يديك، فخذ حقك، أما إذا كان الذنب بترك واجب أو بفعل محرم مما حرم الله، فالتوبة هنا هي الاستغفار والندم والإقلاع الفوري والعزم ألا عودة إلى هذا الذنب بحال من الأحوال.إذاً: هداية وَسَارِعُوا دلت على وجوب التوبة على الفور. [ ثانياً: سعة الجنة، وأنها مخلوقة الآن لقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] ]، فالذي دلنا على أن الجنة موجودة الآن ولم توجد بعد هو الله؛ لأن الذي خلقنا هو خالقها وموجدها، وقد أخبرنا فقال: (أُعِدَّتْ)، أي: هيئت وأحضرت للمتقين، فهي محضرة معدة موجودة والله العظيم. [ ثالثاً: المتقون هم أهل الجنة وورثتها بحق ]، ودل على هذا الحكم قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، فمن أعدها؟ الله، وهل يستطيع غير الله أن يعدها؟ لو تجتمع البشرية كلها على أن توجد فقط كوكب القمر أو كوكب الشمس لا تستطيع.إذاً: تلك الجنة التي وصفها خالقها بما لا مزيد عليه في كتابه، وقبل وفاة رسوله صلى الله عليه وسلم رفعه إليها، ومشى فيها، فشاهد أنوارها وقصورها وأنهارها، ومشى بقدميه على تربتها، وكان أول رائد عرفته البشرية، ولم يبق في ذلك مجال للريب أو الشك، أو يقال: إن الجنة مجرد خيالات.إن هذه الجنة موروثة وورثتها هم المتقون، إذ قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، والسبب والعلة والحكمة في ذلك: أن المتقين طهروا أرواحهم وزكوها بالعمل الصالح والبعد عن العمل الفاسد، فأرواحهم زكية طاهرة، وهذه الأرواح الطاهرة هي التي يرفعها الله إليه ويدخلها دار السلام في جواره، أما الأرواح الخبيثة العفنة المنتنة من أوضار الشرك والذنوب والآثام فليست متأهلة للجنة دار السلام.وبعد أن عرفنا ذلك فهيا نتق الله عز وجل، فلا نخرج عن طاعته وطاعة رسوله، وإن زلت القدم وأعمانا العدو -إبليس- وغرر بنا فعلى الفور -وهم يعلمون أن من تاب تاب الله عليه- نستغفر الله، ونعزم على عدم العودة إلى ذلك الذنب، فيبقى ذلك الطهر وذلك الصفاء كما هو؛ لأن المتقي اتقى عذاب الله بفعل طاعته بما أمر وترك ما نهى، إذ المأمور به يزكي النفس والمنهي عنه لا يلوثها، بل يبقيها على طهارتها وصفائها. وهذا بيت من الشعر نستطيع أن ننظر إلى حقيقته من خلال هذه الآيات: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبسفيا عبد الله! ترجو النجاة من ماذا؟ من الماء أو لا؟ إن السفينة لا تجري على الرمل والتراب، إنما تجري على الماء، وبالتالي كيف ترجو النجاة يا عبد الله! ولم تسلك مسالكها؟! إن مسالك النجاة هي التقوى، الإيمان والعمل الصالح والبعد عن الشرك والكفر والمعاصي، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، فهل أنت تريد هذا أو لا؟ هل سلكت مسالك الجنة فمحوت ذنوبك واستغفرت الله منها وعملت الصالحات؟ [ رابعاً: فضل استمرار الإنفاق في سبيل الله ولو بالقليل ]، إذ الاستمرار والمداومة على النفقة في سبيل الله ولو بالقليل كحبة عنب أو شق تمرة، خيرٌ من العمل الكثير المنقطع، إذ قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة )، والآن من يشق التمرة نصفين فيأخذ نصفها والنصف الآخر لغيره؟! هل هذا موجود؟ لقد كان أحدهم يتغذى والله بشق تمرة يوماً كاملاً، وتبقى النواة في فمه يمصها ويتلَّهى بها اليوم واليومين، فهيا نحمد الله تعالى على نعمه الكثيرة علينا، فإن رأيت أخاك في حاجة إلى شق تمرة فأعطه، وتكون بذلك قد اتقيت عذاب الله بشق تمرة، ومعنى هذا: اتقوا النار يا عباد الله! بالحسنات، كبيرة كانت أو صغيرة، قليلة أو كثيرة، المهم أن تقي نفسك من عذابه، فإذا ما وجدت إلا نصف تمرة شققتها بينك وبين أخيك وأعطيته نصفها.قال: [ فضل استمرار الإنفاق في سبيل ولو بالقليل ]، ودل على ذلك قول الله عز وجل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، أي: في حال اليسر وفي حال العسر وفي حال الحبس، إذ إنهم دائماً ينفقون، سواء القليل بالقليل والكثير بالكثير، وهذه المواصلة هي التي رفعتهم إلى هذا العنان من الكمال، والآية ترغبنا في النفقة طول الحياة، وليست من رمضان إلى رمضان، لكن في حدود الطاقة، فالذي عنده حفنة يعطي منها، والذي عنده تمرة واحدة يقسمها أيضاً بينه وبين أخيه ولا يقول: هذا الشيء قليل، وعند ذلك أمة هكذا لا يوجد فيها فقر أو احتياج، بل في هذه الظروف بالذات لو أقبلت أمة الإسلام في كل ديارها على الله في صدق لتجلى الكمال في ديارها بصورة لم تحلم به البشرية، لكن مع الأسف سحرونا وأبعدونا عن الله ونحن تائهون في المتاهات. [ خامساً: فضيلة خُلة ] والخُلَّة -بضم الخاء-: الصفة، والخَلَّة -بفتح الحاء-: الضعف والحاجة [فضيلة خُلَّة كظم الغيظ بترك المبادرة إلى التشفي والانتقام ]، إذ قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليس الشديد بالصُّرَعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) . فقوله: ( ليس الشديد بالصُّرَعة )، أتعرفون الصُّرَعة؟ ذاك الملاكم الذي ما لاكمه أحد إلا صرعه، فهذا هو الصرعة، وقد صارع النبي صلى الله عليه وسلم ركانة فغلبه. إذاً: ليس الشديد والقوي بالصرعة الذي يصرع الناس، ولكن القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، فإذا غضب لم ينطق بسوء، ولم يظهر منه أو عنه شيء اسمه: سوء، وهذا أمر عظيم، فبدل أن يسب أو يشتم أو يتناول شيئاً بيده ليضرب به، فإنه يكظم غيظه، ولا يظهر ذلك عنه أبداً، وكأنك مدحته وأثنيت عليه، وقد قلنا لكم:جربوا هذا فيما بينكم حتى تكتسبوا هذه الصفة، فإذا أغضبك أخاك بكلمة أو بيده أو بأية حركة، فهل أنت ممن يصبر فيكظم غيظه ويحبسه ولا يظهر عنك شيء لا باللسان فينطق ولا بيدك بأن تأخذ وتضرب؟وللأسف الشديد أن المتزوجين قد تأتي الزوجة بأدنى حركة فيطلقها زوجها، فإن سئل: لمَ طلقتها؟ قال: أغضبتني! أو قال: يا أم فلان! عجِّلي بالإفطار، فردت عليه فقالت: انتظر قليلاً، فقال: كيف ننتظر قليلاً؟ أنتِ طالق، أو يقول لها: أما تستحين؟ أنتِ حيوان، أنتِ كذا وكذا، وهي تغضب أيضاً، فلا هو يكظم غيظها ولا هي تكظم غيظه، وبالتالي الطلاق والفراق، وأنا أقول لهم والحمد لله -وهذا من فضل الله علينا-: قد عاشرنا المرأة ستين أو ثمانية وخمسين سنة والله ما قلنا كلمة سوء ولا قالت هي كلمة سوء، ومن ثَمَّ لا غضب ولا سخط ولا طلاق ولا شيء من هذا. ثم كيف أعيش معكم في القرية أو في المدينة العام والأعوام لا أوذي مؤمناً في الطريق لا بسب ولا شتم ولا أذى، وأوذي أختي في بيتي وهي محبوسة من أجلي؟! فسروا لي هذه الظاهرة، فأنا لا أعرف كيف تُفسر؟! أنت يا عبد الله! تعيش مع أناس طول العام في الشارع في العمل أو في أي مكان، فهل قد آذيت مؤمناً؟ لا تسمح لنفسك بذلك، إذاً فلمَ تؤذي هذه المحبوسة في بيتك بكلمة سوء؟! أعود فأقول: إننا ما ربينا في حجور الصالحين، ما تعلمنا ولا هذبنا أنفسنا، فهذا هو السر، وإلا فالذين يتربون في هذه الحلقة الآن والله تجلت عنهم هذه الكمالات وظهرت فيهم، والذين حبسوا أنفسهم ليتعلموا هذا العلم، والذي ما يعلم هذا ولا يحضره أنى له أن يعرف؟ إذاً لا بد من العلم. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، فهل تعرف كيف تكظم القربة إذا فاض الماء حتى ما يخرج منها؟ كذلك لما تصون نفسك ويريد اللسان أن ينطق، والعين أن تحمر، والوجه أن يتبدل، فتملك ذلك وتقول: أستغفر الله، أو الحمد لله، أو سامحني يا رب. [ سادساً: فضل العفو عن الناس مطلقاً، مؤمنهم وكافرهم، بارهم وفاجرهم ]، العفو عن الناس أو البشر، كبارهم كصغارهم، وأشرافهم كضعافهم، مؤمنوهم ككافريهم، فمن أراد أن يظفر بهذا الكمال ويفوز بهذا الوصف فيقوى على أن يعفو عمن ظلمه، وهو قادر على أن يضربه ويأخذ حقه، ولكن يريد أن يعلو فلا يبال بمن آذاه، ويعفو ويصفح ويتجاوز عنه، وكأنني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوزع الصدقات، وإذا بأحد الأجلاف الغلاظ -غفر الله لنا وله- يأخذ أو يُلبِّب رسول الله بردائه ويقول: ( اعدل فينا يا رسول الله! )، ومع ذلك يتبسَّم النبي صلى الله عليه وسلم ويتركه ولا يؤاخذه، وأنا أسألكم بالله! لو وقع هذا معكم فكيف سيكون حالكم؟ وقال عليه الصلاة والسلام: ( رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا وصبر، ويقول له: ويحك إن لم أعدل أنا فمن يعدل؟ )، وهو كذلك، فهل عرفتم العفو كيف يكون؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قادراً على أن يضربه أو يؤذيه، بل لو قال فقط لرجاله: اضربوه، لضربوه ضرباً شديداً، ولكنه العفو النبوي والكمال المحمدي، ولذا فاعفوا على الأقل على أولادكم وعلى نسائكم وعلى إخوانكم إن لم تعفوا على الظالمين والكافرين، مع أن العفو يشمل حتى الكافر، لأنها صفة جلال وكمال يريد صاحبها أن يسمو ويعلو ويرتفع.قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن يشرُف له في البنيان، وتُرفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه )، أي: لا يؤاخذه، فلا يرد السب بسبة، ولا الشتم بشتمة، ولا اللطم بأخرى، وإنما ليعف عمن ظلمه، قال: ( ويعطي من حرمه )، أي: من حرمه من شيء فلا يقابل ذلك بأن يحرمه، بل يعطيه، فلو أن أحدنا جاء إلى آخر فقال: أعطنا بعض التمر، فرد عليه فقال: لا أعطيك شيئاً، ثم في اليوم الثاني جاء يطلبه تمراً والتمر بين يديه، فهل يقول له: لا؛ لأنك حرمتني وما أعطيتني يوم أمس؟ الجواب: لا، بل يعطي من حرمه، وذاك الذي حرمني هو الذي أعطيه، وأتغلب على الطبيعة وعلو فوق الفطرة، وأبحث عمن يحرمني فأعطيه؛ لأني أُريد أن يشرُف ويعلو بنائي، وترتفع درجاتي يوم القيامة، قال: ( ويصل من قطعه )، أي: ذاك الذي قطعني وما أصبح يسلم عليّ ولا يزورني ولا يجلس إلى جنبي أنا أصله، فأجلس إليه وأسلم عليه وأزوره، ولا أقطعه مقابل مقاطعته لي؛ لأني أريد أن أتفوق عليه.ومرة أخرى يا أهل المعرفة! يقول صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن يشرُف له في البنيان، وتُرفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه )، وإن شاء الله سنجرب كل هذه، فإذا ظلمني ظالم أعفو عنه وأتركه لله، مع قدرتي على أن أنال منه، وإذا حرمني شخص من شيء طلبته منه فلا أحرمه من شيء طلبه مني، وإن قطعني من قطعني من إخواني أو جيراني فأنا أصلهم، وذلك من أجل أن أتفوق، وأن يشرُف بنياني، وأن تُرفع وتُعلا درجاتي.ويقول أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث أقسم عليهن )، أي: ثلاث خصال أو ثلاث مسائل أقسم عليهن، وهي: ( ما نقص مال من صدقة )، فلو عندك كوم من المال فتصدقت منه بحفنة أو أقل أو أكثر فالرسول يحلف أن مالك ما نقص أبداً.والثانية: ( وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً )، أي: ما من عبد يؤذى فيعفو وهو قادر على أن ينتقم ما زاده الله بذلك إلا عزاً وإكراماً.والثال ة: ( ومن تواضع لله رفعه الله )، أي: من تواضع لأجل الله رفعه، ولم يهبطه إلى الأرض مع الهابطين. [ سابعاً: فضيلة الاستغفار وترك الإصرار على المعصية للآية ]: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].قال: [ ولحديث: ( ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ) ]، وأخصر من هذا: ( لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار )، أي: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة من صغائر الذنوب مع الإصرار، فإذا أصر العبد على الصغيرة فإنها تتحول إلى كبيرة وينتقل إليها، وإذا استغفر من الكبيرة وتاب منها فلا تعتبر كبيرة أبداً، فلهذا معاشر المؤمنين والمؤمنات! ليكن منهجنا في الحياة أننا نستغفر الله من كل ذنب، وكلنا عزم على ألا نعود إلى الذنب ولو تكرر منا لعجز البشر ولضعفنا، إذ الاستغفار وعدم الإصرار هو الطريق إلى النجاة.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (57)
الحلقة (198)
تفسير سورة آل عمران (61)
لما حدث ما حدث من انكسار المؤمنين في أحد بسبب عدم الصبر، وعدم طاعة القائد، أنزل الله آيات بينات يذكر المؤمنين فيها بالسنن المتحققة في الأمم التي سبقتهم، وإرسال الرسل لهم، وتكذيبهم إياهم، وتحقيق سننه فيهم بإهلاك الظالمين المكذبين، ونصر المؤمنين الموحدين، ثم يعزي سبحانه وتعالى عباده المؤمنين ويبشرهم بالعلو على أعدائهم بعدما أصابهم في أحد من البلاء والقرح.
تفسير قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل يومنا هذا من ليلتنا هذه ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهت بنا الدراسة إلى هذه الآيات الخمس، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141].بعد ذلك الاعتراف العظيم الجليل عاد السياق إلى غزوة أحد، فتأملوا الآيات مرة أخرى، يقول تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141]، وهذا تدبير الله عز وجل.
معنى قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن)
قوله جلت قدرته: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137]، هذا إخبار بالواقع، وذلك أنه قد مضت قبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمم تجلت فيهم سنن الله تعالى، فأهلك الله المكذبين والمشركين والمؤذين لأوليائه وصالح عباده، فإن شاءوا وقفوا على تلك المعالم، فعاد في الجنوب، وثمود في الشمال، وفرعون وقوم لوط في الغرب، فهكذا يعظهم ربهم فيقول لهم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137].إذاً: فنجَّى الله المؤمنين وأهلك الكافرين، وأنتم -أيها المؤمنون- هذا صنيعه معكم، فينجيكم ويهلك أعداءكم الكافرين، وقد تم هذا كاملاً غير منقوص.
معنى قوله تعالى: (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)
ثم قال لهم تعالى: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137]، ومن سورة اليقطين يقول تعالى: وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:133-138]، فتجار هذه الديار يذهبون إلى الشام ومصر فيمرون بقوم لوط وديارهم سدوم وعمُّورة، فيرونها قد أصبحت بحراً ميتاً أو بحيرة منتة. فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137]، أي: المكذبين لله ورسله، المكذبين بشرع الله وسننه وقضائه وقدره.
تفسير قوله تعالى: (هذا بيان للناس وهدىً وموعظة للمتقين)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138]، أي: هذا الذي سمعتموه ويتلوه الله علينا من الآيات بيان للناس، وبالتالي فمن أراد أن يتبين الحق من الباطل، والخير من الشر، والفضيلة من الرذيلة، والسعادة من الشقاء، والكمال من النقصان، فالآيات القرآنية موضحة ومبينة ومفصلة لذلك، وفي نفس الوقت هي هدىً وموعظة للمتقين، أما الفجَّار فلا يجدون فيها هداية ولا موعظة، وذلك لأن قلوبهم منتكسة، فلا يعون ولا يفهمون، ولكن المتقون أولوا القلوب الحية والنفوس الزكية، وأولوا البصائر والنهى، ما من آية في الكون -حتى طلوع الشمس أو غروبها- إلا ويجدون فيها ما يدلهم على علم الله تعالى وقدرته، ووجوب عبادته وطاعته.
تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، أي: يقول الله تعالى لهؤلاء الذين شهدوا معركة أحد: وَلا تَهِنُوا [آل عمران:139]، أي: لا تضعفوا ولا تكسلوا، ولا تقفوا عن أداء رسالتكم وهي نشر دعوة الله والجهاد بها. ثم يقول الله تعالى لهم: وَلا تَحْزَنُوا [آل عمران:139]، أي: ولا تحزنوا على ما فاتكم أو ما أصابكم، واذكروا ذلك الانتصار الذي تم في أول النهار، وإذا بالمشركين -وهم ملوك- يفرون هاربين تاركين أمتعتهم وأسلحتهم، ثم لما زلت القدم وخرج الرماة عن منهج القيادة الذي وضعته، ابتلاهم ربهم في آخر النهار، فأصيبوا بنكبة وبكرب وحزن ما عرفوه في تاريخهم.وها هو ذا الرحمن الرحيم يلاطفهم ويهون من شدة كربهم وحزنهم فيقول لهم: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، حقاً والله لهمُ الأعلون، أما الهابطون والأسفلون فهم الكافرون والمشركون، وإن حصلت تلك الهزيمة المرة فتلك لا تهبط بهم أبداً، إذ إنهم هم المؤمنون، ولهذا قيده بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فالمؤمنون دائماً والله هم الأعلون، فلا يهونون ولا ينزلون ولا يذلون، لكن إذا خرجوا عن سنن الله في الكون وعموا عنها وما أبصروها، وعدلوا عن التمسك بها، فإنه ينزل بهم ما ينزل بغيرهم؛ لأن الله لا يحابي أحداً، إذ إن الله تعالى وضع سنناً في هذا الكون، فمن سلكها في إيمان ويقين فاز ونجا ونجح، ومن تنكبها وبعد عنها أو تعامى عنها ولم ينظر إليها لا بد وأن يصاب بالهون والدون والذل والصغار والحقار. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، أي: أعلى كل الخلق، فلو أن مؤمناً واحداً من المؤمنين الصادقين وضع في كفة ميزان، ووضعت البشرية كلها من أهل الكفر والشرك في كفة أخرى، والله لرجحت كفة المؤمن، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله عز وجل لا يرضى بأن يؤذى مؤمناً من المؤمنين وأن يَسْلَم كل الكافرين، بل يرضى بأن يؤذى كل الخلق من الكافرين دون ذلك المؤمن، والسر أن هذا المؤمن عرف ربه وعبده وأحبه وخافه ورهبه، بل كل حياته له، بينما أولئك الكفرة الضلال المشركون كفروا بخالقهم، وجهلوه وما تعرفوا عليه، وما سألوا عنه، وما سألوا عن محابه، ما أطاعوه، وبالتالي كيف تكون لهم منزلة عند الله تعالى؟! إن منزلتهم عند الله أحط من منزلة القردة والخنازير والكلاب والحيات، فهل عرف البشر هذا؟! المؤمنون عرفوا؛ لأن المؤمن الحق يرضى أن يقتل أو يقطع أو يصلب ولا يرضى أن يكفر بالله عز وجل، فهذا خباب بن الأرت لما وضعوه على المشنقة خارج الحرم ليقتلوه، جاءه أبو سفيان ممثل قريش يعرض عليه المساومة، فقال له: هل ترضى الآن أن تذكر آلهتنا بخير وتذكر محمداً بسوء ونطلقك فتعود إلى أهلك؟ والمشركون مجتمعون نساء ورجالاً ينتظرون هذا الحفل لقتل هذا الرجل، فقال حالفاً بالله: والله لا أرضى أن يُشاك محمد بشوكة وأعود أنا إلى أهلي!ولكي تعرفوا هبوط البشر عندما يكفرون بالله ولقائه، وأنهم أحط من القردة والخنازير، اقرءوا آية من سورة البينة من قصار المفصل نسمعها في أغلب الأوقات: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، شر بمعنى: أشر، والبريئة: الخليقة كلها.فقول ربنا لأصحاب رسولنا صلى الله عليه وسلم: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ [آل عمران:139]، أي: والحال أنكم أنتم الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، وهذا القيد قول نوراني، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، أي: هذا الكمال الذي ظفرتم به وحصلتم عليه إنما هو لإيمانكم بالله عز وجل، أما الكافر فوسخ لا قيمة له عند الله، ومن شك في ذلك فليرجع إلى أخبار الله التي تقضي وتحكم بأن الكافر يعيش مليارات السنين في عالم الشقاء فلا تمسح له دمعة أبداً، وليست سنة ولا ألفاً ولا عشرة، بل مليارات السنين بلا نهاية أبداً، وسر ذلك: أن الله خلقهم ورزقهم، وخلق كل شيء من أجلهم، ولم يطلب منهم أكثر من الاعتراف به عز وجل، ثم طاعته فيما يهيؤهم لكمالهم وسعادتهم، وينجيهم من خسرانهم وشقائهم، فيرفضون ذلك ويأخذون في الافتراء والكذب والتضليل، لا لشيء، وإنما فقط حتى لا يؤمنوا بالله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله...)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].
البلاء الذي يصيب المؤمنين يصيب أعداءهم أيضاً
ويقول لهم أيضاً: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، أي: كما قد قُتِل منكم سبعون يوم أحد، أربعة من المهاجرين والباقون من الأنصار، فقد قُتِل منهم سبعون وأسر منهم سبعون في بدر، وغنمتم غنائمهم كلها. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، والقَرح والقُرح كالضَعف والضُعف: آلام الجراحات بالسهام أو بالسيوف.
من سنة الله تعالى أن الأيام دول
قوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، وسيأتينا أنه لما انتهت المعركة جاء أبو سفيان يلاحق ويتابع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاء حتى قارب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: أفيكم ابن أبي كبشة؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر بن الخطاب؟ فقال له عمر رضي الله عنه: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وأنا عمر، فقال أبو سفيان: الحرب سجال، يوم بيوم، يعني: أصبتم منا في بدر فأصبنا منكم اليوم، فلا تحزنوا ولا تأسفوا، فقال عمر: قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: قد خسرنا إذاً، وهو كذلك. والشاهد عندنا في قول ربنا لهم: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، وسميت الدولة دولة من المداولة؛ لأنها تدول من شخص إلى آخر، والأيام دول، فأيام رخاء وأيام غلاء، أيام سعادة وأيام شقاء، أيام أمن وأيام خوف، وهذا كله ماض حسب سنة الله عز وجل، فهو الذي يؤمن من يشاء ويخوف من يشاء، ولكن يؤمن ويخوف بسنن لا تتخلف.
معنى قوله تعالى: (وليعلم الله الذين آمنوا)
قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140]، أي: فعل الله تعالى هذا ليُظهر علمه الغيبي إلى العلن والمشاهدة، ولتظهر حكمته وسنته في خلقه، وليعلم الذين آمنوا من الذين كفروا، إذ إنه رجع مع ابن أبي ثلاثمائة مقاتل جلهم منافقون كافرون، ولولا هذا الامتحان لم يظهروا، ولو ما جاء الله بالمشركين إلى المدينة ليقاتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوفق الرسول للخروج إليهم، فكيف يتميز الكافر من المؤمن؟!
معنى قول الله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء)
قوله تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، وقد اتخذ منهم سبعين شهيداً، وهذا بالنسبة إلى من قُتِل في سبيل الله في الدنيا، وأما يوم القيامة فنشهد أيها المؤمنون على أمم قد سبقت، فيؤتى بنوح فيقال له: هل بلغت يا نوح؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيؤتى بنا فنشهد أن نوحاً قد بلغ أمته، وذلك أننا قد قرأنا في كتاب الله فعرفنا قصة نوح وقومه -في جميع السور- وأنه قد بلغ رسالته، وبالتالي فيتخذ منا شهداء بمعنى: يُستشهدون في المعركة فيدخلون الجنة، وشهداء على الأمم السابقة واللاحقة، وهذه مرتبة عالية وفضيلة لا تعادلها فضيلة.
معنى قوله تعالى: (والله لا يحب الظالمين)
قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، قد عرفنا معاشر المؤمنين والمؤمنات! أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع شيئاً في غير موضعه فقد ظلم وهو ظالم، فالذين عبدوا غير الله وضعوا هذه العبادة في غير موضعها، وبذلك يكونون قد ظلموا وهلكوا، فالرماة الذين نزلوا من الجبل وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا المركز خالياً فاحتله المشركون، هؤلاء قد ظلموا؛ لأن الرسول وضعهم في هذا الموضع وهم وضعوا أنفسهم خارجه يطلبون الدنيا والمال.وكلمة: (الظلم) عامة، وأفظعها ظلم الله تعالى، وذلك بأن تأخذ حق الله وتعطيه لغيره، وبعض طلبة العلم ترددوا في هذا التعبير، فقالوا: كيف نقول: ظلموا الله؟! فنقول: إذا كانت هذه العبادة شرعها الله له، ثم عبدنا بها غيره فقد ظلمنا ربنا وأخذنا حقه، ووضعنا شيئاً في غير موضعه، ومن الظلم أيضاً: ظلم الناس في أعراضهم، في أموالهم، في أبدانهم، في كل ما يؤذيهم، ومن الظلم كذلك أن تغني في هذا الحلقة العلمية؛ لأن الموضع ليس موضع غناء، وهكذا يقول تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].
تفسير قوله تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)
قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141]. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:141]، والتمحيص: تمحص الشيء حتى يذهب كل ما كان فيه من دخن ودخل، وذلك ليبقى فقط العنصر الصافي الكريم، كما تمحص الجواهر والذهب وغيرها، وهؤلاء قد ابتلاهم الله بهذه المعركة وساقهم إليها، وكتب ما كتب، والعلة: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141].وهذه الآيات غداً لو ندخل في الإسلام دخولاً جديداً ونواجه نفس المعركة ونتلوا الآيات وكأنها نزلت علينا في يومنا هذا؛ لأنه كتاب خالد بخلود هذه الحياة، ولا يرفعه الله من صدور العباد إلا في نهاية هذه الحياة.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [معنى الآيات: لما حدث ما حدث من انكسار المؤمنين بسبب عدم الصبر ] أي: ما صبروا كما أمرهم قائدهم [ والطاعة اللازمة للقيادة، ذكر تعالى تلك الأحداث -التي تمت في أحد- مقرونة بفقهها لتبقى هدىً وموعظة للمتقين من المؤمنين ]؛ لأن غير المؤمنين لا يستفيدون [ وبدأها بقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران:137]، فأخبر تعالى المؤمنين بأن سننه قد مضت فيمن قبلهم من الأمم، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، فقد أرسل الله تعالى إليهم رسله فكذبوهم، فأمضى تعالى سنته فيهم، فأهلك المكذبين ونجا المؤمنين بعد ما نالهم من أذى أقوامهم المكذبين، وستمضي سنته اليوم كذلك، فينجيكم وينصركم ويهلك المكذبين أعداءكم، وإن ارتبتم -في الأمر- فسيروا في الأرض، وقفوا على آثار الهالكين، وانظروا كيف كانت عاقبتهم.ثم قال تعالى: هذا الذي ذكرت في هذه الآيات هو بيان للناس يتبينون به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وهو هدىً يهتدون به إلى سبل السلام، وموعظة يتعظ بها المتقون لاستعدادهم بإيمانهم وتقواهم للاتعاظ، فيطيعون الله ورسوله فينجون ويفلحون، هذا ما تضمنته الآيتان: الأولى والثانية.وأما الآيتان: الثالثة والرابعة فقد تضمنتا تعزية الرب تعالى للمؤمنين ] بمعنى: أنه يحملهم على الصبر [ تضمنت تعزية الرب تعالى للمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد، إذ قال تعالى مخاطباً لهم: وَلا تَهِنُوا [آل عمران:139]، أي: لا تضعفوا فتقعدوا عن الجهاد والعمل، ولا تحزنوا على ما فاتكم من رجالكم، وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، أي: الغالبون لأعدائكم المنتصرون عليهم، وذلك فيما مضى وفيما هو آتٍ مستقبلاً، بشرط إيمانكم وتقواكم، واعلموا أنه إن يمسسكم قرح بموتٍ أو جراحات لا ينبغي أن يكون ذلك موهناً لكم، قاعداً بكم عن مواصلة الجهاد؛ فإن عدوكم قد مسه قرح مثله، وذلك في معركة بدر، والحرب سجال، يوم لكم ويوم عليكم، وهي سنة من سنن ربكم في الحياة، هذا معنى قوله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].ثم بعد هذا العزاء الكريم الحكيم ذكر تعالى لهم علة هذا الحدث الجلل والسر فيه وقال: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140] ] أي: ما كانت هذه المعركة لغير حكمة، وإنما كانت مقصودة لهذا البيان [ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، أي: ليظهر بهذا الحادث المؤلم إيمان المؤمنين، وفعلاً فالمنافقون رجعوا من الطريق بزعامة رئيسهم المنافق الأكبر عبد الله بن أبي ابن سلول -عليه لعائن الله- والمؤمنون واصلوا سيرهم وخاضوا معركتهم، فظهر إيمانهم واتخذ الله منهم شهداء ]، ولولا الهزيمة لم يكن بيننا شهيد أبداً، إنها حكمة الله تعالى، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140].قال: [ واتخذ الله منهم شهداء، وكانوا نحواً من سبعين شهيداً، منهم أربعة من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ]، ثم عبد الله بن جحش صهر النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمته، ثم عثمان بن شماس [ وكانوا نحواً من سبعين شهيداً، منهم أربعة من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومصعب بن عمير ]، وقبره الآن موجود بجوار قبر حمزة، ومصعب هذا كان شاباً لأبوين لم ينجبا سواه، وقد كانوا يكسونه الحرير وأفضل الملابس، ولما أن دخل في الإسلام وآمن بالله وبلقائه وبرسوله تغير حاله، قال أحد الصحابة: لقد رأيته يرتدي جلد شاة في مكة، وقد استشهد في أحد فما وجد الرسول ما يكفنه به إلا ثوباً واحداً غليظاً من جلد، إن غطَّى به رأسه انكشف نصفه الأسفل، وإن غطَّى أسفله انكشف رأسه، فجيء بالعشب والنبات ووضعوه على رجليه، وما إن هاجر إلى المدينة قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وطاف بهذه الديار حتى دخل الإيمان إلى كل دار من دور الأنصار، وصبر ففاز رضي الله عنه وأرضاه، ونحن ما يمسنا من هذا شيء ومع ذلك نُعرض عن ذكر الله والعياذ بالله!قال: [ والباقون من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين. وقوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:141]، أي: أوجد هذا الذي أوجده في أحد من جهاد وانكسار تخليصاً للمؤمنين من ذنوبهم وتطهيراً لهم ليصفوا الصفاء الكامل، ويمحق الكافرين بإذهابهم وإنهاء وجودهم ]. وهذا تدبير العليم الحكيم، والآن لمَ هبط المسلمون واستعمرتهم أوروبا والغرب؟! لمَ فعل الله هذا؟! ليمحص الله الذين آمنوا، إذ لا يحدث حادث في الكون إلا بعلم الله وعلى وفق سننه سبحانه وتعالى.قال: [ إن هذا الدرس نفعَ المؤمنين فيما بعد، فلم يخرجوا عن طاعة نبيهم، وبذلك توالت انتصاراتهم حتى أذهبوا ريح الكفر والكافرين من كل أرض الجزيرة ]، أي: أن هذه الهزيمة التي كانت في أحد كان لها أثرها الطيب في موالاة الجهاد والانتصارات، وبيان ذلك: أن العلماء قالوا: لو أنهم اغتروا بكون النبي بينهم، وبكونهم مؤمنين يقاتلون في سبيل الله، وأنهم لن ينهزموا، سواء تسلحوا أو رموا بالسلاح، أخذوا بالحيطة أو لم يأخذوا بها، لو قالوا هذا ما انتصروا في المستقبل في أي معركة من المعارك، لكن علمهم الله أنهم رغم أنهم مع نبيهم، ويقاتلون في سبيل الله تعالى، وهم المؤمنون الصادقون، إذا خرجوا عن سنته في الانتصار وتعرضوا للهزيمة هزمهم وأذلهم.وقد ذكرت لكم أيضاً رؤيا منامية ذكرها الشيخ رشيد رضا -تغمده الله برحمته- في المنار فقال: رأى شيخنا محمد عبده -رحمة الله عليه- النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو راجع من أحد إلى المدينة على بغلته، والمؤمنون وراءه، وهو يقول صلى الله عليه وسلم: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة على النصر! وهو والله كذلك، إذ لو اغتر المؤمنون بإيمانهم، وأنهم أولياء الله تعالى، حملهم ذلك على الإعراض عن سنن الله، وعدم الأخذ بما وضع الله من السنن في هذا الكون، لا بد وأن ينكسروا ويتحطموا، إذ الإيمان يلزم أصحابه بألا يتركوا سنة من سننه الله تعالى، فكيف يتركون سنناً واجبة في النصر ثم يطلبون الانتصار؟! فهذا درس للمسلمين، وقد استفاد من ذلك أصحاب رسول الله وأولادهم في خلال خمسة وعشرين سنة فقط، حيث قد تم لهم النصر في العالم كله، من إندونيسيا إلى ما وراء نهر السند؛ لأنهم تربوا على هذه التربية الإلهية.قال: [ إن هذا الدرس نفع المؤمنين فيما بعد، فلم يخرجوا عن طاعة نبيهم، وبذلك توالت انتصاراتهم حتى أذهبوا ريح الكفر والكافرين من كل أرض الجزيرة ]، إذ ما مات صلى الله عليه وسلم وفي الجزيرة من يعبد غير الله.
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات ]، فهيا نتدبر هذه الآيات، فنسمعكموها مرة أخرى ونذكر الهداية وتأملوا من أين استنبطت وأخذت؟ قال تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141].قال المؤلف: [ من هداية الآيات: أولاً: عاقبة المكذبين بدعوة الحق الخسار والوبال ]، أي: عاقبة المكذبين بدعوة الحق الخسران والبوار وإلى يوم القيامة. قال: [ ثانياً: في آيات القرآن الهدى والبيان والمواعظ لمن كان من أهل الإيمان والتقوى ]، أما الذين ما آمنوا وما اتقوا فهم عميان، وأعظم من ذلك أنهم أموات، أو أحياء يمشون في الظلام، وبالتالي كيف يهتدون؟! إما أن نقول: أموات لأن القرآن روح، وهم قد فقدوا الروح فماتوا، فهم يعيشون حياة البهائم، والنور هو القرآن الذي أعرضوا عنه وكفروا به، فهم يمشون في الظلام فكيف يهتدون؟! ومن أراد دليلاً على ذلك فلينظر إلى العالم الإسلامي وهبوطه تتجلى له هذه الحقيقة، إذ العالم الإسلامي لا يحيا حياة حقيقية، واليهود يسخرون منه.قال: [ ثالثاً: أهل الإيمان هم الأعلون في الدنيا والآخرة ]، أي: أهل الإيمان الحق، وكلمة المؤمن معناه: المتأصل في إيمانه العريق فيه، لا مجرد نسبة أو يقول: أنا مؤمن.إذاً: أهل الإيمان هم الأعلون في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا هم الأعلون بشهادة الله تعالى، وفي الآخرة هم في الجنات والكفار في السفلى من الدركات والعياذ بالله.قال: [ رابعاً: الحياة دول وتارات، فليقابلها المؤمن بالشكر والصبر ]، أي: إن كانت رخاءً وأمناً وعافية فليقابلها المؤمن بشكر الله تعالى ليلاً ونهاراً، وذلك بلسانه وبجوارحه وبقلبه، وإن جاءت البلوى والعذاب والفقر والخوف والألم فليقابلها المؤمن بالصبر، وهو فائز في كلا الحالتين.فيوم لنا ويوم علينا ويوم نُساء فيه ويوم نسروالحرب سجال والدنيا دول وتارات، يعني: مرات، فيجب أن يقابلها المؤمن بالشكر والصبر، فإن كان الموقف موقف سعادة فليكثر من شكر الله عز وجل، وإن كان موقف شقاء فليصبر ولا يخرج عن طاعة الله تعالى وذكره وعبادته حتى يفرج الله ما به. قال: [ خامساً: الفتن تمحص الرجال ]، والفتنة هي التي يُفتن بها الناس في أموالهم وفي أبدانهم وفي عقائدهم، ومن شأن هذه الفتن أنها تمحص الرجال الصادقين فتظهر كمالاتهم، وتودي وتهلك العاجزين الجزعين، ولذا قال المؤلف: [ وتودي بحياة العاجزين الجزعين ]، فهذه هداية الله عز وجل من هذه الآيات. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (58)
الحلقة (199)
تفسير سورة آل عمران (62)
أنكر الله على عباده المؤمنين ظنهم أنهم سيدخلون الجنة بمجرد الإيمان ودون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد، بل لابد لهم من الابتلاء تمحيصاً لهم وإظهاراً للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكافرين فيها، وإظهاراً للصابرين الثابتين والجزعين المرتدين، ثم عاب الله عليهم قلة صبرهم وانهزامهم في معركة أحد، مذكراً لهم بتمنيات من لم يحضروا بدراً للقتال حتى يحوزوا ما حازه من سبقهم، وانكشافهم عند وقوع القتال في أحد.
تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل القرآن العظيم؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الأربع، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:142-145].قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ [آل عمران:142]، أي: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة دار السلام، دار النعيم المقيم التي سقفها عرش الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه، و(أل) هنا في (الجنة) للعهد، وهذا الحسبان باطل، والاستفهام هنا إنكاري. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، وعلم الله تعالى هنا علم ظهور وانكشاف، أما العلم الأزلي القديم فقد علم الله أهل الجنة وأهل النار، ولهم خلق الجنة والنار. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [آل عمران:142]، وخاضوا المعارك في بدر وفي أحد، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، على إيمانهم وتقواهم وجهادهم وحبهم لرسولهم، وبالتالي ففرض الله الجهاد عليكم من أجل أن يكشف النقاب ويزيح الستار عن الواقع.إذاً: فلا بد من الابتلاء والامتحان والاختبار، إذ قد فرض الله الجهاد وقدَّره على عباده ليظهر صدق إيمانهم وصبرهم، أو يظهر العكس، أي: يظهر نفاقهم وكفرهم وعدم ثباتهم.
تفسير قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه...)
قال تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143].قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمران:143]، وهذا يخص الذين تأسفوا عن عدم حضورهم غزوة بدر، إذ قد علمنا يقيناً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن التعبئة العامة في بدر، وإنما ذكر هذا الخبر: أن عيراً لقريش قد خرجت من الشام، فهيا بنا نخرج لعل الله تعالى يرزقنا إياها، فمن شاء خرج ومن شاء لم يخرج، فالذين خرجوا فازوا أولاً بذلكم اللقب الذي لا يُنسى: ( وما يدريك لعل الله قد نظر إلى أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، وفازوا بالغنائم، وفازوا بشفاء صدورهم من أعدائهم، إذ قتلوهم وأسروهم، وهناك من المؤمنين من لم يخرج إلى بدر، فتأسف وتحسر وتألم، وتمنى أن لو يأتي غزو آخر لكان أول من يخرج، وأول من يستشهد إن شاء الله تعالى، وهذا معنى قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمران:143]، أي: في المعركة، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، فلِمَ تهربون؟ ولمَ تفرون؟ ولمَ تحجمون؟ ولمَ تقولون وتقولون وقد كنتم تمنيتم ذلك وأراكم الله فقال: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]؟ وهذا بعد وقوع الهزيمة؛ إذ قد علما أن النصر في أول النهار كان للرسول والمؤمنين؛ لأن القيادة حكيمة، والترتيب كان عجيباً، لكن لما عصى الرماة أمر رسول الله وهبطوا من الجبل، واحتل خالد رضي الله عنه مراكزهم الدفاعية ووقع المسلمون بين فكي مقراظ فكانت الهزيمة، وشاهدوا الموت بأعينهم، فقال تعالى مصوراً ذلك: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، فليس من حقكم أن تفروا وتنهزموا وقد كنتم تطلبون الشهادة وتتمنونها، وقد ثبت من ثبت، واستشهد من استشهد.
تفسير قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل...)
قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]قوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، وذلك أن ابن قمئة -أقمأه الله- ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بحجر فشج وجهه وكسر رباعيته، وصاح: قتلت محمداً، والشيطان -عليه لعائن الله- استغل هذه الفرصة وصاح: محمد قد قتل، وانتشر الخبر في الصفوف المصابة بالهزيمة، فوقع الذي وقع، فمنهم من قال: هيا بنا إلى ابن أبي يأخذ لنا عهوداً ومواثيق مع أبي سفيان ونعود إلى ديننا، ومنهم من قال: إذا مات محمد فرب محمد لا يموت، فلمَ الهزيمة والرضا بالكفر بعد الإيمان؟! وعلى كل حال كانت الواقعة ذات حسرة عظيمة، وحسبنا أن يقول الله تعالى لنا ولهم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، أي: قد ماتت الرسل قبله ومضت، وهو أيضاً والله سيموت ويمضي. أَفَإِينْ مَاتَ [آل عمران:144]، أي: موتة حسب سنة الله، أو قتل في المعركة، انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، مرتدين كافرين، وهذا هو الذي أصاب ضعاف الإيمان، وأصاب المنافقين الطابور الخامس.ثم قال تعالى: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ [آل عمران:144]، منتكساً مرتداً، فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144]، إي والله لن يضر الله شيئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، على صبرهم وشكرهم، ومن باب أولى سيجزي الكافرين بمر العذاب وأشده وأليمه، والكافر ضد الشاكر.
تفسير قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله...)
قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145].ثم قال تعالى مقرراً هذه الحقيقة: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145]، أي: يستحيل أن تموت نفس بدون إذن الله تعالى، وإن شئتم حلفنا لكم بالله، أبعد إخبار الله تعالى إخبار؟! وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ [آل عمران:145]، أي: ما من الأنفس، أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145] بموتها، إذ هو الذي حدد موعدها وقرره وسجله في كتاب المقادير، فوالله لا تتأخر بلحظة ولا تتقدم بأخرى أبداً، فلو ما كان هذا افلآن يموت منا خمسين أو ستين، فهل نملك نحن ألا نموت؟ الآن في هذه اللحظة يموت أناس، فيتململ الرجل وتخرج نفسه، لكن ما دامت الأرواح والأنفس قد قُدِّر لها مواعيد لموتها، فيستحيل على البشر والجن والملائكة أن يقدموا أو يؤخروا، ومن أجل ذلك انتظمت الحياة ومشت إلى نهايتها، إذ لو كان الموت يأتي فجأة بدون تقدير ولا تقرير ولا قضاء ولا قدر، فإن الحياة لا تنتظم ولا ساعة واحدة. وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145]، أي: بأجل معين ووقت محدد باللحظة والساعة والدقيقة، وقد كشفت الأيام عن هذه الحقيقة، فقد حاول بعض المبطلين إحياء زعمائهم فما استطاعوا ولا ساعة واحدة، فانكشف عوارهم وآمنوا بأن النفس البشرية لا تموت إلا إذا أذن الله بموتها؛ فحدد الله الزمان والمكان، ووضع الأسباب أيضاً والآلات التي تموت بها، وهذه حقيقة تبقى في نفوسنا لا تتغير، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145].ثم قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145]، أي: من ثواب الدنيا، وهذا أيضاً موقوف على سنة الله عز وجل في طلب الدنيا، فأنت تريد الدنيا وتتمناها، وأنت صعلوك مثلي لا تقوم ولا تقعد، ولا تبيع ولا تشتري، فكيف تريدها إذاً يا أخي؟! كذلك ثواب الآخرة، فأنت تريد الجنة والحور العين بدون صلاة ولا رباط ولا جهاد! إن ذلك لا يتحقق، ولذلك فافهموا هذا، فإذا أراد العبد الدنيا وعمل بسنن الله تعالى للحصول عليها، فإنه يُعطى منها بقدر ما كتب له، وإن أراد الآخرة ورغب فيها وأحبها فإن الله يعطيه ثوابها، والحمد لله فقد قال تعالى: (ثواب)، والثواب الجزاء على العمل، وليس مجرد أمنية. وهناك آية في سورة هود فاصلة في هذه القضية، وهي قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]، فكونك فرعون أو طاغية أو كافراً أو مجرماً فهذا لا يجعل الله تعالى يخيبك في زراعتك أو في صناعتك أو في تجارتك أو في شيء آخر. مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]، فلا تفهم أن الله يحرم الكافر نتاج مزرعته أو مصنعه لأنه كافر، وإنما يعطيه جزاء عمله إذا كان يسهر الليالي، ويربط الحزام على بطنه، ويواصل العمل، وأما إذا كان فاشلاً غير عامل فلا يعطيه إلا على قدر عمله، كذلك حتى لا تقول: كيف أن الله يغني الكفار؟ كيف أن الله ينبت زرعهم؟ إن هذا سؤال باطل، إذ إن الله عز وجل يعطيهم جزاء أعمالهم وإن كانوا صعاليك وأحداثاً وفقراء يشحتون، وقد رأيناهم، ففي فرنسا الصعاليك يشحتون ولا يعملون، لا لأنهم كفروا فأفقرهم، وإنما لأنهم لم يعملوا، ولو عملوا وسهروا وأداروا المصانع لأعطاهم على قدر أعمالهم بدون زيادة. فكذلك الآية هنا: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145]، أي: أراد ثواب الدنيا بعمله، وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ [آل عمران:145]، أي: جزاء عمله في الدار الآخرة، نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145] جزاء آخر. فهيا نكن من الشاكرين، ولنبدأ من هذه الليلة، فإذا أكلت أو شربت أو مشيت أو قعدت أو نمت أو استيقظت، فأنت دائماً: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، فهو سبحانه قد أعطاك صحة في بدنك، في عقلك، في فهمك، في علمك، وأعطاك أيضاً قوتاً زائداً أو مالاً كثيراً، فاشكر الله تعالى، وأنفق من ذلك الذي أعطاك لله تعالى، تكن بذلك قطعاً من الشاكرين، وسيكون جزاؤك فوق الثواب المعد لك، إذ الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين ولم يقتل؛ لأن الله أنزل عليه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، فقبل نزول هذه الآية كان على باب حجرة الرسول حرس ليس كحرسنا اليوم بالراتب، وإنما كان كل مؤمن يقول: نمشي نحرس نبينا ساعة، فيتناوبون في الحراسة، ولا تراهم إلا راكعين ساجدين حول الحجرة والرسول يعلم بذلك؛ لأن أعداءه من اليهود والمنافقين والمشركين يضمرون له شراً عليه الصلاة والسلام. فلما نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، قال للحرس: عودوا إلى دياركم، فقد أغناني الله عنكم، لكن قد يقول قائل: وكيف إذاً انزعج الناس لما سمعوا أن محمداً قد قتل؟ والجواب: انزعجوا لأنها الفتنة، ولأن القائل بهذا منافقون وضعفاء فتتخلخل نفوس السامعين.قال: توفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في وقت دخوله المدينة مهاجراً، أي: أن يوم دخوله كان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، وذلك ضحىً حين اشتد الحر، ودفن يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء. قال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، ولما كان اليوم الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من دفن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا. أي: ما إن نفضنا أيدينا من التراب من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا، أو ليست هي القلوب التي كانت أمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنتم يا أهل الدرس اتركوا الدرس وتخلوا عنه وانظروا إلى قلوبكم إذا كنتم حذاقاً، والله لتجدنها تبدلت؛ لأن الحياة مع الله كالحياة مع رسول الله، حياة خلاف الحياة مع غير الله ورسوله، مع الفسقة والماجنين، ومع الدنيا وطلابها.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله ورحمنا وإياه: [ معنى الآيات: ما زال السياق متعلقاً بغزوة أحد، فأنكر تعالى على المؤمنين ظنهم أنهم بمجرد إيمانهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد؛ تمحيصاً لهم وإظهاراً للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكاذبين فيها، كما يظهر الصابرين الثابتين والجزعين المرتدين، فقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142] ]. وهذا الحسبان باطل؛ لأنه لابد من الابتلاء وإظهار الغطاء [ ثم عابهم تعالى على قلة صبرهم وعلى انهزامهم في المعركة، مذكراً إياهم بتمنيات الذين لم يحضروا وقعة بدر، وفاتهم فيها ما حازه من حضرها من الأجر والغنيمة، بأنهم إذا قدر لهم قتال في يوم ما من الأيام يبلون فيه البلاء الحسن، فلما قدر تعالى ذلك لهم في وقعة أحد جزعوا وما صبروا وفروا منهزمين، فقال تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143] ]. وكان منهم من وفى بما وعد فقاتل حتى استشهد، وهو أنس بن النضر عم أنس بن مالك، فإنه لما رأى المسلمين قد انكشفوا قال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، وباشر القتال وهو يقول: إني لأجد ريح الجنة، إني لأجد ريح الجنة، ولما قتل وِجد به أكثر من ثمانين طعنة برمح وضربة بسيف، ولم يستطع أحد أن يعرفه إلا أخته، فقد عرفته بعلامة في أصبعه. [ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران:143]، أي: فلمَ انهزمتم، وما وفيتم ما وعدتم أنفسكم به؟ هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية.وأما الآية الثالث فقد تضمنت عتاباً شديداً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اشتدت المعركة، وحمي وطيسها، واستحرَّ القتل في المؤمنين نتيجة خلو ظهورهم من الرماة الذين كانوا يحمونهم من ورائهم، وضرب ابن قمئة -أقمأه الله- رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في وجهه فشجه وكسر رباعيته، وأعلن أنه قتل محمداً، فانكشف المسلمون وانهزموا، وقال من قال منهم: لمَ نقاتل وقد مات رسول الله؟! وقال بعض المنافقين: نبعث إلى ابن أبي يأتي يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان ونعود إلى دين قومنا! فقال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، وما دام رسولاً كغيره من الرسل، وقد مات الرسل قبله، فلمَ ينكر موته أو يندهش له إذاً؟! بعد تقرير هذه الحقيقة العلمية الثابتة أنكر تعالى بشدة على أولئك الذين سمعوا صرخة إبليس في المعركة (قتل محمد) ففروا هاربين إلى المدينة، ومنهم من أعلن ردته والعياذ بالله في صراحة وهم المنافقون، فقال تعالى: أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فعاتبهم منكراً على المنهزمين والمرتدين من المنافقين ردتهم، وأعلمهم أن ارتداد من ارتد أو يرتد لن يضر الله تعالى شيئاً، فالله غني عن إيمانهم ونصرهم، وأنه تعالى سيجزي الثابتين على إيمانهم وطاعة ربهم وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيجزيهم دنيا وأخرى بأعظم الأجر وأحسن المثوبات، هذا ما تضمنته الآية الثالثة.أما الآية الرابعة فقد تضمنت حقيقتين علميتين: الأولى: أن موت الإنسان متوقف حصوله على إذن الله خالقه ومالكه؛ فلا يموت أحد بدون علم الله تعالى بذلك، فلم يكن لملك الموت أن يقبض روح إنسان قبل إذن الله تعالى له بذلك، وشيء آخر: وهو أن موت كل إنسان قد ضبط تاريخ وفاته باللحظة فضلاً عن اليوم والساعة، وذلك في كتاب خاص ] وهو كتاب المقادير، أي: اللوح المحفوظ [ فليس من الممكن أن يتقدم أجل الإنسان أو يتأخر بحال من الأحوال، هذه حقيقة يجب أن تعلم من قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145] ] أي: مؤقتاً ليس بمبهم.قال: [ والثانية ] أي: الحقيقة الثانية التي يجب أن نعلمها وقد علمناها [ أن من دخل المعركة يقاتل باسم الله، فإن كان يريد بقتاله ثواب الدنيا فالله عز وجل يؤته من الدنيا ما قدره له، وليس له من ثواب الآخرة شيء، وإن كان يريد ثواب الآخرة لا غير، فالله عز وجل يعطيه في الدنيا ما كتب له، ويعطيه ثواب الآخرة وهو الجنة وما فيها من نعيم مقيم، وأن الله تعالى سيجزي الشاكرين بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. هذه الحقيقة التي تضمنها قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145] ]. وهنا تعليق قال: رثت صفية بنت عبد المطلب -والرثاء: البكاء على الميت- عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم بأبيات من الشعر دلت على مدى ما أصاب المؤمنون من حزن وألم بفراق نبيهم صلى الله عليه وسلم، حتى أن عمر -على جلالته- قال على المنبر والسيف بيده: محمد ما مات ولن يموت، وكيف يموت والمنافقون ما زال منهم فلان وفلان؟! وكان أبو بكر في العوالي فجاء فدخل الحجرة فوجد الرسول مسجى في كفنه، فكشف عنه وقبله بين عينيه وقال: ( طبت يا رسول الله حياً وميتاً )، ثم خرج فوجد عمر هائجاً فقال له: اهدأ يا عمر، ثم صعد المنبر وقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فهدأ الموقف تماماً، فكان رضي الله عنه حكيماً وأهله الله لخلافة رسوله صلى الله عليه وسلم.ونعود إلى الأبيات التي قالتها صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت رضي الله عنها: أفاطم صلى الله رب محمد على جدث أمسى بيثرب ثاوياً تخاطب فاطمة بنت الرسول، فهي تشاركها في حزنها وألمها. فدىً لرسول الله أمي وخالي وعمي وآبائي ونفسي ومالي عرفتم بمَ فدت رسول الله؟ ما تركت شيئاً حتى نفسها. فلو أن رب الناس أبقى نبينا سعدنا ولكن أمر الله قد كان ماضياً هذه هي صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
قال المؤلف: [ هداية الآيات ] هذه الآيات الأربع فيها هدايات، إذ والله لا تخلو آية من هداية، تهدي إلى أين؟ إلى ملاعب الكرة؟! إلى المقاهي والمراقص؟! إنها تهدي أصحابها إلى رضا الله وحبه والنعيم المقيم في جواره بالاستقامة عقيدة وقولاً وعملاً، وهذا هو الصراط المفضي بالسالكين إلى دار السلام. قال: [ من هداية الآيات: أولاً: الابتلاء بالتكاليف الشرعية الصعبة منها والسهلة من ضروريات الإيمان ]، ولا تفهم أبداً أنك تؤمن وتخالف ربك؛ لأن بعض الغافلين ممن يدخلون في الإسلام يبقى على الخمر والزنا والباطل، وهذا لا ينفع، إذ لابد من الابتلاء، وأول شيء أن تغتسل بالماء البارد إذا ما عندك ساخن، وأن تناجي ربك خمس مرات في اليوم والليلة، فتأتيه إلى بيته أو إلى مكان طاهر وتناجيه، ثم بعد ذلك تؤمن بكل ما أمرك بالإيمان به، أطاقه عقلك أو عجز عنه، ثم بعد ذلك تحل ما أحل، وتحرم ما حرم، وتواصل ذلك إلى أن تلقى الله عز وجل، أما أن تقول: أنا آمنت فقط، ثم تمرح كما يحلو لك، والله لا يصح هذا الإيمان أبداً، فهذه هي الهداية الأولى، وقد قال تعالى وقوله الحق: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]. [ ثانياً: تقرير رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ]، فقد قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144]، أي: تقرير للرسالة، إذ إنه ليس بتاجر، ولا بساحر، وإنما قال: رسول فقط، قال: [ وبشريته المفضلة ] أي: أنه بشر قد يموت وقد يقتل كما يقتل البشر ويموتون، ولكنها بشرية مفضلة على كل بشرية، قال: [ وموتته المؤلمة لكل مؤمن ]. [ ثالثاً: الجهاد وخوض المعارك لا يقدم أجل العبد، والفرار من الجهاد لا يؤخره أيضاً ]؛ لأن الله قال: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران:145]. [ رابعاً: ثواب الأعمال موقوف على نية العاملين وحسن قصدهم ]، أي: أن الثواب على الأعمال متوقف على النية وحسن القصد، فمن جاهد للمال فإنه يثاب بالجنة على جهاده فيعطى المال، ومن جاهد لأجل إعلاء كلمة الله فإنه يعطى كذلك الجنة، وبالتالي فثواب الأعمال كلها موقوف على النية وحسن القصد، حتى لو أن أناساً في المسجد إذا لم يريدوا بعملهم المشروع وجه الله وثواب الله فلا يعطون تعطى إلا ثواب الدنيا فقط. لكن قد يقول بعض الناس: نحن الآن موظفون نأخذ الراتب، وبالتالي ما لنا أجر، فكيف ذلك؟! فأقول: إذا لم يكن عندكم نية والله لا أجر لكم، إذ إنكم قد أخذتم أجركم، وإن كنتم قد وقفتم حياتكم لله من أول اليوم، فكل أعمالكم لله، واقرءوا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، فالمؤمن كما علمتم يتزوج لوجه الله، ويطلق والله لأجل الله، ويبيع ويشتري والله من أجل الله، ويطلب وظيفة ويعمل بالليل أو بالنهار والله من أجل الله، وبالتالي فحياته كلها وقف لله تعالى؛ لأنه إذا عمل ليوفر طعاماً أو شراباً فهو من أجل أن يعبد الله؛ لأنه إذا لم يأكل أو يشرب فقد يموت، وكذلك إذا طلب كسوة يتقي بها الحر أو البرد فهي من أجل الله، وهكذا حياة المؤمن كلها وقف على الله تعالى، فتراه يبني في جدار لله تعالى، وآخر يهدم في جدار لأجل الله حتى لا يؤذي مؤمناً. [ خامساً: فضيلة الشكر بالثبات على الإيمان والطاعة لله ورسوله في الأمر والنهي ]، وسنجزي الشاكرين بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. اللهم يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا مالك الملك، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك لإخواننا المؤمنين في ألبانيا وفي البوسنة والهرسك وفي غيرها من تلك الديار التي يضايقون فيها ويقتلون ويعذبون من أجل لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم تولهم يا رب ولا تتركهم، اللهم أنزل بأعدائهم البلاء والشقاء والفتنة يا رب العالمين، اللهم اصرفهم عن عبادك المؤمنين، واجعل كيدهم ومكرهم فيهم وبينهم، وانصر إخواننا يا رب العالمين بما تشاء أن تنصرهم به، وإن كنا مقصرين وإن كنا مضيعين وإن كنا مهملين فلا تنظر إلى أعمالنا يا ربنا، فإننا عبيدك وأبناء عبيدك وأبناء إمائك فانصر يا ربنا إخواننا المؤمنين، اللهم انصرهم وأعزهم وسلط على أعدائهم من يؤذيهم، وسلط عليهم من يهزمهم يا رب العالمين، واشف اللهم مرضى إخواننا، فإننا لنا مرضى في البيوت وفي المشافي وفيما بيننا فاشفنا يا ربنا إنك ولي ذلك والقادر عليه. وصلى اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (59)
الحلقة (200)
تفسير سورة آل عمران (63)
بعد أن عاتب الله عز وجل المؤمنين المنهزمين في أحد، ذكر لهم أن التاريخ حافل بالأنبياء الذين قاتلوا أهل الباطل، وقاتلهم معهم أتباعهم المؤمنون، حتى قتل منهم من قتل، فما وهنوا لمصابهم في أنفسهم، وما استكانوا لعدوهم من أهل الكفر، بل صبروا وصابروا ورابطوا، وهذا هو الواجب في حق حملة العقيدة وأهل الإيمان.
تفسير قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث المباركات من سورة آل عمران عليهم السلام، فهيا بنا نتلوا هذه الآيات ثم نتدارسها رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة )، والله إنها لنازلة، فهل من ضجيج؟ فهل من صياح؟ فهل من صخب؟ فهل من لغط؟ فهل من ظلم؟ فهل هناك من اعتدى؟ أسألكم بالله، أليست هذه هي السكينة؟ ( وغشيتهم الرحمة )، إي والله، ( وحفتهم الملائكة )، والله إن الملائكة لتطوف بالحلقة، ( وذكرهم الله فيمن عنده )، من نحن معشر الإخوان حتى يذكرنا الله ويتحدث عنا في الملكوت الأعلى؟! إننا لو أردنا أن نحصل على هذه الجوائز بدون هذا المجلس والله ما نحصل على ذلك، حتى لو بذلنا أرواحنا وأموالنا ووجودنا كله، ولكنها منة الله وعطيته، فهو يهب ما يشاء لمن يشاء، فالحمد لله رب العالمين، فهيا بنا إلى تلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146]، وفي قراءة سبعية: (وكأين من نبي قُتِلَ معه ربيون كثير)، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148]، فمن أراد أن يحبه الله فليتحلى بحلية الصبر، ومن أراد حب الله فليحسن النية والعمل، إذ الله يحب الصابرين والمحسنين، فاللهم ارزقنا حبك وحب كل من يحبك، وحب كل عمل يقربنا من حبك يا رب العالمين. إن هذه الآيات خبر من أخبار العليم الخبير، وأخبار العليم الخبير لا تحتمل الصدق والكذب كأخبار الناس، إذ إن أخبار الله كلها صدق؛ لأنه ليس في حاجة إلى أن يكذب، إذ إنه غني غنىً مطلقاً، فبيده ملكوت كل شيء، فأي حاجة له إلى الكذب؟! فهو سبحانه منزه عن الكذب لاستغنائه عن الخلق مطلقاً، وهذا الخبر ذو شأن وعبر. يقول تعالى: وَكَأَيِّنْ [آل عمران:146]، أي: وكم، مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، بل وصبروا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، فلمَ لا تكونون مثلهم يا أهل أحد، إذ الآيات في عتاب أهل أحد، وما زال السياق معهم، إنها معركة يعجز المرء عن وصفها، معركة يشج فيها وجه رسول الله، وتكسر رباعيته، ويقتل فيها عمه.
شؤم المعصية وأثرها على حياة الإنسان
إنها وقعة من أعظم الوقائع، وسببها معصية واحدة! فكم هي معاصي المسلمين اليوم؟! لا يحصيها إلا الله، فكيف إذاً نريد أن نعز ونكمل ونسود وننتصر؟! إن معصية واحدة يصاب بسببها أصحاب رسول الله بنكبة ومصيبة لا نضير لها، لأمر عظيم ومخوف، ونحن والله غارقون في الذنوب والمعاصي، والشرك والكفر، والضلال والجهل، وكبائر الذنوب كالربا والزنا وقتل النفس، ثم بعد ذلك نريد أن نسود ونعز وننتصر! إن هذا محال، ولذا فإنه لن يفارقنا الذل والهون والدون حتى نعود إلى الطريق السوي.إن إخواننا في البوسنة والهرسك وغيرها من البلدان ينكل بهم، فيذبحون، وتنتهك أعراض نسائهم، ويقتل أطفالهم، ثم ندعو الله عز وجل، فهل يستجاب لنا ونحن ملطخون بأوضار الذنوب والآثام؟! هل نريد أن نبدل سنن الله تعالى؟! إن سنن الله لا تتبدل ولا تتغير أبداً، قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62] . أصحاب رسول الله وهم أفضل الخلق على الإطلاق من يومهم ذاك إلى يوم القيامة، يرتكبون مخالفة واحدة فينهزمون أمام العدو، وذلك لما انهزم العدو أمامهم، وأصبح فاراً بين أيديهم، تاركاً ما لديه وما معه من سلاح ومال، فيُقبل أصحاب رسول الله على التقاط المال وجمعه، وينزلون من الجبل -جبل الرماة- الذي وضعهم فيه الرسول القائد وقال: ( لا تبرحوا أماكنكم كيفما كانت الحال والظروف ) ، فلما نزلوا من الجبل لجمع الغنائم احتل قائد قريش خالد بن الوليد رضي الله عنه الجبل، ووضع عليه الرماة، فصبوا على المسلمين البلاء، وعاد المشركون بعد الفرار، وإذا بالمسلمين بين فكي مقراظ. وهذه كانت نتيجة مخالفة واحدة، فكيف إذا كانت عشرات المخالفات؟! ومع هذا اسمع إلى الله وهو يعاتبهم فيقول: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ [آل عمران:146] أي: وكم من نبي من أنبياء الله الذين مضوا، قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146]، والربي معناه: الرباني المنسوب إلى الرب، إذ كل حياته موقوفة على الله عز وجل، وهم علماء وصلحاء وهداة ودعاة، قاتلوا مع النبيين وقتلوا أيضاً.
معنى قوله تعالى: (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله)
قوله تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، وإخواننا رضوان الله عليهم منهم من قال: تعالوا إلى ابن أبي ليفاوض أبا سفيان فنعود إلى دين آبائنا وأجدادنا! وصاح إبليس فيهم: مات محمد، قتل محمد، فيسمع الرسول ذلك فيقول: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، حتى رجع من رجع، والتفوا حول رسول الله. فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ [آل عمران:146]، من جراحات وقتل وغير ذلك، فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، لا في سبيل دنيا يريدونها، ولا سلطة يريدون أن ينالوها، ولا غير ذلك من ملذات هذه الحياة الدنيا، ولكن في سبيل الله فقط، من أجل أن يُعبد الله وحده، وأن يُعزَّ أولياؤه وينصر دينه ودعوته.
معنى قوله تعالى: (وما ضعفوا وما استكانوا)
وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، أي: ما استذلوا وما هانوا، بل بقوا كالجبال والصخور ثابتة، فهكذا يعلم الله المؤمنين بألا يضعفوا وألا يستكينوا، وقد استفادوا وتعلموا، وما أصابهم ما أصابهم في أحد إلا لحكمة وأمر عظيم أراده الله عز وجل، وقد ذكرت لكم رؤيا الشيخ محمد عبده، إذ إن بعض السامعين يقول: لماذا الشيخ يقول: كانت الهزيمة أفضل لهم من النصر؟! قلنا: رأى الشيخ محمد عبده النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو عائد من أحد ورجاله معه وهو يقول: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة ؛ لأنهم لو انتصروا مع معصية رسول الله فإنهم يألفون المعصية، ويكفيهم أن يقولوا: نحن مسلمون، ونحن نقاتل في سبيل الله، وبالتالي فلا يضرنا شيء، ويصبحون يغنون ويشربون الخمر في المعارك، ومن ثم ينتهي أمرهم نهائياً، لكنه درسٌ من أقسى الدروس، وللأسف فقد غفل المسلمون عن هذا منذ قرون، إذ لم يتنبهوا للفرق بين المعصية والطاعة. وأقول: دلوني على بلد -باستثناء هذه البقعة- أُمر فيها بإقامة الصلاة إجباراً، هيا فليقم أحدكم ويقول: نعم، دولتنا الفلانية الصلاة فيها إلزامية للمدنيين والعسكريين، للرجال والنساء؛ لأن الصلاة عمدة الدين وعموده، ولا دين بدون صلاة! فأي معصية أكبر من ترك الصلاة، فمن شاء فليصل ومن شاء لم يصل؟! ثم هل هذا بلد إسلامي؟! وهل هذه أمة مسلمة؟! إن هذا مثال فقط لتعرفوا زلتنا، وقد قلت لكم -وإني إن شاء الله على علم-: إن لم يتدارك الله أمة الإسلام في هذه الأيام بتوبة نصوح ورجعة صادقة فقد ينزل بهم البلاء، وليس بلاء الاستعمار أبداً، بل والله لأشد من ذلك؛ لأن لله سنناً لا تتبدل ولا تتخلف، والله يمهل فقط ولكن لا يهمل، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو على هذا المنبر قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى [هود:102]، أي: المدن والحواضر والعواصم، وَهِيَ ظَالِمَةٌ [هود:102]، أي: والحال أنها ظالمة لأنفسها، إذ أعرضت عن ذكر ربها، إن أخذه أليم شديد [هود:102]، ثم قال: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ). وفعلاً فقد أمهل الله الظالمين من المسلمين زمناً طويلاً، ثم سلط عليهم الغرب والشرق فنالوا منهم وأذلوهم وأخزوهم وداسوا كرامتهم، وليس هذا حباً في النصارى، وإنما والله تأديباً لهؤلاء المسلمين، وشاء الله أن يمتحنهم فقام العلماء والدعاة وطالبوا بالاستقلال والحرية، واستجاب الله لنا فتحررنا من اندونيسيا إلى موريتانيا، واستقلينا عن الغرب والشرق، لكن أبينا أن نعبد الله تعالى، إذ إننا فرحنا بالاستقلال، فأقمنا حفلات الاستقلال تم فيها شرب الخمر، وقول الباطل والزور، وكأننا لا نؤمن بالله ولا بلقائه، والآن نحن أذل من اليهود، فماذا بعد هذا الذل من ذل؟! إن أصحاب رسول الله -والرسول بينهم- يصابون بمصيبة عظيمة فيستشهد منهم سبعون رجلاً، ويجرح نبيهم ويكلم بسبب معصية واحدة ارتكبوها، وذلك تربية لهم حتى لا يعصوه مرة أخرى، وها هو عتاب الله لهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا [آل عمران:146]، كما وهنتم أنتم لما أصابهم، وما ضعفوا ولا رموا بالسلاح وهربوا وقالوا: نلتحق بـأبي سفيان، وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146]، والاستكانة: السكون والذل والوقوف.
معنى قوله تعالى: (والله يحب الصابرين)
قوله تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، ويكره الجازعين الساقطين، وفعلاً فقد صبروا مع أنبيائهم على ما أصابهم، فما استكانوا وما ضعفوا، وما ذلوا وما هانوا، فأحبهم الله تعالى.فهيا نبدأ فنتعلم بأن نصبر، إذ لنا سنوات ونحن نصرخ بذلك فما استطعنا، وما طالبنا المسلمين أبداً بأن يحملوا السلاح ويقاتلوا، فقط عرفنا زلتنا وسقوطنا وهبوطنا، وأن لذلك سبباً عظيماً وقوياً وهو الغفلة والإعراض عن ذكر الله الناشئة عن الجهل بالله ومحابه ومساخطه، فقلنا في رسائل وكتابات: هيا يا معاشر المسلمين! نتب إلى الله تعالى ونرجع إليه، إذ إن تلك التوبة وتلك الرجعة لا تكلفنا ريالاً واحداً، بل ولا قطرة دم واحدة أبداً، وإنما فقط نوقن كما أيقن أولوا البصائر والنهى أن مصيبتنا هي الجهل بربنا ومحابه ومساخطه، ولذلك فسقنا عن أمره وخرجنا عن طاعته، وما زلت أردد -والواقع يشهد-: أروني عالماً بالله عارفاً به يتعاطى الربا والزنا وسفك الدماء، ويمزق اللحوم والأعراض، ويهمل عبادة الله، ويعرض عن ذكره، لا يوجد؛ لأنه علم، وحسبنا أن يقول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، أيكذب الله عز وجل؟! معاذ الله!ولذلك أي قرية أنت فيها أعلمكم بالله والله لأتقاكم لله، وهذا كله من أجل أن نقرر حقيقة وهي أن الفسق والفجور والهبوط كله ناتج عن الجهل بالله، إذ ما عرفوا الله ولا محابه ولا مساخطه، ولا ما عنده لأوليائه ولا ما لديه لأعدائه، وبالتالي سهل عليهم أن يفسقوا عن أمره، ويخرجوا عن طاعته، ومن ثم انتشر الفسق والظلم والشر والفساد والبخل والشح والعناد. وقد قلت غير ما مرة: لو يخرج عمر في أي بلد إسلامي فلن يستطيع أن يهديهم إلا من طريق التعليم والعلم، إذ العصا لا تنفع، بل لابد للمسلمين أن يقادوا باسم الله إلى حيث يحب الله، إذ أمة هابطة معرضة كيف تقودها وتوجد فيها حكومة إسلامية؟! أنت واهم وتتخبط. إذاً: قد عرفنا ذنبنا، وعرفنا حالنا وضعفنا، فهيا بنا إلى العلاج والخروج من هذا المأزق، وذلك إذا مالت الشمس إلى الغروب عند الساعة السادسة يقف دولاب العمل، ولم يبق دكان مفتوح الباب، ولا مصنع فيه صانع وشغال، ولا مكتب فيه كاتب ولا عامل، وإنما الأمة في القرية أو في الحي تتوضأ وتلبس أحسن ثيابها، وتأتي بنسائها وأطفالها إلى بيت ربها، فيجلس النساء وراء الستارة، ويجلس الأبناء كالملائكة بين الرجال والنساء، وذلك بعد صلاة المغرب مباشرة كما نفعل الآن، ويجلس لهم عالم رباني من الربيين يعلمهم كتاب الله وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي ليلة واحدة يأخذون آية يترنمون بها حتى يحفظوها رجالاً وأطفالاً ونساء، ثم يشرحها لهم ويبين مراد الله منها، ويضع أيديهم على المطلوب منها، فإن كان عقيدة عقدوها فلن تنحل إلى يوم القيامة، وإن كان واجباً عرفوه وصمموا على أن يقوموا به، وإن كان نهياً عن عمل أو قول عرفوه وعزموا ألا يأتوا ما كره الله وما حرمه، وإن كان أدباً في الأكل أو في المشي أو في العطاء أو في الأخذ أو في السلوك عرفوه وتحلوا به على الفور، وهكذا فيأخذون في العلم والعمل والتطبيق والحفظ يوماً بعد يوم، ولا تمضي والله سنة واحدة إلا وأهل القرية كأنهم أصحاب رسول الله، فلا كذب ولا رياء ولا خيانة ولا نفاق ولا أي شيء من هذه القاذورات؛ لأنهم أصبحوا أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والنتيجة والله أنه لا يبقى في القرية من يجوع ويتألم لجوعه، ولا عار يتألم لعريه، ولا مظلوم مهضوم الحق بين إخوانه، وإنما يصبحون أولياء الله تعالى، وهذا لن يتحقق بالمدفع ولا بالهيدروجين ولا بالسحر ولا بالاشتراكية ولا بالمبادئ ولا بالعلمانية، وإنما يتحقق على هداية الله تعالى فقط. معاشر المستمعين! كم سنة وشيخكم يصرخ: أين العلماء؟ أين العارفون؟ أين الربانيون؟ هل بلغوا حكامنا بهذا؟ هل بينوا لهم الطريق؟ هل جمعوا أممهم؟ والجواب: لا، وظاهر واقعنا هكذا، إذ ما زلنا ننتظر محناً أخرى لا قدرة ولا طاقة لنا بها إلا من رحم الله، وكتاب: المسجد وبيت المسلم قد درسناه لمدة سنة كاملة، وهو نموذج لثلاثمائة وستين آية وحديث، وذلك بمعدل يوم آية ويوم حديث، فلو أن أهل قرية فقط اجتمعوا عليه سنة وقالوا: تعالوا زورونا لتشاهدوا أنوار الإيمان والعلم فينا، والله لزرناهم. فهل فعلنا هذا؟ بعضهم يقول: ندرسه بعد صلاة العصر مع عشرة شيوخ، أما إقبال أمة صادقة بنسائها وأطفالها في وقت فراغها وانتهاء عملها اليومي من المغرب إلى العشاء، فإن هذا ما وقع، وقد أخبرنا شخص في غرب الدنيا أنه وقع، لكن لا ندري أصدق أم لم يصدق؟ وقلنا: قد اقتدينا بالغرب في شتى الأمور، إذ إننا قد عشنا في أوروبا وفي الشرق وفي الغرب، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، ورموا بالآلات، ولبسوا أحسن ثيابهم، وخرجوا بنسائهم وأطفالهم إلى المراقص ودور السينما ليروحوا على أنفسهم، فيبقون الساعات الثلاث والأربع والخمس وهم يشاهدون الباطل ويرقصون للكفر، ونحن قد اقتدينا بهم في شتى الأمور إلا في هذا الأمر، إذ إننا لم نستطع أن نغلق الدكان أو نغلق المقهى أو نوقف المطعم عند المغرب! معاشر المؤمنين! هل فيكم من ينكر هذا الكلام؟ إذاً ما الأمر؟ هل ننتظر فقط بلية من الله تعالى؟ إن الله يقول لأصحاب رسول الله مؤدباً ومربياً ومعلماً ومعاتباً: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:146]، من جراحات وقتل، وما ضعفوا أمام أعدائهم، ولا رموا بالسلاح، ولا طالبوا بالانضمام إلى المشركين، وما استكانوا ولا ذلوا ولا ضعفوا، بل صبروا فأحبهم الله والله يحب الصابرين، ونحن ما نستطيع أن نصبر ساعة ونصف في المسجد نتعلم علم الله وهداه! وبالتالي كيف يحبنا الله تعالى؟
تفسير قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا إن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا...)
قوله تعالى: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ [آل عمران:147]، أي: ما كان قولهم عند المصيبة والمحنة والبلاء والامتحان والاختبار إلا أن قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]. وهنا يروي لنا الإمام مسلم في صحيحه دعوة الحبيب صلى الله عليه وسلم، هذه الدعوة التي قد حفظناها وأخذنا ندعو الله تعالى بها، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوة فيقول: ( رب اغفر لي خطيئتي وجهلي )، فالرسول يعترف بأن له خطيئة وجهلاً، ويسأل الله أن يغفر له خطيئته وجهله، والسطحيون من أمثالنا لا يبالون بهذا، ووالله لو نتأمل ساعة فقط لرأينا أنفسنا غارقين في الخطايا وليس في خطيئة واحدة، ولو فكرنا لعرفنا جهلنا ولو أخذنا الشهادات العالية والرفيعة وقال الناس فينا: علماء وعالمون، والله إنا لجاهلون. إذ لو عرفنا فقط ربنا لأصبحت فرائصنا ترتعد عند ذكره، ولا يخطر ببالنا الخروج عن طاعته، لكن لأننا جهال ما عرفنا، والرسول يقول: ( رب اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري ) أي: في حياتي كلها، فهل فارقنا الإسراف عند الأكل والشرب والنوم والقعود والبناء والسيارة وعند أحوالنا كلها؟ لا يفارقها الإسراف لو كنا نشعر ونعلم ذلك. وهؤلاء الصلحاء الربانيون من قبل نبينا قالوا: وإسرافنا في أمرنا، فهل نحن نأكل أو نشرب أو ننام أو نجلس مع الناس على مقدارٍ أحبه الله تعالى؟ وهل نحن نعمل بمقادير محددة حتى تخلو من الإسراف؟ من يستطيع أن يقول: نعم؟ فلهذا نفزع إلى الله ونقول: وإسرافنا في أمرنا.وأخيراً: ( وما أنت أعلم به منا )، أي: وذنباً أنت أعلم به منا، إذ إن لنا ذنوباً الله أعلم بها منا، ولا يظهر لنا ذلك ولا نعرفه، وهي خطايا يعلمها الله العليم الحكيم. فهيا نكررها حتى نحفظها:( ربي اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني )، وقد وقف رسول الله بهذا الدعاء موقفاً للتواضع لم يقفه غيره، فأي تواضع أعظم من هذا؟ يقول: ( ربي اغفر لي خطيئتي ) وهو المعصوم! ( وجهلي ) وهو الذي يتلقى المعارف من الله وحياً! ( وإسرافي في أمري )، ما إسراف رسول الله؟ في طعامه؟ في شرابه؟ لا إسراف بالمرة، ولكن بموقفه وبعبوديته دون الله يخاف الله، ويخاف أن يكون قد أسرف، ( وما أنت أعلم به مني ).والآن لو يأتيني واحد فيقول: يا شيخ! والله لا تقوم من مكانك حتى نحفظ هذا الدعاء، فهل أنتم لستم في حاجة إلى هذا الدعاء؟! أقول: لو أن عبداً من عباد الله عرف وانفتح له باب المعرفة، وسمع هذا الدعاء وقال: والله لا يبرح الشيخ حتى نحفظ هذا الدعاء، فندعو به الليل والنهار، إذ إن هذه الدعوة قد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بها، فيعترف بخطيئته وجهله وإسرافه وبأمور أخرى لا يعرفها إلا الله، لكان ذلك خير له في دينه ودنياه. ( ربي اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني ) ، فهذا يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأين نحن من ذلك؟ إنها ليست خطيئة واحدة ولا جهلاً واحداً ولا إسرافاً في باب واحد، وبالتالي فنحن أحق بهذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيام الشبيبة مع الشبيبة قلنا لهم: يا شبيبة! الرسول صلى الله عليه وسلم صلى يوماً المغرب بسورة المرسلات، وصلت وراءه أم عبد الله بن عباس، فقالت: حفظتها لما سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعطيك مليوناً إذا حفظتها كما هي، بل قد قرأناها في الألواح وكتبناها وما حفظناها! ولذلك تعجبون عندما يسمع أحدهم أغنية لفريد الأطرش أو للعاهرة الفلانية، فيحفظها الشاب بنفس اللهجة والصوت! إنه مظهر من مظاهر الهبوط، ونفسر لهم فنقول: لأن أصحاب رسول الله كانت هممهم عالية لا يعجزهم شيء، ونحن هابطون لا يقف دوننا شيء في هبوطنا. ( ربي اغفر لي خطيئتي ) فنعترف بأن لنا جهلاً، وللأسف غيرنا لا يعترف بذلك حتى يسأل الله أن يغفر له جهله! ( وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ).
تفسير قوله تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة...)
قال تعالى: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148]. فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ [آل عمران:148]، أي: لما دعوا وتضرعوا وثبتوا أعطاهم الله ثواب الدنيا من النصر والعزة والسيادة والطهر والصفاء والسعادة، وثواب الآخرة ألا وهو الجنة دار الأبرار دار النعيم المقيم.ثم ختم العتاب بقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148]، فمن أراد أن يمسي من أحباب الله فليحسن أولاً في عقيدته، ثم في نياته وأغراضه ونوازع نفسه، فيوجهها التوجيه الذي يرضى الله به، ويحسن في أعماله ومشيته وتناوله للطعام فضلاً عن صلاته ووقوفه في ميادين الجهاد، فيؤدي العمل بالإتقان والجودة والإحسان، فلا عبث ولا لهو لا باطل، وهؤلاء يحبهم الله، وكل هذا يعود إلى أن أعمالهم التي أحسنوها أنتجت لهم الطاقة وأوجدت لهم النور، فزكت أرواحهم، وطابت نفوسهم، فأحبهم الله لطهارة أرواحهم، إذ الله طيب لا يقبل إلا طيباً. والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما درسنا ونسمع، وصل اللهم على نبينا محمد وآله وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (60)
الحلقة (201)
تفسير سورة آل عمران (64)
عاتب الله عباده المؤمنين على انهزامهم يوم أحد وانكشافهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وسط المعركة، وذكر لهم سبحانه حال أتباع الأنبياء السابقين من العلماء والصالحين الذين صبروا على القتال مع أنبيائهم وما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا لعدوهم، ثم بين لهم سبحانه ما كان يجب عليهم من التضرع إلى ربهم وطلب مغفرة ذنوبهم ونصرهم على عدوهم، كما فعل من كان قبلهم من أتباع الأنبياء.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، الحمد لله أن أهلنا لذلك وجعلنا من أهله.معاشر المستمعين والمستمعات! الآيات الثلاث التي درسناها بالأمس ما استوفينا دراستها من الكتاب، فهيا نعيد تلاوتها أولاً ثم ندرسها كما هي في الشرح، ثم نذكر فوائدها أو هداياتها التي رزقنا الله عز وجل، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148].
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين والمؤمنات: [ معنى الآيات: ما زال السياق في الحديث عن أحداث غزوة أحد ] أي: ما زال سياق القرآن في الحديث عن أحداث غزوة أحد، وقد عايشناها [ فذكر الله تعالى هنا ما هو في تمام عتابه للمؤمنين في الآيات السابقة، عتابه لهم عن عدم صبرهم وعن انهزامهم وعن تخليهم عن نبيهم في وسط المعركة وحده حتى ناداهم: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، فثاب إليه رجال ] أي: فرجع إليه رجال بعد فرارهم وتشتت جمعهم. [ فقال تعالى مخبراً بما يكون عظة للمؤمنين وعبرة لهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ [آل عمران:146]، أي: وكم من نبي من الأنبياء السابقين قاتل معه جمهور كثيرة من العلماء والأتقياء والصالحين، فَمَا وَهَنُوا [آل عمران:146]، أي: ما ضعفوا ولا ذلوا لعدوهم، ولا خضعوا له كما همَّ بعضكم أن يفعل أيها المؤمنون، فصبروا على القتال مع أنبيائهم متحملين آلام القتل والجرح، فأحبهم ربهم تعالى لذلك لأنه يحب الصابرين ] أي: صبروا فأحبهم الله تعالى؛ لأنه تعالى يحب الصابرين. [ هذا ما تضمنته الآية الأولى، ونصها: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]. وأما الآية الثانية فأخبر تعالى فيها عن موقف أولئك الربانيين وحالهم أثناء الجهاد في سبيله تعالى، فقال: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ [آل عمران:147] ] أي: الذي قالوه، قال: [ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147] ] وهذا الذي كان يجب على أصحاب رسول الله أن يقولوه كما قاله أصحاب الأنبياء من قبل، ولكنهم فتنوا، فهو يعلمنا كيف نقول إذا وقعنا فيما وقع فيه إخواننا مرة أخرى. [ ولازم هذا كأنه تعالى يقول للمؤمنين: لمَ لا تكونوا أنتم مثلهم وتقولوا قولتهم الحسنة الكريمة، وهي الضراعة لله بدعائه واستغفاره لذنوبهم الصغيرة والكبيرة، والتي كثيراً ما تكون سبباً للهزائم وللانتكاسات كما حصل لكم أيها المؤمنون، فلم يكن لأولئك الربانيين من قول سوى قولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]، فسألوا الله تعالى مغفرة ذنوبهم، وتثبيت أقدامهم في أرض المعركة حتى لا يتزلزلوا فينهزموا، والنصر على القوم الكافرين أعداء الله وأعدائهم، فاستجاب لهم ربهم فأعطاهم ما سألوه، وهو ثواب الدنيا بالنصر والتمكين، وحسن ثواب الآخرة وهي رضوانه الذي أحله عليهم وهم في الجنة دار المتقين والأبرار، هذا ما دلت عليه الآية الأخيرة: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148] ].
