فوائد وتنبيهات:
الأولى: قوله: "لئن قدر عليّ ربي" اختلف العلماء في تأويله:
قال ابن عبد البر: هو من القَدَر الذي هو القضاء، وليس من باب القدرة والاستطاعة كقوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]
وقيل: قدر هنا بمعنى ضيق كقوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7]
قلت: وكلا التأويلين خطأ.[1]
قال الإمام النووي[2]: وقد جاء في هذا الحديث في غير مسلم "فلعلى أضل الله" أى أغيب عنه وهذا يدل على أن قوله: "لئن قدر الله" على ظاهره.
وقال الحافظ[3]: وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يقله قاصدا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه.
قال: وأبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر.
الثانية: قوله: "لعلى أضل الله."
معناه لعلى أفوته. يقال: ضل الشيء إذا فات وذهب وهو كقوله: {لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} [طـه: 52]
الثالثة: قال الخطابي: قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟
والجواب: أنه لم ينكر البعث؛ فإنه ما أوصى بما أوصى به إلا خوفا من البعث والحساب.
وقد يقال: إنه أنكر القدرة على البعث لمن هذا حاله؛ فيكفر أيضا.
والجواب: أن قوله: "لئن قدر الله" لا يلزم منه نفى القدرة وذلك لأنه ما نفى القدرة على ممكن، فمن نفى القدرة على ممكن كفر، بخلاف من نفى القدرة على مستحيل، وقد فرض هذا الرجلُ غير المستحيل مستحيلا فيما لم يثبت عنده أنه ممكن من الدين بالضرورة.
وأجاب الخطابي وغيره: بأنه إنما جهل صفة من صفات الله تعالى وهي صفة القدرة. وقد اختلف العلماء في تكفير جاهل الصفة:
- فذهب بعضهم إلى أنه يكفر بهذا الجهل. وممن ذهب إلى ذلك ابن جرير الطبري وأبو الحسن الأشعري في أول أمره.
- وذهب آخرون إلى أنه لا يكفر بجهل الصفة ولا يخرج به عن سمة الإيمان بخلاف جاحد الصفة فإنه كافر اتفاقا. وإلى هذا الرأي رجع أبو الحسن الأشعري، وعليه استقر قوله.
وقال ابن قتيبة: قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك. وقالت هذه الطائفة: لو سئل الناس عن الصفات لوجد العالم بها قليلا.
وقد تقدم أن أظهر الأقوال أنه قال ما قال في حال شدة الخوف الذى ذهب بعقله فقال ما قال كما غلط الآخر الذى قال: ربى أنت عبدى وأنا ربك ولم يكفر بذلك.[4]
قال الإمام الطحاوي: فتأملنا ما في هذا الحديث من وصية هذا الموصي بنيه:
- بإحراقهم إياه بالنار
- وبطحنهم إياه حتى يكون مثل الكحل
- وبتذريهم إياه في البحر في الريح
ومن قوله لهم بعد ذلك: فوالله لا يقدر علي رب العالمين أبدا فوجدنا ذلك محتملا أن يكون كان من شريعة ذلك القرن الذي كان ذلك الموصي منه القربة بمثل هذا إلى ربهم - جل وعز - خوف عذابه إياهم في الآخرة ورجاء رحمته إياهم فيها بتعجيلهم لأنفسهم ذلك في الدنيا كما يفعل من أمتنا من يوصي منهم بوضع خده إلى الأرض في لحده رجاء رحمة الله - عز وجل - إياه بذلك
فقال قائل: وكيف جاز لك أن تحمل تأويل هذا الحديث على ما تأولته عليه في ذلك من وصية ذلك الموصي ما ينفي عنه الإيمان بالله تعالى؛ لأن فيه: فوالله لا يقدر علي رب العالمين أبدا. ومَنْ نَفَى عن الله تعالى القدرة في حال من الأحوال كان بذلك كافرا؟
وكان جوابنا له في ذلك: أن الذي كان من ذلك الموصي من قوله لبنيه: فوالله لا يقدر عليَ رب العالمين. ليس على نفي القدرة عليه في حال من الأحوال
ولو كان ذلك كذلك لكان كافرا ولما جاز أن يغفر الله له ولا أن يدخله جنته لأن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به
ولكن قوله: فوالله لا يقدر عليَ رب العالمين أبدا. هو عندنا - والله أعلم - على التضييق أي: لا يضيق الله علي أبدا فيعذبني بتضييقه علىّ لما قد قدمت في الدنيا من عذابي نفسي الذي أوصيتكم به فيها
