-
قال صاحبي
قال: اضرب لي مثالا على كل نوع مما سبق
قلت: أما تخصيص الكتاب بالكتاب فقوله تعالى: { والْمُطَلَّقَات ُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فهذه الآية عامة في كل مطلقة أن عليها عدة، وأن عدتها ثلاثة قروء.
قال: مِن أين استفدنا العموم في الآية ؟
قلت: من لفظ {المطلقات}
قال: وكيف ذلك ؟
قلت: لأنه جَمْعُ واااا
فقاطعني قائلا: جمع مؤنث سالم وقد قلت إن جمع المذكر والمؤنث السالم من جموع القلة لا الكثرة
قلت: نعم، ولكن كونهما من جموع القلة مشروط –كما تقدم- بألا يقترنا بـ(أل) التي للاستغراق وألا يضافا إلى ما يدل على الكثرة وإلا انصرفا إلى الكثرة نحو: {إِنَّ الْمُسْلِمينَ وَالْمُسْلِمَات ِ}
قال: نعم نعم، تذكرت الآن، فتريد أن تقول إن {الْمُطَلَّقاتُ} في الآية جمع مقترن بـ(أل) الاستغراقية فيفيد العموم فيشمل المطلقةَ الحاملَ والحائلَ، والمدخولَ بها وغيرَ المدخول بها
قلت: نعم، هو ذا.
قال: أكمل
قلت: فالحكم هنا وجوب العدة على المطلقة وقدرها ثلاثة قروء لكن خرج من هذا الحكم صنفان: المطلقة الحامل، والمطلقة قبل الدخول بها
قال: فما دليل تخصيص الحامل ؟
قلت: قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]
قال: فالحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل
قلت: نعم
قال: ولو وضعت بعد يوم
قلت: نعم
قال: فما دليل تخصيص غير المدخول بها ؟
قلت: قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عليهنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [الأحزاب: 49]
قال: فغيرُ المدخولِ بها لا عدة عليها
قلت: نعم
قال: قد فهمت تخصيص الكتاب بالكتاب، فاضرب لي مثالا على تخصيص الكتاب بالسنة
قلت: أما تخصيص الكتاب بالسنة فكقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } [النساء: 11] فقوله: {أَوْلَادِكُمْ} جمع مضاف فيَعُمّ
قال: يَعُمُّ ماذا ؟ أولادكم يعني أولادكم أيُّ عموم هنا ؟
قلت: يعُمُّ الولد المؤمن والولد الكافر
قلت: آآآآآآآآآآآ هذا ممكن، لم يَرِدْ هذا على ذهني،
قلت: فخرج الولدُ الكافرُ من الميراث بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ"
قال: نعم، ولكن هل تخصيص الكتاب بالسنة عامّ ؟
قلت: ما معنى عامّ ؟
قال: أريد أن أقول: هل السنة المتواترة والآحاد تخصص الكتاب أم هذا مقصور على السنة المتواترة فقط؟
قلت: أما السنة المتواترة فتخصص الكتاب بالإجماع
وأما الآحاد فالأئمة الأربعة على أنها تخصص الكتاب أيضا
قال: تقول إن السنة المتواترة تخصص الكتاب بالإجماع ؟
قلت: نعم
قال: أرأيت السنة المتواترة الفعلية ألا تعلم أن في التخصيص بها خلافا؟
قلت: بلى، ولكن الخلاف ليس من حيث كونها سنة ولكن من حيث كونها سنة فعلية فمَنْ ذهب إلى أنها لا تخصص هو من ذهب إلى أن فِعْلَ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُخَصِّص
قال: نعم، أكمل
قلت: وأما تخصيص السنة بالكتاب فكقوله صلى الله عليه وسلم: "ما قُطِعَ من البهيمة وهي حيةٌ فهو ميتةٌ" [1]. فهذا مخصوص بقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلى حِينٍ} [النحل: 80]
قال: إيهِ
قلت: وأما تخصيص السنة بالسنة فكقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماءُ العشر" [2] فهذا نص بأن كل ما سقته السماء ففيه العشر قليلا كان أو كثيرا ففيه العشر وإلى هذا ذهب الإمام أبو حنيفة [3] بيد أن هذا النص قد خصص بقوله صلى الله عليه وسلم : "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" [4].
قال: بقي تخصيص النُّطْقِ بالقياس
قلت: نعم
قال: ولكن كيف نخصص كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بآرائنا واجتهاداتنا؟!
قلت: للعلماء ثلاثة أقوال في تخصيص عمومات القرآن والسنة بالقياس:
الأول – أنه جائز مطلقا وقالوا: إنه دليل من أدلة الشرع فيجوز التخصيص به مطلقا
الثاني – أنه غير جائز مطلقا وهؤلاء هم نُفَاةُ القياس من الظاهرية ومن وافقهم
الثالث – أن العلة إذا كانت منصوصة جاز التخصيص به، وأما إن كانت مستنبطة باجتهاد العلماء فلا يجوز التخصيص به (أي بالقياس)
قال: كأن هذا الرأي الثالث هو الأظهر
قلت: نعم، أظن ذلك؛ لأن النص على العلة يفيدنا وجود الحكم كلما وجدت هذه العلة
قال: فاضرب لي مثالا على تخصيص الكتاب والسنة بالقياس
قلت: نعم، مثال ذلك قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فـ {الْبَيْع} مفرد مُعَرَّف بأل الجنسية فيفيد العموم فكل بيع حلال
قال: نعم
قلت: ثم ورد في السنة أنه صلى الله عليه وسلم *(نهى عن بيع المزابنة)[5]. فـَ فـَ فـَ
فقاطعني قائلا: وما بيعُ المزابنة ؟
قلت: هو بيعُ التمْرِ الجاف المكنوز بالرُّطَبِ الذي جُنِيَ حديثا من النخل
قال: نعم، أكمل
قلت: ففي الآية حِلُّ جميع أنواع البيوع وتحريم الربا، وفي الحديث تخصيص نوع من أنواع البيوع بالنهي عنه وهو بيع المزابنة
قال: فهذا يصلُحُ مثالا لتخصيص الكتاب بالسنة
قلت: نعم، بارك الله فيك
قال: فأين التخصيص بالقياس هنا
قلت: فإذا جاءت مسألة أخرى مشابهة لها فإننا نقيسها عليها
قال: لم أفهم شيئا، أريد مثالا واضحا على ذلك
قلت: لا بأس، قد جاءت مسألةٌ مشابهةٌ لبيع المزابنة المنهيِّ عنه في الحديث (وهو بيعُ التمْر الجافِّ المكنوز بالرُّطبِ المَجْنِيِّ حديثا من النخل)
قال: وما هي ؟
قلت: بيعُ العِنب بالزبيب: فالزبيبُ عنبٌ مجفف والعنب هو المَجْنِيُّ حديثا من الشجر، فحينئذ نقول: إن بيع العنب بالزبيب حرام قياسا على بيع الرطب بالتمر الجاف
قال: قد تفرعت المسألةُ فأين التخصيص ؟
قلت: هل فهمتَ - أولا - ما سبق ؟
قال: نعم، فهمته
قلت: فعلمتَ أن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] عامٌّ ؟
قال: نعم، عرفتُ ذلك
قلت: وعرفتَ أن بيعَ العِنبِ بالزبيب منهيٌّ عنه قياسا على بيع الرطب بالتمر ؟
قال: نعم، عرفت هذا أيضا
قلت: فعلمتَ أن بيعَ العنب بالزبيب مستثنى من حِلِّ البيع الذي في الآية
قال: نعم
قلت: فهذا هو التخصيص، فقد خُصَّ عمومُ قوله تعالى: : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] بالقياس في مسألة بيع العنب بالرطب على مسألة بيع الرطب بالتمر.
قال: نعم نعم، فهمت هذا أيضا
ثم قال: أرأيت قوله: "ونعني بالنطق: قولَ الله تعالى، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " ؟
قلت: نعم، قد سار هنا على منهج أهل السنة والجماعة في أن القولَ هو النطق دون المعاني النفسية خلافا لمنهج الأشاعرة[6].