الإحسان ثلث الدين الإسلامي
والإحسان ثلث الدين الإسلامي، إذ الدين الإسلامي بعقائده وعباداته وقضائه وأحكامه وشرائعه وآدابه وأخلاقه ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: الإيمان، والثاني: الإسلام، والثالث: الإحسان، ففي حديث جبريل عليه السلام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة العلم عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال: أخبرني عن الإسلام؟ أخبرني عن الإيمان؟ أخبرني عن الإحسان؟ فجعل الإحسان ثلث هذا الدين، وشيء آخر نعلمه وهو أن الإيمان والإسلام إذا فقدا الإحسان فليس لهما قيمة. ويدلك بوضوح على ذلك أنه إذا توضأ أحدنا ولم يحسن وضوءه فإن وضوءه باطل وصلاته باطلة، أو صلى ولم يحسن صلاته فيقول له الفقيه: صلاتك باطلة، أو حج أو اعتمر ولم يحسن أداء حجه أو عمرته فيقول له الفقيه: حجك باطل وعمرتك باطلة، إذاً ما الإحسان؟ العجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب إجابة لا يرقى إليها سواه، إذ قال له جبريل: ( أخبرني عن الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت )، إذاً فالإحسان أن تعبد الله، فالمتوضئ يعبد الله بالوضوء، والمصلي يعبد الله بالصلاة، والصائم يعبد الله بالصيام، والمتصدق يعبد الله بالصدقة، وتالي القرآن يعبد الله بتلاوته، وبالتالي فكل هذه العبادات لا يستطيع المرء أن يحسن أداءها إلا إذا كان يراقب الله تعالى عندها، فإذا راقب الله تعالى عند وضوئه وكأنه بين يدي الله، أو صلى وكأنه أمام الله، أو جاهد أو رابط في سبيل الله، أو قال قولاً، أو فعل فعلاً، وهو كأنه بين يدي الله، فإن مثل هذا لا يخطئ ولا ينقص من العبادة ولا يزيد فيها، وبذلك يكون قد أحسن أداءها؛ فإذا أحسن أداءها أنتجت له النور المطلوب، أي: الحسنات المطهرة للنفس والمزكية لها، فإن عجز على أن يكون في صلاته أو في عبادته كأنه ينظر إلى الله وهو بين يديه، فعلى الأقل ينتقل إلى المرتبة الثانية وهي أن يؤدي العبادة وهو يعلم أن الله ينظر إليه.إذاً: هما درجتان: دنيا، وعليا، فالعليا: أن تعبد الله بما تعبده به وكأنك تراه، وفي هذه الحال لا يمكن أن يسيء عبادته أبداً، فإن عجز عن هذه المرتبة العليا ينزل إلى الدنيا وهي: أن يعلم أن الله ينظر إليه وهو يتوضأ أو يصلي أو يزكي أو يصوم أو يحج، فإذا كان عبد الله أو أمته بهذه الحال والله سيحسن عبادته، وسيتقنها ويجودها، حتى تثمر له ثمرتها، وذلكم هو النور الذي يطهر النفس ويزكيها.إذاً: إذا لم يحسن العبد في إيمانه ما أفاده، وإذا لم يحسن في إسلامه ما ينتفع به، ولهذا الإحسان هو الجزء الثالث من أجزاء الدين الإسلامي، والجزءان قبله مفتقران إليه، فلا ينفعان إذا لم يكن معهما إحسان، وفوق ذلك: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148]، وقد عرفنا من قبل لم يحب الله المحسنين؟ لا تفهمن من الإحسان ذاك الذي يوزع الريالات، أو آصع التمر أو الدقيق، إن ذاك محسن عند العامة، أما المحسن الذي يحبه الله فذاك الذي يحسن في عبادة الله، ويؤديها أداء سليماً صحيحاً موافقاً لما شرع وبين، وبذلك ينتج له النور، فتطهر نفسه وتزكو والله يحب الطاهرين، وهذا هو السر في محبة الله تعالى للمحسنين، إذ إن هو الإحسان تجويد العبادة وإتقانها، وأداؤها على الوجه المطلوب حتى تنتج زكاة النفس وطهارتها، فمن زكت نفسه وطابت وطهرت والله ليحبه الله، وهو المحبوب لله.أما أصحاب الأرواح الخبيثة والأنفس المنتنة العفنة فهؤلاء قد حكم تعالى بخسرانهم، ولن يرضى أبداً أن يجاوروه أو ينزلوا بجنات النعيم في جواره، قال تعالى حاكماً في ذلك: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهذا حكم الله تعالى ولا معقب بعده، إذ نفى تعالى إذا حكم أن يعقب على حكمه أحد، قال تعالى من سورة الرعد من خاتمتها: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41].
طاعة الله ورسوله ضمان لمرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة
ولهذا على من يرغب في جوار الله ومواكبة المواكب الأربعة، فليطع الله والرسول فقط، قال تعالى في سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النساء:69]، يعني: محمداً، فَأُوْلَئِكَ [النساء:69]، أي: المطيعين، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، فمن أراد أن يكون مع هذه المواكب النورانية فليطع الله والرسول فقط، ولم يقل: يخرج من ماله كله، ولا أن يطلق امرأته، ولذلك قال: (ومن)، و(من) هي من ألفاظ العموم، فيدخل فيه الذكر والأنثى، والأبيض والأسود، والفقير والغني، في الأولين والآخرين، بل قل ما شئت، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69]، أي: المطيعين، مع من؟ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بماذا أنعم عليهم؟ برضوانه وبحبه وبجواره، مِنَ النَّبِيِّينَ ، وهذا هو الموكب الأول، وَالصِّدِّيقِين َ ، الموكب الثاني، وَالشُّهَدَاءِ ، الموكب الثالث، وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، الموكب الرابع.وبالتالي فيمكننا أن نكون من المواكب الثلاثة الأخيرة، فلنفرح ولنستبشر، فأولاً: في إمكاننا أن نكون من الصديقين، وأنا أرجو -ورجائي كبير- أنني منهم، ولا تقولوا: الشيخ يمدح نفسه، لا، أنا أشجعكم فقط، فإن قيل كيف ذلك؟ أقول: ذلك سهل، كونك طول حياتك لم تكذب كذبة واحدة، أرجو أن تكون من الصديقين، فإن قلت: أنا إلى الآن قد كذبت أكثر من ألف كذبة! فكيف الخلاص من ذلك؟ أقول لك: من الآن ابدأ حياتك بالصدق، اختم حياتك بالصدق تسجل في الصديقين؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم ويربي: ( عليكم بالصدق )، أي: الزموه، ثم قال: ( فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة )، إي والله، ( ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً )، فأي مانع من أن نصبح صديقين؟ هل يستطيع أحد أن يقول: يا شيخ! لقد استفدنا من الكذب؟! إنه لا فائدة أبداً من الكذب، وإنما هو خزي وذل وعار وفتنة في النفس.إذاً: هيا نستجب لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: ( عليكم بالصدق )، أي: الزموا الصدق يا عباد الله، لمَ يا رسول الله؟ قال: ( فإن الصدق يهدي إلى البر )، أي: يقود إلى البر، ( وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال المرء )، رجلاً كان أو امرأة، ( يصدق ويتحرى الصدق ) أي: يطلب الصدق ويتحراه في كل أعماله وأقواله وأحاديثه، بل ونياته ظاهراً وباطناً، ( حتى يكتب عند الله صديقاً ) أي: يُعلن أن فلاناً ابن فلان قد تحرى الصدق عشرين عاماً أو ثلاث سنوات أو كذا من السنين، وقد سُجِّل اسمه في ديوان الصديقين، وأصبح من جماعة أبي بكر الصديق.وكما قلت لكم: إذا فات من العمر كذا سنة، وما انتبهنا أو ما وجدنا من يعلمنا ذلك، فمن الليلة لا نكذب أبداً، لا مع المرأة ولا مع الولد، لا مع الظالم ولا مع الحليم، وإنما نتحرى الصدق في كل أحوالنا. ثانياً: في إمكاننا أيضاً أن نكون مع الشهداء، وليس معنى ذلك أن نمشي إلى البوسنة والهرسك أو إلى غيرها من البلدان التي احتلها العدو؛ لأن شيخنا ما قال: هذا جهاد، إذ أين الإمام الذي نجاهد تحت رايته؟ لقد عجزنا عن بيعة إمام فكيف نستطيع أن نقاتل وننتصر؟! إن كل قتال في الإسلام لم يكن تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله ببيعة إمام صالح، نصبح معه إذا قال: قولوا: الله أكبر، قلناها لا خلاف بيننا، لا يُعتبر جهاداً وأهله ما هم بالشهداء، وهذا الكلام إذا سمعه المتحمسون -الذين يقولون: الحكام كفار فلنخرج عليهم- ينكرون ذلك أشد الإنكار، وهم في الحقيقة ينتحرون كالمساكين، ودماؤهم تسيل في الشرق والغرب، بل وما ظهروا في بلد إلا أطفئوا نور الله فيه والعياذ بالله؛ لأنهم ما ذاقوا طعم لا إله إلا الله ولا عرفوا معناها.وهذا مثال محسوس على ذلك: جهادنا في الأفغان، عشر سنوات والشيخ على هذا الكرسي يدعوكم إلى أنه يجب ألا يراك الله يا عبد الله في غير هذا الجهاد، إما بنفسك إن قدرت، أو بمالك إن كان لك مال، أو بدعوة إخوانك ليجاهدوا، أو بدعائك للمجاهدين، ومع هذا نقول: إنه جهاد وفيه دخن، فيغضب الذين لا بصيرة ولا نور لهم، ويقولون: كيف يقول: إن فيه دخناً؟! والجواب: لأنهم ما اجتمعوا تحت راية واحدة، ما استطاعوا أن يبايعوا واحداً منهم، إذ إن كلاً منهم يريد الرياسة، فتقاتلنا ونحن أحزاب وجماعات، فهل تتخلف سنة الله من أجل بكائنا أو بكاء نسائنا أو صدقاتهم؟كما قد ذكرت لكم أنه يأتيني كيساً من اليمن كله فضة لصالح الجهاد الأفغاني، وأم أولادي رحمة الله عليها تخلع ذهبها مرتين وتتصدق به على الجهاد في الأفغان، فنشتريه منها ونرده لها، بل شاركت أمة الإسلام كلها وخاصة هذه الديار في ذلك الجهاد، فهل ارتفعت راية لا إله إلا الله؟! وهل أقيم شرع الله؟! وهل تلاقى أولياء الله وتحابوا وتعانقوا؟! لا، إذاً ما هو السر؟ أو ليس عندنا بصيرة؟ بالله الذي لا إله غيره، إن سر هذا الانكسار والهبوط هو أنهم ما قاتلوا تحت راية واحدة يحملها إمام رباني بايعوه في الشرق والغرب، إذ كل قتال من هذا النوع مآله الخسران، ولله سنناً لن تتخلف ولن تتبدل أبداً، فإخواننا في البوسنة والهرسك يقتلون ويذبحون ويشردون من ديارهم، ولو كنا مؤمنين لاجتمع حكامنا في الروضة بعد صلاة الجمعة وبايعوا إماماً للمسلمين، وتحولت تلك الدويلات الإسلامية إلى ولايات ربانية، فيطبق فيها شرع الله كاملاً، وحينئذٍ إذا قال الإمام: الله أكبر، حيِّ على الجهاد، انقادت الأمة لذلك، فإذا غزونا وفتحنا فإنها تُرفع راية لا إله إلا الله، ويُعبد الله عز وجل.أما قتال من أجل الوطنية والتراب والطين فلا ينفع أبداً، وفي أيام الاستعمار -وإن كنتم تغضبون- كان الإسلام في مستعمرات فرنسا وبريطانيا أحسن مليون مرة منه اليوم، ولذا يا أبنائي أنتم أحداث ما عرفتم هذا، ووالله لأيام الاستعمار كان الإسلام فيها أرفع منه اليوم، بل وأظهر وأكثر، والسر والعلة في ذلك: أننا ما قاتلنا باسم الله، ومن أجل إقامة دين الله، وإنما قاتلنا لتحرير البلاد، لتحرير الوطن، فلما تحرر أعرضنا عن الله، وما استطاع إقليم واحد من المتحررين -من باكستان إلى المغرب- أن يقيموا الصلاة فقط، بمعنى: أن يلزموا المسلمين بإقام الصلاة، إذ إنها أول فريضة فرضت في الإسلام، فإذا أُهملت ولم يلتفت إليها فمستحيل أن يوجد طهر وصفاء، بل لا بد من الخبث والظلم والشر والفساد. كذلك إخواننا في فلسطين، كم نتحسر ونتألم عليهم، إذ لو ألهمهم الله فبايعوا إماماً منهم منذ خمسة وأربعين سنة، والتفوا حول رايته وعبدوا الله، وأعطوا قلوبهم لله، وتجمعوا في مكان ما، وخاضوا المعركة باسم الله، والله الذي لا إله غيره لنصرهم الله، ولأقاموا دولة الإسلام في فلسطين، ولنشروا ظلها في باقي البلاد العربية التي لا تطبق شرع الله، ولن يتخلف وعد الله، أما بدون هذه النية وهذا القصد وهذه المعرفة فلا ينصرنا الله أبداً.ولو أن العرب انتصروا على اليهود في تلك الحروب التي شنوها لهبط الإسلام إلى أسفل الأرض، ولا ما بقي من يجرؤ أن يقول: الإسلام والمسلمون، لكن رحمة الله وولايته لأوليائه ما نصرنا ونحن فسقة فجرة، ظلمة بعيدين عن رحمة الله، إذ لو نصر الله العروبة عندما كانت تصول وتجول، لأصبح لا مجال لأن يقال: باسم الله، والجهاد من أجل إعلاء كلمة الله؛ لأنهم انتصروا بقوتهم، فقد كانوا يقولون: قوتنا الضاربة، ويتبجحون في كل مكان، لكن من لطف الله، ومن تدبير العزيز الحكيم أنه أذلهم لحفنة من اليهود، وذلك لتتجلى حكمة الله عز وجل، ويفتح باب التوبة، ولكن ما تابوا وما عرفوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.وقد قلتها أمس: يا عباد الله! إننا تحت النظارة، إن ربنا لبالمرصاد، فإما أن نستقيم كما أراد الله لنا ذلك على منهج الحق فنعبد الله عز وجل بمحابه فعلاً وبمكارهه تركاً، وإما أننا فقط ننتظر ساعة ينزل فيها البلاء علينا جميعاً، أحب من أحب، وكره من كره، والصالحون ينزل بهم ما ينزل بإخوانهم من العذاب والبلاء، لكن لا يحرمهم الله أجر إيمانهم وصالح أعمالهم، فيرفع الله درجاتهم يوم القيامة.ومن قال: كيف تقول هذا يا شيخ مع وجود هذه الصحوة فينا؟ قلنا: أيام تسلطت علينا فرنسا وإيطاليا وأسبانيا وهولدنا وبريطانيا، لم يكن المسلمون أسوأ حالاً من مثل هذه، فلم يكن فيهم فسق وفجور بهذه الطريقة، والتكالب على الدنيا وأوساخها، بل كان فيهم حياء وشهامة وكرامة وإيمان، مع ما فيهم من الضلال والجهل والفساد، فسلط الله عليهم الأعداء ليؤدبهم، والآن أوضاع المسلمين مع ما آتاهم الله من هذه الاتصالات وهذه الخيرات وهذا العلم الحديث، المفروض أن يتبدلوا في أربعة وعشرين ساعة، فيصبحون كلهم أولياء الله، وكلمتهم واحدة، وعند ذلك اتحدت البلاد والأصوات، وما أصبحت انقسامات ولا تباعدات.فهم تحت النظارة، وقد سئل أحدهم: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد، فهو يمهل ولا يهمل، قالها أبو القاسم على منبره كما سمعتموها البارحة: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )، وقرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، فهيا عجلوا بالتوبة، وخفوا من الذنوب والآثام.
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ من هداية الآيات: أولاً: الترغيب في الائتساء بالصالحين ] وقد رغبنا الله في هذه الآيات بأن نتأسى ونقتدي بالصالحين، ونحاول أن نكون مثلهم [ الترغيب في الائتساء بالصالحين، في إيمانهم وجهادهم وصبرهم وحسن أقوالهم ] أيضاً، وأُخِذت هذه الهداية من قول الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147]، وكأن الله قال: كونوا كهؤلاء الربانيين أيها المسلمون! فقد كانوا هكذا مع أنبيائهم، فلمَ لا تتأسوا وتقتدوا بهم؟!ونحن قد جعل الله لنا رسولنا أسوتنا فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فيجب أن نتأسى برسولنا عليه الصلاة والسلام، فإذا جعنا فلا نسرق ولا نكذب ولا نخون، وإنما نربط الحجارة على بطوننا ونشدها بإزار كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا سببنا أو شتمنا أو عيّرنا أو هزئ بنا أو سخر منا، فلنصبر كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قاتلونا نقاتل، وإن جرحنا وإن قتلنا نصبر كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إن الدماء -في إحدى المعارك- كانت تسيل من وجهه وهو يقول: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ).كما نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدق، إذ والله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، وأيضاً نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في الشورى، فقد استشار رجاله وأخذ برأي الأكثرية في غزوة أحد، ثم إنهم خافوا وارتعدت فرائصهم، وقالوا: حملنا الرسول على هذا، فقال تلك المقولة المشهورة: ( ما كان لنبي أن يضع لأمته عن رأسه حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ).كذلك نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في النوم، كيف كان ينام؟ هل ينام وعاهرة تغني عند رأسه؟! كيف كان يأكل؟ كيف كان يشرب؟ ولذا يجب أن يكون صورة حية أمام أعيننا نتأسى بها ونقتدي، ومن لم يعرف يسأل: يا شيخ! كيف كان ينام الرسول؟ يا شيخ! كيف كان يتوضأ الرسول؟ كيف كان يتناول الرسول صلى الله عليه وسلم طعامه؟ بم يبدأ؟ كيف ينهي طعامه؟ إذا أراد أن يركب على دابته كيف كان يركب؟ قال: [ ثانياً: فضيلة الصبر والإحسان، وذلك لحب الله تعالى الصابرين والمحسنين ] والصبر: حبس النفس وهي كارهة -وقد يأكلها العويل والصياح- على طاعة الله، ولا يسمح لها أبداً أن تفرط في ذلك، فيبعدها كل البعد عن المعاصي والذنوب والآثام، فإذا أصابها الله بمرض أو بعذاب فإنها تلجأ إلى الله تعالى، ولا يسمع منها إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهذا قضاء الله وحكمه، والحمد الله على كل حال، ولا تتململ أو تتضجر أو تسخط، وهذه مواطن الصبر الثلاثة، أي: حبسها على الطاعة حتى لا تفارقها، وحبسها بعيدة عن المعاصي حتى لا ترتكبها، وحبسها على قضاء الله وقدره، فإذا سئلت وأنت مريض: كيف حالك؟ فقل: الحمد لله، ولا تتضجر ولا تسخط ولا تتململ، وكذلك إن كنت جائعاً.وقد ذكرت لكم قصة لأحد الإخوان، إذ إنه كان يقول: أنا أعرف متى يكون عبد الرحمن مختار لم يتغد أو لم يتعش، فقالوا له: كيف ذلك؟ قال: نسأله: كيف حالك؟ فيجيب: إني في خير، إني في نعمة، الحمد لله، وهو والله ما تغدى ولا تعشى! ويُعرف إذا كان مبتلى أو مصاباً والألم في نفسه، إذ إنه يفزع إلى الله تعالى فيقول: الحمد لله، الحمد لله، هذا إفضال الله وإحسانه إلينا، إننا في خير، إننا في نعمة! وهذا هو شأن الصابرين، ولا يقول: نحن لم نأكل، نحن في بلاء، نحن في شقاء! وأعطيكم صورة من الواقع: جماعتنا في المملكة إذا درس أحدهم وتخرج من الجامعة وما وجد وظيفة، فإنه يأخذ في سب وشتم وبغض الحكومة؛ لأنه لم يجد عملاً، وآخر ما قبل ولده في الجامعة أو في المدرسة، فبدل أن يقول: قضاء الله وقدره، يأخذ في السبب والشتم والبغض لهذه الجامعة أو المدرسة! فكون ما نجحت تجارتك أو ما أفلحت في تعلمك تأخذ في السب والشتم والصياح والضجيج، فهل هذا هو الإيمان والصبر؟! إذا كنت في المعركة والدماء تسيل هل تكون كالربانيين؟ والله ما تكون مثلهم، الذين قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147].والحقيقة هي أننا ما ربينا في حجور الصالحين، وأحلف لكم بالله، الذي ما يتربى منذ طفولته في حجر صالح وصالحة لا ينمو على الطهر والصفاء، وإنما يكبر ويتعلم وهو هائج، وأدنى شيء أن ينكشف كل عواره.فهيا نربي أولادنا على الكتاب والسنة، ولا نتركهم للتلفاز واللعب واللهو فيشبون على الانحراف والبعد عن الله تعالى.[ ثالثاً: فضيلة الاشتغال بالذكر والدعاء عند المصائب والشدائد بدل التأوهات وإبداء التحسرات والتمنيات، وشرٌ من ذلك: التسخط والتضجر والبكاء والعويل ] فعندما ترى أخاك يكثر من ذكر الله ويدعو فاعرف أنه مصاب، إذ إن الذكر والدعاء يكون عند المصائب والشدائد، وذلك بدل: آه! ما هذا؟ كيف هذه الحياة؟ ماذا نصنع؟ هذه البلاد كذا! هذه الأمة كذا! فهل هذا يليق بالمؤمن؟ بمن عرف الله ولقاءه؟ لا لوم؛ لأننا ما ربينا في حجور الصالحين، إذ الذين تربوا في حجور الصالحين إذا مرضوا أو جاعوا أو تعبوا، لا يفزعون إلا إلى الله، فلا تصدر منهم كلمة سوء، ولا نظرة باطلة، ولا حركة غير معقولة ولا غير مقبولة.[ رابعاً: كرم الله تعالى المتجلي الظاهر في استجابة دعاء عباده الصالحين الصابرين المحسنين ]، قال تعالى: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [آل عمران:148]، أي: تثبيت أقدامهم ونصرهم على أعدائهم، وهذا في الدنيا، وأما في الدار الآخرة فلا تسأل، إذ إنها جنات النعيم، قال تعالى: فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:148].معاشر المؤمنين! استفدنا من دعاء الربانيين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]، بحديث مسلم: ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني )، فعندما نتأمل هذه الدعوة نجد أنها أحاطت بكل الذنوب فلم تترك شيئاً.فـ(اللهم) معناها: يا الله، وحذفت ياء النداء لأن الله قريب، قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، وحذفت ياء النداء وعوض عنها بالميم العظيمة، فبدل أن تقول: يا الله، قل: اللهم، وهذا خاص بالله عز وجل، ولا يعرف إلا مع الله عز وجل.ولفظ: (الخطيئة) في الحديث تشمل كل معصية وكل زلة تزلها أقدامنا، وقوله: (وجهلي)، لو قرأت سبعين سنة فإياك أن تفهم أنك قد علمت، فهذا موسى الكليم عليه الصلاة والسلام يخطب في جمع من بني إسرائيل، فانبهر الناس واندهشوا، فقام شاب من شبيبتهم فقال: هل يوجد من هو أعلم منك يا موسى؟ فقال: لا، فأوحى الله تعالى إليه: بلى، إن عبداً لنا يقال له: الخضر هو أعلم منك، فما كان من موسى الرسول النبي الكريم إلا أن أصبح تلميذاً، وترك الولاية والحكم والدولة وأخذ يتعلم -واقرءوا سورة الكهف- فقال لربه: يا رب! دلني عليه حتى أتعلم منه، فقال الله له: خذ طعامك وشرابك، وخذ تلميذك أو مولاك يوشع بن نون واطلبوه في المكان الفلاني، فمشوا ثم وجدوه، فقال له موسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، وما قال: أنا موسى، أنا ملك ورسول بني إسرائيل فعلمني! لا، وإنما قال له: من فضلك، هل تسمح لي أن أتعلم منك؟ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، قال: وكيف لا أصبر وأنا أريد أن أتعلم؟! فمشى معه ليالي وأياماً، وفي أثنائها ركبوا البحار وانتقلوا إلى بلاد أخرى طلباً للعلم. ورسولنا أيضاً عوتب مرة ثانية، وذلك لما سألوه عن شيء فقال: غداً أجيبكم، ولم يقل: إن شاء الله، فعاتبه الله بانقطاع الوحي نصف شهر أو خمسة عشر يوماً، ثم نزل قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، أي: إلا أن تقول: إن شاء الله، فما تركها حتى مات صلى الله عليه وسلم، إذ كل شيء في المستقبل لا بد أن تقول: إن شاء الله، والعوام عندنا قد أخذوا بهذا حتى في الماضي، فيقال لأحدهم: هل تغديت أم لا؟ فيقول: إن شاء الله، هل صليتم المغرب؟ فيقول: إن شاء الله، فكيف تقول: إن شاء الله وقد صليناها؟! لكن هو أحسن من طلبة العلم ومن العلماء الذين لا يقولون: إن شاء الله، إذ إنه يقول: إن شاء الله دائماً في المستقبل وفي الماضي، والذي يدعي العلم ما يقول: إن شاء الله. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (61)
الحلقة (202)
تفسير سورة آل عمران (65)
حذر الله عز وجل عباده المؤمنين من طاعة الذين كفروا؛ لأن مآل طاعتهم الردة عن دين الله، وتنكب طريق الحق، وفي ذلك الخسران المبين في الدنيا والآخرة، وإنما الواجب مجاهدتهم وقتالهم، وقد وعد الله عباده المؤمنين حينذاك بنصرهم على عدوهم، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، لإعراضهم عن الله، وكفرهم به، ومحاربتهم لأوليائه.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، فهيا بنا نتلوا هذه الآيات عدة مرات ثم نتدارسها؛ رجاء أن نعلم ما أراده الله منا أن نعلمه، وأن نعمل بما أراده الله منا أن نعمله؛ لنظفر إن شاء الله بجائزة العلم والعمل، وتلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:149-151].
الحكمة من مناداة الله لعباده المؤمنين
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا النداء الإلهي الكريم موجه إلى المؤمنين؛ إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:149]، أي: يا من آمنتم بالله رباً وإلهاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، وقد علم الأبناء والإخوان أن الله ينادي المؤمنين لأنهم أحياء يسمعون ويعون، يفهمون ويفقهون، أما الأموات فلا يناديهم؛ لأن الله حكيم، والحكيم لا ينادي ميتاً، وإنما الذي يُنادى حي يسمع النداء ويجيب الدعاء.كما قد علمتم -زادكم الله علماً- أن الله تعالى نادى المؤمنين في كتابه القرآن الكريم تسعين نداءً، فيناديهم ليأمرهم بما فيه سعادتهم وكمالهم إن هم عملوا به، أو يناديهم لينهاهم عما فيه شقاؤهم وخسرانهم إن هم لم يستجيبوا، أو يناديهم ليبشرهم فتنشرح صدورهم وتطمئن قلوبهم وينطلقون في ميادين الخير والعمل، أو يناديهم ليحذرهم من عواقب الانحراف والخلاف والخروج عن منهج الحق؛ حتى لا يخسروا وينهزموا، أو يناديهم ليعلمهم ما ينفعهم أو ما به كمالهم وسعادتهم.فهذه خمس رحمات ربانية أوصاها لعباده المؤمنين، فلا يناديهم إلا لواحد من هذه الخمسة؛ لأنه وليهم، والولي لا يهمل أولياءه أبداً.
نهي الله للمؤمنين عن طاعة الكافرين
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، فهو ينهاهم عن طاعة الكافرين حتى لا يخسروا دنياهم وأخراهم، وذلك لأنه وليهم ومولاهم.معشر المستمعين والمستمعات! ما زال السياق في معركة أحد، وفي التأنيب والعتاب والتأديب والتوجيه لأولئك المؤمنين الربانيين، حيث أصابتهم مصيبة، فها هو تعالى يقول لهم: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:149]، وهم المنافقون الذين كانوا معهم، والكافرون الذين كانوا مع ابن أبي ابن سلول وأبا سفيان في المعركة؛ لأنهم قالوا: هيا بنا نعود إلى دين آبائنا وأجدادنا، وننتهي من هذه الإحن والمحن! وقالوا: من يذهب إلى ابن أبي فيتوسط لنا عند أبي سفيان ونعود إلى ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا.المهم اقتراحات قدمت لهم وسمعت، فأنقذ الله أولياءه على الفور، وأنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، أي: ترجعون إلى الجاهلية الأولى، وتتجرعون غصصها، وتذوقون خسرانها في الدنيا والآخرة.إذاً: حذرهم ونهاهم أن يسمعوا أقوال المبطلين من الكافرين، ولنعلم يقيناً أن هذا التوجيه الإلهي، وهذا الإرشاد الرباني، وهذا التعليم الرحماني، ليس خاصاً بوقعة أحد وبأصحابها، وإنما هذا التوجيه إلى أن تطلع الشمس من مغربها، إلى أن يغلق باب التوبة ويستقر الوضع، فالمؤمن مؤمن والكافر كافر، والسعيد سعيد، والشقي شقي، فعلى الأفراد والجماعات والحكومات والمسئولين من المسلمين ألا يطيعوا الكافرين، سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو بوذيين أو علمانيين أو شيوعيين أو مجوسيين، إذ إن طاعتهم تتنافى مع طاعة الرحمن.وأزيدكم بياناً: والله إن الأعداء ما يريدون سعادتنا ولا عزنا ولا كمالنا ولا غنانا ولا علونا أبداً؛ لأن خالق قلوبهم وطبائعهم قد أخبرنا بهذا، وإن شئت فاخل بواحد منهم وقل له: اصدقني القول، هل تريدون للمسلمين أن تعلو رايتهم، وترتفع كلمتهم وسلطانهم، وأن ينتصروا في دينهم ودنياهم؟ يقول لك: والله ما نريد ذلك أبداً؛ لحسدهم وبغيهم، فهم يعرفون أن الإسلام مفتاح دار السعادة، والذي منعهم من أن يدخلوا فيه وينعموا برحمة الله فيه أنهم يريدون أن يحافظوا على مراكزهم ومناصبهم وسيادتهم وما إلى ذلك، فهذا هرقل يعلنها فيقول: لو علمت أنني أخلص إلى محمد لغسلت ما تحت قدميه؛ لأنه عرف أنه النبي المنتظر، وأن هؤلاء هم المؤمنون أهل الجنة، وما منعه أن ينزل من على سرير ملكه إلا حبه للملك والسلطان.إذاً: إياك أن تطلب النصح أو الإرشاد من كافر، سواء كان ابن عمك أو أباك أو أخاك، أبيضاً أو أسود؛ لأن الكافر ميت، فكيف تسترشد بميت؟! ثم إن الكافر ضد المؤمن ضداً كاملاً، فكيف ينصح لك وتقبل نصيحته، وقد تقدم نداء آخر وهو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118]، أي: أحبوا ما يشقيكم ويرديكم، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].يؤتى بنصراني من الحيرة ليكون كاتباً لـعمر فيرفضه، والكفار اليوم هم الذين يوجهون ويرشدون ويبينون الطريق خمسين سنة! فهل عز المسلمون وسادوا؟! وهل استغنوا وارتفعوا؟! وهل نفعت استشاراتهم وتوجيهاتهم وإرشاداتهم؟! والجواب: لا، إذ إن العالم الإسلامي الآن يعيش في ذلة ومسكنة وضعف أيضاً، والحفنة من اليهود تسود العالم الإسلامي وتتسلط، سواء علناً أو سراً.وعلى كل حال نحن لسنا مع اليهود ولا مع النصارى في ديارنا الطاهرة، لكن إخواننا الموجودون في مصر والشام وأوروبا والبلاد التي فيها كفار ننصح لهم ألا يستشيروا كافراً، بل لهم أن يستشيروا زوجاتهم أو إخوانهم من المؤمنين، أما أن تستشير الكافرين فلن ينصحوا لك أبداً، ولن يوجهوك إلا إلى ما فيه الشقاوة والتعاسة لك، فاستغن بالله تعالى، ومن استغنى بالله أغناه الله، ثم هل انعدم الصلحاء والربانيون بيننا؟ والجواب: لا، إذ يوجد بيننا ربانيون وعلماء وصلحاء وأتقياء ذووا بصيرة وعلم ومعرفة، فإذا احتجنا إلى الاستشارة فهم الذين يُستشارون، وإذا وجهونا فهم الذين نطيعهم ونقبل توجيهاتهم، أما الكافر الذي يكرهني ويكره حتى وجودي في هذه الحياة فكيف نستشيره؟!إذاً: هذه رحمة الله وقد نصحنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:149]، وهذا أعظم من النهي: لا تطيعوا، والسبب أنه قد بين لنا الحقيقة كما هي فقال: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:149]، أي: جحدوا ألوهية الله عز وجل ولقائه ورسالة نبيه، وما أنزل من الشرع والأحكام على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلهذا قلت: يهود ونصارى وبوذيين ومجوس، كلهم جنس واحد كافر.
معنى قوله تعالى: (يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، أي: ترجعون إلى الشرك والضلالة، وتعودون مثلهم كفاراً، فتنقلبون وترجعون بعد هذه الرحلة الطويلة في مسار الكمال والطهر والصفاء خاسرين ذليلين، وما استفدتم شيئاً من إيمانكم وجهادكم وصبركم القرون الطويلة أو الأيام والأعوام العديدة.
تفسير قوله تعالى: (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين)
قال تعالى: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150].ثم قال تعالى: بَلِ اللَّهُ [آل عمران:150]، وقرئت قراءة سبعية: (بل اللهَ) بفتح لفظ الجلالة، أي: أطيعوا الله، فهو الذي يجب أن تطيعوه لا الكفار.ثم قال: مَوْلاكُمْ [آل عمران:150]، أي: أن الله مولانا، فهو الذي خلقنا ورزقنا وحفظ علينا حياتنا وتولى كل شئوننا وأمورنا، فكيف لا يكون مولانا؟! إنه مولانا وسيدنا ونحن عبيده، قال: اركعوا فنركع، قال: اسجدوا فنسجد، قال: صوموا فنصوم، قال: اكشفوا عن رؤوسكم وهرولوا بين جبلين، أجبنا وهرولنا؛ لأننا عبيده، قال: لا تشربوا مسكراً، والله ما نشربه، قال: لا تقولوا الباطل، والله ما نقوله، قال: لا تكذبوا ولا تنطقوا بغير الحق، والله ما نكذب ولا ننطق بغير الحق؛ لأننا عبيده ومصيرنا بيده، إن شاء أسعد وإن شاء أشقى، وفوق ذلك أننا نحبه ويحبنا، فكيف إذاً نخرج عن طاعته ونعصيه ونحب من يكرهه ويبغضه ويعصيه؟!ثم قال تعالى: وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150]، أي: وإن طلبتم النصر على المشركين والكافرين، وعلى من تحاربون ويحاربونكم، فهو جل جلاله وعظم سلطانه خير الناصرين، فلا تطلبوا النصر من فرنسا أو إيطاليا أو أسبانيا، وإنما اطلبوه من الله، إذ إنه والله خير الناصرين، فهو الذي يملك، وهو الذي بيده قدرة كل ذي قدرة، إن شاء عز وإن شاء ذل، إن شاء هزم وإن شاء نصر، وهذا هو الذي ينبغي أن نطلب منه، ولا نطلب النصر على أعدائنا بمعصيته كما حصل وتم وتذوقنا مرارته وتجرعنا غصصه في حربنا مع اليهود منذ أن دخلوا فلسطين، وأعلنوا عن دولتهم، ونحن في حماس وحرب بعد أخرى وما انتصرنا أبداً.وسر ذلك يا ربانيون! يا علماء! أننا ما قاتلناهم من أجل أن نقيم دين الله، وإنما قاتلناهم من أجل أن نجليهم عن أرضنا ووطننا، فكان هذا هو القصد، وإن قلت: لا يا شيخ، فأقول لك: عندما قاتلتم اليهود، هل كنتم تقيمون دين الله في دياركم؟! وهل أحللتم ما أحل وحرمت ما حرم؟ وهل أقمتم حدوده عليكم وعلى غيركم؟ وهل دعوتم إليه ورفعتم أصواتكم بـلا إله إلا الله وألا يعبد إلا الله؟! الجواب: لا، باستثناء هذه الدويلة، وباقي الدول العربية من المغرب الأقصى إلى الشرق هل كانوا يعبدون الله بما شرع، ويقيمون شرعه ودينه وهم أولياؤه حتى ينصرهم؟! والجواب: لا، إذاً كيف ينصرهم الله؟! ولذلك كانت هزيمتنا أمام اليهود فيها خير كبير، وقبل ذلك هزيمة المؤمنين مع رسول الله في أحد كان لها خير كبير، إذ لو انتصروا مع عصيانهم لقائدهم صلى الله عليه وسلم لكانوا لا يطيعون الله والرسول، ويقولون: نحن مسلمون، والنصر إلى جانبنا، والله معنا، ولا نبالي بالمعاصي إذا ارتكبناها، ومن ثم يخسرون كل شيء، فعلمهم أنهم لما عصوا رسول الله قائد المعركة هزمهم الله وسلط عليهم المشركين، ولذلك لو أن العرب انتصروا على إسرائيل وهم على ما هم عليه من عدم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك والخرافات والضلالات، لقالوا: انتصرنا بقوتنا، ولم يبق مجال لأن يُعبد الله، وكذلك لو انتصر الاشتراكيون في بلاد العالم، وكثر خيرهم وبركاتهم، وعمهم الغنى، لوقع في هذا الفخ اليهودي كل المسلمين إلا من شاء الله، ولكن الله ما أغناهم، فقد تبجحوا وتحطموا، وذلوا وهانوا وافتقروا.وهذا كله ثمرة ولايتنا لله تعالى، إذ الله ولي المؤمنين، فلا يسمح لهم أن يذوبوا في الكفر وينمسخوا ويهبطوا ويصبحوا لا إيمان ولا إسلام ولا إحسان.إذاً: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ [آل عمران:150]، فحققوا الولاية وشدوا بأيديكم، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150]، إن كنتم ترون أن هناك من ينصر فالله خير الناصرين، فاطلبوا النصر منه، ونطلب نصر الله لا بالدعاء فقط، بل نطلبه بطاعته وبامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ لأن أوامره كلها عوامل النصر والفوز، ونواهيه كلها عوامل السقوط والهبوط، فإذا أطعناه فيما أمر وفيما نهى فقد سدنا وانتصرنا وفزنا بسعادة الدارين.
تفسير قوله تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب...)
قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151].ثم قال تعالى مبشراً عباده المؤمنين: سَنُلْقِي [آل عمران:151]، وقد ألقى وقد فعل، سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151]، وأقسم بالله لو أن المسلمين في أي مكان أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، وأطاعوا وحملوا راية لا إله إلا الله، وقاتلوا المشركين في أي مكان، والله ليلقين الله الرعب في قلوب المشركين فينهزمون، إذ إنه في خمسة وعشرين سنة فقط وراية لا إله إلا الله من وراء نهر السند إلى اندونيسيا وإلى الأندلس، وهذا الرسول الكريم يقول: ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )، وذلك لما حاول ملك الروم أن يغزو النبي محمداً وآله وقومه، فأعد العدة، وجمع ثلاثمائة ألف مقاتل في ديار الشام، وعزم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عزمه على قتاله، فأعلن التعبئة العامة، فجهز اثنا عشر ألفاً من المجاهدين، ولما بلغ الروم عزم رسول الله وخروجه باثني عشرة ألفاً انهزموا وعادوا إلى ديارهم، وعسكر النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك عشرين يوماً، ثم عاد إلى المدينة عليه الصلاة والسلام وقال: ( نصرت بالرعب ).وإن قلت: هذا رسول الله! فنقول: وهذا عبد الله بن رواحة، وهذا جعفر بن أبي طالب، وهذا زيد بن حارثة مولى الرسول صلى الله عليه وسلم قادوا ثلاثة آلاف مقاتل، وخرجوا إلى ديار الشام، واستقبلهم مائتي ألف مقاتل من الروم، فألقى الله تعالى الرعب في قلوب المشركين، وبعد استشهاد القادة الثلاثة الأول فالأول، تولى قيادة الجيش خالد بن الوليد رضي الله عنه، فاستخلص واستل ذلك العدد من مائتي ألف مقاتل كاستلال الشعرة من العجين، إذاً فمن دبر هذا؟ إنه الله عز وجل، وهذا وعده إذ قال: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ [آل عمران:150]، ومن مظاهر النصر أن الله يلقي الخوف والهزيمة في قلوب المشركين، فيتزعزعون ويتخلخلون، ويتساقطون ويخرون، وهذا ليس خاصاً بمعركة ولا ألف معركة، بل ما زال إلى الآن، وفي البارحة وجهت -وأنا آسف لأني أقول ما لا أعرف، وليس هنا من يقبل قولي ولا يرضاه- وقلت: والله لو أن إخواننا الفلسطينيين تجمعوا في طرف المملكة أو في طرف سوريا أو في طرف مصر أو في أي مكان من بلاد العرب، وبايعوا إماماً ربانياً عرف الله معرفة يقينية، قد ملئ قلبه حبه وخشيته، فرباهم سنتين أو ثلاث سنوات، وهم ينمون بأبدانهم وأرواحهم وعقولهم، لأصبحوا أولياء الله، بل إذا سألوا الله أن يزيل الجبال لأزالها، وتجلت فيهم ولاية الله تعالى، فظهر فيهم الصدق والطهر والصفاء والخشوع والإنابة والتقوى، ثم قادهم باسم الله لأن يُعبد الله وحده في أرض القدس والطهر، وقال: الله أكبر، والله لنصرهم الله تعالى، وفر اليهود هاربين، بل ومنهم من سيقع في البحر، ومنهم من سيذعن وينقاد ويستسلم، إذ الله يقول: سَنُلْقِي [آل عمران:151]، وعد الصدق، فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151]؛ لأنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً.وقد رأينا هذا في التاريخ الطويل، فمتى ما وجِد المسلمون الربانيون بقيادة ربانية وبقصد سليم ونية حقة أن يعبد الله وحده في الأرض إلا نصرهم الله عز وجل، وبدون هذا فلا نصر ولا فوز، وقد عرفنا هذا في جهادنا في أفغانستان، إذ نحن قد ساهمنا وشاركنا فيه، وشيخكم هذا قد لبس البدلة للجهاد وطلعنا الجبل أيام زيارتنا لنخبرهم: بأنكم لا يقاتلون فقط روسيا، وإنما تقاتلون الكفار كلهم، ولن يتم لكم نصر حق إلا إذا أخذتم بمبادئ الإسلام وتعاليمه، فبايعوا إماماً واحداً، وزرنا إخواننا في مخيماتهم، وقال لي أحدهم: معسكر فلان مصيدة فقط للفلوس وليس قتالاً حقيقياً! والعجيب أنهم قادة يقودون أمة لعزة الإسلام ونصرته! وقلنا لهم: بايعوا إماماً واحداً، واستجيبوا لأمر الله تعالى، فأنتم لا تقاتلون روسيا فقط، وإنما تقاتلون من على الأرض من أهل الكفر، فلا بد وأن يكون الله معكم، فإن لم يكن الله معكم فلا نصر أبداً، وللأسف ما استجابوا لذلك، فعاشوا يقاتلون متفرقين، وما إن انهزمت روسيا بأمر الله ودعاء الصالحين حتى عادوا على بعضهم البعض، وهم الآن في فتنة إلى هذه الساعة، ولن تنتهي هذه الفتنة؛ لأنهم ما بايعوا إماماً واحداً ليعبدوا الله تحت رايته.والآن توجد جماعات في بلاد العرب تنادي بالجهاد، وأن الحكومات كافرة، فيجب أن نجاهد وأن نقاتل الكفر! ونحن نقول: يا أبناءنا! ما هكذا تورد الإبل يا سعد، لا يحل قتال بعضكم بعضاً، من أفتاكم بهذا ؟ من أجاز لكم هذا؟ ثم أنتم تقاتلون جماعات وأحزاباً، فهل أذن الله في هذا القتال؟ من إمامكم؟ من بايعتم أنتم وأمتكم، وصليتم وراءه وقادكم خطوة بعد خطوة ليعدكم للجهاد والقتال؟ إنكم تقاتلون أحزاباً ومنظمات وجماعات، وسوف تنتهي بقتال بعضكم بعضاً، وقد قلت هذا وما زلت أقول: إما أن تنتصر الحكومة التي يقاتلونها، وإذا انتصرت فسوف تنتهي هذه الأنوار وتنطفئ، ويصبح إخوانكم وأمهاتكم وأبناؤكم يتملقون الحاكم الفاجر بالفسق والفجور؛ لأننا عرفنا طبيعة البشر، وإما أن تنتصروا أنتم وهذا من باب البعيد بعد السماء عن الأرض، ثم تقتتلون فيقتل بعضكم بعضاً، ولن تقوم للإسلام دولة على مثلكم؛ لأنكم ما عرفتم الله، ولا ملأ حبه قلوبكم، ولا خوفه من نفوسكم، فأين يُذهب بعقولكم؟ وكيف ينصركم الله تعالى؟! أوجدوا أولاً أمة إذا قلتم: الله أكبر رددوها خلفكم. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151]، بسبب ماذا؟ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [آل عمران:151]، والباء هنا للسببية، والميم مصدرية، أي: بإشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطاناً، إذ قد أشركوا في عبادة الله تعالى وفي ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته من لا يستحقون ذلك؛ لأنه تعالى ما أمر بعبادتهم ولا بطاعتهم، بل وما أنزل الله به من سلطان.إذاً: العلة في هزيمة الله للكفار والمشركين والمنافقين: أنهم أشركوا بالله تعالى، فعبدوا الأحجار والأصنام والشهوات والبطون والفروج والأهواء، وهذه العبادة -عبادة غير الله- ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان أبداً في أي زمان من أزمنة الحياة، إذ كيف يُعبد من لا يخلق ولا يرزق؟! كيف يُطاع ويُذعن له ويتابع من لم يؤمن بالله ولا بلقائه؟! وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [آل عمران:151]، أي: أن النار مأواهم الذي يأوون إليه، ومصيرهم الذي ينتهون إليه كل المشركين والكافرين.إذاً: أين هذه النار؟ عندنا مثل نكرره للعاقلين، فنقول: غداً إن شاء الله في رابعة النهار في وقت الساعة العاشرة انظر إلى الشمس، هذا الكوكب المضيء النهاري، إذ قال فيه العلماء: إنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة! وهذا الكوكب كله نار، والذي أوجده هو الله، ولم تجمع الإنس والجن الفحم والحطب وأشعلوا هناك ناراً، ثم إن هذا الكوكب يسير بانتظام في فلكه لتنتظم عليه هذه الحياة، فلو يهبط بأقل هبوط لاحترق الكون، ولو ارتفع بأكثر ارتفاع لمات الناس بالبرد والجليد، ولا ندري كم سنة وهو في دائرته؟ فهذا هو عالم النار فوقنا، فكيف تسأل عن عالم النار؟! وسوف يأتي لهم هذه الكائنات الموجودات العلوية والتي نشاهدها وكلها تصبح سديماً وبخاراً، وعالم السعادة فوق وعالم الشقاء أسفل.وقد قلت لك حتى تتصور قعر النار: ضع رأسك بين ركبتيك وفكر، وقل: هابط، هابط، هابط، حتى تتعب وتكل، فإلى أين تريد أن تصل؟ لقد وقف عقلك، وبالتالي لا يسعك إن كنت العاقل إلا أن تأخذ بلحيتك وتقول: آمنت بالله.. آمنت بالله.. آمنت بالله، وهذه الصور النيرة قد حفظناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان على كرسيه يعلم إخوانه الكتاب والحكمة ويزكيهم، وفجأة يقول: ( آمنت به، آمنت به )، قالوا: ماذا يا رسول الله؟ قال: ( أتاني جبريل فقال لي: إن رجلاً ممن كان قبلكم يركب على بقرة، فرفعت البقرة رأسها وقالت له: ما لهذا خلقت يا رجل! )، أي: ما خلقت ليركب عليها، ولكن لتحلب ويحرث بها، فالرسول تعجب من بقرة تنطق وتفصح بلغة الرجل، فقال عليه الصلاة والسلام: ( آمنت به )، وأمسك بلحيته، ثم قال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر )، وهما غائبان عن المجلس وليسا فيه، لكن يقين الرسول في إيمانهم وثقته في معتقدهم قال: ( وآمن به أبو بكر وآمن به عمر ).فهذا هو شأن أهل اليقين، فإذا أخبر الله أو أخبر رسوله بأمر ما فلا مجال للعقل والتفكير فيه، وإنما قل فقط: آمنت به، آمنت بالله. وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151]، أي: وبئس المصير يصيرون إليه، إذ النار مصير سيء وأقبح مصير، وحسبنا أن نذكر ما ثبت عن رسول الله: ( ما بين منكبي الكافر كما بين مكة وقُديد )، أي: مائة وخمسة وثلاثين كيلو متر، فهذا العرض فكيف بالطول؟ قال: ( وضرسه كجبل أحد )، فكم مدة لتأكله النار؟ وكم قرناً ليفنى؟ وإن تعجبت فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سنن أبي داود : ( أُذن لي )، أي: ما نستطيع أن نتكلم بدون إذن؛ خشية أن الناس لا يفقهون ولا يعقلون، إذ الواجب أن نحدث الناس بما يفهمون، ( أذن لي أن أحدث عن ملك رأسه ملوية تحت العرش، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة )، فكم سيكون طوله؟ وقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1]، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( وتجلى لي جبريل عليه السلام في السماء على صورته التي خلقه الله عليها فسد الأفق كله )، فقد كان معه في الغار وضمه إلى صدره كالأم الرحيمة ثلاث مرات وعلمه، ثم فارقه وظهر في صورته التي خلقه الله عليها بستمائة جناح، فسد الأفق كله.إذاً: عالم الشقاء بئس المصير يصير إليه الآدمي، من الطعام الزقوم، والشراب الحميم، وقعرها وبعدها، فوالله لا يعرف فيها أحداً، لا أماً ولا أباً ولا أخاً ولا عماً، ولهذا قال تعالى: وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ من هداية الآيات:أولاً: تحريم طاعة الكافرين في حال الاختيار ]، أما في حال الاضطرار والعصا والقدوم والمنشار في يده فأطعه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعمار : ( أعطهم يا عمار )، ونزل في ذلك قوله تعالى: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، فإذا ما أطقت التعذيب، وطلب منك سب الله وسب رسوله، فقل بلسانك وقلبك بريء من ذلك. [ ثانياً: بيان السر في تحريم طاعة الكافرين، وهو أنه يترتب عليه الردة والعياذ بالله ] والله لو نطيع الكفار الآن كأمريكا وبريطانيا وفرنسا، ونأخذ بتوجيهاتهم، ما هي إلا دقائق ونحن مرتدون والعياذ بالله.[ ثالثاً: بيان قاعدة: من طلب النصر من غير الله أذله الله ] وقد عرفنا هذا وجربناه، إذ إن من طلب النصر من غير الله أذله الله ولم ينتصر.[ رابعاً: وعد الله المؤمنين بنصرهم بعد إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، إذ همَّ أبو سفيان بالعودة إلى المدينة ] وذلك لما خرجوا بعيداً قالوا: ماذا فعلنا؟ لماذا رجعنا؟ ما زال محمد وأبو بكر وعمر أحياء، فهيا نقضي عليهم جميعاً، ولكن الله جاء بـمعبد، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وجيشه وقال: هيا إلى مكة، وصدق الله إذ يقول: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران:151] وقد فعل. [ رابعاً: وعد الله المؤمنين بنصرهم بعد إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، إذ هم أبو سفيان بالعودة إلى المدينة بعد انصرافه من أحد ليقضي عمن بقى في المدينة من الرجال، كذا سولت له نفسه، ثم ألقى الله تعالى في قلبه الرعب فعدل عن الموضوع بتدبير الله تعالى ] وذهب إلى مكة. [ خامساً: بطلان كل دعوى ما لم يكن لأصحابها حجة، وهي المعبر عنها بالسلطان ] كل دعوة سياسية أو دينية أو دنيوية لا تقوم على الحجة والسلطان فلا قيمة لها، والدعاوى باطلة إلا إذا قامت على البراهين الصادعة، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [آل عمران:151].[ خامساً: بطلان كل دعوى ما لم يكن لأصحابها حجة، وهي المعبر عنها بالسلطان في الآية، إذ الحجة يثبت بها الحق ويناله صاحبه بواسطتها ].وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (62)
الحلقة (203)
تفسير سورة آل عمران (66)
يذكر الله سبحانه وتعالى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم بما حصل منهم يوم أحد من عصيان بعضهم لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطمعهم بمتاع الدنيا من الغنائم وفرحهم بها بعد أن أظفرهم الله بعدوهم، ثم فشلهم بعد ذلك وتفرقهم من حول نبي الله لما أن دارت الدائرة عليهم، ثم يمتن الله على عباده المؤمنين بعفوه عنهم وتفضله عليهم سبحانه وتعالى.
تفسير قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وهانحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومع هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153].هما آيتان اثنتان، فهيا نكرر تلاوتهما ونتأمل معانيهما وما تحملانه من هدى ونور: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153]. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [آل عمران:152]، هذا إخبار من الله تعالى، والمخاطبون بهذا الخطاب هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا غزوة أحد وخاضوا معركتها، وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم صبيحة السبت بألف مقاتل، وفي أثناء الطريق رجع ابن أبي رئيس المنافقين بثلاثمائة منهم، فبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم سبعمائة رجل من الأنصار والمهاجرين، وقد عسكروا بوادي أحد، وهمَّ رجال من بني حارثة وبني سلمة بالعودة أيضاً ولكن الله سلَّم، وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف مقاتل، ثم بدأت المعركة واشتعلت نارها. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [آل عمران:152]، أي: بالنصر. إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152]، والحس: القتل والقطع. حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ [آل عمران:152]، أي: حتى إذا فشلتم عن قتال المشركين، ووجه الفشل هو أن الرماة -وعلى رأسهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه- الذين وضعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجبل المعروف الآن، وقال لهم: ( لا تبرحوا أماكنكم، انتصرنا أو انتصروا )، لما شاهدوا هزيمة الكفار، وأخذ المجاهدون يجمعون الغنائم، ما ثبتوا، بل اختلفوا ونزلوا من أماكنهم، ولم يبق إلا عبد الله بن جبير ومجموعة معه، ولما خلا الجبل من الرماة احتله خالد بن الوليد قائد خيل المشركين، فوقع المسلمون بين فكي المقراظ، ورجع المشركون لما شاهدوا الهزيمة قد نزلت بالمسلمين، وأن الرماة قد نزلوا من أماكنهم، وأن خالداً قد احتل الجبل، وأصبحت السهام والرماح تأتي على المسلمين من كل جانب، وهذا يدل عليه قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ [آل عمران:152]، أي: في القتال.ثم قال تعالى: وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:152]، من هم الذين تنازعوا؟ الرماة، منهم من قال: إن المعركة قد انتهت، والمشركون قد انهزموا، فهيا بنا ننزل لجمع الغنائم، ومنهم من قال: لا، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوصانا ألا نبرح أماكننا كيف ما كانت الحال انتصاراً أو انهزاماً، وكان هذا هو التنازع في الأمر. وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152]، أي: من النصر، وهذا عائد إلى الرماة حيث عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا للمادة. مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، فالذين هبطوا من الجبل يريدون الدينار والدرهم والغنائم، والذين ثبتوا على الجبل ولم ينزلوا يريدون الآخرة. ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ [آل عمران:152]، أي: عن المشركين. لِيَبْتَلِيَكُم ْ [آل عمران:152]، أي: ليختبر إيمانكم وصدقكم وثباتكم أو هزيمتكم. وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، أي: لولا عفوه لما ترك المشركون منكم أحداً، لكن الله صرف المشركين عنكم، ولو واصلوا قتالكم لانتهيتم، ولكنها منة الله تعالى عليكم. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152]، من أصحاب رسول الله، ومن أهل معركة أحد، بل وعلى كل المؤمنين إلى يوم القيامة، وإنه لذو فضل علينا أيها المستمعون والمستمعات! إن كنا مؤمنين، والله ذو فضل عظيم على المؤمنين، ولولا فضله أن من زلت به قدمه وعصى ربه أنزل به المحنة والكارثة ما بقي أحد، لكن فضله لا ينقضي على المؤمنين أبداً، وهو واضح وبيِّن.
تفسير قوله تعالى: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم...)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153].اذكروا إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]، يقال: أصعد في الأرض، إذا ذهب هارباً في الصعيد لا يلتفت إلى أحد.ثم قال تعالى: وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]، أي: ليس هناك من يلتفت إلى الوراء أبداً، بل إذا حصلت الهزيمة فالهروب في تلك الصحراء. وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ [آل عمران:153]، أي: يقول: إليّ عباد الله، وذلك لما انهزموا وفروا؛ لأن إبليس صاح فيهم: لقد قتل محمد، وأشاعها المنافقون بين المسلمين، حتى قال من قال: هيا نلحق بـأبي سفيان ونعود إلى دين آبائنا وأجدادنا، ومنهم من قال: توسطوا بـابن أبي ليأخذ لكم عهداً عند أبي سفيان، فكانت محنة ما مثلها محنة، وسببها معصية واحدة لا ثاني لها، ونحن غارقون في معصية الله والرسول! فهذه معصية واحدة فكيف بمن يعصي الله ليل نهار؟! وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ [آل عمران:153]، وأنتم شاردون هاربون في الصعيد. فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]،، فالغم الأول: الهزيمة، والغم الثاني: فقد الغنيمة، ولنا أن نقول: الغم الثاني: الهزيمة وفقد الغنيمة، والغم الثاني: سماعكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فأصابكم كرب لا حد له، وغم أعظم من ذلك الغم، وأعظم من فوت الغنيمة أو وجود جراحات أو قتلى بينهم. فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]، لعلة: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ [آل عمران:153]، أي: من الغنائم، وَلا مَا أَصَابَكُمْ [آل عمران:153]، أي: من القتل والجرح، وهذا تدبير ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه، فآمنا بالله وحده، فهو الذي سلط ابن قمئة -أقمأه الله- بأن جرح النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سقوطه في حفرة من الحفر، فكسرت رباعيته، وسالت دماؤه، ثم صاح: قتلنا محمداً، إن هذا تدبير ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]، فأعمالنا الباطنة كالظاهرة، والسرية كالعلنية، إذ كلها مكشوفة لله، فهو يعلمها أكثر مما نعلمها، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، والملكوت كله بين يديه.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيتين:ما زال السياق ] أي: سياق الكلام الإلهي، [ في أحداث أحد ] أي: هذا الجبل الذي وراءنا، هذا الجبل الذي كان إذا لاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد خفَّ وأسرع، وقال: ( أحد جبل يحبنا ونحبه )، ومن تدبير الله أنه اشتق له اسم من اسمه، فقال: اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فهل تعرفون ماذا فعل أحد؟ قد يقول قائل: يا شيخ! لا تقل: فعل أحد، فأحد ليس عاقلاً حتى يفعل! فنقول لك: ما الفرق بينك وبين هذه الصخرة؟ إنها تنطق وتتكلم وتعبد الله مثلك، وكونك نطقت بالنسبة إليه وباقي المخلوقات كلها تعبد الله وتسبحه، فهو سبحانه الذي جعل عينيك في وجهك، ولسانك في فيك من أجل أن تنطق وتتكلم، وكل المخلوقات تسبح الله وتعبده.ولما انتهت المعركة في آخر النهار زحف أبو القاسم مع بعض رجاله إلى الجبل وارتقوا فوقه، وليس في قمته وإنما في سفحه، ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد، ماد واضطرب الجبل من الفرح، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( اسكن أحد، فإن عليك نبي )، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ( وصديق )، وهو أبو بكر الصديق، ( وشهيدان )، وهما: عمر وعثمان. لا إله إلا الله! أبو بكر الصديق استشهد أو قتل في معركة تخلى عنها مع رسول الله؟! والله ما تخلى عن معركة قط مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفيه وسام الصديقية، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أبا بكر لن يُستشهد في القتال، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف المؤمنون أبا بكر، وقاد الأمة سنتين ونصف، ثم توفي بمرض أصابه.وقوله: ( وشهيدان )، من أخبر رسول الله أن عمر وعثمان سيستشهدان؟ الله، فلا إله إلا الله! هل شهيدان في معارك فارس والروم؟ أم في معارك أفريقيا والأندلس؟ إنهما شهيدان في بيتهما، فلا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فهذا عمر رضي الله عنه كان يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك، فتعجب ابنته أمنا حفصة رضي الله عنها وتقول: أيا أبتاه! كيف تجمع بين هذين: الشهادة في بلاد فارس والروم، والموت في المدينة؟! فيقول لها: اسكتي يا حفصة! إن الله على كل شيء قدير، وفعلاً استشهد في مدينة رسول الله وهو يصلي في ذاك المحراب الطاهر، فقد كان أبو لؤلؤة المجوسي يتربص به الدوائر، إذ إنه مبعوث من الحزب الوطني الفارسي المجوسي لينتقم من عمر الذي حول تلك الظلمة إلى نور، وأطفأ تلك النار التي كانت تُعبد مع العزيز الجبار، فتكوَّن حزب وطني يعمل في الظلام للانتقام من العرب والمسلمين وعلى رأسهم عمر، وأبو لؤلؤة المجوسي هذا كان مملوكاً لأحد أصحاب رسول الله وهو المغيرة بن شعبة، فكان يتربص بـعمر يوماً بعد يوم حتى أتيحت له الفرصة، فصلى يوماً وراء عمر، ولما سجد أو ركع أخرج رمحه وضربه، فصاح عمر فالتفت المؤمنون وهرب القاتل فألقوا القبض عليه، فأدى مهمته ولم يكن خائفاً من الموت، إنما المهم أن يموت عمر وينطفئ نور الإسلام.هذا الحزب الوطني المجوسي إلى الآن ما زال يعمل على إطفاء نور الله عز وجل، وإقامة الدولة المجوسية الساسانية، فأيام كان الشاه على رأس الحكم أقام الشاه ذكرى مرور ألفين وخمسمائة سنة على سقوط دولة الساسانيين، واحتفل بالذكرى كل السفارات والقنصليات، وشارك في ذلك العرب والمسلمون، وهم كالأغبياء ما يشعرون، فهل يُعقل أو يُقبل أن المسلمين يحتفلون بذكرى دولة المجوس؟! أسألكم بالله، لو أن جماعة في مكة قالوا: نحيي ذكرى موت عمرو بن هشام بطل بني مخزوم! فإنك ستقول: هل هؤلاء مسلمون؟! فكيف بهؤلاء الذين يحتفلون بذكرى مجوسي كافر؟! آه! ما زلنا في غفلتنا سائرون.كتبت مرة كلمة في جريدة البلاغ الكويتية محذراً ومنبهاً ومذكراً ولكنا ميتون، وقلت: يا عرب الجزيرة! إنكم والله بين فكي مقراظ، اليهود من الغرب، والمجوس من الشرق، وما هي إلا سنوات توالت وإذا بحملة الشاه آية الله، أو الجمهورية الإسلامية الشرسة على المسلمين، ولولا أن الله أوقفها بالبعث العراقي لما اجتمعنا الليلة هنا، فهل هذه سياسة أو علم؟ ماذا تقولون؟ الغافلون يقولون: سياسة، فاتركنا من هذه السياسة.والشاهد عندنا في استشهاد عمر رضي الله عنه: أن الله تعالى حقق له طلبه ورجاءه، فجمع له بين الموت في المدينة والشهادة في سبيل الله عز وجل.وهذا عثمان رضي الله عنه وأرضاه شهيد، فقد أخبر بشهادته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو علم من الله ليس بالهوى، وقد استشهد رضي الله عنه -وهو خليفة المسلمين- في بيته قريباً من مسجد رسول الله، والمصحف بين يديه حتى تلطخ بدمائه رضي الله عنه، والذي قتله هو الثالوث الأسود.
دور الثالوث الأسود في الكيد لأمة الإسلام
لعل أهل الحلقة قد ملوا من كلمة: الثالوث الأسود، لكن نسمعها من لا يعي هذا ولا يفهمه، وإن كانوا ساسة يقودون الناس، فنقول: إن الثالوث الأسود مركب من ثعابين سود: الأول: المجوس، والثاني: اليهود، والثالث: الصليبيون.وبداي التكوين لهذا الثالوث هم المجوس، وذلك لما سقط عرش كسرى وانهارت المجوسية وانطفأت نارها على أيدي عمر، إذ أخذ تاج كسرى ووضعه على رأس سراقة بن جعشم، وذلك في حادثة تاريخية مشهورة وهي: لما صدر حكم قريش بالإجماع على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، ويسَّر الله الهرب لرسوله فهرب مع الصديق، فأعلنت قريش عن جائزة مقدارها مائة جمل لمن يأتي برأس محمد رسول الله، فأخذ سراقة بن جعشم رضي الله عنه البطل الفارس الخريت الذي يعرف الأرض في البحث، وقال: قد أتيحت لنا الفرصة، وأخذ يتتبع الآثار حتى عرف الطريق الذي سلكه خريت أبي بكر الصديق؛ إذ اتخذوا خريتاً خاصاً يمشي أمامهم ليتجنبوا طرق العرب، ولما وصل سراقة بن جعشم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، إذا بالفرس تغوص رجلاه في الأرض، فيتعجب سراقة بن جعشم من ذلك، إذ إن الأرض صلبة فكيف يحصل هذا؟! ويقفز من على الفرس فيمشي على رجليه فيسقط، فلا إله إلا الله! فالتفت إليه رسول الله وهو يبتسم فقال له: يا سراقة! كيف بك إذا وضع على رأسك تاج كسرى؟! فأين كسرى؟ وأين تاج كسرى؟ والرسول هارب من مكة والإعدام قد صدر عليه، فكيف هذا؟! وأي حلم وأي منام هذا؟! فرجع سراقة وأسلم، ثم تمضي الأعوام ويفتح عمر برجاله ديار فارس، فيأخذ التاج ويضعه على رأس سراقة بن جعشم تحقيقاً لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.إذاً: الثالوث الأسود بدأ بالحزب الوطني الذي يعمل في الظلام إلى اليوم، وقد انضم إلى ذلك اليهود، هؤلاء اليهود الذين أجلاهم عمر تنفيذاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( لا يجتمع دينان في الجزيرة )، والنفي هنا في الحديث أبلغ من النهي، فلا يجتمع دينان في الجزيرة؛ لأن الجزيرة قبة الإسلام وبيضته، ووراءها الدنيا والعالم، لكن هذه القبة لا تُظلل رايتين، ولا يمكن أن يوجد فيها دينان، ولذلك أجلاهم عمر، فاغتاظوا وكربوا وحزنوا، ففكروا وبحثوا عمن يتعاونون معهم ضد الإسلام والمسلمين، فوجدوا الحزب الوطني المجوسي فتعانقوا.ولما انتشرت الفتوحات على يد عثمان وتجاوزت أفريقيا ووصلوا إلى غرب أوروبا في الأندلس، اضطربت نفوس النصارى وفزعوا، وقالوا: إن هذا النور سوف يقضي علينا، فبحثوا عمن يتعاونون معهم، ومن يعينهم ضد الإسلام والمسلمين، فعثروا على المجوس واليهود فتعانقوا، وإلى الآن والله هم متعاونون، فلا يريدون أبداً أن يسعد المسلمون ويشقون هم، إذ إنهم عرفوا أن الإسلام هو الحق، وأن أهله هم السعداء أهل دار السلام، فكيف نسمح لهم بهذا ونحرم نحن؟ فذهبوا إلى مصر وعلى رأسهم ذاك اليهودي الصنعاني اليمني عبد الله بن سبأ، فهيج المصريين، وشاع بأن هذا الخليفة الثالث ينفق الأموال على أقربائه، وأن الوظائف يوزعها على أهله وأقربائه من بني أمية، كما هو عادة الهابطين إلى الآن وإلى بعد الآن، ثم ذهب إلى الشرق ففعل مثل ذلك، فجاءت خيولهم للقضاء على خليفة المسلمين، وما كان من أصحاب رسول الله إلا أن بكوا، كيف يريقون ويسيلون الدماء في عاصمة الإسلام؟! فحاولوا دفع ذلك الشر وما استطاعوا، فهذا علي وضع أبناءه على باب عثمان لحمايته، لكن ينفذ أمر الله فيُقتل عثمان رضي الله عنه، ومن ثم أصابت العالم الإسلامي زلزلة عظيمة، واضطربت النفوس وبدأت الفتنة إلى الآن ولم تنته بعد.
محاولات أعداء الإسلام لصرف المسلمين عن القرآن الكريم
حاول الثالوث الأسود أن يدخل في حروب مع الخلافة الإسلامية، فما أثاروا حرباً إلا فشلوا وتمزقوا فيها، ففكروا في سبب قوة المسلمين، وبعد الدراسة والتأمل والتطلع وجدوا أن هذه القوة عائدة إلى القرآن الكريم، فإن استطعتم أن تبعدوهم عن القرآن فقد نجحتم، فعقدوا اجتماعات على أن يحذفوا كلمة: (قل) فقط من القرآن: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الأعراف:158]، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فما استطاعوا، فوقفت هذه الكلمة حجر عثرة في الطريق، ولولاها لقالوا: هذا كلام محمد فاضت به روحه، أو صهرته الصحارى والحرارة ففاض بهذه العلوم والمعارف، وليس هذا بكتاب الله ولا بوحيه، إذ كيف يقول المؤلف: قل، من يخاطب حتى يقول: قل؟ إنه ليس معقولاً أبداً أن تتكلم وتقول: قل كذا.إذاً: فشلوا في هذا، وبالتالي فماذا يصنعون؟ قالوا: هناك حيلة واحدة وهي أن نصرفهم عن تلاوة القرآن ودراسته وتدبره فقط، ثم بعد ذلك يموتون، فوضعوا قاعدة للتفسير فقالوا -من أراد أن يقرأها فعليه بحاشية الحطاب على شرح خليل بن إسحاق-: تفسير القرآن خطأ، وخطؤه كفر، وبالتالي ألجموا المسلمين، فلا يوجد من يقول: قال الله، وإذا مروا بك تفسر آية فإنهم يغلقون آذانهم ويمشون مسرعين خشية أن تسقط عليهم صواعق، ويقولون: تفسير القرآن خطأ وإثم وذنب عظيم، وهذا صوابه، ففسره مصيباً غير مخطئ، وإن أخطأ فقد كفر، وبالتالي فصوابه خطأ وخطأه كفر، إذاً ماذا يصنع المسلمون بالقرآن؟ قالوا: يُقرأ على الموتى في المقابر، فتدخل المقبرة وتجلس وأنت طالب قرآن فتأتيك العجوز: هذا ولدي اقرأ عليه شيئاً من القرآن، وتضع في جيبك عشرة ريالات، وآخر يأتي ويقول: هذا قبر أبي فاقرأ عليه شيئاً من القرآن، ويعطيك مالاً مقابل ذلك، وهذا في المقابر، وإلا فالأصل في المنازل وفي البيوت، فإذا مات الميت فلا بد من عشاء يسمونه: عشاء الميت، فيجمعون عشرة أو خمسة عشر من أهل القرآن، حسب طاقتهم وقدرتهم غنىً وفقراً، ويقرءون القرآن وهم يضحكون والميت بين أيديهم! وأنا قد رأيت هذا بعيني، ويأكلون بعد ذلك الرز وغيره ثلاثة أيام إذا كانت حالته فقيرة، وإن كانت حالته واسعة فسبعة أيام أو واحداً وعشرين يوماً؛ وذلك ليدخلوه الجنة بقراءة القرآن!بل إذا ماتت البغية في دار البغاء، فيؤتى بطلبة القرآن وأهل القرآن فيقرءون القرآن على البغية الزانية في دار البغاء، فإن قلت: كيف هذا؟! جوابنا: هل حكمتنا بريطانيا وإيطاليا وأسبانيا وبلجيكا أو لا؟ هل استعمرونا أو لا؟ لقد أذلونا وأهانونا، ولو كنا أحياء فأنى لهم ذلك؟ بعدما متنا استُعمرت دياركم من إندونيسيا إلى بريطانيا، باستثناء هذه البقعة فقط؛ لأن الله أراد حمايتها كرامة لبلد رسوله وبلده.كما قد بلغنا في بلد كبير من بلاد المسلمين أن هناك نقابة عملها أنه إذا توفي لك شخص اتصلت بها، فقالوا لك: مرحباً فلان، هل توفي والدك أو توفي عمك؟ هل تريد من فئة مائة ليرة أو خمسين؟ فإن كان الميت غنياً يقول: من فئة المائة، فيبعث له عشرين طالباً يأخذون مائة ليرة في الليلة، وإن كان الميت فقيراً يقول: من فئة الخمسين فقط أو عشرين ليرة، فحوِّل القرآن إلى الموتى، وما بقي من يعي ويفهم ويتدبر ويتأمل، وماتت أمة القرآن. وأما السنة النبوية فمن أجل الحفاظ على المذاهب، يسأل أحدهم: أنت حنبلي؟ فيغضب، وأنت؟ أنا مالكي، وأنت؟ حنفي، وهذا شافعي، ونفخوا في هذه الفتنة فأصبح أهل السنة والجماعة -دعنا من الخوارج والروافض والهابطين-كأنهم أعداء إلى عهد قريب، وفي بداية وجودي هنا كان يأتيني الحاج فيقول لي: أنا شافعي، وقد غطيت رأسي أو فعلت كذا، فما يلزمني؟ فأقول له: لا تقل: أنا شافعي، بل قل: أنا مسلم، كذلك يأتيني أخ فيقول لي: أنا حنفي، فماذا أصنع وقد أحرمت من كذا وكذا؟ فأقول له: قل: أنا مسلم، وخص ذلك الأمر لأمور أرادها الله تعالى، وإلا أصبح المسلمون أعداء وخصوماً لبعضهم البعض، وتم هذا على يد الثالوث الأسود.كما أن السنة فيها الناسخ والمنسوخ، والضعيف والصحيح، وهؤلاء يقولون: دعنا من السنة، يكفينا كتب الفقه، هذه المصنفات قد مضى عليها أكثر من ثمانمائة سنة، فلو تقدم إليهم منهاج المسلم الذي تعرفونه والله ما يقرؤه أحد، وإنما يتصفحه أحدهم فيقول: أنا شافعي، وهذا ليس بمذهبي، ويتناوله المالكي فيقول: أنا مالكي، وهذا ليس بمذهبي، ويتناوله الحنبلي فيقول: هذا ليس بمذهبنا، وكذلك الحنفي فيحطه على الرف، ولا يستفيد منه شيئاً، لكن الحمد لله شاء الله أن تتقارب أمة الإسلام، وأصبحت القضية ليست قضية مذهب، وإنما قضية كيف يحبنا الله وينزلنا بجواره؟فنعبد الله بما شرع وبين في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا شافعية ولا حنبلية تمنعنا من أن نعبد الله عز وجل.وللأسف أن السنة في ديارنا الجزائرية يجتمعون لها في رمضان حول المحراب، ويحضر علماء يقرءون كتاب البخاري للبركة فقط، وقد مضت سنون عل ذلك، وهاجرنا ووجدنا هذا والله في المدينة في الروضة، إذ يجتمع جماعة من أعيان البلاد وأفاضلهم فيقرءون كتاب البخاري للبركة لا ليتعلموا حكماً بالحلال أو الحرام، وهذا كله من فعل الثالوث الأسود، إذ إنه يريد منا أن نبقى تحت أقدامهم، وأن نرضخ تحت أوامرهم، وكلما فررنا من جهة أصابونا بأخرى، فجاءوا لنا بالفيديو والتلفاز والدش والأغاني، فهبطوا ببيوت المسلمين وأظلموها، وطردوا الملائكة منها، وتركوا الشياطين تغني فيها، فقست القلوب وظهرت الفاحشة وما زالوا يوقدون نارها، فإذا تخلصنا منها يأتون بأخرى، فإما أن نكون يقظين ربانيين كلما كادوا كيداً دسناه بنعالنا حتى يفشلوا وينهزموا، وإما فسيظلون يطفئون نور الإيمان في قلوبنا ليسودوا ويحكموا ويقودوا، فاذكروا هذا ولا تنسوه معاشر المسلمين.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (63)
الحلقة (204)
تفسير سورة آل عمران (67)
ذكر الله عز وجل من حال الرماة يوم أحد أنهم لما رأوا غلبة المسلمين ورجحان كفتهم على أعدائهم من المشركين، أرادت طائفة منهم النزول إلى ميدان المعركة لجمع الغنائم مع إخوانهم، وهذه الطائفة التي ذكر الله عنها أنها تريد الدنيا وإدراك الغنيمة، أما الطائفة الأخرى فرأت أن من واجبها التزام أمر رسول الله بالمكث على الجبل حتى يأتيهم أمر من رسول الله بالنزول، وهذه الطائفة هي التي أخبر الله عنها أنها تريد الآخرة، فنزل من نزل وبقي من بقي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، من ابتلاء المسلمين وتسلط عدوهم عليهم.
حكم التدخين
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.قبل أن نشرع في إكمال تفسير الآيتين اللتين أخذناهما يوم أمس، أقدم هذه المقدمة فأقول: معشر المستمعين! قد تكرر القول: بأن التدخين حرام ومن كبائر الذنوب والآثام، وأن التدخين عادة سيئة انتقلت إلينا من أوروبا الهابطة، وما كان المسلمون يعرفون التدخين بأي صورة من صوره، لكن لما حكمونا وسادونا ودخلوا ديارنا وقادونا تركوا فينا هذه الرذيلة الخبيثة؛ لجهلهم وعدم بصيرتهم، وقد ذكرنا والكل يذكر ولا ينسى: أن جميع الشرائع الإلهية السماوية جاءت بالمحافظة على خمس كليات: العقل والعرض والدين والمال والبدن، وبالتالي فكل ما يؤذي واحدة من هذه فهو حرام، ولا تبحث عن الدليل لا من الكتاب ولا من السنة، إذ كل ما يضر بعرض الآدمي أو ببدنه أو بماله أو بدينه أو بعقله فهو حرام، والتدخين بجميع صوره يضر بهذه الخمس كلها.فأولاً: ضرره بالبدن، فقد عقدت ندوات ومؤتمرات طبية في أوروبا بشأن التدخين، وتوصلوا إلى أن نسبة الذين يموتون متأثرين بالسرطان الرئوي نتيجة التدخين خمسة وسبعون بالمائة، فإذا كان خمسة وسبعون بالمائة يهلكون بسبب التدخين، فهل يبقى من يقول: يجوز التدخين؟! وقلنا: لو كانت هناك مائة رحلة بالطائرة من القاهرة إلى المدينة، وخمسة وسبعون رحلة تسقط، وخمسة عشرون تنجو، فهل ستجدون من يفتي بجواز ركوب الطائرة؟ والله لا يوجد أبداً، بينما خمسة وسبعون بالمائة يموتون بالسرطان الرئوي شيء عادي!.ثانياً: ضرره بالعقل، إذ هو الجوهرة التي يحافظ عليها الآدمي، فإذا فقدت أصبح حيواناً لا خير فيه، ولذلك يجب على الإنسان أن يحافظ عليه من كل ما يضر به، كالسحر والكذب والشعوذة والدجل والمسكرات والمخدرات؛ لأن العقل هو ميزة هذا الآدمي، فإذا مُسَّ بسوء هبط الإنسان، ومن الأمثلة على ذلك: أن الموظف المدمن على التدخين، تدخل عليه في نهار رمضان لحاجتك فتراه شبه نائم ويقول: دعني، انتظر قليلاً؛ لأنه صائم ولم يدخن.ثالثاً: ضرره بالدين، فالمسلم يرضى أن يقتل ويصلب ويحرق ولا يفسد دينه، إذ هو سُلم صعوده إلى السماء، وبالتالي فكل ما يمس بالدين ويضر به ليفسده فهو حرام. كما قد ذكرت لكم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاعوا في غزوة من الغزوات، فكبوا على بستان أو مزرعة فيها البصل والثوم، فأكلوا الثوم والبصل لسد الجوعة، فلما وصلوا إلى المدينة أعلن القائد صلى الله عليه وسلم فقال: ( من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مسجدنا )، وعلل -وهو الحكيم- فقال: ( إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، والإنسان يتأذى من رائحة التدخين ويكرهها ولا يقبلها، وكذلك الملائكة وخاصة الكرام الكاتبين الذين وكلهم الله بتسجيل وكتابة حسناتك وسيئاتك، فهذا عن يمينك وهذا عن شمالك، والرسول يقول: ( من أراد أن يبصق فلا يبصق عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق بين يديه أو تحت قدمه )، لا عن شماله ولا عن يمينه، فانظر للذي يدخن يقول: أف في وجه ملك، فكيف تكون حال هذا الملك؟ لو يدعو الله عليه لاحترق.وكل هذا قد جهله المسلمون ولم يلتفتوا إليه، والحمد لله فقد أفاق المؤمنون والمؤمنات، ففي المدينة والله كان النساء يدخن والعياذ بالله، والآن هذه الإفاقة وهذه العودة نشاهدها، وقد كنا إذا جلسنا في مأدبة فإن صاحب المأدبة يضع علباً أو طفايات، فتنظر إلى الجالسين من إخوانك فتجد ثلاثة أرباع الحاضرين يدخنون، والذي لا يدخن ربعهم، والآن ما أصبحت توضع الطفايات، وما أصبح أحد يجرؤ أن يدخن، فإذا اضطر فإنه يدخل للمرحاض ويدخن.وهذه بشرى أزفها إليكم، وهي أن المسئولين -جزاهم الله خيراً- قد وضعوا في باب المجيدي أو باب السلام المصحات لعلاج التدخين، وذلك في خلال خمسة أيام فقط، فتنسى التدخين نهائياً، فمن استطاع أن يتخلى عن التدخين من الآن فليرمي بالسيجارة أو العلبة ويدوسها برجله، ومن عجز لما اعتاده فليأت هذه المصحات ليُعالج عندهم مجاناً، سواء كان مقيماً أو مهاجراً أو وطنياً، ويُشفى بإذن الله تعالى ويصبح يكره التدخين، وحتى في المستشفيات والمصحات توجد هذه العيادة.
تابع تفسير قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه... )
والآن نعود إلى الآيتين الكريمتين لاستيفاء دراستهما؛ لأننا ما أكملنا دراستها يوم أمس، فهيا بنا نستمع إلى تلاوة الآيتين بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153].قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، والمقصود بهم الرماة الذين كانوا على الجبل، أي: عبد الله بن جبير ومن معه، إذ لما شاهدوا هزيمة المشركين وفرارهم، وشاهدوا نساء المشركين مشمرات عن سوقهن هاربات قالوا: الآن ما بقي لنا حاجة أن نبقى على الجبل، فهبطوا من أجل أن يجمعوا الغنيمة، فأرادوا الدنيا ومتاعها، بينما الذين قالوا: لا نهبط من الجبل، فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلزم أماكننا، سواء كان النصر أو كانت الهزيمة، فهؤلاء أرادوا الدار الآخرة.قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، ولو آخذهم لسلط عليهم المشركين فأنهوهم ولم يبقوا منهم أحداً، ولكن الله ما آخذهم بذلك.قوله: غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]، أي: أصابهم غم الحزن والهزيمة، وأعظم من ذلك لما سمعوا أن محمداً قد قتل، فكان أعظم الغم.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ...) من كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين أجمعين: [ ما زال السياق في أحداث أحد ] أي: معركة أحد[ فقد تقدم في السياق قريباً نهي الله تعالى المؤمنين عن طاعة الكافرين في كل ما يقترحون ويشيرون به عليهم ]، وهذا باق إلى اليوم وإلى يوم القيامة، إذ لا يحل أبداً أن نأخذ التوجيهات والنصائح من الكافرين، فإنهم يمكرون بنا ويخدعوننا، فهذا عمر لما قُدِّم له نصراني يجيد الحساب رده، وقال: كيف نأمنهم وقد خونهم الله عز وجل؟! نعم قد نضطر في بعض الظروف، لكن لا نعول على الكافرين والمشركين.قال: [ نهى الله تعالى المؤمنين عن طاعة الكافرين في كل ما يقترحون ويشيرون به عليهم، ووعدهم بأنه سيلقي الرعب في قلوب الكافرين، وقد فعل فله الحمد، حيث عزم أبو سفيان على أن يرجع إلى المدينة ليقتل من بها ويستأصل شأفتهم ] وذلك لما رحل أبو سفيان بجيشه وتجاوزوا الروحاء، فكروا وقالوا: ما حققنا شيئاً، ما زال محمد وأصحابه عمر وأبو بكر وفلان وفلان أحياء، فهيا نعود نستأصلهم نهائياً، فألقى الله الرعب في قلوبهم فرجعوا إلى مكة، وجاء بـمعبد وقال له الرسول: قل كذا وكذا، فعاد إلى أبي سفيان فهزمهم، ولكنه فعل الله عز وجل.قال: [ فأنزل الله تعالى في قلبه وقلوب أتباعه الرعب، فعدلوا عن غزو المدينة مرة ثانية وذهبوا إلى مكة، ورجع الرسول والمؤمنون من حمراء الأسد ولم يلقوا أبا سفيان وجيشه ] وتذكرون كيف خرجوا إلى حمراء الأسد، فقد كان الرجل الجريح يحمل رجلاً جريحاً، وذلك لأنه أخوه، وقبل ذلك ما إن وصل الرسول إلى المدينة مساء حتى أعلن الخروج غداً لمتابعة وملاحقة أبي سفيان، ونزل قول الله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا [آل عمران:171-174]، أي: من حمراء الأسد بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:174]، إنها صور للكمال البشري، فلو هناك من يقتدي ويتأسى.قال: [ وفي هاتين الآيتين يخبرهم تعالى بمنته عليهم حيث أنجزهم ما وعدهم من النصر، فقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152] ]، والحس: قطع الحس بالقتل والتدمير.قال: [ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بوأ الرماة مقاعدهم وكانوا ثلاثين رامياً، وجعل عليهم عبد الله بن جبير، أمرهم بألا يبرحوا أماكنهم كيفما كانت الحال، وقال لهم: إنا لا نزال غالبين ما بقيتم في أماكنكم ترمون العدو، فتحمون ظهورنا بذلك، وفعلاً دارت المعركة وأنجز الله تعالى لهم وعده، ففر المشركون أمامهم تاركين كل شيء، هاربين بأنفسهم والمؤمنون يحسونهم حساً، أي: يقتلونهم قتلاً بإذن الله وتأييده لهم، ولما رأى الرماة هزيمة المشركين، والمؤمنون يجمعون الغنائم، قالوا: ما قيمة بقائنا هنا والناس يغنمون، فهيا بنا ننزل إلى ساحة المعركة لنغنم ] فتأولوا أمر الرسول فقالوا: أمرنا الرسول بالثبات من أجل الانتصار وقد انتصرنا، فلم يبق معنىً للبقاء في الجبل، وهذا هو التأويل الذي يتخبط فيه المسلمون دائماً وأبداً، فيصابون بالنكسات والانتكاسات، وهو والله باطل، إذ المفروض أن يبقوا على الجبل على أي حال، حتى يأذن لهم بالنزول، فليذكر طلبة العلم هذا، إذ ليس كل تأويل ينفع.قال: [ فذكرهم عبد الله بن جبير قائدهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأولوه ونزلوا ] أي: أنهم قالوا: إنما حثنا الرسول على ألا ننزل من الجبل لأجل أن نحفظ سير المعركة، لكن لما انتصرنا وانهزم المشركون وهربوا فما هناك حاجة إلى البقاء على الجبل، وبالتالي تأولوا ما وصاهم به رسول الله.قال: [فذكرهم عبد الله بن جبير قائدهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأولوه ونزلوا إلى ساحة المعركة يطلبون الغنائم، وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد ] رضي الله عنه، ويومها كان مشركاً كافراً. قال: [ فلما رأى الرماة أخلوا مراكزهم إلا قليلاً منهم كر بخيله عليهم فاحتل أماكنهم وقتل من بقي فيها، ورمى المسلمين من ظهورهم فتضعضعوا لذلك، فعاد المشركون إليهم، ووقعوا بين الرماة الناقمين والمقاتلين الهائجين، فوقعت الكارثة، فقتل سبعون من المؤمنين ومن بينهم حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وجرح رسول الله في وجهه، وكسرت رباعيته، وصاح الشيطان قائلاً: إن محمداً قد مات، وفر المؤمنون من ميدان المعركة إلا قليلاً منهم، وفي هذا يقول تعالى: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:152]، يريد تنازع الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير، حيث نهاهم عن ترك مقاعدهم، وذكرهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا في فهمه وخالفوا الأمر ونزلوا، وكان ذلك بعد أن رأوا إخوانهم قد انتصروا وأعدائهم قد انهزموا، وهو معنى قوله تعالى: وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152]، أي: من النصر، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152]، وهم الذين نزلوا إلى الميدان يجمعون الغنائم، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، وهم عبد الله بن جبير والذين صبروا معه في مراكزهم حتى استشهدوا فيها.وقوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ [آل عمران:152]، وذلك إخبار عن ترك القتال لما أصابهم من الضعف حينما رأوا أنفسهم محصورين بين رماة المشركين ومقاتليهم، فأصعدوا في الوادي هاربين بأنفسهم، وحصل هذا بعلم الله تعالى وتدبيره، والحكمة فيه أشار إليها تعالى بقوله: لِيَبْتَلِيَكُم ْ [آل عمران:152]، أي: يختبركم فيرى المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، والصابر من الجزع.وقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، يريد أنه لو شاء يؤاخذهم بمعصيتهم أمر رسولهم فسلط عليهم المشركين فقتلوهم أجمعين ولم يبقوا منهم أحداً، إذ تمكنوا منهم تماماً، ولكن الله سلم. هذا معنى قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152] ] ونحن أيضاً معهم، وذاك الذي حققه الله لهم والله نلناه، إذ لولا انهزموا وماتوا فلن تقم للإسلام قائمة، بل مصيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعتبر مصيبة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة، وما دفع الله عن رسوله يعتبر أيضاً نعمة لكل المؤمنين والمؤمنات.قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية فهي تصور الحال التي كان عليها المؤمنون بعد حصول الانكسار والهزيمة، فيقول تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ [آل عمران:153]، أي: عفا عنكم في الوقت الذي فررتم مصعدين في الأودية هاربين من المعركة، والرسول يدعوكم من ورائكم: إليَّ عباد الله، ارجعوا، وأنتم فارون لا تلوون على أحد، أي: لا تلتفتوا إليه.وقوله تعالى: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]، يريد جزاكم على معصيتكم غماً، والغم: ألم النفس لضيق الصدر وصعوبة الحال.وقوله: بِغَمٍّ [آل عمران:153]، أي: على غم، وسبب الغم الأول: فوات النصر والغنيمة، والثاني: القتل والجراحات، وخاصة جراحات نبيهم ] صلى الله عليه وسلم.قال: [ وإذاعة قتله ] بينهم عليه الصلاة والسلام.قال: [ وقوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ [آل عمران:153]، أي: ما أصابكم بالغم الثاني الذي هو خبر قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من النصر والغنيمة، ولا على ما أصابكم من القتل والجراحات، فأنساكم الغم الثاني ما غمكم به الغم الأول الذي هو فوات النصر والغنيمة ] فقط؛ لأن غم المؤمن بقتل النبي وجراحاته أعظم من أن يفوته نصر أو غنيمة.قال: [ وقوله: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]، يخبرهم تعالى أنه بكل ما حصل منهم من معصية وتنازع وفرار، وترك النبي صلى الله عليه وسلم في المعركة وحده، وانهزامهم وحزنهم، خبير مطلع عليه، عليم به، وسيجزي به المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، أو يعفو عنه والله عفو كريم ].ومرة أخرى اسمعوا إلى هاتين الآيتين، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:152-153]، فإن شاء الله نكون قد فهمنا هاتين الآيتين فهماً صحيحاً سليماً، والحمد لله.