والدليل على ما ذكرنا قول الله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ...} إلى قوله: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أى: فضيق عليه رزقه
وقوله تعالى في نبيه ذي النون وهو يونس - عليه السلام -: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} في معنى أن لن نضيق عليه
وقوله تعالى: {يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له}
فكان البسط هو التوسعة وكان قوله: {ويقدر} هو التضييق
فكان مثل ذلك قول ذلك الموصي: فوالله لا يقدر علي رب العالمين أبدا أى: لا يضيق علىّ أبدا لما قد فعلته بنفسي رجاء رحمته وطلب غفرانه ثقة منه به ومعرفة منه برحمته وعفوه وصفحه بأقل من ذلك الفعل.[5]
ثم ذكر ألفاظ الحديث الأخرى
ثم قال في الجواب عن قوله: "لعلى أضل الله" وقوله: "فإن يقدر الله علىَّ": لم نجد هذا في شيء مما قد روي في هذا الباب إلا في هذا الحديث
وهذا الحديث فإنما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل واحد وهو معاوية بن حيدة جد بهز
وقد خالفه في ذلك عن النبي عليه السلام أبو بكر الصديق وحذيفة وأبو مسعود وأبو سعيد وسلمان وأبو هريرة
وإنما جعلنا ما روى حذيفة في ذلك غير ما روى أبو بكر فيه وإن كان حديث حذيفة الذي رواه عنه والان[6] هو عن أبي بكر عن النبي عليه السلام لأن حذيفة في حديث ربعي[7] قد قال فيه إنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فدلنا ذلك أن الذي حمله مع سماعه إياه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سماعه إياه من أبي بكر عن رسول الله عليه السلام إنما كان لمعنى زاده عليه أبو بكر فأخذه عنه لزيادته التي فيه عليه
وستة أولى بالحفظ من واحد
غير أن قوما أخرجوا لحديث معاوية بن حيدة معنى وهو أنهم جعلوا قوله: لعلي أضل الله. جهلا منه بلطيف قدرة الله تعالى مع إيمانه به جل وعز فجعلوه بخشيته عقوبتَه مؤمنا وبطمعه أن يضله جاهلا فكان الغفران من الله تعالى له بإيمانه ولم يؤاخذه بجهله الذي لم يخرجه من الإيمان به إلى الكفر به تعالى
وقد يحتمل أن يكون الذي سمعه الستة الأولون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاوية بن حيدة هو اللفظ الذي ذكره الستة الأولون
ولا يجوز أن يكون ذلك إلا كذلك لأنهم حدثوا به عنه في أزمنة مختلفة بألفاظ مؤتلفة فلم يكن ذلك إلا بحفظهم إياه عن رسول الله عليه السلام بتلك الألفاظ
وسمعه معاوية بن حيدة منه كذلك فوقع بقلبه أن المعنى الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: إن يقدر الله علي. أراد به القدرة فكان ضدها عنده أن يضله وهو أن يفوته ولم يكن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمقدرة ذلك وإنما هو التضييق
وكان الذي أتى فيه معاوية هو هذا المعنى وكان ما حدث به الستة الأولون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من ذلك لا سيما ومنهم الصدِّيق الذي هو أحد الاثنين اللذين أمر رسول الله عليه السلام بالاقتداء بهما بعده وبالله التوفيق.[8]
_____________________________
[1] تنوير الحوالك للسيوطي: 1 / 238
[2] مسلم بشرح النووي: 9 / 17 / 63
[3] فتح الباري: 6 / 631
[4] انظر فتح الباري: 6 / 631، ومسلم بشرح النووي: 9 / 17 / 63، وحاشية السندي على النسائي: 2 / 566، والأسماء والصفات للبيهقي: 500.
[5] شرح مشكل الآثار: 2 / 28 - 29
[6] والان: هو والان بن بيهس أو ابن قرفة العدوى، وثقه ابن معين وابن حبان.
[7] ربعي: هو ربعي بن حراش التابعي الجليل.
[8] شرح مشكل الآثار للإمام الطحاوي: 2 / 37 - 38