______________________________ _
[1] حسن: رواه أبو داود (4/ 479/ رقم2858) ط. الرسالة، والترمذي (3/ 145/ رقم1480) ط. دار الغرب الإسلامي، وأحمد (36/ 233/ رقم21903، 21904) ط. الرسالة، وهو لفظه، من حديث أبي واقد الليثي.
[2] صحيح: متفق عليه
[3] الشرح الوسيط على الورقات 99.
[4] صحيح: متفق عليه
[5] صحيح: رواه مسلم (1539)
[6] شرح الورقات د. سعد الشثري 120.
-
قال المصنف رحمه الله تعالى:
وَالْمُجْمَلُ: مَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْبَيَانِ.
وَالْبَيَانُ: إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي.
______________________________ ___
(وَ): عاطفة
(الْمُجْمَلُ): مبتدأ
(مَا): خبر
(يَفْتَقِرُ): فعل مضارع والفاعل مستتر جوازا تقديره هو يعود على (ما)
(إِلَى الْبَيَانِ): متعلق بـ (يفتقر) والجملة من المبتدإ والخبر وما تعلق بهما لا محل لها من الإعراب معطوفة على قوله: "فأما أقسام الكلام"
(وَ): عاطفة
(الْبَيَانُ): مبتدأ
(إِخْرَاجُ): خبر، ومضاف
(الشَّيْءِ): مضاف إليه
(مِنْ حَيِّزِ): متعلق بالخبر (إخراج) أو بمحذوف حالٍ منه أي حالة كون الإخراج كائنا من حيز، و(حيز) مضاف
(الْإِشْكَالِ): مضاف إليه
(إِلَى حَيِّزِ): متعلق بما تعلق به (من حيز) و(حيز) مضاف
(التَّجَلِّي): مضاف إليه، والجملة من المبتدإ والخبر وما تعلق بهما لا محل لها من الإعراب معطوفة على جملة: "فأما أقسام الكلام"
-
المعنى
تكلم المصنف هنا على أقسام الكلام من حيث الإبهام والبيان فقسمه إلى: مُجْمَلٍ ومُبَيِّنٍ، ثم عرف كلا منهما:
فأما (المجمل)
فهو في اللغة: مأخوذ من الجَمْل وهو الجَمْعُ، وجُمْلَةُ الشيء: مجموعه، فـ (المجمل) هو المجموع، ومقابله: المُفَصَّل.
وفي الاصطلاح: هو ما افتقر إلى البيان
وأما (البيان)
فهو في اللغة: الظهور والوضوح
وفي الاصطلاح: إخراج الشيء من حيز الإشكال (أي الخفاء والإبهام) إلى حيز التجلي (أي الوضوح والظهور)
-
قال صاحبي
قال: ما أسباب الإجمال؟
قلت: الإجمال له أسباب كثيرة منها:
1= غرابة اللفظ: كلفظ (هلوع) في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] وقد بَيَّنَهُ الله تعالى بعده في قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 20 -21]
ومن ذلك أيضا لفظ (الرويبضة) وقد جاء تفسيره في الحديث بأنه الرجل التافه يتكلم في أمر العامَّة كما في الحديث: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يُصَدَّقُ فيها الكاذب ويُكَذَّبُ فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويُخَوَّنُ فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة»[1].[2]
2= تعدد المعاني للكلمة الواحدة: كلفظ (قُرْء) وهو لفظ مجمل يطلق على (الطُّهْرِ) و(الحيض) فذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية عنه أن المراد بـ (القُرْء): الطُّهْرُ؛ وعلى هذا تكون عدة المطلقة التي هي من ذوات الحيض ثلاثةُ قروء أي ثلاثةُ أطهار.
وذهب الأحناف وأحمد في رواية عنه، وأكثر الحنابلة عليها، إلى أن المراد بـ (القُرْء): الحيض، وعلى هذا تكون عدة المطلقة التي هي من ذوات الحيض ثلاثة قروء أي ثلاث حيضات[3].
3= نقل اللفظ من معنى معروف في اللغة إلى معنى آخر غير معروف فيها: كلفظ (الصلاة) ومثله (الزكاة والصوم) ونحوها فهذه ألفاظ نقلها الشرع من حقائقها اللغوية إلى حقائق أخرى شرعية تفتقر إلى البيان، ففي قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وآتُواْ الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] إجمال بيَّنتْه السُّنَّةُ من حيث تفاصيل أحكام الصلاة والزكاة[4].
قال صاحبي: أليست هذه الألفاظ (الصلاة والزكاة والصوم) حقائق شرعية؟
قلت: بلى
قال: فكيف تكون من باب المجمل؟
قلت: وما الذي يمنع ذلك؟
فسكتَ
قلت: إذا كان اللفظ له معنى معروف في اللغة فهذا معناه أنه لا يحتاج إلى بيان في اللغة، فإذا نُقِلَ إلى معنى شرعيِّ لم يكن له نفس المعنى اللغوي فهذا معناه أن المعنى الشرعيَّ يحتاج إلى بيان فهذا معناه أنه صار مجملا يعني أنت تعرف أن الصلاة في اللغة: الدعاء، فهذا لا يحتاج إلى بيان؛ فليس مجملا، وأما في الشرع: فأقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، فهذا يحتاج إلى بيان: فما هي هذه الأقوال؟ وكيف تقال؟ ومتى تقال؟ وما هي هذه الأفعال؟ وما صفتها؟ ومتى تفعل؟ ...الخ فهذا إجمال يحتاج إلى بيان
قال: نعم، فهمت
ثم قال: فإذا وجدتُ لفظا مجملا فماذا أفعل؟
قلت: تتوقف عن العمل به حتى تجد دليلا يدل على المراد به، وهذا يسمى: (حكم العمل بالمجمل): وهو أنه لا يعمل به إلا بدليل يدل على المراد منه.
قال: فهذا المجملُ، فما البيانُ؟
______________________________ __
[1] صحيح: رواه بن ماجه وأحمد والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع (3650) والصحيحة (1888)
[2] الشرح الوسيط على الورقات 104.
[3] الأنجم الزاهرات 167 -168، والشرح الوسيط على الورقات 105.
[4] الشرح الوسيط على الورقات 105.
-
قال: فهذا المجملُ، فما البيانُ؟
قلت: البيان: هو الذي يوضح المراد من الإجمال.
قال: مثل ماذا؟
قلت: مثل ما سبق، فمنه مثلا قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] فقوله: {هَلُوعًا} مجمل، وقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 20 -21] مبين، فالأول إجمال والثاني بيان
قال: دع ما سبق وهات أمثلة أخرى
قلت: ومثل قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } [المائدة: 1]، وقوله: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج: 30] فهذا مجمل جاء بيانه في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَ ةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]
قال: المصنف قال: "المجمل ما افتقر إلى البيان"
قلت: نعم
قال: فعلى أي شيء تقع (ما)؟
قلت: فما تقول أنت؟
قال: أقول: واقعة على (اللفظ)
قلت: ولمَ؟
قال: لأن اللفظ هو الذي يحتاج إلى بيان
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن الإجمال لا يكون إلا في اللفظ
قلت: من أخبرك هذا؟
فسكتَ
قلت: تعني أن الإجمال لا يكون في الفعل؟!
فسكتَ، وطأطأ رأسَه
فقلت: اعلم أن الإجمال كما يكون في اللفظ، يكون كذلك في الفعل، ومَثَّلَ له ابن الحاجب: بما إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم من اثنتين تاركا التشهد الأول ولم يُعْلَمْ هل كان قيامُهُ عَمْدًا أو سهوا؛ فصار قيامُه مجملا لا يدل على عدم وجوب التشهد؛ لاحتمال أن يكون قيامُه سهوا، فالصوابُ أن يقال: (ما) في تعريف (المجمل) واقعة على اللفظ والفعل[1].