هداية الآيات
قال المؤلف: [ من هداية الآيتين:أولاً: مخالفة القيادة الرشيدة والتنازع في حال الحرب يسبب الهزيمة المنكرة ] وإلى يوم القيامة، ومعنى هذا أيها المؤمنون! أنكم إذا كنتم في الجهاد والقائد رشيد فإياكم أن تتنازعوا، بل ردوا الأمر إلى القائد الرشيد، فإن تنازعكم في حال الحرب والله سبب في حصول الهزيمة، وليس المقصود بالقيادة: الرئيس فقط ولجنته المكونة من المستشارين، بل أي مخالفة لأي قيادة تسبب الهزيمة دائماً وأبداً. [ ثانياً: معصية الله ورسوله والاختلافات بين أفراد الأمة تعقب آثاراً سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم وذهاب الدولة والسلطان ] وهذا هو الذي حصل للعالم الإسلامي، إذ أمرنا الله فما فعلنا، ونهانا فلم ننته، وحصلت الاختلافات بين أفراد الأمة من مذهبية وطائفية وحزبية، وآثاراً سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم وذهاب دولة المسلمين وسلطانهم، فاستعمرتهم بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وهولندا، وكل ذلك بسبب معصية الله ورسوله والاختلافات، فكيف أمة تقاتل عدواً وهي مختلفة فيما بينها، هذا مذهبه كذا، وهذا طريقه كذا؟! أما عقوبة الآخرة فلا تسأل.[ ثالثاً: ما من مصيبة تصيب العبد ] أو الأمة، قال: [ إلا وعند الله ما هو أعظم منها؛ فلذا يجب حمد الله تعالى على أنها لم تكن أعظم ] أي: ما من مؤمن ولا مؤمنة يصاب بمصيبة بسبب ذنبه، ولا تفهم أن الله يصيبك بدون سبب؛ فليحمد الله ولا يحزن ولا يجزع ولا يتسخط، ولا يشكو الله إلى الناس، بل ليصبر وليعلم أن هناك مصيبة أعظم من هذه، إذ لو شاء الله لأصابك بمصيبة أعظم، فلو سمعت أن فلاناً قد احترقت سيارته، وبدأ يسخط ويضجر ويسب الله والعياذ بالله، فأنت تحمد الله، إذ لو شاء الله لاحترقت أنت وسيارتك، وهذا مثال فقط. إذاً: ما من مصيبة تصيب المؤمن أو المؤمنة بسبب بذنبه إلا وهناك ما هو أعظم من هذه المصيبة، فليحمد لله وليشكره وليستغفره، وليسأل الله العفو والعافية، ويحمده على أنه ما أصابه بأعظم من هذا، بينما الحمقى -كما تعرفون- بمجرد ما يصاب بمصيبة أو بلية فإنه يسب الله والعياذ بالله؛ لأنهم ما ربوا في حجور الصالحين،، ما جلسوا في مثل هذا المجلس قط، ولا سمعوا عن الله ورسوله، وبالتالي فلا يلاموا على ذلك، وهذا عامة العالم الإسلامي، واجلسوا في المقاهي واسمعوا ماذا يقولون؟. [ ما من مصيبة تصيب العبد إلا وعند الله ما هو أعظم منها؛ فلذا يجب حمد الله تعالى على أنها لم تكن أعظم ]، وأخذنا هذه الفائدة من قوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، وقلنا: لو ما عفا عنهم المعصية لسلط عليهم المشركين فاكتسحوهم ولم يبقوا منهم أحداً.[ رابعاً: ظاهر هزيمة أحد النقمة، وباطنها النعمة ]، أي: أن هزيمة أصحاب رسول الله في أحد ظاهرها النقمة؛ لأنهم مالوا إلى الدنيا وتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في باطن الهزيمة النعمة، فكيف ذلك؟ لعلكم تذكرون رؤيا الشيخ محمد عبده في تفسير المنار، إذ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عائداً من غزوة أحد على بغلته والأمة وراءه وهو يقول: لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة؛ لأنهم لو انتصروا مع المعصية فإنهم سيصبحون لا يبالون بها، وهم مقبلون على قتال الأبيض والأسود، وسيقولون: عصينا وما أصابنا شيء، فيعصون الله لأنهم مسلمون، ولأنهم يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الله، وبالتالي فكيف يهزمهم الله أو يسلط عليهم الكافرين؟! ومن ثم يصبحون مهزومين إلى يوم القيامة، فمن أجل هذا أصابهم الله ليكون هذا درساً لهم في المستقبل وإلى اليوم، فعلمهم أنهم يقاتلون في سبيل الله ومع رسول الله، ولما عصوا مضت فيهم سنة الله فانهزموا.وللأسف فقد انهزمت جيوشنا في كل مكان، وذلك لأنهم يعيشون على معصية الله والرسول، وبالتالي كيف ينصرهم الله؟! وقد بينت لكم فقلت: والله لو انتصرت الاشتراكية التي عمت العالم العربي والإسلامي إلا قليلاً، بأن عاش الاشتراكيون في نعيم ورخاء وكثرة أموال، لكفر المسلمون، ولأصبحوا كلهم اشتراكيين، لكن من حماية الله بالإسلام وأهله ما استفادوا منها إلا الذل والعار والفقر، وذلك لما كانوا يتبجحون ويقولون: اشتراكيتنا نوالي من يواليها ونعادي من يعاديها.إذاً: لو انتصر الاشتراكيون واستغنى مواطنيهم وترفهوا وكثرت أموالهم، لمال الناس كلهم عن الإسلام وتركوه، لكن لطف الله عز وجل ورحمته ما نالهم إلا الخزي والفقر.وأخرى: لو انتصر العرب -لا المسلمون- في قتالهم مع اليهود، لم يبق الإسلام فينا أبداً إلا عند بعض العجائز أو الضعفاء، لكن الله أبى ذلك حتى يبقى هذا النور، وتبقى هذه العقيدة وهذا الإسلام، وذلك ليوم ما ينتفعون به، فسلط عليهم حفنة من اليهود كلما قاتلوهم أذلوهم وهزموهم، مع أنهم كانوا يقولون: قوتنا الضاربة، ولا يذكرون الله أبداً، وبالتالي انهزم العرب في فلسطين، وكان هذا في الظاهر نقمة، وهو في الباطن نعمة.وليس معنى هذا أن الشيخ فرحان بهزيمة العرب، فأنا أقول: لو انتصر العرب الذين كانوا يتبجحون ولا يذكرون اسم الله، لم يبق مجال للإسلام بينهم، ولقالوا: اسكت يا رجعي، يا منتن، لكن أبى الله إلا الهزيمة، وكانت في الظاهر نقمة، وفي الباطن نعمة؛ ليبقى الإسلام ويبقى نوره.قال: [ رابعاً: ظاهر هزيمة أحد النقمة وباطنها النعمة، وبيان ذلك: أن عَلِمَ المؤمنون أن النصر والهزيمة يتمان حسب سنن إلهية، فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها ] أبداً، إذ قد عرفوا أن النصر والهزيمة يتمان حسب سنن إلهية، فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها، وهذه السنن هي الوحدة، وطاعة القيادة، والمشي في طاعة الله ورسوله، وكل ذلك يجلب النصر، والخروج عن هذا يسبب الهزيمة إلى يوم القيامة.قال: [ خامساً: بيان حقيقة كبرى -وعظمى- وهي: أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وفي شيء واحد ترتب عليها آلام وجراحات وقتل وهزائم وفوات خير كبير وكثير، فكيف إذاً بالذين يعصون رسول الله طوال حياتهم وفي كل أوامره ونواهيه، وهم يضحكون ولا يبكون، وآمنون غير خائفين؟! ]، وهؤلاء هم العالم الإسلامي إلا من رحم الله.وصلى الله على نبينا محمد وآله.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (64)
الحلقة (205)
تفسير سورة آل عمران (68)
امتن الله على عباده المؤمنين أنه بعد الغم الذي أصابهم يوم أحد أنزل عليهم النعاس مما في قلوبهم من اليقين، حتى إن أحدهم لينام فيسقط السيف من يده ثم يتناوله، أما أهل النفاق والشك فقد حرمهم الله هذه الأمنة، فما زال الخوف يقطع قلوبهم، والغم يسيطر على قلوبهم، وهم يظنون بالله غير الحق، وأن الإسلام سينهزم، وأن أهل الإسلام سينتهون، ولكن الله عز وجل يكبتهم وينصر عباده المؤمنين الصادقين.
تفسير قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه، كان كالمجاهد في سبيل الله )، وثالثة من إفضالات الله علينا وإنعامه: ( أن المؤمن إذا صلى المغرب وجلس ينتظر صلاة العشاء، فإن الملائكة تصلي عليه ما لم يحدث -أي: ينتقض وضوئه- تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى ينصرف من المسجد )، وهذا الإنعام والإفضال قد رُزِقناه وحرمه الملايين، و ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].وها نحن ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام وخاصة مع أحداث أحد، وها نحن مع هاتين الآتين الكريمتين، فهيا نتلوا هاتين الآيتين ونتدبرهما ونتأملهما، ثم نأخذ في الشرح لزيادة البيان واليقين، وتلاوة الآيتين بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:154-155].إنهما آيتان عظيمتان، فهيا نعد تلاوتهما، والأجر للجميع، والمستمع كالتالي، والحرف بعشر حسنات، يقول تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:154-155].إنه بيان إجمالي من الله عز وجل، فلنشارك سوياً في فهم هاتين الآيتين، يقول تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، فالقائل هو الله، والمخاطبون هم أصحاب رسول الله من أهل وقعة أحد. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ [آل عمران:154]، وقد تقدم أنه أصابهم غماً بغم، وعرفنا أن الغم كرب عظيم يصيب النفس.
معنى قوله تعالى: (من بعد الغم أمنة نعاساً..)
يقول تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، والأمنة كالأمن، إلا أن الأمنة تكون حال الخوف، والأمن مطلق، أي: في حال الخوف وغيره، وقد فسر الأمنة بالنعاس، يقول طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما: لما أنزل الله علينا النعاس في المعركة كان السيف يسقط من يدي ثم أتناوله، ثم يأخذني النعاس فيسقط السيف من يدي مرة أخرى، والنعاس: مقدمة النوم، لكن يصاب الجسم بالفتور فيذهل العقل.قال: يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154]، وهم الصلحاء الصادقون الموحدون، لا المرتابون الشاكون والمنافقون.
معنى قوله تعالى: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم...)
قال تعالى: وَطَائِفَةٌ [آل عمران:154] أخرى، قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154]، أي: لا هم لهم إلا النجاة.قال: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، وهؤلاء منهم ضعاف الإيمان، وأكثرهم منافقون.قال: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا [آل عمران:154]، أي: ما لنا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ [آل عمران:154]، أي: قل لهم يا رسولنا: إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، ليس لغيره، إذ إنهم كانوا يقولون: لو كان الأمر لنا ما نأتي لنقاتل المشركين في هذا الوادي، بل سنبقى في المدينة ونقاتلهم فيها، وكان هذا رأي ابن أبي، وقد سبقه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ابن أبي صرح به، ونفث هذه الروح في المنافقين، فالذين رجعوا معه رجعوا، والذي ما رجعوا فهذا النوع منهم.
معنى قوله تعالى: (قل إن الأمر كله لله ...)
قال تعالى: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ [آل عمران:154]، أي: ما لا يظهرون يا رسول الله، يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قل لهم: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:154]، أي: في داخل المدينة، لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، أي: ليصرعوا هناك؛ لأن هذا قد كتبه الله في كتاب المقادير أزلاً، فمن كُتب أنه سيموت في هذا اليوم فإنه سيموت في هذا اليوم، ومن كتب أنه سيصرع في هذا المكان فإنه سيصرع فيه، فالخروج وعدمه ليس بشيء أبداً، فالذين كتب الله مصارعهم في أحد سوف يخرجون، بل لو بقوا في منازلهم وما خرجوا للجهاد فإنهم سيصرعون، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، ليلقوا مصيرهم هناك.قال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران:154]، أي: لو شاء الله لأخذ الأصحاب برأي رسول الله وما خرجوا لقتال المشركين، وتركهم يدخلون المدينة ويقاتلونهم بالنساء والأطفال والرجال، ولكن كيف يمحص ويبتلي؟قال: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران:154]، وحسبنا أن ابن أبي عليه لعائن الله رجع بثلاثمائة من الطريق، إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بتسعمائة ألف إلا مائة، فلو ما أمر الله بالخروج وكتبه فكيف سيظهر هذا النفاق؟
تفسير قوله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان...)
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155]، وهذا يشمل طائفتين، وهما بنو حارثة وبنو سلمة، إذ هموا بالرجوع ولكن الله سلم.قال: اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ [آل عمران:155]، أي: أراد أن يوقعهم في هذه الزلة.قال: بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، ولنسكت عن هذا الذنب الخفي إن قلنا: إن المراد منه جماعة بنو حارثة وبنو سلمة، وإن قلنا: هم الرماة الذين نزلوا من فوق الجبل، فالذي كسبوا هو معصيتهم لرسول صلى الله عليه وسلم، ونزولهم لأخذ الغنيمة والمال.قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:155]، أي: جمع المؤمنين وجمع المشركين، والظاهر أنهم الرماة أصحاب الجبل.قال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، والحمد لله، إِنَّ اللَّهَ غَفُ ورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155]، وهذه بشرى لهم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيتين:ما زال السياق في الحديث عن أحداث غزوة أحد، فأخبر تعالى في الآية الأولى عن أمور عظام ] وهي خمسة [ الأول: أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين ]، وهو الهزيمة وفقد الغنيمة، ثم الجراحات التي أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإعلان عن وفاته وموته عليه الصلاة والسلام، وهذا الغم أعظم من الأول.قال: [ الأول: أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين، أنزل على أهل اليقين ] لا أهل الشك والشرك [ أنزل على أهل اليقين خاصة أمناً كاملاً، فذهب الخوف عنهم، حتى أن أحدهم لينام والسيف في يده فيسقط من يده ]. فمن يقوى على أن ينزل هذا الأمن وهذا النعاس في المعركة والدماء تسيل، ومع هذا ينام أحدهم حتى يستريح؟! إنه الله تعالى. قال: [ حتى أن أحدهم لينام والسيف في يده فيسقط من يده ثم يتناوله ]، قال طلحة والزبير وأنس: غشينا النعاس حتى أن السيف ليسقط من يد أحدنا فيتناوله من الأرض.قال: [ قال تعالى -في بيان هذا-: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154] ]، أي: ينزل عليهم ويغطيهم، كالملائكة التي تغشى حلقتنا هذه وتغطيها.قال: [ والثاني: أن أهل الشك والنفاق حرمهم الله تعالى من تلك الأمنة، فما زال الخوف يقطع قلوبهم، والغم يسيطر على نفوسهم، وهم لا يفكرون إلا في أنفسهم، كيف ينجون من الموت؟ وهم المعنيون بقوله تعالى: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154].والثالث -من الأمور العظام-: أن الله تعالى قد كشف الغطاء عن سرائرهم، فقال: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] ]، فيجب أن يظن بالله ظن الحق كأهل اليقين، لا أن يظن به الباطل والسوء كأهل الجهل والشرك. قال: [ والمراد من ظنهم بالله غير الحق: ظن المشركين أنهم يعتقدون أن الإسلام باطل، وأن محمداً ليس رسولاً، وأن المؤمنين سيهزمون ويموتون، وينتهي الإسلام ومن يدعو إليه ]، فهذه هي الظنون الباطلة، وهذا هو ظن أبي سفيان والمشركين، بل هو ظن ابن أبي والمنافقين. [ والرابع: أن الله تعالى قد كشف سرهم فقال عنهم: يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [آل عمران:154]، هذا القول قالوه سراً فيما بينهم، ومعناه: ليس لنا من الأمر من شيء، ولو كان لنا ما خرجنا ولا قاتلنا ولا أصابنا الذي أصابنا، فأطلعه الله تعالى على سرهم، وقال له: رد عليهم يا رسولنا بقولك: إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، ثم هتك تعالى مرة أخرى سترهم وكشف سرهم فقال: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ [آل عمران:154]، أي: يخفون في أنفسهم من الكفر والبغض والعداء لك ولأصحابك ما لا يظهرونه لك ]، وهذا شأن المنافقين وضعاف الإيمان في كل زمان ومكان. [ والخامس: لما تحدث المنافقون في سرهم وقالوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، يريدون لو كان الأمر بأيديهم ما خرجوا لقتال المشركين؛ لأنهم إخوانهم في الشرك والكفر، ولقتلوا مع من قتل في أحد، فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:154]، بالمدينة، لَبَرَزَ [آل عمران:154]، أي: ظهر، الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، وصرعوا فيها وماتوا؛ لأن ما قدره الله نافذ على كل حال، ولا حذر مع القدر ]، وليس معناه أننا نترك الحذر ونقول: القدر ماضٍ، إذ إن الله تعالى يقول: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، لكن لنعلم أن الله إذا قدر شيئاً فلا ينفع الحذر، وبالتالي لا نفهم من قوله: لا حذر مع القدر، أنه لا حاجة لنا الآن إلى طلب الحذر، إذ القدر نافذ، لا، بل اطلب الحذر واحذر، والله قد أمرك بذلك، فاحذر من عدوك، لكن ما قدره الله لا ينفع فيه الحذر، بل لابد وأن يقع، ومن فوائد الحذر:أولاً: أن تكون نفسك مطمئنة، فلا تكن مرتاباً ولا خائفاً؛ لأنك قد قمت بالسبب.ثانياً: إذا أصابك شيء بعد أن حذرت وأطعت الله، فإنه سينشرح صدرك، وتطيب نفسك، وترضى بقضاء الله وقدره عليك، بخلاف إهمال الحذر أو الاستعداد أو الأخذ بالأسباب، ولهذا قررنا مرات أن ترك الأسباب التي وضعها الله للوصول إلى غاية من الغايات فسق وفجور، وردٌ لأمر الله ورسوله، والاعتماد على الأسباب وأنها هي الفاعلة، شرك وكفر بالله، فاعرف هذا يا عبد الله، ومعنى هذا: خذ بالأسباب التي أمر الله بها ورسوله، وهي طاعة تثاب عليها وتؤجر، أما أن تعتمد على الأسباب وتقول: قواتنا، إرادتنا، سنفعل كذا، بدون الاعتماد على الله، فهذا شرك وكفر بالله، فقول أهل العلم: لا حذر مع القدر، يعني: إذا حذرت وما نفع الحذر؛ لأن الله كاتب هذه البلية أو هذه المصيبة، فليس معناه: أن نترك الحذر.قال: [ ولا بد أن يتم خروجكم إلى أحد بتدبير الله تعالى ليبتلي الله، أي: يمتحن، ما في صدوركم ويميز ما في قلوبكم، فيظهر ما كان غيباً لا يعلمه إلا هو إلى عالم المشاهدة؛ ليعلمه ويراه على حقيقته رسوله والمؤمنون ]، أي: ما كان مكتوماً في المدينة فقد أظهره الله في أحد، فعلمه الرسول والمؤمنون.قال: [ وهذا لعلم الله تعالى بذات الصدور، هذا معنى قوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] -في أحد- وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154] ]، فالعلم الذي كان غيباً قد أظهره الله لنا، فعرفنا المنافق من المؤمن الموقن.قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى. أما الآية الثانية فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن حقيقة واحدة ينبغي أن تعلم -حقيقة واحدة ينبغي أن يعلمها المؤمنون والمؤمنات- وهي أن الذين فروا -هربوا- من المعركة لما اشتد القتال وعظم الكرب، الشيطان هو الذي أوقعهم في هذه الزلة، وهي توليهم عن القتال -تقدم: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]-بسبب بعض الذنوب كانت لهم، ولذا عفا الله عنهم ولم يؤاخذهم بهذه الزلة، وذلك لأن الله غفور حليم، فلذا يمهل عبده حتى يتوب فيتوب عليه ويغفر له، ولو لم يكن حليماً لكان يؤاخذ لأول الذنب وأول الزلة، فلا يمكن أحداً من التوبة والنجاة ]، لكن لحلمه ورحمته يمكن عباده، فيمهلهم حتى يتوبوا ليتوب عليهم ويغفر لهم.قال: [ هذا معنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ [آل عمران:155]، أي: عن القتال، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:155]، أي: جمع المؤمنين وجمع الكافرين بأحد، إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ [آل عمران:155]، فلم يؤاخذهم، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155] ].هذا هو معنى هاتين الآيتين الكريمتين، وقد نقلنا لكم أحداث أحد مع رسول الله وأصحابه والمنافقين، وشهدنا هذه الأحداث وكأننا ننظر إليها رأي العين، وتم هذا بفضل الله في كتابه العزيز القرآن الكريم.وهناك سؤال يقول: ما الفرق بين الصدور والقلوب؟ والجواب: أن الصدر هو الجوف الذي فيه القلب، وفيه أشياء تكون في الصدر، كوسواس وهواجس، وأخرى تتركز في القلب، وما في القلب أصعب، وكتمانه سهل، أما في الصدر فيخرج على اللسان، إذ ليس مضبوطاً.
هداية الآيات
والآن مع هداية الآيتين، إذ لا توجد آية لا تحمل الهداية إلى الإسعاد والكمال، وإلى معرفة الطريق، فإذا سلك العارف الطريق نجا وكمل وسعد، فهذا هو معنى الهداية، وكل آية في كتاب الله لها هدايتها الخاصة، فهيا نتأمل في هدايات هاتين الآيتين. قال المؤلف: [ من هداية الآيتين:أولاً: إكرام الله تعالى لأوليائه بالأمان الذي أنزله في قلوبهم ]، وهذه كرامة من الله تعالى لأوليائه، وأنا قد قلت لكم: إنه في أثناء الحرب والمعركة دائرة، أنزل الله عليهم النعاس فهدأت نفوسهم وارتاحت أجسامهم، وكأنهم في المستشفى، بل أفضل من ذلك، فمن يقوى على هذا غير الله؟ والله ما يقدر عليها أحد إلا الله، وهذه طائفة أهل اليقين لا أهل الشك.فيا عباد الله! قد تبتلى في يوم من الأيام بما يزلزل أقدامك ويفزعك، فينزل الله تعالى عليك أمنة كهذه، فلا تبالي عند ذلك، وهذه الهداية مأخوذة من الآية الأولى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [آل عمران:154]، وقرئ: (أمْنَة) بالسكون أيضاً، والنعاس: مقدمات النوم، وهذه الأمنة التي حصل لكم بها الأمن سببها النعاس.قال: [ ثانياً: إهانة الله تعالى لأعدائه بحرمانهم مما أكرم به أولياءه وهم في مكان واحد ]، وقد ظهر هذا واضحاً جلياً، إذ إنهم كانوا كلهم في أحد في ذلك الوادي والمعركة دائرة، فأولياء الله أكرمهم بإنزال النعاس والأمنة، بينما الآخرون حرموا من ذلك، فقلوب تتمزق من الخوف والكرب والهم، وأهل اليقين نائمون لا يزعجهم شيء. وبالتالي لابد وأن تحصل هذا الكرامات لأولياء الله، وثقوا في هذا، فلا يمضي عليك زمان إلا وتحصل لك، إذ إن الله عز وجل يحب أولياءه ويكرمهم.وهنا سؤال يقول: من هم أولياء الله؟ والجواب: يقول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا [يونس:63]، الإيمان الصحيح الحق، وَكَانُوا [يونس:63] طول حياتهم، يَتَّقُونَ [يونس:63] مساخط الله بفعل ما أمر، وبترك ما نهى وزجر.سؤال آخر: هل للثالوث الأسود في باب الولاية شيء؟ نعم، فقد حوَّلوا القرآن ليُقرأ على الموتى، وجعلوا السنة تُقرأ للبركة لا للتعلم وأخذ الهداية، وقصروا أولياء الله في الموتى، فلو أنك قبل ستة قرون دخلت القاهرة المعزية، أو دمشق الشامية، أو بغداد، أو كراتشي، أو إندونيسيا، أو مراكش، أو الخرطوم في السودان، ثم قابلت أول شخص لقيته، فقلت له: يا أخي! لقد جئت من بلاد بعيدة، وأريد منك أن تدلني على ولي من أولياء هذه البلاد، فوالله لا يأخذ بيدك إلا إلى قبر، ولا يفهم أن في الخرطوم أو في القاهرة ولياً في الصفوف الأولى في المسجد، وهذه قبل سبعين سنة تقريباً، وأقسم لكم بالله لقد عاشت هذه الأمة قروناً لا تعرف ولاية الله إلا في الموتى، والذي فعل بها هذا هو الثالوث الأسود المكون من اليهود والمجوس والنصارى، فقد تعانقوا جميعاً لإطفاء نور الله تعالى، إذ إنهم عجوزا في الحروب فاحتالوا بالحيل، وعرفوا أن القرآن روح لا حياة كاملة بدونه، فعملوا على تحويله ليقرأ على الموتى، سواء في العواصم أو في البادية، وكذلك السنة لا تُقرأ إلا للبركة، فيجتمعون يقرءون كتاب البخاري أو الموطأ للبركة، لا لاستنباط الأحكام ومعرفة الهداية.إذاً: الولاية حرموا منها الأحياء، وذلك من أجل أن يزنيَ بعضهم بنساء بعض، وأن يسب ويشتم بعضهم بعضاً، وأن يأكلوا أموال بعضهم بعضاً، ووالله العظيم لو كنت تعرف أن هذا السيد ولي لله فإنك لا تستطيع أن تسبه أو تشتمه، بل لا تستطيع أن تفكر بالزنا بامرأته، وقد عرفناهم، إذ إن أحدهم إذا مر بقبر ولي فإنه يرتعد، ولذلك فالعدو الثالوث لكي يبيح الزنا والجرائم، ولكي يفسد المسلمين قالوا: الولاية محصورة في أهل المقابر فقط، في سيدي عبد القادر الجيلاني، ومولاي إدريس، والعيدروس، والبدوي، والجيلاني، أما ولي يمشي على الأرض فلا.والبرهنة على ما أقول: إن الزنا موجود في العالم الإسلامي، إذ إن المسلمين يزنون بنساء وببنات بعضهم البعض! وكذلك وجود الإجرام والتلصص والسرقة والسلب بين المسلمين، ولو كانوا يعتقدون أنهم أولياء لله ما استطاعوا أن يؤذوهم، لكن الأعداء مسحوا هذه القضية نهائياً، وتركوا الأمة كلها أعداء لبعضها البعض، والحمد لله أن عرفنا ذلك، وقد ذكرت لكم حادثة من ملايين الحوادث وهي: أني عندما كنت صبياً وجالساً مع شيوخ كبار حول المسجد، حدث أحدهم فقال: إذا زنا فلان فلا يمر بالشارع الفلاني وهو جنباً؛ احتراماً لسيدي علي! وهو ولي في القرية، فانظر كيف يزني بامرأة مؤمن من إخوانه، ثم يخاف أن يمر على قبر سيدي فلان وهو جنباً؟! فهل عرفتم ما فعل الثالوث الأسود؟ إي عرفنا، فهيا نغير وضعنا، فمن منكم يقول: يا شيخ كيف نغير هذا الوضع؟ هل يقوم زعيم فيقول: بالخلافة! متى توجد الخلافة؟! وآخر قد يقول: بالمال؟! ما عندنا أموال، إذ إن هذا يحتاج إلى بنوك أمريكا كلها، إذاً نغير هذا الوضع بأن نقبل على الله في صدق، نساء ورجالاً وأطفالاً، فنجلس في بيوت الله كجلستنا هذه، أهل القرية وأهل الحي، وذلك أنه إذا دقت الساعة السادسة فنتوضأ ونتطهر، ونلبس أحسن الثياب، ونحمل أطفالنا ونسائنا إلى بيوت الله تعالى، فنصلي المغرب كما صلينا، ونجتمع هكذا، النساء وراءنا دونهن ستاراً، والأطفال بين الرجال والنساء صفوف كالملائكة، فنتلقى الكتاب والحكمة، ليلة آية من كتاب الله، وأخرى حديثاً من أحاديث رسول الله، على أن يكون المربي عليماً حكيماً، ويأخذون في هذا النمو والكمال العقلي والطهارة الروحية والآداب العالية، وفي خلال أربعين يوماً فقط أو سنة، لا يبق في القرية أو الحي من يسب أخاه المؤمن، ولا يبق من يمد يده لسلب مال أخيه المؤمن، ولا يبق من يفكر بأن يفجر ببنت أو بابن أو بامرأة أخيه المؤمن، ولا يبق من يتلوى من الجوع وإخوانه شباع، ولا يمشي عارياً وهم مكسوون، ولا يبق من يظلم ويسكت عن ظلمه، بل يؤدب ويهذب، وتصبح القرية أو الحي كأنها في عهد أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.فما الذي يضير العالم الإسلامي لو أقبل على الله بهذه الطريقة؟ ما الذي يصيبهم؟ هل تتوقف الأعمال؟ لا والله ما تتوقف، إن اليهود والنصارى في العالم بأسره إذا دقت الساعة السادسة وقف دولاب العمل، سواء في فرنسا أو بريطانيا أو أمريكا أو اليابان، إذ إنهم اشتغلوا من طلوع الشمس إلى غروبها فيكفي، ثم يذهبون إلى دور السينما والمعازف ليروحوا على أنفسهم خمس أو أربع ساعات، ويعودون كالبهائم إلى بيوتهم، فهل نحن مثلهم؟ نحن إذا ذهبنا إلى بيوت ربنا نتلقى الكتاب والحكمة، تزكو قلوبنا وعقولنا وفهومنا وأرواحنا، ونعود في أسعد حال إلى بيوتنا. وأنا أعرف أن علماءنا لا يقبلون هذا في العالم الإسلامي، إذ إنهم سيستصعبون هذا الأمر! فأقول: هل نسلب الناس أموالهم ونطالبهم بأن يغتالوا ويقتلوا ويثيروا الفتن؟! ما الذي يكون؟ فقط أن نرجع إلى الله فنبكي بين يديه، ونطرح أمامه ليرفع ما بنا، وينزل الخير والرحمة علينا، ومع هذا كم سنة ونحن نبكي؟ إنه لا حل لنا إلا أن نتوب إلى الله. [ ثالثاً: تقرير مبدأ القضاء والقدر، وأن من كُتب موته في مكان لا بد وأن يموت فيه ]، فكم من إنسان في المدينة يريد أن يموت في المدينة فيموت في أمريكا، وكم من إنسان من إندونيسيا يموت في المدينة، ولذلك من كتب أن يموت في مكان ما فلن يموت إلا فيه، وهذا مظهر من مظاهر قدرة الله، وهو دليل ومنطق القضاء والقدر، وأخذنا هذه الهداية من قول الله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، ليموتوا هناك.[ رابعاً: أفعال الله تعالى لا تخلو أبداً من حكم عالية، فيجب التسليم لله تعالى والرضا بأفعاله في خلقه ]، سواء كانت نصراً أو هزيمة، غنى أو فقراً، ذلاً أو عزاً، إذ ما تم ذلك والله إلا لحكمة عالية؛ لأن الله حكيم عليم، وقد ضربت لكم مثلاً عل ذلك وهو استعمار الغرب لنا، إذ إنه تم بتدبير الله تعالى، وذنوبنا هي التي أوقعتنا في ذلك حتى نفيق ولا نرجع مرة ثانية إلى الذل والهوان. إذاً: فنحن ننتظر، فوالله إن لم يتدارك الله المسلمين في الشرق والغرب بتوبة صادقة لنزل بهم بلاء أعظم من بلاء الاستعمار، إذ إنهم يبيحون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، فهم معرضون عن الله تماماً، وكأن الله لا وجود له، وسوف ينزل البلاء على من لم يتب إلى الله ويرجع إليه، ولو عرفوا هذا لبكوا الليل وصرخوا.[ خامساً: الذنب يولد الذنب، والسيئة تتولد عنها سيئة، فلذا وجبت التوبة من الذنب على الفور ]، وهذه سنة الله تعالى، فإذا أذنبت ذنباً أو فعلت سيئة ولم تبادر إلى محوه فوالله لتذنب مرة أخرى، وهذه سنة الله تعالى، إذ إن السيئة تولد السيئة، وأخذنا هذا من قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمران:155]، أي: ذنباً ولد ذنباً، وسيئة ولدت سيئة، فلهذا واجبنا أننا إذا أذنبنا نتوب على الفور، أما إذا لم نتب فسوف تتوالى السيئات حتى نغرق فيها والعياذ بالله.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (65)
الحلقة (206)
تفسير سورة آل عمران (69)
ينادي الله عز وجل في هذه الآيات عباده المؤمنين الصادقين في إيمانهم، فيناديهم لينهاهم عن الاتصاف بصفات الكافرين النفسية، الذين يقولون لإخوانهم في الكفر الذين يخرجون للتجارة أو الغزو ثم مات أحدهم أو قتل: لو أطاعونا ما ماتوا ولا قتلوا، وهذه النفسية يتولد عندهم من جرائها غم وحسرات، وما درى أولئك الجهال أن الله يحيي ويميت، ثم يبشر الله عباده المؤمنين بأن من قتل منهم في سبيل الله أو مات فإن مرجعه إلى الله الغفور الرحيم.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رغبة فيما بشرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).معاشر المستمعين والمستمعات! ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158].هيا نكرر تلاوة هذه الآيات الثلاث متأملين متدبرين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:156-158]، (مِتم)، و(مُتم) قراءتان سبعيتان، فبالكسرة حجازية، وبالضم كوفية.
نهي الله للمؤمنين أن يكونوا كالذين كفروا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:156]، هذا النداء موجه من الله لعباده المؤمنين، فهذا كلامه وهذا كتابه، ونحن أولياؤه وعبيده، فإذا ناداهم ربهم عز وجل فإنما يناديهم لواحدة من أربعة، وهنا ناداهم لينهاهم عما يسيء إليهم ويضر بهم، عما يؤذيهم ويشقيهم، وقد ناداهم بعنوان الإيمان؛ لأن الإيمان بمثابة الطاقة، بل بمثابة الروح الذي لا حياة بدونه، أو لا حياة حق بدون إيمان حق. ثم نهانا بقوله فقال: لا تَكُونُوا [آل عمران:156]، وهنا اللام ناهية، كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156]، من المنافقين واليهود والنصارى والمشركين والبوذيين والشيوعيين، لكن هنا لا زال السياق عن غزوة أحد وما ترتب عليها من تعاليم وهدايات، وبالتالي فالذين كفروا هنا هم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، فكشف الله الغطاء عنهم، وأعلمهم أنهم كافرون، وقد نهى الله المؤمنين أن يكونوا كالذين كفروا، إذ إنه ينبغي أن نتباين مع الكافرين وألا نكون مثلهم، لا في الرأي ولا في التفكير ولا في الزي ولا في أي شيء آخر، وإنما الفصال الكامل؛ لأنهم أنجاس ونحن أطهار؛ لأنهم أموات ونحن أحياء، لأنهم يقادون ونحن قادة، لأنهم يهتدون ونحن مهتدون وهادون، ففرق كبير بين هذا وذاك، وبالتالي كيف تريد أن تكون مثل إنسان ميت؟!
لطيفة في النهي عن التشبه بالكافرين
لطيفة: أرى أطفالنا في المدينة النبوية يلبسون أزياء كلها كأزياء أولاد الكفار، ولا أدري ما هو السبب؟! فقد كان أولادنا كالملائكة يلبسون الثوب الإيماني الرباني الأبيض، فاستبدلوه بثياب النصارى والمشركين والمجوس، فهل سألوا وأفتوهم بالجواز؟! كذلك الزي العسكري، فقد بكينا وصرخنا وندبنا وقلنا: يجب أن يتميز الجندي الرباني عن الجندي الشيطاني، وقد رأيت في هذه القضية رؤيا نبوية، وذلك لما أمر الزعيم عبد الناصر بتوحيد الجيوش العربية من أجل أن يقاتلوا اليهود، ونحن الآن في المملكة قد اضطررنا، إذ كيف نبقى مخالفين لجيوش العرب؟ فهيا نلبس لباسها من أجل الانتصار! والله لا انتصار، وهذه الأحداث منذ أربعين سنة أو ثلاثة وأربعين سنة، وقد رأيتني أمام باب السلام الموجود الآن، وبيني وبين الباب حفرة طويلة عريضة عند نهاية عتبة الباب، والأخرى بين يدي، وفي وسطها نعشان أو جنازتان، فخطر ببالي أن أحد النعشين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني لـأحمد الزهراني، وأحمد الزهراني كان شرطياً، فجلس على السرير فقلت: ما دام الشرطي حياً فالرسول من باب أولى، وفجأة انطمست الحفرة والرسول واقف، وأنا أقول: يا رسول الله! استغفر لي، يا رسول الله! استغفر لي، وأنا في حالة انفعالية لا أستطيع تصورها، فقال لي بصوت خافت: أرجو، أي: أنا، أو قال لي: اُرجُ هو، فإذا قال: اُرجُ هو، أي: أنه يرجو الاستغفار، وإذا قال لي: أنا أرجو، أي: أرجو أنا، ولحظة وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم جالساً على كرسي من حجر إلى باب السلام من الجهة الشرقية، وكأنه البدر، وبينما أنا واقف إذا بطفل كعبد الله يلبس بدلة كبدلة نجيب، ونجيب هو الذي قام بالثورة ضد الملك فاروق، وقد احتضنه عبد الناصر، ثم بعد ذلك أبعدوه، وبدلة نجيب عبارة عن بدلة عسكرية من يطنان فرنسي.والمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك الموقف أشار بيده الطاهرة هكذا وقال بالحرف الواحد: أبمثل هذا يبتغون العزة؟! وفعلاً ما أعزهم الله إلى الآن، إذ نحن أذلاء لليهود.وقد نفع الله بتلك الرؤيا -فقد كان الدرس بداخل المسجد- فقد حججنا ونزلنا المدينة في صفر، ثم جاء العيد ورجالات المدينة من الأعيان يلبسون أطفالهم تلك البدلة، ويأتون بهم إلى الحجرة الشريفة ليسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما إن رأيت هذا حتى كدت أن أتمزق؛ لأننا كنا في بلد مستعمرة نرى أن من يلبس لبسة الكفار كافر، وما كان يخطر ببالي أن مؤمناً يتزيا بزي الكافر، فكيف يتحدون رسول الله ويأتون بأطفالهم ليغضبوه؟! وهل يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا؟ والله ما يرضى، والحمد لله فقد كان هناك خياط مختص يخيط مثل هذه الملابس، ثم أغلق محله وانتهت بعد فترة وجيزة.وأنا قلت هذا لأننا نسمع نداء من السماء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:156]، لبيك ربنا لبيك، لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156]، قال أهل العلم: في كل شيء إلا ما لابد منه، فلا نأكل أكلهم من الخنزير والميتة، ولا نشرب كشربهم، ولا نتناول الشراب بأيدينا كما يتناولون، ولا ندخل نعالنا في أرجلنا كما يفعلون، إنها مباينة كاملة ومفاصلة تامة؛ لأنهم أموات أنجاس، ونحن أطهار أحياء، فلا عجب ولا غرابة.إذاً: إن شاء الله من هذه الليلة على الآباء أن يلبسوا أولادهم اللباس الأبيض كلباس الملائكة، ولا يلبسونهم هذه البرنيطة وهذا السروال كسروال المجوس، فهل هذا حتى نعلمهم العبث والتمرغ في التراب؟ لا؛ لأنه لما يكون الثوب نظيفاً فلا تسمح له أمه ولا أبوه أن يتمرغ به في التراب، لكن ما دام أنه سروال أسود كاليهودي فيعبث به كيفما شاء.وقد قلت من قبل: على المسلمين أن يحتفظوا بزيهم الإسلامي، فإذا انعقد مؤتمر الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، فإن المسلم يدخل بزيه الإسلامي، والبرانيط والأزياء الكافرة على الآخرين، فيراه البلجيكي أو البريطاني أو اليوناني فيقول: من هذا؟ فيردون عليه فيقولون: هذا مسلم، تريد أن تعرف اسأله، أو اذهب إلى الفندق واسأله، فتكون دعوة باللباس الإسلامي، لكن إن دخلوا كلهم بزي اليهود والنصارى، فمن يعرف هذا من هذا؟! بل لا تكون دعوة إلى الله تعالى، ولعلكم تذوقون هذه المرارة، وذلك لما يدخلوا هذه المؤتمرات أو غيرها فيجدون شخصيات متميزة، فيسألون عنهم فيعرفون أنهم مسلمون، فيضطرهم إلى أن يسألوا عن الإسلام، فيأتي فيتعلم الإسلام وتبين له الطريق الحق، ومن الجائز أن يهديه الله فيدخل في الإسلام، فكونك في زي إسلامي هذا أوجب عليك وألزم لك؛ لأنك لست مثلهم أبداً، إذ أنت حي وهم أموات، أنت طاهر وهم أنجاس، أنت صادق وهم كذبة، أنت شجاع وهم جبناء، وبوصفك المسلم الكامل الإسلام، وما هي دعاوى نقولها، بل المسلم الحق.وكذلك المؤمنات إذا تزيت إحداهن بزي كذا أو كذا، فأقول لهن: القاعدة عندنا: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، ولن تنحل هذه القاعدة أبداً، فلو يأتي علماء النفس من أجل أن يحلوها، أو ليجدوا أن الرسول ما وفق فيها وما أصاب، ما استطاعوا أبداً، بل والله لو اجتمعوا كلهم ما نقضوها؛ لأن (تشبه) على وزن تفعل، أي: أراد أن يكون مثل هذا، فلن يكون إلا مثله، تشبه أن يكون كـعنترة بن شداد، سوف يعمل ما استطاع من التمرين على الشجاعة حتى يكون مثله، أو رأى هابطاً مخنثاً وأراد أن يكون مثله، فيأخذ يمشي كمشيته، ويلبس كلبسه، وينطق كمنطقه، وفترة وإذا هو مثله، وإذا رأت المرأة عاهرة في مجلة أو جريدة أو شاهدتها في تلفاز وأرادت أن تتزيا بزيها، فلا تلبث أن تكون مثلها، فتفسد عقيدتها، ويمرض قلبها، وتصبح هابطة مثلها، إذ لو كانت تريد أن تتتشبه بـفاطمة أو بـعائشة أو بأمهات المؤمنين فإنها ستكون مثلهن، لكن ما دامت أنها أرادت أن تكون كهذه العاهرة في لباسها أو زيها، فلا تزال تتشبه بها حتى يموت قلبها، وتصبح من الساقطات والعياذ بالله، فهل فيكم من يرد عليّ في هذا؟ إننا لن نقول هذا على غير علم أبداً.إذاً: فهيا نتشبه بالصالحين فنكون مثلهم، فلا نحلق لحية، ولا ندخن عند باب المسجد، ولا نكذب، ولا نفجر، ولا نخلف الوعود، وعند ذلك نصبح صالحين، إذ ما معنى قول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]؟
معنى قوله تعالى: (إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزىً لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا)
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156]، في كل شيء، وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ [آل عمران:156]، ليس من الأم والأب، ولا من الأسرة أو القبيلة، وإنما إخوانهم في الدين والعقيدة الكافرة، إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:156]، أي: خرجوا مسافرين للتجارة، أَوْ كَانُوا غُزًّى [آل عمران:156]، جمع غازٍ، أي: غزاة، ثم إذا مات المسافر في سفره، ومات الغازي في غزوه، فماذا يقول إخوانهم؟ آه! لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا [آل عمران:156]، أي: ما سافروا في سبيل الله ولا غزوا في سبل الله، مَا مَاتُوا [آل عمران:156]، وهذه عقيدة من لا يؤمن بالقضاء والقدر، عقيدة كافر بقضاء الله وقدره، عقيدة هابط لاصق بالأرض، وهذه العقيدة تورثهم الهم والحزن والكرب والبلاء الباطني النفسي، إذ إنهم يقولون: لو ما سافر ولدي ما مات! ما ونسوا قول الله تعالى: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، أي: الذين كتب الله عليهم القتل في هذا اليوم، إذ إنهم سيأتون إلى هذا المكان ولو كانوا في بيوتهم، وذلك لينفذ حكم الله تعالى، ويمضي قضاؤه وقدره فيهم، إذ الحياة ليست فوضى كلٌ يدبر برأسه ونفسه، إن الحياة بيد الله عز وجل، فهو الذي يدبرها، فلا يعز من يعز، ولا يذل من يذل إلا بتدبير الله وقضائه وحكمه، ولا يفتقر من يفتقر، ولا يستغني من يستغني، ولا يصح ولا يمرض إلا بتدبير الله عز وجل، وقد مضى هذا في كتاب المقادير باللحظة؛ فلا يقع في الكون شيء إلا بعلم الله وقضائه وقدره. قوله تعالى: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]، والموت يكون في السفر، والضرب يكون في الأرض، والقتل يكون في الجهاد أو في الحرب والقتال.
معنى قوله تعالى: (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم)
ثم علل تعالى لهذه النفسية فقال: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:156]، وهذا له وجهان -إذ القرآن حمال الوجوه- فالوجه الأول الظاهر من الآية: تأوههم وتململهم، إذ إنهم يقولون: لو كان كذا لكان كذا، فيكسبهم الهم والحزن والحسرة في أنفسهم، ووالله إنه لألم وحسرة وكرب عظيم في النفس، فلا يرتاح أبداً، فلهذا، قال: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:156]، والحسرة ألم نفسي تضيق به النفس.ثانياً: عندما لا نكون مثلهم في إيماننا وفي قدراتنا وفي طاقاتنا وفي صبرنا وفي جهادنا، فإنه لما نعلو ونسمو ونعز يكون ذلك هماً وكرباً وحزناً لهم، فهذان وجهان مشرقان في الآية يتحققان بها.
معنى قوله تعالى: (والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير)
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران:156] لا سواه، وَاللَّهُ جل جلاله وعظم سلطانه، يُحْيِي من يحيي، وَيُمِيتُ من يميت، وبالتالي فلا محيي ولا مميت إلا الله عز وجل. ثم ختم الله الآية فقال: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران:156]، يا أيها المؤمنون! يا من دعيتم إلى ألا تكونوا كالذين كفروا في أزيائهم، في معتقداتهم، في آمالهم، في حياتهم كلها، اعلموا أن الله بما تعملون بصير، وهذا وعيد ووعد من الله تعالى، فإن استجبتم لما دعاكم إليه فأنتم في خير حال وأحسنه، وإن رفضتم فسوف ينزل بكم البلاء والشقاء؛ لأنه: بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: مطلع عليكم، فهكذا يربينا الله عز وجل، وقد تربينا أيام كنا نقرأ القرآن ونتدبره، لكن لما حولناه ليُقرأ على الموتى متنا كالأموات، وما عاد أحد منا يتدبر كلام الله عز وجل.
تفسير قوله تعالى: (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون)
قال تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ [آل عمران:157]، وعزتنا وجلالنا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ [آل عمران:157]، أو (مِتم) بالكسر، وهما قراءتان سبعيتان ولغتان فصيحتان، لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا [آل عمران:157] (تجمعون) قراءة سبعية، خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]، أي: خير مما يجمع المشركون والكافرون، وفي هذا ترغيب في الجهاد في سبيل الله، فارتفعوا أيها المؤمنون إلى مستواكم اللائق بكم، وعزتنا وجلالنا لئن قتلتم في سبيل الله أو مِتم في الطريق -لأن القتل يكون بالسيف والرمح، وقد يموت بدون ذلك وهو في طريقه- لَمَغْفِرَةٌ جواب: لئن، أي: مغفرة من الله تزيل كل أثر من نفوسكم، وَرَحْمَةٌ تغمركم وتدخلكم دار السلام خير مما يجمع الكفار من المليارات، بل ومن البنوك كلها.فهيا نموت في سبيل الله أو نقتل، فأما الموت في سبيل الله فممكن، إذ الحجاج والعمار لبيت الله قد يموتون في الطريق، أما الغزو فليس بعد حتى يعلنها صريحة إمام المسلمين، وحينئذ نتسابق إلى الجهاد، أما بدون إذن إمام المسلمين فلا؛ لأن الظروف غير ملائمة للقتال، فهناك معاهدات واتفاقيات بين الدول، كما أنه ليس هناك إعداد كامل لغزو بريطانيا أو اليونان؛ لأن الجهاد لا يكون إلا في ديار الكفار، أما الذين يطالبون بالجهاد في داخل بلاد المسلمين، وينادون: اقتلوا الحكام وعسكرهم! فهذه نظرية فاسدة وباطلة وخاطئة ومنكرة لا تحل، بل لا يوجد لها أثر في الإسلام، إذ إن الجهاد إما أن يغزونا جيش كافر الصلبان في أعناقهم، أو يدخل العدو ديارنا، وعند ذلك يعلن إمام المسلمين التعبئة العامة للنفير، وذلك حتى نجليه ونبعده عن ديارنا، وإما أننا قد تهيأنا واستعدينا وأصبحنا قادرين على غزو تلك البلاد، وحينئذ ترسو سفننا في سواحلها أو يصل الإعلان منا إلى تلك الدولة المجاورة لنا، فنخاطبهم بما علمنا الله ورسوله: يا أهل هذه الديار ادخلوا في الإسلام، ادخلوا في رحمة الله فتسعدوا وتكملوا، وتطيبوا وتطهروا، وتنتهي عندكم مظاهر الفقر والشقاء والعذاب، والخبث والخسران؛ لأن هذا الذي نخوفكم به نحن تنزهنا عنه، وما أصبح بيننا خبث ولا ظلم ولا فقر ولا شقاء، إذ طبقنا الإسلام فرحمنا الله به، فإن قالوا: لن ندخل في دينكم، قلنا لهم: إذاً اسمحوا لنا أن ندخل بلادكم فنعلم أفرادكم ونوجههم ونرشدهم وابقوا أنتم على دينكم، فإن قالوا: لا بأس، فهيا نعقد معاهدة مع أهل الذمة يكون بموجبها أن نحميهم، وأن نموت دونهم، وأن نقيم العدل والرحمة فيهم، وأن يدخل إخواننا بلادهم كالملائكة، فلا خيانة، ولا كذب، ولا أي مظاهر من مظاهر الباطل، وإنما يكون منا الصدق والعدل والرحمة والطهر والصفاء، وما هي إلا ليالٍ أو أيام وانجذب الناس إلى الإسلام ودخلوا فيه؛ لما يشاهدوا من آثار الكمال، وإن قالوا: لا، قلنا لهم: إذاً الحرب بيننا، فيستنفر الإمام المسلمين، ويعلن خوض المعركة، وعند ذلك ينصرنا الله عليهم، ودليل هذا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، بهذه الآية اتسعت رقعة الإسلام في خمسة وعشرين عاماً، فوصل الإسلام إلى الأندلس وإلى ما وراء نهر السند.فهل كان أصحاب رسول الله وأولادهم وأحفادهم من هذا النوع الذي نحن عليه؟ مستحيل، إذ كيف سينشرون الإسلام؟! والآن الكفار يضحكون ويتقززون من إسلامنا، ويلمزوننا بالأصوليين والمتطرفين، فقتلونا وذبحونا وحرقونا، وقد وجدوا فرصة في ذلك، وأنا خائف أن أوروبا تغضب غضبة ويزداد هذا التطرف بين بلاد المسلمين، فيقولون: يا إخواننا ما نريد أن نبقي هذا النوع عندنا، فيبعدون كل المؤمنين، وبعد ذلك هل أقمنا الدولة الإسلامية؟! لا والله، إذاً على الأقل الآن الإسلام ينتشر في أوروبا وأمريكا بواسطة الدعاة والكلمة الطيبة، وليس بالرصاصة والمسدس، فأين الوعي؟ وأين الإدراك؟ وأين الفهم؟ إن الجهاد في الإسلام يفتقر ضرورة إلى إمام المسلمين، فهو الذي يقود الحملات وينظم الجهاد والفيالق ليغزو الأعداء، لا أن يغزو ويقتل المسلمين، إذ إن هذا هو مذهب الخوارج والعياذ بالله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله )، فكيف تقتل كافراً ذمياً تحت رايتك؟ وهل يجيز الإسلام هذا؟ قال: لأنه خائن! أأنت الحاكم حتى تصدر حكمك بأنه خائن، لقد فهموا الإسلام بفهم باطل وفاتن.وبالتالي فلا تلمهم يا هذا؛ لأنهم ما جلسوا في حجور الصالحين ولا تربوا فيها، ولذلك لابد وأن نتربى في حجور الصالحين من صبانا أو صغرنا حتى نصبح أهلاً لقيادة البشر، ولإنقاذهم مما يزيغ. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا [آل عمران:157] (تجمعون)، خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]، أي: هم، فيطهرك ويدخلك الجنة، إذ إن المغفرة معناها: محو الذنب، فإذا طهرت فسينزلك الجنة دار السلام، وقد تقدم قوله تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، فاغسل نفسك من الآن حتى تدخل الجنة بسلام، وتطهر من الآن فإنك إن مت طاهراً فلا يحول بينك وبين الجنة حائل أبداً، أما وأنت نجس فلا تدخل الجنة.
تفسير قوله تعالى: (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون)
قال تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:158]، سواء مات في الصحراء أو في البحر أو انتهى أمره كيف ما كان، فلابد وأن يحشر ويجمع بين يدي الله لفصل القضاء ولإدخاله الجنة أو النار، لكن قوله: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ [آل عمران:158] مطلقاً، أي: لا في سبيل الله ولا في غيره، إذ من مات أو قتل ليس معناه أنه ضاع وتلاشى في الحياة وما بقي له وجود، والله ليحشره الله حياً يسمع ويبصر ويتلقى الجزاء، فاطمئنوا إلى هذه، وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:158]، وتُجمعون بين يديه ليحكم ويفصل، فيدخل المحسنين الجنة، ويدخل المسيئين النار، وهذا عالم الشقاء، وهذا عالم النعيم.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث غزوة أحد ونتائجها المختلفة، ففي هذه الآية ينادي الله المؤمنين الصادقين في إيمانهم بالله ورسوله، ووعد الله تعالى ووعيده، يناديهم لينهاهم عن الاتصاف بصفات الكافرين النفسية، ومن ذلك: قول الكافرين لإخوانهم في الكفر: إذا هم ضربوا في الأرض للتجارة أو لغزو فمات من مات منهم، أو قتل من قتل بقضاء الله وقدره، يقولون: لو كانوا عندنا، أي: ما فارقونا وبقوا في ديارنا ما ماتوا وما قتلوا، وهذا دال على نفسية الجهل ومرض الكفر، وحسب سنة الله تعالى فإن هذا القول منهم يتولد لهم عنه بإذنه تعالى غم نفسي وحسرات قلبية تمزقهم، وقد تؤدي بحياتهم، وما درى أولئك الكفرة الجهال أن الله يحيي ويميت، فلا السفر ولا القتال يميتان، ولا القعود في البيت جبناً وخوراً يحيي، هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ [آل عمران:156]، وقوله تعالى في ختام هذه الآية: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران:156]، فيه وعد للمؤمنين إن انتهوا عما نهاهم عنه في الآية، وفيه وعيد إن لم ينتهوا فيجزيهم بالخير خيراً، وبالشر إلا أن يعفو شراً.أما الآية الثانية فإن الله تعالى يبشر عباده المؤمنين مخبراً إياهم بأنهم إن قتلوا في سبيل الله أو ماتوا فيه يغفر لهم ويرحمهم؛ وذلك خير مما يجمع الكفار من حطام الدنيا، ذلك الجمع للحطام الذي جعلهم يجبنون على القتال والخروج في سبيل الله، فقال تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157].وفي الآية الثالثة والأخيرة يؤكد تلك الخيرية التي تضمنتها الآية السابقة فيقول: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ [آل عمران:158]، في سبيلنا لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:158] حتماً، وثم يتم لكم جزاؤنا على استشهادكم وموتكم في سبيلنا، ولنعم ما تجزون به في جوار ربنا الكريم ].
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات:أولاً: حرمة التشبه بالكفار ظاهراً وباطناً ]؛ لأن النص القرآني بدأ بقوله: لا تكونوا.[ ثانياً: الندم يولد الحسرات، والحسرة غم وكرب عظيمان، والمؤمن يدفع ذلك بذكره القضاء والقدر، فلا ييأس على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه من حطام الدنيا ]، وهذا مبين في سورة الحديد، إذ قال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ [الحديد:21]، إلى أن يقول: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23]، فلا تحزن على ما فات، ولا تفرح وتبطر بما آتاك الله، وهذه ثمرة الإيمان بالقضاء والقدر.قال: [ ثالثاً: موتة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (66)
الحلقة (207)
تفسير سورة آل عمران (7)
وعد الله عباده المتقين بجنات النعيم، خالدين فيها أبداً، وأعد لهم فيها أزواجاً مطهرة، وقد بين الله صفات هؤلاء المتقين الذين استحقوا هذا الجزاء العظيم والنعيم المقيم، فذكر أنهم لا يفترون عن دعاء ربهم والتضرع إليه بصالح أعمالهم، ويلزمون الصبر والصدق، وينفقون في سبيل الله، ويلازمون الاستغفار بالأسحار.
تابع تفسير قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل القرآن الكريم؛ رجاء أن نظفر بذلك الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله الذي أهلنا لهذا الخير؛ إنه على كل شيء قدير.ما زلنا مع صفات الوارثين لدار السلام، وهنا أسأل الأبناء والإخوان والمؤمنات: هل للجنة ورثة؟ سبحان الله! إي والله للجنة ورثة. من هم ورثة الجنة؟ بنو هاشم؟! بنو تميم؟! بنو قينقاع؟! بنو من؟! البيض؟! السود؟! لا والله، فورثة الجنة هم المتقون. من مات حتى يرثوه؟ كل من دخل النار من الإنس والجن ترك مكانه في الجنة.
الوارثون لدار السلام
إن المتقين هم الوارثون؛ لأن الجبار العزيز الغفار جل جلاله وعظم سلطانه أعد منازل الجنة ومنازل النار على قدر من يخلق من الإنس والجن، كل شيء عنده بمقدار، فأهل النار يرثون أهل الجنة في منازلهم في النار، وأهل الجنة يرثون أهل النار في منازلهم في الجنة دار الأبرار. ومن قال: من أين لك هذا يا شيخ، ما سمعنا بهذا الكلام، أقول له: هيا نقرأ جميعاً ونسمع إبراهيم وهو رافع كفيه ضارعاً بين يدي ربه يسأله قائلاً: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، والله تعالى يقول في سورة مريم: تِلْكَ الْجَنَّةُ [مريم:63] بعدما وصفها الوصف اللائق بها قال: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]، تلك الجنة التي وصفت لكم، هذه نورثها من عبادنا مَنْ كَانَ تَقِيًّا لا شريفاً ثرياً ولا أبيض نقياً ولا ولا، بل من كان تقياً فقط وإن كان حبشياً أسوداً.
سر كون المتقين هم وحدهم ورثة دار السلام
ما السر؟ لم فقط التقي هو الوارث وغيره محروم؟ من يجيب يا معشر المؤمنين والمؤمنات؟ الجواب: وهو عند الأبناء على ظهر قلب؛ لأنهم أهل كتاب الله، وأما المحرومون من هذه المجالس فأنى لهم أن يعلموا ؟ المتقون هم أطهار النفوس، وأزكياء الأرواح؛ لأن التقي هو ذاك الذي يعمل بأوامر الله فتزكو نفسه وتطيب وتطهر، ويتقي مساخط الله ومحارم الله فيبتعد عما يدسي نفسه ويخبثها، فإذا مات على تلك الحال كان والله من الوارثين؛ لأن روحه زكية طاهرة شبيهة بأرواح الملائكة في صفائها وطهرها! هؤلاء الأطهار هم الذين ينزلهم الجبار بجواره في دار السلام، واسمعوا خبره: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]. لم يا رب؟ الأبرار لبرورهم والفجار لفجورهم. ما البرور؟ إنها طاعة الله ورسوله التي أنتجت زكاة الروح وطهارة النفس. وما الفجور؟ إنه فجور الفاجرين وخروجهم عن منهج الحق؛ فنفوسهم خبثت وتعفنت أصبحت أهلاً لأن تنزل الدركات السفلى! سبحان الله هذا في القرآن؟! إي نعم، كنا نعرف هذا أيام كنا نقرأ ونعمل به، أما عندما أصبح القرآن على الموتى أصبحنا لا نعرف هذا أبداً!
الفلاح والخسران مناط بتزكية النفس أو تدسيتها
هناك حكم إلهي صدر على البشرية (95%) من العالم الإسلامي ما عرف هذا الحكم و(1%) فقط هم الذين يعرفونه، إي ورب الكعبة، صدر حكم الله على البشرية جمعاء أن من زكى نفسه وطيبها وطهرها أفلح وفاز، ومن خبثها ودساها وعفنها خاب وخسر. وهذا الحكم ما رأينا الله عز وجل حلف أيمان متكررة بهذه السورة كما حلف على هذا الحكم، فلماذا يحلف الله؟ من أجلك يا ابن آدم؛ لتتلقى الخبر ونفسك مطمئنة، ومشاعرك وأحاسيسك هادئة، خبر عظيم يحتاج إلى أيمان عظيمة، يحلف من أجلنا؟ اسمعوا اليمين وتعلموا: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1] هذه واحدة وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس:2] الثانية وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا [الشمس:3] الثالثة وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:4-10]، انتهى الكلام. عرفتم أن الله يحلف أو لا؟ لم يحلف؟ من أجلنا؛ لأن طبعنا.. غرائزنا.. فطرنا إذا سمعنا الخبر وكان فوق قدرتنا لا نصدق، فيضطر من يخبرنا بأن يحلف ويؤكد الحلف حتى تهدأ النفوس. هل عرفتم هذه؟ والله إنها خير من خمسين ألف ريال، أقسم بالله لمن عرفها موقناً وفهمها خير له من أن يوضع في جيبه خمسون ألف ريال، ونحن ظفرنا بها مجاناً والحمد لله. وإن قلت: أفلح، ما معنى أفلح؟ صار فلاحاً أم كيف؟ الفلاح سمي فلاحاً لأنه يفلح الأرض، ويشقها ويدفن فيها البذور، هذا الفلاح، ومن أفلح هو ذاك الذي شق طريقه في صفوف أهل الموقف إلى دار السلام، فما عاقه عائق ولا وقف في وجهه واقف، وعلم حينئذ أنه فاز. هل فاز فلان ابن فلان بجائزة نوبل؟ لا لا. فاز بأن نجا من عالم الشقاء.. النار، وفاز وظفر بالجنة دار السلام.
حقيقة الفوز في الحياة الدنيا والآخرة
إليكم هذا البيان الإلهي من سورة آل عمران، قال تعالى واسمع: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، حكم علينا بالموت وحكم الله لا يتخلف أبداً، كقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] لا يتخلف، لم؟ لكمال قدرته. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، ما معنى وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ أيتها الشغيلة يا معشر العاملين! واصلوا العمل ولا تطالبوا بالجزاء هنا، إذ هذه الدار دار عمل، وليست دار جزاء: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ كاملة يَوْمَ الْقِيَامَةِ . يا فاسق يا فاجر يا كافر! واصل، وقد تعيش سعيداً آمناً شبع البطن مستور الجسم فلا تفهم أن هذا جزاء كفرك وفسقك وفجورك، فالجزاء ليس هنا، الجزاء يوم القيامة، وكم من بر تقي صالح رباني مريض طول عمره، فقير طول حياته، مكروب حزين دائماً وأبداً، فيقول القائل: أين آثار صيامه وصلاته ورباطه وجهاده؟ فنقول: الجزاء ليس هنا، الجزاء هناك، اسمع الحكم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أجورنا مقابل أعمالنا. لطيفة أخرى يفوز بها المتأهلون: قد يوجد كافر فاجر شقي من تعاسة إلى تعاسة، السجون، الآلام، الكروب.. وهو كافر رقم واحد، أو فاسق ممتاز، فهل هذا العذاب الدنيوي.. عذاب المرض والسجن والجوع والخوف هو جزاؤه؟ لا والله، وإنما هذا من شؤم المعصية، يظهر هذا البلاء من شؤم المعصية، كما أنك تجد البر التقي شبعان ريان آمناً، سعيداً طاهراً، فهل هذا جزاء جهاده وصيامه؟ لا، بل هذا من يمن وبركة العمل الصالح، للحسنات بركتها ويمنها، وللسيئات شؤمها ونحاستها، أما الجزاء هنا والله ما كان. كيف وقد أخبر تعالى بنفسه فقال: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ متى؟ يَوْمَ الْقِيَامَة واسمع بيان الفلاح فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] فالفوز ليس ربحك شاة أو بعيراً، ولا امرأة جميلة وولداً صالحاً ولا وظيفة شريفة، ولا.. ولا ولا، ما هذا بالفوز؟ الفوز أن تبعد عن عالم الشقاء وتعلم عالم السعادة لتخلد أبداً، وهو كائن لا محالة، فهيا مع الوارثين لدار السلام الجنة.
نعيم أهل الجنة
قال تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15]، خير من ذلكم الذي سمعتموه في الآيات قبل وهي: الأنعام والحرث والذهب والفضة والنساء والأولاد.. مظاهر الحياة الدنيا: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] هل يوجد ما هو خير من هذا؟ نهم، الجنة دار السلام؛ لأنها خالدة باقية، وليس فيها منغصات، لا حزن ولا موت ولا مرض ولا كبر ولا هم ولا.. ولا ولا، بل سعادة دائمة، أما سعادتك في الدنيا فيعقبها الكرب والحزن، وآخرها الموت. إذاً: قال تعالى: قُل يا رسولنا والمبلغ عنا صلى الله عليه وسلم: أَؤُنَبِّئُكُمْ أؤنبئكم بنبأ عظيم بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ الذي سمعتم، وهو أن لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:15]، هل بعد هذا النعيم من نعيم؟ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا . لماذا قال: خَالِدِينَ فِيهَا ؟ لأنهم إذا كانوا يعرفون أنهم سيرحلون ما يسعدون، أما هذه الحال فتساوي الدنيا وما فيها: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ، مطهرة من دماء الحيض والنفاس والبول والنخامة والنخاعة تمام الطهارة. هكذا خلقهم. قد عرفنا بالأمس أن أهل الجنة لا يبولون، أين يذهب الشراب ذو الألوان.. الخمر والعسل واللبن والماء العذب؟ يتحول إلى عرق فقط. قد يقول قائل: يا شيخ كيف يتحول إلى عرق؟ فأقول له: وأنت قل لي: كيف تعرق؟ عرقتك أمك؟ كيف يخرج العرق منك؟ أنت دلكته بيديك؟ يتحول الشراب كله إلى عرق، ورائحته أطيب من المسك الأذفر مليون مرة. وإذا كان الماء والشراب يتحول إلى عرق أمر معقول لأنه سائل، فما بال الزبدة واللحم ولحم الطير المشوي والفواكه، كيف تتحول هذه؟ هذه تتحول إلى جشاء يتجشاها - والعامة يقولون: يتقرع- كل الطعام يتحول إلى جشاء أبد الآبدين. هذه هي الجنة دار السلام، هذه دار الأبرار، هذه دار الأتقياء بنص هذا الحكم الإلهي: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ ماذا؟ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ .
رضوان الله عن العبد نعيم لا يعدله نعيم
قال الله: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّه بالأمس.. أبا جميل قلنا له: لو أنك تنزل قصراً من قصور الملوك والرؤساء والحكام ويخدمك النساء والرجال، وأنت في القصر، وكلما دخل صاحب القصر تراه غضبان، لا يكلمك، ولا ينظر إليك، دائماً بل كل ساعة تقول: الآن يقتلني أو يخرجني، فلا تسعد أبداً، فتجد رضاه خير من ذلك الطعام والشراب، لما يرضى عنك أنت آمن، لكنه إذا كان غاضباً فأنت خائف، وهذا هو معنى قول الله تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72] في آية التوبة، وهنا قال: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ على الحقيقة، يعرف التقي البر والفاجر الفاسق، سواء كنا مجتمعين مع وفد نصارى نجران أو مع اليهود معنا والمشركين والمؤمنين فالله بصير بالعباد، وإذا كان بصيراً بالعباد فكيف يكون الحكم والجزاء؟ بحسب علمه، فلا تفهم أنك تدخل مع أهل الجنة وتختبئ وأنت مسيحي، والله لا تدخلها، أو تكون مشركاً فتقول: أنا أدخل مع الموحدين. هذا لا ينفع؛ لأن الله بصير بالعباد، كيف لا وهو يخلقهم ويرزقهم. إلى هنا انتهى بنا الدرس أمس، والآن مع بقية الصفات.قال: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16].
صفات أهل التقوى
لو قلت يا سيد: من هم هؤلاء المتقون؟ نريد وصفاً لازماً لهم، أو صفات تكشف عن حقيقتهم؟ هل نحن منهم أم لا؟ فالله تعالى يجيبنا ولا يتركنا حيارى نتطلع للمعرفة، فلابد من وصف شافٍ وعرض سليم، فعدد صفاتهم في هذه الآية والتي بعدها فقال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِين َ وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:16-17].
الصفة الأولى: أنهم يدعون ربهم ويتضرعون إليه بإيمانهم وصالح أعمالهم
قوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16] هذا وصف لازم لهم طول حياتهم. إذاً: أول صفة: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أي: يا ربنا إِنَّنَا آمَنَّا بك وبرسولك وبكتابك ولقائك وبما أمرتنا أن نؤمن به فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا مقابل هذا الإيمان. وهنا عرفتم الوسيلة الشرعية التي تتوصلون بها إلى قضاء حوائجكم عند ربكم، وهي أن تكون إيماناً أو عملاً صالحاً، أما وسيلة بسيدي فلان وحق فلان وجاه فلان فوالله ما تصل بك إلى قضاء حاجتك لا بمغفرة ذنوبك ولا بوقايتك من عذاب ربك. ألا يوجد بين المستمعين -وهم وافدون على مسجد رسول الله- من يرد علينا هذه القضية؟ لا وسيلة تتوسل بها لتصل إلى غرضك وحاجتك عند الله إلا الإيمان الحق والعمل الصالح والتنزه عن الشرك والباطل من المعاصي والذنوب، أما قولك: اللهم إني أسألك بحق فلان.. بجاه فلان.. بـفاطمة الزهراء .. بـالحسن والحسين .. برسول الله.. كل هذا هراء وكلام باطل ودخان قاتل! فإن قلتم: بين لنا يا شيخ كيف هذا فكلنا لا نعرف إلا: (اللهم إني أسألك بحق فلان.. وجاه فلان)؟ الجواب وتأمل: لك على أخيك دين هو حقك، وتقول له: أعطني من حق فلان عليك؟ هل يرضى بهذا الكلام؟ إن لم تعطني فأعطني بحق فلان عليك! يقول الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان وهو ممن أدرك بعض الصحابة، يقول: هذا السؤال صاحبه يكفر؛ لأنه في موقف كأنما يقول: إن لم تعطني من فضلك يا رب فأعطني بحق فلان عليك. فمن هو هذا الذي له حق على الله بالقوة؟! هل يوجد عاقل يقول هذا الكلام؟ مخلوق مربوب بين يدي الله يصبح له حق يأخذه على الله بدون رضا الله؟!وهنا قد يقول قائل: الحقيقة أن هذا الكلام كفر يا شيخ، ولكن ما علمونا وما بينوا لنا، بل رموا بنا في ظلام هذه الحياة الدنيا، فلم تلومنا؟ فأقول له: الآن عرفنا، والله ما نسأل الله بحق فلان لو متنا جوعاً وعذبنا حتى الموت، فلا نكفر ونحن مؤمنون، أما أسألك بجاه نبيك.. بجاه فلان بجاه فلان، فهذه حيلة من حيل الشيطان إبليس! هذه الحيلة أرادها لنا أعداؤنا حتى لا يستجيب الله لنا فيعذبوننا ويستعمروننا ويفرقوننا ويعملون العجب ونحن ندعو وندعو فلا إجابة.قالوا: لنحرمهم من إجابة دعائهم بتقرير هذه الفكرة بينهم، فنحرمهم من أن يتوسلوا إلى الله بصيام أو صلاة أو صدقة أو جهاد أو رباط أو صلة رحم أو فعل خير، أو عكوف في مسجد، أو ذكر الله، أو تلاوة كتاب الله، كل هذا نحرمهم منه فلا يتوسلون به؛ لأنهم إذا توسلوا به نفع، واستجاب الله لهم. قال أعداؤنا: إذاً: نعطيهم فقط وسيلة لا تنفع: أسألك بجاه سيدي فلان، أعطني بجاه فلان. من فعل بنا هذا؟ إنه العدو، الثالوث الأسود المكون من ثلاث طوام: المجوس، اليهود، النصارى. لم تكون هذا الثالوث من هؤلاء؟ ما السبب؟ سلوا رجال السياسة عندكم، والله ما يعرفون كيف تكون هذا؟ والجواب: أما المجوس فما إن دخلت خيل الله ديارهم وسقط عرش كسرى وأخذ التاج ووضع على رأس سراقة بن جعشم وسراقة عفريت من عفاريت قريش قبل إسلامه، لما أعلنت قريش عن جائزة عظيمة لمن يرد لها محمداً حياً أو ميتاً بعد ما صدر الحكم عليه بالإعدام وفشلوا في تطبيقه وهاجر صلى الله عليه وسلم مع الصديق ، أعلنت قريش عن جائزة مائة بعير لمن يأتي برأس محمد أو يأتي به حي، فهذا البطل رضوان الله عليه قال: الآن أصبح أهل البلاد، فحمل سلاحه وركب فرسه وأخذ يركض ويتتبع الآثار حتى صار على بعد يومين أو ثلاثة -لأن المسافة عشرة أيام- فرأى رسول الله وأبا بكر والخريت -الدليل- الذي يقودهم في الطريق، فقال: الآن وصلت، فدفع بالفرس، فلما بقيت مسافة قريبة ساخت رجلا الفرس في الأرض وسقط، فقام وأخرج فرسه ومشى في الرمل أو في الحجارة فوقع -ثلاث مرات- فقال: الآن أتوب إلى الله، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( فكيف بك يا سراقة إذا وضع على رأسك تاج كسرى؟ ) الله أكبر! الرسول هذا مطارد من قومه ويعلن عن هذا الإعلان! أعظم دولة يومئذ هي فارس والروم الدولتان العظميان، وسراقة يبشر بأنه سيلبس تاج كسرى! أحلام هذه أم ماذا؟ وأسلم سراقة ومات رسول الله ومات الصديق وتولى عمر وقاد جحافل الجيش، فدخل بلاد كسرى وجيء بتاج كسرى إلى عمر فدعا سراقة وألبسه التاج وفاء بوعد رسول الله له، ودخلت كسرى في الإسلام وعمها النور الإلهي وانطفأت نور المجوس؛ لأن المجوس يعبدون النار، لا يعبدونها لذاتها وإنما لتشفع لهم عند خالقها.. عند الله وكذلك الخرافيون عندنا يعبدون سيدي عبد القادر لا لذاته وإنما ليشفع لهم.. وهكذا، وأصحاب قريش كانوا يعبدون الأصنام ويقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].إذاً: يوم ما سقط عرش كسرى ولاحت أنوار الإسلام تكون حزب يعمل في الظلام، حزب وطني كأيام الاستعمار، حزب وطني لضرب هذا الإسلام والقضاء عليه، وعودة الدولة الساسانية، وتمضي ألف وثلاثمائة وحوالي خمسة وتسعين سنة والمجوس يحتفلون بذكرى مرور ألفين وخمسمائة عام على الدولة الساسانية، آمنا بالله! بعيني هاتين قرأت في جريدة المغرب أيام كنا ندعو هناك في الصيف، وإذا إعلان: أن الشاه سلطان إيران، يعلن عن قيام ذكرى مرور ألفين وخمسمائة عام على الدولة الساسانية في القناصل والسفارات في العالم، وحضر رجالكم أيها المسلمون للاحتفالات. الاحتفال بماذا؟ بذكر أبي جهل ؟! أعوذ بالله! لو يحتفل المؤمنون بذكرى أبي جهل كفروا، يحتفلون بذكرى مرور ألفين وخمسمائة عام على الدولة الساسانية!وأول رصاصة أطلقها ذلك الحزب المظلم كانت في محراب رسول الله، كانت في جسم عمر رضي الله عنه، عندما قتله أبو لؤلؤة المجوسي وقد أوعز إليه ودفعه وبعثه إليه هذا الحزب المظلم. هذا الحزب يعمل في خفاء؛ لأن النور غشي تلك البلاد وظهر فيها الصلاح والصالحون والصالحات، لكنه يعمل على إحياء هذه الدولة، وإلى الآن يعملون. واليهود ما إن صدر أمر الله بإجلائهم من الجزيرة: ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) وصية من أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، حتى بدءوا يكيدون لهذا الدين، بنو قريظة ماتوا هنا في آخر المسجد ودفنوا في بئر وحفرة؛ لأنهم نقضوا العهد وتعاونوا مع الأحزاب، وبنو النير أجلوا وطردوا، بنو قينقاع من قبلهم التحقوا بأذرعان بالشام، ومن ثم بحث اليهود عمن يتعاونون معهم على ذبح الإسلام فوجدوا الحزب المجوسي، فتعانقوا مع بعضهم البعض، وكان همزة الوصل بينهم -وهم الآن ينفون هذا- كما قال أهل العلم: عبد الله بن سبأ الصنعاني اليماني اليهودي ، هو الذي ربط بين المجوس واليهود.وأما النصارى فما إن لاحت الأنوار ودخل الإسلام في الشام وتحول نحو الغرب واتجه نحو مصر وأفريقيا قالوا: هذه هي الطامة ولن نفلح بعد، ماذا نصنع؟ فبحثوا عمن يتعاونون معه فوجدوا المجوس واليهود، فكونوا شركة لضرب الإسلام، ومن ثم هم يعملون متعاونين إلى الآن في الخفاء.إذاً: فلما فشلوا في حروبهم وما استطاعوا وانهزموا، قالوا: لابد إذاً من العمل النافذ والمجدي، وهو أن نبحث عن سر صفاء أرواح هذه الأمة وطهارتها وقوتها وسلطانها وعدلها، ما هو؟ فقالوا: إنه القرآن، إي والله أصابوا القرآن؛ لأن القرآن بمثابة الروح للحياة، والله قرر ذلك في ثلاث آيات من كتابه؛ في التوبة وفي غافر، وفي الشورى فقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]. ما هذا الروح الذي أوحاه؟ القرآن والله، فبه تصفو الحياة مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، قالوا: العرب حيوا بالقرآن واهتدوا بالقرآن، فهيا نبعدهم، وحينئذ نركب على ظهورهم كالبغال والحمير، ونجحوا، فالقرآن حولوه إلى المقابر والمآتم وليالي الموت قروناً، وقد كانت أمي رحمة الله عليها تقول: يا رب اجعل ولدي -وأنا يتيم- إما حافظاً للقرآن وإما جزاراً، فالجزار يجيب لها اللحم؛ لأن اللحم كان عندنا من العام إلى العام، من الموسم إلى الموسم، وإذا كان يحفظ القرآن يقرأ على الميت ويجيب اللحمة ملفوفة في المنديل ويعطيها له؛ لأن اللحم يقسمونه قطعة قطعة، فالذي عنده زوجته وأمه تحب اللحم يجعلها في منديل ويأتي بها إلى أمه، ولكنها والحمد لله ماتت على التوحيد الخالص.والشاهد عندنا في هذا: أن القرآن روح لا حياة بدونه، ونور والله لا هداية بدونه، فالماشي في الظلام لا يهتدي إلى أغراضه وحاجاته، فكذلك الذي فقد الروح لا يحيا ولا يكمل ولا يسعد. وما زالت آثار هؤلاء الأعداء إلى الآن، ولكن خف الضغط، لكنهم الآن يحتالون ويبحثون من أين يدخلون، وهذا الدرس لو سمعه اليهود لو أمكنهم أن يشتروا بمليار دولار لاشتروه، ولا يسمع العرب والمسلمين هذا، لكن الله أبعدهم، اسمعوا ولا تبيعوه لليهود هاه، ولا تغركم الريالات!إذاً: قال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا [آل عمران:16]، متوسلين إلى الله بإيمانهم، فالإيمان ليس برخيص ولا هين، يدلك لذلك ملايين العلماء في أوروبا ما آمنوا، حللوا الذرة وعرفوا الكونيات كاملة وما آمنوا؛ لأن الإيمان هبة الله وعطيته. أغلى شيء في الحياة هو الإيمان -ومرة ثانية- ويدلك على ذلك: أن علماء فطاحلة في الكون.. في الحياة.. في كذا.. محرومون كفرة، لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، وبرابرة جهال عوام يشهدون أن لا إله إلا الله ويموتون عليها، فالإيمان عطية الرحمن، هبة الله، فمن آمن فله الحق أن يتوسل بإيمانه، رب لقد آمنت بك وبرسولك، فاقض حاجتي هذه الليلة، ويفرح الجبار بكلامك، ولا تفهم أنه يغضب.واسمع إليهم يحكي عنهم: قالوا رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا وغيرنا ما آمن يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ واستجاب لهم الرحمن فهم في دار السلام. هذه صفة.
الصفة الثانية: ملازمة الصبر
قال أيضاً في بيان صفات المتقين الذين ورثوا دار السلام: الصَّابِرِينَ [آل عمران:17]. أهل الجنة جزعون أو صابرون؟ صابرون، وصفهم ربهم فقال: الصَّابِرِينَ وهذه الصيغة كلمة (أل) تدل على مكانة الوصف وعراقته، ففرق كبير بين (مؤمن) و(المؤمن) وبين (كافر) و(الكافر) بين (سارق) و(السارق) فرق كبير في لغة العرب، فـ(أل) تدل على عراقة الوصف ومكانته، فهم الصابرين بحق. والصبر: حبس النفس وهي كارهة في ثلاثة مواطن، هي: الأول: حبسها على طاعة الله ورسوله، لا تتخلف أبداً متى دريت.الموطن الثاني: حبس النفس بعيداً عن كل ما يلوثها من الشرك وضروب الذنوب والآثام والمعاصي، يحبسها بعيداً حتى لا تتلوث أبداً ولا تتلطخ.الموطن الثالث: حبسها عن المكاره، عند الابتلاء والامتحان بموت الولد والزوجة، بالمرض، بالرحلة والفراق، بأي شيء مما يختبر الله به أوليائه، فلا جزع ولا سخط، ولكن حمد الله والثناء عليه، والصبر الكامل، وكأنه لم يصب.وقد رأينا أحد الصالحين ولقبناه بأيوب الثاني، يدفن أولاده ونحن على القبر نبكي وهو يضحك يبتسم! صبر عجيب! لا جزع ولا سخط أبداً، رضي بقضاء الله وحكمه. إذاً: هذه الثلاثة المواطن حاول يا عبد الله أن تنجح فيها:الأول: أن تلتزم عبادة الله فلا تتخلى حتى عن ركعة الوتر، ولا تفارق العبادة. الثاني: أن تبتعد عن الزنا والربا والقمار والخيانة والغش والخداع وبغض المسلمين والكذب والنفاق، فهذه الأوساخ تبتعد عنها فقط. الموطن الثالث: إذا ابتلاك الله لا بأس أن تبذل دموعك وتريقها على وجهك، والرسول يضرب المثل وقد قدم له ولده إبراهيم وهو يموت في سكرات الموت، وحيده صلى الله عليه وسلم، فسالت الدموع من عينيه وقال: ( العين تدمع، والقلب يخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب )، إذ ما ابتلاك الله به إما ليرفعك درجات ما كنت لتصل إليها بأعمالك الأخرى، أو ليكفر عنك ذنوباً ما كانت تكفر لك، أو ليرفعك أو يطهرك. اللهم ارزقنا الصبر، واجعلنا من الصابرين.
الصفة الثالثة: ملازمة الصدق
ثالثاً: الصادقين. من منا الصادق؟ هذا الصادق، كلنا صادق، لكن الصدق وصف لازم لهم لا ينفك عنهم في كافة الظروف والأحوال، وهو غني كما هو فقير، هو صحيح كما هو مريض، هو خائف كما هو آمن، دائماً يصدق لا يعرف الكذب أبداً، ولو يخرج ما في جيبه أو ما في بطنه لا يكذب. من يقوى على هذه الصفة؟ إنهم الصادقون. من يرغب فيكم أن يفوز بها؟ ألسنا في حاجة إليها؟! يا من يرغب أن يصبح من الصادقين اسمع رسول الله يقول: ( عليكم بالصدق -أي: الزموه- فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة -إي والله- ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ). أبشر بالجائزة العظمى، ستصبح مع أبي بكر الصديق بالطلب.. بجهاد النفس، فاصدق إذا قلت، وإذا علمت، وإذا فكرت، لا يفارقك الصدق أبداً، واطلبه وتحراه واقصده، ولا تزال كذلك حتى تكتب في ديوان الصالحين صديقاً، فما فوق الصديقية درجة إلا النبوة، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] منهم؟ قال: مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ [النساء:69]، بعد النبيين مباشرة، والشهداء بعدهم، والصالحين بعد الكل ثم الصادقين.إذاً: الصادقين أقل درجة من الصديقين، فتلك تحتاج إلى الليالي الطوال، أما كونك صادقاً إذا قلت.. إذا علمت.. إذا أعطيت.. إذا سئلت.. إذا علمت. الصدق من السهولة بمكان لكن لازمه حتى يكون لك وصفاً فيقال: فلان من الصادقين.
الصفة الرابعة: القنوت والخضوع لله
رابعاً: وَالْقَانِتِينَ [آل عمران:17]. من هم القانتون؟ حتى النساء قانتات، فالقانت عبد يدعو الله عز وجل. والقنوت هو الدعاء، فالعبد إذا قام بين يدي الله في الصلاة يدعو ولا يذكر كلمة خارجة عن الصلاة، وقد كانوا يتكلمون في الصلاة فنزل منع ذلك في هذه الآية: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فالقنوت هو: الخضوع والخشوع لله عز وجل، والدعاء والضراعة بين يديه، أصحاب هذه الصفة هم أهل الجنة القانتين.
الصفة الخامسة: الإنفاق في سبيل الله
خامساً: وَالْمُنْفِقِين َ [آل عمران:17]. ينفقون ماذا؟ أوقاتهم في مشاهدة التلفاز والفيديو وألعاب الكرة والأضاحيك ومجالس الباطل وقصائد المشايخ.. هكذا؟لا والله، بل المنفقون لأموالهم في سبيل الله، فابدأ بنفسك ثم بزوجتك، ثم بولدك، ثم بمن تعول، وما فاض فاحمله إلى غير ذلك، فالمنفقون الإنفاق وصف لازم لهم لا يبرحون في حدود طاقتهم وما يقدرون عليه.
الصفة السادسة: الاستغفار بالأسحار
أخيراً: وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17]، الأسحار جمع سحر، والسحور أكلة السحر تسمى السحور، والسحور ثلث الليل الآخر، في هذا الوقت بالذات هؤلاء يستغفرون الله عز وجل: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:118]، نستغفر الله ونتوب إليه.. نستغفر الله ونتوب إليه، رب اغفر لي وتب علينا إنك التواب الرحيم.. ثلث ليل وهم يستغفرون في الصلاة وخارجها، فهذا الوصف لا زم لهم، في هذا الوقت الذي ينام فيه أصحاب البطالة ويسهرون حتى الثانية عشر أمام التلفاز والحكايات وقراءة المجلات والصحف ثم يصرعون ولا يستيقظون إلا مع طلوع الشمس، في هذا الوقت هؤلاء يلهجون بالاستغفار.واسم وا إلى هذه الجائزة العظيمة، يقول صلى الله عليه وسلم: ( إذا مضى ثلث الليل الأول نزل الرب جل جلاله وعظم سلطانه إلى سماء الدنيا ونادى: أنا الملك.. أنا الملك، هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وذلك حتى يطلع الفجر )، فيا ويح النائمين يومئذ، أو ساعئذ.والاستغفا من ألفاظه: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. ومن الاستغفار: رب ظلمتُ نفسي وإن لم تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين. ومن الاستغفار: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. استغفروا الله يغفر لكم، وصلى الله على نبينا محمد.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (67)
الحلقة (208)
تفسير سورة آل عمران (70)
لقد وهب الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الكمال الأخلاقي الذي هو قوام الأمر، فأنعم على عباده من المهاجرين والأنصار بالرحمة التي جعلها في قلب نبيه لهم، وهذه الرحمة تحمله صلى الله عليه وسلم على العفو عن مسيئهم، والاستغفار لهم، ومشاورتهم في كل أمر ذي بال، فلا ينفرون من حوله، ولا يهجرون مجلسه صلى الله عليه وسلم.
تفسير قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:159-160].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! يقول الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159]، فالقائل هو الله عز وجل، ووصلتنا كلماته من طريق وحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فأوحى إليه هذا القرآن من كلمة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، إلى آخر آية نزولاً: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، ودامت مدة الوحي ثلاثة وعشرين سنة، فختم الله هذا الكتاب وأكمل هذا الدين.وها نحن في بيت الله وفي مسجد رسول الله نتلو كتاب الله عز وجل، ونسمع كلام الله ونتدبره ونهتدي به إلى ما يكملنا ويسعدنا، وهذه نعمة في حد ذاتها، إذ إن بلايين البشر لا يؤمنون بالله ولا برسوله، ولا يعرفون كلام الله تعالى، ولا يسلكون مسالك أولياء الله وأنبيائه، فمن نحن وما نحن لولا فضل الله علينا؟! فالحمد لله على نعمة الإسلام.
لين النبي مع المؤمنين برحمة رب العالمين
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:159]، وأصل الكلام: فبرحمة من الله، وزيدت هذه الميم لتقوية الكلام والمعنى، تقول العرب: زيادة المبنى تدل على زيادة في المعنى، والتنكير هنا يدل على التعظيم، أي: رحمة عظيمة مصدرها من الله تعالى. لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159]، أي: لنت لهم يا رسولنا ولم تتشدد، وعفوت ولم تؤاخذ، وأصفحت ولم تؤنب، وهذه رحمة الله رحم بها أولئك الأصحاب الذين فروا منهزمين يوم أحد، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم شديداً قاسي القلب، لا عطف ولا لين عنده، لأنبهم ولقسا عليهم، فهربوا وشردوا وعادوا إلى الكفر والعياذ بالله، وبذلك يخسرون خسراناً أبدياً، لكنها الرحمة التي ألقاها في رسوله صلى الله عليه وسلم فغمره وغشاها بها، فلا شدة ولا غضاضة ولا غضب، ولا تألم ولا تحسر أمامهم، وكل هذا غرسه الله في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من أجل أوليائه وأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم، فكونهم زلت أقدامهم وهربوا خائفين شاردين من الموت، فإن هذا لا يسلبهم إيمانهم ولا حبهم لله تعالى، ولا جهادهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم.
الغلظة والقسوة سبب لنفور المدعوين
وَلَوْ كُنْتَ [آل عمران:159]، يا رسولنا فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ [آل عمران:159]، والفظ هو: الخشن في معاملاته، السيئ في أخلاقه، وحاشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك، بل كان رقيقاً في معاملته، فيعامل أصحابه بالرفق والعطف واللين. لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، أي: انصرفوا وتركوك وحدك، وهذا ممكن؛ لأن الذي أخبر بذلك هو الله عز وجل، إذ لو أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن غضبه كما نغضب، وأخذ في الشتم كما هو حالنا، فإنه لن يبق واحد إلا من شاء الله، ويلتحقون بـأبي سفيان، لكن الله أضفى على رسوله هذا الكمال الخلقي فما استطاعوا أن يبعدوا من ساحته، وهذا تدبير من الله عز وجل، وهذا رحمة بأوليائه المؤمنين وأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار.
عفو النبي عن أصحابه واستغفاره لهم ومشاورتهم في المسائل الهامة
إذاً: فبناء على هذا: فَاعْفُ عَنْهُمْ [آل عمران:159]، أي: لا تؤاخذ أحداً منهم، فقد أكسبناك هذا اللين وهذا العطف وهذه الشفقة وهذه الرحمة من أجلهم. ثم قال تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمران:159]، أي: استغفر لهم الله عز وجل؛ ليغفر لهم زلة فرارهم وانهزامهم أيضاً. وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، أي: لا تستهن ولا تبال بهم، وتقول: هؤلاء فروا منهزمين، هؤلاء عصوني، لا، وإنما اتخذ من أعيانهم ورجالاتهم وأولي الحل والعقد من تستشيرهم في أمور دنياك، وذلك كالجهاد ومتطلباته وما إلى ذلك. وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، أي: أمر ذو أهمية كالجهاد، وخوض المعارك، والإعداد لها، والمشي إليها فيما هو مهم.
معنى قوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله)
فَإِذَا عَزَمْتَ [آل عمران:159]، أي: بعد الشورى، وسماع آراء العقلاء، والعزم على أن تفعل فافعل، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، وامض ولا تفكر لا في هزيمة ولا في نصر، ولا خوف ولا جبن ولا خور ولا ضعف، وإنما لاحت في الأفق أن السير في هذا الطريق هو الحق فامض. فَإِذَا عَزَمْتَ [آل عمران:159]، أي: على القيام بأمر من أمور هذه الدعوة، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، أي: فوض أمرك إليه، فهو الذي يقضي بما يشاء ويحكم بما يريد، وما عليك إلا أن تعمل على تحقيق رضاه. ثم بين ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ [آل عمران:159]، وهذه عامة لنا أيضاً فنحن معهم، إذ إن من توكل على الله، فأمره الله بأمر ولاح في الأفق ما يخيف أو يرهب أو يكرب ويحزن، فمضى عبد متوكلاً عليه في حصول النتائج المرغوبة والمطلوبة، فإن الله يحبه، والذي أمره الله أو نهاه وأراد أن يفعل، فلاح له في الأفق ما يوعده وما يخوفه، فيقول: قد لا يقع هذا، قد ننكسر، قد ننهزم، ثم فشل، فهذا لا يحبه الله تعالى؛ لأنه ما توكل على الله تعالى، ولذلك فالمتوكل على الله هو ذاك الذي إذا أمره مولاه فإنه يمضي أمره وينفذه غير مبالٍ بما يترتب على ذلك من انكسار أو انتصار، وإنما همه أن يطيع ربه عز وجل، فيفوض أمره إلى الله، أي: أمر الانتصار أو الانكسار، ويفعل ما أمر به، وهذا العبد أو هذه الأمة يحبه الله عز وجل، وحبه ظاهر مادام أنه امتثل أمر الله، وذاك الامتثال أوجد له الطهر في النفس والزكاة في الروح، والله يحب الطيبين والطاهرين.
تفسير قوله تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم...)
قال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]يقول تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:160]، أي: إن ينصركم الله أيها المؤمنون وبينكم رسولكم، والخطاب عام، فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، فإن قيل: قد غلبونا اليهود؟ فالجواب: ما نصرنا الله، إذ لو نصرنا الله فلا يغلبنا اليهود ولا الصرب ولا روسيا ولا أمريكا. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، أي: لا يوجد غالب يغلبكم أبداً، وإنما يوجد الغالب الذي يغلب المؤمنين إذا تخلى الله عنهم ولم ينصرهم، وذلك عندما لا يأخذون ببيانه وهدايته، وما وضع لهم من منهج وطريق، فأعرضوا عنه والتفتوا إلى غيره، ورغبوا بشهواتهم ودنياهم، وعند ذلك لا يحبهم الله وينصرهم. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:160]، في أي ميدان من ميادين الحياة، فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، ومعنى هذا: عليكم بالله، فالتفوا حول كتابه، والتفوا حول بيانه وشرف هدايته، ولا تخافوا الأبيض ولا الأسود، ولا المشركين ولا الكافرين، فإن من يتوكل على الله ينصره، ومن نصره الله والله لا يغلبه غالب أبداً. وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ [آل عمران:160]، أي: الله، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]؟ لا عبد القادر ولا سيدي البدوي.وقد شكا إلي أحد الأبناء فقال: بين للناس الجهل الذي يقع حول الحجرة الشريفة، إذ إنهم لا يحسنون الزيارة ولا السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: ماذا نصنع؟ قد بينا وقلنا: من أراد أن يزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت متطهراً ويصلي ركعتين في مسجده، ثم يقف على باب حجرته ويقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، صلى الله عليك وعلى آلك وأزواجك وذرياتك أجمعين، أو السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم يسلم على الشيخين ويمشي. لكن الأمة جاهلة، فهل كلمتي هذه بلغتهم ونفذوها؟ إننا نحتاج إلى تربية وتعليم في بيوتنا وفي بيوت ربنا، في قرانا ومدارسنا وأحيائنا، وذلك العام والعامين والثلاثة والعشرة حتى نفقه ونفهم ونعلم، ولا تكفي كلمة واحدة أبداً، ثم لو كنا بصراء فهانحن نسلم على رسول الله والله في كل صلاة، ونحن في أمريكا أو في اليابان أو في أي مكان، فإذا جلسنا بين يدي الله في الصلاة نقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فهل هناك سلام أعظم من هذا؟ هذا الذي علمنا رسول صلى الله عليه وسلم، وما كنا نعرف معرفة يقينية أنه يسمعنا إذا سلمنا عليه، لكن الآن نحن موقنون بذلك، فإذا كنت متطهراً بين يدي الله تصلي الفريضة أو النافلة، وقلت: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، والله لبلغته وسمعها عليه الصلاة والسلام.أما الذين يتمسحون ويتبركون ويقولون الباطل حول الحجرة الشريفة فكلهم جهال، ويزال جهلهم هذا بالعلم والتربية، وبالجلوس في مثل هذه المجالس النبوية.ولولا أن الله عز وجل أوجد هذه الحكومة الإسلامية -قد يغضب بعض الإخوان ويقول: الشيخ يمدح الحكومة-لرأيتم العجب حول هذه الحجرة من أنواع الشرك والباطل، ومع هذا يوجد عسكر وهيئة ويشكون من جهل الناس. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، أيها المجاهدون، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ [آل عمران:160] لمعصيته والخروج عن طاعته، وعدم الأخذ بأسباب النصر، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ [آل عمران:160] من أهل الأرض؟ والله لا أحد، وَعَلَى اللَّهِ [آل عمران:160]، لا على غيره وحده فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، ليعتمدوا على الله، وليفوضوا الأمر إليه، وليفعلوا ما أمر ويتركوا ما نهى، وليترتب على ذلك ما يترتب من ذل أو هون أو فقر أو نصر أو عزة أو سيادة أو غنى، إذ إن هذا يترك لله فقط، والمسلم يطبق أمره ويفوض أمر النجاح إليه سبحانه وتعالى. وَعَلَى اللَّهِ [آل عمران:160]، لا على غيره، لا على سواه، فَلْيَتَوَكَّلِ [آل عمران:160]، واللام للأمر، الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، و(ال) في (المؤمنون) تدل على عراقة الوصف ومتانته، ولم يقل: (فليتوكل مؤمنون)، وإنما قال: الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، أي: البالغون الكمال في إيمانهم، علماً ومعرفة واعتقاداً ويقيناً.فهيا أعيد عليكم قراءة هاتين الآيتين قبل أن نأخذ في الشرح من الكتاب، يقول تعالى واسمع: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:159-160]، وهذا بلاغ ثانٍ، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ معنى الآيات: ما زال السياق -سياق الحديث والكلام في طريق واحد- في الآداب والنتائج المترتبة على غزوة أحد، ففي هذه الآية يخبر تعالى عما وهب رسوله وأعطاه من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر ] إذ وهبه الله من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر، ولولا أخلاقه التي وهبه الله إياها لهرب الناس من حوله وما جالسوه ولا أخذوا عنه، ومعنى هذا أيها المربي اسلك مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أن تتعنتر وتنتقد وتطعن، فإن ذلك لا ينفع.قال: [فيقول: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:159] أي: فبرحمة ]؛ لأن الميم مزيدة، ونظير هذه الميم ما جاء في قوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ [المؤمنون:40]، إذ أصلها: عن قليل، وزيدت الميم لتقوية الكلام والمعنى بعد ذلك، وقوله تعالى: جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ [ص:11]، أي: جندٌ هنالك مهزومون، والقاعدة عند العرب تقول: زيادة المبنى تدل على زيادة في المعنى، وهذا كلام العرب الذي علمهم الله إياه وأنطقهم به وأنزل به كتابه.قال: [ يخبر تعالى عما وهب رسوله من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر ]، إذ الأخلاق الفاضلة هي قوام الأمر، فإذا كانت أخلاق المرء سيئة في البيت، أو سيئة مع إخوانه، أو سيئة في السوق، فلا ينتظم الحال ولا يسعدون، إذ الخلق الكامل والأخلاق الكاملة هي التي تجمع ولا تفرق، وتوجد الحب والمودة، فهيا نتعلم الأخلاق الفاضلة.قال: [ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:159] أي: فبرحمة من عندنا رحمناهم بها، لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] ]، أي: لولا رحمتنا التي أضفيناها على عبيدنا من الأنصار والمهاجرين ما لنت لهم، وحينئذ يفرون عنك ويعودون إلى الكفر ويخسرون الدنيا والآخرة.قال: [ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا [آل عمران:159]، أي: قاسياً جافاً جافياً قاسي القلب غليظه، لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، أي: تفرقوا عنك -وعادوا إلى دين آبائهم وأجدادهم- وحرموا بذلك سعادة الدارين. وبناء على هذا فاعف عن مسيئهم الذي أساء، واستغفر لمذنبهم، وشاور ذي الرأي منهم، وإذا بدا لك رأي راجح المصلحة فاعزم على تنفيذه متوكلاً على ربك، فإنه يحب المتوكلين ]، وهذه تعاليم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، إذ الله يكلم رسوله بهذا الكلام ويعلمه هذا التعليم، فآمنا بالله وحده، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم عاش أربعين سنة لا يقرأ ولا يكتب، فهو أمي كما وصفه في التوراة والإنجيل، والأمي هو الذي ما فارق حجره أمه حتى يتعلم.قال: [ وإذا بدا لك رأي راجح المصلحة ] بعد الاستشارة، [ فاعزم على تنفيذه متوكلاً على ربك، فإنه يحب المتوكلين ]، ومن أحبه الله لم يخزه ويذله ويشقه، بل والله يكرمه ويعزه ويعلي شأنه.قال: [ والتوكل: هو الإقدام على فعل ما أمر الله تعالى به أو أذن فيه بعد إحضار الأسباب الضرورية له، وعدم التفكير فيما يترتب عليه ] أي: فيما يترتب على فعل هذا الأمر الذي أقدمت عليه، وأعددت الأسباب المطلوبة له.قال: [ بل يفوض أمر النتائج إليه تعالى ] فإذا أمرنا بالجهاد، فأعددنا عدتنا وخرجنا نحمل سلاحنا غير مفكرين بالنصر أو الهزيمة، ولا يخطر ذلك ببالنا أبداً، فقط نريد أن نطيع ربنا فيما أمرنا به، فإن النتائج إليه تعالى.قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية فقد تضمنت حقيقة كبرى يجب العلم بها والعمل دائماً بمقتضاها، وهي أن النصر بيد الله، والخِذلان كذلك، فلا يطلب نصر إلا منه تعالى، ولا يرهب خذلان إلا منه عز وجل ]، فالذين لا يؤمنون بالله، ولا يعرفون هداه كيف يطبقون هذا ويعرفونه؟ إذاً لابد من المعرفة والعلم أولاً، قال تعالى مبيناً ذلك: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19].قال: [ وطلب نصره هو إنفاذ أمره بعد إعداد الأسباب اللازمة له ]، أي: أن طلب النصر من الله يتم بإنفاذ الأمر الذي أمر به، وذلك بعد إعداد الأسباب اللازمة لذلك، قال تعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41]، فلا يخرجون بأيديهم فقط، بل لابد من السلاح والطعام، والذين ما استطاعوا رجعوا، فلابد من الأسباب للنصر، فيؤتى بالسبب بإذن الله وطاعة له تعالى.قال: [ وطلب نصره وإنفاذ أمره بعد إعداد الأسباب اللازمة له، وتحاشي خذلانه حتى يكون بطاعته والتوكل عليه، هذا ما دل عليه قوله تعالى في هذه الآية: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160] ].ما بال المسلمين لا يقاتلون الصرب؟ هل سمعتم بقوات تحركت من العالم الإسلامي؟ إذاً: كيف ينصرنا الله؟! قد علمنا أن النصر بيده، وأن الخذلان بيده، وأن نصره يطلب منه بإعداد العدة وأخذ الأسباب، لكن للأسف سكتنا وتركنا الأمر لأمريكا والأمم المتحدة، فهل سينتصر إخواننا؟ وهل عندما يخرجون عن سنة الله ينتصرون؟ سوف تسمعون الهزائم المرة، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160]، ينصرنا الله إذا أقبلنا عليه بعد الإيمان واليقين بأنه الناصر، واجتمعت كلمتنا، وحملنا راية لا إله إلا الله، وقادنا إمام المسلمين، ولا نخرج عن طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، فإن فسقنا يصيبنا ما أصاب رسول الله وأصحابه في أحد، فهذا هو النظام الإلهي، وهذه هي السنن التي لا تتبدل إلى يوم القيامة، فالطعام يشبع، والماء يروي، والحديد يقطع، أنها سنن لن تتبدل أبداً.إذاً: فسنة الله في النصر لعباده هو أن يطيعوه فيما أمر، ويعدوا العدة لما يطلب منهم، وعند ذلك يقاتلون فينتصرون، والواقع شاهد على ذلك.
هداية الآيات
قال المؤلف: [ من هداية الآيتين:أولاً: كمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلقي ] وقد دلت على ذلك الآية الأولى، والذي كمله هو الله القائل: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:1-4]، فسبحان الله! إذا استعظم الله الشيء فمن يقدره؟ إذا كان العظيم الذي يقول للشيء: كن فيكون، ويقبض السموات السبع بيده، يستعظم الشيء، فكيف يكون هذا الشيء؟! والله لا أعظم من خلق الرسول صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وقد تجلت أخلاقه هنا في لينه وشفقته وعطفه ورحمته، وعدم قوله كلمة سوء لأصحابه، مع أنه قد كسرت رباعيته، وشج وجهه، ودخل المغفر في رأسه، ومات عمه، وبعد هذا لم يشتم أحداً ولم يسبه، ونحن تربينا على السب والشتم والتقبيح والتعيير! بل وجد منا من يطعن في العلماء ويتلذذون بذلك.أخي المسلم! لا يحل لك أن تطعن في مؤمن كناس أو فلاح أو دلال أو أعمى أو أعرج أو مريض أو مؤمن رائحته منتنة، كما لا يحل لك أن تقول في مؤمن آخر كلمة سوء، ونحن للأسف نتغنى بالأباطيل، فأين أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الرسول يُؤذى ويُرجم، ويعرف من فعل به ذلك، ومع ذلك يقول: ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )، وما واجه واحداً منهم وقال له: أنت خذلتنا، أنت الشر، أنت السبب، أنت المحنة كلها، إذ لو واجه الناس بهذا لانفضوا من حوله وانصرفوا، فهيا نتخلق بأخلاق أبي القاسم، واستنبطنا هذا الكمال من قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، فيكم من آذاه مؤمن وقال: اللهم اغفر له؟ أعطوني واحداً، قد يوجد بعضاً، لكن واحداً إلى مليون لا ينفع. [ ثانياً: فضل الصحابة رضوان الله عليهم وكرامتهم على ربهم سبحانه وتعالى ] وأخذنا هذا من قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، فالله يأمر قائده ورسوله بأن يشاور أصحابه، وهذا يدل على فضلهم، ولذلك إذا ذكر أصحاب رسول الله فيجب أن نذكرهم باحترام وإجلال وإكبار، وألا نذكر سوءاً فيهم ولا بينهم، إذ هؤلاء قد رفعهم الله تعالى، وأمر رسوله أن يستغفر لهم، وأن يعفو عنهم، وأن يشاورهم في الأمر، ونحن للأسف نسبهم وندعي أنهم قد أخطئوا، فلا حول ولا قوة إلا بالله! إن هذا من مظاهر الجهل، ومن ألف سنة وأمتنا هابطة، فهيا نخرج من هذه الفتنة، وذلك بالعودة إلى الكتاب والسنة، وأن نؤمن إيماناً يقيناً، وأن نلزم بيوت ربنا بنسائنا وأطفالنا ورجالنا من المغرب إلى العشاء، في كل قرانا ومدننا، فنتلقى الكتاب والحكمة طول الحياة، فذاك هو التعلم الحقيقي، أما التعليم في المدارس فقد فضحنا الله، إذ إننا لا نتعلم إلا للوظيفة! والذي لا يوظف يسب الحاكم والحكومة! ولذلك الذي ما يتعلم العلم ليحبه الله كيف يستفيد من هذا العلم؟ لا نعيبهم، بل نتركهم، فالفلاح في مزرعته، والتاجر في متجره، والعامل في مصنعه، فقط الوقت الذي أوروبا التي نجري وراءها ولعابنا يسيل، ونجتهد أن نكون مثلهم، إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، وأخذوا نساءهم وأطفالهم إلى دور السينما والمراقص واللهو إلى نصف الليل، ونحن ما نستطيع أن نذهب إلى بيت ربنا لنزكي أنفسنا ونطهر أرواحنا ونخرج من ظلمة الجهل الذي خيم علينا، فكيف نستطيع أن نخترق السماء وتنزل الجنة مع الأبرار؟! ومع هذا نسمع من يطعن وينتقد ويقول: ما هذا؟ كيف هذا؟ ماذا نقول؟ نكذب عليكم، والله لا طريق إلا هذا، والجهل معوق لصاحبه، إذ يفقده الإيمان بالله والثقة به، وإن كنا واهمين فاذكروا، لو يحصى الزنا والفجور في العالم الإسلامي لقلتم: خمت الدنيا وخبثت، وهذا يحصل من أهل الإيمان واليقين! أما الغش والخداع والكذب والسب والشتم والتعيير فلا تسأل، وسبب هذا كله الجهل بالله تعالى ومحابه ومساخطه. [ ثالثاً: تقرير مبدأ الشورى بين الحاكم وأهل الحل والعقد في الأمة ] يقول ابن عطية في تفسيره رحمه الله: الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وقد قيل: ما ندم من استشار، ومن أُعجب برأيه ضل، ورسول يقول صلى الله عليه وسلم: ( ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار، ولا عال من اقتصد )، وهذا الحديث يزن الدنيا كلها، إذ ما ندم أبداً من استشار، ولا خاب من استخار ربه، ولا عال وافتقر من اقتصد فيما أعطاه ربه. [ رابعاً: فضل العزيمة الصادقة مقرونة بالتوكل على الله تعالى ] أي: العزيمة الصادقة عند تنفيذ الأمر، ومع التوكل على الله بتفويض الأمر إليه، والذي يحصل بأمر الله مرحباً به لا خوف ولا تردد. [ خامساً: طلب النصر من غير الله خِذلان، والمنصور من نصره الله، والمخذول من خذله الله عز وجل ].فاللهم انصر عبادك المؤمنين الذين آمنوا بك وبلقائك وبذلوا ما استطاعوا أن يبذلوه من أجل نصرة دينك وعبادك المؤمنين، اللهم إن وِجدوا فانصرهم وكن لهم ولياً ونصيراً، آمين.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (68)
الحلقة (209)
تفسير سورة آل عمران (71)
حرم الله سبحانه وتعالى الغلول، وهو أخذ شيء من الغنائم قبل تقسيمها، وذكر تعالى أن ذلك محرم على الأنبياء، ومفهوم ذلك أنه محرم على أتباعهم من المؤمنين، ومن غل شيئاً من الغنيمة يأتي به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة، ثم يحاسب عليه كغيره، ويجزى به كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر، ولا تظلم نفس شيئاً، لأن الله تبارك وتعالى غني عن ظلم عباده.
تفسير قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا رجاءنا يا ولينا ومتولي الصالحين.فما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام.. ونحن الآن مع أربع آيات، فهيا نتلو هذه الآيات تلاوة متدبر متفكر متأمل؛ عسى الله أن يشرح صدورنا وينور قلوبنا، وأن يرزقنا العلم الذي يرضيه عنا. آمين.قال سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَل) قراءة سبعية، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:161-164]. معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! يقول تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، ما الغُل؟ ما الإغلال؟ ما الغلول؟ فهذه مأخوذة من: غَلّه يغُلُّ إذا وضع الغُلَّ في عنقه، وشد يديه مع عقنه، ومنه الأغلال التي في الأعناق.والمراد هنا أن يأخذ من الغنيمة شيئاً خفية، بحيث لا يطلع عليه المجاهدون، ويأخذه لنفسه دونهم.
سبب نزول قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل...)
لا شك أن بعض المنافقين أشاعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ شيئاً من الغنيمة بدون إطلاع أصحابه المجاهدين، وسواء كان هذا شملة تمت في بدر أو في خيبر أو في أي مكان آخر، أو أن الذين هبطوا من جبل الرماة خافوا أن يكون الرسول يستأثر ببعض الغنيمة دونهم.فعلى كل حال أبطل الله هذا الزعم، وهذا الافتراء وهذا الظن، فحاشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغل، فقال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ [آل عمران:161] من الأنبياء أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، فكيف بسيد الأنبياء وخاتمهم؟! وهذه الصيغة صيغة النفي التي لا يمكن أن يكون أبداً، فليس من شأن نبي من أنبياء الله أن يغل، فكيف بخاتمهم وسيدهم وإمامهم؟!!
دلالة الآية على حرمة الغلول
قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَل وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، أيما شخص مع نبي من الأنبياء يجاهد، ثم لما وجدت الغنائم أخفى منها شيئاً، ولو خاتماً من حديد، ولو شملة، ولو شراك نعل، ولو.. ولو..، فلا يحل أبداً للمجاهدين أن يخفي أحدهم شيئاً من الغنيمة قبل قسمتها، ولهذا الإغلال أو الغُل أو الغَل من الغنيمة من كبائر الذنوب بالإجماع، إلا أنه لا تقطع يده كسارق، وأما الإثم فإنه عظيم، وحسبنا أن نسمع أن من غل يأتي يوم القيامة بما غل؛ فلو أغل شاة وأخفاها فوالله! ليبعث والشاة على ظهره ولها ثغاء ليفضح في العالمين، والذي أغل بعيراً يؤتى يوم القيامة البعير على عنقه وهو يصرخ والبعير له رغاء فضيحة له. وهكذا كل من غل شيئاً أخفاه وسرقه من الغنيمة يبعث يوم القيامة بهذه الفضيحة.كما صح أيضاً أن الغادر الذي يغدر ويخون يفضح يوم القيامة وتوضع راية على ظهره واسته؛ فضيحة له، ( يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء غدر به )، فلهذا المسلمون لا يغدرون ولا يسرقون ولا يخفون من الغنائم شيئاً.وأجمع أهل العلم أيضاً أن الوالي الذي يمثل إمام المسلمين إذا أخذ من ذلك المال -أي الغنائم- خفيةً يفضح به يوم القيامة.وقد صح: أن أحد العمال ذهب وجاء بمال بيت المال، فلما وصل إلى المدينة، قال: هذا لكم وهذا لي، أهداه إلي أهل البلاد، فوبخه الرسول صلى الله عليه وسلم شر توبيخ، وقال: هلا بقيت في بيتك أو في بستانك أو مع أهلك وجاءك هذا المال؟ ، ولهذا الهدايا إلى العمال لا تصح، لا تقدم هدية لوالٍ ومسئول عن أي عمل، وهو إن أخذه أخذه كما يؤخذ من الغلول.إذاً: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ [آل عمران:161] من نبي وغيره: يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، وقد سمعتم أنه يؤتى به على رءوس الناس يشاهدوا فضيحته، سواء كانت ناقة أو كانت عنزة أو كانت ثوب أو كانت غير ذلك.ثم قال تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، أي: يوفي الله تعالى يوم القيامة كل نفس ما كسبته من خير أو شر، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]؛ لأن الحاكم جل جلاله وعظم سلطانه ما هو في حاجة إلى أن يظلم أحداً، الملك كله له، والجنة جنته والنار ناره يدخل من يشاء في رحمته، فلا معنى لتصور الظلم أبداً يوم القيامة.فهذه الآية قررت حرمة الغلول في الإسلام، وهو أخذ شيء من الغنيمة خفية ليستأثر به دون إخوانه المجاهدين، ولا يحل لقائد المعركة ولا للأمير ولا للمجاهدين أن يخفوا شيئاً، كذلك ما يعطاه العمال أو الأولياء أو المسئولون بوصفه هدية وهو رشوة للحصول على أمرٍ ما فحكمه حكم الغلول بلا خلاف بين أهل الإسلام.
تفسير قوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخطٍ من الله...)
وقوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162]، فهذه تزيد ذلك المعنى توضيحاً. فمن الذي يتبع رضوان الله ويتبع الأسباب التي توجب له رضوان الله؟ أي: ذاك العبد الذي يستقيم على طاعة الله وطاعة رسوله، فيؤدي الواجبات ويبتعد كل البعد عن المحرمات، هذا هو طالب رضوان الله.هل يستوي مع من يطلب سخط الله بالخيانة والغدر والسرقة والكذب.. وما إلى ذلك؟ والله! ما يستويان. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ [آل عمران:162] ورجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ [آل عمران:162] أيضاً، سخط الله والمصير جنهم، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162] أي: جنهم، لا أسوأ مصير من جنهم يصير إليها العبد، ومعنى هذا: لا غدر، ولا خيانة ولا سرقة ولا.. ولا، يا من يريدون رضا الله ورضوانه.صورتان واضحتان: هذا أراد الله رضا الله فطلبه بإيمانه وتقواه، وبإيمانه وصالح أعماله، وبإيمانه وتجنبه ما يكره الله ويسخط الله، هذا طلب رضوان الله فساد به، والثاني طلب سخط الله بالغدر والكذب والشرك والمعاصي، فلا يستويان. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162]، إياه.
تفسير قوله تعالى: (هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون)
ثم قال تعالى موضحاً المصير: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163]، هم أهل الموقف السعداء كالأشقياء، طالبوا رضوان الله، كطالبو سخط الله، الكل في درجات متفاوتة، درجات أهل الجنة حسبنا أن نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنهم يتراءون منازلهم كما نتراءى الكواكب الغابرة في السماء )، وأهل النار دركات وعبر عنها بالدرجات للمناسبة، وإلا الهبوط دركات والصعود درجات دائماً وأبداً، وأما دركات أهل النار فقد قال تعالى في المنافقين: فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145].إذاً: يا طالبي رضوان الله بالإيمان وصالح الأعمال، والبعد عن الشرك والذنوب والآثام، إن درجاتكم متفاوتة تفاوتاً عظيماً، ويا طالبي سخط الله بالخيانة والغدر والسرقة والشرك والمعاصي، اعلموا أيضاً أن دركاتكم متفاوتة بحسب كثرة الذنوب وقلتها. فهذا حكم الله.
تفسير قوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم)
ثم قال تعالى لعباده المؤمنين -ولعل هذا السياق حرك ضمائرهم-: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:164] فلله الحمد والمنة، و(مَنَّ) هنا ليس من المنِّ، هذا من المن بمعنى العطاء والإفضال والإحسان، والله له أن يمُنَّ علينا أليس كذلك، لكن مَنَّ الإنسان على الإنسان لا يصح، فيه أذى له، لكن الله إذا مَنَّ عليك؛ أعطيتك سمعك، بصرك، عقلك، أعطيتك كذا كذا، هذا الامتنان عظيم، والله أهله، لكن بالنسبة إلينا إذا أعطيت لأخيك شيئاً لا تمنه، فإنه يتأذى ويتألم، هنا المن بمعنى: الإفضال والإنعام والإحسان: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:164] كيف؟ قال: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]، بعث فيهم رسولاً من أنفسهم عربي ومن جنسهم، إذ لو كان الرسول أعجمياً لما ارتاح العرب في قبول الدعوة، ولا نشطوا لها ولا نهضوا بها، لكن لما كانت لغتهم وكان النبي من جنسهم، ومن أشرفهم، ومن أعلاهم منزلة، ومن أفضلهم وأكرمهم بيتاً.. هذه كلها ساعدت على قبول الدعوة وحملها. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا [آل عمران:164] عظيماً جليلاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]، ويصح أن تقول: من أنفسهم أي من جنسهم البشري ولا حرج، لكن السياق والامتنان، يدل على أنه من جنسهم العربي وهو عام، رسول الله من جنس البشر وليس من عالم الملائكة ولا عالم الجن، لكن هذا الامتنان هو الذي ساعدهم على النهوض بهذه الرسالة وحمل هذه الدعوة إلى العالم، شعروا بأنهم مسئولون.قال: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ [آل عمران:164]، من صفاته أنه يتلو عليهم آياته، آيات من؟ آيات الله الذي مَنّ عليهم بإرساله، هذا أولاً. وَيُزَكِّيهِمْ [آل عمران:164] ثانياً، أي: يطهر أنفسهم وقلوبهم، ويطهر مشاعرهم وآدابهم وأخلاقهم ونفسياتهم، وكذلك فعل.كثيراً ما نقول: والله! ما اكتحلت عين الوجود بأفضل من أصحاب رسول الله في آدابهم وأخلاقهم وكمالاتهم؛ وذلك نتيجة تزكية الرسول لهم؛ زكاهم وطيبهم وطهرهم في أخلاقهم وآدابهم وكل سلوكهم، يشاهد ويقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا أو يقولون كذا )، وما زال كذلك حتى قبض وأصحابه من خيرة البشر كمالاً، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164]، فهذه المنة الكبيرة، يعلمهم الكتاب الذي هو القرآن، والحكمة التي هي السنة النبوية، وهي مبينة للقرآن شارحة ومفسرة له، وهذه الحكمة عامة تناولت الأكل والشرب واللباس والركوب والنزول والحرب والسلم.. وكل شئون الحياة؛ ما خلت منها حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.فما طلبت السنة في ميدان من ميادين الحياة إلا وجدت.وأخيراً قال: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ [آل عمران:164] نعم، وقد كانوا من قبل: لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، أي: قبل البعثة النبوية كيف كان العرب؟ كانوا وثنيين، منهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الأصنام والأحجار، وكانوا.. وكانوا كغيرهم، لكن الواقع أنهم كانوا في ضلال واضح بين لا يشك فيه عاقل، فأنقذهم الله عز وجل من هذا الضلال ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أنزله عليه من الكتاب والهدى، وما وفقه له وأعانه عليه من تعليمهم وتزكيتهم وتربيتهم حتى نموا وكملوا وأصبحوا أكمل الخلق.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
هذه الآيات الأربع نتأملها! وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، ليس من شأن نبي يغل، وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، لِم يأتي به؟ لينتفع به، يأتي به ليفضح به، والله يأتي الرجل وعليه البعير، يقول: يا رسول الله أعني، فيقول: لا، لقد بينت لك يا فلان.فهذا الذي طهر المجتمع، وأصبح مجتمع أمن كامل ليس فيه خيانة ولا غدر، ولولا هذا التعليم كيف يصبح هذا المجتمع أفضل مكان في العالم؟ بهذه التعاليم: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:161-162].الجواب: لا، هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163] بحسب جهادهم وصبرهم وصيامهم و.. و..، ما هم في مستوى واحد، درجات أو لا؟ درجة أبي بكر أعلى من درجات بقية الصحابة، مثلاً: دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران:163].فيجزيهم بحسب عملهم؛ لأن الله مطلع عليه، عليم به، كيف لا وهو خالقه وموجده. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164]، فلهذا الذين يجلسون للمعلمين يجب أن يقولوا لهم: زكوا أنفسنا، لا تعلمونا فقط، حلقة ثانية بعد التعليم، وهي تزكية النفس وتهذيب الأخلاق، وتصحيح الآداب: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
يقول المؤلف غفر الله لنا وله: [ معنى الآيات: الغل والغلول والإغلال بمعنى واحد، وهو أخذ المرء شيئاً من الغنائم قبل قسمتها وما دام السياق في غزوة أحد فالمناسبة قائمة بين الآيات السابقة وهذه، ففي الآية الأولى ينفي تعالى أن يكون من شأن الأنبياء، أو مما يتأتى صدوره عنهم: الإغلال، وضمن تلك أن أتباع الأنبياء يحرم عليهم أن يغلوا، إذا كان النبي لا يغل، فأتباعه لا يغلون، ولذا قرئ في السبع (أن يُغَل) بضم الياء وفتح الغين، يُغَل: أي: يفعله أتباعه بأخذهم من الغنائم بدون إذنه صلى الله عليه وسلم، هذا معنى قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل ذلك، فقال: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161].فأخبرهم تعالى أن من أغل شيئاً، يأتي به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة كما بُين ذلك في الحديث، قال: جاء في صحيح مسلم أن أبا هريرة قال: ( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره ثم قال: لا ألفين أحدكم -أي: لا أجد أحدكم- يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله! يا رسول الله! أعني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد بلغتك... )] ثم ذكر الفرس أيضاً والشاة والنرس والرقاع.. وهكذا. [ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل ذلك، فقال: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، فأخبرهم تعالى: أن من أغل شيئاً يأتي به يوم القيامة يحمله، حتى البقرة والشاة، كما بُين ذلك في الحديث، ثم يحاسب عليه كغيره، ويجزى به كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ولا تظلم نفس شيئاً لغنى الرب تبارك وتعالى عن الظلم ولعدله تعالى، فهذا مضمون الآية الأولى.أما الثانية: قال: ينفي تعالى أن تكون حال المتبع لرضوان الله تعالى بالإيمان به ورسوله وطاعتهما بفعل الأمر واجتناب النهي كحال المتبع لسخط الله تعالى بتكذيبه تعالى وتكذيب رسوله ومعصيتهما بترك الواجبات وفعل المحرمات، فكانت جهنم مأواه، وبئس المصير جهنم، هذا معنى قوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [آل عمران:162] ثم ذكر تعالى: أن كلاً من أهل الرضوان، وأصحاب السخط متفاوتون في درجاتهم عند الله، بحسب أثر أعمالهم في نفوسهم قوة وضعفاً، فقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران:163]، فدل ذلك على عدالة العليم الحكيم سبحانه وتعالى. وهذا ما دلت عليه هذه الآية. أما قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، فقد تضمنت امتنان الله تعالى على المؤمنين من العرب ببعثه رسوله فيهم، يتلو عليهم آيات الله فيؤمنون ويكملون في إيمانهم ويزكيهم من أوضار الشرك وظلمة الكفر بما يهديهم به، ويدعوهم إليه من الإيمان وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق وسامي الآداب، ويعلمهم الكتاب المتضمن للشرائع والهدايات والحكمة التي هي فهم أسرار الكتاب والسنة.وتتجلى هذه النعمة أكثر لمن يذكر حال العرب في جاهليتهم قبل هذه النعمة العظيمة عليهم.وهذا معنى قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164] ].
هداية الآيات
هذه الآيات الأربع نسأل الله أن نكون قد فهمناها وتهيأنا للعمل بما فيها، فلها هدايات.قال: [من هداية الآيات: أولاً: تحريم الغلول، وأنه من كبائر الذنوب]. من أين أخذنا هذه الهداية؟ أنا أقول في السوق.. في البيت، الغلول حرام، لا يحل لمؤمن أن يغل، لقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، أصبحنا عالمين. [ثانياً: طلب رضوان الله واجب، وتجنب سخطه واجب كذلك، والأول يكون بماذا؟ ] فطلب رضوان الله بالدعاء وبالإيمان وصالح الأعمال، وتجنب سخط الله يكون بترك الشرك والمعاصي، من طلب رضوان الله وأراده، فباب الله مفتوح، يؤمن ويعمل الصالحات التي هي فعل الأوامر وترك المناهي، ويجتنب الشرك ويترك المعاصي ويتركهما. [ثالثاً: الإسلام أكبر نعمة]؛ لأن الله امتن على الناس به: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164]، [فالإسلام أكبر نعمة، وأجلها على المسلمين، فيجب شكرها بالعمل بالإسلام، والتقيد بشرائعه وأحكامه] فإن لم نعمل بالإسلام، ولم نتقيد بشرائعه، فكأننا ما شكرنا وكفرنا النعمة. [رابعاً: فضل العلم بالكتاب والسنة]؛ لقوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].
الاجتماع على الكتاب والسنة سبب للعزة
معاشر المستمعين والمستمعات! فقد ارتفع شأن العرب وعلا، وسادوا وقادوا باجتماعهم بين يدي رسول الله، وتعلمهم الكتاب والحكمة، وتزكية أنفسهم، فإذا أراد العالم الإسلامي الآن في أي مكان كيف يصلون إلى ذلك المستوى الطاهر؟والله لا طريق إلا هذا.. أن يجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله، وأن المربي أو المعلم يعمل على تزكية نفوسهم وتهذيب أرواحهم وآدابهم وأخلاقهم، والدليل والبرهنة واضحة من يوم أن أعرض العالم الإسلامي، وعلى رأسه العرب بالذات، أهل الأمانة وأصحاب هذه الرسالة وأهل هذه المنة، منذ أن أعرضوا هبطوا، فمن يرفعهم؟ فحاولوا وجاءوا بالاشتراكية لترفعهم، فلم ترفعهم، ثم حاولوا وجاءوا بالديمقراطية وتبجحوا بها فلم ترفعهم أيضاً. ثم أيضاً حاولوا وجاءوا بالوطنية والإقليمية، العروبة، فهل رفعتهم؟ والله! ما رفعتهم، فما الذي يرفع من هبط إلى أن يعود إلى علياء الكمال إلا الكتاب والسنة، وهذا ما نقوله دائماً، أهل القرية يلتزمون باجتماعهم، بنسائهم وأطفالهم، كل ليلة في بيت ربهم، من المغرب إلى العشاء، وطول العام، أهل المدن كل حي من أحياء المدينة قليلة أو كثيرة يجتمعون اجتماعنا هذا، النساء وراء الستارة، والأطفال دونهم، والفحول أمامهم، والمعلم يعلم الكتاب والحكمة، هل هناك طريق سوى هذا؟ والله! ما وجدوا، أقسم بالله.فهذا هو الطريق الوحيد الذي يهذب النفوس، فإذا تهذبت النفوس قل، بل انتهى الغل والغش والحسد والسرقة، والخيانة والإسراف، والكبر والكذب، وكل مظاهر الهبوط تنتهي، أو ما تنتهي؟ والله لتنتهين، هذه سنة الله، الطعام يشبع والماء يروي، والحديد يقطع، والنار تحرق، واتباع الكتاب والسنة لا تهذب ولا تزكي ولا تؤدب؟! فهذا مستحيل.فعلى العلماء أن ينهضوا بهذا الواجب، يأتون إلى القرى ويصيحون في أهليها بمكبرات الصوت: تعالوا إلى المسجد، هاتوا أطفالكم ونساءكم يسمعن وهن وراء الستارة، ويلزموا القرية الشهرين والثلاثة والسنة، حتى يجتمع أهلها.. وهكذا فجأة وإذا بذلك الإقليم في العالم الإسلامي أصبح كأنه في عهد النبوة، الطهر والصفاء والنقاء والكمال، بأتم معناه، وهذه سنة الله التي لا تتخلف.هذا والله تعالى أسأل أن يوفق علماءنا للنهوض بهذا الواجب.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (69)
الحلقة (210)
تفسير سورة آل عمران (72)
يوم بدر أعز الله عباده المؤمنين وشفى صدورهم بالنيل من عدوهم، فقتلوا سبعين من المشركين وأسروا مثلهم، فلم يتعرض المسلمون عندئذ للبلاء والامتحان، فلما كان يوم أحد قتل من المسلمين سبعون كما حصل لأعدائهم من قبل، ليبتليهم الله عز وجل ويتخذ منهم شهداء، وليبين لهم أن ما يصيبهم من الهزيمة والفشل إنما هو من عند أنفسهم، وما النصر إلا من عند الله، وليميز الله بذلك بين أهل الصدق والإيمان، وأهل الكفر والنفاق.
تفسير قوله تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ...)
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ).معاشر المستمعين والمستمعات! هل تشاهدون السكينة؟ واضحة، فلو كنا في مقهى أو في منتدى أو في سوق أو في منزل فهل سنشاهد هذه السكينة؟ والله! ما توجد، الرحمة غشتنا وغطتنا، هل تشاهدون عذاباً ينال أحدنا؟ لا، الملائكة يحفون بالحلقة، ولكننا لا نشاهدهم؛ لضعف أبصارنا عن قوة أجسامهم فقط، وذكر الله تعالى لنا في الملكوت الأعلى.إذاً: أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لن يكون إلا كما أخبر -الحمد لله-، وهل تذكرون قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه، أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )؟ فزتم بهذه أو لا؟ وأعظم: ( أن من صلى المغرب وجلس ينتظر صلاة العشاء في بيت الله الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يحدث ).كيف نظفر بهذا الكمال لولا إفضال الله وإنعامه علينا، الحمد لله.وكم.. وكم من محرومين، ولا لشيء سوى أن العدو يصرف عباد الله عن ولاية الله؛ لأنه العدو الأول، وربنا قال لنا: اسمعوا هذا البيان: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، كيف نتخذ الشيطان عدواً؟ لا نستجيب لندائه، ولا نقبل على طلبه، ولا نعطي ما يطلب ويسأل، بل نقف معه موقف العدو مع عدوه، فلا سمع ولا طاعة ولا حب، ولا ولاء ولا شيء آخر، فهيا نطبق إن شاء الله. ما زلنا في تفسير سورة آل عمران عليهم السلام، والآيات الليلة أربع آيات، فهيا نتغنى بتلاوتها، فإنه يجوز التغني بالقرآن.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُم ْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:165-168].فعجب هذا الكلام، وما هذه الفصاحة وما هذا البيان؟! ومع هذا يقرءونه على الموتى، ولا يفقهون منه شيئاً، صُرفوا بكيد العدو.هذا الله جل جلاله، هذا الرحمن الرحيم، هذا منزل القرآن العظيم يخاطب أصحاب رسول الله والمؤمنين -الحمد لله-، فيقول: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165]، والمصيبة آخرها الموت، كل بلاء، كل ما يؤذي الإنسان في بدنه، في ماله، في عرضه مصيبة، ولكن نهاية المصيبة الموت.فهذه المصيبة التي يُذكر الله عز وجل بها المؤمنين هي ما قتل من المؤمنين في أحد، إذ استشهد سبعون على رأسهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أصبتم مثليها في بدر، إذ المسلمون في غزوة بدر قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، وهل يطلق على الأسرى قتلى؟ إي نعم؛ لأن الآسر لإنسان يصبح في قبضته إن شاء قتله وإن شاء تركه، فالآسر الذي يأسر غيره يصبح عنده الأسير كالميت. ما زلنا في تفسير سورة آل عمران عليهم السلام، والآيات الليلة أربع آيات، فهيا نتغنى بتلاوتها، فإنه يجوز التغني بالقرآن.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُم ْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:165-168].فعجب هذا الكلام، وما هذه الفصاحة وما هذا البيان؟! ومع هذا يقرءونه على الموتى، ولا يفقهون منه شيئاً، صُرفوا بكيد العدو.هذا الله جل جلاله، هذا الرحمن الرحيم، هذا منزل القرآن العظيم يخاطب أصحاب رسول الله والمؤمنين -الحمد لله-، فيقول: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165]، والمصيبة آخرها الموت، كل بلاء، كل ما يؤذي الإنسان في بدنه، في ماله، في عرضه مصيبة، ولكن نهاية المصيبة الموت.فهذه المصيبة التي يُذكر الله عز وجل بها المؤمنين هي ما قتل من المؤمنين في أحد، إذ استشهد سبعون على رأسهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أصبتم مثليها في بدر، إذ المسلمون في غزوة بدر قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، وهل يطلق على الأسرى قتلى؟ إي نعم؛ لأن الآسر لإنسان يصبح في قبضته إن شاء قتله وإن شاء تركه، فالآسر الذي يأسر غيره يصبح عنده الأسير كالميت.
إنكار الله تعالى على المؤمنين تضجرهم مما أصابهم يوم أحد
قال تعالى: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] كيف نصاب، وكيف نُقتل، وكيف ننهزم ونحن مؤمنون ونجاهد في سبيل الله، ومعنا رسول الله، فكيف هذا؟! تركهم الله ولم يجبهم عن سؤالهم، وقال لرسوله أجبهم أنت: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، تساءلوا: كيف هذا؟ كيف ننهزم، كيف نقتل، كيف وكيف، ونحن المؤمنون المجاهدون في سبيل الله، وفي حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأمر تعاليه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم، فقال له: قُلْ [آل عمران:165] أي: يا رسولنا، (هو) أي: الذي أصابكم مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، لا من عند الله، كيف من عند أنفسهم؟ هم الذين تركوا أنفسهم للعدو يذبحهم ويقتلهم؟الجواب: لأنكم عصيتم رسول الله، وخرجتم عن طاعته مغترين بإيمانكم وكونكم تجاهدون في سبيل الله، ونسيتم أن لله سنناً لا تتبدل، الرسول القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم لما أعد عدته وصفف رجاله، ووضع الرماة على جبل الرماة نصح لهم: ( لا تنزلوا من على الجبل )، ترون منا ما ترون من نصر أو هزيمة، لكن الشيطان زين لهم، وأن المشركين انهزموا ونساؤهم هاربات في الأودية، والمجاهدون يغنمون: انزلوا، فنزلوا، فخلا جبل الرماة، فاحتله قائد المشركين خالد بن الوليد ، وصب عليهم البلاء، ووقعوا بين فكي مقراض، السهام من هنا والسيوف من هنا، فكانت الهزيمة.إذاً: قل لهم يا رسولنا: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، والمسلمون اليوم لماذا لا يفكرون بهذا التفكير؟ هل الذي أصاب المسلمين من الفرقة والضعف والعجز كان نتيجة ذنوبهم أو كان قدراً مقدوراً؟الجواب: بذنوبهم، فما أطاعوا الله ورسوله، وهم متعرضون لبلاء لا يعلمه إلا الله، إلا أن يتداركهم الله بتوبة عاجلة، والتوبة في هذه الأيام أيسر ما تكون، فقد تقارب الزمان والمكان ويستطيع العالم الإسلامي أن يعقد مؤتمراً في المدينة في أقل من عشر ساعات، أما الزمان الأول كيف يأتي الولاة من أقصى الشرق والغرب؟ فقد كانوا يحتاجون إلى ستة أشهر، وكانوا يجتمعون مرة في الحج، فالآن الكلمة واحدة، إذا قال إمام المسلمين: الله أكبر، سمعها النساء والرجال في الشرق والغرب.والشاهد عندنا: يا عباد الله! يا إماء الله! احذروا الذنوب والمعاصي فإنها تجلب الخزي والعار، وتجلب الذل والدمار، وتجلب الفقر والبلاء، فلا يكفي أن تقولوا: يكفي أننا مؤمنون. فلا أنتم بأفضل من أصحاب رسول الله.قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]، أي: على فعل كل شيء يريد قدير، ومن فعله أنه ربط الأسباب بمسبباتها، فلما رفضتم هذا السبب وألغيتموه أصابكم الذي أصابكم.
تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ...)
وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:166]، يذكرهم.. الجمعان: هو جمع الكفر وجمع الإيمان، فالتقى الجمعان في سفح جبل أحد، جمع المؤمنين وجمع المشركين، المؤمنون قائدهم رسول الله، والمشركون قائدهم أبو سفيان .وما أصابكم يوم التقى الجمعان من الجراحات والقتل والهروب فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166]، فما تم بغير إرادة الله وتعليمه وإذنه تم وفق سنن الله عز وجل. قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:166-167]، فهذا علم ظهور، أما علم الغيب فهو قد كتبه وعلمه قبل أن يخلق الكون، لكن ليظهر ذلك للعيان؛ ليعلم المؤمنين بحق وصدق، (ويعلم) أيضاً الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وأبطنوا الكفر في قلوبهم، وهم جماعة ابن أبي ، وقد عادوا من الطريق وهم ثلاثمائة، فلولا هذه الحرب كيف يعرف المنافقون من المؤمنين؟ فالمؤمنون قبل الفتنة أيضاً لا علم بحالهم، فلو يبتلينا الله ببلية لا قدر الله، يظهر المؤمن الصادق من غير المؤمن الصادق، لكن أراد الله تطهير أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليحملوا رسالة الحق إلى العالم أجمع، أما نحن فلا وزن لنا ولا قيمة.
تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ...)
قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران:167] أي: ادفعوا المعرة عن أزواجكم وأولادكم وأموالكم، والقائل هو عبد الله بن حرام شهيد أحد والد جابر بن عبد الله ، فلما أدبر المنافقون عائدين على رأس ابن أبي قال لهم: تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:167]، وإن لم تقاتلوا في سبيل الله لنفاق أو لمرض قلوبكم ادفعوا عن أنفسكم وعن أولادكم وأزواجكم هذا الجيش العرمرم. فإذا انهزم المؤمنون في أحد فسوف يدخل المشركين المدينة ويفعلون الأعاجيب. فهذه كلمة حكيم، ولهذا دونها الله وسجلها، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.قال تعالى: أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُم ْ [آل عمران:167]، فهذه كلمة رئيس المنافقين ومن معه، وهذا المنطق يوجد في كل زمان ومكان: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُم ْ [آل عمران:167]، لكن ليس هناك قتالاً، فلستم أهلاً لأن تقاتلوا.قلنا لكم: ابقوا في المدينة وقاتلوا فيها، وأبيتم وخرجتم تريدون القتال لن تستطيعوا، العدو أكثر منكم ولا تقاتلوا، فلهذا لا نخرج نحن، نعود.لكن لو كان مؤمناً يقول هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم!قال تعالى: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا [آل عمران:167] أي: يقع بالفعل لخرجنا، ولكن ليس هناك قتالاً.قال تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] إي والله! القائلون هذا القول وعلى رأسهم ابن أبي : هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] إي والله!قال تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167] ويخفون ويجحدون، يظنون أن الله غير مطلع على قلوبهم، فيتبجحون بالكلام الفارغ، والله مطلع على ما في القلوب.
تفسير قوله تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ...)
قال تعالى في بيان حال المنافقين: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا [آل عمران:168]، قالوا لإخوانهم: لا تخرجوا، اتركوه يموت هو وأصحابه، لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، فهذا الكلام في ديارهم وفي مجالسهم في المدينة وفي يوم المعركة، فلان وفلان مات، قلنا له: ما تخرج، لا تقاتل، فأبى إلا أن يقاتل، إذاً فمات. لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168].فالله تعالى يقول لرسوله قل لهم -لا يرد الله عليهم هو وما هم أهل لذلك-: قُلْ [آل عمران:168] يا رسولنا: فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت لو كنتم صادقين، لكنهم كاذبون.فهذا المستوى الهابط سببه ضعف الإيمان وظلمة النفاق التي تغطي على القلب وتغطي على الحواس -نعوذ بالله من النفاق-، وهذا درس عجيب يقرأ على أهل المدينة، صالحيهم وفاسديهم، ويخلد هذا الذكر إلى يوم القيامة.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
نسمع بعد أن علمنا الآن.قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165] مصيبة عظيمة في الحقيقة قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران:165] كيف؟ قتلوا سبعين وأسروا سبعين في بدر، منذ سنتين قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] أي: كيف نصاب وكيف وكيف؟ الله ما يرد عليهم، قال لرسوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] الذي أصابكم من الخزي والانكسار والقتل من أنفسكم، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:166] أين التقى الجمعان؟ في أحد؟ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166] أولاً: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:166-167]؛ ليكشف الستار عن الغموض والخفايا؛ لأنه يربي أولياءه.قال: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُم ْ [آل عمران:167] أي: لخرجنا معكم إلى المعركة في أحد، لكن ما نعلم أن هناك قتالاً، فهم يكذبون، وإلا عزم الرسول وتصميمه لا يمكن أن يخرج ويعود ولا يقاتل، لكن النفاق والمرض: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167] سبحان الله! وهذا كائن بين الناس، يتكلم بلسانه ويقول وفي قلبه غير الذي يقول، وكل إنسان يستطيع هذا، فالذين قالوا: لا نقاتل في هذا الوقت هم إلى الكفر أقرب إلى الإيمان.قال تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا [آل عمران:168] أي: قالوا لإخوانهم في النفاق، (وقعدوا)، ما خرجوا، ماذا قال لهم؟ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، هذا الكلام تم في بيوتهم، وهم يتعشون ويتغدون، لو أطعنا فلان وفلان ما يقتل، لكن ما أطاعنا، خرج منا ومشى مع هذا الرجل.إذاً: قال تعالى لرسوله: قل لهم: ادْرَءُوا [آل عمران:168] أي: ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، هل يستطيعون؟ إذا دقت الساعة وحل الأجل، في من يمنع الموت؟ مستحيل.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [معنى الآيات: ما زال السياق الكريم في أحداث غزوة أحد.ففي الآية الأولى: ينكر الله تعالى على المؤمنين قولهم بعد أن أصابتهم مصيبة القتل والجراحات والهزيمة: أَنَّى هَذَا [آل عمران:165]، أي: من أي وجه جاءت هذه المصيبة، ونحن مسلمون ونقاتل في سبيل الله ومع رسوله؟فقال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165] بأحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران:165] ببدر؛ لأن ما قتل من المؤمنين بأحد كان سبعين، وما قتل المشركين ببدر كان سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً]، وبينت لكم أن الأسير في حكم الميت، الآسر إن شاء قتل من أسره.قال: [وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]؛ وذلك بمعصيتكم لرسول الله؛ حيث خالف الرماة أمره، وبعدم صبركم إذ فررتم من المعركة تاركين القتال]، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153].[وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165] إشعار إعلام بأن الله تعالى أصابهم بما أصابهم به عقوبة لهم حيث لم يطيعوا رسوله ولم يصبروا على قتال أعدائه، هذا ما تضمنته الآية الأولى.أما الآيات الثلاث بعدها فقوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166]، يخبر تعالى المؤمنين: أن ما أصابهم يوم أحد عند التقاء جمع المؤمنين وجمع المشركين في ساحة المعركة كان بقضاء الله وتدبيره، وعلته إظهار المؤمنين على صورتهم الباطنية الحقة، وأنهم صادقون في إيمانهم؛ ولذا قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166]؛ علم انكشاف وظهور كما هو معلوم له في الغيب وباطن الأمور، هذا أولاً.وثانياً: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، فأظهروا الإيمان والولاء لله ولرسوله والمؤمنين ثم أبطنوا الكفر والعداء لله ورسوله والمؤمنين، فقال عنهم في الآيتين الثالثة والرابعة: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، وعصابته الذين رجعوا من الطريق قبل الوصول إلى ساحة المعركة ].فـعبد الله بن حرام والد جابر -هذا كم يوم أو سنة؟- جاء السيل في وادي أحد فجرفه فوجدوه ودمه يسيل كأنه الآن استشهد، الله أكبر، هذا عبد الله بن حرام .قال: [ وقد قال لهم عبد الله بن حرام والد جابر : تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:167]؛ رجاء ثواب الآخرة، وإن لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم وأهليكم معرة جيش غازٍ يريد قتلكم، إذ وقوفكم معنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم، فأجابوا قائلين: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا [آل عمران:167] يتم لاتَّبَعْنَاكُم ْ [آل عمران:167] ].يتهمون الرسول بأنه ما يقاتل! تعلموا ما تسمعون من إخوانكم من عبارات من هذا النوع، هذا النوع الآن عام في البشرية، إلا من رحم الله، كيف تتم هذه الرحمة؟ تتم للذين تربوا في حجور الصالحين، لازموا بيوت الله في الليل والنهار، يتلقون الكتاب والحكمة، أما هذا الجهل العام لا ينتج عنه إلا الأباطيل والتراهات والأقاويل، وحسبكم أن تسمعوا إذاعات العالم، وتقرءوا صحف الدنيا.ماذا تسمعون؟! مجالسنا هذا كذا، هذا كذا، هذا به كذا، لو قال كذا، لا إله إلا الله! ولا لوم.قال: [ وقد قال لهم عبد الله بن حرام والد جابر : تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:167]؛ رجاء وطمع ثواب الآخرة، وإن لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم وأهليكم معرة جيش غازٍ يريد قتلكم، إذ وقوفكم معنا في صفوفنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم، فأجابوا قائلين: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا [آل عمران:167] يتم لاتَّبَعْنَاكُم ْ [آل عمران:167].فأخبر تعالى عنهم بأنهم في هذه الحال: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] ]، في ذاك الموقف لما قالوا هذه الكلمة هم إلى الكفر أقرب إلى الإيمان، إذ لا يقول هذا إلا من هو كالكافر.قال: [ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167] ويخفون حتى من أنفسهم، يعلم أنهم يكتمون عداوة الله ورسوله والمؤمنين وإرادة السوء بالمؤمنين، وأن قلوبهم مع الكافرين الغازين، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قعدوا عن الجهاد في أحد، وقالوا لإخوانهم في النفاق لا في القرابة والنسب وهم في مجالسهم الخاصة، قالوا: لو أنهم قعدوا فلم يخرجوا كما لم نخرج نحن ما قتلوا، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم قائلاً: فَادْرَءُوا [آل عمران:168] أي: ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمران:168] إذا حضر أجلكم: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168] في دعواكم أنهم لو قعدوا ما قتلوا].سبحان الله العظيم! ما يرد الله على الهابطين، يوكل الرسول قل لهم، ما هم أهل لأن يعلمهم الله، لكن لو كانوا مع أولياء الله، الله يتولاهم.
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: المصائب ثمرة الذنوب ]. ما من عبد أو أمة يذنب ذنباً إلا وسوف يلقى ثمرة، سواء ألم في نفسه أو مرض في جسمه، حاجة تصيبه، فهذه سنة الله عز وجل، فالرجل في المجلس يصفع أخاه صفعة ادفع وينظر، وتحصل الثمرة اللذيذة على الفور، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].كان الصالحون في الزمان الأول يقول أحدهم: إذا عثرت دابتي التي أركبها، أعرف أن هناك ذنباً فأبحث ماذا فعلت، وفيم قصرت؟ فلابد من ذنب، فأبحث وأفكر فأجد الذنب، ما الذنب هذا؟ ما يؤخذ به المرء ويعاقب، مأخوذ من ذنب الفرس، من ذنب الحمار، إذا هرب أمامك حمار من أين تأخذه، من ذنبه أو لا؟ والذنب ما يؤاخذ به المرء، فالذنوب هي معصية الله والرسول، فإذا أمرك سيدك ولويت رأسك وما فعلت أذنبت فانتظر الجزاء، وإذا نهاك سيدك أن لا تقل أو لا تفعل فأبيت إلا أن تقول أو تفعل أذنبت أيضاً، فانتظر الجزاء.. وهكذا.وفي الحديث: ( ما من مصيبة إلا بذنب )، فنستدل على هذه القاعدة بغزوة أحد، رجال ربانيون مؤمنون، على رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي و.. و.. ، يصابون بكارثة وهزيمة ما شاهدوها، رسولهم يشج رأسه، وتكسر رباعيته، والدماء تسيل؛ بسبب معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.ومن هنا: لِم استعمر العالم الإسلامي وأذل وأهين؟ لمعصيتهم.لماذا ذل المؤمنون في فلسطين، وهزموا أمام حفنة من اليهود؟ بمعاصيهم.لماذا المؤمنون في البوسنة والهرسك وغيرها يذوقون أشد العذاب وآلامه وأفظع الفظائع؟ فذنوبنا سببت لهم ذلك، وذنوبهم قبل ذنوبنا، ما ننسى هذه القاعدة ونقول: ما هي صحيحة، المصائب ثمرة الذنوب، فالذنب كالشجرة تغرسها ولابد وأن تأكل ثمرتها، إلا أن تعاجل بالتوبة قبل أن تنبت الشجرة لا تسقها بذنب آخر.[ ثانياً قال: كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله ]، لا يوجد حدث في الكون، ولو اقتلاع شجرة أو قطع أصبع، أو صفعة إنسان في خده، لا يوجد حادث في العالم إلا وقد سبق علم الله به، وهو الذي قدره، وهذا هو الإيمان بالقضاء والقدر. فالمؤمنون بالقضاء والقدر حقاً هم الذين لا يحجمون ولا يجبنون ولا يتخلفون لعملهم أن ما كتبه الله سوف يكون، والذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر، أو آمنوا به وهم لا يعرفونه هم الذين يجبنون، فلا يستطيع أن يتصدق مخافة الفقر، ولا يستطيع أن يجاهد مخافة الموت، ولا يستطيع أن يقول كلمة حق خشية أن يصفع، ونسي أن ما كتبه الله سوف يكون.واستغل هذا أعداء الإسلام من غلاة اليهودية والنصرانية، وقالوا: مسلمون أخرهم إيمانهم بالقضاء القدر، وتبجحوا بها وكتبوا، فالإيمان بالقضاء والقدر هو الذي يكسب أهله الشجاعة والإقدام؛ لعلمهم أنه إن كتب الله موته الآن سوف يموت، لِم يتأخر إذاً عن المعركة وخوضها؟ فكل الأحداث التي تتم في العالم بكامله سبق بها علم الله، ولا تحدث إلا بإذنه، وقد بينا أن الذي يوسوس له الشيطان في قضية القضاء والقدر وما يعرف، ففي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كان الله ولم يكن شيء قبله، أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، فكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن )، فكل ما كان ويكون قد سبق أن كتب، ووالله لن يتأخر أبداً، ولن يتقدم، ولن يتأخر لا في الصفة ولا في الجسم، ولا في الكمية، ولا في.. فيقع كما هو.بيانها: قلنا لهم: إن المهندس المعماري يجلس على كرسيه، والطاولة بين يديه، وتقول له: أريد إن شاء فلة أو عمارة كذا، فيرسمها لك على ورقة، نوافذها لا تتغير، المفاتيح.. أسلاك الكهرباء.. كل ما فيها بين يديك في ورقة، فإن كنت قادراً على تنفيذ ذلك، يتم ذلك الذي كتبه في الورقة كما هو في الورقة.إذاً -ولله المثل الأعلى- فالله لما أراد أن يخلق الخلق كتب ما أراده على تلك الورقة ذلكم اللوح المحفوظ، ذلكم كتاب المقادير...في البقيع قالوا: إذاً ما فائدة العمل؟ قال: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له )، إن خلقك الله للجنة فسوف يوجد في نفسك الرغبة في طلبها والسعي للحصول عليها، وييسر لك أمر طلبها والحصول عليها.لطيفة! ورد: ( من سره -أي: أفرحه وأثلج صدره- أن ينسأ في أجله ويوسع في رزقه فليصل رحمه ).الجاهل والغافل يقول: كيف ينتقض ما كتب الله وقدر؟والجواب: معشر المستمعين والمستمعات! لما أراد أن يكتب كتب أن عمرك يا عبد الله سبعون سنة، ولكن سوف تبر بوالديك، وتصل أرحامك فزيدوه عشرين سنة وخلوها تسعين. يكتب هكذا: رزقك كان خمسين قنطاراً بيض، خمسين قنطار لحم، خمسين قنطار فول أو بصل، مدة العمر، وسوف يبر هذا بوالديه ويصل رحمه خلوها سبعين.. سبعين.. وهكذا.( من سره أن ينسأ له في أجله ويوسع له في رزقه، فليصل رحمه )، فإذا رأيتك تواصل الصلة علمت أنك زيد في عمرك وزيد في رزقك.قال: [ كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله، ولا تحدث إلا بإذنه ].ولطيفة أخرى.. والله لولا هذا النظام العجيب ما تبقى الحياة سنة واحدة، ويرتطم بعضها ببعض، لكن بدقة التنظيم ماضية.. آلاف السنين.فلو جمعت البشرية كلها كل إنسان له صورته الخاصة به وميزة يتميز بها، فأي علم أعظم من هذا، وأي حكمة أكثر؟ [ ثالثاً: قد يقول المرء قولاً أو يظن ظناً يصبح به على حافة هاوية الكفر ]، من أين أخذنا هذا؟ قد يقول المرء قولاً أو يظن ظناً يصبح به على حافة الكفر، وهذا دل عليه قوله تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167]، لما قالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُم ْ [آل عمران:167]، ففي هذه الحال هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان.إذاً: قد يقول المرء كلمة يصبح فيها أقرب -والله- إلى الكفر منه إلى الإيمان، وهذا مشاهد. [رابعاً: الحذر لا يدفع القدر]؛ لقوله تعالى: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، حذرتم أن لا تموتوا؟ والله تموتوا، ولكن كما تقدم أن الحذر لابد منه، أمر الله به، احذر عبد الله واستعمل سنن الله، واعلم أن ما قدره الله سوف يكون، فترتاح نفسك وتطيب، وتقدم ولا تحرج، ولا تخاف ولا تجبن.هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائماً بما ندرس ونسمع. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (70)
الحلقة (211)
تفسير سورة آل عمران (73)
يبشر الله سبحانه وتعالى رسوله ومن معه من المؤمنين بجزاء من قتل في سبيل الله في أحد وغيرها، وأنهم شهداء، والشهيد حي عند ربه يتنعم بطيب الرزق ولذيذ العيش، أرواحهم في حواصل طير خضر يأكلون من ثمار الجنة، ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش، وهم فرحون بما أكرمهم الله تعالى به، ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم بأنهم إن لحقوا بهم فلن يخافوا ولن يحزنوا، لما ينتظرهم من النعيم والكرامة عند رب العالمين.
تفسير قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ...)
الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله على إنعامه، والحمد لله على إفضاله.اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، إنك ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.وهانحن مع هذه الآيات من سورة آل عمران عليهم السلام، فهيا نتغنى بهذه الآيات، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، فما كان عقيدة اعتقدناها، وما كان واجباً عزمنا على النهوض به، وما كان محرماً عزمنا على تركه والبعد عنه، وما كان أدباً تأدبنا به، وما كان خلقاً تخلقنا به، وهذه حصيلة الدرس وفائدة كتاب الله.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171].هذا الخطاب معاشر المستمعين والمستمعات! وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:169]، قائل هذا الكلام الله سبحانه وتعالى الذي خلقنا، ورزقنا، ووهبنا عقولنا وأسماعنا وأبصارنا، وخلق كل شيء في دنيانا من أجلنا، فكيف لا نعرفه وكيف لا نحمده ولا نشكره؟!فالحمد لله على أننا عرفناه وآمنا به، وهانحن نسمع كلامه عز وجل ونتدبره، وبلايين من الإنس والجن ما آمنوا به ولا سمعوا كلامه، ولا عرفوا مراده عز وجل من خلق البشر وحياتهم، فأولئك هم شر الخليقة.فالمخلو ات من الكلاب والقردة والحيات والثعابين خيرٌ من الذين كفروا بالله ولقائه؛ لقوله تعالى في سورة البينة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، (البريئة) فعيلة بمعنى مفعولة، أي: شر الخليقة. فلو أن إنسان مريضاً في بيتك وكاد أن يموت ثم داويته وشفي، وتطعمه وتسقيه، وتكلأه وتخدمه، وتضع بين يديه كلما يحتاج إليه وهو لا يملك شيئاً، ثم لا يعترف بوجودك ولا يذكرك بخير، ولا يطيع لك أمراً، فستنظر إليه على أنه أشر من الخنازير، ولا تود أن تنظر إليه ولا تسمعه أبداً.والذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين الذين خلقهم الله ورزقهم وخلق الحياة من أجلهم، ثم يكفرون به ولا يذكرونه، ولا يحبونه ولا يطيعون له أمراً، وهؤلاء هم شر الخليقة، والذي ينكر هذا فلا عقل له.وهذا بيان الله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ [البينة:6] أي: كفروا بالله ولقائه، وكفروا بالله ورسوله، وكفروا بالله وكتابه، فهؤلاء مصيرهم: فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ [البينة:6] البعداء هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] والبرية، والبريئة بمعنى واحد، فشر الخليقة الكافر بالله واليوم الآخر، فكيف تحبه؟ إذاً: الله جل جلاله وليسمح لنا أن نتكلم عنه، فلسنا أهل لأن نتكلم عن الله، فلولا منته وإحسانه ورحمته بنا ما ذكرنا حتى اسمه.بينا هذه القضية والغافلون غافلون، فقد عرفنا عجائز.. عجوز تكره أخرى لا تسمح لها أن تذكر اسمها، فإذا أبغض شخصاً شخصٌ آخر يقول: لا تذكر اسمي، أنا أجل من أن تذكر اسمي أنت، والله عز وجل أذن لنا في ذكره، فاذكروا الله ذكراً كثيراً، ونتحدث عنه، قال وأمر وأوجد، ونحن لا شيء، فجبريل عليه السلام رسول الوحي له ستمائة جناح، لما تجلى في الأفق سده، والرسول صلى الله عليه وسلم يشاهد.فهناك الملك الذي أخذ سدوم وعمورة من الأرض وقلبها وهي مدن، ونحن لا شيء، ومع هذا نعص الله ونكفر به والعياذ بالله! يقول تعالى لمصطفاه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، وأمة الرسول تابعة له، فيا أيها المؤمن! لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، فليسوا بأموات، وحرام أن تقول: أموات، فقد جاء في سورة البقرة قول الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154]، قل: شهيد ولا تقل: ميت.
السبيل الموصل إلى الله
وهذه الآية آخر ما نزل في حادثة أحد، فلما استشهد من استشهد وهم سبعون، أربعة من المهاجرين والباقون من الأنصار، قال تعالى لرسوله ولأصحابه المؤمنين: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، فالبحث هنا: ما هي سبيل الله التي ماتوا فيها؟ وما الطريق الذي يوصل إلى رضا الله فماتوا فيه؟الجواب: أنهم قاتلوا المشركين من أجل أن يعبد الله وحده، ومن أجل أن تسود شريعته، ويعلو سلطانه وينفذ حكمه، ومن أجل إصلاح البشرية وإسعادها، لا أن الله في حاجة إلى هذا، (في سبيل الله) الطريق الموصل إلى رضا الله، ومن رضيه الله أدخله الجنة وأسكنه بجواره.هنا نتكلم بكلمة سياسية -والجمع كثير-، وبعض الإخوان قالوا: لا. فالسياسة المحرمة هي القول الذي يسبب أذى إمام المسلمين، أو يسبب سقوط حكومته، أو يسبب إثارة فتنة بين مواطنيه أو محكوميه وهذا المحرم الممنوع، فالسياسية الممنوعة المحرمة هي التي تؤدي إلى إثارة فتنة ضد إمام المسلمين، أو ضد أمته ومن يسود من القوم، أو توجد بلاء ومرض وسوء، هذا حرام أن يقوله المؤمن، لا في المسجد ولا في بيته ولا حتى في الحمام.والآن والحمد لله أكثر من أربعين سنة ونحن نقول: اسمع يا عبد الله! الكلمة التي لا تستطيع أن تقولها في المسجد لا تقولها في البيت، والتي لا تقولها في البيت لا تقولها في غير البيت، ومعنى هذا: أننا نتكلم بما فيه رضا الله، وما كان فيه سخط وغضب الله لا ننطق به، ولو كنا مع أنفسنا وليس عندنا أحد.والمنطلق الذي انطلقنا منه هو قول الحبيب صلى الله عليه وسلم، أستاذ الحكمة ومعلمها: ( من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، فكلمة (سوء) تحدث المساءة في نفس إنسان فقط وليس في أمة، فحرام أن تقال؛ لأنه محرم علينا الأذى، فلا يحل لمؤمن أن يؤذي مؤمناً ولو بنظرة شزراً، ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله )، وهانحن نرى كيف تنهش الأعراض والسب والتعيير والشتم، وكيف.. وكيف..، وسببه: ما عرفوا، وما علموا، وما تربوا في حجور الصالحين، فكيف يكملون ويسعدون بدون ما تربية؟!أقول للجماعات الثائرة في البلاد الإسلامية التي تطالب بالحكم والجهاد: إياهم أن يفهموا أن ثورة على حاكم تتسبب في القتل والدماء أنه جهاد في سبيل الله، فهذا -والله- ما هو بجهاد في سبيل الله، فالجهاد عند أهل العلم هو القتال بين المسلمين والكافرين.فلا يفهم أن الجهاد يتم بين فئتين من المسلمين، فالجهاد الذي هو سبيل الله يتم بين المسلمين والكافرين، إما المسلمون يدعون الكافرين لإنقاذهم وإسعادهم، وإما الكافرون اعتدوا وظلموا وأرادوا تمزيق المسلمين وإسقاط وجودهم، وبدون هذا المفهوم فلا جهاد في سبيل الله.فلا يكون جهاد في سبيل الله إلا إذا كان تحت راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لإنقاذ البشرية من الكفر والضلال وما يسببه الهمج من الشر والخبث والفساد، أي: من أجل أن يعبد الله عز وجل، وهذا جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمدة عشر سنوات ضد الكفار، فجهاد أصحابه صلى الله عليه وسلم لما خرجوا من الجزيرة بعدما فتحت، وارتفعت راية لا إله إلا الله، قاتلوا الكفار والمشركين من المجوس.فالذين يموتون في المعركة الدائرة بين المسلمين والكفار فهؤلاء يسمون بالشهداء، ولا يقال عنهم: موتى، ولا أموات، ويدفنون في ثيابهم، ولا يغسلون ولا يصلى عليهم، ومن جرح في المعركة وما مات فيها يجري عليه ما يجري على باقي المسلمين، لكن الذين يسقطون في الميدان، أولاً: يجب أن تقول شهداء، وحرام أن تحسبهم أمواتاً، بل هم أحياء، ولا يغسلون ولا يكفنون، ويدفنون بثيابهم ودمائهم، فهؤلاء المجاهدون هم الذين سقطوا في معركة دائرة بين المسلمين وبين الكافرين، ما عدا ذلك لا يوجد شيء اسمه جهاد في سبيل الله.فعلْموا الذين يطالبون بالحكم والحاكمية وهم يورطون أنفسهم ويورطون المسلمين، بأن هذا المسلك باطل وحرام، وإن أرادوا الفوز بالجهاد فليبايعوا إماماً في إقليم ما ويرفع راية لا إله إلا الله، ويقيم دين الله، وإن شئتم زوروا بلاده، تتجلى أنوار الإسلام والإيمان، العدل والإخاء، والمودة والحب والولاء، والطهر والصفاء، فهذا الإمام إذا حمل الراية وقال: نزحف إلى اليونان، ثم إلى إيطاليا، فإذا تجاوزناها نزحف إلى بلغاريا.. وهكذا، فليس من جهاد في الإسلام إلا هذا.ومن تململ وقال: كيف نُحكم بغير الشريعة؟ نقول له: هل هناك حاكماً ألزمك بأن تسب الله والرسول، فهل ستسبه؟ وهل هناك حاكماً قال لك: لو أراك تصلي لذبحتك؟أو لو رآك صائماً لسقاك السم حتى تفطر.. وإذا وجدك في بيتك أخرجك أنت وامرأتك، اخرجا لا نرى الإسلام ولا الحجاب، فهل حصل هذا؟! إذاً: فأين يجب الجهاد؟!فكيف تريدون الجهاد وأخلاق الأمة هابطة، فهناك التلصص والخيانة والكذب، والزنا الفجور، والربا والسفور، وأنتم تفكرون بالجهاد! وفي قدرتكم أن تطهروا وتعالجوا وتصححوا، فمثلاً: تأتي إلى أخيك وتضمه إلى صدرك وتقول له: أسألك بالله! ألا تقول هذه الكلمة مرة وأنت مسلم، أسألك بالله! ألا تقف غداً هذا الموقف في معصية كهذه، وهذا هو الطريق حتى نكون على علم.قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:169]، فسبيل الله هو الطريق الموصلة إلى رضا الله، والطريق الموصلة إلى رضا الله هو أن يعبد الله بما شرع، إذ هذه العبادة سرها تزكية النفس وتطهيرها، ومن زكت نفسه وطابت وطهرت لا يليق به العالم السفلي، ولكن العالم العلوي وهو الجنة دار السلام.
فضل الشهداء
قال تعالى: بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] أي: يأكلون ويشربون. فقد روى أبو داود بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ) وورد: ( في حواصل طير خضر ) والحواصل: الجيوب جمع حصيلة أو حوصلة. ( ترد أنهار الجنة -أي: لتشرب- وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقامهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله سبحانه وتعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل: وَلا تَحْسَبَنَّ ... [آل عمران:169] الآية ).فالشهداء في أحد لما وجدوا الحياة السعيدة والطعام والشراب والأنوار والنعيم، قالوا: آه! من يبلغ عنا إخواننا في الدنيا أننا ما متنا، إننا أحياء نرزق في هذا النعيم المقيم، فقال الله: أنا أبلغ إخوانكم، فقال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].قال: [مما ورد في فضل الشهداء: أن الله تعالى يغفر له كل ذنب أذنبه إلا الدين]، فهل الشهداء هم الذين سقطوا في مصر أو في الجزائر أو في العراق أو في الشام الذين يطالبون بالحاكمية؟! فالشهيد من وقع في معركة دائرة بين المسلمين والكافرين فقط، أما بين المسلمين فيما بينهم، فهذه الفتن وهذا البغي والعدوان والظلم والشر والفساد؛ نتيجة الجهل بالله وبمحابه ومساخطه.فالشهيد يغفر له كل ذنب إلا الدين، فأيما حق لإنسان عليك إن سقطت شهيداً فإنه لا يغفر لك، يطالب صاحبه يوم القيامة ويأخذ من حسناتك أو يضع من سيئاته عليك، فالدين يضاف إليه كل حق من حقوق المسلمين، فمثلاً: هذا صفعته، وهذا أخذت ماله، وهذا شتمته، فهذه الحقوق لا تغفر؛ لأن هؤلاء أولياء الله فكيف يتنازل الله عن أذى أوليائه وأنت واحد منهم؟ فلا بد وأن يأخذ كل ذي حق حقه، أما الذنوب دون الدين والحقوق ممحوة من أول دفعة.قال: [روى الترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له أول دفعة )] من دمه يخرج. ثانياً: [ ( ويرى مقعده من الجنة ) ] بمجرد ما تخرج روحه يشاهد مقعده من الجنة في قبره.ثالثاً: [ ( يجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر -يوم القيامة-، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه )]، فالذين ماتوا في فلسطين وفي كذا وكذا لا يأخذون شيئاً من هذا. فالآن إخواننا أيضاً ينتحرون، يلبس أحدهم حزام من متفجرات ويموت في سبيل الله!! فهل هذا سبيل الله؟! فسبيل الله هو الطريق الموصل إلى رضوان الله، وهو أن يعبد الرحمن وحده ولا يعبد سواه، وأن تسود شريعته بين عباده لتزكو البشرية وتطيب وتطهر.فما زلت إلى الآن والله! أطالب إخواننا الفلسطينيين.. بما أن العرب تخلوا عنهم والمسلمون، لو بايعوا إماماً لهم صالحاً وانحازوا إلى مكان ما وأخذوا يتجمعون ويعبدون الله ويتربون على حب الله وطاعته عاماً بعد عام، وإذا بهم أولياء الله، لا غش ولا حسد، ولا كبر ولا جهل، ولا شرك ولا ظلم، ولا باطل، سبع سنين أصبحوا أولياء الله، وحملوا راية لا إله إلا الله محمد رسول الله من أجل أن يعبد الله وحده، وأن يتابع رسول الله وحده دون سواه، وقالوا: الله أكبر، والله! لهرب اليهود وشردوا، يحولهم الله إلى بهائم ويعبدون الله عز وجل، وستتسع دائرة البلاد وينشرون الهدى والرحمة والخير، وجهاد متواصل لإدخال البشرية في رحمة الله. وهذا هو الجهاد. فلو قال قائل: يا شيخ! بالغت، ما ندري كيف نفهم هذا؟ نقول له: انظر إلى الشاشة أمامك تشاهد، كم إقليم استقل لنا ومات فيه رجالنا ونساؤنا؟! نيف وأربعون من إندونيسيا إلى موريتانيا، فلو كانوا -كما نعلم الآن- وعرفوا الله وأرادوا أن يعبد، فلما تستقل البلاد تلوح أنوار الهداية الإلهية في البلاد، تقام الصلاة، تجبى الزكاة، يؤمر بالمعروف، ينهى عن المنكر، يطبق شرع الله كما هو، لكن لما ما أرادوا هذا، أرادوا السلطة والحكم والمال فقط، والله ما أقيمت الصلاة في بلد، فهل هذا جهاد؟ وما هي ثماره ونتائجه؟ فهل عُبِدَ الله؟ الجواب: لا، فقد عدنا من حيث بدأنا، فلا بد للجهاد من أن يكون من أجل أن يعبد الله وحده.إذاً قال: [الإجماع على أن شهيد المعركة بين الكفار والمسلمين ألا يغسل ولا يصلى عليه؛ لحديث البخاري : ( وادفنوهم بدمائهم ) يعني شهداء أحد ولم يغسلهم، والعلة في عدم غسلهم: أن دمائهم -تأتي- يوم القيامة - أزكى من الطيب وأطيب من ريح المسك-].إذاً: قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، فهذا إخبار الله عن شهداء أحد لما دخلوا الجنة وقالوا: ( آه! من يخبر عنا إخواننا بأننا في هذا النعيم المقيم حتى يواصلوا الجهاد والصبر ولا يكلوا ولا يملوا ولا يكبحوا جماح القتال، قال تعالى: أنا أبلغ إخوانكم )، واستجاب وفعل، وهذا هو البلاغ.
تفسير قوله تعالى: (فرحين بما آتاهم الله من فضله...)