قال: قلتَ: إن البيان هو الإخراج من حيز الإشكال إلى حيز التجلي
قلت: لا
قال متعجبا: (لا) ماذا؟
قلت: لا، لم أقل هذا
قال: كيف هذا لقد قلته آنفا
قلت: لم أقله، ولكني نقلته عن إمام الحرمين فهو الذي قاله.
قال: يا أخي أتعبتني، وأنسيتني ما كنت أريد أن أسألك عنه
قلت: لا تحزن، إنما أمازحك
قال: يَرِدُ على كلامك ... أقـ أقـ أقـ أقصد كلام المصنف (البيان) ابتداءً من غير وجود إشكال لِتَنْقِلَهُ من حَيِّزِهِ إلى حيز التجلي فهذا (بيان) وليس ثَمَّ إخراج من حيز الإشكال
قلت: هذه مناقشة واهية كما قال العضد
قال: ولِمَ؟
______________________________
[1] حاشية السوسي على قرة العين 109، وانظر أيضا الشرح الكبير 282 و 285.
-
قلت: لأن البيان ابتداء من غير سبق إشكال لا يسمى في الاصطلاح (بيانا) وإنما يسمى (بيانا) لغة[1].
قال: فقد ذكر لفظ (الحيز) في التعريف ومعناه (المكان)، و(الإشكال والتجلي) صفات لا يمكن أن توجد في مكان، وهذا معناه أنه استعمل المجاز في التعريف، والمجاز لا يجوز أن يدخل في الحدود والتعريفات
قلت: هذا ليس على إطلاقه، بل إنما يمتنع المجاز في التعريف إذا خلا عن القرينة[2]
قال: فهنا لا توجد قرينة
قلت: لا نسلم بعدم وجود قرينة هنا
قال: فأين هي؟
قلت: القرينة هنا هي الاستحالة العقلية أن تَحِلَّ الصفة؛ كـ (الإشكال) و(التجلي) هنا، في مكان حقيقي، إذ الصفة معنًى لا ذاتا فاستحال عقلا أن توجد منفردة مستقلة في مكان بل لابد من ذات تحل بها هذه الصفة
قال: فالاستحالة العقلية هنا قرينةٌ مانعة من أن يراد بـ (الحيز) حقيقته
قلت: نعم
____________________________
[1] الشرح الكبير 287 -288.
[2] حاشية السوسي على قرة العين 110 -111، والشرح الكبير 287.
-
النَّص
وَالنَّصُّ: مَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، وَقِيلَ: مَا تَاوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ.
وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مِنَصَّةِ الْعَرُوسِ، وَهُوَ: الْكُرْسِيُّ.
___________________________
(وَ): عاطفة
(النَّصُّ): مبتدأ
(مَا): خبر
(لَا): نافية
(يَحْتَمِلُ): فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر جوازا تقديره هو يعود على (ما)
(إِلَّا): أداة استثناء
(مَعْنًى): منصوب على الاستثناء وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها التعذر.
ويجوز في (معنى) الرفع على أنه بدل من فاعل (يحتمل) وهو أولى من النصب على الاستثناء
(وَاحِدًا): صفة لـ (معنى) وصفة المنصوب منصوبة
وجملة (لا يحتمل إلا معنى واحدا) في محل رفع صفة (ما)
وجملة (النص ما ...الخ) من المبتدإ والخبر وما تعلق بهما لا محل لها من الإعراب معطوفة على قوله: "فأما أقسام الكلام"
(وَ): استئنافية
(قِيلَ): فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح لا محل له من الإعراب
(مَا): خبر لمبتدإ محذوف والتقدير: (هو ما) والجملة من المبتدإ والخبر في محل رفع نائب فاعل
(تَأْوِيلُهُ): (تأويل) مبتدأ مرفوع، وهو مضاف والضمير مضاف إليه مبني على الضم في محل جر
(تَنْزِيلُهُ): (تنزيل) خبر مرفوع، وهو مضاف والضمير مضاف إليه
والجملة من المبتدإ والخبر وما تعلق بهما في محل رفع صفة لـ (ما)
(وَ): استئنافية
(هُوَ): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ
(مُشْتَقٌّ): خبر
(مِنْ مِنَصَّةِ): متعلق بـ (مُشْتَقٌّ)، و(منصة) مضاف
(الْعَرُوسِ): مضاف إليه
(وَ): للاستئناف البياني فإنه لما قال: "منصة العروس" فكأن قائلا قال له: (وما منصةُ العروس؟) فقال: "وهو الكرسي"
(هُوَ): مبتدأ
(الْكُرْسِيُّ): خبر
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د:ابراهيم الشناوى
(إِلَّا): أداة استثناء
(مَعْنًى): منصوب على الاستثناء وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها التعذر.
ويجوز في (معنى) الرفع على أنه بدل من فاعل (يحتمل) وهو أولى من النصب على الاستثناء
وقع خطأ هنا نبه عليه بعض الإخوة جزاه الله خيرا
والصواب أن
(إِلَّا): أداة حصر
(مَعْنًى): منصوب على المفعولية أي مفعول به لـ "يحتمل"
-
المعنى
ذَكَرَ هنا تعريف (النصِّ) وهو في اللغة مأخوذ من قولهم: (نَصَّ فلانٌ الشيءَ): أي رفَعَه، وَنَصَّ النِّسَاءُ الْعَرُوسَ نَصًّا: رَفَعْنَهَا عَلَى الْمِنَصَّةِ وَهِيَ الْكُرْسِيُّ الَّذِي تَقِفُ عَلَيْهِ فِي جِلَائِهَا.
وأما في الاصطلاح فقد ذكر له تعريفين متقاربين:
أحدهما – (أنه ما لا يحتمل إلا معنى واحدا) وذلك كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] فلفظ {عَشَرَة} لا يحتمل إلا معنى واحدا فلا يحتمل أن يكون معناه تسعة مثلا وهذا معنى أن النص: ما لا يحتمل إلا معنى واحدا
ثانيهما – أن النص هو (ما تأويلُهُ) أي معناه (تنزيلُه) أي بمجرد نزوله يُفهَم معناه ولا يتوقف فهم المراد منه على تأويل وتفسير لأنه لا يحتمل إلا معنى واحدا، والمراد من (النزول) في قولهم: (بمجرد نزوله) البلاغ والسماع أي بمجرد وصوله وسماعه.
-
قال صاحبي
قال: ذكرتَ أن (معنًى) منصوب على المفعولية وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين منع من ظهورها التعذر
قلت: نعم
قال: ولكن الألف موجودة وليست محذوفة
قلت: أين هي؟
قال: أليس (معنًى) مُكَوَّنًا من (ميمٍ) و(عين) و(نون) و(ألف)؟
قلت: فأين التنوين؟
قال: نعم، و(تنوينٌ) أيضا
قلت: كيف يجتمعان؟
قال: ما هما؟
قلت: حرف العلة والتنوين
قال: وماذا فيه؟
قلت: فيه أنهما ساكنان
قال: وإِنْ
قلت: رحم الله الشافعي
قال: رحمه الله، ولكن لِمَ ذكرتَ ذلك؟
قلت: لقوله رضي الله عنه: ما جادلني جاهل إلا غلبني
قال: وكيف ذلك؟
قلت: لأن الجاهل لا قواعد عنده يُرْجَعُ إليها فإذا جادلتَه واضطررته إلى المضايق قال لك: لا، لا أوافق على ما تقول، فتقول له: القاعدة كذا فيقول: لا، وهكذا.
قال: فما لنا ولهذا؟
قلت: ألم أقل لك: إنهما ساكنان فأجبتني: وإِنْ؟
قال: بلى
قلت: فما معناه؟
قال: معناه: وإنْ كانا ساكنين
قلت: هذا هو الشاهد؛ فإن القاعدة أنه إذا التقى ساكنان وجب حذف أحدهما
قال: حقا!