قال تعالى: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ [آل عمران:170]، آه! لو يلحق بنا أبناؤنا وإخواننا من المؤمنين، بمعنى: يصبروا على جهاد الكفار حتى يستشهدوا ويلحقوا بنا.قال: وَيَسْتَبْشِرُو نَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:170] إي نعم.
تفسير قوله تعالى: (يستبشرون بنعمة من الله وفضل...)
قال تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ [آل عمران:171] مرة ثانية بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:171] فأي نعمة أعظم من رضاه والجنة وما فيها؟ وأي فضل أعظم من ذاك النعيم المقيم؟أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنان وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش، وهكذا إلى يوم القيامة، فإذا جاء يوم القيامة والأجساد نبتت كالبقل في الأرض واكتمل الجسد ترسل الأرواح وتنزل، وكل روح لا تخطئ جسدها، وينفخ إسرافيل وإذا هم قيام ينظرون. وهنا يروي مالك بشرى وهي: ( أن نسمة المؤمن ) غير المجاهد..، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم -والموطأ قبل البخاري ومسلم أصح كتاب بعد كتاب الله، كيف لا وهو يروي عن أولاد الصحابة-: ( إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة ) أرواحنا أيها المؤمنون! لما تتم محنة القبر وفتنته ترفع إلى دار السلام وتبقى هناك في الجنة، تعلق في طير من الطيور يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه.إذاً: أرواح الشهداء أجل وأعظم من أرواحنا، وأرواحنا أيها المؤمنون نعم في هذه القناديل في شكل الطير وترعى وتعلق في أشجار الجنة، وتبقى هكذا حتى يبعثنا الله، أي: الأبدان، وتنزل الأرواح فتدخل في أجسادها.يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما نسمة المؤمن ) فالنسمة هي الروح، ولهذا إذا قال المؤذن: الصلاة على رجل وما عرفت هل الميت رجل أو امرأة، فماذا تقول؟ الجواب: تقول: اللهم إنها نسمتك بنت نسمتك، أنت خلقتها وأنت رزقتها.. إلى آخره، لا تسأل: هل هي ذكر أو أنثى، يكفي أن تقول: إنها نسمتك، ( إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة يأكل منه حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثون )، متى البعث هذا؟ لما تنتهي هذه الدورة، وهي أوشكت على النهاية.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
يقول المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين: [ معنى الآيات: ما زال السياق في الحديث عن غزوة أحد، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْسَبَنَّ [آل عمران:169] أي: لا تظنن الذين استشهدوا من المؤمنين في أحد وغيرها أمواتاً لا يحسون ولا يتنعمون بطيب الرزق ولذيذ العيش، بل هم أحياء عند ربهم يرزقون، أرواحهم في حواصل طير خضر يأكلون من ثمار الجنة ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش. إنهم فرحون بما أكرمهم الله تعالى به، ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين خلفوهم في الدنيا على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم لم يخافوا ولم يحزنوا لأجل ما يصيرون إليه من نعيم الجنة وكرامة الله تعالى لهم فيها.إن الشهداء جميعاً مستبشرون، فرحون بما ينعم الله عليهم ويزيدهم، وبأنه تعالى لا يضيع أجر المؤمنين شهداء وغير شهداء، بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ] الحمد لله أننا معهم.وأخرى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ( ما من عبد يسأل الله الشهادة في سبيل الله في صدق إلا وألحقه الله بالشهداء أو أنزله منازل الشهداء ولو مات على فراشه ).وأخرى: عمر بن الخطاب في الروضة في الحجرة، فوالله! إنه بها، فـعمر رضي الله عنه يدعو بدعوة تعجبت منها بنته حفصة أم المؤمنين بعد وفاة الرسول، يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك، فتعجب حفصة كيف يتم هذا؟ فحدود الجهاد في الأفغان، وفي الهند، وفي الأندلس، وكيف تكون الشهادة في المدينة والموت في المدينة؟! فليس معقول يا أبتاه! يقول لها: اسكتي، ما ذلك على الله بعزيز، فيسأل في صدق أن يموت في سبيل الله وفي المدينة أيضاً، عجب هذا السؤال، واستجاب الرحمن الرحيم، فقد طعن عمر في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنه أبو لؤلؤة المجوسي لعنة الله عليه. إذاً: قتله كافر بين المسلمين والكافرين؛ لأن أبو لؤلؤة يمثل حزب وطني ظاهر يريد أن يسحق الإسلام وأهله، فتنقل وبيع وجاء عبد وهو يحمل هذه المهمة، ومات عمر في المدينة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أكون له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة )، ومعنى هذا أننا نتكلف ونعمل على أن نتحمل حتى نموت بالمدينة.والذي يريد أن يموت في المدينة فهل يغني فيها ويزمر؟ ويجلس أمام التلفاز والعواهر يرقصن أمامه وأمام بناته وامرأته، ويبيع الحشيش، ويبيع ملابس السوء، يغتاب وينمم، ويأكل الربا ويفجر، فهل هذا له رغبة في المدينة؟ فهذا المدينة تنفيه، ( المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ) فيا من لا تستطيع أن تطيب وتطهر في المدينة ارحل، امش إلى ينبع أو إلى جدة، فهذه مكان القدس والطهر، لا تستطيع أن تبقى هنا.اللهم اكتب لنا ولهم موتاً في سبيلك وفي مدينة رسولك.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (71)
الحلقة (212)
تفسير سورة آل عمران (74)
بعد أن تمت أحداث أحد أخذ المسلمون الصابرون يلملمون جراحهم، وفي أثناء ذلك جاءهم الخبر أن المشركين عزموا على العودة للحاق بالمسلمين واستئصالهم، فما زاده صلوات الله وسلامه عليه ومن معه إلا إيماناً وتوكلاً على الله العزيز الحكيم، ثم نادى النبي في أصحابه للخروج لملاقاة المشركين، ولا يخرج معه إلا من خرج أول اليوم، فلما بلغ ذلك أبا سفيان ومن معه دب الرعب في قلوبهم، وخارت عزائمهم، وآثروا السلامة والاكتفاء بما حققوه، والعودة إلى مكة، وكفى الله المؤمنين لقاءهم.
تفسير قوله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، مع هذه الآيات المباركات. تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:172-175].معاشر المستمعين والمستمعات! هذا خبر من أخبار الله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172]، فالذين استجابوا لله والرسول -نسأل الله تعالى أن نكون منهم- هم كل من امتثل أوامر الله ففعلها واجتنب نواهي الله فتركها، وامتثل أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلها، واجتنب نواهي الرسول فتركها إلا ويدخل في هذه البشرى العظيمة، إلا أن هذه الآية نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا وقعة أحد، وهذه الاستجابة علمنا أن معركة أحد كانت يوم السبت وما كان المساء إلا ودخل الناس بيوتهم في مدينة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ومن الغد صباح الأحد يؤذن المؤذن: أنْ الجهاد.. الخروج إلى قتال أبي سفيان وجيشه، فإنهم قد عزموا العودة على قتالنا، والناس مثخنون بالجراحات، أتعاب لا تقادر، آلام لا تقدر، وما إن أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج المؤمنون ومنهم الجرحى، ومنهم كبار السن ومنهم ومنهم، إلا أن اثنين من بني الأشهل أخوان جريحان يحمل أحدهما الآخر فترة، ثم ينزله ويماشيه ويحمله وكذا إلى حمراء الأسد. الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [آل عمران:172] أي: أجابوا الأمر الذي طلب منهم، وهو الخروج إلى ملاحقة أبي سفيان وقتاله مع جيشه. مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172] والقَرح والقُرح: الجراحات وآلامها، والكروب والأحزان ومضارها على النفس.
فضل الإحسان والتقوى
ثم قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172] ألا وهو الجنة دار السلام، لا أجر أعظم منها، وفي نفس الوقت: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا [آل عمران:172] منا أيضاً، أحسنوا عبادة الله، فأدوها على الوجه الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ثَمَّ زكت نفوسهم وطيبت أرواحهم، أحسنوا في سلوكهم الخاص والعام، أحسنوا إلى إخوانهم ولم يسيئوا إليهم، فلفظ الإحسان عام وهو كما علمنا من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ثلث الإسلام، إذ الإسلام: الإسلام والإيمان والإحسان.وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان الإحسان: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) أي: تعتقد أنه يراك، ومعنى هذا: أن العبد إذا أخذ يتوضأ أو يغتسل، أو أخذ يصلي، أو أخذ يطوف ويسعى، أو أخذ يعبد الله ويتلو كتابه، ويذكر ربه، ويعبده وكأنه يرى الله، فإن عجز عن هذا المقام السامي فليعلم نفسه أن الله مطلع عليه وأنه يراه، وفي هذه الحال ثقوا بأنه يحسن العبادة، ويتقنها، ويجودها، ويأتي بها على أفضل وجوهها ومن ثَمَّ تكون النتيجة زكاة الروح وطهارتها.
تفسير قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ...)
فضل أصحاب رسول الله على غيرهم
ثم قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173]، إذ بعث أبو سفيان رجالاً وواعدهم بأن يعطيهم قناطير الزبيب على أن يأتوا إلى معسكر رسول الله ويكونوا كالطابور الخامس وينفثوا وينفخوا الهزيمة، فـأبو سفيان قد عزم على عودته إليكم وقد تأسف كيف يقاتلكم ويرجع ولم يثنيكم ولم يقتلكم، وهو برجاله في طريقه إليكم؟ أشيعت هذه في صفوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث أبو سفيان من عبد قيس من نفث هذه الروح الخبيثة. كيف كان موقف أصحاب رسول الله؟ كما قال الله تعالى عنهم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173] جمعوا رجالهم وقواتهم. لَكُمْ [آل عمران:173] أي: لتدميركم وقتالكم. فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] أي: ارهبوهم وخافوهم وانهزموا حتى لا تقتلوا. ما موقفهم؟ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:173] هذا الطابور الخامس بدل ما يشتت كلمتهم وصفوفهم وينهاروا ازدادوا إيماناً بأن الله معهم، وأنهم أولياؤه وهو وليهم، وأنه هازم أعدائه ومكسر قواتهم فقوي إيمانهم أكثر مما كان.
فضل كلمة: (حسبنا الله ونعم الوكيل)
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، (حسبنا الله ونعم الوكيل) فهذه الكلمة قالها إبراهيم الخليل عليه السلام عندما وضع في المنجنيق ودفع به إلى أتون الجحيم، قبل أن يصل عرض له جبريل: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. أول من قالها في البشرية قالها إبراهيم، أما إليك فلا حاجة لي إليك، حسبي الله ونعم الوكيل.والمتصوف الهابطون والضلال قالوا: إبراهيم قال: حالي يغني عن سؤالي، يعني ما نسأل الله، هو أعرف بي، وانتشرت هذه الكلمة الهابطة فكممت المؤمنين من الدعاء، بمعنى: لا تدعوا ربكم، والدعاء هو الدين، و( الدعاء هو العبادة )، من ترك دعاء الله كفر، مات، والله عز وجل يبتليك ليسمع دعاءك، فإذا قلت: ما أدعو لأنه يعرف حالي، كيف أدعوه؟ فهذه كلمة وضعها الشيطان، ونشرها الجهال تحت عنوان التصوف وعلم التصوف. أما إبراهيم فقد قال: حسبي الله ونعم الوكيل، وبلغتنا هذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( أول كلمة قالها إبراهيم: حسبنا الله ونعم الوكيل )، وما إن قالها إبراهيم حتى صدر أمر الله السامي إلى النار المتأججة الملتهبة، فقال: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] قبل أن يصل إليها؛ لأن المسافة بعيدة، أججوا النار من أربعين يوماً، فما يستطيعون أن يأخذوا بيد إبراهيم ويدفعونه إليها، جعلوه في منجنيق من مسافة بعيدة، وهو في الطريق قال تعالى يخاطب ناره وهو خالقها ومالك أمرها: يَا نَارُ [الأنبياء:69] قالت: لبيك رب لبيك. كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، لو لم يقل تعالى: (وسلاماً) لمات إبراهيم من البرد، برد لا تتصور ثلج ولا غير ثلج، لكن قوله تعالى: وَسَلامًا [الأنبياء:69] والله ما أتت ولا أحرقت منه إلا الكتاف الذي في يديه ورجليه فقط، وخرج وجبينه تتصفد عرقاً، وودع، وقال: إني مهاجر إلى ربي سيهدين. فهذه الكلمة قالها إبراهيم وقالها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوها أنتم: حسبنا الله ونعم الوكيل، الذي يوكل إليه أمورنا ونتركها له هو الذي يحفظها، هو الذي يقوم بها؛ لأنه الولي الحميد.حسبنا: يكفينا الله كل ما يهمنا، ونعم الوكيل: نطرح أمورنا إليه ونوكله بها، الحمد لله.
تفسير قوله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء ...)
وقوله تعالى: فَانْقَلَبُوا [آل عمران:174] (انقلبوا) هنا رجعوا، مشوا ووصلوا حمراء الأسد يومين ثلاثة ما جاء العدو قالوا: رحل، هرب أبو سفيان ورجاله، انقلبوا إلى المدينة راجعين. فَانْقَلَبُوا [آل عمران:174] مصحوبين بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:174] لا تقادر هذه النعمة ولا هذا الفضل. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174] لا في أبدانهم ولا في مالهم ولا في دينهم ولا في أعراضهم، عادوا بخير وعافية، كلمة سوء نكرة لتعم كل ما يسيء. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174] فأين الطابور الخامس الذي هدد؟ قال: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:174] اتبعوا ما يرضي الله وأطاعوا الله ورسوله، فكل طاعة لله والرسول هي طلب لرضا الله عز وجل، فكل من عصى الله والرسول طلب سخط الله -والعياذ بالله- واتبعه. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174].
تفسير قوله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه...)
ثم قال تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] فالشيطان يخوفكم بأوليائه، والشيطان إن كان جنياً من عالم الجن هو يوسوس للإنسان ويهزمه ويخوفه، وإن كان إنساناً فبالكلام كذاك الذي بعث به أبو سفيان . يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] أي: الشيطان يخوف أولياءه الكافرين والمشركين. فالشيطان أولياءه الكافرون ويخوف من أوليائه الكافرين، أبو سفيان وجيشه كفار، بعثوا هذا نعيم بن مسعود ، هذه القضية فيها كلام، بعثوا به ليقول لهم: إن أبا سفيان قد عزم العودة إليكم وقرر الرجوع إلى قتالكم، إذاً: الشيطان من الإنس خوف المؤمنين أولياءه أيضاً من الإنس وهم أبو سفيان ورجاله. (إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أولياءه) حذف الضمير. فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، فبالفعل ما خافوا أبا سفيان ولا جيشه، بل خافوا الله عز وجل فلزموا طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. نعيد تلاوة الآيات بعد هذا التبيين: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا [آل عمران:172-174] أي: رجعوا من حمراء الأسد، بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174]، أي: اتبعوا رضوان الله في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث غزوة أحد، وما لابسها من أمور وأحوال، والآيات الأربع كلها في المؤمنين الذين حضروا غزوة أحد يوم السبت، وخرجوا في طلب أبي سفيان يوم الأحد، وعلى رأسهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن يرفع معنويات أصحابه الذين كلُموا وهزموا يوم السبت بأحد] ومعنى (كلموا): جرحوا.[ وأن يرهب أعداءه، فأمر مؤذناً يؤذن -بأعلى صوته- بالخروج في طلب أبي سفيان وجيشه]، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أستاذ الحكمة ومعلمها، يتلقى معارفه من رب العالمين، ونحن مأمورون بالاقتداء به والائتساء، والله لو ائتسينا به ما ذللنا.قال: [ فاستجاب المؤمنون وخرجوا وإن منهم للمكلوم المجروح، وإن أخوين جريحين كان أحدهما يحمل أخاه على ظهره، فإذا تعب وضعه فمشى قليلاً، ثم حمله حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد]، وحمراء الأسد تقع وراء أبيار علي، والرجلان هم من بني الأشهل وما في ذلك شك.قال: [ وألقى الله تعالى الرعب في قلب أبي سفيان فارتحل هارباً إلى مكة، وقد حدث هنا أن معبداً الخزاعي ] وخزاعة حلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: [ إن معبداً الخزاعي مر بمعسكر أبي سفيان فسأله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ] أبو سفيان سأل: كيف عسكر محمد؟ [ فأخبره أنه خرج في طلبكم، وخرج معه جيش كبير، وكلهم تغيظ عليكم، أنصح لك - أبا سفيان - أن ترحل. قال: فهرب برجاله ] هذا الطابور النافع، وهذا تسخير الله عز وجل [ فهرب برجاله خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأقام الرسول صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد برجاله كذا ليلة، ثم عادوا لم يمسسهم سوء، وفيهم نزلت هذه الآيات الأربع. الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172] يريد في أحد، واستجابوا: لبوا نداء الرسول صلى الله عليه وسلم وخرجوا معه في ملاحقة أبي سفيان . لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172] ولكل من أحسن واتقى أجر عظيم، ألا ] فـ(ألو) بناتنا وأطفالنا يعرفونها، أما (ألا) لا يعرفونها؛ لأنهم ما يسمعون (ألا)، فلنصلح أحوال بيوتنا ونربي أولادنا وبناتنا على: (ألا فعلت كذا)، (ألا سمعت الله يقول كذا)؟ [ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172] ولكل من أحسن واتقى أجر عظيم، ألا وهو الجنة ] جعلنا الله من أهلها [ الآية الثانية: هي قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] المراد من الناس القائلين هم: نفر من عبد القيس مروا بـأبي سفيان وهو عازم على العودة إلى المدينة لتصفية المؤمنين بها في نظره، فقال له أبو سفيان : أخبر محمداً وأصحابه أني ندمت على تركهم أحياء بعدما انتصرت عليهم، وإني جامع جيوشي وقادم عليهم، والمراد من الناس الذين جمعوا هم: أبو سفيان ، فلما بلغ هذا الخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه زادهم إيماناً فوق إيمانهم بنصر الله تعالى وولايته لهم، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، الذي يكفينا ما أهمنا ونفوض أمرنا إلى الله. قوله: فَانْقَلَبُوا [آل عمران:174] أي: رجعوا من حمراء الأسد؛ لأن أبا سفيان ألقى الله الرعب في قلبه فانهزم وهرب، رجعوا مع نبيهم صلى الله عليه وسلم سالمين في نعمة الإيمان والإسلام والنصر. وَفَضْلٍ [آل عمران:174] حيث أصابوا تجارة في طريق عودتهم. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174] أي: أذى. وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ [آل عمران:174] بالاستجابة لما دعاهم الله ورسوله، وهو الخروج في سبيل الله لملاحقة أبي سفيان وجيشه.وقوله تعالى: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174] وما أفاضه على رسوله كاف في التدليل على الآية الرابعة. إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وذلك أن وفد عبد القيس آجره أبو سفيان بكذا حمل من الزبيب إن هو خوف المؤمنين منه، فبعثه كأنه طابور يخذل له المؤمنين إلا أن المؤمنين عرفوا أنها مكيدة، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] فنزلت الآية: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ [آل عمران:175] الناطق على لسان النفر من عبد القيس يخوف المؤمنين من أوليائه أبي سفيان وجمعه. فَلا تَخَافُوهُمْ [آل عمران:175] فنهاهم عن الخوف منهم وأمرهم أن يخافوه تعالى، فلا يجبنوا ويخرجوا إلى قتال أبي سفيان وكذلك فعلوا؛ لأنهم المؤمنون بحق رضي الله عنهم أجمعين].
هداية الآيات
كثيراً ما نعيد القول: كل آية تحمل هداية لمن آمن بها وفهمها وعزم على أن يعمل بما فيها، والله! لتهديه إلى ما فيه خيره وسعادته وكماله، يعني: أبسط ما يقول: ما من عبد يقرؤها إلا ويعطى على كل حرف عشر حسنات، بكل يسر وسهولة، والآية تهدي إلى صراط الله المستقيم، وتهدي إلى أن يعبد الله تعالى وحده بما شرع لعباده وبتلك العبادة يسعد العابدون ويكملون وينجون في الدنيا والآخرة، فآي القرآن ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل آية تهدي.وهناك لطيفة: فالآية في لسان العرب: العلامة. فمثلاً إذا قلنا: يا عدنان! أين ولدك عبد العزيز؟ قال: في المنزل. قلت: ما آية ذلك؟ أي: ما علامة أنه في المنزل؟ فيقول: كذا وكذا. فالآية بمعنى العلامة.فكل آية علامة على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ وهذه الآية أنزلها الله سبحانه وتعالى، فطأطأت الدنيا رأسها وسلمت بأن هذا القرآن أنزله الله عز وجل. إذاً: فالله موجود، عليم، حكيم، رحيم، أمر ألا يعبد إلا هو وأخبر ألا يوجد إله سواه، فكل آية دالة على أنه لا إله إلا الله، والذي نزلت عليه من بين الناس من دون العالم بأسره مستحيل أن لا يكون رسول الله.إذاً كل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ علامة على ذلك.قال: [ من هداية الآيات: أولاً: فضل الإحسان والتقوى وأنهما مفتاح كل خير]، فضل الإحسان والتقوى، فقد قرنهما الله عز وجل مع بعضهما البعض، والإحسان أن نتقن العبادة ونحسنها حتى تزكى أنفسنا، وأن نحسن في كل عمل نقوم به، حتى الخياط يجب أن يحسن خياطته، وحتى الطاهي للطعام يجب أن يحسن طهيه، وحتى مقلم أظفاره يجب أن يحسن قلمه.فالإحسان فريضة، ومن هنا رقى العالم الإسلامي وبلغ عنان السماء وهبطت البشرية كلها من باب الإحسان، ففي الجهاد، وفي الرباط، وفي القول، وفي القضاء، وفي الحكم، وفي العمل، وفي الفلاحة، وفي الزراعة، وفي السفر، وفي كل شيء، فتفوقت أمة الإسلام ثلاثة قرون، عرف العدو هذا فأهبطها بالكذبة. فمثلاً: عند الخياط تشتري ثوب خياطة سوق، يأتي المشتري ويقال له: هذه خياطة سوق، ويبيع له الثوب بعشرين ريال، والخياط يخيط بعشرين ريال فقط، فقيمة الخياطة عشرين والكتان مجاناً، يعني: أنه يعبث بالخياطة ويغش فيها حتى يلبسها الرجل يومين أو ثلاثة وتتمزق، وهذا لا يجوز وحرام عليه، ويجب أن يحسن هذه الخياطة حتى ولو باع الثوب ليهودي أو نصراني، وكذلك يجب الإحسان حتى في بناء العمارات وفي إصلاح السيارات، وحتى في كتاب الجوابات، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فسبب هبوطنا هو الجهل، أبعدونا أعدائنا عن نور الله فعشنا في الظلام أكثر من ألف سنة، فحسبنا الله ونعم الوكيل.قال: [فضل الإحسان والتقوى وأنهما مفتاح كل خير].فالتقوى حال تتقي بها غضب الله وسخطه وعذابه بأن تطيعه ولا تعصيه، فغضب الله يجلب العذاب والشقاء، فكل من أطاع الله ورسوله فيما يأمران به من أمور واجبة، وينهيان عنه من منهيات محرمة قد جعل بينها وبين غضب الله وقاية أفضل من وقاية الأسوار، فهذه إذاً هي التقوى.والتقوى أيضاً هي الخطوة الثانية في تحقيق ولاية الرحمن، يا من يرغب أن يصبح ولياً لله أفضل من عبد القادر والعيدروس ! آمن حق الإيمان واتقي الله وأنت ولي الرحمن؛ لقوله تعالى في بيان الأولياء: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63].[ ثانياً: فضل أصحاب رسول الله على غيرهم، وكرامتهم على ربهم ]؛ لقوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ... [آل عمران:172] الآية.[ ثالثاً: فضل كلمة: (حسبنا الله ونعم الوكيل) ] فهذه أربع كلمات، لكن يجوز إطلاق الكلمة على قصيدة كاملة. (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالها إبراهيم من قبل، فصلى الله عليهما وسلم أجمعين. ونحن نقولها، فكل من أصابته مصيبة أو ارتبك في شيء يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، يفوض أمره إلى الله عز وجل، ويوكل الأمر إليه، والله لن يخيبه.قال: [رابعاً: بيان أن الشيطان -عليه لعائن الرحمن- يخوف المؤمنين من أوليائه ]، فلو عزم العرب على أن يضربوا اليهود -هذا من باب المستحيل- لكن من باب الفرض والتقدير أن العرب تحركوا قالوا: إلى متى ونحن أذلاء لليهود؟ والله ليأتي الشيطان بأوليائه من الشرق والغرب ويأخذون في تخويفهم، أنتم كذا، هؤلاء يملكون الهيدروجين، يملكون الذرة، وراءهم أمريكا والعالم حتى يهزمهم، فلو حصل هذا لخوف الشيطان العرب أولياءه من الكفار، انتبهوا ترموا أنفسكم في جحيم؛ لأن الشيطان ماكر، وما زال يخوف أولياءه، أي: يخوف المؤمنين من أوليائه الكافرين الفاسقين حتى لا يقاتلوهم.[ بيان أن الشيطان يخوف المؤمنين من أوليائه -إذاً- فعلى المؤمنين ألا يخافوا غير ربهم ]، فلو خافوا ربهم ما عصوه، ما عطلوا شرعه، وما أوقفوا شرائعه وعطلوها، فأين الخوف من الله؟ قال: [ فعلى المؤمنين ألا يخافوا غير ربهم تعالى في الحياة، فيطيعونه ويعبدونه ويتوكلون عليه، وهو حسبهم ونعم الوكيل لهم ] إي والله! فمن يوقظ المؤمنين ويحرك ضمائرهم، ومن يجمعهم على كلمة الحق؟!جاءني طلاب من الإمارات مساء اليوم وقالوا: ما تقول يا شيخ؟ وهذا يقول كذا؟ قلت: هذا نسميه بأعراض المرض، فالإنسان إذا مرض يظهر المرض في جسمه إما اصفرار في عينيه أو عجز عن النطق، أو فيه ضعف عن الحركة والمشي يدل على مرض، أمة الإسلام مريضة، فلهذا هي دويلات وأحزاب ومنظمات وجماعات تتطاحن فيما بينها البين، في حين أنهم أمة الإسلام فقط، فالمسلم يجب أن يقول: أنا مسلم فقط، لا مالكي ولا زيدي ولا حنفي ولا.. ولا عربي ولا..، لكن مسلم، مرني بأمر الله أطيعه، انهني بنهي الله أنتهي، وقد سبقت طرق صوفية، فالقرية الواحدة فيها عشر طرق، فهذا يقول: أنت من إخوان سيدي فلان، وأنت من إخوان سيدي فلان، فإلى الله الشكوى.وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (72)
الحلقة (213)
تفسير سورة آل عمران (75)
ما حدث يوم أحد من إصابة المؤمنين كشف عن أمور خطيرة، حيث ظهر النفاق مكشوفاً لا ستار له، فحصل من ذلك ألم شديد للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، فخاطبهم الله عز وجل بألا يحزنوا لمسارعة هؤلاء المنافقين في الكفر؛ لأنهم بهذا لا يضرون الله عز وجل ولا رسوله ولا المؤمنين شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم بانكشاف حالهم في الدنيا، وما ينتظرهم من العذاب الأليم في الآخرة.
تفسير قوله تعالى: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً ...)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر جميعاً بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) فالحمد لله على إفضاله وإنعامه.ها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومع هذه الآيات الثلاث المباركات، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:176-178].معاشر المستمعين والمستمعات! هذه أخبار الله عز وجل وأخباره لا تحتمل إلا الصدق.قال تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176] فالمخبر هو الله، والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَلا يَحْزُنْكَ) قراءة سبعية، وقرأ ورش عن نافع : (يُحزنك) بضم الياء من أحزنه يحزنه، وفي كل القرآن اللهم إلا في آية واحدة قرأها كقراءة الجمهور: (يَحزنك) وهي قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُم ُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء:103]، وقرأ في كل القرآن: (يُحزِنك) بدل (يَحزُنك) وهما فعلان أحزنه وحزنه يحزنه، والحزن ألم نفسي، وغم يصيب النفس البشرية؛ لرؤية أو سماع المرء ما يسوءه ويكرهه. فإذا رأى الإنسان ما يكره وما يسوء أصابه الحزن، هم وغم باطن، سمع خبراً فيه إساءة حزن له وأحزنه.وهنا الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه يسلي نبيه صلى الله عليه وسلم ويخفف عنه آلامه، وأصحاب الرسول هم أتباع له في ذلك، ونحن أيضاً وكل مؤمن نستفيد من هذا. وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمران:176] وهم من المشركين كـأبي سفيان وجيشه، ومن المنافقين كـابن أبي ابن سلول وجماعته، وكاليهود المتواجدون في المدينة، الكل يسارعون في الكفر. أي: يا رسولنا! لا يحزنك هذا ولا تكرب ولا تغتم ولا تحزن؛ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:176] أي: لا يضروا الله لا في ذاته، ولا في علمه، ولا في حكمته، ولا في ملكوته، ولا في خلقه، أنى لهم أن يضروا الله؟ فلو يكفرون في كل يوم سبعين مرة ما يضر الله ذلك شيئاً، فمن هنا لا تحزن يا رسولنا ولا تكرب، وأنتم أيها المؤمنون لا يضركم كفر الكافرين ولا مسارعتهم إلى الكفر ولا دعواهم إليه؛ لأنهم لن يضروا الله شيئاً، ولو كفرت البشرية كلها فلن يتأذى الله بذلك. فقد كان ولم يكن شيء معه.وهذا يتسلى به من يكرب ويحزن لما يشاهد الكفر وأهله، ويشاهد الناس يسارعون إلى الكفر، ويجرون وراء الكافرين، ويدعون إلى الكفر، ويهيئون الناس لذلك؛ أهل الإيمان كرسول الله وأصحابه نعم يحزنون، فالله عز وجل يسري عنهم ويخفف وينفس، فيخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم ويقول: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمران:176] ويعلل لذلك بقوله: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:176] أي: من الضر، ومع هذا: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ [آل عمران:176] أي: عرف الله إصرارهم على الكفر، وعرف أزلاً وقديماً أنهم لا يريدون إلا الكفر.فمن هنا يريد الله ألا يجعل لهم نصيباً -وإن قل- في الآخرة، أي: يريد الله أن يحرمهم من نعيم دار السلام، فلهذا تركهم على كفرهم يسارعون فيه، ويدعون إليه في الليل والنهار ويقاتلون من أجله، فيريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الدار الآخرة، وحظ الآخرة هو الجنة دار النعيم، والآخرة يوم تنطوي هذه السماوات والأرضون ويتجلى عالمان آخران علوي وهو الجنة دار السلام، وسفلي وهو النار دار البوار، فإذا الله تعالى لم يرد أن يجعل لهم حظاً في الآخرة، أي: من نعيمها أصبحوا من أهل الجحيم والبوار في النار، وبعد: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176]؛ لأنهم كفروا ويسارعون بين الناس إلى إشاعة الكفر والدعوة إليه، كـابن أبي واليهود والمشركين.فالله تبارك وتعالى يخفف عن نفس رسول الله، وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176]، فلا يقادر قدره.
صور من عذاب الجحيم
ومن صور العذاب العظيم ما يلحق أبا جهل يوم القيامة، فقد كان يجلس في بيته ويوضع بين يديه الزبدة البيضاء وهي زبدة الغنم، وعجوة المدينة وهي من أغلى أنواع التمور، فيأخذ يأكل ويقول لأولاده وفيهم عكرمة رضي الله عنه: تعالوا نتزقم، فهذا الزقوم الذي يهددنا به محمد ويخوفنا، فنزل فيه قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:40-44] أي: المغموس في الآثام من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، لم يقل: آثم، وإنما قال: أثيم. كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:45-46]، المهل: وهو الزيت العكر الذي يغلي في آخر القدر. خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ [الدخان:47]، أي: الزبانية. وفي قراءة نافع (خذوه فاعتُلوه) بالضم. والعتل هو الدفع بقوة. إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الدخان:47] أي: إلى وسط الجحيم. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:48-49] أي: زيدوه عذاباً معنوياً ونفسياً، والعذاب المعنوي أشد ألماً على الكفار من العذاب المادي البدني. إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:50]، أي: تشكون وتضطربون. وهذه صورة من صور العذاب العظيم، فقد كان عرض أبي جهل في النار مائة وخمسة وثلاثين كيلو؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما بين كتفي الكافر في النار كما بين مكة وقديد )، والمسافة ما بين مكة وقديد مائة وخمسة وثلاثين كيلو، فهذا العرض، وأما طوله، فإن ضرس أبي جهل في النار كجبل أحد؛ ( إن ضرس الكافر في النار كجبل أحد )، وهذا يتلاءم مع عرضه المائة والخمسة والثلاثين كيلو.وأما العذاب المعنوي، فقد كان أبو جهل يتبجح في مكة ويقول: أنا العزيز الكريم، فقالوها له -أي: الزبانية-: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]؛ ليحرقوا قلبه، فقد كان يتطاول ويتكبر في الدنيا.إذاً: عذاب عظيم يصبون فوق رءوس الكفار الحميم فيصهر به ما في بطونهم.قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، أي: كلما نضجت الجلود تأتي بعدها جلود أخرى، لا فناء ولا موت -نعوذ بالله من عذاب النار-، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخطب في أمته ويقول لهم: ( تعوذوا من عذاب القبر وعذاب النار ).
تفسير قوله تعالى: (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً ...)
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ [آل عمران:177]، أي: اشتروا الكفر: أخذوه وأعطوا الثمن وهو الإيمان، فهؤلاء ارتدوا بعد إيمانهم، كالذين هربوا من المدينة والتحقوا بالكافرين. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ [آل عمران:177]، أي: أعطوا الإيمان وأخذوا الكفر، وهذا بيع وشراء ويفهمه العرب أكثر من غيرهم، كالذي أعطاه الدار وأخذ الدينار، يعني: باعوا إيمانهم بالكفر، واشتروا الكفر بالإيمان والمعنى واحد، وهؤلاء يتواجدون في كل زمان ومكان، فكم وكم ممن ينتسبون إلى الإسلام والإيمان وهم يخرجون أفراداً وجماعات! لا صلاة ولا صيام ولا ذكر الله، فهؤلاء يقول تعالى عنهم: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:177]، فلن يؤلمون الله بكونهم ارتدوا بعد إيمانهم، أو فسقوا بعد طاعتهم، أو فجروا بعد استقامتهم.وأخير ً: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:177] الأليم: المؤلم شديد الألم، والألم أيضاً يشعر به صاحبه ولا يطيقه ولا يقوى حتى على أن يصفه من شدته! وقوله تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176]؛ لأنهم سارعوا إلى الكفر وعجلوا، فعذابهم عظيم ما يقادر قدره، وهؤلاء اشتروا الكفر بعد أن عرفوا الإيمان ودخلوا فيه، ثم وارتدوا، فعذابهم أليم شديد.
تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ...)
قال الله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:178] سواء اليوم أو غداً أو إلى يوم القيامة، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:178] أي: كفروا بالله ولقائه، بالله ورسوله، بالله وكتابه، بالله وشرعه، بالله وصفاته، بالله وحقوقه الواجبة على عبيده، فهؤلاء: لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ [آل عمران:178] ونرخي الزمام، ونطيل العمر، ونوسع العيش، فإذا هم في عيش رغد وحياة سعيدة ينبغي ألا يحسبوا ولا يظنوا أنما هذا الإملاء خير لأنفسهم، فهذا ليس بخير لهم مطلقاً، بل هو شر لهم، وهؤلاء أيضاً علم الله في كتاب المقادير أنهم لا يتوبون ولا يرجعون، فزادهم في الرخاء والنعمة وطول العمر. قال تعالى: لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ [آل عمران:178]، أملى يملي: إذا أرخى الزمام وزاد في الأجل والعمر، إنما نملي لهم؛ لحكمة وهي: لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178]، والإثم: هو المهلك والموبق في أتون الجحيم. أملي لهم من أجل أن يزدادوا إثماً.قال تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، مهين: أشد من الأليم والعظيم، فتكسر أنوفهم ويذلون.
أثر ابن مسعود: (ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له)
وهنا لطيفة قال: شاهده قول ابن مسعود رضي الله عنه - وهو عبد الله بن مسعود الهذلي ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلاه رقيقتان، ضعيف البنية، ولكن يزن الدنيا وما فيها، فوالله! لو وضع في كفة ميزان، ووضعت الصين واليابان وأمريكا والمشركون كلهم لرجحت كفة عبد الله بن مسعود ! يقول: (ما من أحد -صيغة العموم- بر ولا فاجر..) البر: صاحب الصالحات، المغموس في الخيرات، المسابق والمنافس في الصالحات.والفاج : الخارج عن حدود الله عز وجل، يقال: تفجر الأنبوب إذا خرج الماء منه، فالطريق المستقيم الموصل إلى دار السلام الذي سألنا الله، بل علمنا الله أن ندعوه في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، الذي يصل بنا إلى الجنة، فالصراط المستقيم: هذا واجب افعله، وهذا حرام اتركه، ثم امش فيه فقط.فهذه كلمة طيبة قلها تملقاً إلى الله، وهذه كلمة خبيثة اتركها واهجرها تملقاً إلى الله كذلك، فأنت ما بين الأمر والنهي ماش، فإن فجرت -والعياذ بالله- وخرجت، فتركت الواجب وفعلت الحرام فهذا هو الفجور! إذاً: (ما من أحد بر وفاجر إلا والموت خير له)، هذه الصعبة! فمن الآن ما بقي حزن ولا كرب، فإذا جاء ملك الموت زغردنا!قال: إن كان براً -أي: بار-، فقد قال الله تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198] من هذه الدنيا وأوساخها وأموالها وكل ما فيها، فهذا إخبار من الله، وما عند الله من ذلك النعيم المقيم في جواره خير لكل بار، فمن هنا لا ينبغي الخوف من الموت.قال: وإن كان فاجراً، فقد قال الله تعالى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178] نرخي الزمام ونطيل العمر؛ لأجل أن يزدادوا إثماً فيعظم عذابهم وشقاؤهم الأبدي؛ لأنه لو أخذهم في أول مرة عذابه يكون أهون، فأهل الجنة يتفاوتون في نعيمها، وأهل النار يتفاوتون في عذابها وشقائها، فليسوا في مستوى واحد، وهاهو تعالى يعلل يقول: (إنما نملي لهم) في رغد العيش وطول العمر؛ ليزدادوا إثماً.فاستنبط من هذا البحر العلامة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما من أحد -يعني: من الناس- براً أو فاجر إلا والموت خير له)، فمن هنا المسلمون لا يحزنون ولا يكربون أبداً ولا يخافون من الموت، فقد كان إذا نودي: الله أكبر! حي على الجهاد يفرحون ويستبشرون، فـأبو دجانة كان أشد فرحاً.وعلل فقال: (إن كان براً فالله يقول: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، وإن كان فاجراً، فالله يقول: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178]) لا يموت الآن أفضل؛ حتى يزيد قنطاراً من المعاصي والذنوب.فإذا طابت النفس وطهرت تاقت إلى الملكوت الأعلى، مع أن فتناً كقطع الليل المظلم زاحفة زحفاً! فقد سمعت خبراً أن مجموعة من اللصوص أوقفوا سيارة بها نسوة ومعهن سائق لا سلاح معه، فأوقفوهن وقالوا: اخلعن الحلي التي معكن وإلا الموت، فنزعن الحلي، وقال لهن اللصوص: قولوا للشرطة: هؤلاء سعوديون ما وجدوا عملاً بطالون، فهم يفعلون هذا. فهل هؤلاء مؤمنون دخل الإيمان في قلوبهم؟ وهل عرفوا الله عز وجل، وعرفوا رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهل عرفوا أن رسول الله كان يشد الحجر على بطنه حتى يتماثل ويمشي من شدة الجوع! ولم يقل لأحد: جعت يا فلان؟! فالذي يفعل هذا الفعل ليس بمؤمن. فلا نلومهم؛ لأنهم ما عرفوا الطريق إلى الله، وما عرفوا الله عز وجل معرفة أثمرت لهم حبه ولا الخوف منه، فيجب علينا أن نعالج الموقف قبل أن يعظم، وندعوهم إلى بيوت الرب لنزكي أنفسهم، ولنعلمهم علماً يزيد في طاقة نورهم، فيعرفون الخير والشر والحق والباطل والفضيلة والرذيلة، أما تركهم كالبهائم فسيسطون علينا ويفعلون العجب.فكل الذي تشكوه أمة الإسلام في الشرق والغرب لمن الجهل، فإن كان ظلماً أو فسقاً أو فجوراً أو مكابرة أو شركاً أو باطلاً فمرده إلى الجهل؛ لقول الله تعالى في محكم كتابه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، أي: إنما يخاف الله من عباده العلماء.فمثلاً نقول: ابحث في قريتكم عن أعلمكم بالله تجده أتقاكم لله، أو ابحث في جماعتك، أو في موكبك، أو في مركز عملك، والله! ستجد أعلمكم بالله أتقاكم له، وأفجركم أجهلكم.فلهذا يجب أن يتعلم المؤمنون والمؤمنات، وطريق التعليم الذي سلكناه منذ خمسين سنة ما نفع؛ لأننا أفسدناه بكلمة الوظيفة، فيأخذ الرجل طفله للمدرسة ولا يقول له: تعلم لتعرف الله، وتعبده فيعزك ويرفعك. ولكن يقول له: تعلم لتكون كذا وكذا. فهل رأيتم رجلاً أخذ طفله للمدرسة، وقال: تعلم لتعرف الله، لتحبه، لتكون من أوليائه؟!وزادوا الطين بلة مع البنات أيضاً، فالبنت أيضاً يقال لها: تعلمي للمستقبل. فهذه فتاة اشتكاها أبوها؛ لأنها عند أمها المطلقة، فدعاني لأتوسط في الخير لتذهب البنت مع أبيها إلى الطائف وهي في المدينة، وفجأة تقول البنت: مستقبلي يا بابا! مستقبلي يا بابا! أي: كيف تمنعني وأنا في المرحلة المتوسطة؟ في طريقي إلى الوظيفة، تمنعني أنت من التعلم؟! قلت لها بإلهام من الله: هذه أمك تسمع -أمها معها- من أمك هذه إلى فاطمة الزهراء أو إلى عائشة أم المؤمنين والله ما توظفت امرأة! وعشن ومتن سعيدات، وأنتِ فقط: مستقبلي يا بابا! إذا ما تعلمت للوظيفة وتوظفت ضاع مستقبلك!!فالذي نفخ هذه الروح الشيطانية المنتنة العفنة هو الثالوث الأسود: اليهود والمجوس والنصارى، فحولوا التعليم إلى مادي بحت، فقلنا: هيا نترك هذا التعليم ونترك طالبيه فليطلبوه للدنيا المحضة، لا يقولوا: الآخرة، بل للدنيا، حولوه إلى مصانع ومزارع و.. و.. وماديات، وحسبنا أن يجتمع أهل الحي في مسجدهم، أهل القرية في قريتهم بنسائهم ورجالهم وأطفالهم من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وذلك كل ليلة وطول العام، بل وطول العمر يتعلمون الكتاب والحكمة، فإنها لا تمضي سنة إلا وتغيرت طباعهم، وتبدلت نفسياتهم، وأصبحوا ربانيين، فكيف إذا استمر أهل القرية والمدينة على هذا النمط من تلقي الكتاب والحكمة؟ سيصبحون كلهم كالشيخ ابن باز ، فهل سيبقى من يكذب، ويسرق، ويفجر، ويغش ويخدع؟ والله ما يبقى! فلا طريق غير هذا ولا وجود له، إما أن نسلك هذا المسلك، وإلا سوف نستقبل المستقبل بالويلات والمحن والمصائب، فلا طريق أيضاً للنجاة إلا هذا، أن يعرف الناس ربهم معرفة يقينية، توجد لهم حبه تعالى، وما يكره تعالى فيتملقونه بحب ما يحب، وكره ما يكره، فتأتي الولاية وحينئذ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يقول: من هم أولياؤك يا ربنا؟! فأجاب تعالى بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:64].حقق الإيمان وواصل التقوى وأنت ولي الله عز وجل، لا تخف إذا خاف الناس، ولا تحزن إذا حزن الناس، منفي عنك الخوف والحزن في الحياة الدنيا وفي البرزخ وفي يوم القيامة الدار الآخرة.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله لنا وله ولكم، ورحمنا جميعاً: [معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث غزوة أحد، ففي هذه الآيات الثلاث وقد كشفت الأحداث عن أمور خطيرة، حيث ظهر النفاق مكشوفاً لا ستار عليه، وحصل من ذلك ألم شديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. يخاطب الله تعالى رسوله قائلاً له: لا يحزنك مسارعة هؤلاء المنافقين في الكفر، وقال: في الكفر، ولم يقل: إلى الكفر، إشارة إلى أنهم ما خرجوا منه حتى يعودوا إليه -هذه لطيفة لغوية-، وقال: في الكفر، ولم يقل: إلى الكفر إشارة إلى أنهم ما خرجوا منه؛ لأن إسلامهم كان نفاقاً فقط. إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:176]، والله يريد ألا يجعل لهم نصيباً من نعيم الآخرة، فلذا تركهم في كفرهم، كلما خرجوا منه عادوا إليه، وحكم عليهم بالعذاب العظيم، فقال: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:176]، وهذا ما تضمنته الآية الأولى.أما الآية الثانية فقد تضمنت حكم الله تعالى على الذين يرتدون بعد إيمانهم فيبيعون الإيمان بالكفر ويشترون الضلالة بالهدى؛ حكم عليهم بأنهم لن يضروا الله شيئاً من الضرر ولهم عذاب أليم، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:177]، والعذاب الأليم هو عذاب النار، إذ لا آلم ولا أشد إيجاعاً منه أبداً.وأما الآية الثالثة فقد تضمنت بطلان حسبان الكافرين أن الله تعالى عندما يمهلهم ويمد في أعمارهم، ولن يعاجلهم بالعذاب أن ذلك خير لهم، لا! بل هو شر لهم، إذ كلما تأخروا يوماً اكتسبوا فيه إثماً، فبقدر ما تطول حياتهم يعظم ذنبهم وتكثر آثامهم، وحينئذ يوبقون ويهلكون هلاكاً لا نظير له، قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، أي: ذو إهانة؛ لأنهم كانوا ذوي كبرٍ وعلوٍ في الأرض وفسادا، فلذا ناسب أن يكون في عذابهم إهانات لهم].
هداية الآيات
قال: [من هداية الآيات: أولاً: لا ينبغي للمؤمن أن يحزنه كفر كافر ولا فسق فاسق]، فلنربي أنفسنا على أن لا يحزننا كفر من يكفر، ولا فسق من يفسق لِم؟قال: [لأن ذلك لا يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الكافرين والفاسقين بعدله ورحمته].إذاً: ادع إلى الله، وإن أبى الناس إلا الفسق والكفر فشأنهم، لا تحزن أنت أبداً، فلن يضروا الله شيئاً، وهمك أنت مولاك جل جلاله.[ثانياً: لا ينبغي للعبد أن يغره إمهال الله له، وعليه أن يبادر بالتوبة من كل ذنب، إذ ليس هناك إهمال، وإنما هو إمهال].فيا من زال جاثماً على كثير من كبائر الذنوب عجل، ولا تغتر بهذا الإمهال، فإنه إمهال وليس إهمالاً: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178].[ثالثاً: الموت للعبد خير من الحياة..]، سبحان الله! قال ابن مسعود : (ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له، إن كان براً فالله يقول: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، وإن كان فاجراً فالله يقول: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178]).إذاً: [الموت للعبد خير من الحياة براً كان أو فاجراًً؛ لأنه إذا كان صالحاً فالآخرة خير له من الدنيا قطعاً، وإن كان غير ذلك حتى لا يزداد إثماً فيوبق بكثرة ذنوبه ويهلك].هذا والله تعالى أسأل أن يجعلنا وإياكم ممن يحبون الدار الآخرة ويرغبون فيها، ويكرهون الدنيا ولا يحبونها.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (73)
الحلقة (214)
تفسير سورة آل عمران (76)
إن الإيمان ليس كلمة مجردة يتلفظ بها الإنسان والله عز وجل من سنته في عباده أن يمحصهم بالأوامر والتكاليف والمصائب والحروب، حتى يتميز المؤمنون الصادقون عن المنافقين الكاذبين، ومن أبواب الاختبار والابتلاء التي يتعرض لها العباد ما يأمرهم الله عز وجل به من بذل المال من زكوات ونفقات وصدقات وغير ذلك، فالمؤمن الصادق يعلم أن المال مال الله وهو مستخلف فيه، فينفق المال طيبة به نفسه، وأما المنافق فيعتقد أن المال ماله فيبخل به ظناً منه أن الخير له في حفظ ماله، ولا يعلم أنه شر محظ يطوق به يوم القيامة جزاء وفاقاً.
بدعة الاحتفال بذكرى المولد النبوي
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب ربنا عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).الحمد لله على توفيقه وإفضاله وإنعامه. معاشر المؤمنين والمؤمنات! بين يدي الدرس، أسر إلي هذا الطالب اللبيب، وقال: إن الليلة ليلة المولد، فنريد كلمة قبل الدرس، فأجبته: بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.وبعد: فالليلة ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، وهي الثلاثاء، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد يوم الإثنين، والشهور تزيد وتنقص، فهيا نحتفل بذكرى الحبيب صلى الله عليه وسلم. فيا أبنائي! يا إخوة الإسلام! يا مؤمنات! فوالله الذي لا إله غيره ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً نحتفل به في ذكراه! فهل نكذب على رسول الله؟ ونبتكر ونخترع عبادات وألوان من الطاعات؟ أعوذ بالله أن نقع في هذه الورطة! فلو نصمت دهراً طويلاً هل يقوم من يقول: افعلوا كذا وكذا؟ آالله أمر به؟ هل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم علمنا ذلك وأرشدنا إليه، ورغبنا فيه وحبذه إلينا؛ فننهض به ولو ننفق ما في جيوبنا؟ الجواب: والله! الذي لا إله غيره ما ترك لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيئاً، ولا ترك أصحابه ولا أولادهم ولا أحفادهم، ولا أئمة الإسلام الأربعة، ولا من بعدهم، ولا عرفوا شيئاً اسمه احتفال بالمولد النبوي.فهل نكذب ونبتدع؟! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، فهل يجوز لنا أن نقول: من أجلك يا رسول الله ابتدعنا بدعة؟! وهل عندنا وجه نواجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام؟! ولو انفتح باب الابتداع؛ لأصبحت نسبة الدين السليم الصحيح (1%) فكل عالم وكل مفكر وكل غني وكل ذي رغبة يبتدع، فأين الإسلام حينئذ، وبم يعبد الله؟! بم تزكى النفوس وتطهر من أجل النجاة من النار؟ معاشر المستمعين والمستمعات! غداً المولد النبوي، فماذا نصنع؟ وكم شاة نذبح؟! أو نذبح الدجاج؟! وإذا ذبحنا فلمن نقدم هذا الطعام؟! وكم ركعة نصلي؟! ننشد قصائد ما هي؟ فما الذي نفعل؟! الجواب: والله ما عندنا شيء، ما علينا إلا أن نذكره صلى الله عليه وسلم في كل أوقاتنا. وعورة أخرى نزيح الستار عنها من باب التعليم..فالذكري ات لا تكون إلا لأناس يموتون ولا يذكرون، ولهم فضائل ولهم كرامات، فلكي لا ينسوا من بين شعبهم أو أمتهم أو إخوانهم يقيمون له ذكرى سنوية! حتى يذكروه بخير، أما حبيبنا صلى الله عليه وسلم -نعوذ بالله أن ننساه سنة كاملة-، ونحن نسمع المؤذنون خمس مرات على المنارات: أشهد أن محمداً رسول الله، الإنس والجن والحيوان والكل يسمعون ويفهمون هذا.فلا نصلي ركعتين ولا العشرات من الركعات إلا ونسلم عليه وجهاً لوجه! بعدما نعظم الله بالتحيات اللائقة به، ونحن جالسون بين يديه تعالى نقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات، ثم نقول: السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، فهل ننسى هذا الذي نسلم عليه في كل يوم عشرات المرات؛ لتقام له ذكرى؟! آه! ماذا فعل بنا الثالوث.. فبدعة الاحتفال بالمولد النبوي عرفت في القرن الرابع، فقد مضت ثلاثة قرون ذهبية ليس فيها شيء اسمه مولد، ولما هبطنا حيث أبعدونا عن القرآن والسنة أوجدنا ذكرى المولد ائتساء بذكرى النصارى لعيسى عليه السلام، فهل نقتدي باليهود والنصارى أم نقتدي برسول الله؟! فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقم ذكرى لإبراهيم الخليل، ولا لإسماعيل، ولا لموسى الكليم، ولا لعيسى عليهم السلام. فما معنى ذكرى المولد؟! الجواب: إني أحمد الله على أن الله علمنا قبل أن نقع في هذه البدعة، وتركناها وابتعدنا عنها، فثلاثة أرباع الذين كانوا يساهمون في هذه البدعة قد انتهوا، وبقيت جماعات قليلة، نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم.فإن عدم الاحتفال بالمولد رسمياً أو غير رسمياً لن يضرنا في ديننا شيئاً، بل يرفعنا ويزيد في إيماننا -إن شاء الله-؛ لأننا تنزهنا عن البدع والضلالات.فما جعل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عيدين: عيد رمضان وعيد الأضحى، وعلمنا ماذا نقول، وماذا نفعل وكيف نصلي، ومن في نفسه شيء وما اطمأن يسأل أهل العلم، لكن لا يسأل الذين تعودوا على هذه البدعة، وأصبحوا يدعون إليها، ويحضون عليها! يسأل أهل العلم البصراء العارفين بالكتاب والسنة.
تفسير قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ...)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:179-180].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اسمعوا هذا الخبر الإلهي، يقول تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ [آل عمران:179] ليس من شأنه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [آل عمران:179] أي: بدون امتحان، ولا اختبار ولا حرب ولا سلم ولا تكليف، ما كان من شأنه أن يفعل هذا حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179].فقد قرئ: (يميِّز) قراءة حمزة، ويمِيز، مازه يميزه إذا ميزه واشتهر به. فليس من شأن الله -وهو العليم الحكيم- أن يترك المؤمنين يدعون الإيمان على ما هم عليه بدون امتحان واختبار؛ يميِّز به الخبيث من الطيب والكافر من المنافق، والصالح من الطالح.وهذا كمسح دموع المؤمنين في غزوة أحد -وهي آخر أحداثها-، فذكر الله تعالى لهم السبب الذي من أجله أوجد هذه الحرب ودارت، وحدث الذي حدث؛ وذلك من أجل أن يميز الله الخبيث من الطيب، ففي الطريق رجع ثلاثمائة نفر، فلو ما كانت هذه الوقعة لما تميز المنافق من المؤمن، فالمنافقون يقولون: أنهم مؤمنون، ويتبجحون ويقولون: نحن أفضل منكم. فالذين انهزموا وهربوا شاردين، كيف يظهر ذلك فيهم لولا وجود هذه المعركة والهزيمة؟!
حكمة إظهار المؤمن الصادق من الكاذب
قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [آل عمران:179] أيها الأصحاب! حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179].وهذا عام، واقرءوا له: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2]، وهذا الحسبان باطل، فلو كان العبد ما يفتن في الإيمان ما اختبره الله عز وجل وابتلاه، ولا يملك هذا الاختبار والابتلاء إلا الجبار عز وجل.فهذا يبتليه بالفقر وفجأة يفقد كل شيء، ينظر: هل كان مؤمناً وبقي على إيمانه أم أصبح يسرق ويفجر؟! وهذا كان عزيزاً فيذله امتحاناً له، هل سيصبر ويرجع إلى الله ويثبت على قرع بابه أو ينتكس، وهذا الفقير يصب عليه المال، فينظر: هل سيصبح يشيش ويتبجح بالباطل أم سيأكل كما يأكل المؤمنون؟! وهكذا لا بد من الاختبار، وإلا كل سيقول: أنا مؤمن.
الحكمة من استئثار الله عز وجل واختصاصه بعلم الغيب دون خلقه
قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]، فالله عز وجل أوجد وقعة أحد قبل أن يوجد العالم بكل خيوطها ونسيجها، وعلم ذلك وكتبه، لكن لم يطلع عليه أحد؛ لأنه للامتحان والاختبار. فقوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ [آل عمران:179] أي: ليس من شأنه جل جلاله أن يطلع أحداً من خلقه على الغيب، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:179] أي: يختار من يشاء ويخبره بالغيب ويطلعه عليه. فمن ادعى علم الغيب من غير الرسل فقد كفر، ووجب قتله بعد أن يستتاب ثلاثة أيام، فادعاء علم الغيب كفر بالله عز وجل؛ لأنه كذب الله عز وجل أبشع تكذيب.ولطيفة أخرى: إذا كان مولاك يخفي أموراً لصالح حياتك أيجوز لك أن تفتش عنها وتظهرها؟ فالله سبحانه وتعالى يخفي هذا لأجل أن تنتظم الحياة وتسير إلى نهايتها، وأنت تريد أن تطلع عليها؛ لتقف الحياة وما فيها؟! فلهذا كل من يدعي الغيب يلعن، ويدعى إلى المحكمة ويستتاب، فإن لم يتب يقتل ويموت على الكفر.والرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يطلعه الله على غيب فلن يعلمه؛ إذ قال: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188] وهذا رسول الله. قال له: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188]، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بهذه الحادثة لما كسرت رباعيته وشج وجهه، ولم يقتل عمه حمزة . قال: وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]، ومع هذا عاشت أمة الإسلام قرون، وادعاء علم الغيب عجب عجاب، فالعجوز العمياء تدعي الغيب وتأخذ المال، والجاهل المركب بجهله يربط بين عودين أو خشبتين ويدعي الغيب، فيأخذ بمسمار ويفعل كذا، فلا إله إلا الله! كأننا لسنا بالمسلمين. وما كان هذا إلا بمؤامرة الثالوث الأسود، وما يبرح يحتال حتى يسوي بيننا وبينه إلى جهنم، ثم يزغردون ويولولون، أما أن يبقى المسلمين مرتفعين وأملهم في دار السلام أقوى فلا يريدون؛ فلهذا ينشرون الخبث بوسائط عجيبة، ويعملون ليلاً ونهاراً على نشره.
ثمن الجنة الإيمان والتقوى
إذاً: قوله تعالى مخاطباً المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179]، ولم يقل: ورسوله فقط؛ لأن الإيمان بالرسول فقط لا ينفع؛ ينفع الإيمان برسل الله عز وجل أجمعين، من لم يؤمن برسول فقط من مائة وأربعة وعشرين ألف نبي فليس بمؤمن، فقد كفر اليهود؛ لأنهم كذبوا بعيسى، وكفر النصارى؛ لأنهم كذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع أن اليهود آمنوا بكل الرسل إلا عيسى، والنصارى آمنوا بموسى وهارون وزكريا وعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179] ثم قال تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:179] فمجرد إيمان لا يكفي، وهذه آية تحقيق الولاية.فمن يريد أن يكون كـعبد القادر الجيلاني ؟! وكمولاي إدريس في المغرب؟! كـالعيدروس في حضرموت؟! لا نريد الولاية. إذاً: لا يوجد من هو طلق: ليس ولياً لله ولا ولياً للشيطان، فإما أن تكون ولياً لله أو أنت ولي للشيطان، فمن يقول: ما أنا بولي لله ولا للشيطان، فلا يعقل، إما أن توالي الله بالإيمان والتقوى، وإما أن توالي الشيطان بالكفر والطغيان والعصيان.لعل بعض -السامعين- ما زالوا يفهمون أن الولي ذاك الذي يظهر الله على يديه الكرامات، فإذا السماء صحو يرفع يديه: أمطري يا سماء! دقائق والأودية تسيل! وما زالوا أيضاً يفهمون أن الولي ذاك الذي يقول: العام الآتي ستلد امرأتك ولد وسمه باسمه! فهل أصحاب الكرامات هم الأولياء؟!فلا ولي ما زال حياً إلا إذا كان دجالاً يدعي الغيب ويكذب! أما ولياً بمعنى الكلمة لا يذكر إلا إذا كان ميتاً.وأكرر القول: فمن يذهب إلى كراتشي ويجيد لغة الكراتشيين، ويلتقي بأول من يلتقي به عنده نزوله من المطار يقول: أنا جئت من بلادنا لأزور ولياً من أولياء كراتشي، فوالله ما يأخذ بيده إلا إلى قبر، ولا يفهم أن كراتشي ذات المليون نسمة بينهم ولي في السوق ولا في المسجد!فمن قال: أولئك عجم، فهناك مثلاً في القاهرة، بلاد الأزهر والعلوم والمعارف، زر قرية من القرى، وقل: أنا قدمت إلى دياركم لأزور وأتبرك بولي من أولياء الله عندكم، فلن يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن القاهرة المعزية فيها ولي يبيع ويشتري! أو هو في السوق أو المسجد. وقل هذا حيث شئت، ولكن فقط الذين شهدوا هذه الدروس عرفوا، لو تلقى واحداً منهم والله ما يدلك على قبر. لطيفة: ما السر في أن أعداء الإسلام حصروا الولاية فقط في من مات؟ الجواب: السر أنهم فصلونا عن ولاية الله؛ ليزنوا بنسائنا وبناتنا؛ ليسلبوا ويسرقوا أموالنا؛ لينهشوا ويهتكوا أعراضنا؛ ليتكبروا علينا؛ ليحسدونا؛ ليشيع الظلم والخبث والشر بين المسلمين، وقد فعلوا ونجحوا.معشر المستمعين! فهذه بربرية، فالولي عندنا أيام الظلمة! والولي ما تستطيع أن تقول فيه كلمة، فلو تسب ولياً كفرت! من يستطيع أن يقول: سيدي عبد القادر كذا؟! تقديساً أكثر من تقديس الله! ينقلون المرضى إلى أضرحتهم، يعفرون وجوههم بترابهم، ويرحلون إليهم من المغرب إلى بغداد؛ لأجل زيارة الولي عبد القادر ، وينذرون لهم النذور، فهذه الشاة لسيدي عبد القادر ، تأليه كامل!! كيف تورطوا في هذه؟العدو الثالوث هو الذي حصر الولاية في من مات! والأحياء كلهم أعداء الله، افجر بنسائهم، كل أموالهم، سب اشتم -لعلي واهم- والله مجالس يجلسون يسبون ويشتمون ويعيرون: فلان وفلان، ما تركوا عالماً ولا حاكم ولا عبد صالح، موجة عارمة؛ لأنهم غير أولياء الله!فولي الله من يقوى على أن يمسه بسوء؟ والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، والحديث في صحيح البخاري، ( من آذى لي ولياً فقد آذنته ) أي: أعلنت الحرب عليه، عرف هذا أجدادنا وأسلافنا ولكن ما عرفوا من هو الولي؟الولي الذي قالوا: هذا ولي الله! وعبدوه، أما ولي في السوق يبيع ويشتري، في المزرعة يفلح ويزرع فليس هذا بولي!وقد قلت تقريراً لهذه الحقيقة: كنت جالساً مع شيوخ وأنا طفل صغير، تحدثوا. قالوا: فلان إذا زنى وعليه جنابة الزنا لا يمر بالشارع الفلاني حتى لا يمر بسيدي فلان! والله العظيم! يفجر بامرأة مؤمن، يفسد عرضه وحياته يلطخها، ولا يخاف الله عز وجل، ويخاف أن يمر بجنابته على ضريح وقبر سيدي فلان! فهذا هو الجهل المركب، وهذا هو الجهل الذي بذر بذرته الثالوث يوم أن صرفونا عن كتاب الله، وحولوه إلى المقابر.. صرفونا عن الحديث وحولوه إلى التبرك.. عمَّ الظلام وهبطت الأمة، واستعمرت واستغلت وتجاهلت ودخلت في البلاء وإلى الآن ترزح.
وجوب العودة إلى الكتاب والسنة لمحاربة الجهل
فما الحيلة إذاً لإنقاذ أمة الإسلام، فالجهاد كلمة باطلة مسمومة عبث، كيف تجاهد؟! بمن تجاهد؟! فهذا لا ينفع، فماذا نصنع؟الجواب: نسلم لربنا قلوبنا ووجوهنا. ما تستطيع. إذاً: كيف تجاهد؟! هيا نسلم قلوبنا ووجوهنا لله، كيف نسلم قلوبنا ووجوهنا؟! هل نعطي الله وجوهنا وقلوبنا؟! نعم، فقلبك لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، ووجهك لا تقبل به على أحد، تسأل ولا تطلب ولا تأمل ولا ترجو إلا الله. والطريق سوف تموت هذه الدعوة، فلن ننساها ما دمنا نتكلم، وإني والله! لعلى علم، إن أراد المسلمون في أي مكان كانوا، سواء كانوا عرباً أو عجماً .. في الحضر أو في البدو.. إذا هم قالوا: هيا نسلم لله قلوبنا ووجوهنا، ثم إذا دقت الساعة السادسة مساء، عندما يقف العمل في العالم يتوضئون ويتطهرون، ويحملون أطفالهم ونساءهم إلى بيت ربهم، إلى المسجد الجامع الذي يتسع لكل أفراد الحي أو القرية، ولا يتخلف إلا مريض أو ممرض، أما الخوف قلا خوف، يحضرون حضورنا هذا، ويصلون المغرب، ثم يجلس لهم العالم بالله ومحابه ومساخطه، ليلة آية يتغنون بها ويحفظونها، ويفهمون مراد الله منها، ويعزمون على تطبيق ما أمروا به ودعوا إليه، ويعودون في قناعة وبنفوس مطمئنة هادئة، لا شرس ولا طمع ولا.. ولا.. قانعين يرددون تلك الآية، ويذكرون تلك الأحكام، وكلهم عزم على تطبيقها، ويرى الرجل امرأته تطبقها، وترى المرأة رجلها يطبقها.. وهكذا. غداً حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الكتاب والحكمة، وهكذا ليلة آية وأخرى حديث طول العام، فسيصبح أهل القرية علماء، وإذا علموا فلن يعصون الله، فهل رأيتم عالماً يفجر ويسرق ويكذب؟ فكل المنكر والباطل من الجهل والجهال، وحينئذ تصبح تلك البلاد كلها لله تعالى أولياء، وحينئذٍ إذا أرادوا أن يجاهدوا كلهم مستعدون، فهذا هو الطريق، ولو كان هناك طريق يأخذ بأمة الإسلام إلى أن تعود إلى قيادتها وسيادتها وطهارتها وكمالها فوالله! ما نجحده ولو تقطع رقابنا! ولكن لا وجود إلا هذا، فهذا امتحان كما جاء في الآية، (ليميِّز): هل نحن حقاً مسلمون أم لا؟ فكيف نعجز إذاً على أن نجتمع في بيت ربنا، ونبكي بين يديه طول العام؟ ومن قال: نعطل أعمالنا ونوقف متاجرنا ومقاهينا؟ قلنا له: هؤلاء الكفار إذا دقت الساعة السادسة في أوروبا أو في أمريكا أو في الصين يقف العمل، اقتدوا بالكفار! أو نحن ما نستطيع؟ لأن الشياطين لا تريد أن نسمو أو نرتفع أو نعلو، تريد أن نبقى مكبلين مقيدين.
شرطي تحقيق الولاية
قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]، فهذا الأجر العظيم لا يقدر قدره.أولاً: الطهر والصفاء والكمال والراحة والسعادة في الدنيا.وشيء آخر أعظم: جوار الله في الملكوت الأعلى، والخلد في دار السلام، وهذا الأجر العظيم، وهذا الجزاء مقابل إيمان وتقوى! أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63].فالذي لا يعرف محاب الله ولا مساخطه فلا يستطيع أن يتقي الله، ولا يعرف ما يحب الله من الاعتقاد والقول والعمل والصفة والذات لا يستطيع أيضاً أن يتقي الله، وكيف يتقيه وهو ما يعرف فيما يتقيه؟ فمستحيل أن يزني الزاني وهو يعرف الله رسوله ويعرف كيف يعبده. أدركنا رجل من أهل المدينة يبول في ثيابه في باب الرحمة، سيدي كامل، ويتمسحون به، هذا ولي الله، أعوذ بالله! الذي يبول على ثيابه ولا يصلي ولا يصوم فهل هذا ولي الله؟! ويدخن أيضاً ويعلمهم التدخين للبركة!فولاية الله تتحقق بشيئين اثنين لا ثالث لهما:أولهما: الإيمان الصحيح الذي إن عرضته على القرآن وقع عليه، أو أتيت عالماً بالقرآن قلت له: أعرض عليك إيماني هل صحيح أم لا؟ يقول: نعم، أنت المؤمن، لا دعوى: أنا مؤمن.ثانياً: التقوى، وهي خوف من الله يحملك على ألا تعصيه، لا بترك واجب ولا بفعل حرام، ولا يمكنك أن تعرف الواجبات وكيف تؤديها في أوقاتها وكمياتها وكيفياتها، وتعرف المحرمات وكيف تتقيها وأنت لا تعلم، فهذا مستحيل! فلهذا لن يكون جاهل ولياً لله مطلقاً.ما اتخذ الله ولياً جاهلاً إلا علمه، وهذه كلمة سليمة، يعني: إذا أرادك ولياً يعلمك بجعلك تبحث وتسأل العلماء وتحفظ ما تسمع وتطبق ما تتعلم؛ حتى تبلغ درجة الولاية. أما جاهل لا يعرف كيف يتبول ولا يعرف كيف يتنزه من البول فهل هو ولي الله؟! فإلى العلم.. مشغولون ما عندنا.. فهذا الاعتذار باطل، فقط من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء في مسجد الحي، فالكل يسكنون في أحياء، يتفقوا أهل الحي على أن يجلسوا بنسائهم وأطفالهم في جامعهم كل ليلة، ويطلبوا ويبحثوا عن عالماً ويأتوا به ويتعلمون منه، فلا يكلف هذا الارتحال والسفر، ولا يكلف أيضاً القراءة والكتابة.
تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله خيراً لهم ...)
ثم قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:180] أي: من المال، وهذه الآية في الجهاد، والجهاد بالمال أولاً والنفس: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [التوبة:41].قال تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10] ما هي؟ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11].فقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ [آل عمران:180] أي: يظنن الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [آل عمران:180] ويمنعون الحقوق الواجبة في أموالهم من الزكاة والنفقات والصدقات أن هذا البخل خَيْرًا لَهُمْ [آل عمران:180]، لا والله! بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180]، أخبر بهذا الله العليم الحكيم، بل هو شر لهم وليس بخير؛ لأن المال يورث الطغيان، فإذا ما سلكت مسلك الرشد معه أطغاك، فكثير من الأغنياء لا يزكون، فقد كانوا يزكون أيام ما كانوا فقراء، عندما كانت الزكاة مائة ريال أو ألف ريال، فلما أصبحت زكاتهم مليوناً بخلوا ولم يزكوا.
البخل بالمال شر ووبال على صاحبه
قال تعالى: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180] انظر. فقال: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180] والطوق يضع في العنق وهنا الطوق من جهنم، فالأموال تجمع وتلصق في العنق طوقاً، وأعظم من هذا ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه -يعني: شدقيه-، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، أنا مالك، أنا كنزك، وقرأ صلى الله عليه وسلم: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180] ). وآية التوبة: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34] متى؟ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة:35] ويقولون لهم: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35].فلهذا القرية أو المدينة التي صلحت ما بقي فيها من يمنع الزكاة ويمنع الصدقة، لكن قبل الإسلام، وقبل ما القلب والوجه لله، وقبل الولاية والعلم لا يستطيعون، وما يقدرون، فسبحان الله العظيم! وأخيراً يقول تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:180] فلما لم تنفق يا عبد الله! هل هذا المال سيبقى لك إلى يوم القيامة؟! سيرثك الله، فالله يورث امرأتك وابنك، ويرث الكل.إذاً: فمن الخير ألا تمنع ما أوجب عليك، أده وأنت مرتاح النفس، وكانوا يجاهدون بالمال، والآن -الحمد لله- المال لا تحتاج إليه الحكومة، لكن لو شاء الله وقالوا: نريد أن نغزو العدو الفلاني! فهنا يمتحن المؤمنون بالمال. فهذا يخرج بنصف ماله، وهذا بربعه، وهذا يقول: ما عندنا، وهذه محنة لا بد منها؛ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ [الأنفال:37].قال تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180] أي: بأمورنا الظاهرة والباطنة كلها بين يدي الله، فهو خالقها وكاتبها في كتاب المقادير! وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (74)
الحلقة (215)
تفسير سورة آل عمران (77)
الإيمان بالله عز وجل وتصديق رسوله هو سبيل العبد لدخول الجنة والفوز بالنعيم المقيم، وهذا الإيمان لا يكفي فيه النطق باللسان وإنما لابد من الإتيان بالدليل على صدقه واليقين به، وذلك بالصبر على البلاء، ومقاتلة الأعداء، والإنفاق في سبيل الله في السراء والضراء، فمن فعل ذلك فقد أثبت صدق إيمانه، واستحقاقه لعفو ربه ورضوانه، والفوز بنعيمه وجناته.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).وها نحن ما زلنا مع الآيتين الكريمتين واللتين شرعنا في تفسيرهما الليلة الماضية، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:179-180].
شرح الكلمات
مفردات هاتين الآيتين الكريمتين كما في التفسير. قال:[ شرح الكلمات. (ليذر) معناه: ليترك.(يمِيز) قال: بمعنى: يميِّز ويبين الفرق بين الشيء والآخر.(الخبيث من الناس): من خبثت نفسه بالشرك والمعاصي، وخبثت ضد طابت وطهرت.(الطيب من الناس): من طهرت نفسه بالإيمان والعمل الصالح].إذاً: النفس تخبث بالشرك والمعاصي، وتطيب وتطهر بالإيمان والعمل الصالح.[(الغيب): ما غاب فلم يدرك بالحواس، لا بالسمع ولا بالبصر ولا بغيرهما، ذاك هو الغيب ما غاب عنك فلم تدركه بحواسك. (يجتبي) أي: يختار ويصطفي وينتقي.(يبخلون) معناها: يمنعون ويظنون. والمنع والظن هو البخل.(يطوقون) أي: يجعل طوقاً في عنق أحدهم]. هذه هي المفردات.
معنى الآيات
وأما معنى الآيتين الكريمتين كما هما في الشرح المبين.قال: [ معنى الآيات: ما زال السياق في أحداث وقعة أحد -الوقعة والواقعة بمعنى واحد- وما لازمها -أي: تلك الواقعة- من ظروف وأحوال مرت بنا وعايشناها.فأخبر تعالى في هذه الآية الأولى أنه ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه، ففيهم المؤمن الصادق في إيمانه، وفيهم الكاذب فيه وهو المنافق، -المجتمع كان خليطاً في أيام الهجرة إلى المدينة- بل لا بد من الابتلاء والاختبار والامتحان بالتكاليف الشاقة، ومنها الجهاد والهجرة والصلاة والزكاة]، وهذه التكاليف فيها مشقة، ومشقة الجهاد واضحة، ومشقة الحج والهجرة أيضاً واضحة، ومشقة الصلاة في المحافظة على أوقاتها بتلك الدقة أيضاً مشقة.[وغير الشاقة من سائر العبادات حتى يميِّز المؤمن الصادق وهو الطيب الروح من المؤمن الكاذب، وهو المنافق الخبيث الروح].قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] وقد فعل. وأحداث وقعة أحد هي التي بينت. قال: [وذلك أن الله لم يكن من سنته في خلقه أن يطلعهم على الغيب، فيميِّز المؤمن من المنافق والبار من الفاجر، وإنما يبتلي بالتكاليف ويظهر بها المؤمن من الكافر، والصالح من الفاسد، أو ويظهر هو تعالى بها المؤمن من الكافر والصالح من الفاسد.إلا أنه تعالى قد يجتبي من رسله من يشاء، فيطلعه على الغيب، ويظهره على مواطن الأمور، وبناء على هذا: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179] حق الإيمان، فإنكم إذا آمنتم صادق الإيمان واتقيتم معاصي الرحمن كان لكم بذلك أعظم الأجر وهو الجنة دار الخلود، دار الحبور والسرور]، وهذا ما دلت عليه الآية الأولى [أما الآية الثانية فإن الله تعالى يخبر عن خطأ البخلاء الذين يملكون المال ويبخلون به، فيقول: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ [آل عمران:180] من المال الذي تفضل الله به عليهم أن بخلهم به خير لأنفسهم كما يظنون، بل هو -أي: البخل- شر لهم؛ وذلك لسببين: الأول: ما يلحقهم في الدنيا من معرة البخل، وآثاره السيئة على النفس.والثاني: أن الله تعالى سيعذبهم به، بحيث يجعله طوقاً من نار في أعناقهم، أو بصورة ثعبان فيطوقهم، ويقول لصاحبه: أنا مالك، أنا كنزك، أنا مالك، أنا كنزك -كما جاء في الحديث-؛ فعلى من يظن هذا الظن الباطل أن يعدل عنه، ويعلم أن الخير في الإنفاق لا في البخل، وأن ما يبخل به هو مال الله وسيرثه ويورثه غيره، ولم يجن البخلاء إلا المعرة في الدنيا والعذاب في الآخرة.قال تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]. إذاً: فاتقوه فيما آتاكم فآتوا زكاته وتطوعوا بالفضل الزائد؛ فإن ذلك خير لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون]. وهذا معنى الآيتين الكريمتين. وقبل بيان هداية الآيات، نتأمل قوله تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] وهو حق وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179] حتى تعرفوا المؤمن من المنافق، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:179] ويطلع من أراد منهم على غيب يعلمه، أما غير الرسل فلا حظ لهم في هذا الاختيار. والخلاصة: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [آل عمران:179].ثانياً: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]، أي: الجنة دار الحبور والسرور.. اللهم اجعلنا من أهلها. وقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180]، وبين تعالى قال: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180].
هداية الآيات
وهاتان الآيتان الكريمتان تحملان هدايات ربانية.. اللهم عرفنا بها واجعلنا من المهتدين بها: قال: [من هداية الآيات: أولاً: من حكم التكليف إظهار المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب]، فالتكليف له حكم وليست حكمة واحدة، لكن من حكمه أن يظهر المؤمن بحق والمؤمن المزيف الكاذب. فلولا التكليف الجزئي بفرضية الصلاة خمسة أوقات في أربع وعشرين ساعة وأن من تركها فقد كفر، ما عرفنا البار من الفاجر، والتقي من الآثم، وما عرفنا المؤمن من الكافر؛ لذلك فرض الله تعالى الصلاة ليميز المؤمن من الكافر.ولولا أن الله أيضاً فرض الزكاة، وفرض النفقات في أوقاتها ما عرفنا المبذال المنفاق المتصدق من البخيل، فلابد وأن يتميز البخيل من المنفق السخي. إذاً: من حكم التكليف الذي هو عبادة ألزمنا الله بها سواء بفعل ما نفعل أو بترك ما نترك. [ثانياً: استئثار الرب تعالى -أي: اختصاصه دون غيره- بعلم الغيب دون خلقه -اللهم- إلا ما يطلع عليه رسله لحكمة اقتضت ذلك].فالذي استأثر بالغيب واختص به هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، أما قال تعالى وقوله الحق: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]، فليس من شأنه عز وجل أن يطلع أحداً من خلقه على الغيب إلا من يشاء، ولهذا -بالأمس- قررنا أن الذي يدعي علم الغيب كافر وطاغوت، ويجب قتله بعد استتابته ثلاثة أيام بإجماع الأمة.لطيفة: فلو كنت -يا عبد الله- اطلعت على غيب لاستحيت أن تطلع الناس عليه؛ لأن الله ستره وغطاه ولن يطلع عليه غيره؛ لتنتظم الحياة وتواصل مسيرتها إلى نهايتها، فلو كنا نطلع على الغيب لوقفت الحياة.فمثلاً: لو علموا الذين عزموا الليلة على السفر -وهم أكثر من مليوني شخص- أنه سيصيبهم مكروه لألغوا السفر. مثلاً: إن كان أباك أو أخاك أو محبك يكتم عنك شيئاً ويخفيه وفيه خيرٌ لك ولا يطلعك عليه، ستساعده على ستر ذلك وتغطيته إن كنت الرشيد الحكيم. وقد ادعى الغيب أناس.. وما زال هناك رجالاً ونساء بمئات الآلاف في العالم الإسلامي يدعون الغيب، ويأتون الناس إليهم ويقدمون لهم المال؛ ليطلعوهم على كذا وكذا، والسبب أنهم جهلة عاشوا في الظلام وماتوا فيه.[ثالثاً: ثمن الجنة] فيا من يريد أن يشتري داراً في الجنة! ويا من يرغب في بستان في الجنة! ويا من يرغب في دار في الملكوت الأعلى! أقبل على الله. إذاً: ثمن الجنة هو الإيمان وتقوى الرحمن؛ لقوله تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]، أي: هذا الأجر العظيم يكون في الملكوت الأعلى وهو الجنة دار السلام. إذاً: لطيفة أخرى: إن لم تكن ولياً لله فأنت ولي للشيطان عدو الله، فليس هناك وسط بين ذلك، فلا تقل: لست بولي الله ولا بولي الشيطان. فمستحيل هذا، إما أن توالي الله أو توالي الشيطان. يعني: إما أن تطيع الله فأنت وليه أو تطيع الشيطان فأنت وليه، فالشيطان يأمر وينهى، فمن استجاب له فهو وليه. فيا من يرغب في أن يصبح ولياً لله! آمن واتقي.. آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما يتم فيه، والقضاء والقدر وما يجري فيه، وبكل ما أمرك الله ورسوله أن تؤمن به. وهذا الإيمان وهو الثمن الأول للجنة. قال: [التقوى وهي أن تتعلم ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال والصفات والذوات، وتحب ما يحب وتفعله لله خالصاً، وتعرف ما يبغض الله ما يكره الله من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات والذوات وتكرهها وتتركها]، وهذا يعطيك صك بأنك ولي الله، وإذا شككت ارفع يديك في حاجة من حاجاتك واسأله قضاءها، تقضى بين يديك بإذن الله. والآية دلت على هذا: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:179]، والجنة يدخلها أولياء الرحمن.وقوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يسأل يقول: يا ربِّ! من أولياؤك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فيجيب تعالى بنفسه قائلاً: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، وكأن قائل يقول: ما هي علامات ذلك وإشاراته؟ الجواب: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، أي: بشرى الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له. أي: منامة صالحة تراها تدلك على أنك ولي الله، فإذا لم ترها أنت يراها عبد صالح لك ويقصها عليك، وقد يأتيك من بلد إلى بلد ليبلغكها، فلأن تذهب من المدينة إلى الصين بالنفقة والتعب والسهر لتعلم هذه البشرى، فإن تعبك ونفقتك ومالك لا تساوي شيئاً مقابل هذه البشرى، وأعطيناها ونحن في أمن ورخاء ولا نحفظها ولا نبالي، وغداً نسأل عنها؟ فلا ندري، هاه.. لا ندري.
الثالوث الأسود وجهوده في حرب الإسلام
ولطيفة سياسية اجتماعية نفسية: وهي أيضاً أغلى من خمسين ألف ريال، فلأن تعرفها وتضمرها في نفسك وتعمل بمقتضاها خير لك من أن تعطى شيكاً بخمسين ألف ريال وتذهب به إلى أوروبا تفجر أو تشتري به تلفاز وفيديو وترقص. وهذه من مكايد الثالوث الأسود وهم المجوس واليهود والنصارى، وسبب تحولهم إلى ثعبان أسود أن المجوس من يوم أن سقط عرش كسرى وأعطاه عمر سراقة بن جعشم وألبسه على رأسه؛ تمثيلاً لبشرى النبي صلى الله عليه وسلم، تكون حزب وطني يعمل في الظلام للانتقام من الإسلام، ودليل ذلك عمر بن الخطاب قتله أبو لؤلؤة المجوسي في محراب رسول الله.فاليهود ما إن أيسوا من حصول على خير في هذه الديار؛ لأنهم نزحوا من الشام على أمل أن النبي الخاتم نبي آخر الزمان إذا ظهر بين جبال فاران، وهاجر إلى المدينة ذات السبخة والنخيل، وهذه الصفات محفوظة عندهم في التوراة كما نحفظ نحن: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فمن الضرب والتعذيب الذي يتلقونه من الروم والرومان نزحت طائفة منهم؛ انتظاراً للنبوة وهروباً من التعذيب. إذ كان النصارى يقلون اليهودي في الزيت في قدر كبير يتسع لبعير، فيضعون فيه اليهودي وهم فرحون وصدورهم منشرحة؛ لاعتقادهم أن اليهود قتلوا وصلبوا إلههم، فهذا الفهم الهابط! انظر إلى أين تصل البشرية إذا فقدت نور الله عز وجل! فاليهود هم الذين صلبوا المسيح وقتلوه، فكيف إذاً المسيحي يرضى عن يهودي، وهو قد قتل وصلب إلهه؟! فلو أن شخصاً أراد أن يقتل نبيك فلن تنظر إليه.فلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يجتمع دينان في الجزيرة ) اغتاظ اليهود، وخافوا من أن يدخل اليهود كلهم في الإسلام، وخافوا من يفقدوا وجودهم، فأعلنوا الحرب على الإسلام وبدءوا، فقد حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.إذاً: فمن ثم بحثوا اليهود عمن يتعاونون معه، فوجدوا الحزب المجوسي، وحامل الراية الدعوة اليهودية عبد الله بن سبأ الصنعاني اليماني وهو من غلاة اليهود عربي اللسان؛ فاحتضن الحزب الوطني المجوسي، وما إن لاحت أنوار الإسلام في الغرب والشرق وانتهت إلى الأندلس حتى رفعت الصليبية رأسها؛ خوفاً من أن نور الإسلام سيغمر الدنيا، فبحثوا عمن يتعاونون فوجدوا اليهود والمجوس فتعانقوا، مع أنهم أعداء لبعضهم البعض وتعاونوا وتحابوا و.. و.. وإلى الآن في الظلام متعاونون على الإسلام؛ لأن الإسلام لا يريدونه؛ لأنه يسعد ويعز ويرفع إلى السماء ويُدخل الجنة، ولا طريق إلى ذلك إلا الإسلام. فهم يريدون الحفاظ على مناصب وكراسي وسمعة وشهرة، واستعباد لإخوانهم وأوطانهم؛ فيبغضونهم في الإسلام ويعفنونه ويشوهونه. وصورة سريعة: فقد ذكر الشيخ رشيد رضا في تفسيره المنار، عن شيخه الشيخ محمد عبده تغمدهما الله برحمته، يقول: كان الشيخ في باريس في فندق ولم يكن حينذاك حنفيات مياه في فرنسا، فطلب ماءً يتوضأ به في ساحة الفندق، ولما توضأ جاء طفل صغير وهو ابن لرئيسة الفندق جاء يحبو وأراد أن يمس الماء، فقالت له أمه بكلمة على لسانها: كخ كخ كخ، هذا توضأ به عربي وفيه جراثيم، الطفل صدق أمه، وقال: ماما جراثيم رآها في الماء. ومعنى عربي مسلم. وما زالت المرأة الأوروبية إلى الآن تخوف طفلها إذا عمل باطل، تقول: عربي عربي عربي عند الباب! فعملوا على تشويه الإسلام وقبحوه، وكم ضحكوا وسخروا عن تعدد الزوجات، فقد عدوها من الأباطيل، فهؤلاء مجانين وحمقى، فالله سبحانه وتعالى يشرع، وأنت الأحمق الجاهل تقول: لا، وتقول: أنا مؤمن، أين علمك؟! وأين فقهك؟! وأين بصيرتك؟! وهذا هو الثالوث الأسود، فمن كيده ومكره أيضاً لما عجز في ميادين المعارك والجهاد والدماء، قال: إذاً نبحث عن طريقة إطفاء هذا النور.. لا بقوة السلاح فلا نقوى عليه، فقد فشلوا في كل معركة طيلة ثلاثمائة سنة، قالوا: نبحث عن سبب هذه القوة، وعن سبب هذا النور وهذه الهداية، فوجدوا ذلك في اثنين:الأول: في القرآن الكريم، فما ارتفعت هذه الأمة ولا سامت ولا سادت إلا بنور القرآن، فاستطاعوا للأسف الشديد أن يحولوا القرآن إلى المقابر. أليس يقرأ القرآن الآن على الموتى؟! فيا أبناء الإسلام! ماذا تريدون من قراءة القرآن على الميت؟! هل تريدون من الميت أن يقوم يصلي، ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه؟! وهل تريدون منه أيضاً أن يقوم ويعترف بحقوق الناس؟! فما الذي يفيده إذاً؟ فقط توبخونه لم ما فعلت؟ ولم ما فعلت؟ وانتشرت الخطة وأصبح العالم الإسلامي عرب وعجم إذا مات الميت وشيع إلى القبر يجمعون أهل القرآن، وأهل القرآن لا يملكون شيئاً فلا وظيفة لهم ولا شيء... ضيعوا أوقاتهم في حفظ القرآن الكريم؛ لأجل هذا القوت لا أقل ولا أكثر، فيستدعونهم في بعض الأموات ليلة واحدة إذا كان فقير، ثلاث ليال.. سبع .. إلى واحد وعشرين إذا كان الهالك ذا ثروة وغنى ومال. فتجد عند باب المقبرة من يقرأ القرآن مقابل مبلغ من المال على قبر ما.وهذا هو حال القرآن فلا يجتمع عليه اثنان في ظل شجرة أو جدار أو في منزل؛ ليتدبرها ويتفهم مراد الله من كلامه لهم. فمن منا قال لأخيه: اقرأ علي شيئاً من القرآن لنتدبره؟!فرسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أنزل وكلف بتبيينه يقول لـعبد الله بن مسعود : ( يا ابن أم عبد ! اقرأ علي شيئاً من القرآن، فيقول عبد الله : أعليك أنزل وعليك أقرأ يا رسول الله؟! فيقول: نعم، أحب أن أسمعه من غيري )، فأين أمة الإسلام؟! فقد قتلوها، أما استعمروها وأذلوها من اندونيسيا إلى موريتانيا؟ فلو كانت حية وذات علم وبصيرة فهل سيسودها الكفر ويحكمها؟! مستحيل. ( ويقرأ عليه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] إلى أن ينتهي إلى قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] وإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان الدمع وهو يقول: حسبك حسبك حسبك ). انتقل الشيخ الطيب العقبي من هذه الديار إلى الديار الجزائرية خريج هذا المسجد، وهو مؤسس جريدة القبلة وبعده أم القرى، وهذا الذي مسح تاريخه العرب؛ لأنهم يكرهون التوحيد، فكان يلقي دروساً كهذه، ومن ثم ونحن في القرية نقرأ القرآن جاء عامي يشتغل في الميناء لا يعرف الألف من الباء يجلسني وأنا طفل وكان يقول: اقرأ علي شيئاً من القرآن، ويغمض عينيه ويدلي رأسه وأنا أقرأ. فـالعقبي حدثهم بحديث رسول الله، هذا الوحيد الذي يطلب منا أن نقرأ عليه القرآن. فقد أعرضت هذه الأمة عن القرآن إعراضاً كاملاً وماتت. والثاني: الولاية، فولاية الله تعالى حصروها في الأموات لا في الأحياء، وقد قلت لكم وإلى الآن: لولا هذه الدعوة التي انتشرت من هذا المسجد.. فإذا ذهبت إلى القاهرة أو إلى دمشق أو إلى بغداد أو إلى كراتشي أو إلى اسطنبول أو إلى مراكش أو إلى تونس فأول من تلقاه في الطريق تقول له: أنا غريب جئت من بلادنا لأزور ولياً من أولياء الله في هذه المدينة، والله! ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن تلك العاصمة ذات المليونين والثلاثة فيها ولي حي. فقد حصروا الولاية في الأموات وسلبوها الأحياء؛ ليصبح المؤمن يزني بامرأة المؤمن -فوالله! إنهم ليزنون-. فلو كان يعرف أن هذا ولي الله فهل سيزني بامرأته؟! يفسد ما عليه ونحن نراه إذا مر بقبر الولي ترتعد فرائصه؟! كيف يزني بامرأة ولي؟! ولو عرف أنه ولي هل سيسلب ماله، ويحتال عليه ويأكل ماله بالغش أو بالكذب؟! والله ما كان، ولو اعتقد أنه ولي فلن يسبه ولا يشتمه؟ فهل سمعتم جماعة ينتقدون عبد القادر ويسبونه؟! مستحيل. مجالسنا كلها غيبة ونميمة وسب وشتم؛ لأنهم ما عرفوا من هم أولياء الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.وهذا من فعل الثالوث الأسود، وما زال يفعل العجائب، فهل كان يعقل بين العرب الجهال أن يسمح الفحل لامرأته أن تنظر إلى رجل وهو يرقص أمامها؟! فوالله ما نرضى أن يسمع أصوات نسائنا حتى العبد الصالح. فكيف إذاً بامرأتك وهذا المغني يرقص في التلفاز وأنت تضحك، فهذه الغيرة مسحها الثالوث. وهذا مجرد مثال فقط.يبعث أحدهم امرأته تشتغل في البنك الفلاني في الدار الفلانية وتصافح الموظفين، فهل هذا كان في بال إنسان آدمي؟ والآن واقع وما حصلنا عليه، ونبكي ليل نهار، آه لو أجد وظيفة لامرأتي. فعل هذا الثالوث الأسود، وما زال يفعل.
تابع قراءة في تفسير قوله تعالى: (وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال: [ثالثاً: ثمن الجنة الإيمان والتقوى وهما مفتاحا الولاية] بهما تدخل ولاية الله. رابعاً: [ البخل بالمال شر لصاحبه وليس بخير له كما يظن البخلاء ]، بالبخل بالمال وهو منع حقوق الله منه والحفاظ عليه، فصاحبه يظن أن هذا خير له وهو شر له، وقد قال تعالى: بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ [آل عمران:180].قال: خامساً: [من أوتي مالاً ومنع حق الله فيه عذب به يوم القيامة]، دل على ذلك قوله تعالى: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180] وآية سورة التوبة، وهي قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34] متى؟ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ [التوبة:35] ويقال لهم: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35]. هذه الآية -يا معاشر المؤمنين- هي التي جهزت غزاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى شرقوا وغربوا، فلم تكن هناك ميزانية ولا مال ولا ولا.. ولكن هذه الآية فقط يخرجون بأموالهم، فقد خرج أبا بكر بماله، وخرج عمر بنصف ماله.والحمد لله فقد خرجنا بنصف المال مرة من المرات، فقد كانت هناك دعوة للجهاد في الجزائر؛ لأنه قتال كفار فرنسا، وحكومتنا الرشيدة فتحت الأبواب وأصبحنا نجمع المال من باب السلام إلى باب المجيدي كل جمعة، ضريبة على الطلاب في مدارس الابتدائية والمتوسطة ريال على كل طالب. وعند الجمع كان عندنا أربعمائة ريال خرجنا بنصفها، وقلنا: نجرب، مائتين ريال، وكان يومها راتب الأستاذ في الابتدائية ثمانين ريال. والشاهد عندنا لتفهموا أنه ما كان عندهم بيوت ولا أموال، إذا نادى إمام المسلمين: الجهاد! المال! يخرجون من بيوتهم بأموالهم ويقرءون هذه الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35] . قال: [ وحديث البخاري -يقول صلى الله عليه وسلم-: ( من آتاه الله مالاً فلم يؤده زكاته مثل له شجاعاً أقرع ) ] والعياذ بالله، ثعبان شجاع أقرع؛ لأن الحية القرعاء كلها سم وسمها قاتل. قال: [ ( له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه -أي: شدقيه- ويقول له: أنا مالك أنا كنزك ) ] وهو يعذبه ملايين السنين، ثم قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية: [ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:180] ]. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (75)
الحلقة (216)
تفسير سورة آل عمران (78)
تاريخ يهود في إنكار الحق وبث الشبهات لا يخفى على ذي عقل، ومن ذلك أنهم زعموا أن الله فقير ومحتاج إلى عباده، وذلك أنه دعاهم إلى إقراضه سبحانه ووعدهم بمضاعفة أجرهم أضعافاً كثيرة، ومن ذلك أيضاً أنهم ادعوا كذباً وزوراً أن الله عهد إليهم في كتبهم السابقة ألا يؤمنوا لنبي حتى يأتي بقربان من صدقة فتنزل عليه نار من السماء فتحرقه، وقد أنزل الله في كتابه خبرهم وكذبهم وبين حالهم في تكذيبهم للرسل من قبل وقتلهم إياهم ظلماً وعتواً.
تفسير قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ) اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا، ولا ولي لنا سواك.ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الأربع المباركات، نتلوها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:181-184].فهيا نتغنى بهذه الآيات متأملين متفكرين باحثين عن مدلولاتها ومعانيها؛ علنا أن نظفر بنور إلهي يغمر قلوبنا، وينور طريقنا، فلا ظلمة ولا خبث ولا شر ولا إثم.
سبب نزول قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ...)
قال تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، أوحى الله جل جلاله هذا الكلام إلى رسوله النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الخبر لابد له من سبب اقتضى نزول هذا الخبر؛ فقد كان في المدينة (مدراس)، وبلغتنا العربية (مدرسة)، وبلغة اليهود (المدراس) يجتمعون فيه ويتعلمون الكتاب والحكمة التي عندهم، فذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليدعو معلمهم ومربيهم فنحاص إلى الإسلام، فبإسلام المدرس يسلم التلاميذ وينقادوا، ولما دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام رفض ولم يقبل، وتعلل واحتج بما جاء في الآيات، ولما قال: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] بمعنى: كيف يستقرضنا ويطلب المال، ونحن أغنياء وهو فقير؟! فـأبو بكر الصديق لم يتمالك نفسه حتى ضربه على وجهه ضربة شديدة، وذلك جزاؤه.وهنا ذكرت مرات فقلت: إذا كان الشخص مناوئاً ضد دعوة الحق وتنصر بمثل هذه الكلمة فلو كنا كـأبي بكر لا نتمالك فنضربه على خده حتى لا يعود لمثل هذا، ولكن لضعفنا يسب الرسول ويقال فيه كذا وكذا، ونحن لا نحرك ساكناً ولا نشتكي، فهذه القضية لا تحتاج إلى أن ترفع دعوى إلى محكمة.فلما قال هذا اليهودي كلمة خبث ووصف الله عز وجل بالفقر، ما كان من أبي بكر الصديق إلا أن ضربه على وجهه، فذهب اليهودي يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: يبلغني أنه يوجد من غير أهل السنة والجماعة من يطعن في عائشة أو يسب أبا بكر ، فأقول: أنه وبمجرد ما يقول كلمة الكفر هذه اصفعه على خده حتى يتأدب، ولا أقول: اضربه بعصا أو اقتله -لا تنقلوا عني غير هذا-، ولكن كما فعل أبو بكر فقط، ما دام فاه بكلمة باطلة خبيثة أعطه صفعة حتى لا يعود ويقولها، وإلا فسوف يتجرأ ويسبهما في كل مناسبة. فقط تأديباً له حتى يحترم موقف أهل السنة كذلك، ولا يقول الباطل بينهم، وتأتي تشتكي إلي ماذا نفعل وماذا نقول؟ ولما اشتكى اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبا بكر فعلت؟ قال: نعم. فقبل أن يأتي بالجواب حتى نزلت هذه الآية الكريمة: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]؛ لأن اليهودي أنكر وقال: ما قلت: نحن أغنياء والله فقير، فكذبه الله وقال: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [آل عمران:181]، ويسجل ويجزون به ساعة الجزاء. سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [آل عمران:181] هذا أولاً، وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ [آل عمران:181] عند صب العذاب عليهم: ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181]، والحريق: النار الملتهبة لا الجمر. وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران:181-182] أي: هذا الجزاء بعذاب الحريق مقابل ما قدمته أيديكم من الكذب والباطل والإثم، وقتل الأنبياء، والكفر والخروج عن طاعة الله ورسوله.
تفسير قوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ... )
جاء فنحاص وعلماء كثيرون، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: نحن لا نستطيع أن نؤمن بك، ونتابعك على دينك؛ حتى تأتينا بقربان تأكله النار. والقربان: هو ما يتقرب به إلى الله؛ سواء نعجة وإلا بقرة تذبح وتوضع هناك وتأتي نار بيضاء من السماء فتأكلها أو ثياب أو أي شيء مما يتقرب به إلى الله عز وجل. وهذا كان في بني إسرائيل، فـيوشع بن نون لما خرج موسى ببني إسرائيل من أرض سيناء ورفضوا القتال وجبنوا وعاقبهم الله بأربعين سنة تيهان في صحراء سيناء، فلما انتهت وتوفي موسى وقبض هارون قادهم يوشع بن نون فتى موسى ونبأه الله عز وجل، وطالبوه بالآية فلما غزا وانتصر على العمالقة جمعوا الغنائم كلها وأتت نار من السماء فأحرقتها. إذاً فقال اليهود: لن نؤمن حتى تأتينا بقربان تأكله النار، قال الله لرسوله: قل لهم: قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ [آل عمران:183] أي: المعجزات وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183] وطالبتم به من القربان تأكله النار، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ [آل عمران:183]؟ فقد قتلوا يحيى وولده زكريا عليهما السلام، وقتلوا عيسى عليه السلام، وإن لم يقتلوه واقعاً قتلوه حكماً؛ لأن عيسى عليه السلام لما بلغه المؤامرة دخل إلى بيته وأغلق بابه، وإذا بمدير الشرطة برجاله يقرعون باب بيته فأبى الخروج، فدخل مدير الشرطة أولاً فألقى الله الشبه عليه، ورفع عيسى من روزنة البيت، فما كان منهم إلا أن ألقوا الحديد في يديه ورجليه وجروه على أنه عيسى بن مريم، وصلبوه في اليوم التالي، فهم يعتبرون قتلوه قضاء وشرعاً. لكن الله عز وجل رفع عيسى إليه في دار السلام، وسينزل عما قريب بالمنارة البيضاء بمسجد دمشق.والشاهد: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183]، وطالبتم به وهو القربان تأكله النار، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183] بدعواكم؟
تفسير قوله تعالى: (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك ....)
ثم قال لرسوله معزياً مسلياً: فَإِنْ كَذَّبُوكَ [آل عمران:184] يا رسولنا فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ [آل عمران:184] فليس واحد ولا عشرة ولا مائة، مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:184]. إذاً فلا تكرب ولا تحزن واصبر، وائتسي بمن قبلك.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
نعيد تلاوة الآيات:قال تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، أي: قال: إن الله فقير ونحن أغنياء هو فنحاص المعلم في المدراس، فقال تعالى: سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [آل عمران:181] أي: سيدون ويسجل؛ ليجزوا به، ونكتب قتلهم الأنبياء، فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا في بعض الأحيان يقتلون سبعين نبياً، وفي المساء أسواقهم عامرة كأسواقنا الليلة بالمدينة، وكأن شيئاً ما وقع بعدما قتلوا سبعين نبياً؛ لأن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرين ألف وأكثرهم من بني إسرائيل. قال تعالى: وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:181] وهل هناك حق يقتل به النبي؟ نعم. لكن حاشاهم أن يزنوا فيقتلوا، أو يقتلوا ظلماً وعدواناً فيقتلوا من غير حق، لكن تشديد وإكثار من التشنيع عليهم. قال تعالى: وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181] أي: يقال لهم هذا عند دخولهم النار وهم فيها، فهذا العذاب الروحي أشد من العذاب البدني، ويقول لهم هذا الكلام ملائكة الله الزبانية بأمر من الله عز وجل، وينسب القول إليه عز وجل. قال تعالى: ذَلِكَ [آل عمران:182] أي: العذاب والهون والدون بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران:182] أي: بما قدمت أيديهم في الدنيا حين كانوا يأكلون الربا ويفجرون ويقتلون الأنبياء والعلماء. قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182]، حاشاه أن يظلم عبيده، فهو غني عنهم، فكيف يظلمهم؟! لطيفة: لا يتصور الظلم إلا من ضعيف، أما القوي القادر الغني لا يظلم. الظلم.. أن تجور وتظلم أخاك وتخطف قرص العيش من يده، فمثلاً: ما تجد أين تسكن تحتال وتطرد صاحب المسكن لتسكن.. أنت محتاج إلى وظيفة فتحتال وتغش وتبعد فلان عن وظيفته لتحتلها.. تريد أن تملك تقوم بثورة حتى تملك.فالظلم لا يتصور إلا من ضعيف، قوي.. غني لا يظلم. والله عز وجل بيده كل شيء، وإليه مصير كل شيء، وهو خالق كل شيء، فكيف يتصور منه الظلم؟! فلهذا نفى تعالى الظلم عنه في عشرات الآيات، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] أي: عبيده هو جل جلاله وعظم سلطانه. قال تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا [آل عمران:183] أي: في التوراة، أو في الإنجيل، أو على ألسنة الأنبياء وهم كاذبون: أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران:183]، ومن الجائز أن يكون هذا في كتبهم، فإذا ادعى أحد منهم النبوة يقولون: هات قربان نتقرب به إلى الله، ونرى السماء تنزل وتختطفه، أي: تنزل من السماء نار تحرق هذا القربان. وهكذا حكى الله تعالى قولهم لرسوله ولنا. الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران:183]، أي: فإن كنت أنت رسول الله كما تدعي وتقول وتطالبنا بالإيمان بك: ائتنا بقربان تأكله النار، وبذلك نؤمن، فوالله! لو أتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقربان وشاهدوا النار ما آمنوا به، فهم يريدون أن يسودوا العالم ويتطلعون إلى مملكة بني إسرائيل؛ لأن ما جاء به الرسول من الهدى والبينات أفضل مليون مرة من قربان تأكله النار، فلو شاهدوا القربان لقالوا: ما رأينا؛ لأنهم غير عازمين على الإيمان، عرفوا أنه رسول الله، وأن هذا دين الله، ولكن قالوا: إذا آمنا نذوب في الإسلام وتنعدم شخصيتنا ووجودنا! ومن شك في هذا.. كيف أذلوا ألف مليون مسلم وأقاموا دولة إسرائيل؟! فلو كانوا فقط يريدون الأكل والشرب أو اللباس أو المال، والله! ما يفعلون هذا، فهو متوفر لهم بالخديعة والكذب، لكن يريدون مملكة تسود العالم.. كلمة (من النيل إلى الفرات) مقدمة فقط، والآن مشوا خطوات وكادوا يملكون العالم، هم الآن يديرون دفة العالم. فهم الذين وضعوا الشيوعية، وهم الذين نسجوا خيوطها، وهم الذين أبطلوا الشيوعية، بلغوا مأربهم وانتهوا إلى حاجتهم وهي أن حولوا ثلاثة أرباع الصليبين المتعصبين إلى بلاشفة وملاحدة علمانيين لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، وهؤلاء ما يخافونهم ويعدونهم كالبهائم يركبونها.فثلاثة أرباع النصارى الذين كانوا أرقاء القلوب تذرف عيونهم الدموع إذا ذكر الله يتصدقون، فإذا نظر أحدهم إلى اليهود يستغفر الله، فحالهم يقول: لا يجوز أن تفتح عينيك في يهودي، فهو قاتل إلهك وكيف ترضى عنه؟واستطاعوا بهذا السحر أن حولوا النصارى إلى رجال لهم، وأعوان يعملون معهم بعدما مسحوا قلوبهم من شيء اسمه: الله، والإيمان بلقاء الله. فما المخرج أن نسلم، فإذا أسلم العرب والمسلمون رحل بنو عمنا.. فهل نحن الآن غير مسلمين؟ إيه نعم، فالإسلام الحقيقي لا وجود له بالصورة العامة في العالم الإسلامي، فلو أسلمنا لقلنا: بايعناك يا إمام الحرمين والمسلمين، وأصبحت دولتنا واحدة في أربعة وعشرين ساعة، وتسلمنا الدستور الإسلامي وطبقناه من أقصى الشرق إلى أدناه. ماذا يكلفنا؟ يكلفنا فقط أن نؤمن بالله ولقائه، لا وطنية ولا قبلية ولا مال ولا دينار ولا درهم، آمنا بالله وأسلمنا قلوبنا ووجوهنا له، حينها نقول: نحن مسلمون. وعندنا برهنة وهذه البرهنة: أخبرنا أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، فقال في صحيح مسلم وغيره: ( لتقاتلن اليهود ثم لتسلطن عليهم )، بينا وجه التسلط.. فلو أسلمنا في أربعة وعشرين ساعة سيوجد الله تعالى مؤامرة يهودية لأمريكا، فرجالها سيكتشفون أن اليهود أرادوا أن ينسفوا أمريكا كلها ويحولوها إلى مقبرة، إذاً ستثور أمريكا وتقول: اليهود، من وجد يهودي احرقه بالنار. وتقول للعرب والمسلمين: عليكم بهم، وهذا هو معنى التسليط، فقد حصل نظيره على عهد هتلر النازي الألماني فقد اكتشف مؤامرة يهودية ضد ألمانيا، فسلطه الله عليهم وقتل منهم حوالي ثلاثين ألفاً وأذلهم شر ذلة. يقول صلى الله عليه وسلم: ( ثم لتسلطن عليهم، فتقتلوهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله إلا شجر الغرقد، فإنه شجر اليهود ).
لطيفة
لطيفة: هي (يا مسلم) أينطق الله الشجر والحجر ليقولوا الكذب؟! فحاشا لله أن يكذب الشجر والحجر. فمن هنا نقول: انهزم العرب بين حفنة اليهود في حرب ذات مرة؛ لأنهم ليسوا بأولياء الله، فلو انتصروا بالعربية والقومية لانمسح الإسلام من ديارهم نهائياً، ولكن الله يأبى إلا أن يبقى الإسلام نور الله ليُدخل في رحمته من يشاء، فكل عام يموت آلاف من المسلمين والمسلمات الربانيين والربانيات، لكن لو انتصر العرب بكفرهم وعنادهم وقوميتهم ما أصبح من يقول: مسلم حتى يذل ويهان. فالله سبحانه وتعالى هو الذي حفظ لنا الإسلام، فلهذا يقول الشجر: يا مسلم! ولن يقولها إلا مسلم حقيقي أسلم قلبه لله، فلا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وأسلم وجهه فلا يرى إلا الله عز وجل. قال تعالى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183]، الاستفهام هنا للإهانة والذل والمسكنة؛ لقوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [آل عمران:184] أي: اصبر يا رسولنا وتحمل كما تحمل من سبقك من الأنبياء والمرسلين.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
قال المؤلف غفر الله لنا وله: [ معاني الكلمات: عذاب الحريق هو عذاب النار المحرقة تحرق أجسادهم، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران:182] أي: ذلك العذاب بسبب ما قدمته أيديكم من الجرائم. عَهِدَ إِلَيْنَا [آل عمران:183]، أي: أمرنا ووصانا في كتابنا التوراة. أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ [آل عمران:183] أي: لا نتابعه على ما جاء به ولا نصدقه في نبوته.حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران:183]، القربان ما يتقرب به إلى الله من حيوان وغيره يوضع في مكان، فتنزل عليه نار بيضاء من السماء فتحرقه. بِالْبَيِّنَاتِ [آل عمران:183] أي: الآيات والمعجزات. وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183] أي: من القربان. فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ [آل عمران:183] الاستفهام للتوبيخ وممن قتلوا من الأنبياء زكريا ويحيى عليهما السلام. وَالزُّبُرِ [آل عمران:184] جمع زبور وهو الكتاب المزبور] زبر إذا كتب [ كصحف إبراهيم ]. [ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:184] الواضح البين كالتوراة والزبور والإنجيل].
معاني الآيات
قال: [معنى الآيات: لما نزل قول الله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245] ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدراس واليهود به وهم يستمعون لأكبر علمائهم، وأجل أحبارهم فنحاص فدعاه أبو بكر إلى الإسلام، فقال فنحاص : إن رباً يستقرض نحن أغنى منه ] أي: نحن أغنى منه، فكيف نؤمن به؟! قال: [أينهانا صاحبك عن الربا ويقبله؟] أينهانا صاحبك محمد عن الربا ويقبله في قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]. [فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب اليهودي فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا أبا بكر فسأل الرسول أبا بكر قائلاً: ( وما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنه قال: إن الله فقير ونحن أغنياء )، فأنكر اليهودي قال: ما قلت، فأنزل الله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:181] أي: نكتبه أيضاً وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181] وقولنا ذلك بسبب ما قدمته أيديكم من الشر والفساد وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182]، فلم يكن جزاؤكم مجافياً للعدل ولا مباعداً له أبداً لتنزه الرب تبارك وتعالى عن الظلم لعباده]. قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181].والآية الثانية: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران:182]. الآية الثالثة وهي قوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا [آل عمران:183] -بماذا؟- أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183]، فقد تضمنت دعوى يهودية كاذبة باطلة لا صحة لها البتة والرد عليها، فالدعوى هي قولهم: إن الله قد أمرنا موصياً لنا أن لا نؤمن لرسول فنصدقه ونتابعه على ما جاء به؛ حتى يأتينا بقربان تأكله النار]. الذي قلته في يوشع بن نون كان مما فرض الله على بني إسرائيل أن الغنائم لا يقتسمونها كما نقتسمها نحن، أحلت لنا الغنائم، ولم تحل لنبي قبل نبينا وأمته، فقد كانوا يجمعون الغنائم أكوام من الثياب أو من الفضة فتأتي نار من السماء فتحرقها.أما كونهم عهد الله إليهم في التوراة وفي غيره أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتي بقربان تأكله النار، فهي كذبة من كذبهم ولا كان هذا. قال: [ والرد عليها فالدعوى هي قولهم: أن الله قد أمرنا موصياً لنا أن لا نؤمن لرسول فنصدقه ونتابعه على ما جاء به؛ حتى يأتينا بقربان تأكله النار، يريدون صدقة من حيوان أو غيره توضع أمامهم فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها فذلك آية نبوته، وأنت يا محمد ما أتيتنا بذلك فلا نؤمن بك ولا نتابعك على دينك، وأما الرد فهو قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل يا رسولنا: قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ [آل عمران:183]، وهي المعجزات وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183] وهو قربان تأكله النار فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ [آل عمران:183] إذ قتلوا زكريا ويحيى وحاولوا قتل عيسى إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183] بدعواكم؟ وأما الآية الرابعة فإنها تحمل العزاء لرسولنا صلى الله عليه وسلم إذ يقول له ربه تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ [آل عمران:184] فلم يؤمنوا بك فلا تحزن ولا تأسى؛ لأنك لست وحدك الذي كذبت، فقد كذبت رسل كثر كرام جاءا أقوامهم بالبينات أي بالمعجزات وبالزبر والكتاب المنير كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم، وكذبتهم أممهم كما كذبك هؤلاء اليهود والمشركين معهم فاصبر ولا تحزن ]. ولهذا صبر صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين سنة، فقد قال: ( لا تفضلوني على يونس ) ويونس ذو النون كم صبر كم عام..؟ تركهم وخرج من بلادهم ما استطاع وعوتب ورد إليهم، فنبينا صلى الله عليه وسلم صبر ثلاثة وعشرين سنة وهو يعاني ويكابد، لكن الله معه يصبره ويسليه ويحمله على ذلك. الآن عرفنا معنى الآيات: قال تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، قالها فنحاص لـأبي بكر ، قال: ما نؤمن برب يحتاج إلينا وهو فقير ونحن أغنياء؛ نظراً إلى قول الله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245] لأن الرسول كان يعلن عن جمع المال للجهاد وهم أشحاء وبخلاء ما يريدون، قالوا: ربنا فقير ونحن أغنياء، كيف نؤمن به؟ قال تعالى: وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ [آل عمران:181-183] والله كذبة كذبوها تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:183-184] .
هداية الآيات
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: كفر اليهود وسوء أدبهم مع الله تعالى ومع أنبيائهم ومع الناس أجمعين] الآية في قوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] قررت أن اليهود كفار وأن أدبهم أسوأ أدب؛ لأنهم ما تأدبوا مع الله وقالوا: فقير ونحن أغنياء، وما تأدبوا مع الأنبياء فقاتلوهم، وقالوا فيهم ما قالوا، هذا باقٍ إلى يوم القيامة إلا من أسلم منهم نجا. [ثانياً: تقرير جريمة قتل اليهود للأنبياء وهي من أبشع الجرائم] وإن قيل: هؤلاء ما قتلوا على عهد الرسول، فلم يكن هنا نبي غيره.الجواب: كما علمتم، قتل أسلافهم وأجدادهم وآباؤهم ورضوا بذلك ولازموا طريقهم وما زالوا يدافعون عنها، فكلهم قتلة في قضاء الله وحكمه. في نهر الخير روى القرطبي عن الكلبي أن قوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران:183] نزلت رداً على كعب بن الأشرف ومالك بن الصيد ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عزريا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أتزعم أن الله أرسلك إلينا وأنه أنزل علينا كتاباً عهد إلينا فيه: أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله؛ حتى يأتينا بقربان تأكله النار؛ فإن جئتنا به صدقناك، فأنزل الله تعالى هذه الآية كما تقدم. قال: [ثالثاً: بيان كذب اليهود في دعواهم أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا برسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار] إلا ما كان من الغنائم لما يجاهدون مع أنبيائهم ويغنمون فتأتي نار من السماء وتحرقها؛ لأنهم لو كانوا يستفيدون من الغنائم لقاتلوا كلهم لغير الله. لكن لما علم الله إيمان هذه الأمة وسلامة قلوبها وطهارة نياتها أذن لهم أن يغتنموا ويقتسموا الغنيمة؛ لقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41] وأرباع أخماس للمجاهدين صاحب الفرس له حظان، والماشي على رجليه له حظ واحد، والرسول أخبر قال: ( أعطيت خمساً لم يعطها نبي قبلي -منها-: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي قبلي، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) فأيما مؤمن أدركته الصلاة وجد المسجد والماء عنده، والتراب يتيمم ويصلي. قال: ( وأتيت الشفاعة العظمى يوم القيامة ) . قال: والخامسة: كان النبي يبعث إلى قومه.. ( وبعثت إلى الناس كافة ) إيه والله! فالحمد لله. قال: [ ثالثاً: بيان كذب اليهود في دعواهم أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا بالرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله النار. رابعاً: تعزية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر والثبات أمام ترهات اليهود وأباطيلهم ]. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (76)
الحلقة (217)
تفسير سورة آل عمران (79)
جاء في هذه الآيات تسلية الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتعزيتهم بأن هذه الحياة بكل ما فيها من سرور وحزن، أو فرح أو ترح، أو نصر أو هزيمة؛ إنما هي متاع الغرور، وأن العبد المؤمن فيها لابد وأن يبتلى في نفسه وماله، ولابد أن يتعرض للأذى من أعداء الله ورسله، ثم بعد ذلك الكل ميتون، وإلى ربهم يوم القيامة منقلبون، فيوفي سبحانه وتعالى المؤمنين أجرهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم.
تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).وها نحن مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومع هاتين الآيتين الكريمتين، وهذه تلاوتهما فتأملوا يفتح الله علي وعليكم.يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:185-186].
دلالة قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) على حتمية الموت
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا حكم الله الصادر علينا: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، أي: تذوق مرارته وآلامه، فإن النفس عند مفارقة الجسد لا تتصور كيف حال هذا المريض، وحسبك أن تسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن يموت بعرق جبينه )، فإذا كان بين يديك أخوك أو أمك أو قريبك، وهو يعاني من سكرات الموت، ورأيت جبينه يتفصد بالعرق، فلقنه: لا إله إلا الله، ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ). كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، فهل هناك من عقّب على هذا الحكم، وأوقفه ولو في شخص واحد؟ طأطأت البشرية رأسها، وعرفت هذه الحقيقة التي أخبر بها الله عز وجل وطبقها ونزلها.حاول البلاشفة الحمر الملاحدة الشيوعيون طيلة ثمانية عشر عاماً وهم يبحثون عن كيفية الخلاص من الموت، وبعد ذلك فشلوا فشلاً ذريعاً، وأوقفوا مصانعهم وآلاتهم وأدواتهم التي كانوا يعملون بها على إيجاد الروح.وأخيراً قالوا: هذه الروح جاءت من الملكوت الأعلى، فلا مجال إلى إيجادها هنا.
دلالة قوله تعالى: (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) على أن الدنيا دار عمل لا دار جزاء
قال تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].. وهذه الآيات تحمل العزاء والتسلية والتكبير والتثبيت لجماعة المؤمنين، وعلى رأسهم سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن السياق ما زال مرتبط بأحداث واقعة أحد. وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، فهنا حقيقة -تأملوها وحدثوا بها- وهي: أن العبد مهما عمل في حياته فلن يتلقى جزاء كسبه فيها، سواء كان عمله صالحاً أو فاسداً، أو خيراً أو شراً، فالجزاء ليس في الحياة الدنيا، فهذه الدار -أي: الدنيا- كل ما يلقى فيها العبد لا يكفي أن يكون جزاء عمله، فكم من عبد صالح عاش عشرات السنين وهو فقير؛ فإن وجد الطعام ما وجد السيارة، وكم من فاسق فاجر يرفل في ثياب الحرير، وكم من بر صالح تقي يعيش في رغد من العيش وطيبه، وكم من فاجر كافر في أشد البلاء والشقاء؛ لأن الجزاء ليس اليوم في هذه الحياة، فالدنيا دار عمل فقط، والجزاء مسبق.فإذا فهمت هذه الحقيقة واستقرت في الأذهان اعلموا أن العمل الصالح والاعتقاد الصالح والأخلاق المهذبة والآداب السليمة لابد وأن ينال العبد بركتها، ويعيش طيب النفس طاهر القلب مستريح الضمير، ببركة أعماله الصالحة وعقيدته الطيبة الصالحة؛ ناله بركة إيمانه وصالح أعماله.وأن صاحب الفجور والفسق والكفور يناله شؤم كفره وفسقه وظلمه: هم، كرب، غم؛ شؤمه ذلك الظلم والفساد والشر الذي يعمله، فما يحصل من خير أو شر هو إما بركة العمل الصالح ويمنها، أو شؤم العمل الفاسد وأثره. الجزاء غداً ليس اليوم، فمثلاً: هل يستطيع من يشتغل معاومة -أي: من العام إلى العام- أن يطالب بأجرته قبل نهاية عمله؟ والذي يشتغل مشاهرة -أي: كل شهر- هل يستطيع أن يطالب بأجرته قبل نهاية شهره؟ وهل الذي يشتغل مياومة -أي: كل يوم- يستطيع أن يطالب بأجرته من الضحى، وما كمل عمل يومه؟.الجواب: لا. فليس معقول هذا. فكل البشرية عاملة كادحة، تتلقى جزاءها عند نهاية العمل، وينتهي العمل عندما تذوق الروح الموت، وتنفصل عن البدن فحينها يبدأ الجزاء، وأول مرحلة القبر، إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، ثم تنتقل إلى أحد العالمين؛ العلوي أو السفلي، في عليين أو سجين، وتبقى هكذا مرهونة محبوسة في نعيم أو شقاء إلى أن ينتهي العمل العام.فالعمل العام: كالمصنع الذي يعمل لمدة ألف سنة.. ولما ينتهي حينئذ يتلقون الجزاء، فالذين ماتوا ويموتون أرواحهم إن كانت طاهرة زكية في عليين، وإن كانت خبيثة عفنة في سجين، حتى تنتهي هذه الدورة، فلها بداية ولابد لها من نهاية، فإذا انتهت هذه الدورة ولاحت في الآفاق نهايتها: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الواقعة:1]، إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ [الزلزلة:1]، الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-2].. انتهت هذه الحياة بكل ما فيها، من أفلاكها وكواكبها وجبالها وأراضيها تتم حياة ثانية، وهي الحياة الآخرة التي لا نهاية لها.إذاً: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ [آل عمران:185]، فالذي يوفينا أجورنا كاملة يوم القيامة هو الله سبحانه وتعالى الذي استخدمنا في هذه الدنيا، ويوم القيامة هو اليوم الذي يقوم فيه الناس من قبورهم في الأرض قياماً؛ ليساقوا إلى ساحة فصل القضاء والحكم عليهم، إما بالزحزحة عن النار ودخول الجنة، وإما بالإهلاك في النار.يوم القيامة هو ذلك اليوم التي تقوم الناس فيه إلى رب العالمين؛ لأجل الحساب أولاً والجزاء ثانياً.
الفوز الحقيقي هو دخول الجنة والنجاة من النار
وبين تعالى بإيجاز عجيب واختصار لا نظير له، فقال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185]، وهم قيام بين يدي الله، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185]، وكان على شفا عرصات القيامة: وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ [آل عمران:185] أعلن عن فوزه: فاز فلان ابن فلان.ومعنى: فَازَ [آل عمران:185]: نجا من مرهوبه، وظفر بمرغوبه. فالفائز في الامتحانات نجا من الرسوب وفاز بالشهادة.إذاً: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185] بعيداً: وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، أي: ظفر بمرغوبة ومحبوبه ومطلوبه، ونجا مما يخاف ويرهب من عذاب النار، فهذا هو الفوز.أما ربحك شاة أو بعيراً -أيها البدوي- ما هو بربح، أو فوزك بالظفر بالدكتوراة وشهادة جامعية والكرسي والمنصب فلا يعد هذا بفوز. أو فوزك بامرأة إذا كانت صالحة فلا بأس.الفوز الحقيقي أن يبعد العبد عن عالم الشقاء ويجد نفسه في عالم السعادة، وهو أن ينجو من النار وعذابها، وأن ينعم بالجنة ونعيمها وهذا هو الفوز. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185]، فالنار هي التي بين أيدينا ونشاهدها في الحطب والخشب، وهي تلتهب. فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذه النار وأوجدها وأوجد موادها؛ حتى لا يقول قائل: ما هي النار التي نُخَوف بها ونُهَدد؟!يقول الله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80]، أي: الشجر الأخضر بالماء تخرج منه النار.فمثلاً: نيويورك علم على مدينة، واليابان علم على إقليم بكامله. والنار إذاً علم على عالم الشقاء، فنسبة عالم الشقاء إلى عالم السعادة حسبنا قوله صلى الله عليه وسلم وهو المخبر بالوحي الإلهي: ( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم -أي: في النهر في البحر- فلينظر بم ترجع إليه )، فمثلاً: الذي يغمس يده في البحر الأحمر ويخرجها، ويكون هناك كيماويون حذاق يجمعون ذاك الندى أو البلل، فكم يجدونه من مليمتر أو جرام؟!فما نسبة الجرام إلى البحر؟!( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع إليه أصبعه )، وللتوضيح: فالجنة دار السلام أقل من يعطى فيها منزلاً يعطى مثل الدنيا مرتين، أي: مثل هذا الكوكب كوكبين، وأما النار عالم الشقاء، فحسبك أن تعلم أن الكافر عرض جسده مائة وخمسة وثلاثين كيلو متر، أي: ما بين كتفيه، وضرسه كجبل أحد، فأي عالم هذا يتسع لهذه الخليقة كلها؟! أقول: ضع رأسك بين ركبتيك وغمض عينك وفكر أنك هابط بالطائرة أو بالسيارة هابط.. هابط.. هابط.. إلى أين.. إلى أين..؟ يكل عقلك، فأين وصلت؟ وللتوضيح أكثر.. فكر: نازل.. نازل.. نازل.. إلى أين قل لي، تجد حدود، حديد، مياه.. إلى أين تنتهي؟ يخبرنا العلام الخلاق أنها تنتهي إلى عالم الشقاء، ذاك العالم الذي سمعتم عن أهله: ( ما بين كتفي أحدهم كما بين مكة وقديد، وإن ضرس أحدهم في النار كجبل أحد )، أحاديث صحاح.أما أهل الجنة فإنهم ليتراءون منازلهم فوق بعضها البعض كما نتراءى الكواكب الغابرة في السماء.فاللهِ العليمِ الحكيمِ القويِ القدير، الذي لا يعجزه شيء، وآية ذلك: لو تقم يا بني وتنظر إلى إخوانك الحاضرين وتجدهم على شكل واحد: آدميون: العينان والأنف، والمنخران والشفتان، والأسنان والفم والعنق، وتنظر فهل ستجد اثنين لا يفرق بينهما، بحيث هذا يدخل الليلة على امرأته، ويقول: أنا زوجك، تقول: أنت هو، والثاني يدخل على الأخرى يقول: أنا زوجك، تقول: أنت هو.. فلولا العلم والقدرة والحكمة كيف سيتم هذا؟!فلو اجتمعت البشرية كلها على صعيد واحد، ما اختلط اثنان ولم يميز بينهما، فأي علم أعظم من هذا؟ وأية قدرة أعظم من هذا. لا إله إلا الله. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، يا من فقدوا أبناءهم وإخوانهم في أحد لا تحزنوا: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، أي: اعملوا وواصلوا العمل الليل والنهار؛ العمل الصالح الذي يزكي أنفسكم ويطهرها ويؤهلها لأن تتلقى الجزاء: رضوان الله والنعيم المقيم.إذاً: لا تتململ وتقول: أنا أصوم وأصلي وما أسب ولا أشتم وأنا دائماً في مرض، أو دائماً في فقر أو دائماً في حاجة، فهذا كلام باطل يمليه عليك الشيطان، بل قل: أنا عبد الله ووليه، إن شاء أمرضني، وإن شاء أصحني، وإن شاء أعطاني وإن شاء منعني، وهو يعمل هكذا بي؛ ليربني ويرفعني إلى مستوى أوليائه.
حقيقة الحياة الدنيا
وهذا الختام: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].. فالمتاع هو ما يتمتع به المسافر، والغرور أيضاً متاع ويغرك ويخدعك.فالدنيا هذه حالها؛ فلقد أغرت أمماً ولا أقول: أفراداً، فقد أوقعتهم في الهلاك والهاوية، غرتهم بزخرفها وزينتها، بطعامها وشرابها؛ غرتهم لأنهم انخدعوا لها، فجروا وراءها الليل والنهار يعملون على جمعها وإحصائها والتمتع بها، وما هي إلا سويعات: مات فلان!! انتهى ذلك الأمل وذلك الطلب والسعي المتواصل، ووجد نفسه في عالم غير هذا العالم، إما زحزحة عن النار ودخول الجنة، وإما الاستقرار في دار البوار والعياذ بالله تعالى.
تفسير قوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم...)
ثم وجه تعالى الخطاب إلينا -وإن كان أولاً إلى رسوله وأصحابه، ونحن أتباعهم كذلك- فقال: لَتُبْلَوُنَّ [آل عمران:186] فاللام واقعة للقسم، وعزة الله وجلاله: لَتُبْلَوُنَّ [آل عمران:186] أيها المؤمنون وأيتها المؤمنات! لتختبرن اختباراً ربانياً حقيقياً، فِي أَمْوَالِكُمْ [آل عمران:186]، أول ابتلاء.. حال الحول على مالك يجب أن تزكيه ولا تتردد فأنت ممتحن، فإذا وجبت نفقة في مالك يجب أن تخرجها ولا تتردد، فقد يصاب مالك بجوائح إن كان فلاحة، وإن كان مالك غنم تسبى وتؤخذ، وإن كان مالك نقوداً قد تسلب منك، فهذا ابتلاء، فلتصبر ولتشكر فأنت ممتحن.فالذي يعطى المال لا يعطاه لجمال وجهه ولا شرف نسبه وأصله، وما أعطيه إلا للامتحان والاختبار، فهل العبد يتقي الله فيه، ويقوم به كما أمره سيده ومولاه ومعطيه؟ أم يأخذه البطر والأشر والانتفاخ؛ فيسرف في الطعام والشراب والنكاح حتى يطغى والعياذ بالله؟!والذي يسلبه أيضاً بأي صورة من صور السلب؟ فهل يضجر ويسخط، أم يقول: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون؟ فهذا هو معنى الامتحان. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ [آل عمران:186] في أموالكم أولاً، وفي أنفسكم، وفي النفس: مثلاً بالمرض والصحة والعافية والخوف. فقد تبتلى بالجهاد في أيام الشدة.. وتبتلى بالصيام في أيام القيظ.. أو بالحج وتمشي على قدميك آلاف ومئات الآلاف من الأميال.. مبتلى في نفسك بالمرض، قد يبتلى المرء فإذا به فاقد بصره، فاقد يده ورجله؛ ملازم لفراشه، كيف حاله؟ هل يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم لك الحمد على ما أوليت، ولك الحمد على ما ابتليت، أنت سيدي ومولاي، حكمك حق وأنا عبدك؟أو يقول: آه ويصرخ ويضجر وينكر على الله عمله؟! لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186] أولاً.وثانياً: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186].هانحن الآن ما نسمع؛ لأننا ما وقفنا موقف أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، لو نتلاءم وتعود إلينا الحياة الربانية نصبح نسمع من اليهود والنصارى والمشركين والعالم بأسره النقد والسب والطعن وما هو فوق ذلك، وإلى الآن يوجد وإن كنا ما نشعر؛ يوجد من اليهود والنصارى وخاصة الكتاب وعلماء النفس وعلماء القانون وكذا الطعن في الإسلام و.. و.. و.. إلى أبعد حد، والذين يعايشونهم يسمعون كما أخبر الله: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [آل عمران:186] أي: من كل الكفار؛ لأن الكفار إما مشرك وإما كتابي. وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186]، فقد سمعها الرسول عليه الصلاة والسلام وأبي بكر رضي الله عنه، ألم يقولوا الكفار: لن نؤمن لك حتى تأتي بقربان؟ وَإِنْ تَصْبِرُوا [آل عمران:186] على ذلك الأذى، وعلى ذلك الابتلاء في النفس والمال، وما تسمعون من أعدائكم؛ أعداء لا إله إلا الله، وتتقوا الله عز وجل فلا تضيعوا واجب مما أوجب، ولا ترتكبوا حراماً مما حرم، وتتقوه في الأسباب التي أمر بإتيانها وإحضارها؛ أسباب الجهاد وما إلى ذلك، فَإِنَّ ذَلِكَ [آل عمران:186] أي: الصبر والتقوى من الأمور المعزوم بها الحتمية، لا على سبيل الانتداب والاستنان والفضل فقط، بل الصبر والتقوى مما عزم الله علينا القيام به، وفرضه وألزمنا به، فالصبر والتقوى من الأمور الواجبة الحتمية، ليست من فضائل الأعمال ومستحباتها ومندوباتها، الصبر على المكاره، وتقوى الله ملازمة باب الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله فيما يأمر وفيما ينهى، هذا ليس من المستحبات، بل هو من عزائم الأمور؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]، أي: من الأمور المعزوم بفعلها، والمفروض القيام بها.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
شرح الكلمات
قال: [ شرح الكلمات:قوله تعالى: ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] أي: ذائقة موت جسدها، أما هي فإنها لا تموت]. فالروح لا تموت فهي خالدة. إذاً: نذوق ألم خروج الروح من البدن، فالألم يكون في البدن، والجرح يؤلم الجسم، فكيف بخروج الروح؟ تذوق المرارة، ولهذا الرسول عانى منها، وهو في آخر ساعاته يقول: ( لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات )؛ لأن الروح سكنت هذا القصر سواء عامين أو عشرة أو وسبعين أو ومائة سنة، فمن الصعب خروجها بكل سهولة، فكل نفس ذائقة مرارة الموت وآلامه، وبمفارقة الروح للجسم يموت وتنقطع عنه الحياة.[ وقوله: تُوَفَّوْنَ [آل عمران:185] أي: تعطون جزاء أعمالكم خيراً أو شراً وافية لا نقص فيها أبداً ]. ولا حتى جرام واحد.[ قوله: زُحْزِحَ [آل عمران:185]: أي: نحي وأبعد.وقوله: فَازَ [آل عمران:185] أي: نجا من مرهوبه ومخوفه وهو النار، وظفر بمرغوبه ومحبوبه وهو الجنة.وقوله: مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]: المتاع: كل ما يستمتع به، والغرور: الخداع، فشبهت الدنيا بمتاع خادع غار صاحبه، لا يلبث أن يضمحل ويذهب.وقوله: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186] أي: لتختبرن في أموالكم بأداء الحقوق الواجبة فيها، أو بذهابها بسبب من الأسباب، وفي أنفسكم بالتكاليف الشاقة؛ كالجهاد والحج، أو المرض والموت والفقر.وقوله: أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:186] أي: اليهود والنصارى ] ما تتردد أبداً سواء تقرأ أو لا تقرأ.[ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [آل عمران:186] أي: العرب ]. والآن الصين واليابان والروس والهنادس والبوذا كلهم مشركون، كانوا العرب فقط، والآن الشرك عام.قال: [ وقوله: فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]: يريد أن الصبر والتقوى من الأمور الواجبة التي هي عزائم وليس فيها رخص ولا ترخيص بحال من الأحوال].
معنى الآيتين
[معنى الآيتين الكريمتين:قال: ما زال السياق في تعزية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه]، أي: لما أصابهم في معركة أحد، فقد استشهد سبعون رجلاً. قال: [ لقد جاء في الآية السابقة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما آلمه من تكذيب اليهود والمشركين له]، فمثلاً: لو قلت كلمة في إخوانك وكذبوك وأنكروا عليك تبيت في كرب، والرسول يحمل رسالة الله ويضحك اليهود ويقولون: لو كنت نبياً هات الدليل والبرهان على نبوتك، ائتنا بقربان تأكله النار، ما يكرب لهذا الرسول ويحزن، وهو مكلف بالبلاغ؟قال: [عما آلمه من تكذيب اليهود والمشركين له، وفي هذه الآية أعظم تسلية وعزاء، إذ أخبر تعالى فيها بأن كل نفس مهما علت أو سفلت ذائقة الموت لا محالة، وأن الدنيا ليست دار جزاء، وإنما هي دار كسب وعمل، ولذا قد يجرم فيها المجرمون ويظلم الظالمون، ولا ينالهم مكروه، وقد يحسن فيها المحسنون ويصلح المصلحون ولا ينالهم محبوب]. [وفي هذه تسلية عظيمة وأخرى أيضاً: العلم بأن الحياة الدنيا بكل ما فيها لا تعدو -لا تتجاوز- كونها متاع الغرور، أي: متاع زائل غارٌ ببهرجه وجمال منظره، ثم لا يلبث أن يذهب ويزول، وهذا ما دلت عليه الآية الأولى.أما الآية الثانية: ففيها يخبر تعالى رسوله والمؤمنين -ونحن معهم الحمد لله- بأنهم لا محالة مختبرون في أموالهم وفي أنفسهم؛ في أموالهم بالحوائج، وبالواجبات اللازمة فيها، وفي أنفسهم بالمرض والموت والتكاليف الشاقة؛ كالجهاد والحج والصيام، وإنهم لابد وأن يسمعوا من أهل الكتاب والمشركين أذى كبيراً، كما قال فنحاص : الله فقير ونحن أغنياء! أو كما قال النصارى: المسيح ابن الله ]، المسيح ابن الله؟! كيف يستسيغها مؤمن هذه؟ لو قال المسيح ابن الله لصفع على خده، كيف يكون المسيح ابن الله؟! الله خالق السماوات والأرض، خالق الملكوت يحتاج إلى زوجة وولد؟ أين يذهب بعقلك. فهذا يؤلم المؤمن.[ وكما قال المشركون: اللات والعزى ومناة الآلهة مع الله، ثم حثهم تعالى على الصبر والتقوى، فقال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران:186]، فإن صبركم وتقواكم مما أوجب الله تعالى عليكم، وليس هو من باب الندب والاستحباب، بل هو من باب الفرض والإيجاب].
هداية الآيتين
قال: [هداية الآيتين الكريمتين] لقوله تعالى: هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة:185]، فكل آية تهديك إلى سبل السلام، وكل آية ترفرف وتلوح.. امش فالجنة أمامك.وأوضح هذا المعنى: لماذا سميت الآية آية؟ وآي القرآن ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل آية تدل دلالة قطعية يقينية أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الطريق الموصل إلى قربى يجعل له علامات تدل عليه، وكل علامة دالة على هذا الطريق، كذلك كل آية تدل دلالة يقينية أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن آمن بهذا دخل في رحمة الله على علم. نقول: بسم الله الرحمن الرحيم: ق [ق:1]، فهل يوجد كلام بدون متكلم؟ مستحيل.إذاً: هذه الآية دالة على وجود الله الذي نطق بها وأنزلها، والذي نزلت عليه وتلقاها يكون رسولاً، فمستحيل أن يكون غير رسول، أيرسل إليه كلامه وينزله عليه ولا يكون رسوله؟ إذاً: فسدت العقول البشرية، ما أصلح شيء في الحقيقة، فكل آية أنزلها الله دالة على وجود الله وعلى علمه وقدرته وحكمته، والذي أنزل عليه لن يكون إلا رسوله ونبيه، فلهذا كل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: [ من هداية الآيتين:أولاً: ليست الدار الدنيا بدار جزاء، وإنما هي دار عمل ]. ما آية ذلك؟ كم من مستقيم عاش فقيراً ومريضاً، فهل جزي بصلاته وصيامه؟ وكم من فاجر عاش غنياً، هل عوقب بكفره؟ والعكس وإن وجدنا أثراً للعمل الصالح، نقول: بركة العمل الصالح، وإن وجدنا شقاء أو عذاب مع الكفر والفسق نقول: هذا من شؤم معاصيه، وليس هو الجزاء، جزاؤه: مجرم يخلقه الخالق ويرزقه ويحييه ويخلق كل شيء في الأرض والسماء من أجله، ثم يكفر به ويسبه ولا يطيعه كم يجازى هذا؟فلا يكفي أن يجازى بمرض خمسين عام، ولا يكفي أن يجازى بأن يقتل ويصلب مرة أو ألف، فلهذا الجزاء في المستقبل في الدار الآخرة، حيث يعيش بليارات السنين بلا نهاية في العذاب، مقابل الجريمة العظمى وهي الكفر.نسألكم: لِمَ خلق الله هذه الأكوان؟! أليس من أجلنا؟ يا ابن آدم لقد خلقت كل شيء من أجلك، أيخلق لك هذه العوالم كلها من أجل أن تذكره وتشكره، فإذا بك تكفره وتجهله، فتكون كمن نسف السماوات، ودمر الأرضين، وخرب العوالم كلها، كم يكون جزاءه إذاً؟يعيش في عذاب أبدي. قال: [ أولاً: ليست الدار الدنيا بدار جزاء أبداً، وإنما هي دار عمل ]، وإن رئي فيها خير أو عذاب هو شؤم أو بركة ويمن فقط.[ ثانياً: تعريف الفوز الحق، وهو الزحزحة عن النار ودخول الجنة.ثالثاً: بيان حقيقة هذه الحياة، وأنها كمتاع خادع؛ لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل ]. وهو كذلك مشاهد.[ رابعاً: الابتلاء ضروري، فيجب الصبر والتقوى، فإنهما من عزائم الأمور لا من رخصها ]. يا من يريد أن يقرع باب الجنة! اصبر على ما ابتلاك الله به، واتقيه فلا تخرج عن طاعته ونهايتك معلومة وهي الاستقرار في دار السلام.اللهم حقق لنا ذلك. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (77)
الحلقة (218)
تفسير سورة آل عمران (8)
هذا الكون الفسيح بمخلوقاته وعوالمه ليس له إله إلا الله، وهذا ما شهد به الله عز وجل لنفسه، وما شهدت به ملائكته، وما شهد به أولوا العلم قاطبة، فهي أشرف شهادة على أشرف قضية، والمؤمن الحق لا يسعه إلا أن تواطئ شهادته شهادة الله وملائكته في هذه القضية، مدخراً لنفسه هذه الشهادة ليوم يلقى الله سبحانه وتعالى فيه.
تفسير قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط ....)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله الذي أهلنا لهذا الخير؛ إن ربنا لعلى كل شيء قدير.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث، وهي من سورة آل عمران كما علمتم، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:18-20].
فضل شهادة أن لا إله إلا الله
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نقل القرطبي رواية عن الكلبي رحمهما الله: أن حبرين من أحبار اليهود جاءا من الشام لما بلغهم ظهور محمد والإسلام، فلما انتهيا إلى المدينة -طيبة ذات السبخة والنخيل- قالا: ما أشبه هذه بمدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان -حسب النعوت في التوراة والإنجيل- ودخلا المدينة ووقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فعرفاه معرفة يقينية ( فقالا: أنت محمد؟ قال: نعم. أنت أحمد؟ قال: نعم. قالوا: نسألك؟ فقال: سلاني؟ قالوا: نسألك عن أعظم شهادة في كتاب الله، فأنزل الله تعالى هذه الشهادة: (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))[آل عمران:18] ) فدل هذا على فضل هذه الشهادة.ثانياً: ما ورد في فضل هذه الشهادة، ونحن والحمد لله نعمل به، حتى إن التابعي الذي روى هذا الفضل قال لأحد طلبة العلم: إن تقم عندنا سنة نطلعك على هذه الفضيلة، تبقى سنة كاملة تطلب العلم عندنا ثم نزودك بها، وأغلب الطلبة الصغار كـعدنان وجماعته لا يقبلون هذا، ونحن -والحمد لله- كم فرحنا وكم سررنا بها وما تركناها مرة من يوم أن سمعناها؛ لأننا طماعون، هذه الفضيلة: ( أن من تلا هذه السورة وانتهى بتلاوته إلى هذه الآية: (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))[آل عمران:18] قال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، فهي لي عند الله وديعة، يجاء به يوم القيامة، ويقول الله عز وجل: لقد عهد إلي عبدي وأنا أحق من يوفي بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة ). من قرأ هذه الآية أثناء قراءة السورة وانتهى إليها، قال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة - أي: أتركها عنده وديعة- فهي لي عند الله وديعة، يردها إلي يوم القيامة. قال: يجاء بهذا الشاهد يوم القيامة، ويقول الله عز وجل: لقد عهد إلي عبدي وأنا أحق بمن يوفي بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة. فإن شاء الله تقولونها، ومن قال لكم: الحديث ضعيف؛ ليثبطكم فقولوا له: نحن طماعون. ما الذي يضرني أن أقول هذا؟ هل هذا ينتقص من ديني وإيماني؟ لا. بل يزيد في إيماني وديني. إذاً: نقول: وأنا أشهد بما شهد الله، وأستودعك اللهم هذه الشهادة، فهي لي عندك وديعة ردها إلي عند الحاجة إليها. أي مانع يمنع من قول من هذا؟!
معنى قوله تعالى: (شهد الله)
إذاً: هيا نتدارس هذه الآية، يقول الله: شَهِدَ اللَّهُ [آل عمران:18] بمعنى: علم، إذ الشهادة لا تكون إلا على علم، فلا تشهد على كذا أو كذا حتى تكون قد رأيت أو سمعت أو علمت بوسائط العلم، فحينئذ تشهد. وهنا كثيرون من أهل العلم يقولون: الإيمان المقلد صاحبه لا ينفعه، يقول: سمعت الناس يقولون فقلت. هذا ما يجدي ولا ينفع! كيف تشهد أن لا إله إلا الله؟ كيف عرفت أنه لا إله إلا الله؟ ما هي وسائل معرفتك؟ تقول: نظرت إلى الكون كله فوجدته مخلوقاً مربوباً مدبراً، وعلمت أن خالقه ومدبره اسمه الله، فعلمت أنه لا إله إلا الله! ما عثرنا على خالق ولا مدبر في هذا الكون يحيي ويميت.. يعطي ويمنع.. يضر وينفع.. يضع ويرفع.. يبسط ويقبض، بحثنا فما وجدنا فعلمنا أن الذي يدير هذا الكون هو الرب الحق، هو الإله الذي لا إله غيره، فأنا أشهد أنه لا إله إلا هو.إذاً: لا تقل: سمعت الناس يقولون لا إله إلا الله فقلت لا إله إلا الله. حقاً هذه لا تجدي ولا تنفع؛ لأنه بالإمكان أن تشكك وترجع عما تقول، لكن إذا شهدت شهادة علم ومعرفة وأيقنت أن الإله هو المعبود -من أله بمعنى عبد، والمألوه هو المعبود- وهو من يستحق العبادة فيعبد لا تتزحزح، فتشهد بأنه الذي وهبني حياتي، وأعطاني رزقي وكلأني وحفظني من العوائق ومن العاهات والآفات، ذاك إلهي ومعبودي، بحثتُ عن غير الله فما وجدت، كل الكائنات مربوبة مخلوقة تمضي وتموت، وتتعرض للمحن والفتن، فليس فيها من هو الله يعبد أبداً، فقلت: إذاً: أشهد أنه لا إله إلا الله، فهذه شهادة علم.
من شهد أن لا إله إلا الله فقد وافقت شهادته شهادة الله وملائكته وأولي العلم
وهناك لطيفة في الإمكان أن تعوها، وهي: أولاً: أنك عندما تشهد أن لا إله إلا الله فأنت تشهد بشهادة الله، فمادام الله عز وجل العليم الخبير الحكيم خالق كل شيء قد شهد بناء على علمه أنه لا يوجد إله إلا هو فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فأنت تشهد بشهادة الله.ثانياً: الملائكة الذين يحفون بنا، ويحوطون بالكون وهم يسكنون السموات والأرضين؛ هذه الملائكة كلها مجمعة على أنه (لا إله إلا الله)، فهل بعد شهادة هذا العالم النوراني الذي لا يعرف الكذب ولا يعرف المعصية أبداً شهادة؟ شهادتهم لا تثق فيها أنت ولا تشهد بها؟! نحن نشهد بشهادة الملائكة؛ لأنهم عرفوا الكون ظاهره وباطنه، وما وجدوا من يستحق أن يؤله ويعبد فآمنوا بأنه لا إله إلا الله، فنحن أيضاً نتابع الملائكة.ثالثاً: أولوا العلم.. أصحاب العلم، الرسل، الملائكة، العلماء -أي: العارفون بالله عز وجل- وهؤلاء -وهم بالبلايين- كلهم شهدوا أمام العالم أنه لا إله إلا الله، وأنت تشك مع هذا؟ عهدنا بك إذا شهد أخوك على شيء تقلده، وهذا التقليد حسن؛ لأنه تقليد للعليم الحكيم، والله شهد فأنا أشهد، فأنا لست بأعلم من الله بالكون. إذاً: أنا أشهد بما شهد الله به، وأستودعك اللهم هذه الشهادة، وأشهد بما شهدت به الملائكة ومنهم حملة العرش والكروبيون والموكلون بالأرحام.. بالجنة.. بالنار.. بالسماء.. بالأمطار.. بالكون كله، لو كان إله غير الله مع الله فيعرفونه ويعثرون عليه، ولكنه لا إله إلا الله.رابعاً: الأنبياء مائة وأربعة وعشرين ألف نبي، والرسل ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً، والعلماء من آدم والعارفون بربهم.. الكل يشهد أنه لا إله إلا الله وأنت تقول: أنا لا دري؟ أنا أشك؟ أهذا عقل؟! إن الذين ما استطاعوا أن يدركوا هذه الشهادة من النظر إلى الكون يقولون: مادام ربنا قد شهد أنه لا إله إلا هو فنحن بشهادة الله نشهد، وإنهم لفائزون! شهد الملائكة -وشهادة الملائكة فوق كل شهادة من الناس- وشهد الأنبياء والرسل، وشهد العلماء ولا نشهد بشهادتهم؟! إذاً: ما بقيت شهادة في الدنيا، القاضي لا يقضي بشيء أبداً، مع أن القاضي يقبل شهادة اثنين على أن فلان مات وقتلوه ويقتلهم! ويشهد اثنان على أن العمارة الفلانية لفلان فيقضي القاضي بشهادتهما وينقل العمارة للآخر، فكيف إذاً يشهد الله وملائكته والعلماء ولا تقبل شهادتهم وتبقى مرتاباً شاكاً؟!الحمد لله، إذا تلونا هذه الآية نقرر هذه الحقيقة، ونحن نشهد بما شهد الله به، ونستودع الله هذه الشهادة، فهي لنا عند الله وديعة يردها إلينا إن شاء عند الحاجة إليها!
استحالة وجود إله حق مع الله
يا معشر المستمعين والمستمعات! علمتم أنه يستحيل أن يوجد إله حق في العوالم العلوية والسفلية مع الله أبداً، مستحيل! وكل من عبد معبوداً وألهه فعبادته باطلة وهو كافر وكذاب ودجال، فلا يوجد إله أبداً إلا الله، ونحن نوقن بهذا ونقوله عن علم وبصيرة، فلا يخالجنا شك ولا يقع في نفوسنا ريب، ونقسم بالله ملايين الإقسامات أنه لا إله إلا الله.هنا تأملوا! هل الذي شهد أنه لا إله إلا الله يجب عليه أن يعبده أم لا؟ الذي اعترف أن هذه السيارة لإبراهيم بن سلمان نقول له: أعطه سيارته إذاً. فإذا قال: لا أعطيه! وقد اعترف أمام القاضي أن هذه السيارة سيارة فلان فإنه يحتاج إلى الصفع والتأديب. والذي يعلن في وضوح وصراحة ويشهد أنه لا معبود بحق إلا الله ولا يعبده موقفه هذا أسوأ من الذي قال: ما أعترف به أنه الله! فإذا قلت له: لا تجاهر. قال: أنا ما عرفت أنه لا إله إلا هو، فأنا أعبد معه عيسى أو عبد القادر ، والذي يقول: أنا أعرف أنه لا إله إلا هو ولكن لا أعبده هذا أسوأ وأقبح. فلهذا بمجرد ما يقول المرء: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله نقول له: اغتسل فوراً، اغتسل بالماء الطاهر أو الطهور، وصل إذا حضرت الصلاة، وبعد شهرين أو ثلاثة يأتي رمضان فتصوم رمضان، وبعد أربعة أشهر سوف تحج حجة إن استطعت، وإن كان لديك مال وحال عليه فأخرج زكاته، فإن قال: لا. لا أزكي، أو لا أصوم أو لا أحج فكلامه باطل وشهادته مردودة عليه.إذاً: من قال: (أشهد أن لا إله إلا الله) وجب عليه -أولاً- أن يعبد الله، إذ شهد أنه لا معبود إلا هو، فيقول بلسانه ما اعتقد بقلبه.إذاً: لا بد وأن يركع بين يديه سبحانه ويسجد.
صرف نوع من العبادة لغير الله ناقض لشهادة أن لا إله إلا الله
ثانياً: من شهد أن لا معبود إلا الله وعبده ثم عبد معه غيره بنوع من أنواع العبادة قل أو كثر فقد تناقض، فهو قال: أنا أشهد على علم أن لا معبود إلا الله، وها أنا أعبده، وهو في الوقت ذاته يعبد معه غيره بأي نوع من أنواع العبادة، فهذا تناقض، فكيف تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وتعبد سيدك فلان معه، فقد تناقضت.كان المفروض أن تقول: لا إله إلا الله وسيدي فلان! فنفهم عنك أنك تعتقد أن إبراهيم أو فلان يعبد، وأنت تعبده، وهذه العبادة باطلة وهو كفر، لكن فقط من حيث القضاء الشرعي إذا اعترف بأن لا معبود إلا الله، ثم عبد معه غيره فقد تناقض، نقض قوله الأول وأبطل كونه لا إله إلا الله، كان يقول: لا إله إلا الله وفلان معه! فإذا كان صادقاً في القول فلا يقول: لا معبود إلا الله ويعبده ويعبد معه غيره. والغالب أن من عرف أن لا إله إلا الله لا يعبد إلا الله، وإن وقع غير ذلك من بعض الناس فبسبب جهلهم بالعبادة التي فعلوها، والجهل بأنواع العبادات هو الذي يوقع الجاهلين في صرفها وعبادة غير الله بها.
ضابط العذر بالجهل في صرف نوع من العبادة لغير الله
هل يعذرون بجهلهم؟ يعذرون إذا وجدوا في بلد لا يوجد فيه من يعرف الله، وحيل بينهم وبين طلب العلم، أما أن يعيش الرجل سنوات عديدة ولا يعرف لم يعبد الله، ولا ما هي عبادة الله فلن ينجو من غضب الله وعذابه.ونمثل بالعبادة التي هي مخ العبادة وروح العبادة وهو الدعاء، السؤال والطلب، الدعاء هو السؤال والطلب: أعطني واكشف ضري، افعل كذا، هذا هو الدعاء، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة ) حصر العبادة كلها فيه، فما خرج منها شيء، كقوله: ( الحج عرفة )، فكل أعمال الحج اندرجت ودخلت في عرفة فإذا لم يقف الحاج بعرفة ما حج ولو طاف سبعين مرة، وكذلك الدعاء هو العبادة، وورد: (الدعاء مخ العبادة) وإن لم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالها صحابي أو تابعي فمرحباً بها!الدعاء مخ العبادة، فهل يعيش الإنسان بدون مخ؟ لا، إذاً: العبادة لا تنفع بدون دعاء، فالعبادة مخها الدعاء: أعطني، اكشف ضري، فرج عني، سبب كذا، هذا هو الدعاء، والذين يدعون مع الله غيره قد تناقضوا في شهادتهم.ولعل الأحداث ما شاهدوا هذا، لكن كبار السن يعرفون هذا، فقد عاشت أمتنا من آخر الشرق إلى آخر الغرب قبل ظهور هذه الدعوة الوهابية -كما يسمونها- والناس يعبدون الأولياء بعبادة فيها الرغبة والصدق أكثر من عبادة الله، إلا من نجى الله وسلم، فتجد واحداً في القرية، أو خمسة في المدينة، والباقون كلهم: يا رسول الله! يا فاطمة ! يا حسين ! يا عبد القادر ! يا عيدروس ! يا مولاي إدريس ! يا سيدي فلان! وأما الله فنسوه أبداً.تجد الرجل في يده المسبحة يسبح: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! لا إله إلا الله، فيأخذه النعاس وتسقط المسبحة من يده فيقول: يا رسول الله! فهذا ما يعرف الله! قد يقول قائل: يا سيدي فلان! لعل الشيخ واهم؟ فهنا أقول لكم: إياكم أن يخطر ببالكم أن من يجلس هذا المجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يكذب على الناس، أو يقول بدون علم، انزعوا هذا من أذهانكم. وقد قلت لكم: ركبنا مرة إلى جنب أخينا وهو يقود السيارة فما إن خرجت عن الطريق قال: يا رسول الله! يا رسول الله! فقلت له: أين الله يا فلان؟! تعود على هذا، شب وشاب عليه. وأكثر من هذا نحلف بغير الله! والمؤمنة يهزها الطلق والوجع وهي تلد وقد وضعوا لها حبلاً في خشبة أيام لم يكن هناك طبيبات ولا أطباء، ويا أسعد تلك الأيام! يهزها الطلق: يا رب! يا رسول الله! يا ألله! يا سيدي فلان! يا سيدي فلان! فتذكر مرة الله ومرة الأولياء، ولو ماتت على تلك الحال ما شمت رائحة الجنة. هذه هي عبادة غير الله، دعاء وسؤال غير الله شرك وكفر وإبطال لشهادة لا إله إلا الله، فكيف تشهد أن لا إله إلا الله ثم تؤله معه فلاناً؟ سيقول: يا شيخ! أنا ما ألهته. فأقول له: دعاؤك، طلبك، سؤالك منه والله لهو التأليه إذا ما تعرف! لولا رغبتك وطمعك واعتقادك أنه يعطيك والله ما سألته! فليبلغ السامعون والسامعات الغافلين والغافلات أن من قال: يا فلان! يدعوه ويسأله فقد أشرك في عبادة الله، ونقض شهادة لا إله إلا الله! نعم. يجوز أن تقول: يا إبراهيم! يا عثمان! يا أخي يا أبتاه! يا خادم! إذا كان يراك وتراه ويسمع كلامك وتسمع كلامه، ويقدر على أن يعطيك ما تطلب، لو تقول: يا أعمى قدني! يضحك عليك الناس أم لا؟ تسأل أعمى أن يقودك في الشارع وهو أعمى! تقول لفقير مسلوخ: أعطنا ألف ريال. يضحك عليك الناس أم لا يضحكون؟ يضحكون إذ كيف تسأل من لا يملك؟!فلهذا إن دعوت حياً يراك ويسمع ويقدر على أن يعطيك ما تطلب جاز ذلك بإجماع المسلمين، وأذن الله فيه، يا فلان! من فضلك كأس ماء، هذا لا بأس، ولا نقول: هذا دعاء غير الله، فهذا أذن الله فيه، وهذا من التعاون: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2] لكن شخص لا تراه ولا يراك وبينك وبين بلاده عشرة آلاف كيلو متر ومات منذ ألف سنة وتناديه فلا، فهذا شرك. أسألكم بالله! كم ألف كيلو متر بين المغرب والعراق؟ عشرة آلاف كيلو، وبينك وبين عبد القادر ألف سنة، وتقول: يا سيدي عبد القادر ! يا راعي الحمراء، يا مولى بغداد ! المدد، تضحك على نفسك أم ماذا؟! أهو يسمع؟! والله يخبرك أن الميت لا يسمع وإن سمع فلا يستطيع أن يعطيك سؤلك، وقد بين تعالى هذا بياناً شافياً فقال: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14] والله ما يقف عبد القادر ولا سيدي إبراهيم ولا فاطمة ويقول: يا رب! سامحه، هذا كان يدعوني! والله ما من أحد إلا يتبرأ ممن كانوا يدعونه ويعبدونه. وضحت قضية السؤال والدعاء أم لا؟ الدعاء هو العبادة، فارفع يديك إلى الله في السوق بين الناس أو في أي مكان ولا يلومك إلا أحمق أو مجنون! رفعت كفيك إلى ذي العرش الذي يملك كل شيء، ويقدر على إعطاء كل شيء، فاسأله ولا تخف، أما أن تسأل من لا يراك ولا يسمعك وإن سمعك لا يقدر على أن يعطيك شيئاً فأنت بهلول تلعب وتعبث! وقد قلت لكم: شخص ليس عنده شيء فكيف تقول له: أعطني؟ أنت تضحك على نفسك! كالذي يقف على خربة دار مهدمة سقوفها طائحة، أبوابها منزوعة، فيقف أمام البيت فينادي: يا أهل الدار! إني فقير! يا أهل البيت إني محتاج. ليس في البيت أحد، فامش إلى بيت فيه أهله والطعام بين أيديهم واسألهم!
من شهد أن لا إله إلا الله وجب عليه أن يعبده
ثالثاً: الذي يشهد أن لا إله إلا الله بشهادة الله والملائكة وأولي العلم يجب أن يعبد الله، وإلا لا تغني عنه شهادته، بل يعتبر منافقاً.
من شهد أن لا إله إلا الله لا يسمح لنفسه أن يعبد مع الله غيره
رابعاً: أن لا يسمح لنفسه أن يعبد مع الله غيره أبداًً، لا من الملائكة ولا من الإنس ولا من الجن، لا من الأفاضل ولا من الأسافل، فلا يعترف بالعبادة إلا الله، والدعاء من أبرزها وأظهرها.
من شهد أن لا إله إلا الله لا يقر عبادة غير الله
خامساً: أن لا يقر عبادة غير الله، فإن كان يشهد أن لا إله إلا الله وعبد الله بتلك الشهادة وتبرأ من الشرك ولم يعبد غير الله ثم يسمح للآخرين أن يعبدوا غير الله فقد تناقض.لم إذاً تقول: لا إله إلا الله وأنت تراهم يعبدون غير الله وتبارك وتسكت؟! علمهم بأن هذا باطل، وأن هذا شرك، ولا يصح أبداً، فإن سكت وضحكت وقلت: لا بأس؛ فمعناه: أنك اعترفت بعبادة غير الله، وحينئذ تناقضت، وكان المفروض أن تقول: اللهم إلا فلاناً الذي يعبده الفلانيون. فنحن لا نقر النصارى على عبادتهم أبداً، ما أمرنا بقتلهم ولا قتالهم، ولكننا لا نعترف بأنهم على حق، وأنهم يعبدون غير الله، بل هم كفار من أهل النار.
معنى قوله تعالى: (قائماً بالقسط)
قال الله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18] القسط: العدل. إي والله! فعلى العدل قام أمر السماء والأرض، وإذا حل الجور أو الانحراف أو الميل فسدت الحياة. من القائم بالقسط؟ إنه الله، ولو تلاحظ -فقط- عدل الله في الكواكب كيف تستمر آلاف السنين فلا تسقط! عدله في عباده.. في رزقهم.. في تصحيحهم.. في تمريضهم.. في إعطائهم.. في منعهم.. في كل مظاهر الحياة، فهي تدل على عدالة الله عز وجل.
معنى قوله تعالى: (لا إله إلا هو)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:18]، فلا نثبت إلهاً آخر غير الله.كثيراً ما نقول: هيا نحقق هذا القضية، فندخل مجمع روسيا العلمي أو جامعتهم أو وزارتهم وهم فلاسفة لا يؤمنون بالله، وهم جالسون بأقلامهم وآلاتهم،علماء، وكما كانوا يتباهون ويتفاخرون الآن ذلت أنوفهم وانكسرت وانتهت الشيوعية، ونقول: اسمعوا، لا إله إلا الله، انقضوها يا علماء! هذه جملة خبرية كأن تقول: فلان غائب، أو فلان موجود، فتثبت وجوده أو غيابه، فلما نقول: لا إله إلا الله انقضوها، فإنها تنقض بشيئين إن توفر أحدهما انتقضت وبطلت لا إله إلا الله.الشيء الأول: تنقض بوجود إله مع الله. ابحثوا عن إله مع الله! قالوا: عيسى. فقلنا: هذا عيسى بن مريم ولدته امرأة، ومضت آلاف السنين وهو غير موجود فكيف يوجد غيره؟الشيء الثاني: انقضوها بأن تثبتوا أنه لا إله بالمرة. وهذه أضحوكة وسخرية ولا يقولها إلا معتوه مسحور مجنون. قف في المجتمع، واسأل من يعاند وينكر وجود الله: أنت موجود أو غير موجود؟ فإن قال: أنا غير موجود. فهذا مجنون هذا! هذا الذي يقول: أنا غير موجود مجنون لا عقل له، فأبعدوه. ثم اسأل الآخر: أنت موجود أو غير موجود؟ فإن قال: كيف غير موجود؟ أنا موجود، أسمع وأبصر وأعي. تقول له: من أوجدك؟! فيقول: ها! فقل له: إذاً: الله هو الذي أوجدك! تحطمت الشيوعية وانتهت نهائياً، فمن ذا الذي يكون من العقلاء ويقول: أنا غير مخلوق؟! من يقول: أنا غير موجود؟ إن قال: مخلوق، فنقول له: ابحث عن خالقك من هو! وإن قال: موجود. نقول له: من أوجدك؟ اسأل، فيقول: اذهب إلى اليابان وأسأل العلماء: من أوجدني؟فنقول: تعال عندنا نعلمك من أوجدك إن كنت لا تعلم، ولكنهم بالفطر والغرائز الإلهية المغروزة سوف يقولون: الله حسب بلغته أحب أم كره.وحدثني أحد الإخوان وقد مات رحمة الله عليه، قال: كان يعيش في فرنسا وبدأت البلشفية الحمراء، وبدءوا يتمزقون ويدينون بـ(لا إله والحياة مادة)، دعونا من الكنيسة، وقد كانت له صديقة أو صاحبة مسيحية تدرس في الجامعة، وتقرر في نفسها أنه لا إله، لا عيسى ولا الروح، وتبلشفت، وهي تجادل على ذلك. قال: لما حملت وجاء الطلق وأرادت أن تلد ذهبت إليها في المستشفى -مستشفى الولادة- فوجدتها تصرخ: يا ألله، يا رب! فأخرج لها ألف فرانك وقال لها: هذا إلهك الأول، فلم لا تقولي: يا فرانك! يا فرانك! بل تقولي: يا ألله؟! قالت: اذهب عني. وهي كانت إذا جادلت تقول: الإله هو في جيبي.. الفرانك، دعونا من كلمة الله والدين هذه، فلما وقعت في محنة الولادة وهي إلى الموت أقرب من الحياة خرج لها هذا، فقالت: اذهب عني، الله هو الذي ينجيني ويخلصني.إذاً: الآن أقمنا شهادتنا على العلم، فنشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.إذاً: شهدنا الله بالوحدانية، فمحمد كيف عرفنا أنه الرسول؟! خصومه قالوا: ساحر. قالوا: كاهن. قالوا: مجنون. قالوا: عميل. قالوا: كذا. فكيف تقيم البرهنة على شهادتك أنه رسول الله؟ ماذا تصنع يا عبد الله؟! أقرب طريق وأيسره وأسهله أن تقول: هذا القرآن نزل عليه، فكيف ينزل عليه كتابه ويوحيه إليه بطريق الوحي ولا يكون رسولاً؟ مستحيل هذا! فحسبنا في شهادتنا أن محمداً رسول الله: أن الله عز وجل اصطفاه وانتخبه واختاره من بين بلايين البشر وأنزل عليه كتابه.هل هناك دليل أعظم من هذا؟ كيف يكون غير رسول الله والله أنزل عليه كتابه وأرسله وناداه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، وطالب البشرية بالإيمان به؟! إن الذي ينكر رسالة محمد مجنون أحمق معتوه، أو نصاب محتال يريد أن يعيش على حساب جهل الناس وتضليلهم، فنبوته صلى الله عليه وسلم ثابتة أوضح من ثبوت الشمس! فهو صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، عاش أربعين سنة ما عرف كلمة وقال: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس:16]، بعد ما عاش أربعين سنة ما قال كلمة ولا ادعى كلمة، وبعد ذلك ينزل عليه الوحي الذي يحمل الهداية الإلهية للخلق أجمعين أبيضهم وأسودهم، وتقولون: ما هو رسول! كيف ما هو برسول؟ والله ما أنكر رسالته إلا الطماعون والماديون أحباء البغي والعدوان والتسلط من اليهود والنصارى.إذاً: شهد الله أنه لا إله إلا هو، ونحن نشهد بما شهد الله به، ونعلنها على المآذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا هو. أي: لا معبود في السماء ولا في الأرض بحق إلا هو فقط. ولو قيل لك: ما الدليل؟ فتقول: الدليل: أنه لا يوجد من خالق لذرة أبداً سوى الله، كم من مرة نقول: لو اجتمعت البشرية على أن تخلق ريشة فقط ما استطاعوا! لو اجتمعت البشرية على أن تخلق خفاشاً أو بقرة أو إنساناً والله ما فعلت! هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3] لا أبداً، إذاً: لا إله إلا الله.
معنى قوله تعالى: (وهو العزيز الحكيم)
قوله: الْعَزِيزُ [آل عمران:18] معناه: الغالب القاهر الذي لا يمانع في شيء أراده، فإذا أراد شيئاً لو تجتمع الخليقة كلها على أن تحول الله عن مراده والله ما استطاعت ولا تقدر إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] فهو على الفور يكون!إذاً: العزيز معناه: الغالب القاهر الذي لا يمانع فيما يريد، والذليل من أمثالنا يريد الشيء ولا يقدر عليه، يأخذ الشيء ويؤخذ منه بالقوة؛ لعدم عزته، أما الله العزيز الكامل العزة الحكيم فلا غالب له، ولا يمانع فيما أراد. الله حكيم أم لا؟ هو الحكيم سبحانه، وعندكم تسمون الطبيب بالحكيم، زمان كان الطبيب لا يعرف إلا بالحكيم؛ لأنه يعرف أين يضع الدواء في الداء! لو يعطيك الطبيب كأساً من الليمون ويقول: ضعه عند قدمك، فكيف يكون حكيماً؟ ليس بحكيم! لو أعطاك عسلاً وقال: العسل هذا غسل به وجهك، فهذا ينفع من داء البطن فهل يكون حكيماً؟ الحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه، ولا يخالفه أبداً، فالطبيب سمي حكيماً في لسان البشرية كلها لأنه يعرف الداء، ويضع الدواء على الداء؛ فيبرأ العبد بإذن الله. والله عز وجل هو الحكيم العليم، فكر في كل شيء تجد حكمة الله ظاهرة! من خالقنا؟ إنه الله! نحن أهل الحلقة ألف نسمة، هل يوجد أحدنا لا يميز عن أخيه إلى جنبه مع أن العينين والأنف والشفتين والفم والعنق والرأس والصدر والجسم هو هو لا نختلف عن بعضنا؟ أبداً!لكن انظر إلى أي واحد لا تستطيع أن توجد واحداً مثله لا يفرق بينهما. لا قدر الله! لو شاء الله لقال: كونوا كـعدنان، ونخرج كل واحد يذهب إلى بيت فلان أنا هو، كيف يعرفونه؟ البشرية كلها على صعيد واحد الآن لو تجتمع لا يلتبس اثنان ويختلطان أبداً! قولوا: آمنا بالله، فهذه نظائر الحكمة العجب، إذ لو اختلطنا وأصبحنا كالسيارات من تكون له مرأة خاصة به؟ من يكون له ولد؟ من يكون له بلد؟ من يكون له.. كل الناس سواء! لكن العليم الحكيم خلقنا على كثرة ما خلق فينا وكل له ميزاته وخواصه يتميز بها! من يقدر على هذا غير الله؟! حكيم أم لا؟ وانتقل من هذا إلى غيره والله ما وجدت فقيراً إلا لحكمة الله، ولا غنياً إلا لذاك، ولا صحيحاً ولا مريضاً ولا عالماً ولا جاهلاً إلا لحكمة ربانية اقتضت ذلك. إذاً: يسلم الأمر للحكيم ولا ينازع؟
بعض مظاهر منازعة الخلق لله في أمره
ولكنكم أنتم نازعتموه عز وجل وذلك بأمور: أولاً: الحكام المسلمون أبعدوا شرع الله وقدموا شرع غيره. ما هو موقفهم؟ أبعدوا الله أم لا؟ اتهموه بالنقص، ما عنده علم. يقولون: هذه الشرائع التي جاءت من أوروبا هي التي تحقق العدل والمساواة وتحقق كذا وكذا، أما شريعة الله هذه فقد أكل عليها الدهر وشرب. والله لهذا هو موقف من يحكم شرع غير الله، وهو يقول بلسان حاله: الله لا حكم عنده، وليس هو لها بأهل، ولذا شرعه ما يسعد ولا يكرم ولا يحقق هناء ولا سعادة. واضحة هذه أم لا؟ فيا ويلهم! ويا ويحهم يوم يسألون، لو عرف حاكم ما عرفتم هذه الليلة فسيدعي أنه جن وسيقول: انقلوني إلى المستشفى، أنا مجنون! هرباً بنفسه، لكن ما علموا، ما بلغهم، وما اتضح الأمر لهم، فقلد بعضهم بعضاً.ثانياً: المبتدعة الذين يبتدعون البدع ويقدمونها على أنها عبادات يعبد بها الله عز وجل، هؤلاء اتهموا الله بعدم الحكمة وبعدم العلم.