قلت: نعم، ألم تسمع قول الشاعر:
يا ساكنا قلبي المُعَنَّى *** وليس فيه سواك ثانِ
لِأَيِّ معنًى كَسَرْتَ قَلْبي *** وما التقى فيه ساكنان
فضحك وقال: لله دَرُّهُ، فمَنْ هذا الظريفُ؟
قلت: هو محمد بن سليمان التلمساني
قال: لا أعرفُه
قلت: من شعراء مصر في العصر المملوكي
قال: لا أعرِفُهُ
قلت: عاش في الفترة بين (661 -695 هـ)
قال: فقد مات شابًّا
قلت: نعم
قال: رحمه الله، ولكني لا أعرِفُه
قلت: يُلَقَّبُ بالشابِّ الظريفِ
قال: حقا! هذا هو الشابُّ الظريف؟
قلت: نعم
قال: إذًا فأنا أعرِفُهُ لكني لم أكن أعلم عنه غير لَقَبِهِ هذا، فجزاك الله خيرا
قلت: وجزاك، ولكن ألا يغضبك أنا قد استطردنا إلى الأدب قليلا
قال: أما أنا فلا؛ فإني مِنْ مُحِبِّي الأدب كما تعلم، وهو يُرَوِّحُ عنّا بعض العناء الذي نلقاه في معاناة هذا العلم الصعب (أصول الفقه) ولكن ...
قلت: ولكن ماذا؟
قال: ولكني لا أدري ما حالُ غيري هل يُرْضيهِ هذا أو لا؟
-
قلت: لا بأس فلنعُدْ إلى ما كنَّا فيه
قال: نعم، لِنَعُدْ
قلت: زعمتَ أن الألفَ في (معنًى) موجودة مع التنوين
قال: نعم، زعمتُ ذلك قبل أن أسمع الشاب الظريفَ وأما الآن فقد علمتُ أنهما لا يجتمعان
قلت: فاعلم أن النص هُـ هٌـ هُـ هو، فتتعتعتُ
وهو يشير إليَّ: حَسْبُك حَسْبُك
قلت: ماذا؟
قال: لم تُبَيِّنْ لي لماذا يُحْذَفُ أحدُ الساكنيْن إذا التقيا؟
قلت: لأنه لم يوجد ذلك في العربية
قال: فلماذا تُحذَف الألف دون التنوين؟
قلت: أأأ ...
فأشار إليّ صبرا صبرا
قلت: ماذا أيضا؟
قال: تقول: إذا التقى حرفان ساكنان حُذف أحدُهما
قلت: نعم، لماذا تعود إلى هذا ثانية؟
قال: فأين الحرفُ الثاني هنا؟
قلت: الألِفُ
قال: الأَلِفُ هو الحرف الأول بل والوحيد فأين الثاني؟
قلت: التنوين
فنظر إليَّ متعجبا وقال: ماذا؟ وهل التنوين حرف؟!
قلت: نعم
فقال ساخرًا: فهو الحرفُ الثلاثون في اللغة العربية
قلت: لا
قال: فأيُّ حرفٍ هو؟
قلت: النون
قال: تعني أن التنوين هو النونُ
قلت: نعم، لا.
قال: رجعتَ لها ثانية، فماذا تريد أن تقول؟
قلت: أما (نعم) فمرادي بها أن التنوين نونٌ ساكنةٌ، وأما (لا) فمرادي أن التنوين ليس نونا متحركة
قال: فالتنوين نصف حرف إذن
قلت: افهمه كما تشاء ولكن العلماء يقولون التنوين حرف
قال: قد علمتُ الآن أن التنوين حرفٌ وهو نونٌ ساكنة وأن هذه النون الساكنة قد التقت مع الألِف التي هي لامُ الكلمة (معنى) فلو وضحتَ لي ما حدث فيها من إعلال
قلت: كلمة (معنىً) تقرأ هكذا (مَعْنَانْ) النون الأخيرة هي نون التنوين الساكنة، قبلها الألف التي هي لام الكلمة وعلى الألف فتحة منع من ظهورها التعذر فالتقى ساكنان
فقاطعني قائلا: إذا كان على الأَلِفِ فتحةٌ فالألِفُ متحركةٌ فكيف تقول التقى ساكنان؟
فقلت: ما أَصْبَرِي! يا أُخَيَّ الأَلِفُ ساكنةٌ دائما لا تقبلُ الحركة بحال ولهذا تُقَدَّرُ عليها الحركةُ للتعذر، يعني لتعذر النطق بالحركة على الألِف
قال: نعم، نعم، أكمل
قلت: التقى ساكنان (الألف) و(نون التنوين الساكنة) فحذفت الألف
قال: لماذا حذفت الألِف ولم يحذف التنوين؟
قلت: لأنها حرف علة
قال: وماذا في هذا؟
قلت: فيه أن حرف العلة أضعف من غيره فهو أولى بالحذف من غيره. وأيضا لوجود الفتحة قبله، والفتحة دليل على الألِف.
قال: نعم، تريد أن تقول: لو حذفنا (الألِف) كان هناك دليل عليها وأما لو حذفنا التنوين فلا يوجد دليل على المحذوف فلا نعلم هل حُذِفَ شيء أو لا؟
قلت: أحسنت
قال: فصارت (معنًى) وتقرأ (مَعْنَنْ)
قلت: ما شاء الله، أحسنت
______________________________ __________
قال: أرأيت قوله: "وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي" أليس الصواب أن يقول: (وهي الكرسي)
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن (المِنَصة) مؤنثة والضمير في (وهو الكرسي) يعود عليها
قلت: فما تقول أنت؟
قلت: ما شاء الله، جهلٌ وتبجُّح وجرأة
قال: وكيف ذاك؟
قلت: أما الجهل فظاهر وذلك أنك لا تعرف القاعدة في مثل هذا
وأما التبجح والجرأة فبسبب الإقدام على تخطئة الإمام قبل البحث والتقصي
قال: فأنت ممن لا يؤمن بأن الإمام يخطيء؟ أو أنك ممن يقول بلسانه: (كلٌ يؤخذ من قوله ويُرَدُّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم يخالف ذلك بفعله فلا يُقْدِمُ على تخطئةِ إمامه أبدا ولو ظهر له خطؤه؟!
قلت: كلا، لستُ بذاك والحمد لله، ولكني ممن يعرف للأئمة قدرهم فلا يُقْدِمُ على التخطئة قبل البحث والتقصي والنظر في أقوال الموافقين والمخالفين
قال: هل أفهم من هذا أنك تزعم أن قوله: "وهو الكرسي" صحيح؟
قلت: نعم، صحيح
قال: فما توجيهه؟
-
قلت: ضابط هذا (أن كل لفظتين وُضِعَتا لذاتٍ واحدة إحداهما مؤنثة والأخرى مذكرة وتوسطهما ضمير جاز تأنيث الضمير وتذكيره)[1]
قال: مهلا مهلا، لا أكاد أفهم شيئا، فهلا طبقت ذلك على ما معنا
قلت: نعم، أفعل إن شاء الله
قال: هاتِ
قلت: عندنا هنا لفظتان وُضِعَتا لِذاتٍ واحدة
قال: ما هما؟
قلت:
الأولى – (مِنَصَّة العروس)،
والثانية – (الكرسي)
قال: كيف وضعتا لذات واحدة؟
قلت: يعني أن معناهما واحد؛ فـ:
- (مِنَصَّةُ العروس) هي (الكرسي)،
- و(الكرسي) هو (مِنَصَّةُ العروس)
قال: نعم، هكذا فهمت، أكمل
قلت: وتوسطهما ضمير
قال: نعم، (مشتق من مِنصة العروس وهو الكرسي) فالضمير (هو) وقع بينهما
قلت: فكان حكم هذا الضمير جواز تذكيره وتأنيثه فيجوز أن تقول:
- (مشتق من مِنصة العروس وهو الكرسي)
- وأن تقول: (مشتق من مِنصة العروس وهي الكرسي)
قال: نعم، هكذا وضحت الأمور تماما
قلت: الحمد لله
قال: أليس (النصّ) مصدرا؟
قلت: بلى
قال: فهل (المنصة) مصدرا أيضا؟
قلت: لا
قال: فما هيه؟
قلت: وما هيه؟
قال: "المنصة
قلت: اسم آلة
قال: فكيف يجوز أن يكون المصدر (النص) مشتقا من اسم الآلة (المِنَصة)؟
قلت: هذا لا يجوز فعبارة المصنف فيها تسامح، والصحيح العكس وهو أن اسم الآلة مأخوذ من المصدر لأن المصدر أصل المشتقات، واسم الآلة من المشتقات فالصحيح هنا أن (المِنصة) هي المأخوذة من (النص)
قال: فأخبرني عن (ما) في قوله: "ما لا يحتمل إلا معنى واحدا" وقوله: "ما تأويله تنزيله" على أي شيء تقع؟
قلت: تقع فيهما على (اللفظ) أي:
- (اللفظ الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا)
- و(اللفظ الذي تأويله تنزيله)
____________________________
[1] الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب 1/ 15 ت. د. إبراهيم محمد عبد الله ط. دار سعد الدين
-
الظاهر
قال المصنف رحمه الله تعالى:
وَالظَّاهِرُ: مَا احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الْآَخَرِ.