التعريف بالطريقة التيجانية وتحذير المسلمين منها
هذا يوحي إلي ويقول: هناك شخص بيننا متعصب للطريقة التجانية فبين لنا بعض الشيء عنها يا شيخ؟اسمعوا! إخواننا من الجن كانوا مورطين مثلنا اليوم، وقالوا: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11] وها نحن ما زلنا طرائق قدداً، هذا تجاني، هذا عثماني، هذا قرظي، هذا رحماني، هذا علوي، فلا إله إلا الله! كيف هذا؟ والله القرية الواحدة تجد فيها هؤلاء من إخوان عبد الرحمن، وهؤلاء من إخوان عبد القادر ، هؤلاء من إخوان سيدي عبد الحفيظ وهكذا! أي ظلم أعظم من هذا الظلم؟ الله يقنن ويشرع ما فيه السعادة والكمال والشياطين تنفخ في الصدور وعلى ألسنة أوليائها ويقننون ويشرعون للأمة ويمزقونها ويشتتونها! يا أخانا! يا تجاني! قل: أنا مسلم، وانزع كلمة تجاني أو تهلك وتحترق، فأنت تناهض محمداً في أمته، وإياك أن تقول: أنا تجاني. بل قل: أنا مسلم.أيام الهبوط كانوا يقولون: هذا سيدي فلان المالكي، المذهب التجاني، الطريقة، الـ: كذا، الـ كذا، نعم. الجهل وظلمته. من عرف التجانية؟ قد بينا للصالحين وأنقذهم الله بالآلاف وعشراتها ومئاتها، أولاً: سيدي أحمد التجاني هذا جزائري، عاش في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، فهو ليس من الصحابة، جاء بالطريقة التجانية، ورد يذكرون الله به في الصباح والمساء. لو أتى بهذا الورد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال حين يصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة كتب الله له مائة حسنة، وحط عنه مائة سيئة، وكأنما أعتق عشر رقاب ) عدل عشر رقاب، فلا بأس، أما أن يقول: هذا ورد الشيخ، ولا ينسب هذا إلى الله. وما يعطي هذا الورد؟ أكثر الطرق يعطون ورداً لا ينفع، ومن ذلك الذكر بلفظ: الله الله الله الله الله ساعتين أو ثلاث ساعات! أحدهم كان في باريس وكان له جيران نصارى جاء إخوانه من الشرق والغرب وأحيوا تلك الليلة على طرقتهم: الله، الله، الله، يضربون الخشب تحت أرجلهم، فتاهت الفرنسيات: ما هذا الذي حصل؟ اتصلت الشرطة: ما الذي حصل؟ قالوا: نحن نتعبد. تتعبدون هكذا؟! أبهذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وينتقلون من: (الله) إلى (هو هو هو هو)! ولا حول ولا قوة إلا بالله. ما هذه المحنة؟ إنه الجهل يا شيخ! من عيوب هذه الطريقة -وهي طريقة أحياناً تكون خيراً من كثير من الطرق، وفيها بعض الفضائل- من عيوبها: الصلاة الفاتحية، صلاة الفتح، وصيغتها: اللهم صل على محمد الفاتح لما أغلق، الخاتم لما سبق، ناصر الحق بحق، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم. هذه الصلاة من حيث الصيغة هي معقولة مع ما فيها من المبالغة، لكن.. ما مصدرها؟ مصدرها عندهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج يقظة لا مناماً، وأعطاها الشيخ!وقال: إنها تعدل سبعين ختمة من القرآن! تقولها مرة كأنك ختمت القرآن سبعين مرة. هذه من وضع اليهود والنصارى؛ لصرفنا عن القرآن، فما دامت صلاة الفاتح مرة تعدل سبعين مرة من القرآن والله ما نقرأ القرآن! لم أقرأ عشرة أيام وأنا أقرأ حتى أختم ختمة؟ ومرة واحدة أصلي صلاة الفاتح بسبعين ختمة؟ ويعتقدون أنه الحق. هؤلاء كذبوا على الله، وكذبوا على رسول الله، وكذبوا على أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما مصير من يكذب على الله ورسوله والمؤمنين؟ هل الرسول يخرج يقظة ويعطي للشيخ الصلاة؟ هل يقول هذا ذو عقل ودين؟ لو كان الرسول يخرج لخرج لـفاطمة لما غضبت وحزنت! لو كان يخرج لم ما خرج يوم السقيفة -سقيفة بني ساعدة- لما اختلف الأصحاب فيمن يولون؟! لماذا ما جاء الرسول لما طوقت المدينة بالاشتراكيين والماديين، جاءوا من مصر والعراق ومن كل بلد، الطماعون الماديون، والصحابة ما استطاعوا أن يفعلوا شيئاً، يريدون أن ينقذوا دماء المؤمنين ولا كلمة واحدة، وفوضوا أمرهم إلى الله، انطبقت عليهم الجماهير المتكالبة على الدنيا؟ لم ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومزق ذلك الجمع؟! لم تقحموا بيت عثمان وذبحوه والمصحف بين يديه ولم يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لو كان الرسول يخرج لم ما يخرج في وقعة صفين؟ هذا من الكذب الفظيع، يكذبون على رسول الله، وتقبل الأمة وتمد أعناقها وتصدق، نعم كلام سيدي الشيخ، صلاة الفاتح.أنصح لأخي هذا أن يتبرأ من الآن من هذه الطريقة، فما عندنا إلا طريقة محمد صلى الله عليه وسلم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153] أي: الطرق فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] لا تجانية، لا قادرية، لا رحمانية، لا عيساوية، لا أباضية ولا زيدية، لا كذا أبداً، لا إسماعيلية، لا رافضية، ولا شيعية، ليس هناك إلا: (لا إله إلا الله، محمد رسول اللهـ، نعبد الله وحده من طريق رسوله بما بين وقنن من كلمة الله أكبر إلى أن نخرج الأموال من جيوبنا. ركض العدو ركضاً كبيراً وتمكن منا فمزقنا فكم من مذهب، وكم من طريقة، وكم من دولة ودويلات، وكم من حزب، حتى أهل الدين عندنا متحزبون! هذا كذا، وهذا كذا، وهذا كذا، أمراض ما شعرنا بعدها بالصحة أبداً!
الاجتماع على الكتاب والسنة هو طريق الفوز والنجاح
ما هو العلاج؟ تريدون العلاج والدواء الشافي؟ اسمعوا! ها هو إبراهيم وإسماعيل يبنيان الكعبة يناول إسماعيل إبراهيم الصخر والحجر وإبراهيم يضعها، وهما يتقاولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]. تعرفون التقاول؟ لما يشتغل العمال المؤمنين يأتون بقصائد وكلام للتخفيف عن أنفسهم، فإسماعيل وإبراهيم عليهما السلام كانا يقولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] وهما يبنيان، واستجاب الله هذه الدعوة، وبعث في أولاد إسماعيل محمداً صلى الله عليه وسلم. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم الناس الكتاب والحكمة، ويزكيهم، يهذب أرواحهم وآدابهم وأخلاقهم.إذاً: أيما أهل بلد أو قرية أو إقليم أو بيت يجتمعون على كتاب الله وسنة رسوله، فهذا هو التبيين، وهذا هو الطريق، فلا حزبية، ولا تجمعات، ولا تكتلات، ولا انتماءات، فإنها مظاهر المرض وأعراضه قطعاً، فأهل القرية كلهم مسلمون، إن كان فيهم نصراني أو يهودي فهو منزو في بيته لا علاقة له بهم، فإذا مالت الشمس إلى الغروب ودقت الساعة السادسة يتوضئون ويحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، فإن كان المسجد ضيقاً وسعوه ولو بالخيام، ولو بالحطب والخشب؛ حتى يتسع لأهل القرية فيجلسون من المغرب إلى العشاء بين الصلاتين يتعلمون ليلة آية من كتاب الله يحفظونها ويفهمون معناها، ويعزمون ويعتزمون على القيام بما تدعو إليه.وليلة أخرى حديثاً -أي: سنة- وهكذا يوماً آية ويوماً حديثاً، وتمر الأربعين يوماً والأربعة أشهر والعام؛ فيجدون أنفسهم مذهبهم واحد، ليس هناك مالكي ولا حنبلي ولا شافعي ولا زيدي ولا أباضي، فهم مسلمون، مذهبهم واحد.ثانياً: لما تتحد الكلمة هل يستطيعون أن يعيشوا في قريتهم شباعاً وإخوان لهم جياع؟ والله ما يستطيعون. هل يستطيعون أن يأمنوا وإخوانهم يظلمون بينهم ويعتدى عليهم؟ والله ما يستطيعون. كل ما في الأمر من مظاهر العجز والضعف والفقر والشر والخبث والفساد كلها تنقضي بنور الله، ووالله ليتحقق ما قلت متى أقبل أهل القرية وأهل الحي على الله في كتابه وهدي رسوله. ومن شك في هذا فسيقول: ممكن الطعام لا يشبع، وحتى الماء ما يروي، وتتأخر هذه السنن.فنقول له: كيف تتأخر هذه السنة؟ هل هناك طريق سوى هذا؟ والله لا طريق إلا هذا، نرضى أو نسخط، إن أردنا أن نعيش وأن نكمل وأن نفوز وأن نقود البشرية فعلينا أن نعود إلى منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، لا فرقة بيننا أبداً، بل قال الله وقال رسوله.وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (78)
الحلقة (219)
تفسير سورة آل عمران (80)
أخذ الله عز وجل على علماء بني إسرائيل الميثاق على بيان الحق وعدم كتمانه، وهذا العهد والميثاق يتناول علماء المسلمين من باب أولى، فهم حملة الرسالة، وخلفاء المصطفى صلى الله عليه وسلم وورثته في تبليغ الدين، كما حذرهم سبحانه وتعالى من أن يطمعوا في ثناء الناس ومدحهم على ما يفعلون من المعروف والخير، فضلاً عن الفرح بمدحهم على ما لم يفعلوه، بل الواجب في حقهم طلب مرضاة الله والرغبة بما عنده سبحانه وتعالى.
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة؛ ليلة الثلاثاء من يوم الإثنين ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ). اللهم حقق لنا رجاءنا إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.ما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، ومعنا ثلاث آيات مباركات، فهيا بنا نتغنى بها، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، من أجل أن نعلم فنعمل؛ لما فيه رضا الله عز وجل، وهو ما يزكي أنفسنا ويطهر أرواحنا؛ لنصبح أهلاً لجوار الله عز وجل في الملكوت الأعلى.قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:187-189].معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!يقول تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:187]، الميثاق: هو العهد المؤكد باليمين والموثق به، وهو العهد بينك وبين آخر وتؤكده باليمين عليه أن تفعل أو لا تفعل.(وإذ) هنا في خطاب الحبيب صلى الله عليه وسلم، بمعنى: اذكر يا رسولنا لهم إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، والذين أوتوا الكتاب -أي: أعطوه-، و(الكتاب) هنا هو التوراة والإنجيل، ويدخل فيه كل من أوتي الكتاب من قبلنا أو منا، ونحن أوتينا أعظم كتاب وأجله، إذ نسخ كل ما سبقه من الكتب.فهذا الميثاق أخذه الله عز وجل وبينه بقوله: لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ [آل عمران:187]، واللام موقعه للقسم: وعزتنا وجلالنا، (لتبينن) ذلك العلم وذلك الهدى، وذلك النور الذي في كتابنا الذي أنزلناه إليكم. لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ [آل عمران:187] أبيضهم وأسودهم، مؤمنهم وكافرهم، إذ لفظ الناس عام ولا مخصص له. وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] وكتمان الشيء جحده وتغطيته وستره وعدم الاعتراف به، والمقصود به هو عهد الله وميثاقه.أقول: أخذ الله العهد على أهل الكتاب قبلنا، ونحن أيضاً مأخوذ عنا، فيجب على أهل القرآن أن لا يكتموا منه حرفاً واحداً، ويجب أن يبينوه للناس، ويبينوا لهم ما أحل الله فيه وما حرم، وما ألزم وأوجب وما نهى، وتوعد وأوعد. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:187] وهو: لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، فماذا فعلوا مع الأسف؟ قال تعالى مخبراً عنهم وهو العليم بهم: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187]، يقال: اجعل الشيء نصب عينيك، وارمه وراء ظهرك، كناية عن عدم الالتفات إليه والأخذ به ومعرفته، نبذوه وراء ظهورهم أولاً.
معنى قوله تعالى: (واشتروا به ثمناً قليلاً...)
وثانياً: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:187]، فوجه الاشتراء بالقرآن أو التوراة الثمن القليل أنهم يفتون بغير الحق ليحصلوا على دراهم ودنانير مقابل الفتيا، يشترون به ثمناً قليلاً، يجحدون ما فيه من هداية الله؛ ليبقى أتباعهم على ما هم عليه، وهم رؤساؤهم وقادتهم وموجهوهم؛ ليعيشوا قادة وسادة لهم يأكلون على حساب دين الله تعالى.وهذا الذي حصل لأهل الكتاب حصل نظيره لأمة الإسلام، فمشايخ الطرق والتصوف جلهم إلا من رحم الله يجحدون إن كانوا عالمين، وإلا فأكثرهم لا علم لهم ولا بصيرة بدين الله، ويستغلون تلك الشخصية الدينية، وإذا بالناس مريدوهم -أعني مريديهم- يسوقون إليهم قطعان البقر والغنم، والعسل والزيت والسكر؛ من أجل أن يشفعوا لهم يوم القيامة وأن يستجيب الله لهم دعاءهم، وهكذا في العالم الإسلامي منذ أن تراجع مجدهم وعزهم في القرن الثالث وهذه حالهم، يفتون العلماء، ويفتون السلاطين والملوك والرؤساء بما يرفع من قيمة الملوك والرؤساء بين أفراد الشعب، فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، ويكتمون ذلك كتماناً، ويرمونه وراء ظهورهم؛ من أجل الحصول على المنصب وعلى المال، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:187]، وهذا حصل في العالم الإسلامي من القرن الثالث، وهذا النوع موجود من العلماء، وحصل عند أهل الكتاب، حسبهم أنهم إلى الآن يصرفونهم عن الإسلام، بما يكذبون ويدعون، ويفترون على الله وعلى رسوله الكذب، فالذي منع اليهود والنصارى من أن يدخلوا في الإسلام هم رؤساؤهم، يعيشوا على تلك الرياسة والناس تحت أقدامهم وأرجلهم، فهذا بيان الله عز وجل. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:187]، أي: اذكرهم بالذات لجماعة اليهود، فقد بين لهم الطريق، لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]، فالبيان الشرح والتفصيل، وعدم الكتمان أيضاً بيان الحق في كل قضية من قضايا الأمة، فما كان منهم إلا أن نبذوه وراء ظهورهم، واعتاضوا عنه الخرافات والضلالات، وما دونوا وكتبوا وما ابتدءوا، وقالوا. وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:187]، ثمن الدنيا كله قليل، وإن كانت لهم رئاسة ومناصب وأموال وخدم و.. و.. هذا كله قليل بالنسبة إلى ما عند الله في الدار الآخرة.أقول: على علماء الإسلام أن لا يكتموا ما جاء في كتاب الله، وعلى لسان رسوله، وأن يبينوه ولا يخافون في الله لومة لائم، وليصبروا على الفقر إن افتقروا، وليصبروا على التعب إن تعبوا؛ لأنها أمانة الله، حتى لا يراهم الله عز وجل قد كتموه ولم يبينوه واستغلوا ذلك فأكلوا وشربوا على حساب كتمان دين الله وجحوده.فكل من علم وعرف ينبغي أن يبين ويوضح لإخوانه، ولامرأته ولأولاده، ولجيرانه؛ لأننا أشرف أهل الكتاب، وكتابنا أجل وأعظم.
تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ...)
ثم قال تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:188].معاشر المستمعين والمستمعات! هنا آداب وتعاليم.. فالآية وإن نزلت في جماعة، لكنها عامة، بمعنى: يا عبد الله! لا تفرح..نقول: الذي أتى علماً، معرفة، هدى، بيان، صلاة، زكاة، صدقة، جهاد، رباط.. هذا الفرح به هو البطر والأشر، والعلو والسمو، هذا لا يرضاه الله لعبده المؤمن.قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [آل عمران:188]، بماذا؟ بِمَا أَتَوا [آل عمران:188]، أي: فعلوا؛ جهاد جاهدوا، أموال أنفقوها، علمٌ بينوا، ليلٌ قاموا، صيام صاموا، ويصبح ذلك الفرح تبجحاً لهم، وأشراً وبطراً، فهذا الموقف لا يرضاه الله لأوليائه، نعم نسر بالعمل الصالح ونجد برودته في قلوبنا، لكن لا نتبجح به ونعلن عنه لنصبح بين الناس سادة، أو أتقياء أو أولياء أو علماء.ونذكر أن رجلاً مدح أخاه في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: ( ويحك ) وفي رواية: ( ويلك لقد قصمت ظهر أخيك )، فالمؤمنون الصادقون والمؤمنات الصادقات إذا فعلوا خيراً لا يطلبون منه الشهرة والسمعة وأحاديث الناس، ولا يطلبون به التعالي والترفع عن غيرهم؛ لأنهم صاموا والغير ما صام، تصدقوا وغيرهم ما تصدق؛ لأن الرياء هو الشرك، فإذا أتيت يا عبد الله عملاً صالحاً احمد الله عز وجل، واسأله القبول، وابك بين يديه أن يديم هذا العمل ولا ينقطع عنك، لا أن تظهر في مظهر أنك وأنك فعلت، وأنك تفعل وتفعل. يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [المؤمنون:60-62]. سألت عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة.. فهمت عائشة رضي الله عنها أنهم يرتكبون الآثام والذنوب وقلوبهم خائفة، فأعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنهم يأتون الصالحات وهم خائفون أن لا تقبل منهم؛ لخشيتهم وتقواهم )، يفعلون الصالحات وهم خائفون أن لا تقبل، فليسوا أولئك الذين يرتكبون الذنوب وهم خائفون مشفقون، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] خائفة من الله من أن لا يقبل منهم ذلك العمل الصالح.فكيف إذاً بالذي يفعل العمل الصالح ويتبجح به، ويعلن عنه ويظهره، بل يحمل على أن يتكبر به وأن يرى الأفضلية له، هذا الخلق ما يرضاه الله؛ تورط فيه أهل الكتاب، فكانوا معاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، إذا فعلوه رأوا أنهم أفضل وأنهم أقدس وأطهر من غيرهم، حتى المنافقون وقعوا في هذه المحنة، فأدبهم الله عز وجل بهذا الكلام الموجه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا [آل عمران:188]، أي: ما فعلوا من الأفعال: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، فهذه زلة أخرى. الأولى: يفرحون بما أتوا، فيحملهم ذلك على البطر والأشر والفخر والمباهاة.وأخرى: ما يفعلون العبادة ولا العمل الصالح، ويبحون أن يحمدوا عليه، بواسطته يريدون أن يعلنوا للناس أنهم فعلوا وما فعلوا، من أجل أن يحصلوا على ذكر الخير، وعلى الثناء والحمد من الناس، فهذا نعوذ بالله تعالى منه.أولاً: معاشر المستمعين والمستمعات! لما يوفقك الله لعمل صالح لا تستعلم به وتذكره تطلب ثناء الناس، وتطلب الشرف عليهم والسمو، اترك هذا لله، بل افعله وأنت خائف أن لا يقبل منك: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، يأخذ ألف ريال وهو في حاجة إليها، ويضعها في جيب الفقير، وهو خائف أن لا تقبل منه، لا أن يقول: فعلنا وتصدقنا ونتصدق، وأعظم من هذه أنه ما يفعل ويريد أن يُحمد بين الناس وهو ما فعل، إما بالإعلانات في الجرائد، وإما بأحاديث الناس وإلا كذا وكذا؛ ليحصل على الثناء بدون ما فعل ولا قدم، كلا الخلقين مذموم، ولا ينبغي لمؤمن أن يتخلق به.يقول تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا [آل عمران:188]، أي: من الأعمال الصالحة: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، من جهة يتبجحون ويتطاولون ويثنون على أنفسهم: فعلنا وفعلنا وفعلنا من الصالحات هذا لا يصح، ومن جهة ثانية ما يفعلونه أموراً ويودون أن يحمدوا بين الناس ويثنى عليهم وأنهم فعلوا وفعلوا، وما فعلوا، كلاهما مذموم ولا يصح لمؤمن ولا مؤمنة.وقوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمران:188] يا رسولنا بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران:188]، ما بعدوا عنه أبداً ولا رحلوا من ساحته، بل هم فيه قائمون عليه: لا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ [آل عمران:188] هذا في الدنيا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:188] في الآخرة، الذين يراءون ويتبجحون ويريدون أن يسودوا على الناس بالكذب هؤلاء سوف ينزل بهم عذاب الله في دنياهم، وما يدخر لهم في الآخرة والعذاب الموجع الأليم.
تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السموات والأرض...)
قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:189] ما منا إلا مملوك لله، أنت ومالك وزوجتك وأولادك مملوك، البلاد كلها وملكها ورجالها كلها مملوك لله، لا يخرج شيء أبداً عن قبضة الله وملكه، فنرجع إذا أردنا الصواب إلى الله، نذل له ونخضع بين يديه، لا أن نتكبر ونترفع ونحن مقبوضون في قبضة الجبار جل جلاله وعظم سلطانه، لا يفيدنا التبجح، ولا التعالي، ولا التكبر، ولا السمو، ولا طلب الرفعة، فالله ما يفيد أبداً؛ لأن الملك لله عز وجل هذا أولاً. وثانياً: والله جل جلاله على كل شيء يريده قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.فعلى القلوب الواعية أن تفزع إلى الله عز وجل، وأن تطرح بين يديه، وأن تسلم الأمر له، ومن طلب رفعة فليطلبها في دار السلام في الدرجات العلى، أما الدنيا فلا خير في سموها ولا رفعتها، بل الخير في التطامن والتواضع، واللين والانكسار بين يدي الجبار، فهذه هداية هذا القرآن الكريم.
ملخص لما جاء في تفسير الآيات
لنستمع إلى الآيات المباركات: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:187-189].فالميثاق هو عهد مؤكد بيمين، أخذه الله على أهل الكتاب وأهل القرآن من باب أولى، فعلى أمة الإسلام أن لا تكتم الحق، وعليها أن تظهره، وتدعو البشرية كلها إلى أن تؤمن بالله ولقائه، وتعبد الله بما شرع؛ لتنجو وتسعد وتسلم، ولا يحل كتمان هذه الملة وجحودها، العلماء بصورة خاصة العارفين يجب أن لا يكتموا حلالاً أحله الله، ولا حراماً حرمه الله، فليبينوا.خلقان مذمومان: الأول التبجح والتطاول على الناس بالعمل الصالح، فهذا لا يليق بمؤمن ولا مؤمنة أبداً، بل نصوم ونصلي ونتصدق ونعبد الله، ونحن وجلون خائفون، لا أن نتخذ من ذلك تعالي وتكبر على الناس؛ ليقبلوا أيدينا وأرجلنا.ثالثاً: لا نحب أن نحمد بما لم نفعل أبداً، لو قيل: أنت تصدقت بكذا؟ نقول: لا ما تصدقتُ، قرأنا في الجريدة كذا، لا ليس أنا، هذا غيري، لا أن نوعد للناس يتمدحون بنا، ويقولون: فعلوا فعلوا، ونحن ما فعلنا. لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188]، ما فعلوا، ويريدون أن يحمدوا على ذلك، هذه الأخلاق الذميمة ما رضيها الله لعباده الصالحين.وأخيرا لنعلم أن لله كل ما في السماوات والأرض، فلا باب نقرعه إلا بابه، ولا هناك من نطرح بين يديه نسأله إلا هو، وليس هناك من نكل إليه أمرنا ونفوضه إلا إلى الله؛ بعلمنا اليقيني أن الله لا يعجزه شيء، اسأل مطلوبك من الله، اسأل خيري الدنيا والآخرة، فإن بيده كل شيء، وهو على كل شيء قدير، املأ قلبك بهذا النور يا عبد الله.هذا هو القرآن الكريم الذي حولوه إلى الموتى، وجعلوا دراسته محرمة، الذي يفسر القرآن فيصيب قد أخطأ، وإذا أخطأ كفر والعياذ بالله! فألجموا العلماء وكمموا أفواههم، لا تتكلم في القرآن، وتكلم بما شئت من قال فلان وقال فلان، حتى قال أحد علماء الأزهر؛ ذكر ذلك الشيخ رشيد رضا ، قال: من يقول: أنا أتعبد بالكتاب والسنة فقد تزندق! ما يفهم الكتاب والسنة أحد أبداً، خذ العلم من مؤلفات ومصنفات فقهاء الإسلام!والطريق نكررها ونبلغها، قف يا عبد الله! وانظر إلى هذه الحلقة التي يجب أن تكون يومياً في كل حي من أحياء العالم الإسلامي، في كل قرية من قرى العالم الإسلامي، إذا صلوا المغرب نساءً ورجالاً وأطفالاً، يجلسون جلوسنا هذا من المغرب إلى العشاء، يتعلمون الكتاب والحكمة، هذا هو طريق النجاة وسبيل الخلاص، بدون هذا فلا علم ولا عمل إلا ما شاء الله مما قل.العودة الحقيقية في العالم الإسلامي هي أن يوقنوا أن الجهل بالله ومحابه ومساخطه هو الذي قعد بالمسلمين هذا القعود الذي أصبحوا أذلاء محتاجين فقراء إلى غيرهم، فالعودة أن نعود إلى العلم؛ علم قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.أسألكم بالله يا عقلاء! إذا دقت الساعة السادسة مساءً أخذ الرجال يتطهرون والمؤمنات يتطهرن، وقصدوا بيت ربهم في حيهم أو قريتهم، لا يحتاجون إلى سيارة ولا إلى بعير يركبونه، المساجد حول بيوتهم، يجتمعون من المغرب إلى العشاء اجتماعنا هذا، أرأيتم السكينة علينا كيف هي؟ هل سمعتم لغطاً أو صوتاً؟ لو كنا نرى الملائكة والله لرأيناهم يحفون بنا، وقد ذكرنا الله في الملكوت الأعلى، فتحققت ولايتنا له؛ مثلنا يخزيهم الله؟! مثلنا يذلهم الله؟! والله ما كان ولن يكون، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، فتقوى الله عز وجل لابد لها من العلم الصحيح، ولابد من معرفة ما يحب ربنا من الاعتقادات والأقوال والأفعال، وكيف نقدم ذلك ونتعبد به ربنا، لابد من العلم، فلا ولاية بدون علم أبداً ومستحيل.وطريق العلم ليس معناه أننا نوقف دولاب العمل؛ لا مزرعة ولا مصنع ولا متجر ولا.. ولا..، كلنا في المساجد نتعلم، لا، فقط إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل، كما هو في أوروبا واليابان والأمريكان والصين، إذا دقت الساعة السادسة وقف العمل، ويذهبون إلى المقاهي والملاهي والمراقص والمقاصف ودور السينما، والمؤمنون يذهبون إلى بيوت ربهم، بأطفالهم ونسائهم، يتلقون الكتاب والحكمة، يوماً بعد يوم، عام بعد آخر، ما يبقى جاهل ولا جاهلة، وإذا انتفى الجهل ينتفي به: السرقة، الغش، الشرك، النفاق، الخداع، الباطل، الظلم، الزنا، الفجور، كل ذلك يمحى محواً؛ لأنها سنة الله لا تتخلف.وأخيراً نقول: إذا شككت، فانظر أعلم أهل القرية تجده أتقى أهل القرية، لن تتأخر سنة الله عز وجل، يقول تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، عالمون بربهم، فأحبوه وخافوه، علموا محابه فقدموها له تملقاً إليه وتزلفاً، علموا مكارهه فتجنبوها وابتعدوا عنها، فتمت ولاية الله لهم، فأعزهم ولا أذلهم وأكرمهم ولا أهانهم.متى يعرف المسلمون هذا؟ فكيف نطالبهم بالجهاد والدمار، وهم ما استطاعوا أن يجلسوا ساعة في بيت ربهم يبكون بين يديه؛ لتتآلف القلوب والنفوس وتتلاقى الأرواح على نور الله وحبه وتقواه.فقد قالوا لي: يا شيخ! هذا الكلام الذي تقولوه ليس معقولاً، نريد أن ننزل للملكوت الأعلى، نخترق السبع الطباق وما نضحي بساعة من ليل أو نهار، ونقول: هذا غير معقول هذا مقبول؟ نريد أن نسود العالم وأن نطهر البشرية وأن نصبح أولياء الله، نعجز عن نحضر بيته ساعة أو ساعة ونصف اليوم والليلة، ولكن هذا قضاء الله وقدره.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
هذه الآيات الثلاث لها هدايات أيضاً، فننظر من أين نستنبط هذه الهدايات:قال: [ من هداية الآيات: أولاً: أخذ الله الميثاق على علماء أهل الكتاب ببيان الحق يتناول -أيضاً- علماء الإسلام ] كما بينا [ فإن عليهم أن يبينوا الحق ويجهروا به، ويحرم عليهم كتمانه أو تأويله إرضاء للناس ليحوزوا على مكسب دنيوي مالاً أو جاهاً أو سلطاناً ].[كتمانه أو تأويله] أي: بتفسيرات غير صالحة [إرضاء للناس] حتى يسودوا عليهم [ليحوزوا على مكسب دنيوي مالاً أو جاهاً أو سلطاناً].[ ثانياً: لا يجوز للمسلم أن يحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والمعروف، بل من الكمال أن لا يرغب المسلم في مدح الناس وثنائهم وهو فاعل لما يستوجب ذلك، فكيف بمن لم يفعل ثم يحب أن يحمد! بل بمن يفعل الشر والفساد ويحب أن يحمد عليه بالتصفيق له وكلمة يحيا الزعيم ].انتهت هذه وقد عشناها أكثر من أربعين سنة: يحيا الزعيم، يصفقون ويصفقون يحيا الزعيم، وهو ما فعل شيئاً بل دمر البلاد والعباد.كنا مرة في مؤتمر عربي حضره العرب حتى النساء إلا المصريات والسعوديات والعمانيات؛ لأن مصر مع تلك البلاد ما هم متفاهمين، فجلسنا وجاء الزعيم يخطب، خطب وإذا بالجالسين كلهم يقفون للتصفيق.. لا إله إلا الله، ما هذه الأمة! ( التصفيق للنساء، والتسبيح للرجال ) قولوا: الله أكبر.. الله أكبر، أما نصفق ونحن ثلاثة عبد المحسن والشيخ وآخر في أبها جالسين، فتساءلوا: لِم هؤلاء لم يصفقوا؟قلنا لهم: التصفيق للنساء، والتسبيح للرجال، والشاهد عندنا مظاهر الهبوط، هبطنا من علياء السماء إلى هذه الأرض، فمن يرفعنا؟ الكتاب والسنة، فبالله والرسول بهما ارتفعنا، ولما عاديناهما هبطنا، فكيف نعود؟ بالكتاب والسنة، حتى لا تبقى مذهبية ولا عنصرية ولا إقليمية ولا.. ولا.. مسلم، قال الله قال رسوله.قال: [ ثانياً: لا يجوز للمسلم أن يحب أن يحمد بما لم يفعل ] بل حتى إذا فعل ما يحب أن يحمد بين الناس ويشتهر.قال: [ بما لم يفعل من الخير والمعروف، بل من الكمال أن لا يرغب المسلم في مدح الناس وثنائهم وهو فاعل لما يستوجب ذلك، فكيف بمن لم يفعل ثم يحب أن يحمد! بل بمن يفعل الشر والفساد بالأمة ويحب أن يحمد عليه بالتصفيق له وكلمة: يحيا الزعيم.ثالثاً: ملك الله تعالى لكل شيء وقدرته على كل شيء توجب -ماذا؟- الخوف منه والرغبة إليه وأكثر الناس عن هذا غافلون، وبه جاهلون ].ملك الله تعالى لكل شيء، وقدرته على كل شيء، يوجب الخوف من الله والرغبة فيما عنده، وأكثر لا يخافون ولا يرغبون؛ للجهل.وصلى الله على نبينا محمد.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (79)
الحلقة (220)
تفسير سورة آل عمران (81)
الآيات والعظات التي يبثها الله عز وجل في كل مكان إنما ينتفع بها أصحاب العقول النيرة والقلوب الحية، فيدفعهم ذلك للإيمان بالله واليقين بموعوده سبحانه، فيذكرونه سبحانه على كل حال؛ قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويدركون أن كل ما خلقه الله عز وجل وقدره فإنما هو لحكمة عظيمة؛ لأنه سبحانه منزه أن يكون شيء من أفعاله للهو والعبث الباطل، فقد خلق الخلق لعبادته وتقديسه، فمن آمن أفلح ونجا ودخل جنة المأوى، ومن كفر فإن مآله إلى نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
تفسير قوله تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، اللهم اجعلنا من الفائزين بهذا الموعود على لسان رسولك صلى الله عليه وسلم.وما زلنا مع سورة آل عمران عليهم السلام، وهانحن مع هذه الآيات الست، فهيا نتغنى بتلاوتها، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما احتوته من الهداية الإلهية لعباده المؤمنين.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّ هُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:190-195].
دلالة المخلوق على وجود الخالق عز وجل
الآيات موضوعها واحد -وإن كانت طويلة- فهيا نتدبر قول ربنا جل ذكره: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] هذا خبر من أخبار الله تعالى مؤكد بكلمة (إن) فهيا نتدبر هذا الخبر.أولاً: والله! إنه لصدق وحق، وكيف لا والمخبر هو الله الذي خلق عقولنا وأفهامنا وطاقاتنا وقدراتنا على أن نفهم. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190]، فالسماوات والأرض من مخلوقات الله عز وجل، فهل بلغنا أن خالقاً غير الله خلق؟!الجواب: ما ادعى كائن في العوالم كلها أنه خلق كوكباً واحداً، لا كواكب السماء وما فيها، فكيف نطأطئ رءوسنا ونقول: هاه.. لا ندري! لِمَ لا ندري؟! فلو سألنا: من خلق السماوات والأرض؟فسوف نجد من يخبرنا أن خالقهما الله.. اسمه الأعظم الله.. المعبود بحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، السماوات السبع أجرامها، أفلاكها، كواكبها، مسافاتها، مساحاتها.. هذا هو الخلق العظيم، هل يعقل أن شيئاً يوجد بلا موجد؟مثلاً: كأس فيه لبن موضوع على منضدة، فهل نستطيع أن نقنع أي إنسان أن هذا وجد من نفسه؟!مستحيل أن نقنع إنسي أو جني أن هذا كأس اللبن هكذا وجد بدون موجد. فكيف إذاً بهذه المخلوقات؟نقول: السماوات وهي سبع وما بين السماء والسماء مسافة خمسمائة عام، وسمك السماء وغلظها خمسمائة عام.فكوكب الشمس هذا المضيء الملتهب النهاري، قالوا عنه علماء الفلك: إنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة. فحرارتها تتدفق علينا ولن تنتهي وليس لها نهاية حتى قيام الساعة. وكوكب القمر قريب منا يكاد يلصق بأرضنا والمسافة لا تستطيع أن تعرفها. فالله سبحانه وتعالى وحده خالق هذه الكواكب كلها. إذاً: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190] أولاً.
دلالة المخلوق على قدرة وعلم الخالق عز وجل
قال تعالى: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [آل عمران:190]، أي: الله سبحانه وتعالى وحده هو مصرف الليل والنهار، ولا بمقدور البشرية ولا طاقة لها على أن تأتي بالليل أو بالنهار.فهذا الاختلاف بوجود ليل ووجود نهار هو لصالح الخليقة، واختلاف الليل والنهار أولى من وجود نهار دائم، أو ليل دائم.إذاً: الخالق دل خلقه أولاً على وجوده، فهو موجود فوق عرشه بائن من خلقه.. الملكوت كله تحت قدمه، يدبر الكون كله. فهذا العظيم كيف نقيس عظمته بالعظمة، ونحن أعجز ما نكون أن نخلق ذبابة وهو خالق كل شيء؟!ففي خلق السموات والأرض، وفي اختلاف الليل والنهار آيات وعلامات دالة -أولاً- على وجود الله، و-ثانياً- دالة على وجود قدرته عز وجل قدرة لا يعجزها شيء، و-ثالثاً- دالة على علمه عز وجل قد أحاط بكل شيء، ورابعاً دالة على رحمته عز وجل التي وسعت كل شيء. فكيف إذاً لا نحبه ولا نرهبه ولا نخافه؟!فكيف إذاً لا نعبده بكامل معنى العبادة والطاعة؟!وأبشع من هذا أن نتجاهله، ولا نذكره ولا نلتفت إليه، ونعيش كالبهائم نأكل ونشرب وننكح، فأين يذهب بعقول البشر؟! إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ [آل عمران:190]، أي: لمن ينتفع بها، أما الأعمى الذي لا يرى أي علامة وضعت له في الطريق ترشده فلا ينتفع بها.مثلاً: إذا أردت القرية الفلانية تضع لها علامات.. كل مائة خطوة علامة؛ حتى يهتدي السائر إلى تلك القرية.
معنى قوله تعالى: (لأولي الألباب)
قال تعالى: لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، والألباب: جمع لب. لب وألباب، والمراد به هنا العقل، أو القدرة الباطنية التي بها يميز الإنسان بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، وبين الموجود والمعدوم، فمن فقد تلك الطاقة الباطنية المعبر عنها بالقلب والعقل فوجوده كلا وجود له، ما يشاهد آية من الآيات أبداً.ودليل ذلك: فعلماء الفلك، وعلماء الطبيعة، وعلماء الذرة يدرسون ويحللون ويندهشون، ولم يستطيعوا أن يقولوا: آمنا بالله.. لا إله إلا الله، فهم يتعايشون مع الأفلاك والأجرام السماوية، ولم يسألوا: من خلق؟ لِمَ خلق؟ كيف هذا الخالق؟فلو سألوا لأجابهم أهل القرآن وبينوا لهم. فهم لم يسألوا لانطماس بصائرهم وعماها، ولفساد قلوبهم وعقولهم، والذي أفسد قلوبهم وعقولهم هو الشيطان عليه لعائن الرحمن، فلم يسمح لهم أن يفكروا ساعة فيمن خلق، يحللون ويركبون ويعللون ويهبطون ويطلعون، ولا يفكرون من خلق؟ أو لِمَ خلق؟ فالشيطان هو الذي كمم ألسنتهم وأعماهم، ولا يريدهم أن يسلموا لينجوا من عذاب الله؛ ألم نقرأ قوله وهو بين يدي الله يقسم: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ [ص:82]. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لمن؟ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] (أُولي) بمعنى أصحاب، أو ذوي الألباب.
تفسير قوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم)
قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، أي: الذين يذكرون الله بقلوبهم وألسنتهم في كل أحيانهم، اللهم إلا عندما يدخلون الحمام.فلهذا تقول الصديقة عائشة رضي الله عنها: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه ) دائماً يذكر الله، والذكر هنا بالقلب واللسان.الذين يذكرون الله حال كونهم قياماً، حال كونهم قاعدين، حال كونهم على جنوبهم.. هذا أولاً.
الحكمة من التفكر في مخلوقات الله
وثانياً: وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] أي: ما السر في خلق السماوات؟ وما السر في خلق الأرض؟ وما السر في هذه المخلوقات؟حاشى لله أن يخلق هذا الخلق عبثاً، وحاشاه عز وجل أن يلهو أو يلعب، كيف يوجد هذه المخلوقات بلا فائدة، وبلا حكمة مقصودة؟! مستحيل.وتتجلى لهم الحقائق ويعرفون أنه خلق هذا الخلق لهذا الآدمي من أجل أن يذكره ويشكره.يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي، وفي القرآن الكريم: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، ما في السماوات وما في الأرض.فما أكرمنا على الله لو آمنا به وأحببناه ورهبناه، هذا الخلق كله من أجلنا، أما الله فهو غني غنىً مطلقاً ( كان الله ولم يكن شيئاً غيره .. ) فخلق هذه المخلوقات؛ لحكم عالية منها: أن يذكر ويشكر في هذه الأرض.فمن ذكر الله وشكره طول حياته أكرمه ورفعه إليه، وأنزله في جواره في الملكوت الأعلى، في الجنة دار السلام، ومن كفره وجحده وتنكر له، وعبث في الحياة، بالشرك والظلم والباطل جازاه الله سبحانه وتعالى جزاءً عادلاً، وهو أن يرمي به في عالم الشقاء المعبر عنه بالنار، لا يخرج منها أبداً، يظل في عذاب متواصل متنوع متلون العجب العجاب.وكثيراً ما نقول: قد يسأل السائل: أي رب! هذا المخلوق عصاك ثمانين سنة، إن طال عمره إلى ذلك أو زاد مائة سنة أو مائتين، فكيف تعذبه بليارات السنين؟!والجواب: أن هذا جريمته ليست أنه عصى الله ثمانين سنة أو مائة سنة، فجريمته أنه أنكر الكون كله.. أنكر السماوات والأرضين، والجنة والنار، والعوالم كلها، إذاً فجريمته لا تقدر بحساب حتى يعذب. فوجه أنه أنكر وجحد الكون كله؛ لأن الله خلق الكون من أجله، فإذا به يجهل الله ولا يؤمن به، فلا يذكره ولا يشكره، إذاً حكمه حكم من جنا جناية بتدمير العوالم كلها، فلهذا من العدل أن يعذب بلا حساب، يخلد خلوداً أبدياً في عالم الشقاء.فلو أن شخصاً قال لشخص: يعصي ربه مائة سنة، مائتين.. ألف سنة إن طال عمره، كيف يعذب ملايين السنين؟ أين عدل الله؟الجواب: فهذا المخلوق الذي ترك ذكر الله وشكره، وقد خلق لذكر الله وشكره، وخلق الله كل العوالم من أجله حتى الجنة والنار؛ من أجل أن يذكر الله ويشكر، فترك الذكر والشكر، إذاً جريمته كأنما نسف العوالم كلها؛ لأن الجنة، النار، السماوات، الأرضين، الأفلاك، كل هذه المخلوقات مخلوقة من أجل هذا الإنسان، وهو مخلوق من أجل أن يذكر ويشكر، فإذا ترك الذكر والشكر كأنما نسف العوالم كلها.فلهذا من يقول: كيف يعذب ألف سنة، مليون سنة، وهو عاش كافر أربعين عام أو خمسين عام فقط؟( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي )، فيجب أن نذكره قائمين وقاعدين وعلى جنوبنا، ونشكره بما يأمرنا أن نقوم به وننهر به؛ إذ ذكر الله وشكره طاعته بالجوارح واللسان.
دلالة الآية على وجوب الجمع بين ذكر الله والتفكر في مخلوقاته عز وجل
قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] اسمع يا عبد الله! لا بد من الذكر والفكر.. الذكر وحده وأنت لا تتفكر لا ينفع، كالذي يغني ولا يدري ما يغني.الفكر فقط واللسان ما يعبد الله ولا يمجده.. لا ينفع، فلا بد وأن تجمع بين الذكر والفكر، والآية دالة على ذلك، فالذي يذكر ولا يتفكر فلن يعرف عظمة الله، ولا جلاله، ولا كماله، ولا آلائه، ولا إنعامه، ولا رحمته، ولا قدرته، ولا علمه.. فهو كالميت.والذي يفكر فقط ولا يذكر من يعبد ما انتفع بفكره؛ إذ يوجد -كما قلنا- علماء الكون اقتنعوا بوجود الله، ثم شهواتهم وشياطينهم ما سخرتهم أن يسألوا أهل العلم من هو الله؟ كيف نعبده؟ كيف نتقرب إليه؟ ما هي رسله؟ ما هي كتبه؟ وهكذا.. ليعيشوا محرومين ويهلكوا محرومين.قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] من هم أولي الألباب؟ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، وهذا يتناول الصلاة؛ فصلاة الفريضة تؤديها قائماً، فإن مرضت فأدها قاعداً، فإن عجزت فأدها على جنبك، وسائر الأذكار في كل أوقاتك.قال: وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] لما في ذلك الخلق من عظائم القدرة والعلم والحكمة والرحمة، فيزداد حبهم في الله، وتزداد رهبتهم من الله، فيذوبون في عبادة الله، ويصبحون في طهرهم وصفائهم كالملائكة، ويقولون: ربنا يا ربنا، ينظر ويتفكر.
دلالة الآية على وجوب تنزيه الله سبحانه وتعالى
ثم يقول: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ [آل عمران:191] أي: منزه يا ربنا عن اللهو والعبث والباطل، فهؤلاء الذاكرون المتفكرون قالوا: (ربنا)، أي: يا ربنا، ولم يقولوا: (يا ربنا)؛ لقربهم من الله، وقرب الله منهم، فبالياء ينادى للبعيد، أما من هو معك وأنت معه عندما تقول: سبحان الله.. والحمد لله.. والله! إنك مع الله والله معك، ( أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه ).إذاً: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا [آل عمران:191] أي: الخلق في السماوات والأرض وما فيهما بَاطِلًا [آل عمران:191] أي: للهو واللعب، ولا لغرض ولا لهدف ولا لحكمة، حاشك، قالوا: سبحانك؛ تقديساً وتنزيهاً لك عن اللهو والعبث.إذاً: فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، (قنا) أي: احفظنا من عذاب النار، فقط ارفع رأسك إلى كوكب الشمس، فهذا الكوكب العجيب كله نار، وإن شككت وهذه الحرارة التي تدفقت علينا، سببها الشمس، وليس البحر أو جبال التب، فالشمس مملوءة بالنار.. فهي نار متقدة منذ أن خلقها الله عز وجل لا تنطفئ ولا تبرد، فلو كانت الشمس مفتقرة إلى الغازات وإلى الفحم حتى تشتعل لانتهت من قرون، فهي آية خلقها من أجلنا، لنستدفئ بها ونستنير بنورها، ونعرف بها الليل والنار والعام والعمر والآجال، ما خلقت عبثاً، ووراء ذلك حكم لا يعلمها إلا هو جل جلاله وعظم سلطانه.
تفسير قوله تعالى: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته...)
قال تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، فقد سألوا الله أن يقيهم عذاب النار، ثم قالوا: يا (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته)، فلهذا نطلب منك يا ربنا ألا تدخلنا النار، وأن تقينا وتحفظنا من عذاب النار؛ لأن من تدخله النار أخزيته، والخزي معروف، والذل معروف، والخسارة معروفة. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192] فلا يستطيع أحد أن يخرج من النار.. أخزاه الله أسبوع، أو يوم.. ثم يجيء صاحب قدرة ينقذه ويخرجه؟! لا. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192] أي: ينصرونهم، فالظالمون لا يجدون من ينصرهم، وهنا الظلم بالمعنى الحقيقي الشرك والكفر بالله.فالشرك ظلم عظيم؛ ووجه ذلك مثلاً: فلان أخذ دابتي، وقال: ليست دابتك اصمت وإلا كسرت رأسك، فهذا يكون ظلمني. ومثال آخر: فلان يأتي إلى شاتي ويحلبها، ويقول: اصمت لن تشرب الحليب وحدك، فيكون ظلمه.. فلان أخرجني من غرفتي ونزل بها؛ لأنه قوي وأنا ضعيف، وهذا ظلم أيضاً.والذي يأخذ حق الله كيف يعبر عن ظلمه؟ فالذي اعتدى على فقير.. على مسكين.. على ظالم.. على قوي يكون ظلمه.والذي يأخذ حق الله ويعطيه لغير الله.. أعوذ بالله!وهذا لقمان الحكيم عليه السلام، وضع بين يديه طفله الصغير.. فضع أطفالك بين يديك ولقنهم الحكمة وعلمهم الكتاب، لقنهم الآداب السامية الرفيعة، الحياء، والصبر، والثبات، والآداب، والأخلاق.. فـلقمان وضع بين يديه طفله وأخذ يعظه: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].. ( لما نزلت سورة الأنعام وزفها سبعون ألف ملك؛ لعظمة ما فيها وسمع الأصحاب قول الله عز وجل فيها: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، قالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم؟ -فهذا قد يظلم أمته، وهذا قد يظلم أمه، وهذا قد يظلم امرأته.. لا بد أن يقع منا الظلم- فقال صلى الله عليه وسلم: ليس الأمر كما فهمتم، ألم تسمعوا قول لقمان الحكيم لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ) فالظلم العظيم هو الشرك بالله، أيخلقك الله يا بني ويرزقك ويكلؤك ويحفظك ويمتعك بسمعك وبصرك، ويخلق كل شيء من أجلك: الظل، كالشمس، كالبرد، كالهواء.. ككل شيء من أجلك، ثم تتجاهله، وتسوي به آخر من مخلوقاته فتعبده معه! أعوذ بالله!صحابي يتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ( ما شاء الله وشئت يا رسول الله، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: قل: ما شاء الله وحده )، من أنا وما أنا تسويني بالله؟ قل: ( ما شاء الله وحده ).ففي الروضة كان المنافقون يؤذون المؤمنين لضعفهم وقلتهم في بداية الهجرة، فقال الأصحاب وهم في الروضة: ( هيا بنا نستغيث برسول الله من هذا المنافق، فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم -لأن الجدار ستارة- فقال: إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله.. ) مع أنه يجوز أن نقول: هيا نستغيث بفلان؛ لأنه قوي وقادر وحي ومعنا، ومع هذا من الأدب لا نقول هذه الكلمة، فهذه لله، إذ يقول تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]، فكيف بالذين يستغيثون بالأموات؟! يا فاطمة ! يا حسين ! يا إدريس ! يا فلان! يا فلان! افعل وافعل. فوالله! كأنهم ما سمعوا به ولا عرفوه، فهذه زلة عظيمة، كم من مطيع طاعته مردودة عليه ما يحسنها، ما تنفعه.
معنى قوله تعالى: (وتوفنا مع الأبرار)
قال تعالى: وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193].إذاً يا شيخ تريدنا أن نتعلم؟! إي نعم. إذا لم تعرف كيف تتيمم ما تحسن ولا يصح تيممك، إذا لم تعرف كيف تسأل الله وتتملقه، فكيف ستسأله؟فكل العبادات ينبغي أن نكون عالمين بأسرارها وحكمها وعالمين بكيفيات أدائها، وهي ذات وقت معين وكمية محدودة.. وما إلى ذلك.إذاً تريد منا ألا يبقى جاهلاً؟ إي نعم. لن تتحقق ولاية الله لرجل أو امرأة بدون علم، فولاية الله تتحقق للعبد بشيئين هما: الإيمان والتقوى، والتقوى هي الطاعة، فالذي لا يعرف كيف يطيع الله فكيف سيطيعه؟ فلا بد من العلم.. يا شيخ ماذا نصنع.. الناس طاروا في السماء واخترقوا الكون ونحن نعود من جديد نطلب العلم في المساجد؟ هذه الكلمة يمليها العدو.فمنذ من ساعة صلاة الفجر.. واليهود والنصارى منذ الساعة الرابعة والنصف صباحاً أو الخامسة والنصف، أو السادسة والنصف، أو السابعة والنصف.. ثلاث ساعات وهم نائمون، ويقومون الثامنة، أنتم من الرابعة والنصف وأنتم في المصانع، في المزارع، في المعامل.. تعملون وتنتجون إلى قبل الظهر، وجاء وقت العصر إلى غروب الشمس وأنتم في العمل، فقط إذا مالت الشمس من الغروب أوقفوا العمل، لا دكان مفتوح ولا مقهى ولا مصنع ولا متجر ولا مزرعة ولا آلة ولا ولا.. فهيا إلى بيت الله. الله أكبر، ولله بيت اسمه الجامع، الذي يجمع أهل القرية أو الحي.. بنسائنا وأطفالنا، النساء وراء الستائر، والأولاد كالملائكة صفوفاً يسمعون الهدى ويتعلمونه، والفحول أمامهم ونتعلم العلم الذي تتحقق به تقوانا لله وبه تتحقق ولايتنا، ويومئذ لا خوف علينا ولا حزن.ما نريد أن نرقى هذا الرقي ونكمل هذا الكمال، ضعنا فقط.قال تعالى: وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193]، فكيف تسأل الله شيئاً ولا تطلبه أنت بيديك؟ لازم الأبرار، لا تفارقهم، انزل بحيهم، عش في إقليمهم وفي مدينتهم حتى تموت بينهم، أما تبعد عن الأبرار وتعيش مع الفجار وتقول: وتوفني مع الأبرار؟!! يجب أن تلازم الأبرار ولا تفارقهم، فأينما كانوا هاجر إليهم.
تفسير قوله تعالى: (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ...)
قال تعالى: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:194] أي: ربنا أعطنا ما وعدتنا على رسلك، من النصر، والعز، والكمال، والكرامة، والطهر، والصفاء.. ولا خوف ولا حزن. وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:194] أي: أعطنا ما وعدتنا على رسلك الآن في دنيانا، ولا تخزنا يوم القيامة بتعذيبنا بالنار؛ إذ قالوا: مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:194] أي: الوعد، وحاشاه أن يخلف الميعاد وهو القوي القدير.
تفسير قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم...)
وما زالوا يسألون الله: ربنا.. ربنا.. حتى استجاب لهم؛ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمران:195] فليست دعوة واحدة في ساعة، فهذه دعوة طول حياتهم: ربنا وآتنا ما وعدتنا.. رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:193-194]. فَاسْتَجَابَ [آل عمران:195] هنا الفاء للترتيب والسببية فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمران:195] فقال: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195] فالرجل من المرأة، والمرأة من الرجل، فلا فرق بينهما في الجزاء يوم القيامة. قال تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ [آل عمران:195] أي: أيها المؤمنون الصادقون الأبرار، ذكراً كان أو أنثى بعضكم من بعض، فلا فرق بين الرجل والمرأة في الجزاء والتنعيم يوم القيامة.ثم قال تعالى: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا [آل عمران:195] أي: الذين هاجروا ديارهم وبلادهم، وتركوا أموالهم وذراريهم أيضاً، أبوا أن يقيموا في دار الكفر.. أبو أن يعيشوا في دار لا يعبدون فيها الله.. لا يستطيعون أن يهللوا ويكبروا.. وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [آل عمران:195] أي: بالضغط والتنكيل والتعذيب كما فعل المشركون في مكة بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين. وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي [آل عمران:195]، وأنواع الأذى لا تسأل عنها! وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا [آل عمران:195] أي: هؤلاء كلهم: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّ هُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:195].معاشر المستمعين والمستمعات: هذه الآيات العشر كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ في الثلث الآخر من الليل للتهجد يرفع رأسه إلى السماء ويقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:190-191] إلى آخر الآيات: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].فهذا عبد الله بن عباس في الصحيحين يقول: ( نمت عند خالتي ميمونة وتوسدت عرض الوسادة حتى إذا كان الثلث الآخر من الليل قام الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شن معلق، فتوضأ، ثم رفع رأسه إلى السماء وتلا هذه الآيات ).وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (80)
الحلقة (221)
تفسير سورة آل عمران (82)
وعد الله عز وجل عباده المؤمنين إذا اتقوه سبحانه بفعل ما أمر به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، وعدهم سبحانه بأن يدخلهم جناته التي أعدها للمتقين، ومن وصف هذه الجنات أنها تجري الأنهار تحت أشجارها وبين قصورها ومنازلها، وهذا الوعد يشمل حتى من كانوا من أهل الكتاب، فآمنوا بالله سبحانه، وما أنزل إليهم من قبل عن طريق أنبيائهم، ثم آمنوا بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، حيث وعدهم الله عز وجل بالأجر العظيم في الآخرة.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، الحمد لله أن أهلنا الله لهذا الخير الكثير، اللهم لك الحمد ولك الشكر.وهانحن مع هذه الآيات الست والتي ابتدأنا دراستها في آخر يوم من أيام دراسة القرآن.هيا نتلو هذه الآيات متبركين بتلاوتها، طالبين المثوبة عليها، راجين فهمها والنور التي تحمله؛ ليكون في قلوبنا.سبق أن قلت -للسامعين والسامعات-: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام آخر الليل للتهجد يتلو هذه الآيات العشر )، ورغبتكم في تلاوتها، والله أسأل ألا يحرم منها سامع ولا سامعة.وذكرنا حديث عبد الله بن عباس في الصحيحين: ( نام ليلة عند خالته أم المؤمنين ميمونة رضي الله تعالى عنها وأرضاها؛ من أجل أن يرقب صلاة رسول الله في الليل كيف يصلي؟ وكم يصلي؟ ومتى يقوم يصلي؟ وعبد الله بن عباس لم يبلغ الحلم بعد )، ما زال غلاماً صبياً.وبالفعل ما إن استيقظ الرسول في جحر الليل حتى رفع طرفه إلى السماء، وتلا هذه الآيات العشر: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [آل عمران:190] إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] ختام السورة الكريمة.يتلو صلى الله عليه وسلم هذه الآيات بالذات وكل ليلة؛ لما تحمله من أنوار الهداية الإلهية، فهيا نتلوها، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما تهدي إليه.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّ هُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:190-195]. قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ [آل عمران:190] لمن؟ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، فمن لا لب له لا نصيب له في هذه الآيات.واللب: القلب الحي الذي يعي ويفهم، ويتصل ويراسل ويتلقى لكامل حياته، وهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] ويقولون: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّ هُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:190-195]، اللهم اجعلنا منهم.. اللهم اجعلنا منهم.فهؤلاء يعيشون مع الله عز وجل، ولا يعيشيون مع الطبول والمزامير، ورقص العواهر.فبأصابع الثالوث تحولت بيوت أكثر المؤمنين إلى مباءات الشياطين، فرحلت الملائكة الأطهار، والرسول الحكيم المعلم والمبلغ صلى الله عليه وسلم يقول في وضوح وصراحة: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، والصورة معلقة في الجدار لغاية ومهمة، لستر النافذة وما فيها، فيقول: ( يا عائشة ! أزيلي عني قرامك فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، والذي يجلس وعاهر تغني أمامه وامرأته تشاهد، وبناته عوانس يشاهدن، وأولاده بالغون في سن المراهقة ويشاهدون، كيف يجوز هذا؟! أقسم بالله! لو أجبر مؤمن على هذا لوجب أن يهاجر، ولا حل له المقام هناك، ولكن من جبرنا؟ فقط اتبعنا الهوى وجرينا وراء وساوس الشياطين.قرأنا اليوم في صحيفة معروفة تقول: إحصائيات في أمريكا في السنة الواحدة نصف مليون فتاة تغتصب، ويزنى بها وتفجر. وهذا الذي ضبط بواسطة الشرطة ورجال الدرك، نصف مليون امرأة تغتصب وتضرب.فهل يجوز الاقتداء بهم، والائتساء بحياتهم، والتنزل بباطلهم؟!وإن قالوا لكم: يجوز فإلى أين سنصل؟ فهل سنصبح كالملائكة في الطهر والصفاء؟! أو كأولئك الأسلاف الأطهار، نعيش على الحق والعدل والفضيلة والطهر والصفاء؟! والله! ما كان شيء من هذا إلا الانتكاس والهبوط حتى نصبح أرذل الناس وأخسهم.فبدل ما يقرأ في البيت كتاب الله وتتلى فيه آياته، والأم تبكي والأب يمسح دموعه، والابن يقرأ، أو الأب يقرأ والأولاد يبكون، والبيت كله نور ورحمة، فتمتلئ قلوبهم بالنور فلا شره ولا طمع ولا تكالب على أوساخ الدنيا وقاذوراتها.. يحول إلى مباءة للفساد، الأضاحيك والسخرية، والشره والطمع، وعدم الشبع؛ لأنهم فتحوا أبواب الفتنة لأنفسهم، فاللهم لك الحمد أنك ما أكرهت مؤمناً ولا مؤمنة، ولا سلطت عليهم أن يكرهوهم، ولكن مدوا أعناقهم للشياطين وأصبحوا يمتثلون أوامرهم ويطبقون ما يأمرونهم به ويفعلون.أقول: إذا قال قائل: ماذا هناك؟ لماذا هذا الجمود وهذا الركود وهذه اليبوسة؟ لم ما نرقص كما يرقصون؟ لم ما نشاهد كما يشهدون؟نقول: نتحداكم، إن كانت هذه المناظر والمظاهر تنتج خيراً تقدموا.. فلو أن شخصاً قوت عائلته مرتبط بهذا التلفاز في بيته، نقول: يطلب قوته. ولو أن شخصاً بنظره هذا يزيد بصره وتقوى حدته ويصبح ذا عينين.. نقول: لا بأس حتى يرى المنكر ويرى المعروف، ولو كان هذا يزيد في الطاقة البدنية ليصوم ويقوم ويرابط نقول: له ذلك.ما الذي ينتجه؟ إلا أن نغضب الله ورسوله والملائكة. أعوذ بالله.. أعوذ بالله! فأي مؤمن يرضى بهذا؟ فوالله! لا وجود له.ذكرت: أنه في الشهر الواحد (عشرة آلاف جريمة) ترتكب في فرنسا.. فنجري وراء ماذا؟ ونقلد من؟
دلالة المخلوق على وجود الخالق وقدرته وعلمه عز وجل
فهيا نتدبر الخبر الإلهي: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ [آل عمران:190] جمع آية، بمعنى: العلامة الدالة على شيء حق وصدق، فإيجاد هذه السماوات السبع وهذه الأرضين وما في الكل من هذه المخلوقات أوجدها الله سبحانه وتعالى.إذاً تعرفوا على الله واسألوا عنه وأحبوه لجلاله وكماله، وخافوه لقدرته وعظمته، فإن في هذه المخلوقات آيات أكثر وضوحاً من الشمس دالة على وجود الرب الخالق، وعلى قدرة لا يعجزها شيء، وعلى علم أحاط بكل شيء، وعلى حكمة لا تفارق شيئاً، وعلى رحمة لا يخلو منها شيء، فكيف لا نعرف الله؟! وقوله تعالى: لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] وهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا [آل عمران:191]. (أولي الألباب) أي: أولي القلوب الحية، فالقلوب منها منتكس لا يعي ولا يفهم، ومنه يتلقى ويأخذ ويعطي، كالجهاز المادي للإرسال والتلقي، وإذا فسد مات.فهذه القلوب التي أصحابها يشاهدون الآيات في الكون فيعظمون الله ويبكون بين يديه، ويلجئون إليه، ويعتصمون بهذا الرب العظيم؛ لأنهم أصحاب قلوب حية، عرف هذا العدو فقال: لأفسدن قلوبهم، حتى أتركهم كالبهائم ينزو بعضهم على بعض. فأفسدوا القلوب بالدعاوى والأباطيل والتحسين والتزيين والصور و.. و..، حتى هبطوا بهذه البشرية إلى مستوى البهائم، فنصف مليون امرأة يفجر بها بالقوة وتغتصب، أبعد هذا نقول شيئاً؟!فعن السرقة والتلصص والقتل والإجرام، والكذب والخيانة، وخلف الوعد لا تسأل.. هبطوا إلى الأرض، وهذا من فعل اليهود، فالمسيحية كانت راقية، وكان أهلها يخافون الله ويبكون من خشيته، ويحبون في الله، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:82-83].فاليهود هم الذين أفسدوا النصارى.. فثلاثة أرباع النصارى هم بلاشفة حمر ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا بلقائه؛ فلهذا يرتكبون هذه الجرائم.فجاء حاكم فرنسي إلى قريتنا حين كنت صغيراً في السن وامرأته والله! على وجهها النقاب الخفيف كالذي على نسائكم. الجيش المكون من المستعمرات.. العسكري المسلم على رأسه طربوش أخضر حفاظاً على دينه، والله العظيم! والعسكري الكافر برنيطة على رأسه، ولا ألزموا ولا أجبروا المسلمين أن يتزيوا بزيهم. فقد كانوا يفهمون معنى الدين، لكن اليهود هم الذين مسخوهم؛ من أجل أن يعلو فوقهم ويسودوا ديارهم وأرواحهم؛ ومن أجل أن تعود مملكة بني إسرائيل.فمن الليلة أرجو من السامعين والسامعات ألا يبيت أحداً والتلفاز في بيته، فالليلة يقرأ القرآن في البيت ويتلى كتاب الله وتجتمع الأسرة: أسمعنا يا أبتِ شيئاً من القرآن، أو أسمعيني يا أماه أو يا أختاه.يقرأ القرآن في البيت ويسمعون؟! الله أكبر. فلا مزامير ولا أغاني ولا رقص ولا.. ولا..؟ فهم إذاً مسلمون، أسلموا لله قلوبهم ووجوههم، فلا يحبون إلا ما أحب الله ولا يكرهون إلا ما يكره الله.قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وإيجادهما وفي أجزائهما ومكونات وجودهما آيات وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ؛ لحكم عالية ولقدرة عظيمة، سبحانك ما خلقت هذا باطلاً! الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191].. إذاً كيف يجلسون أمام تلفاز ويسمعون مغنية؟! (يذكرون) بصيغة المضارع دائماً وأبداً، (قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) إذاً: كيف يوجد الباطل في بيوتهم أو مجالسهم؟! الذين يذكرن الله بقلوبهم وألسنتهم أو بقلوبهم مرة، وبألسنتهم وقلوبهم مرة أخرى على كل أوقاتهم قائمين كانوا أو قاعدين، أو نائمين على جنوبهم، موصولون بالملكوت الأعلى، فهل هذا مستحيل؟! فلم يستطع أحدنا أن يخلو مع ذكر الله ساعة، بل دقائق إما بقلبه ولسانه أو بقلبه أو بلسانه، وإن كانت الآية تدل على الصلاة عند الحاجة إليها إذا عجز، يصلي قاعداً أو جالساً، لكن ليست في هذا، فهذا عام، يذكرون الله قياماً في كل أوقاتهم.وهذه الصديقة عائشة تقول: ( كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحايينه )، وهذا شأن المؤمنين، تمشي معه تتحدث وتذكر الله عز وجل.. تجلسون تذكروا الله عز وجل.. تتناولون الطعام والشراب تذكرون الله.. تفترقون تذكرون الله..
وجوب الجمع بين ذكر الله والتفكر في مخلوقاته عز وجل
قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:191] ليسوا كالبهائم.. فهؤلاء يتفكرون بقلوبهم وعقولهم في خلق السماوات والأرض، فهذه الأجرام، وهذه الأفلاك، وهذه الأنوار، وهذه الأمطار، وهذه الكائنات.. من أوجدها؟ لم أوجدها؟فيزداد إيمانهم ويرتفع منسوبه إلى درجة اليقين وإلى عين اليقين، إلى علم اليقين حتى يصبحوا موقنون وكأنهم مع الله، ويقولون بعد التفكر وبعد النظر: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا [آل عمران:191] أي: لهواً ولعباً، باطل بلا فائدة، وبلا نتيجة، وبلا مقصود حاشى لله عز وجل. قالوا: سُبْحَانَكَ [آل عمران:191] تنزيهاً لك وتقديساً عن كل ما هو نقص وأنت العلي الكبير.(سبحانك) أي: ننزهك يا ربنا عن العيب والنقص والعجز، واللهو واللعب والباطل، أن تخلق هذه العظائم في المخلوقات لا لشيء إلا لمجرد اللهو واللعب! حاشاك. ننزهك ونقدسك.ثم قالوا له: فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، فبناءً على إيماننا ويقيننا وعلى عظمتك وجلالك وعلى إنعامك ورحمتك وإفضالك (قنا عذاب النار) لا تعذبنا به.آمنوا بالعالم الثاني ذو الشقين: علوي هو دار السلام، وفيه النعيم المقيم، وسفلي هو دار البوار والجحيم وفيه شقاء وعذاب أليم.آمنوا فقالوا: فقنا عذاب النار.فهم مع الله، فلا جلسوا ولا سكتوا إلا وهم يذكرون الله، فقالوا: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ [آل عمران:192]، فلو قيل: لم يقيكم عذاب النار؟ لم تسألونه أن يحفظكم وأن يبعدكم عن عذاب النار؟قالوا: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، فالعاقل لا يرضى بالخزي، والحي الذي يعي ويفهم ويصير وهو من أصحاب الألباب لا يرضى بالخزي. وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192]، هذا كلام من عندهم يذكر الله لنا.. و(ما للظالمين) بالشرك والكفر والإجرام، والذنوب والآثام؛ لأن الظالم هو الذي يضع الأشياء في غير موضعها.فالظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فالذي يعبد غير الله بالاستغاثة والنداء والتقرب إلى هذا المخلوق، ووضع العبادة في غير موضعها، وأخذها من الله وهو المستحق لها؛ لأنه الخالق المدبر الحكيم، وأعطاها لـعبد القادر الجيلاني أو عيسى ابن مريم يكون هذا ظالم. ومثله بيت المؤمن.. فبدلاً من أن يذكر فيه الله ويتلى فيه كتابه، ويتحدث فيه عن الدار الآخرة وكمالها وجمالها، يأتي بعاهرة ترقص، ومغني يغني، وكافر يلوي رأسه ويتبجح، ونساء المؤمنات يشاهدنه! أعوذ بالله! لقد عاش المسلم قروناً ما يسمح لامرأته أن تفتح عينيها في رجل ينظر إليها، والحجاب ضرب حتى لا ترى المرأة، فكيف إذاً نأتي بشر الخلق وتعايش معهم وتضحك بأضاحيكهم؟!على كل فهذا حال ومكر اليهود فقد مددنا أعناقنا؛ لأننا ما قرأنا هذه الآيات ولا اجتمعنا عليها ولا سألنا ما معناها. رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران:192-193] قالوها صراحة ودعاهم رسول الله إلى الإيمان، وأنبياء الله، وأولياء الله، وكتب الله، وأعظمها القرآن الكريم: سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا [آل عمران:193] (أن) تفسيرية. أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ [آل عمران:193] أي: بخالقكم ورازقكم ومولاكم فَآمَنَّا [آل عمران:193]، فبناءً على هذا: فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193] فهؤلاء يتحدثون مع الله عز وجل، بلا حجاب ولا فاصل، وقصه الله علينا كما هو بالحرف الواحد، وهذا هو الإيمان اليقيني. فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا [آل عمران:193] الذنوب: جمع ذنب، الخطيئة التي يؤخذ بها العبد، كما يؤخذ الحيوان من ذنبه، والسيئات ما أساء بقول أو عمل إلى نفسي أو إلى غيري. فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا امحها.. استرها وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا أي: امحها ولا تذكرها لنا؛ حتى نتهيأ لدخول الجنة.ومطلب آخر: وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193]، فالذي يذهب إلى نيويورك أو إلى باريس أو إلى لندن فقط للترفه والحياة الطيبة -كما يقولون- فهذا لا يريد أن يموت مع الأبرار، بل يريد أن يموت مع الفجار والكفار، فلهذا لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينزل بين الكافرين وأن يقيم بينهم، إلا من ضرورة وهي كالتالي:أولاً: أن يكون سفيراً، يحمل رسالة لدولة الإسلام يبلغها، أو يكون تاجراً يأخذ بضائع أو يفرغ بضائع ويعود، أو يكون طالب علم فقده في دياره، وحاجة المسلمين إليه تلح وتطالب، أو يكون مرابطاً يجاهد، وقد بينا ذلك في رسالة: (إعلام الأنام بحكم الهجرة في الإسلام) وقلنا: نحن ننادي الرابطة، ما تسمع هذه الرابطة، يا رابطة! اربطي بحق، كوني لجنة عليا يشارك فيها كل إقليم.. كل بلد إسلامي..
تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ...)
قال تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [آل عمران:198]، (لكن) استدراكية، الذين اتقوا خالقهم، الرب الخالق، الرب الرازق، الرب المدبر، الرب المحيي، المميت، المعطي، المالك لكل شيء. اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [آل عمران:198]، أي: أتقوه بطاعته، وطاعة رسله، فالله يتقى بطاعته وطاعة رسله؛ لأن الله عز وجل يأمرهم، والرسول يبين لهم سبل السلام وطرق النجاة، والسمو والعلو بما يفعلون وبما يأتون، وبما ينهضون ويقومون به.فلا تفهموا من أن طاعة الله وطاعة الرسول إن شئتم صليتم وإن شئتم لا، وإن خشعتم أو لم تخشعوا، وإن شئتم زكيتم وإن شئتم لا، وإن شئتم طهرتم أنفسكم أو لوثتموها، فالله! ما هذا بالذي نتقي به الله عز وجل. نتقي الله بطاعته الكاملة وطاعة رسوله؛ لأن الرسول يبين ويشرح ويعلم ويبين المقادير ويبين الظروف وما إلى ذلك، فلابد من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.والاستغناء بالكتاب عن السنة يكون صاحبه كافر وضال وهالك، ومستحيل أن ينجو بالقرآن دون رسول الله؛ يقول الله عز وجل للرسول: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فالصلاة ذكرها تعالى بكتابه. فما هي الصلاة؟! وكيف نركع؟ وكيف نسجد؟ وما أوقاتها؟ فالقرآن مجمل والرسول صلى الله عليه وسلم يبين، فجبريل عليه السلام نزل من السماء وصلى برسول الله حول الكعبة أربعة وعشرين ساعة وهو يعلمه الصلاة وكيفيتها وأوقاتها، فطاعة الله وطاعة الرسول بهما يتقى غضب الجبار، وبهما يتقى سخط الله، وإذا اتقينا غضب الله وسخطه فزنا برضاه وبحبه، فإذا رضي عنا وأحبنا أسعدنا، وأكرمنا، وأعزنا، ورفعنا.هذا التعقيب العظيم: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، فالحال التي تتقي بها غضب الله وسخطه وما ينتج عنهما من عذابه تكون بطاعة الله، وطاعة رسوله. فنطيع الله في كل ما أمر عبده أن يعتقده، ويعقده في قلبه، ولو يمزق، ولو يصلب، ولو يحرق ما يبدل ذلك المعتقد ولا يتخلى عنه.وطاعة الله في ما أمر به من الكلم الطيب، فتقول الكلمة التي أمر الله أن تقولها، ولو بكى الناس كلهم أو ضحكوا، وطاعة الله في الأعمال والأفعال التي نقوم بها: من الصلاة، إلى الرباط والجهاد، وكل فافعل فهنا الطاعة، وطاعة الرسول من طاعة الله، فليس هناك فرق: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].ثم هذه العبادات، وهذه الأنظمة، وهذه الشرائع، هي سلم الرقي والسعادة في الدنيا والآخرة، فليست مجرد عبادات وخرافات وتأويل، فهذه أنظمة دقيقة من شأنها أن تعز وترفع المتقين.من آثارها: أن يسود أهل القرية المسلمة حب، وإخاء ومودة فيما بينهم، وأن يسودهم أمن وطهر وصفاء، فليست مجرد كلمة طاعة وتنفيذ الشريعة. لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [آل عمران:198]، كما علمنا: لَهُمْ جَنَّاتٌ [آل عمران:198]، الأولون: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:197]، وهم الكفار، الفجار، الفساق، الذين ما انتظموا في سلك رضا الله وحبه.أما الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ [آل عمران:198]، (جَنَّاتٌ) فوق السماوات التي إذا رفعنا رءوسنا رأينا سمواً وعلواً، ونشاهد كواكب، ونشاهد شمساً وقمراً، وهذا كله من صنع الله عز وجل. فكوكب الشمس أكبر من كوكب الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فمن ملأه ناراً؟ وما هي الغازات التي تحترق فيه؟طأطئ رأسك وقل: آمنت بالله.وفوق هذه السماء سماء أخرى.. سبع سماوات، ومن ثم تجد الجنات، ووصف هذه الجنات خالقها، وصانعها، ومعدها لأوليائه، وهو الذي وصفها بأدق وصف، يقول الله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48]، فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50]، فِيهِمَا فَاكِهَةٌ [الرحمن:68]، فيهما.. فيهما.. وصف دقيق، حتى الحور العين: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72].إذاً: وعندنا شي آخر، وهو أن الرائد الأول محمد صلى الله عليه وسلم والله! لقد وطئها بقدميه الشريفتين، وشاهد حورها وقصورها وأنهارها، وقائده ورائده جبريل عليه السلام، ما عندنا خيالات أو أوهام كما يقول الهابطون والساقطون.يقول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، فمن كان يحلم بهذا أو يفهم أن شخصاً من مكة يصل إلى بيت المقدس في دقائق؟! وكيف يتم هذا؟!إسراء الله برسوله؟ ومن بيت المقدس إلى: سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:14-15].إذاً: هو عاد ووصفها كما شاهدها، فهذه الجنات عرفنا أن آخر من يدخل الجنة يعطى مثل الدنيا مرتين، كوكبين.. قولوا اللهم اجعلنا من أهلها، ومعنى هذا: اللهم اجعلنا من المتقين، فإن استجاب الله لنا، وقال: أنتم من أهلها، والله ليتوب علينا، ويقودنا إلى التوبة حتى نتقيه، فسنن الله لا تتبدل.يقول الله تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:198]، أي: أربعة أنهار، وصفهم الله سبحانه وتعالى في سورة محمد، إذ قال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]. فِيهَا أَنْهَارٌ [محمد:15]، أنهار: جمع نهر، وهذه الأنهار الأربعة هي بلايين، ولكن هذه أصناف الأنهار.أولاً: مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15].ثانياً: مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد:15]؛ لأن اللبن إذا بات في غير الثلاجة يصبح حامض.ثالثاً: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ [محمد:15]، حتى ما تقول: خمر متعفنة كخمر الدنيا. لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]، تجري بين القصور وتحت الأشجار، أبشروا إن متتم على لا إله إلا الله.قال: خَالِدِينَ فِيهَا [آل عمران:198]، الخلود: البقاء والدوام، انطوت العوالم ولم يبق إلا عالم علوي هو الجنة، وعالم سفلي هو جهنم، فقط، ولا فناء أبداً لا للعالم العلوي ولا للسفلي وهكذا أراد الجبار.قال: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:198]، (النزل): الضيافة، فالآن يسمون الفندق النزل، وأصل النزل ما يعد للضيف، من طعام وشراب وفراش حتى يغادر، فالضيف تعد له نزله، وتهيئ له الفراش والطعام والشراب وما يحتاج إليه فهذا هو النزول، وتسمية الفنادق بـ(النزل) لا بأس به، لكن بالمقابل، وحتى نزل الجنة بالمقابل وهو الإيمان والعمل الصالح، وبالتقوى المكونة من إيمان وعمل صالح. نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:198]، إذاً: يعجز الواصفون عن وصفه، ما تستطيع أن تقدره أو تقنن؛ لأنه من عند الجبار عز وجل. وأخيراً يقول: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، وما عند الله فوق النزول هذا خير للأبرار. والأبرار: جمع بار، أو بر، وهو المطيع لله والرسول، الصادق في طاعته، المخلص فيها، الذي كثرت خيراته، وحسناته فأصبحت كالبر في ساحتها واتساعها؛ لأن البر ضد البحر. والأبرار كثرت صالحاتهم وحسناتهم وبذلوا ما لم يبذل غيرهم من الخيرات والصالحات فوصفوا بالبرور فكانوا الأبرار. أما المتقي فهو الذي يطيع الله في الأمر والنهي فله نزل عند ربه، لكن هذا اتسع نطاق بره وخيره، والمتقي هو الذي أطاع الله ورسوله فلم يعصيهما في واجب أوجباه ولا في محرم حرماه، وقد تكون حسناته قليلة. والبر البار: الذي يطعم الفقراء، المساكين، يكسو العراة، يداوي الجرحى، يبذل، يبذل.. يبذل الليل والنهار، زيادة على الواجبات، ولهذا: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198]، فأنت كن براً بحسب قدرتك.
تفسير قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ...)
وهنا حادثة حدثت.. فلما توفي النجاشي ملك الحبشة رحمة الله عليه، وكان إماماً في النصرانية وقائداً لها، وشاء الله أن يهاجر إلى الحبشة المهاجرون وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب ومجموعة معه، وقرءوا عليه سورة الكهف فبكى، ودخل في الإسلام، وبعثت قريش برجالها ليتسلموا الشاردين أو الفارين؛ فمنعهم وردهم خائبين.إذاً: مضت أعوام والرسول بالمدينة وتوفي أصحمة ملك الحبشة، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين إلى مسجد الغمامة، فكان ساحة وصحراء، وصلى عليه صلاة الغائب، فالمنافقون والمرضى قالوا: ما هذا يصلي على هذا الحبشي؟! مسيحي مات في بلاده، ما هذه الصلاة؟! فهذا طعن في اتجاه النبي صلى الله عليه وسلم.. وهذا المرض موجود في كل زمان ومكان، والذين لا أخلاق فاضلة لهم لابد أن يقعون في هذا، فأنزل الله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:199]، (وإن) لتوكيد الخبر.. أي: اليهود والنصارى، لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [آل عمران:199]، أي: أيها المؤمنون وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران:199] أي: من التوراة والإنجيل، خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:199]، فدخل فيها عبد الله بن سلام ، ودخل فيها كل من أسلم من أهل الكتاب، وإن نزلت في النجاشي؛ لأن القرآن عام.فالآن لك أن تقول: ما من يهودي أو نصراني يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدخل في الإسلام فيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويبعد عما حرم الله إلا كان من هؤلاء الوارثين للجنة، فلا فرق بين عربي وعجمي، أبيض، أسود، كلها أول وآخر، كلها لا قيمة لها، وإنما من زكى نفسه، وطيبها، وطهرها، وأصبحت كأرواح الملائكة أصبح أهلاً لأن يرفعه إليه، وينزله بجواره في دار السلام، ومن خبّث نفسه ولوثها وعفنها فأصبحت كأرواح الشياطين ولو كان ابن النبي أو أباه ما دخل دار السلام.والحقيقة هذه يتجاهلها المغرضون والمبطلون، وينسون أن آزر والد إبراهيم الخليل في جهنم، ونسوا أن امرأتا: نوح ولوط، خانتا نبيين رسولين، وغشتهما وخدعتهما هما في جهنم، وفوق هذا كأنكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في طريقه في مكة إلى المدينة، قال لأصحابه: ( أذن لي أن أزور قبر أمي، فمر بها ووقف يبكي فسألوه، فقال: استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنت في أن أستغفر لها فلم يأذن لي فبكوا جميعاً )، تستغفر لشخص مات نفسه خبيثة منتنة، من يدخله دار السلام؟ونزل القرآن: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، الهابطون يقولون: هذا شيء آخر، أم الرسول في الجنة.أما الشيعة والروافض قالوا: أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وعبد المطلب وأبو طالب .الشاهد عندنا: هذا شأن من يعرض عن كتاب الله ولم يدرسه ولم يجتمع عليه، وما أصابنا من ضعف وشر وخبث وظلم وفساد وهبوط نتيجة جهلنا بكتاب الله. أبعدونا كل البعد فأصبحنا نقرأ على الأموات.وأبرهن ونقول: كم من مرة نكون جالسين في المسجد فيمر بنا شخص حافظ القرآن، فنقول له: من فضلك اقرأ علي شيء من القرآن!!أو نقول: نحن عملة موظفون في دائرة، إذا استرحنا فهل نقول: أيكم يسمعنا شيء من القرآن؟ كيف إذاً نقرأ القرآن ونفهم مراد الله منه وما فيه من تعاليم وهدى؟وفوق ذلك من الحجج والبراهين، لقد خمت ديار المسلمين بالخبث والظلم والشر والفساد والإجرام نتيجة بعدهم عن نور الله وهدايته، ما أقبلوا على الله في صدق، وبعدوا عن بيوت الله وكتاب الله، وما يوجد من تعليم ومدارس لا تجزي؛ لأنهم ما أرادوا بها وجه الله، والبرهنة عندنا كثير في هذه المسائل.فمتى نعود؟ الباب مفتوح، فقط نصدق الله في أننا مؤمنون، ونأخذ بحزم أنفسنا، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً يقف دولاب العمل، فلا دكان، ولا متجر، ولا مقهى، ولا مصنع، ولا مزرعة، ولا عمل، ولا سيارة.. الكل يقف.ويأخذ أهل الحي من أحياء المدينة أو أهل القرية يتطهرون ويغيرون لباسهم، ويأخذون نساءهم وأطفالهم، إلى بيت ربهم، والرب ينظر إليهم، انظر كيف أقبلوا علي، تركوا دنياهم وتخلوا عنها وجاءوا يستمطرون رحماتي ويطلبون رضاي، وما لدي وما عندي، فيجلسون جلوسنا هذا بعد صلاة المغرب، فليلة آية من كتاب الله يتغنون بها، فتحفظ وتحشى في الصدور، للصغير والكبير، للمرأة والرجل، ويفهم مراد الله منها والمطلوب، والعزم على العمل إن كان واجب فعلنا، وإن كان محرماً، تركنا واجتنبنا.والليل الآتية حديثاً من أحاديث الرسول يحفظ حفظاً حقيقاً، ويشرح ويفهم المؤمنون والمؤمنات ويطبقون العمل؛ ما يمضي عليهم سنة إلا وهم كأصحاب رسول الله كالملائكة. ولن تجد أي جريمة في القرية.أما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فكل الجرائم والموبقات من الجهل وظلمته في النفس، فليست من العلم ومعرفة الله، وهل هذا يشقينا ويتعسنا، ويوقف العمل؟قلنا: الذين تقتدون بهم اليهود والنصارى.. ادخل باريس، ادخل برلين أو لندن، فالساعة السادسة يقف العمل، ونحن يقف العمل، وإلى أين يذهبون بأطفالهم ونسائهم؟ إلى المقاصف، إلى المراقص، إلى دور السينما، إلى اللهو وإلى الباطل.ونحن ماذا ما نصنع؟ فكم سنة ونحن نبكي هذا البكاء؟ ما استطاع أهل قرية ولا حاكم يشرح هذا القانون ويلزم به؛ لتعود هذه الأمة إلى مسارها الأول، بلا تكلفة، ولو طبق هذا لاستغنت الأمة عن نصف الميزانية، وأقسم بالله على ذلك، والذي راتبه عشرة آلاف والله! لاتسعته وفاضت عنه، وأنفقها في سبيل الله، لما يدخل النور في القلوب، أما مع الظلمة والهوى، والشهوة والتكالب على الدنيا لن يكفينا شيء، فالآن السرقات والجرائم والتلصص، ولنصبح عالم هذه الأمة بالإيمان الحق والإسلام الصحيح، وهذا يأتي من طريق الإقبال على الله وتعلم الهدى، ولن يأتي بما نحن عليه.معاشر المستمعين! بلغوا هذه الدعوة؛ حتى نسمع من القرية الفلانية أصبحوا يجتمعون كلهم من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء كل ليلة ونزورهم، وبعد عام نسأل: كم جريمة ارتبكت؟ ولا جريمة. وكم من فقير يبكي جوعاً؟ ولا فقيراً.وكم من عارٍ يمشي بالناس بالعارية؟لأن هذا هدى الله ونور الله، مستحيل أن يتخلف.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (81)
الحلقة (222)
تفسير سورة آل عمران (83)
إن عباد الله المؤمنين لم يؤتوا شيئاً خيراً من الصبر، فحياة العبد المؤمن في كل تفاصيلها بحاجة إلى الصبر؛ فصبر على طاعة الله سبحانه، وصبر عن معاصي الله، وصبر على المحن والبلاء، ثم مصابرة أعداء الله والرباط في سبيل الله؛ طمعاً بما عند الله عز وجل لعباده المجاهدين في سبيله، والباذلين أنفسهم وأموالهم في مرضاته، لذلك فقد كان آخر هذه السورة دعوة الله عز وجل لعباده إلى الصبر والمصابرة والتقوى؛ لأن ذلك هو سبيل الفوز والنجاح والفلاح.
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا...)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.ثم أما بعد:معشر الأبناء والإخوان المستمعين! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل.وقد انتهى بنا الدرس إلى هذا النداء الإلهي، من خاتمة سورة آل عمران، وهو قول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، فهذه خاتمة سورة آل عمران ذات المائتي آية، وختمت بهذه الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
خصوصية مناداة الله سبحانه وتعالى بـ(يا أيها الذين آمنوا) للمؤمنين دون غيرهم
إن من إكرام الله تعالى لنا، أن نادانا بعنوان الإيمان في كتابه العزيز، نحو تسعة وثمانين نداء، إذ النداءات تسعون، أحد النداءات: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، والمنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمطلوب والعمل نحن المؤمنين، إذا طلقتم النساء، فبين لنا كيف نطلق، وكيف يعتد نساؤنا، وكيف نراجع وكيف.. إلى آخر ما جاء في أحكام الطلاق والعِدد.إذاً: ما السر بندائنا بعنوان الإيمان؟ علم المستمعون والمستمعات: أنه الحياة، المؤمن حي، والحي خلاف الميت، فالحي يسمع النداء ويجيب، إذا أمر وكان قادراً على الفعل فعل، وإذا نهي وزجر ازدجر وترك، وإذا عُلم علم، وإذا حذر حذر، وإذا بشر فرح واستبشر؛ وذلك لكمال حياته.ومن هنا قررنا أن غير المؤمنين أموات، والبرهنة القاطعة هي أننا لا نكلفهم وهم في ذمتنا وتحت رايتنا، ولا نكلفهم بصيام ولا صلاة، ولا حج ولا عمرة ولا جهاد؛ لأنهم بمنزلة الأموات، فإذا نفخت فيهم روح الإيمان، وقال أحدهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، سرت الروح في جسمه، العين تبصر، الأذن تسمع، اللسان ينطق، اليد تأخذ وتعطي، والرجل تمشي؛ وذلك لكمال حياته.فمن هنا نادانا مولانا تسعين نداءً، استولت هذه النداءات على كل متطلبات حياتنا نحن المسلمين، حياة السعادة والكمال، ومع الأسف ما عرف هذا المسلمون، ولا دروا ما به وما فيه، وها نحن مع هذا النداء، وهو آية واحدة، فلنتدبر ما يحتوي عليه هذا النداء.
معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:200]، يا من آمنتم بالله رباً لا رب غيره، أي: خالقاً رازقاً مالكاً مدبراً لا رب غيره، وآمنتم بالله إلهاً، أي: معبوداً لا معبود يستحق العبادة سواه؛ لأن الذي لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يعطي ولا يمنع، ولا يضر ولا ينفع، دعاؤه والانحناء بين يديه، وتقبيل رجله، والركوع له عبث، لا يصح أبداً. فدعاء من لا وجود له، ودعاء من لا يسمع دعاءٌ غير معقول ولا مشروع، ولا يصح عقلاً، وكذلك دعاء من لا يقدر على إعطائك ما تطلب لا يجوز، ويكون دعاءك عبثاً، ودعاء من لا يقدر على إنقاذك وتخليصك من محنتك لا يجوز. فإذا مررت أمام منزل خرب وليس فيه سكان، ورأيت فقيراً ينادي: يا أهل البيت أطعموني، يا أهل الدار إني جائع، ظمآن، أنقذوني، ستقول لهذا الفقير المنادي: يا عبد الله! البيت خرب ليس فيه أحد، ولو تبيت طول الليل تنادي لن يسمعك أحد، اذهب إلى البيت الذي فيه أهله يسمعون ندائك ويعرفون حاجتك، ويقدرون على إنقاذك وإعطائك.ومن صور هذا النداء في حياتنا، نداء الذين يقفون أمام الأضرحة والقباب وقبور الصالحين وينادون ويستغيثون ويطلبون، حالهم كحال هذا الفقير الذي أمام بيت خرب ليس فيه سكان وهو ينادي ويطلب، فلا فرق بينهما؛ لأن الميت لا يسمع.مثلاً: لو فرضنا أنه سمعك عبد القادر أو فلان أو فلان.. في قبره فلن يمد يده لك بالعطاء، ولن يقدم لك كلمة ينصحك بها. فسؤاله إذاً لعب وعبث، ومع هذا ما زال بعض المسلمون إلى الآن يستغيثون ويدعون وينادون أمواتاً، غير أحياء؛ بسبب الجهل وظلمته، فلم يعلمهم أحد، ولم يجلسوا بين يدي أحد من العلماء يعرفهم بربهم حتى يعرفوه حق معرفته. فماذا ترجو منهم؟ فلابد من هذا التخبط والجهل والضلال، فمن أراد إنقاذهم فليعمل على جمعهم بين يديه وتربيتهم، وبعد ذلك يتأكد أنهم لا يدعون غير الله، ولا يستغيثون بسواه أبداً؛ علموا.يا من آمنتم بالله رباً وإلهاً! وآمنتم بالقرآن كتاباً يحمل الهدى والنور! فاستنارت قلوبكم وعرفتم الطريق إلى ربكم، من خلال ما حواه هذا الكتاب المنير، هذا النور الإلهي، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8].يا من آمنتم بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً! مرسل إليكم ليعلمكم ويبين لكم الطريق، ويهديكم إلى سبل نجاتكم وسلامتكم.
من أنواع الصبر: الصبر على طاعة الله ورسوله
يا من آمنتم بلقاء الله والوقوف بين يديه، وسؤالكم عن الذرة من الخير أو الشر، والجزاء العادل في تلك الساعة؛ أنتم الأحياء بسبب هذا الإيمان يأمركم مولاكم بالصبر، اصْبِرُوا [آل عمران:200]، صبر يصبر صبراً على شيء تحمل، ولم يفرط ولن يفرط، وقد علمتم أن للصبر ثلاثة مواطن: - صبر على طاعة الله ورسوله في الرخاء والشدة، في اليسر والعسر، في الغنى والفقر، في الحرب والسلم، بحيث لا تسمح لنفسك بأن تعصي الله ورسوله بترك واجب أوجباه، وعلمت أن هذا الأمر واجب الفعل ويحرم تركه؛ لأنه يزكيك ويهيئك لسعادتك، تركه يرديك ويشقيك، فالنفس تتململ وتتضجر إذا لم تحملها على أن تصبر. فلابد إذاً من أن تصبر وتأمر نفسك بالصبر على طاعة الله بفعل ما أمر به وأوجبه من العقائد والأقوال والأفعال والصفات والذوات، حبسها على الصلاة لا تفارقها، حبسها على بر الوالدين لا تعقهما، حبسها على ملازمة ذكر الله ما تتركه، جاهد والزمها ذلك هذا موطن، صبر دون معاصي الله والرسول، فالمعصية لا تقربها.والمعاصي: ما حرم الله ورسوله من زنا، من ربا، من عقوق الوالدين، من الغيبة، من النميمة، من الخيانة، من الغش، من الخداع، من الكبر، من العجب، أنواع المحرمات.فعبد الله المؤمن مأمور أن يحبس نفسه دون تلك المعاصي، ولا يأذن لها ولا يسمح لها أن تقرب معصية من تلك المعاصي، فكما تحبس طفلك في البيت حتى لا يخرج، وكما تحبس دابتك حتى لا تهرب كذلك تحبس نفسك؛ حتى لا تعدو إلى تلك المعصية فتقارفها، فحبس النفس دون معاصي الله ورسوله تتململ النفس وتتضجر وتدفعك وتحاول أن.. وأنت كالأسد لا تبال بتخبطها وحيرتها وشهواتها وأهوائها.ولا تقل: هذا متعذر، فالفعل قد تعجز عنه، أما الترك ففي الترك راحة، فلو أمرت أن تشرب محرماً هذا فعل صعب، فلن تستطيع أن تشرب سم، لكن كون قيل لك: لا تشرب، أي كلفة في لا تشرب؟ في الترك راحة يقينية، لكن الفعل قد يحتاج إلى جهد وبذل طاقة.وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، فقال: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )، أي: ما أطقتم وقدرتم على فعله، وما عجزتم عنه فليس عليكم شيء، ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه )، معنى: (اجتنبه): لا تُقبل عليه، اجعلوه جانبك، لا تُقبل عليه بوجهك لتأتي وتفعله، اجعله جانب من جوانب الحياة. ولم يقل: وما نهيتك عنه فاجتنبوا ما استطعتم، فلن يقول هذا عاقل؛ لأن الترك فيه راحة. فلما تجلس مع إخوانك، هل ستشعر بالإعياء والتعب والمشقة إذا ما اغتبت فلان، وقلت: فلان صفته كذا.. وسلوكه كذا.. كذا.. كذا..؟ نعم ستجد المشقة حين تلزم الصمت، أما أن تترك ففي الترك راحة.( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه )، والله عز وجل يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وبيان ذلك: دعينا إلى الجهاد، فالمريض والأعرج والأعمى لا يجب أن يخرجوا للجهاد؛ لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61]، وهذا في الجهاد فقط.وفي الإنفاق: فصاحب المليون ينفق الألف، وصاحب الألف ينفق الريال، والذي لا ريال له لا يجب عليه شيء؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].وهذه الصلاة عماد الدين، معراج السمو والرقي إلى لملكوت الأعلى، فإذا كنت قادراً على أن تصلي قائماً صليت قائماً، فإن مرضت صليت قاعداً، فإن عجزت عن القعود صليت على جنبك، وبهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنها الصلاة مناجاة الرحمن عز وجل.هناك كلمة؛ عسى الله أن ينفع بها -وإن لم أنتفع أنا بها- فمن منا يدخل في الصلاة يعلم ويشعر -حقيقة- أنه يتكلم مع الله، ويجد لذة كما يتكلم مع فلان؟! هذه ألهمتها وأنا أبكي، ومن ثم عرفنا ما علة هذا الجفاف، فلما تتكلم مع شخص، كيف حالك وأنت تتكلم معه؟ فهل يكون قلبك هنا أو هناك، ويخطر ببالك شيء وأنت مقبل تطالبه: يا فلان لا تقعد هنا، يا فلان لم ما جئت؟!فالذي يصلي ولا يشعر بهذا الشعور وأنه يتكلم.. والله يسمعه وبين يديه، ما يجد فائدة في صلاته، ولا لذة لها ولا قيمة، وهذا الذي أصابنا وما شعرنا به. كيف أنا أتكلم معه ولا أشعر أنه يسمعني ولا أتأدب معه في مكالمته؟!كلنا نصلي وكأن الله غائب عنا، وإن كنا نعلم أن الله نصب وجهه لنا، لكن ليس شعور حقيقي بأننا نتلذذ بالكلام معه عز وجل، ولا نفرح ونسر أننا نتكلم معه عز وجل. قال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران:199]، خشع: أي: ذل وانكسر واضطرب، وتحرك جسمه وارتعد؛ لأنه بين يدي الجبار، بين يدي الواحد القهار، فهل عاملنا الله بهذا الخشوع؟ فلهذا فقدنا سر هذه الصلاة، وأصبح الجفاف واليبوسة كأننا ما نصلي، كالذي يأكل وكأنه ما أكل، شرب وكأنه ما شرب.قال تعالى: خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:199]، أي: لا يبيع دينه بدنياه، ولا يبيع آخرته بحياته ودنياه، ما يبيع الآخرة بالدنيا، سواء كان يفتي بالباطل من أجل أن يأخذ ثمن على فتاواه، أو يزين للناس الباطل والحرام؛ من أجل أن يرضوا عنه ويوافقوه على ما يريد، كمن يقبل على دنياه فيستحل محارم الله عز وجل، اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً؛ لأن آيات الله أحكامه وقوانينه وشرعه.
من أنواع الصبر: الصبر على الابتلاء
من مواطن الصبر: أن تجاهد نفسك وأن تحبسها على طاعة الله ورسوله بفعل الأمر، فلا تتهاون في فريضة ولا واجب أوجبه الله ورسوله، وإن فشلت وعصيت الله وما صبرت فلست بصابر، احبس نفسك عن معاصي الله ورسوله ولا تسمح لها أن تقول كلمة سوء، أو تنظر نظرة سوء، أو تأكل لقمة حرام، وبذلك تكون قد أطعت الله وتهيأ للجزاء بعد ذلك.ومن مواطن الصبر على الابتلاء، إذ ما منا أحد إلا ويبتلى طال الزمان أو قصر، يقول تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، أي: اختباراً، وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، حسبانهم باطل.الصبر هنا: على البلاء، فإن كان فقراً اصبر عليه، ولا تمد يدك إلى مال أخيك، أو مال عدوك، لكونك فقيراً أو محتاجاً، تسرق وتغصب وتسلب وتأخذ، ما صبرت، ابتليت بالمرض، لا يسمع الله منك كلمة تدل على عدم رضاك بالله وما ابتلاك به، لا تقل: إلا الحمد لله، سواء اشتد الألم أو عظم أو خف وهان، أنت ذاك عبد الله، فلتكن نفسك راضية مطمئنة بما ابتلاك الله به، ولا مانع أن تتناول الأدوية المأذون فيها، المشروعة، متوكلاً على الله، وأنت تعلم أن الشفاء بيد الله، إن شاء شفاك، وإن شاء لم يفعل، هو العليم الحكيم، لكن تسخط وتصرخ وتقول: و.. و.. هذا الضجر والسخط يتنافى مع الصبر على البلاء.قد تبتلى بموت أعز عزيز لديك، فلا يسمع الله منك كلمة تسخط، ولا تضجر ولا تململ، ولكن قل: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله، فهذه هي الكلمة التي لا تفارق المؤمن، وهو يعلم أن السخط والتضجر لا يفيدانه شيئاً، ولا يغنيان عنه من الله شيئاً، الأمر الذي ينتفع به ويكتسب الخير، هو أن يفوض الأمر لله، ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون، فالذي صبر في هذه المواطن الثلاثة أصبح أكمل الناس.صبر على الطاعة ما رأيته يعصي الله، لا بفعل.. لا بترك ولا بفعل.صبر على البلاء كيف ما كان، فقراً أو مرضاً أو موتاً أو غربة أو تعباً أو مشقة أو عمل دائماً كلمة: الحمد لله لا تفارقه.وهذه ميزة لهذه الأمة منذ أن كانت تعرف هذه الأمة في الكتب الأولى في الإنجيل والتوراة، تعرف بأمة الحمد، فلو سألت يهودياً أو نصرانياً، فقيراً أو مريضاً: كيف حالك؟ فلا يعرف كلمة (الحمد لله) ولا يسمع بها. ولو سألت مؤمناً وإن كان عامياً: كيف حالك؟ يقول لك: الحمد لله، فلا تفارقه، فالحمد والثناء والجمال لله عز وجل.اللهم ثبتنا على الصبر.
الفرق بين الصبر والمصابرة
قال تعالى: وَصَابِرُوا [آل عمران:200]، فالصبر غير المصابرة، والمصابرة أن يكون عدوك أمامك، والسيف في يده، وأنت أمامه والسيف في يدك، وأنت تتمايل تتحين الفرصة لضربه وهو كذلك، فإن أنت صابرته غلبته، وإن ما صابرته فشلت وغلبك في الصبر وقتلك.ويرى: أن عنترة بن شداد العبسي المعروف عند العرب والعجم شاعت شهرته وطار صيته في العالم في بطولته، ما بارزه ولا قاتله بطل إلا هزمه، فسألوه يوماً: ما سر هذه البطولة وهذا الانتصار؟ قال لهم: كل ما في الأمر أنني أصابره حتى ينهزم. لا أقل ولا أكثر، كلما أشعر بالضعف أتقوى بالصبر، وهو كل ما يشعر بالضعف يتقوى ثم ينهزم أضربه.فهذا عنترة بن شداد العبسي مضرب المثل في البطولة، فسألوه: كيف تنتصر دائماً؟ قال: ما هناك شيء أتفضل به على غيري، عضلاتي، بنيتي، بدني كغيري، أضعف من كثير من الذين يقاتلهم، كل ما في الأمر: أنني أصابرهم كلما يحاول نحاول نحاول.. نصبر فينهزم قبلي، لما يضعف أضربه وأنتصر عليه، هذه حقيقة.وقوله تعالى: وَصَابِرُوا [آل عمران:200]، هنا: المصابرة في وجه العدو، وأعداؤنا هم: الشهوة العارمة، والنفس الأمارة بالسوء، والدنيا بزخارفها وألوان متعها، وأبو مرة إبليس عليه لعائن الله أكبر هذه الأعداء، يقول تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ [فاطر:6]، أي: اجعلوه عدواً حقيقاً.(وَصَابِر ُوا)، هذه في حال السلم، لسنا في صراع بين المشركين والمؤمنين، فليس هناك حرب بيننا وبين الكافرين، ولكن هنا نصابر الشهوات العارمة، ونهزمها، وما تدفعنا وتهزمنا لأن نرتكب الخبث والمعصية والجريمة، نصابر الدنيا الغرارة، الخداعة بزخارفها، لا تعمينا ولا تصمنا ونعرف حقيقتها وزوالها وخبثها، ولا نبالي بها، ولا نعصي الجبار من أجلها، ولكن نعصي النفس الأمارة بالسوء، كل ما تزين لك قبيحاً شينه في وجهها، وكل ما تميلك إلى كذا مل إلى كذا وتخل عنها حتى تمد عنقها وتستسلم، جاهد، صابر.إذا الشيطان زين لك كلمة وحسنها لا تقلها، وحسن لك لقمة لا تلقمها ولا تبتلعها فهو عدوك، فهنا الميدان ميدان مصابرة، ومصابرة الميدان الجهاد ضد الأعداء، وهم الكفار فكلهم أعداء الإسلام والمسلمين، أهل الكتاب والمجوس، والمشركين والملاحدة والبلاشفة وكل الدنيا، فكيف نصابرهم؟ أولاً: إذا أعلنت الحرب ودخلت قواتنا أو رجالنا الميدان لا ننهزم، ولا نعطيهم ظهرونا، ولا نوليهم أدبارنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، لم يقل: لا تعطوهم ظهوركم، ولكن جاء بكلمة ما يطيقها الحر، فلا تعطوهم أدباركم، وتفرون أمامهم وتعطوهم ظهوركم. فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال:15-16]، اللهم إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16]؛ تحقيقاً لمبدأ (وَصَابِرُوا)، فكيف تنهزم أمامهم وأنت ترغب في الاستشهاد والموت، وأنت تريد السماء، والملكوت الأعلى والدار الآخرة، وهذا الحيوان الميت أمامك، كيف تنهزم أمامه؟!وهنا من ذكريات التاريخ لطيفة، مسجل عند الأوروبيين أيام بداية العثمانية، حاملة راية الإسلام وهي تفتح في شرق أوروبا وتغلغلت إلى البوسنة والهرسك -كما تقولون-، يقولون: كان الجندي العثماني يربط نفسه مع المدفع، ويضرب.. ويضرب .. حتى تنفد الطلقات، فيأتي العدو فيقتله وجهاً لوجه، ولا يعطيه دبره؛ عملاً بقول الله تعالى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، حتى أصبح يضرب بهم المثل في القوة، أتاتورك القوة التركية، أيام كان الإسلام يعمر قلوبهم وفاضت أنواره على كل أحاسيسهم ومشاعرهم، عرف هذه العدو فكاد لنا ولهم، فأهبطهم إلى الأرض، وأفقدهم الإيمان، وأفقدهم المعرفة بالله، وهو كما تشاهدون.(وَصَابِ رُوا): حرام عليك أن تنهزم، فالمسلم ما ينهزم، أمره الله أن يصابر عدوه حتى يستشهد أو يقتل عدوه، هذا في كل ساحات المعركة، (وَصَابِرُوا) عدوكم تغلبوه بالصبر، فتغلبوه في الحرب.
فضل الرباط في سبيل الله
قال تعالى: وَرَابِطُوا [آل عمران:200]، المرابطة هي: أن ثغورنا في حدود ديارنا سواء الضيقة أو الواسعة، يجب أن نرابط فيها، وكان المؤمن لا يأخذ أجراً من السلطان، يقول لأم أولاده: أعدي لي طعام شهر، سويق أو التمر أو الخبز الجاف وفراشه على ظهره ويمشي إلى الثغر، يبيت راكعاً ساجداً يدعو الله، ويعيش على ذلك الشغف من العيش، ويظل لمدة شهر وهو يحرس ديار الإيمان والإسلام، ثم يعود.وكم من تراهم ذاهبين وراجعين لا أجرة ولا وسام ولا شرف، فقط في سبيل الله، ويتخرجون ربانيين الذي ينقطع إلى الله في الليل والنهار، في مكان لا زخرف فيه ولا طعام ولا شرب، لمدة أربعين يوماً يصبح ولي الله.هذا الرباط الآن انتهى، لكن حل محله الثغور، جمع ثغرة، الثكنات جمع ثكنة، فمع من نتكلم؟ مع ثلاثة وأربعين دولة. من قسم المسلمين؟ فكيف دولة الإسلام تصبح نيفاً وأربعين دولة؟! أأذن الله في هذا؟ أهذا يسعدنا؟! أهذا يعزنا؟! أهذا يحفظ ديننا؟! والله ما كان في الكل.فالثالوث الأسود هو الذي فرقنا وشتتنا، حين مددنا أعناقنا واستجبنا له، الجهل هو جهلنا أولاً، واليوم كنت أسمعكم القانون تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر، إياك أن تقول قال الله، فحرموا أمة الإسلام من كتاب ربها، وإذا لم تهتد أمة الإسلام كتاب الله وسنة رسوله، فإلى ما ستهتدي؟ فلا توجد الهداية والنور إلا في القرآن الكريم.فتأمروا على القرآن الكريم وحولوه إلى الموتى، فكنت لا تسمع القرآن يقرأ إلا في بيت الميت فقط، حتى أصبحت العاهر البغي إذا ماتت في دار البغي أو البغاء، يؤتى بأهل القرآن ويقرءون ويأخذون الطعام والفلوس. فهل هذه هي أمة الإسلام؟ وإن عجبت وقلت: كيف؟الجواب عندنا بسرعة: فقد استعمرتنا أوروبا وأذلتنا كيف حكمنا الكفر وسادنا؟! فهل نحن ربانيون أولياء الله؟! لا والله! ما كان هذا، وأماتونا بهذا السحر العجيب.اللطيفة: ذكر الشيخ رشيد رضا في المنار عند قوله تعالى: يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:199]، قال شيخ من كبار علماء الأزهر، سمتاً واستقامة وصلاحاً وعلماً أعلن في مجلس الأزهر، قال: الذي يدعي أنه يعبد الله بالكتاب والسنة زنديق. فلا يتعبد الله إلا بالفقه وما دونه علماء الإسلام الفقهاء، أما الذي يدعي أنه يعبد الله بالكتاب والسنة زنديق، في أعظم مجلس في العالم الإسلامي. رد عليه الشيخ، قال: الذي يدعي أنه لا يعمل بالكتاب والسنة زنديق، وقلنا: والله! زنديق؛ تأييد للنظرية الأولى تفسير القرآن خطأ، صوابه خطأ وخطأه كفر، ما تقول: قال الله وقال رسوله، قال سيدي فلان، قال شيخنا، قال كذا.. فأماتوا الأمة، وقطعوها عن الروح والنور، وماتت كما علمتم وشاهدتم.(وَرَابِ طُوا)، الآن نقول: يجب على هذه الدويلات أن تجتمع وأن تبايع إماماً واحداً، وأن تكون الدويلات ولايات، والمسئولون فيها إن كانوا صلحاء يكونون ولاة، وإمام المسلمين واحد، وحدود المسلمين شرقاً وغرباً هي ديارهم، ثم في تلك الحدود تقام الثكنات، ويرابط رجال الإيمان والإسلام.فالآن لا يوجد سيف ورمح، بل يوجد الصواريخ الممتازة، والطائرات النفاثة، الهياجة، السلاح المدمر، ذاك الذي يكون في حدود ديار العالم الإسلامي، ويجب أن نكون أكثر منهم عتاداً وسلاحاً، وما اشتريناه اليوم نصنعه غداً، ويجب وإلا ما أطعنا الله في قوله: (ورابطوا)، فأي رباط هذا؟ فلو تريد أوروبا أن تحتل أي دولة إسلامية لاحتلتها خلال أربعة وعشرين ساعة، فالأمة مفرقة وممزقة، وتمزقت عقيدتها وسلوكها وآدابها ولا يلام أحد على آخر، تدبير الله فقط.فيجب أن نعلم أننا عصاة فاسقون عن أمر الله، إذا لم نصبر، إذا لم نصابر، إذا لم نرابط فهذه أوامر الله.
الصبر والمصابرة وتقوى الله عز وجل سبيل الفلاح
وأخيراً قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:200]، وبعد ذلك: لتفلحوا في الدنيا بالعز والكمال والسعادة والطهر والصفاء، وفي الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار. وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:200]، كيف نتقي الله عز وجل وهو العلي الأعلى وأنت العظيم، فلا قدرة لنا على أن نتقي غضب الله وعذابه، فتقوى الله بمحبته ومخافته، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يطعم ويسقي، ويحفظ ويكلأ وخلق كل شيء من أجلنا، وبيده سبحانه كل شيء، فهو الذي يسلب الحياة والمال. فاتقي الله يا عبد الله! بأن تحبه وتخافه، فلا تخرج عن طاعته.فالذي لا يعرف محاب الله، ولا كيف يؤديها لله، ولا يعرف مساخط الله يستحيل أن يكون من المتقين، فلابد من العلم، فإذا لم تعرف ما يحب الله من الاعتقاد والقول والعمل، والصفات والذوات، إذا لم تعرف ما يكره الله ويغضب من أجله من السلوك، من النيات، من الأقوال من الأعمال، فكيف إذاً ستتقي الله عز وجل؟لابد إذاً من العلم، قولوا: يكفي ما نحن عليه، أين آثار العلم؟ نعود من حيث بدأنا إن أردنا أن نعود، قف يا عبد الله! وانظر إلى هذا المجلس، من صلاة المغرب إلى أذان العشاء ورجالنا، ونساؤنا وأطفالنا مصغين يستمعون، كل ليلة وطول العام في كل قرية في كل حي في العالم الإسلامي، هذا والله طريق العلم والحصول عليه.أهل القرية ينتدب بعضهم بعضاً هيا نعود إلى الله عز وجل، إلى متى ونحن في هذا العار والخزي والبوار؟!يا معشر إخواننا! لا يتخلف من غد أحد عن المسجد، حان وقت الساعة السادسة أخذ المسلمون يحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، في كل حي وفي كل قرية، في المملكة، في الجمهورية.. لا تجد شخص إلا وهو في بيت ربه يتعلم الكتاب والحكمة، فهل سيبقى جاهل أو جاهلة؟بدون قلم ولا كتاب، عرفوا وإذا عرفوا يرضون بأن تأكلهم النار، ويحل بهم الخزي والعار؟ والله! ما يرضون من عرف ما يقبل التلوث بحال من الأحوال، ومن ثم لا زنا، ولا خيانة، ولا كذب، ولا سرقة، ولا عجب، ولا سخرية، بل صفاء، وطهر كامل، ما شاء الله، آمنا بالله، ما دفعنا شيئاً. وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:200]، نتقي الله عز وجل بمعرفة ما يغضبه وما يسخطه، وما يرضيه ويحببه، معرفة علمية ونأخذ بالعمل، وبذلك نصل إلى مستوى: (أني اتقيت عذاب الله وسخطه).
معنى قوله تعالى: (لعلكم تفلحون)
ومن ثم الختم الأخير: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، (لعل) أي: ليعدكم إلى الفلاح، فالفلاح في الدنيا انتصار، عز وكمال، أمن ورخاء، طهر وصفاء.وفي الآخرة: البعد عن عالم الشقاء، النار -والعياذ بالله-، ودخول الجنة دار الأبرار، قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وسلم.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (82)
الحلقة (223)
تفسير سورة آل عمران (9)
الدين هو ما يدين به العبد ربه، وما يخضع به له، ويعمل بمقتضاه وموجبه، وهذا الدين محصور حصراً كاملاً في الإسلام، فلا يوجد في يهودية ولا نصرانية ولا صابئة ولا بوذية ولا غيرها، فدين الإسلام هو دين الأنبياء من آدم إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ابتغى ديناً سواه لم يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة آل عمران
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده )، فالحمد لله الذي أهلنا لهذا الخير، وربنا على كل شيء قدير.وها نحن مع قول ربنا عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:19-20].
فضل شهادة أن لا إله إلا الله
هل تذكرون الغنيمة الباردة التي غنمناها بالأمس؟ هل انتفعتم بها؟ إنها رواية ( من تلا هذه الآية أثناء تلاوته للسورة وهي قول الله عز وجل: (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))[آل عمران:18]. وقال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، فهي لي عندك يا رب وديعة، يؤتى به يوم القيامة، ويقول الجبار عز وجل: إن لعبدي علي عهد، وأنا أحق من يوفي بالعهد، أدخلوه الجنة ).
اختلاف أهل العلم في صحة إيمان المقلد في الشهادة
تذكرون أيضاً: أن الذي يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله بدون علم، فقط يقلد الناس.. سمع أهل القرية يقولون: لا إله إلا الله فقال: لا إله إلا الله، تعلمون أن أهل العلم مختلفون في صحة إيمانه؛ لأن الشاهد -كما هي حال البشر- لا يشهد على وقوع شيء أو على عدمه إلا بعلم حصل عليه من طريق سمعه وبصره وعقله ووعيه.أما أن يقول: أشهد أن كذا وكذا ولم يعلم ذلك فهذا لا تقبل شهادته.
من شهد أن لا إله إلا الله فقد واطأت شهادته شهادة الله وملائكته وأولي العلم من عباده
ما الذي فزنا به أمس في هذا الباب؟ إذا سئلت: كيف عرفت أنه لا إله إلا الله وبم تشهد؟ تقول: أنا أشهد بشهادة الله وملائكته وأولي العلم من عباده، فإذا كان هؤلاء يكذبون أو يخطئون كنت أنا كذلك، ومستحيل أن يشهد الله بدون علم، ولو علم الله في العوالم الظاهرة والباطنة أن هناك إلهاً لأخبر عنه، ولكنه شهد أنه لا إله إلا هو.والملائكة وهم يطوفون بالعوالم ويسبحون فيها لو كان هناك من يستحق أن يعبد مع الله فيؤله لعرفوه؛ لكنهم شهدوا أنه لا إله إلا الله.والأنبياء والرسل يوحي الله إليهم ويكلمهم وينزل كتبه عليهم، وأتباعهم من أهل العلم الكل شهدوا على علم أنه لا يوجد إله إلا الله. فهذه تكفي وتسد حاجته، وترفعه إلى مستوى كأنه فتش العالم وما وجد إلهاً إلا الله، فقد شهد بشهادة الله أنه لا إله إلا هو، وبشهادة الملائكة أيضاً وأولو العلم.
فضل أهل العلم
هنا لطيفة أخرى فيها بيان فضيلة أهل العلم، ويكفي في الدلالة على فضلهم أن الله قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، ما فصل حتى بـ ( ثم ) ولا شك أن العلماء ورثة الأنبياء. من وارث محمد صلى الله عليه وسلم؟ الرسول ليس عنده نخيل ولا بغال ولا غنم، ما ترك شيئا من متاع الدنيا، ولكنه ترك علمه فمن أخذه فقد أخذه بحظ وافر، العلماء سواء كانوا بيضاً أو سوداًً، حمراً أو صفراً، عجماً أو عرباً هم ورثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فما خلفه رسول الله هم ينشرونه ويعلمونه ويبلغونه غيرهم.إذاً: هيا نتعلم حتى نكون من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم!
العلم طريق الفوز والنجاة
قد يقول قائل: هذا أمر صعب يا شيخ، لا نستطيعه. فأقول: لم ما نستطيع؟ نترك مزارعنا، مصانعنا، وظائفنا، أعمالنا ثم ننقطع لنطلب العلم حتى نكون علماء وترفع درجاتنا في عليين. أهذا أمر صعب؟! لقد فتح الله علينا باباً والله لمن أيسر الأبواب وأسهلها، ولأحق بتحقيق هذا الهدف السامي من مدارسكم وجامعاتكم وكلياتكم، وهو ما سمعناه وقررناه وبذلناه ببكاء ودموع وهو أن أهل القرية إذا دقت الساعة السادسة مساءً توضئوا وتطهروا لبسوا أحسن ثيابهم وجاءوا بنسائهم وأطفالهم إلى بيت ربهم وهو المسجد الجامع الذي بنوه لأداء الصلاة فيه، فإن ضاق وسعوه وإن اتسع فبها ونعمت، فيجتمعون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء اجتماعنا هذا، والنساء وراء الستار، ويتعلمون ليلة آية من كتاب الله، من ستة آلاف ومائتين وأربعين آية! وليلة بعدها يتعلمون حديثاً يبين الهداية الإلهية من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحفظونه في المجلس ويفهمون مراد رسولهم في المجلس، وكلهم عزم وإرادة أن يعملوا بمقتضاه.وكذا أهل المدن، المدينة ذات مناطق، المنطقة السابعة والثامنة والعاشرة، أو مدينة فيها ثلاث مناطق، فأهل كل حي يوسعون جامعهم حتى يتسع لكل أفرادهم وإن كانوا ألفاً أو ألفين أو ثلاثة! يوسعونه، ثم إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا دولاب العمل، أغلقوا المتجر، أوقفوا المصنع، تركوا المزرعة، ويتوضئون ويتطهرون، ويحملون نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، ويصلون المغرب، ويجلس لهم عالم بالكتاب والحكمة فيعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم نيابة عن رسولهم صلى الله عليه وسلم، ليلة آية يقرءون، يتغنون بها، يحفظونها رجالاً ونساء وأطفالاً، ثم تشرح لهم، ويبين مراد الله منها، وتوضع أيديهم على المطلوب، وإن كانت في العقيدة عقدوها في قلوبهم، وإن كان أدباً تأدبوا به، وإن كان واجباً عرفوه وعزموا على النهوض به، وإن كان حراماً هجروه وتركوه، وليلة حديثاً، وطول العام! بل وطول الحياة. هل يبقى بعد هذا جاهل أو جاهلة؟ ماذا تقولون؟ والله ما يبقى، كلهم علماء! وبعد: فما هي المظاهر التي ستتجلى في ذلك المجتمع؟ أولاً: لا خبث، لا ظلمة، لا شر، لا فساد، ولكن خير وطهر وصدق، وعدل ورحمة وبركة، وحسبهم أنهم أصبحوا أولياء الله! لو رفعوا أكفهم إلى الله على أن يزيل الجبال لأزالها! والآن من يرد على الشيخ؟ ما نستطيع؟! الذين اقتدينا بهم وسرنا في ركابهم وقلدناهم -وهم المستعمرون الأوروبيون- إذا دقت الساعة السادسة عندهم وقف العمل، انتهى، يحملون نساءهم وأطفالهم إلى دور السينماء، ودور الرقص والعبث واللهو والباطل، ويمكثون الساعات العديدة من الليل، ونحن لا هؤلاء ولا هؤلاء! نعجز عن أن نذهب إلى بيت ربنا، فنتعلم الكتاب والحكمة، نعد أنفسنا للسعادة والكمال، ونهيئ أنفسنا لأن نرقى السماوات وننزل بديار الأبرار.لا مانع إلا أن نكون مسحورين، ولعل اليهود سحرونا حتى نبقى هابطين مثلهم، لا سعادة ولا كمال! جائز أن يسحرون بالكلام.. بالأدوية التي نستوردها من عندهم.هيا نحل هذا المشكلة؟ الخبث الآن في العالم الإسلامي عالم الطهر تعفنت الأجواء منه، الظلم، الحسد، البغي، الشر، الفساد، كأننا لسنا أولئك المؤمنين، فلا إله إلا الله، لا كاشف لها إلا الله، ونحن نتعرض للفتن يومياً، وما وقعت في بلد إلا وستنتقل إلى آخر! والعلاج بأيدينا. لا نقوى على أن نتعلم كلام الله وكلام رسوله ونقوى على أن نتكلم البذاء وسوء المنطق والألفاظ الخبيثة، والأغاني؟ أغاني العواهر نعرفها ونحفظها؟! فلتبكوا يا معشر المؤمنين! الزموا باب الله فإن الله لا يحرمكم الولوج والدخول فيه، قل: أنا مسلم، ولا تنتمي إلى فرقة ولا حزب ولا جماعة ولا حكومة، أنا مسلم! واقرع باب الله، اسأل أهل العلم كيف تعبد ربك، واعبده واصبر، وإن عم البلاء يجعل الله لك مخرجاً.
تفسير قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام...)
هيا بنا الآن نعود إلى دراسة هذه الآية الكريمة، فاسمع هذا الخبر: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] هذا خبر ، والمخبر به هو الله جل جلاله. كيف حصلنا على خبر الله؟ بكتابه. أين كتابه؟ القرآن العظيم. ولا عقل لمن يقول: ليس بكتاب الله! فلو اجتمعت البشرية أن ترد هذا الكتاب ما استطاعت فهو كتاب الله العظيم الحكيم العزيز، الكتاب الذي حوى علوم الأولين والآخرين، علوم الملكوت الأعلى، مفصل ما فيه تفصيلاً، فضلاً عن ملكوت الأرض وما دونه. هذا الكلام كلام من؟ كلام الله، ما أخس الكافر وما أحطه! كيف يكفر بالله وكتابه بين يديه وكلامه يسمعه بأذنيه؟ من أين يأتي الكفر؟! لا إله إلا الله!
تعجب الرب سبحانه من كفر الكافر مع ما يتلى عليه من آيات
يقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:100] لبيك اللهم لبيك! إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] ما أطاعهم أحد إلا كفر، ثم التعجب، يقول: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] العجب من أين يأتي الكفر؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا [آل عمران:100] خاصة من اليهود والنصارى الأساتذة، المعلمين، الخبراء، المستشارين، مع عامة اليهود والنصارى من فلاحين وسوقة إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] والله العظيم! ثم يقول: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] كيف تكفرون ومعكم هذه المناعة؟ ما هذه المناعة؟ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] فإذا المسلمون في أي جزء من الأرض كانوا يعيشون على هذا المبدأ، على كتاب الله وسنة ورسوله، والله ما تسرب إليهم كفر، ولا عرفوا الكفر، ولا انتهت مسيرتهم إليه بحال من الأحوال، وما إن يعرضوا عن كتاب الله وسنة ورسوله ويهجروهما هجراناً كاملاً فلا يعرفون منهما القليل ولا الكثير إلا صاروا عرضة والله للردة والكفر! معاشر المستمعين! هذا قرآن فاسمعوه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] من اليهود والنصارى يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] ثم يأتي التعجب: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] كيف يصل إليكم الكفر ويدخل في قلوبكم والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101].أين توجد المناعة يا عبد الله المسلم؟! توجد في الكتاب والسنة. أين توجد المناعة والحصانة حتى لا نتورط في الكفر بعد الإيمان؟الحصانة أن يتلى علينا كتاب الله، وأن يكون بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يشرح لنا مسالك الحياة، ويعلمنا كيف نأكل، كيف نشرب، كيف ندخل الخلاء، كيف نقاتل، كيف نبيع، كيف نشتري، فتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم لا تفارقنا حتى في إخراج أرجلنا من المسجد أو إدخالها فيه، فإن هجرنا كتاب الله وما أصبحنا نسمعه ولا نريده وأبعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحنا نأكل ونبيع ونشتري كما نشاء فلا بد إذن من الوقوع في الكفر ما دام هناك فريق متميز مهمته: كفروهم!يرحمكم الله! فهمتم هذه البربرية أم لا؟ كيف نخلص؟ هل نمد أعناقنا حتى تنزل الصاعقة؟ إلى متى؟ أين العلماء؟ لو أن العلماء كلهم بكوا كما بكينا نحن والله لقد أصبحنا على حال من الكمال.هل منا من يقول: هذا الشيخ وهمي يعمل بالأوهام إذ كيف تدخل أمة المساجد وتتعلم بنسائها ورجالها؟ فأقول له: وكيف دخلوا السينما والملاهي والأباطيل؟!
إن الدين عند الله الإسلام
قال الله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] الدين: ما يدين به العبد للرب، وما يخضع به له، ويعمل بمقتضاه وموجبه، والذي يجزى به، كالمداينة يعطي اليوم ويأخذ غداً. هذا الدين محصور حصراً كاملاً في الإسلام، لا يوجد في يهودية ولا نصرانية ولا صابئة ولا بوذا ولا أية ملة، الدين الحق هو الإسلام، وهو دين آدم فمن بعده إلى اليوم، وما من نبي ولا رسول إلا ويدين لله بالإسلام. قال الله عن نوح عليه السلام: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:71-72]. أي: أمرني ربي أن أكون من المسلمين.وهذا يوسف الصديق ابن الصديق يقول فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101].والشاهد عندنا: أنه ما من نبي ولا رسول ولا عبد صالح إلا ودان لله بالإسلام، فلا دين إلا الإسلام، فكل الألقاب التي تطلق على العبادات نصرانية أو يهودية أو كذا كلها أباطيل وترهات: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] الذي هو إسلام القلب والوجه للرب تعالى. أسلمت لفلان حقه: أي: أعطيته. أسلمت وجهي لله: أي: أصبحت لا أرى إلا الله! من أجله أحيا ومن أجله أموت. أسلمت قلبي له: لا يتقلب قلبي إلا في طلب مرضاة الرب. هذا هو الإسلام.
كفر من ابتغى سوى الإسلام ديناً
يقول تعالى في هذه السورة: وَمَنْ يَبْتَغِ [آل عمران:85] أي: يطلب غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].وعندنا سر من أسرار هذا العلم الإلهي، أهل الحلقة يعرفونه، لماذا النصراني يعبد الله، واليهودي يعبد الله، والبوذي يزعم أنه يعبد الله، ثم لا يدخلهم الله جنته؟ لم؟! بل يبذلون أرواحهم في سبيل ذلك فضلاً عن أموالهم؟ الجواب: القضية قضية زكاة النفس وطهارتها، فالعبادات التي يشرعها الله ولا ينسخها، بل يقرها ويبقي عليها، هذه العبادة هي التي من شأنها أن تزكي النفس وتطهرها، أما أن يشرع فلان أو فلان أو فلان ويخترع ما شاء من أقوال أو أعمال أو حركات؛ فوالله ما تزكي النفس، ولن تطهرها، فلا تزكو نفس الآدمي إلا على عبادة وضعها الله وقننها شرعها من أجل تزكية النفس وتطهيرها، فاليهودية والنصرانية أولاً: هاتان الشريعتان نسخهما الله، وأبطل مفعولهما.ثانياً: نسبة الحق إلى البدعة عند هؤلاء لا تزيد على خمسة في المائة، وخمسة وتسعون كلها أباطيل وترهات، وضعها رجالهم، ومن أراد أن يتأكد فهذا الإنجيل حولوه إلى خمسة وثلاثين إنجيلاً! فما هي نسبة الحق فيه؟ ولما عوتبوا ولوموا وضحك عليهم وسخر منهم من قبل اليهود اجتمعوا في روما أو في قسطنطينية وجعلوها خمسة أناجيل: يوحنا، مرقُس، لوقا، متى ، برنابا. كيف يصير كتاباً وحداً خمسة كتب؟ نحن نعرف أن زيادة حرف واحد محرمة، وهذا القرآن بين أيدينا ألف وأربعمائة سنة والله لا حرف يزيد أو ينقص، فكيف يصبح الكتاب المقدس عندهم خمسة كتب؟ معنى ذلك: أن كلام الله خمس وأربعة أخماس كلها أباطيل وكذب! والشاهد عندنا: إِنَّ الدِّينَ [آل عمران:19] المنجي المسعد الرافع المكمل للآدمي هو الإسلام فقط.لما تسمع الله يقول: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]تقول: إن الدين عندنا الإسلام، ولو قال: (إن الدين عندنا الإسلام) لقال المشركون: هذا محمد وجماعته، لا، بل قال الله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) فهو منزل من عند الله، الكتاب الكريم منزل من عند الله.
معنى الإسلام
ما هو الإسلام؟ الإسلام: أن تسلم وجهك وقلبك لله، فلا تلتفت إلا إليه، ولا تأمل إلا فيه، ولا ترجو إلا إياه، ولا تطرح بين يدي مخلوق وإنما بين يديه سبحانه، فكلك لله، وعندئذ تكون أنت المسلم الحق! كيف يكون العبد كله لله؟ إي نعم! يجامع امرأته لله، يطعم دابته من أجل الله، يطلق امرأته من أجل الله، كل عمله لله، لأننا عبيده، موقوفون عليه، فأنت تطلق ظلماً وعدواناً وأنت فاسق وفاجر وحرام عليك أن تؤذي أمة الله، لكن إذا ارتكبت ما يستوجب الطلاق طلقت، وعرفت أنها لا تسعد إلا بطلاقها؛ طلقها، فطلاقك هذا عبادة تعبدت الله تعالى بها.وعندنا آية من ستة آلاف آية ومائتين، وهي آية الوقفية على الله، لتعرف أنك وقف على الله، فكل غلالك ودخلك لله عز وجل، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].لو نادى الآن مناد: من يسلم؟ فكل واحد يريد أن يكون أول من يقول: أنا أسلمت لله، فهل عرفتم أننا وقف لله أم لا؟!لما تزرع ازرع لله، ولما تحصد احصد من أجل الله، ولما تأكل الخبز واللحم كل من أجل الله؛ لأنك أنت عبد الله.ورضي الله عن أبي هريرة السدوسي اليمني إذ قال: إني أحتسب نومتي وقومتي لله.أي: أنام من أجل الله، وأستيقظ من أجل الله فضلاً عن باقي حياتي، فالنوم واليقظة لله عز وجل، يريد أن ينام حتى يقوم آخر الليل أو يشهد صلاة الجماعة، فينام لله، ولما يستيقظ يستيقظ لله ليجيب منادي الله يناديني أن حي على الصلاة. هل عرف المسلمون هذا؟ ما عرفوا.كيف يعرفونه؟ من أين يأتيهم وقد هجروا مصدر العلم والمعرفة؟ من أين يأتيهم وقد تركوا آيات الله وأبعدوا رسول الله؟ ما دام هذا حالهم فلا بد وأن يقع هذا الظلام.إذاً: ينبغي أن لا ننسى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] فلا يفارقنا كلام الله أبداً، يتلى علينا يومياً، ورسول الله لا يفارقنا، وإن فارقنا بذاته فهو لا يفارقنا بأنوار هدايته، نأكل كما يأكل، نلبس كما يلبس، نشرب كما يشرب، نجاهد كما يجاهد.. كل حياتنا مستمدة من تلك الأنوار المحمدية؛ وبذلك تكون العصمة، أما أن نهجر الكتاب والسنة ونريد أن نبقى مؤمنين فهذا ليس بمعقول. يقول الله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] فمن أراد أن يعبد الله فليعبده بشرائع الإسلام، بها يدين لله ويذل ويخضع، يفعل الأمر، ويترك النهي خوفاً من الله عز وجل، وحباً فيه، وشوقاً إلى لقائه.ومن يعبد الله بدون الإسلام بأية عبادة أو بدعة فوالله إنه لفي ضلال.
قواعد الإسلام التي بني عليها
هل تعرفون أن الإسلام مبني على قواعد أم لا؟ الجواب: نعم قواعد الإسلام خمس، علمنا إياها جبريل سيد الملائكة، السفير بين الله وبين رسله. من جبريل هذا؟ وما هي الصورة التي تجلى فيها لرسولنا؟.أولاً: دخل عليه في غار حراء -غار حراء موجود في جبال مكة- والرسول منقطع يتبتل إلى ربه وقد توخمت البلاد واتخمت بالباطل والكفر والشرك، فمل النظر إليهم والجلوس معهم، فأخذ ينقطع الشهر والشهرين في ذلك الغار، ففاجأه جبريل في صورة عظيمة وأول نور بدأ في كلمة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1].وقد أخبرتنا بذلك خديجة رضي الله عنها كما أخبرها صلى الله عليه وسلم، لما عاد ترجف بوادره قال: ( أجلسني بين يديه، وقال: محمد! اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ ) يعني: لا أعرف القراءة، ماذا أقرأ. قال: ( فيضمني أو يغطني ثم يرسلني ويقول: اقرأ، أقول: ما أنا بقارئ، ثلاث مرات يضمني إلى صدره كما تضم الأم الحنون الرءوم طفلها؛ لينشرح صدره ويتسع لما يلقى إليه، ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5] وفارقه ) .فجأة وهو في جياد -المستشفى المعروف باسم: مستشفى جياد- جنوب المسجد الحرام، وإذا به يناديه: يا محمد! أنا جبريل وأنت رسول الله! ينظر وإذا بجبريل قد سد الأفق كله، إذ له ستمائة جناح، فلا إله إلا الله، ستمائة جناح؟ نعم، وهل للملائكة أجنحة؟ إي نعم، أخبر خالقهم بذلك: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1] فجبريل ذو ستمائة جناح. ثانياً: في أمسية والرسول صلى الله عليه وسلم جالس وأمامه أصحابه يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وإذا بجبريل يدخل في صورة دحية بن خليفة الكلبي ، وكان من أجمل الأنصار ويشق الحلقة، ويجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسة من لم يجلسها بين يدي عالم لن يتعلم!جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، ليتلقى بجامع قواه، عجب! ثم قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلهام بوحي من الله: ( الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت! ) فعجب الأصحاب. قالوا: ( فعجبنا له يسأله ويصدقه ) كيف يقول: صدقت؟ إذاً: هو عالم قبل الآن. وسأله عن الإيمان فأبان أركانه، وسأله عن الإحسان فصححه، وسأله عن الساعة متى تقوم فقال: ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: أخبرني عن أماراتها ) فأعطاه أمارة قائمة الآن. ما هذه الأمارة؟ الأمارة: العلامة ما هي الإمارة، حيث الأمير بالكسر والعامة يقولون: الأمارة، الإمارة التي فيها الأمير يأمر وينهى، أما الأمارة فهي العلامة ( أخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان )، أيهم عمارته تتجاوز الأخرى، هذا ما كان لا في أوروبا ولا في غيرها، فقد كانوا في الأكواخ في أوروبا، ما كان الناس إلا رعاة بقر أو غنم وإبل، وإذا بهم يتطاولون في البنيان، هذه العمارة عشرين طابقاً ، فيزيد هو طابقاً ليجعلها واحداً وعشرين حتى تكون أعلى، وصدق رسول الله.إذاً: الساعة قريبة؟ والله لقريبة، وهذه أماراتها لاحت في الأفق من زمان أكثر من مائة سنة أو مائة وخمسين ( أن ترى الحفاة العراة ) العالة الفقراء ( رعاء الشاة يتطاولون في البنيان )، أيهم بنايتهم أطول وأعلى.عرفه بالإسلام فقال: ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام إن استطعت إلى ذلك سبيلاً. قال: صدقت ).إذاً: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:19] ماذا؟ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، الإسلام هذا مبني على كم خمس قواعد لو سقطت قاعدة سقط البناء، فمن هنا من ترك قاعدة من هذه القواعد وهو قادر على إتيانها كفر وخرج من الإسلام وما أصبح بمسلم. وتبقى أمور أخرى كالطلاء والزخرفة فهذا شيء آخر، أما هذه فقواعد، ترك الصلاة كفر، منع الزكاة كفر، ومن قال: لا أصوم وسخر من الصيام كفر، ومن قال: لا أحج البيت ولا ألعب هذه الألاعيب التي تأتونها كفر.. وهكذا إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].
سبب اختلاف الذين أوتوا الكتاب
ثم قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]، وهذه حقيقة تاريخية.. حقيقة علمية.. حقيقة قل ما شئت فيها فهي ثابتة ثبوت الليل والنهار، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ [آل عمران:19] وسبب تفرقتهم هو البغي والحسد بينهم! والحروب التي دارت بين اليهود يقشعر لهولها الجلد، من أجل اختلافهم في دينهم! ولو تعرفون عن اختلاف النصارى وما دار بينهم من حروب أحرقوا فيها بيوت بعضهم بعض وفعلوا الأعاجيب لاندهشتم. والمسلمون تفرقوا وإلا لا؟ اختلفوا وإلا لا؟ فهذه سنة الله عز وجل في البشرية، كانت أمة واحدة على لا إله إلا الله لا تعبد إلا الله، فأنشأ العدو الشيطان إبليس مبدأ الشرك بالله عز وجل وزينه للناس، والقضية عندنا معلومة من الضرورات إذ جاءت في كتاب الله وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قبل نوح عليه السلام ما كانت أمة الإسلام إلا أمة واحدة، ثم كان بينهم رجال صالحون من خيرة الرجال يعبدون الله معهم، فلما ماتوا بنوا على قبورهم أضرحة من أجل التبرك والزيارة، ومضت فترة من الزمان وضعوا لهم تماثيل، كل واحد له تمثال من أجل التبرك بهم والانتفاع برؤيتهم ليزدادوا حباً في الله ورغبة فيما عند الله، فجاء جيل فعبدوهم مع الله، واسمعوا ما قالوه لنبيهم نوح عليه السلام: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح:23]، هذا زعيمهم يقول، لا تتركن آلهتكم التي يقول نوح اتركوها ولا تعبدوها وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا رجالاً صالحين، ولما ماتوا بنوا على قبورهم مرحلة أولى من أجل التبرك بهم وزيارتهم وضعوا لهم تماثيل: هذا يعوق، هذا نسر، هذا سواع، هذا ود، من أجل رؤيتهم وليزدادوا حباً في الله ورغبة في عبادته، وجاء جيل آخر فقال: هؤلاء آلهة فعبدوهم، فلما عبدوهم وجاء العلم اختلفوا، لما جاء العلم يحمله رسول الله زال ذلك الاتفاق واختلفوا، فمنهم الكافر ومنهم المؤمن، منهم الموحد ومنهم المشرك. هذه قاعدة.إذاً: العلم الرباني حامل الهداية يجب على البشرية حيثما كانت ألا تخرج عنه ولا تعادي أهله ولا تناوئهم وتحاربهم فتتفرق الأمة وتختلف. هذه قاعدة ربانية.يكون أهل قرية أمرهم واحد -مثلاً- على خرافة وضلالة، فلما جاء العلم قال الله وقال رسوله يختلفون وإلا والمفروض أننا لا نختلف أبداً بل نتفق على عبادة الله وعلى شرعه ودينه، لكن الذي يحملهم على الخلاف هو حب الذات.. حب الرئاسة.. المنصب.. المال، وهذا الذي حدث في بني إسرائيل، والآن الآيات في اليهود والنصارى إذ هم أهل الكتاب.أيضاً: وفد نجران الذي جاء عرفوا يقيناً أن محمداً رسول الله، وما منعهم أن يقبلوا هذا إلا الحفاظ على مناصبهم في الكنيسة، فأبوا أن يفوتوا فرصة سعادتهم في دنياهم فرفضوا، واليهود على علم يقيني بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وعندنا مثل واضح كالشمس:كان غلام صغير يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، يأتيه بماء وضوئه ويحمل نعله، فمرض هذا الولد فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعوده ويزوره، فدخل عليه فوجده على فراش الموت ووالده إلى جنبه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( يا غلام! قل لا إله إلا الله ) فنظر الغلام إلى أبيه يريد أن يقولها فيكفهر وجه أبيه ويغضب ويسكت، يا فلان قل لا إله إلا الله، وفي المرة الثالثة قال اليهودي لولده: أطع أبا القاسم، فقال الولد: لا إله إلا الله محمد رسول الله وفاضت روحه فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدار وهو يقول: ( الحمد لله الذي أخرجه بي من النار ). ( الحمد لله الذي أخرجه بي ) أي: بسببي ( من النار ) وإلا كان من أهلها. هذا اليهودي الذي قال: أطع أبا القاسم كان على علم، والآن خمسة وسبعين في المائة من رجالات الكنيسة بعد هذا التفتح وهذه المواصلات وهذه العلوم وهذه الصحف وهذه الكتب يعرفون أن الإسلام هو دين الله، ولكن الحفاظ على مراكزهم ووجودهم بين أممهم جعلهم لا يعترفون به، ولا عجب إذ من المسلمين من يعرف الحق معرفة يقينية ويرفضه ولا يقبله؛ حفاظاً على حاله وموقعه، ولا عجب.إذاً: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:19] من اليهود والنصارى وغيرهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ [آل عمران:19] بسبب بالبغي.. العدوان.. الحسد.. الظلم، كم وكم، الآن تدخل قرية تريد أن تنشئ فيها جماعة ربانية صالحة في المسجد فتجد من يناهضك ويأتي بكلام غير كلامك، ولا تتفقون ولا تجتمعون؛ لأن البغي والحسد من فطر الإنسان، فإذا لم يذب في ذات الله ويتخلى عن أوساخ هذه الحياة فلا بد وأن يحسدك وأن يبغضك لأجل الدنيا.
جزاء من يكفر بآيات الله
قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:19] سواء كان عالماً أو جاهلاً، ومن يكفر بآيات الله الحاملة لشرائعه وأحكامه وهدايته، وقد تكون الآيات معجزات أيضاً، من يكفر بآيات الله التنزيلية الحاملة للشرائع والأحكام أو المعجزات المقررة لنبوة النبي ورسالة الرسول فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19] فسوف ينزل بهم نقمه ويجزيهم بأسوأ الجزاء وأقبحه، ولا يطول ذلك، فإنه تعالى سريع الحساب، وهذه جملة معللة للجملة المحذوفة، والمحذوفة فوق ما تتصور، يكفر بآيات الله، الجواب: يمزق.. يحرق، ماذا؟ ما تتصور، لكن قوله: فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19] يدل على هذا المعنى.(يكفر بآيات الله) ينكرها.. يجحدها.. يعرض عنها، لا يسمع.. لا يقرأ.. لا يعمل، هذا هو الكفران، الجحود والإعراض، وهذا هو الجزاء، سواء كان أبيض أو أسود، من أية جهة كان في العالمو(من) من ألفاظ العموم، من يكفر بآيات الله التي حواها كتابه وشاهدها الناس من رسوله، فإن العقاب عظيم وشديد لا يقادر قدره، وسوف ينزل أيضاً والله سريع الحساب.
تفسير قوله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله...)
قال تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20]. فَإِنْ حَاجُّوكَ أي: يا رسولنا. من الذين يحاجونه؟ وفد نجران، ونجران بلدة في المملكة وراء مكة جنوباً تسمى نجران، كانت فيها النصرانية واليهودية أيضاً. إذاً: جاء وفدهم المكون من ستين فارساً، جاء ليحاج الرسول في شأن عيسى، يريدون أن يثبتوا بنوة عيسى لله. خرافة! ستون راكباً يأتون على الخيل وهم يعيشون على هذه الخرافة، من أجل أن يأكلوا ويشربوا ويسودوا العوام ويتحكمون بهم!هل هناك عاقل يقول: الله عنده ولد؟ من امرأته إذاً؟ الله الذي يخلق كل شيء يحتاج إلى زوجة؟! كيف هذا؟ هؤلاء يعلمون يقنياً أن الله منزه عن الصاحبة والولد، ولكنهم يريدون أن يأكلوا ويشربوا ويضحكوا على عوامهم، فجاءوا يجادلون حتى لا تبطل مناصبهم، فهزمهم الله شر هزيمة.قال الله لرسوله: اتركهم فإن حاجوك لا تحاجهم أنت: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران:20] واتركهم يتخبطون، فليسوا أهلاً لأن يحاجوا، ولما دعوا للمباهلة فشلوا وهربوا.إذاً: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ [آل عمران:20] أنت أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران:20] كذلك، واتركهم. إذ كنت تعرف أن هذا الشخص عالم وعارف ولكن منعه الاعتراف بالعلم والمعرفة أغراضه الدنيوية الهابطة، فهذا ما يجادل ولا يحاج، بل يحاج الذي ما عرف، فتبين له الطريق، أما شخص يعرف أنك رسول الله ولا يريد فلم تقض معه الساعة والساعات؟ ليس هناك حاجة إلى هذا.إذاً: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران:20] أيضاً أسلموا وجوههم لله، وأنتم افعلوا ما شئتم، كونوا ما شئتم أن تكونوا. فَإِنْ حَاجُّوكَ [آل عمران:20] في ماذا؟ في الله.. في التوحيد.. في الإسلام.. في الرسالة.. في كل شئون الدين، فلا تجادلهم؛ لأنهم على علم ليسوا جهالاً، والله إنهم ليعرفون أنه رسول الله، وأن الإسلام هو دين الله، وأن المسيحية والنصرانية عبث بها، وأن الله نسخها وأبطلها، ولكن البغي والحسد والمنافع التي يعيشون عليها تمنعهم من الاعتراف. وهذا وللأسف إلى الآن موجود حتى بين المسلمين، فكم من صاحب بدعة يعرف أنها بدعة، لكنها خولته تكريماً بين رجاله واحتراماً لهم أو مكنته من وظيفة مرموقة فلا يتنازل عن بدعته. فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران:20] إن شاء الله نحن منهم، إي والله، نسلم وجوهنا لله، لا نعرف إلا الله عز وجل، لا هم لنا ولا هدف ولا غاية إلا أن يرضى الله عنا ويحبنا، فإذا قال: صوموا صمنا، وإذا قال: أفطروا أفطرنا، وإذا قال: أنصتوا أنصتنا، وإذا قال: تكلموا تكلمنا، فوالله ما نتحرك حركة إلا بإذنه، وهذا يتطلب منا معرفة، لا بد من معرفة أوامر الله ورسوله ونواهيهما.قال: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ [آل عمران:20]العرب، الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى والصابئة، والأميون هم: المشركون. قل لهم ماذا يا رسولنا؟ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ [آل عمران:20] اسألهم: أَأَسْلَمْتُمْ [آل عمران:20]أم لا؟ هذا هو الحد الفاصل، وبعد هذا ما بقي شيء. أأسلمتم أم لا، فأنا ومن تبعني قد أسلمنا وجوهنا لله، وأنتم اكشفوا النقاب عن وجوهكم. أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا [آل عمران:20] إلى طريق السعادة وسبل الكمال في الدارين وَإِنْ تَوَلَّوْا [آل عمران:20] ورجعوا إلى الوراء معرضين عنك وعن كلامك ودعوتك فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران:20] وقد بلغت، فهنيئاً لك رسول الله! لا تحزن ولا تكرب أبداً ولو ما أسلم ولا واحد، إذ عليك البلاغ، فهذه مهمتك التي تجزى بها وتؤاخذ عليها إن قصرت فيها، وقد بلغت فلا شيء عليك وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20] سوف يجزيهم الجزاء العادل إما فقراً وهواناً وذلاً في الدنيا، وإما تمزقاً واحتراقاً وتلاشياً في الدار الآخرة، وبذلك استراحت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب النجرانيون إلى بيوتهم في كرب وحزن.وصلى الله على نبينا محمد.
-
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
http://majles.alukah.net/imgcache/2018/02/44.jpg
تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة آل عمران - (83)
الحلقة (224)
تفسير سورة آل عمران (51)
بين الله عز وجل في كتابه حال أهل الكتاب، وأن منهم المؤمن ومنهم الكافر، ومنهم الصالح ومنهم الفاسد، فأثنى سبحانه وتعالى على صالحيهم، ذاكراً عنهم أنهم يقرءون آيات الله أثناء صلاتهم بالليل، وأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في فعل ما يرضي الله عز وجل عنهم، ويجتنبون ما نهاهم عنه سبحانه، وأن ما يفعلونه من الخير لن يجحدوه، وإنما يجازون عليه يوم القيامة.
قراءة في تفسير قوله تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة...) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليلتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل -القرآن العظيم- وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الكريمات، والسورة كما علمتم هي سورة آل عمران عليهم السلام، وتلاوة الآيات المباركات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:113-115].
شرح الكلمات
قال: [ قوله تعالى: لَيْسُوا سَوَاءً [آل عمران:113] أي: غير متساوين ]، ليسوا على مستوى واحد، من هم؟ أهل الكتاب من اليهود والنصارى[ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113] جماعة قائمة ثابتة على الإيمان والعمل الصالح.وقوله: يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:113]: أي: يقرءون القرآن ] إذ آيات الله هي كتابه وهؤلاء دخلوا في الإسلام وأعلنوا إسلامهم وأصبحوا أهلاً لأن يثني الجبار تعالى عليهم.[ وقوله: آنَاءَ اللَّيْلِ [آل عمران:113] أي: ساعات الليل، والآناء جمع أنى أو إنى ] بمعنى: الوقت، ومنه قوله تعالى في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53] أي: وقته؛ لأن الطمَّاعين والراغبين في شم رائحة النبوة، إذا قال: الغداء عندنا غداً يأتون من الضحى! فيؤذون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فلا تأتوا إلا وقت وضع السفرة والإقبال على الأكل، والشاهد عندنا: الآناء، وهي جمع إنى أو أنى، يعني: ساعات الليل. [ وقوله: وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113]أي: يصلون ]. وذُكِر السجود وأريد به الصلاة لأنه أعظم أجزائها، إذ إن أعظم أجزاء الصلاة هو السجود، أما القيام فكل الناس يقومون، وأما الركوع فالآن يركعون لإخوانهم وعظمائهم، أما أن يعفر وجهه في التراب فهذا لن يفعله إلا مؤمن، وعليه فأطلق لفظ السجود وأريد به الصلاة لأنه أعظم أجزائها، وإن كنا نحن الآن نسجد على الفرش والزرابي، وكان المؤمنون الأوائل يسجدون هنا على التراب والحصا، ويضطر أحدهم إلى أن يُبعد الحصا بيده مرةً ولا بأس، ويخرجون وسيماهم في وجوههم من أثر السجود، ولا بأس أن نسجد على الزرابي المبثوثة، لكن فقط يجب أن نحمد الله عزوجل، وأن نشكره على ذلك. [ وقوله: وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [آل عمران:114] أي: يبتدرونها خشية الفوات ]، فإذا دعا داعي الخير أسرعوا، وإذا نادى منادي: حي على الجهاد، بادروا، وإذا نادى منادي: ابذلوا الصدقات، بادروا، فالمهم أنهم يبتدرون لقوة إيمانهم، َيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [آل عمران:114]. [ وقوله: فَلَنْ يُكْفَرُوهُ [آل عمران:115] أي: فلن يجحدوه ]، ما يجحدون ذلك الخير الذي يسارعون إليه، بل يثابون عليه ويجزون به، ولذلك قال: [ بل يعترف لهم به ويجزون به وافياً ]؛ لأن الله شكور حليم، والشكور: ما يكفر حقوق الناس ولا أعمالهم الصالحة، بل يذكرها ويسجلها ويثيبهم عليها.فهل تذكرون هذه المعاني في هذه الآيات الكريمات: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:113-115]، وما دام عليماً بهم فسوف يجزيهم.
معنى الآيات
قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ معنى الآيات:
من أهل الكتاب من يعبدون الله ويتلون آياته
بعد أن ذكر تعالى حال أهل الكتاب، وأنهم فريقان: مؤمن صالح، وكافر فاسد -في الآيات السابقة- ذكر هنا في هذا الآيات الثلاث: أن أهل الكتاب ليسوا سواء، أي: غير متساوين في الحال -والمآل أيضاً- وأثنى على أهل الصلاح منهم، فقال جل ذكره: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113] أي: على الإيمان الحق، والدين الصحيح ]، مِن أقام العود إذا قوَّمه، فما مالوا ولا انحرفوا في عقائدهم وفي عباداتهم، وإنما قائمين على الحق والدين الصحيح، ثم قال: [ وهم الذين أسلموا ] قلوبهم ووجوههم لله رب العالمين، إذ شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأحبوا الله ورسوله والمؤمنين، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المكر، ويكفي ما ذَكر تعالى في صفاتهم.قال: [ وهم الذين أسلموا ] أي: دخلوا في الإسلام، قال: [ يتلون آيات الله: يقرأونها في صلاتهم، آناء الليل، أي: ساعات الليل، وذلك في صلاة العشاء وقيام الليل وهم يسجدون ].وأهل الكتاب ما كانوا يصلون صلاة العشاء قط، ولا كانوا يتهجدون ولا يعبدون الله بالليل، ويشهد لهذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تأخر يوماً عن صلاة العشاء، فتململ الناس فخرج إليهم وأعلمهم: ( أنهم يصلون صلاة لا يصليها غيرهم في العالمين )، وهي صلاة العشاء، وفيها من الوعد ما تعلمون، فقال عليه الصلاة والسلام: ( من صلى البردين دخل الجنة )، والبردان: صلاة العصر وصلاة الصبح، فمن صلاهما صلاة حقيقة في وقتها، بأركانها، بخشوعها، وواضب عليها حتى مات، قطعاً دخل الجنة، وقال عليه الصلاة والسلام: ( من صلى العشاء فكأنما قام نصف الليل )، فالذي يصلي العشاء في وقتها مع جماعة المسلمين -يصليها صلاة تُقبل- فكأنما قام نصف الليل، وقال: ( ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله )؛ لأن العشاء وقتها يمكن لكل مؤمن أن يصليها، فما زال وقت النوم لم يدخل بعد، بينما لو نام على فراشه، فلا يوقظه إلا إيمان ورجاء في الله، ورغبة في الملكوت الأعلى. فوا أسفاه! واحسرتاه! ماذا أصاب المسلمين؟ من هم الذين يشهدون صلاة الصبح؟ ولا نسبة خمسين في المائة، بل ولا خمسة وثمانين، والعلة معروفة، إذ فتح عليهم اليهود باب اللهو والباطل، فانشغلوا بسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام المختلفة والمتنوعة، يسهرون إلى نصف الليل، بل إلى ما وراء نصف الليل، فأنى لهم أن يقوموا آخر الليل؟! وفرح بهذا خصوم الإسلام، والمسلمون نائمون، ويعجبون إذا قيل: ما فائدة هذا التلفاز؟ ما فائدة هذا الفيديو في بيتك؟ ما فائدة هذا الدش أو الصحن الهوائي؟ أسألك بالله، علمنا، قل أي شيء، كم قررنا والله شاهد.واسألوا صاحب هذا الدش، اسألوه بالله، هل يكتسب منه ريالاً واحداً في الليلة؟ هل يُعطون أموالاً سرية من أجل شرائها؟! والجواب: والله لا، هل يستفيد منه رقة قلبه، وازدياد إيمانه، وقوة بصيرتة؟! والله ما هو إلا العكس، هل يستفيد منه طاقة بدنية، فيقوى بدنه على العمل غداً في مزرعته أو دكانه أو في مصنعه؟! والله ما يزيده إلا انهزاماً وضعفاً، هل يزيده حباً في الله، ورغبة في الملكوت الأعلى، والشوق إلى مواكب النبيين والصديقين؟ والله ما يفعل هذا، ولا يبعث على هذا أبداً، إذاً: فما هي النتيجة؟النتيجة : أن يَغضب الملائكة فيخرجون من البيت، ويتركون البيت للشياطين، فإذا استولت الشياطين على البيت فكيف يفعلون بقلوب أهلها؟ يُقسونها، يصرفونها عن الله وذكره، وهذا الكلام مكرر ومعاد، فلم لا يبلغهم؟ أيام كنا مسلمين إذا حدث حادث، قبل أن نقدم عليه نأتي أهل العلم ونسأل: هل هذا يجوز لنا نحن المسلمين أن نقوله أو نفعله؟ فإن قال أهل العلم: هذا حرام، تركناه وأعرضنا عنه، ونصحنا كل مؤمن ومؤمنة حتى لا يفعله، لكن الآن كأن مستوانا العلمي ارتفع! وأصبح الناس كلهم علماء! وأصبحوا في غير حاجة إلى أن يسألوا!وهنا أقول: من هم الذين قال الله فيهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]؟ بنو الأصفر؟ الأحباش؟ أشراف بنو تميم؟ إذاً فمن هم؟ تتجافى جنوبهم، أي: تتباعد أكتافهم عن المضاجع، إذ إنهم يقومون الليل، فهل الذي يقوم الليل يسهر مع زوجته وأولاده أمام عاهرة تغني وترقص؟! والله ما كان ولن يكون، بل أقول: هل يمتلئ المسجد في صلاة الفجر؟! لا والله، ولذلك لا نشك أننا تحت النظارة، فاليهود يراقبوننا ليل نهار متى نهبط ليركبوا على ظهورنا، ويتخذوننا بهائم، ويعلنون عن مملكة بني إسرائيل، وهذا الكلام قد سمعتموه مني، وأنا أحلف لكم على ذلك، فهم لا يريدون للبشرية أبداً أن ترفع رأسها، إذ يستحيل مع ذلك أن تكون لهم دولة بين الناس وهم حثالة وحفنة في العالم، فلا بد من إفساد البشرية، وقد نجحوا -كما بينت من قبل- في نشر مذهب الإلحاد، مذهب البلشفية الحمراء الشيوعية، وأصبحت الصليبية -التي كانت تعلو بآدابها وأخلاقها وسموها- كالبهائم لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، وقد حذرت وقلت: لم يبق أكثر من ربع النصارى يعتقد في المسيح أنه كذا وكذا، وثلاثة أرباع بلاشفة حمر لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومن ثم استطاعوا أن يركبوا على ظهورهم، وأن يستولوا على قلوبهم وأموالهم، فعز اليهود وارتفعت قيمتهم، وعلا كعبهم في العالم، فهم المالكون المتصرفون في البنوك والأموال، ووصلوا إلى هذا لما كفَّروا الصليبيين ومحوا النصرانية من قلوبهم، والمسلمون هبط بهم من أفسد قلوبهم وأخلاقهم وعقولهم، وهم بنو عمنا من اليهود! وآية ذلك: أنه كيف أمكنهم أن يعلنوا عن دولة بني إسرائيل في قلب الإسلام والمسلمين؟! حلم هذا أم ماذا؟! وإلى الآن لم يعلنوا عن مملكتهم، وإنما أعلنوا عن دولة إسرائيل.وقد ذكرت لكم أن أحد الأبناء سمع بأذنه أيام موشي ديان وهو يحاضرهم في البرلمان اليهودي من عشرين سنة، فلما أُعجبوا ببيانه قالوا: أنت الملك، أنت الملك، قال: اسكتوا ولا تذكروا هذا؛ فإنه لم يحن الوقت لذلك، ويوم أن يملكوا من النيل إلى الفرات -وهو قريب إن بقينا هكذا- يعلنون عن مملكة بني إسرائيل، إذ إنهم يعملون بالسحر وبكل الأساليب على ألا تجتمع كلمة المؤمنين أبداً، ولا يُقبلون على الله بحال من الأحوال، وهذا هو الواقع.وبالتالي فهؤلاء هم اليهود، فأين وضعهم الله؟ لمَ؟ لأنهم أسلموا قلوبهم ووجوههم لله، وأقبلوا على الله، وأقاموا دين الله بحق واستقاموا عليه، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأقاموا الصلاة، وسارعوا في الخيرات، وكما قلت غير ما مرة واسمعوا: البشرية كلها عبيد الله، لا فرق عند الله بين أبيض وأسود، ولا عربي ولا عجمي، وإنما كلهم عبيد لله، وبالتالي فمن آمن واستقام رفعه، ومن كفر واعوج وانحط وهبط إلى الأرض وضعه في الأسفل، وهذا المدح الآن هو لمجموعة من بني إسرائيل كما سيأتي بعض أسمائهم.قال: [ وهذا ثناء عليهم بالسجود، إذ هو أعظم مظاهر الخضوع لله تعالى، كما أثنى تعالى عليهم بالإيمان الصادق والأمر بالمعروف، وهو الدعوة إلى عبادة الله بعد الإيمان به، والإسلام الظاهر والباطن له، وينهون عن المنكر وهو الشرك بعبادة الله تعالى، والكفر به وبرسوله، فقال عز وجل: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [آل عمران:114] أي: يبادرون إليها قبل فواتها، والخيرات: هي كل قول، كل عمل صالح من سائر القربات، وشهد تعالى لهم بالصلاح فقال: وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:114] ].وقد سبق أن قلنا: هم عبد الله بن سلام وأخوه وفلان وامرأته، أي: مجموعة من بني إسرائيل في المدينة النبوية، أقبلوا على الله وأسلموا، فأنزلهم الله هذه المنازل ليرغب اليهود والنصارى في الطريق إلى السلامة والنجاة، ولكن يدخل الله في رحمته من يشاء، فمن استجاب وأجاب دعوة الله نجا، ولذلك دخل في الإسلام من النصارى ملايين البشر.
الله عز وجل لا يضيع أجر الصالحين من أهل الكتاب
قال: [ وأخيراً: أن ما يفعلونه من الصالحات، وما يأتونه من الخيرات، لن يُجحدوه، بل يعترف لهم به، ويُجزون عليه أتم الجزاء؛ لأنهم متقون، والله عليم بالمتقين، فلن يضيِّع أجرهم أبداً ]، اللهم اجعلنا منهم.إذاً: فمن هم المتقون؟ الذين اتقوا غضب الله وعذابه وسخطه، بمَ؟ بالجيوش الجرارة؟! بالحصون القوية والأسوار العالية؟! أم بماذا؟ الجواب: يُتقى الله بالخوف منه الحامل للعبد على أن يطيعه ولا يعصيه، يُتقى الله بطاعته وطاعة رسوله، إذ إن من أطاع الله وأطاع رسوله جعل بينه وبين العذاب وقاية من أعظم الوقايات، وليست وقاية فقط، وإنما بعد الوقاية فاز وظفر بالمقام السامي، والدرجات العالية، والجوار الكريم في الملكوت الأعلى.إن تقوى الله عز وجل تتكرر في القرآن وأهل الإسلام غافلون عنها، فسلهم بم يتقى الله؟ لا يجيبوك أحد، ولذلك يُتقى الله بالإيمان به وبطاعته وطاعة رسوله، وسر هذه التقوى -أهل الحلقة على علم نساء ورجالاً، والمحرمون منها لا يعرفون- أنها تزكي النفس البشرية وتطيبها وتطهرها، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، فإذا زكت النفس -أي: طابت وطهرت- وأصبحت كأنفس الملائكة وأرواحهم، يقبلها الله في الملكوت الأعلى وينزلها في الفراديس العلى.وإن كانت الأنفس خبيثة منتنة متعفنة كأنفس الشياطين وأرواح الكافرين، فمستحيل في قضاء الله وحكمه أن يقبلها في جواره، وآية واضحة حفظها النساء والرجال لن تُنسى أبداً، فاسمع هذا البيان يا عبد الله، يقول تعالى في سورة الأعراف المكية: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41]، هذا بيان ملك الملوك، بيان رب العالمين، بيان خالق الجنة والنار، وخالق الإنس والجن وسائر المخلوقات، بيان رافع السموات، فمن يرد على الله؟! إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:40]، الذين كذبوا بهذه الشريعة يعبدون الله بها؟! معقول هذا الكلام؟! إن ذلك مستحيل، وإذا ما كذب ولكن استكبر، فقال: أنا مؤمن بأنه كلام الله، لكن لا نستطيع أن نقوم من آخر الليل، ما نستطيع أن نعطي أموالاً للفقراء والمساكين فنبقى مثلهم، ما نريد أن نخرج إلى الجهاد فنموت، فهل هذا استكبار أم لا؟ وقد ضربت لهذا مثلاً وتكرر ذكره، فنسيه الناسون، وهذا المثل هو:لو أن مريضين على فراش الموت أتى إليهما الطبيب، فتقدم إلى أحدهما فقال له: استعمل هذا الدواء ملعقة بعد الأكل وملعقة قبل النوم، فقال: أنا لا أؤمن بهذا الكلام، اذهب عني، لا أصدق هذا الكلام! ثم مات، والثاني تقدم إليه الطبيب فقال: يا أخانا، يا مريض، إن مرضك كذا، فاستعمل هذا الدواء ملعقة في الليل وملعقة في الصباح، فقال: جزاك الله خيراً، ولكن نفسي ما هي قابلة له، وأنا مصدق بما تقول، فتركه الطبيب فمات، وبالتالي ما الفرق بين المكذب والمستكبر؟الأول قال: أنا لا أصدق أن هذا الدواء يشفيني، وأن هذا الدواء ينفعني! فهو مكذب، والثاني شكر الطبيب على ذلك، لكنه قال: أن ما عندي شهية ولا رغبة في هذا الدواء، فهلكا معاً لأنهما لم يستعملا الدواء، فهل فهمتم معنى قول ربنا: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40]؟ ما استعملوا أدوات التزكية للنفس البشرية وتطهيرها، وهؤلاء حكم الله فيهم: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40]، وهل للسماء من أبواب؟إي ورب الكعبة، والباب كالمدخل، لكن ليس شرطاً أن يكون كباب غرفتك، فأبواب السماء لا تفتح لهم أبداً، وذلك لما تُؤخذ أرواحهم فيعرج بها موكبٌ من ملائكة العذاب، فيستأذنون -والله- فلا يؤذن لهم، فيعودون بها إلى الدركات السفلى، والدركات السفلى إن أردت لها تصويراً قريباً فأغمض عينيك وضع رأسك بين ركبتيك وفكر وقل: اهبط، اهبط، اهبط، إلى أين؟ عجزت يا عبد الله فلا تعرف، تلك هي الدركات السفلى ثَّم سجين، إلى يوم القيامة وهو في عذابها، إذاً لا تفتح لهم أبواب السماء لأن أنفسهم خبيثة عفنة منتنة رائحتها كريهة، لا يقبلها أهل الملكوت الأعلى.ثم قال تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ [الأعراف:40]، يا عرب، تعرفون الجمل؟ إنه البعير الأروق، تعرفون سم الخياط؟ سلوا العجائز، إنه عين الإبرة، أي: ثقبها، فهل من المعقول أن يدخل بعير في عين إبرة؟! والله لو تجتمع البشرية كلها مستحيل أن يدخل بعير في عين الإبرة، وبالتالي فمستحيل في حق ذي النفس الخبيثة أن يدخل دار السلام، وهذا حكم الله، فهل نبكي أو نصرخ؟وانظر إلى التعليل: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، من هم المجرمون؟ أصحاب الحشيشة عندنا، السرق، اللصوص، والمجرمون واحدهم مجرم، وهو اسم فاعل من أجرم يجرم إجراماً، فكل مفسد مجرم، والمراد هنا الإجرام على النفس البشرية التي كانت كأرواح الملائكة، كأرواح الأطفال، فأجرم عليها وصب عليها يومياً أطناناً من القاذورات والأوساخ، من كلمات الشرك والكفر والكذب، وجرائم السرقة والتلصص حتى اسودت وأنتنت وعفنت، فهل أجرم عليها أو لا؟ثم ماذا؟ قال لهم: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [الأعراف:41]، أي: فراش، ففراشهم الجمر والنار، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41] أي: بطانيات يتغطون بها، فغطاؤهم وفراشهم النار.ثم قال تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، من هم الظالمون؟ الذين يضعون الأمور في غير مواضعها، فبدل أن يعبدوا الله عبدوا الشيطان، بدل أن يفعلوا الخير فعلوا الشر، بدل أن يعتقدوا الحق اعتقدوا الباطل، بدل أن يستقيموا اعوجوا، فاسودت نفوسهم، وأنتنت وتعفنت أرواحهم، فهذا جزاؤهم، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41].فهل عرف المؤمنون والمؤمنات هذا؟ وهل عرفتم تقوى الله عز وجل؟ إذاً فهيا نتقيه بطاعته وطاعة رسوله، فأولاً: يجب أن نعرف أوامر الله التي نطيعه فيها، وكيفية فعلها أمامه ليقبلها، ويجب أن نعرف أوامر رسوله كم هي؟ وما هي؟ وما أوقاتها؟ وما ظروفها؟ وكيف نؤدِّيها؟ ثم يجب أن نعرف محارم الله ومناهيه ومساخطه لنتقيها ونجتنبها، ونبحث عن الوسائل التي تساعدنا على تركها واجتنابها، فإن لم نرد أن نعلم هذا والله ما نتقيه، إذ إنه مستحيل ذلك، فالذي لا يعرف أوامر الله ولا نواهيه كيف يعبده؟! والذي لا يعرف أوامر رسوله ونواهيه كيف يطيعه؟!وللأسف فقد عرف هذا بنو عمنا من اليهود عليهم لعائن الله، فقالوا: إذاً جهلوا المسلمين -باستثناء هذه البقعة المباركة- فتجد نسبة تعليم البنت في مدارسنا في العالم الإسلامي لا تزيد على حصة في الأسبوع أو حصتين، وبالتالي كيف يعرف الناس ربهم؟ وكيف يعبد الناس ربهم؟ لقد شغلوا بناتنا وبنينا بالعلوم الطائشة التائهة الهائمة الضائعة التي لو أسلمنا قلوبنا لله لتعلمناها في أسابيع لا في عشرين سنة، ونحن نصرخ ونقول: الباطل، الباطل، بل ما زلت أقول: لو كنا صادقين فإن في إمكاننا أن نختار من البنات سبعين بنتاً أو ثمانين، وفي خلال أربعة أسابيع يتخرجن ممرضات، ولا يحتاج إلى ندرسهن عشرين سنة حتى يتخرجن ممرضات، وهذا مثال حي، لكن حتى لا نعرف الله ولا نعرف كيف نطيعه وضعوا هذه المناهج والبرامج التعليمية، فأصبح المسلمون يتخرجون بشهادات لو سألتهم عن الله ما يعرفون! ولو سألتهم بمَ يتقى الله فلا يعرفون أيضاً.ولذلك إذا جهل المسلمون ربهم ومحابه ومكارهه فكيف يعبدونه؟! كيف يطيعونه؟! ثم أين مظاهر التقوى وقد خمت الدنيا بالخبث والشر والظلم والفساد في كل بلاد العالم وبالأخص بلاد المسلمين؟ وسبب ذلك أننا ما علمناهم أن يطلبوا العلم لمعرفة الله وما يحب وما يكره، بل دلوني على فحل منكم أيها الفحول يأخذ طفله إلى المدرسة ويقول له: أي بني، تعلم كيف تعبد الله، تعلم ما يحب الله لتفعله، وتعرف إلى ما يكره الله لتتركه، وتنازلنا هذا مع الرجال والذكور، ثم جاء تعليم البنات، فمن منكم من قال: يا بنيتي تعلمي كيف تعبدين الله، كيف تتقربين إلى الله لتظفري بالنزول بجواره، إن هذه الدنيا فانية وزائلة؟ لو قال هذا لقالت: اتركني في بيتي مع أمي أتعلم كيف أعبد الله.مع أننا في خير وعافية، لكنها لا تدوم؛ لأننا نزحف إلى باب الخراب والدمار، ووالله -لا قدر الله- لأن تسقط هذه الراية، ويحكم هذه البلاد غير أهل سعود لرأيتم العجب، بل لاندهشتم، وذلك أن ظواهرنا كشفت عن بواطننا، وعرفنا إلى أين نحن نسير، وهذا هو واقعنا، لكن لطف الله وإحسانه باق معنا، ونحن نسأل الله عز وجل أن يكثر الصالحين والصالحات في هذه البلاد؛ لأن زوال النعمة إذا كثر الخبث، والعدو والله يعرف هذا قبلنا، فهم يرصدوننا لعلمهم بما عندنا، ولذا خرج رسول الله في ليلة من الليالي وهو يضرب كفيه متحسراً ويقول: ( ويل للعرب من شر قد اقترب )، في تألم وتحسر، فتقول إحدى نسائه: ( أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث )، فهل عرفنا نحن هذا؟ لو عرفناه ما سمحنا للخبث أن يظهر بيننا، لا في قرانا ولا في مدننا، لكن العدو عرف هذا فأخذ ينشر الخبث بالحيل وبالمجلات وبالجرائد وبالإذاعة وبالسحر، بل وبكل الوسائل المتنوعة والمختلفة، حتى إذا كثر الخبث هبطنا كما هبط كل العالم الإسلامي.
هداية الآيات
ومرة أخيرة أسمعكم الآيات لنقف على نتائجها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [آل عمران:113-115].أما أهل الشرك فلا تسأل، واسأل عمن دخلوا في رحمة الله، واذكر الصديق والفاروق وأصحاب رسول الله، واذكر ملايين الربانيين الصالحين من العرب والعجم الذين أصبحوا أولياء الله وأهل تقواه.قال [ من هداية الآيات:أولاً: فضل الثبات على الحق والقيام على الطاعات ]. أي: أن هذه الآيات دلت على فضيلة الثبات على الحق والقيام على الطاعات، وعدم التحول أو النزول عنها.[ثانياً: فضل تلاوة القرآن الكريم في صلاة الليل ] والحمد لله نصلي العشاء ونقوم آخر الليل، فإن قال قائل: يا شيخ ما نستطيع! أقول: كان آباؤكم وأجدادكم يقومون الليل، بل ويطول عليهم فينامون ثم يقومون يصلون؛ لأن الليل عندهم من صلاة العشاء بتعاليم رسول الله: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم -نهى المؤمنين والمؤمنات- عن النوم قبل صلاة العشاء )، فيكره لأي مؤمن أن ينام قبل صلاة العشاء؛ لأنه إذا نام قد لا يستيقظ، ( ونهى عن الحديث بعدها )، أي: أن الحديث بعد صلاة العشاء ممنوع.لكن قد يقول قائل: يا شيخ! كل أعمالنا وأشغالنا في الليل! أقول: ماذا أصابنا؟ هل هبطنا؟! عندما نقول: هيا نتوب إلى الله فنجمع نساءنا وأطفالنا في بيت ربنا من المغرب إلى العشاء، فإذا صلينا ذهبنا إلى بيوتنا ونفوسنا مشرقة وآمالنا سامية، قالوا: كيف ننام بعد صلاة العشاء؟! إذاً: وكيف تتطلعون إلى السماء؟! أي: كيف تصبحون أولياء الله؟ [ثالثاً: فضل الإيمان والدعوة إلى الإسلام ] في الشرق والغرب.[ رابعاً: فضل المسابقة في الخيرات والمبادرة إلى الصالحات.خامساً: فضيلة الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه، وفي الصحيحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ) ]. وتكملة الحديث: ( وعبد مملوك -لزيد أو عمرو- يؤدي واجبه مع سيده ويعبد ربه بكامل العبادة فله أجران، ورجل له أمة فأدبها ورباها وأطعمها وغذَّاها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران )، اللهم اجعلنا منهم.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.