المؤول
وَيُؤَوَّلُ الظَّاهِرُ بِالدَّلِيلِ، وَيُسَمَّي ظَاهِرًا بِالدَّلِيلِ.
______________________________
(وَ): عاطفة
(الظَّاهِرُ): مبتدأ
(مَا): خبر، والجملة من المبتدإ والخبر وما تعلق بهما لا محل لها من الإعراب معطوفة على قوله: "فأما أقسام الكلام"
(احْتَمَلَ): فعل ماض، والفاعل مستتر جوازا تقديره هو يعود على (ما) والجملة من الفعل والفاعل وما تعلق بهما في محل رفع صفة لـ(ما)
(أَمْرَيْنِ): مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه مثنى
(أَحَدُهُمَا): (أحد) مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، و(أحد) مضاف و(الهاء) من (هما) ضمير مبني على الضم في محل جر مضاف إليه، و(الميم) حرف عماد مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، و(الألف) علامة التثنية
(أَظْهَرُ): خبر
(مِنَ الْآَخَرِ): متعلق بـ (أظهر)، والجملة من المبتدإ والخبر وما تعلق بهما في محل جر نعت لـ(أمرين)
(وَ): للاستئناف النحوي
(يُؤَوَّلُ): فعل مضارع
(الظَّاهِرُ): فاعل
(بِالدَّلِيلِ): متعلق بـ (يؤول)
(وَ): للاستئناف النحوي أيضا
(يُسَمَّى): فعل مضارع مبني للمجهول، مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر، ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على (الظاهر) ونائب الفاعل هو المفعول الأول.
(ظَاهِرًا): مفعول ثان
(بِالدَّلِيلِ): متعلق بـ (يسمى)
-
المعنى
تكلم هنا عن الظاهر والمؤول بعد أن تكلم عن النص وبيان ذلك: أنه إذا ورد عليك نص من كتاب أو سنة فإما أن يكون:
1- غير محتمل لأكثر من معنى بل لا يحتمل إلا معنى واحدًا نحو: (محمد رسول الله) فهذا لا يحتمل تأويلا ولا يفهم منه غير معناه الذي يدل عليه وهذا هو النص
2- وإما أن يحتمل أكثر من معنى وهذا يختلف أيضا:
أ*- فإن كانت كل المعاني المحتمَلَة متساوية فهو المجمل
ب*- وإن كان أحد هذه المعاني راجحا والآخر مرجوحا: فإن استعمل في المعنى الراجح فهو (الظاهر) وإن استعمل في المعنى المرجوح فهو (المؤول)
-
قال صاحبي
قال: ما تفسير (ما) في قوله: "الظاهر ما احتمل ...الخ"؟
قلت: معناها: (اللفظ) أي أن الظاهر هو اللفظ الذي احتمل أمرين ...الخ
قال: ما معنى قوله: "يؤول الظاهر بالدليل ويسمى الظاهر بالدليل"؟
قلت: معناه أن اللفظ الظاهر يصرف عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح الخفيّ بسبب دليل يدل على أن المراد به هو المعنى الخفيّ المرجوح لا المعنى الظاهر الراجح
وحينئذ يكون المعنى المرجوح هو (الظاهر) ويسمى (الظاهر بالدليل) كما يسمى (المؤول)
وصَرْفُ اللفظ عن المعنى الظاهر إلى المعنى الخفي لدليل يسمى (تأويلا)
فـ (الظاهر بالدليل) اسمٌ مركَّبٌ؛ كسيبويه، وهو عَلَمٌ على (المؤول)؛ (الظاهر بالدليل) = (المؤول).
قال: أليس التأويل هو التفسير كما يقول ابن جرير دائما في تفسيره: القول في تأويل كذا...الخ؟
قلت: (التأويل) له ثلاثة معان:
الأول – التفسير وهو ما ذكرتَه أنت من قول ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين
الثاني -نفس وقوع المخبَرِ به، وإذا ذكر (التأويل) في القرآن فهذا هو المقصود به ومنه قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53]، يعني: وقوعه، وقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]، وقوله: {وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100].
الثالث-صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل وهو المراد هنا
قال: أرأيت صرف اللفظ عن المعنى الظاهر إلى المعنى الخفيّ لغير دليل؟
قلت: مثل ماذا؟
قال: مثل تأويل قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، بأن المراد أنه جَرَحَهُ بجروح الحكمة
قلت: هذا تلاعب وهو تأويل فاسد غير مقبول؛ إذ لا دليل عليه
واعلم أن (الكلم) يطلق ويراد به (الكلام) الذي هو حرف وصوت، وهو (ظاهر) في هذا المعنى والمتبادر إلى الذهن عند سماع لفظة (الكلام)
ثم إنه يطلق ويراد به أيضا الجرح الذي يجرح به المرء كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ»[1]. لكنه لا يحمل على هذا المعنى إلا بقرينة ودليل يدل على أن هذا المعنى هو المراد كما في الحديث
قال: فما القرينة في الحديث؟
قلت: القرينة قوله: «وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ» فإن الكلام الذي هو حرف وصوت لا يدمَى ولا لون له ولا ريح فعُلِم أن المراد هو المعنى الآخر الخفيّ فحُمِلَ عليه
قال: فتأويل الكلام في الآية بأنه الجرح تأويل فاسد لعدم الدليل؟
قلت: نعم، هو ذاك
قال: فكأن هذا هو حكم التأويل؟
قلت: نعم، فإن التأويل نوعان:
...
______________________________
[1] صحيح: رواه البخاري (5533) ومسلم (1876)
-
قلت: نعم، فإن التأويل نوعان:
الأول- مقبول: وهو الذي دل عليه دليل
والآخر- فاسد مردود: وهو ما لا دليل عليه
قال: فما حكم الظاهر؟
قلت: يجب العمل به ولا يجوز تركه إلا بدليل
-
جزاك الله خيرا ونفع بك شيخ إبراهيم
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رضا الحملاوي
جزاك الله خيرا ونفع بك شيخ إبراهيم
وجزاك أخي الكريم، ونفع بك
-
أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم
قال المصنف
الْأَفْعَالُ
فِعْلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ لَا يَخْلُو:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ.
أَوْ لَا يَكُونُ.
فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِهِ يُحْمَلْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ.
وَإِنْ لَمْ يَدُلّْ لَا يَخْتَصّ بِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الْأَحْزَابُ: 21]؛
فَيُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا،
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُتَوَقَّفُ فِيهِ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ.
______________________________ ___
(الْأَفْعَالُ): مبتدأ أول
(فِعْلُ): مبتدأ ثان، وهو مضاف
(صَاحِبِ): مضاف إليه، وهو مضاف أيضا
(الشَّرِيعَةِ): مضاف إليه
(لَا): نافية
(يَخْلُو): فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها الثقل، والفاعل مستتر تقديره هو يعود على (فعل) من قوله: "فعل صاحب الشريعة"
والجملة من الفعل والفاعل وما تعلق بهما في محل رفع خبر المبتدإ الثاني
والمبتدإ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدإ الأول
(إِمَّا): حرف تفصيل وتوكيد فيه معنى الشرط
(أَنْ): حرف مصدري ونصب مبني على السكون لا محل له من الإعراب
(يَكُونَ): فعل مضارع مِنْ (كان) الناقصة، منصوب بـ (أن) وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة، واسمها ضمير مستتر يعود على (فِعْلِ) من (فِعْلِ صاحب الشريعة)
(عَلَى وَجْهِ): متعلق بمحذوف خبر يكون
والجملة من كان واسمها وخبرها لا محل لها من الإعراب صلة (أنْ)
و(أن) وما دخلت عليه في تأويل مصدر منصوب على التوسع على أنه مفعول به للفعل (يخلو) وإلا فالأصل أنه مجرور بحرف جر محذوف والتقدير: (لا يخلو من كونه على وجه القربة ...الخ)
و(وجه) مضاف
(الْقُرْبَةِ): مضاف إليه
(وَ): حرف عطف
(الطَّاعَةِ): معطوف على (القربة) والمعطوف على المجرور مجرور
(أَوْ): حرف عطف
(لَا): نافية
(يَكُونُ): فعل مضارع من كان الناقصة واسمها ضمير مستتر تقديره هو يعود على (فِعْل) وخبرها محذوف للعلم به ووجود الدليل عليه فيما سبق أي: أو لا يكون على وجه القربة والطاعة
(فَـ): فاء الفصيحة
(إِنْ): حرف شرط جازم يجزم فعلين الأول فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه
(دَلَّ): فعل ماض (وهو فعل الشرط) مبني على الفتح في محل جزم
(دَلِيلٌ): فاعل
(عَلَى الِاخْتِصَاصِ): متعلق بالفعل (دَلَّ)
(بِهِ): متعلق بـ (الاختصاص)
(يُحْمَلْ): فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم بـ (إِنْ) (وهو جواب الشرط) وعلامة جزمه السكون، ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على (فِعْل) أي يحمل فعل صاحب الشريعة على الاختصاص
(عَلَى الِاخْتِصَاصِ): متعلق بالفعل (يُحْمَلْ)، وحُذِفَ الظرفُ لدلالة ما قبله عليه والتقدير: (يُحْمَلُ على الاختصاص به)
(وَ): عاطفة
(إِنْ): شرطية
(لَمْ): حرف نفي وجزم وقلب
(يَدُلّ): فعل مضارع مجزوم بـ (لم) وعلامة جزمه السكون، والفاعل مستتر جوازا تقديره هو يعود على (دليل)، وحذف المتعلِّق لدلالة ما قبله عليه والتقدير في هذا كله: (وإن لم يدل دليل على الاختصاص به)
(لَا): نافية، والأصل أن يقول: (فلا) لأن جواب الشرط إذا كان منفيا وجب اقترانه بالفاء
(يَخْتَصّ): فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب شرط جازم، والفاعل مستتر تقديره هو يعود على (فِعْل) أي لا يختص الفعل به
(بِهِ): متعلق بالفعل (يختص)
(لِأَنَّ): اللام حرف جر يفيد التعليل، و(أنَّ) حرف توكيد ونصب
(اللهَ): اسم الجلالة منصوب على التعظيم اسم (أنَّ)
(تَعَالَى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره منع من ظهوره التعذر والفاعل مستتر جوازا تقديره (هو) يعود على اسم الجلالة، والجملة من الفعل والفاعل لا محل لها من الإعراب اعتراضية
(يَقُولُ): فعل مضارع والفاعل مستتر جوازا تقديره هو يعود على اسم الجلالة
والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر (أنّ)
و(أنَّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور باللام والتقدير: لِقَوْلِ اللهِ تعالى
والجار والمجرور (لِقَوْلِ) متعلق بالفعل (يختص)
({لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}): (اللام) موطئة لقسم محذوف حرف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، (قد) حرف تحقيق مبني على السكون لا محل له من الإعراب، (كان) فعل ماض، (في رسول) متعلق بمحذوف خبر كان مقدم وجوبا لأن اسمها نكرة و(رسول) مضاف واسم الجلالة (الله) مضاف إليه، (أسوة) خبر كان مؤخر وجوبا، (حسنة) صفة لـ(أسوة) وصفة المرفوع مرفوعة
-
(فَـ): فاء الفصيحة
(يُحْمَلُ): فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، ونائب الفاعل مستتر جوازا والتقدير: فيُحْمَلُ هو أي، الفعلُ، على الوجوب.
والجملة من الفعل ونائب الفاعل وما تعلق بهما لا محل لها من الإعراب استئنافية
(عَلَى الْوُجُوبِ): متعلق بالفعل (يُحْمَلُ)
(عِنْدَ): ظرف مكان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة، وهو متعلق بالفعل (يُحْمَلُ)، و(عند) مضاف
(بَعْضِ): مضاف إليه، و(بعض) مضاف
(أَصْحَابِنَا): (أصحاب) مضاف إليه، و(أصحاب) مضاف والضمير (نا) مبني على السكون في محل جر مضاف إليه
(وَ): استئنافية
(مِنْ): حرف جر مبني على السكون لا محل له من الإعراب
(أَصْحَابِنَا): (أصحاب) مجرور بـ (مِنْ) وعلامة جره الكسرة الظاهرة، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والتقدير: (كائنٌ من أصحابنا) أي: ومَنْ قال يحمل على الندب كائن من أصحابنا، و(أصحاب) مضاف و(نا) مضاف إليه
(مَنْ): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدإ مؤخر
(قَالَ): فعل ماض، والفاعل مستتر يعود على المبتدإ (مَنْ)
والجملة لا محل لها من الإعراب صلة (مَنْ)
(يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ): مثل (يحمل على الوجوب) إلا أن جملة (يحمل على الندب في محل نصب مقول القول
(وَ): عاطفة
(مِنْهُمْ مَنْ قَالَ): مثل (مِنْ أصحابنا من قال)
(يُتَوَقَّفُ): فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر تقديره (هو) يعود على (العالِم) المفهوم من السياق أي يَتَوَقَّفُ فيه العالِمِ، مثلا، أو القاريء أو السامع.
والجملة من الفعل ونائب الفاعل وما تعلق بهما في محل نصب مقول القول
(فِيهِ): متعلق بـ (يُتَوَقَّف)
(فَـ): فاء الفصيحة
(إِنْ): شرطية
(كَانَ): فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمها مستتر جوازا تقديره هو يعود على (فِعْل) أي فإنْ كان فِعْلُ صاحب الشريعة على غير ...الخ
(عَلَى غَيْرِ): متعلق بمحذوف خبر كان، و(غير) مضاف
(وَجْهِ): مضاف إليه، و(وجه) مضاف
(الْقُرْبَةِ): مضاف إليه
(وَ): عاطفة
(الطَّاعَةِ): معطوف على (القُرْبَة)
(فَـ): واقعة في جواب الشرط
(يُحْمَلُ): فعل مضارع مبني للمجهول والفاعل مستتر يعود على مفهومٍ من السياق كما سبق أي فيَحْمِلُه العالِمُ أو القاريء أو السامعُ
(عَلَى الْإِبَاحَةِ): متعلق بـ (يُحْمَل)
-
المعنى
فِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم قسم من أقسام السنة لأن السنة هي قول النبي صلى الله عليه وسلم وفِعْلُهُ وتقريرُه فتكلم هنا عن فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم وتقريرِهِ ثم ذكر الأقوال بعد ذلك في باب الأخبار
وحاصل ما ذكره المصنف، رحمه الله، هنا أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين:
الأول- ما فَعَلَهُ النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد لله والقربة والطاعة له
الثاني- ما فعله على غير وجه القربة والطاعة
فالأول وهو ما كان على وجه القربة والطاعة لا يخلو من حالين:
1- أن يدل دليل على الاختصاص به أي أن يدل دليل على أن هذا الفعل من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم
فحكم هذا الفعل أنه يحمل على الاختصاص به ولا تشاركه فيه أمتُه.
مثاله: حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يواصل أي: يصوم يومين فأكثر من غير أن يفطر، ونهيُهُ عن الوصال، ومن ذلك زواجه صلى الله عليه وسلم عن طريق الهبة بأن تهب المرأة نفسها له كما قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]
ومنه جَمْعُهُ صلى الله عليه وسلم في النكاح بين أكثر من أربع نسوة ...الخ
2- ألا يدل دليل على الاختصاص به فهذا حُكْمُهُ أن هذا الفعل يكون عاما له صلى الله عليه وسلم ولأمته كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
فقد أخبرنا الله عز وجل في هذه الآية أن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة يعني قدوة حسنة فعلينا أن نقتدي به فهذا يدل على أن الأصل في فِعْلِهُ صلى الله عليه وسلم أنه عامٌّ للأمّة إلا ما دل الدليل على أنه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم كما سبق
ولكن ما حُكْمُ هذا النوع؟
الجواب: حُكْمُهُ أنه مشروع، ثم اختلف العلماء في نوع هذه المشروعية:
= فذهب بعضهم إلى أن الفعل هنا واجب
= وذهب بعضهم إلى أنه مندوب
= وذهب بعضهم إلى التوقف وعدم الجزم بالوجوب أو الندب حتى يدل الدليل
والراجح – إن شاء الله تعالى – أنه مندوب
وهذه الأقوال الثلاثة إذا لم يكن الفعل بيانا لإجمال.
فإن كان بيانا لإجمال: كبيان كيفية الصلاة والصوم والحج ...الخ فهذا يأخذ حكمُ المجمل:
- فإن كان المجملُ واجبا فالفعل واجب
- وإن كان المجملُ مندوبا فالفعل مندوبٌ.
والله أعلم.
وأما الثاني – وهو ما فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم على غير وجه القربة والطاعة بل بالطبيعة الجِبِلِّيَّةِ فهذا حُكْمُهُ للأُمَّةِ أنه مباح، وهذا كالأكل والشرب والقيام والقعود والنوم
وفي الباب تفصيلات أخرى ولكن نكتفي بما سبق ففيه كفاية لغرض المتن، والحمد لله رب العالمين
-
إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم
وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْقَوْلِ هُوَ قَوْلُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى الْفِعْلِ كَفِعْلِهِ.
وَمَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ، فِي غَيرِ مَجْلِسِهِ، وَعَلِمَ بِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا فُعِلَ فِي مَجْلِسِهِ.
______________________________ ________
(وَ): استئنافية
(إِقْرَارُ): مبتدأ، ومضاف
(صَاحِبِ): مضاف إليه، وهو مضاف أيضا
(الشَّرِيعَةِ): مضاف إليه
(عَلَى الْقَوْلِ): متعلق بـ (إقرار)
(هُوَ): ضمير فصل لا محل له من الإعراب
(قَوْلُ): خبر، ومضاف
(صَاحِبِ): مضاف إليه، ومضاف
(الشَّرِيعَةِ): مضاف إليه
والجملة من المبتدإ والخبر وما تعلق بهما لا محل لها من الإعراب استئنافية
(وَ): عاطفة أو استئنافية
(إِقْرَارُهُ): مبتدأ، و(إقرار) مضاف والضمير مضاف إليه
(عَلَى الْفِعْلِ): متعلق بـ (إقرار)
(كَفِعْلِهِ): متعلق بمحذوف خبر
والجملة من المبتدإ والخبر لا محل لها من الإعراب معطوفة على جملة (إقرار صاحب الشريعة ...الخ) الاستئنافية إن جعلت الواو عاطفة، أو لا محل لها من الإعراب استئنافية إن جعلت الواو استئنافية
-
(وَ): عاطفة أو استئنافية
(مَا): اسم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ أول، وهي معرفة تامة بمعنى الشيء أو الفعل أو القول.
(فُعِلَ): فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر جوازا يعود على (ما)
وجملة الفعل ونائب الفاعل وما تعلق بهما في محل رفع صفة لـ(ما)
(فِي وَقْتِهِ): الجار والمجرور متعلقان بـ (فُعِلَ) و(وقت) مضاف و(الهاء) ضمير مبني على الكسر في محل جر مضاف إليه
(فِي غَيرِ): متعلق بمحذوف حال من نائب الفاعل، و(غير) مضاف
(مَجْلِسِهِ): (مجلس) مضاف إليه، و(مجلس) مضاف والضمير مضاف إليه
(وَ): واو الحال، وعليه فالأفضل تقدير (قد) محذوفة أي: وقد علم به
(عَلِمَ): فعل ماض، والفاعل مستتر يعود على (صاحب الشريعة) صلى الله عليه وسلم.
والجملة في محل نصب حال
(بِهِ): متعلق بـ (علم)
(وَ): تحتمل أن تكون حالية عند من يجيز تعدد الحال أو عاطفة
(لَمْ): حرف نفي وجزم وقلب
(يُنْكِرْهُ): فعل مضارع مجزوم بـ (لم) وعلامة جزمه السكون، والفاعل مستتر جوازا تقديره هو يعود على صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم والهاء ضمير مبني على الضم في محل نصب مفعول به
والجملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل نصب حال عند من يجيز تعدد الحال أو في محل نصب معطوفة على جملة (علم به)
وتقدير ماسبق: وما فُعِلَ في وقته عالما به غيرَ منكِرٍ له
(فَـ): زائدة لتحسين اللفظ
(حُكْمُهُ): مبتدأ ثان، و(حكم) مضاف والضمير مضاف إليه
(حُكْمُ): خبر، والجملة من المبتدإ الثاني وخبره خبر المبتدإ الأول (ما)، و(حكم) مضاف
(مَا): مضاف إليه
(فُعِلَ): فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود على (ما)
(فِي مَجْلِسِهِ): متعلق بـ (فعل)، و(مجلس) مضاف والهاء مضاف إليه
والجملة من الفعل ونائب الفاعل وما تعلق بهما في محل جر مضاف إليه
-
المعنى
لما تكلم عن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ناسب أن يتكلم عن إقراره لأنه من السنة أيضا لأن السنة قول أو فعل أو إقرار، فذكر صورتين للإقرار:
إحداهما-أن يقول أحد قولا أو يفعل فعلا في حضوره صلى الله عليه وسلم فيسكت النبي صلى الله عليه وسلم مقرا له فحكم هذا القول أو الفعل الإباحة
الثانية-أن يقول أحد قولا أو يفعل فعلا في غير حضور النبي صلى الله عليه وسلم فيعلمُ به النبي صلى الله عليه وسلم فيسكت عنه ويقره فحكمه أيضا الإباحة.
-
قال صاحبي
قال: مَنْ صاحب الشريعة؟
قلت: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: أليس صاحب الشريعة هو الله تعالى؟
قلت: بلى
قال: فكيف تقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
قلت: كلامه هنا وفي الأفعال يدل على أنه يريد به الرسول صلى الله عليه وسلم
قال: فكيف ذلك؟ أعني كيف جَعَلَه صاحبَ الشريعة؟
قلت: لأنه صلى الله عليه وسلم هو المبلغ لها عن ربه عز وجل فكل ما جاء عن غير طريقه فليس من الشريعة
قال: كيف يكون إقراره صلى الله عليه وسلم هو قوله؟ أليس الإقرار هو الموافقة؟
قلت: بلى، ولكن ...
فقاطعني قائلا: ثم إن المراد بالقول هنا قولُ شخص آخر غير النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يكون قولُ غيرِ النبي هو قولُ النبي صلى الله عليه وسلم؟
قلت له: حنانيك، هَوِّنْ على نفسِك، فإن الكلام على التشبيه
قال: وكيف ذلك؟
قلت: شبه إقراره صلى الله عليه وسلم بقوله
فنظر إليَّ مُصغيا وقال: ثم ماذا؟
قلت: ثم حذف الأداة والوجه
قال: فهو تشبيه بليغ؟
قلت: نعم
قال: أَفْهَمُ مِنْ هذا أن معنى كلام المصنف (إقرار صاحب الشريعة ... كقوله)؟
قلت: نعم، هو ذا
قال: فما وجه الشبه إذن؟
قلت: الدلالة على أن هذا القول الذي أقر عليه حق
قال: وكيف ذلك؟
قلت: أين المشبه؟
قال: إقراره صلى الله عليه وسلم على (قول شخص آخر غيره)
قلت: فأين المشبه به؟
قال: قوله صلى الله عليه وسلم نفسَ (قولِ الشخص الآخر)
قلت: فما الجامع بين ما سبق
قال: الجامع هو ما وضعته بين قوسين وهو (قول الشخص الآخر) غير النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: حسنا، فهمتَ الآن؟
قال: لا، بل كنت فاهما فصرت غيرَ فاهم
فضحكتُ وقلتُ: لا تحزن فقد بقِيَ سؤالان بل ثلاثة وتفهم الأمر على وجهه
قال: هاتِ
قلت: ...
-
قلت: أليس إقرارُه صلى الله عليه وسلم لقولِ غيرِه (حقا)؟
قال: بلى
قلت: وقوله صلى الله عليه وسلم (حقا)؟
قال: بلى
قلت: فما الجامع بينهما؟
قال: الجامع هو أن كلا من الإقرار والقول (حق)
قلت: وهذا هو وجه الشبه المراد، وهو الدلالة على أن الَقول الذي أقرَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حقٌّ
قال: نعم، هكذا فهمتُ
ثم قال: ولكن المصنف صرَّحَ بأداة التشبيه في الموضع الثاني حيث قال: "وإقرارُهُ على الفِعْلِ كفعله"
قلت: نعم
قال: فلماذ فعل ذلك؟
قلت: إما تَفَنُّنًا؛ وهو التنوُّع في القول؛ بأن يذكرَ في موضعٍ فنًّا من القول لا يذكره في الموضع الآخر ويذكرَ في الموضع الآخر ما لا يذكره في الأول.
قال: نعم
قلت: أو بيانا
قال: بيانا لماذا؟
قلت: بيانا لأنه أراد التشبيه في الموضع الأول الذي تحدثنا عنه
قال: نعم
ثم قال: ذكرت أن إقراره صلى الله عليه وسلم على قول أحد أو فعله كقوله هو صلى الله عليه وسلم وكفعله
قلت: نعم
قال: فهذا يدل على أن هذا القول أو الفعل الصادر من أحد حق جائزٌ
قلت: نعم
قال: وحيث دل على الجواز فهل يدل على الإباحة المجردة أو يحتمل الوجوب والندب؟
قلت: لا أستحضر فيه نقلا، لكني أميل إلى الإباحة
قال متعجبا: ماذا؟ ماذا؟
قلت: لا أستحضر ... أأأ
فقاطعني قائلا: ما هذا أتظن نفسك السبكي؟!
قلت متحرجا: وما ذاك؟
قال: السبكي هو الذي قال: (لا أستحضر فيه نقلا) ثم مال إلى الإباحة
فضحت وقلت: قاتلك الله! أَوَ تعلمُ ذلك؟
قال: نعم، أعلمه
فقلت: أردت أن أمازحك
قال: بل أردت أن تدلس عليّ
قلت: لا بأس ولكنك علمته على كل حال
قال: نعم
قلت: هيه
قال: لماذا رجح السبكي الحملَ على الإباحة؟
قلت: لأنها الأصل
قال: لماذا كان إقراره صلى الله عليه وسلم على القول كقوله وعلى الفعل كفعله؟
-
قلت: لأنه لو أقر على:
- قول ليس بحق،
- أو على فعل ليس بجائز
كان مُقِرًّا على المنكر؛ لأن غير الحق وغير الجائز منكر،
وهو صلى الله عليه وسلم معصوم عن أن يقر أحدا على منكر؛ لأن الإقرار على المنكر منكر، وهو معصوم عن المنكر[1].
قال: أيها أقوى: القول أو الفعل أو الإقرار؟
يعني لو تعارضت هذه فأيها يُقَدَّم؟
قلت: الأغلب يميلون إلى:
- تقديم القول
- ثم الفعل
- ثم الإقرار.
قال: ولِمَ؟
قلت: لأن القول لا يوجد فيه احتمال خصوصية أبدا
أما الفعل ففيه احتمال خصوصية
وأما التقرير فإنه يتطرق إليه احتمال لا يتطرق إلى الفعل:
- إذ قد يُفْعَلَ فِعْلٌ والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن منتبها له؛ كأن يكون قد شُغِلَ بشيء آخر، فيأتي الفاعل لهذا الفعل فيقول: "أنا فعلت هذا الفعل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكِرْ عليّ"
- وأيضا فالفِعْلُ قد باشره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه فيكون التقرير أقل رتبة منه.
قال: فهذا التفصيل بين القول والفعل والتقرير دائما
قلت: نعم، إذا لم توجد قرائن
فإن وجدت قرائن فربما يُقَدَّمُ الفعلُ على القول
-
قال: ذكرت أن جملة (وعلم به) حالية وأن الأفضل تقدير (قد)
قلت: نعم
قال: فلماذا كان الأفضل تقديرها
قلت: لأن الجملة الحالية إذا كانت ماضوية فالأكثر أن تقترن بـ (قد)[1].
قال: وذكرتَ أن الواو في قوله: "ولم ينكرْهُ" تحتمل أن تكون واو الحال عند من يجيز تعدد الحال، وأن تكون عاطفة، فما معنى هذا الكلام؟
قلت: إذا سُبِقَتْ الواو التي تحتمل الحالية بجملة حالية، كما هنا، احتملت الواو أن تكون عاطفة فتكون الجملة حالية بالتبعية أو أن تكون الواو حالية فتكون الجملة حالية أصالةً لا تبعا[2].
قال: أنا لا أوافقك على أن الواو هنا واو الحال
قلت: فما تقول أنت؟
قال: أقول: الواو هنا ابتدائية أو استئنافية أو بمعنى (إذْ)
فعلمتُ أنه كعادتِهِ يريد أن يتفلسف بغير علم
فقلت له: أصبتَ مُخْطِأً، أو أخطأتَ مصيبًا
فقال متلعثما: لـِ لـِ لـِ لماذا؟ بل ماذا تقول؟
فضحكتُ وقلتُ: هو ما سمعتَ
فسكتَ قليلا ثم قال: ماذا تريد أن تقول؟
قلت: أريد أن أقول: إنك أصبتَ في قولك إن الواو هنا: ابتدائية أو استئنافية أو بمعنى (إذ)
قال: ثم ماذا؟
قلت: ثم أخطأتَ في ظنِّكَ أن هذه الثلاثة مختلفة، بل هي كلها بمعنى واحد
قال: بل أنت الذي أخطأتَ الآن
قلت: وكيف ذلك؟
قال: ألا تعلم أن أبا البقاء العكبري قال في قوله تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]: "وتسمى هذه الواو واو الحال، وقيل بمعنى (إذ) وليس بشيء"[3]، وقبله قال مكي: "وهذه الواو قيل: هي واو الابتداء، وقيل: واو الحال: وقيل: هي بمعنى (إذ)"[4].
قلت: نعم أعلم ذلك وقد أشرت إلى موضعيهما في كتابيهما في الحاشية
قال: فأنت تُخَطِّؤهما؟
قلت: نعم، هذا وهم منهما
قال: فأنت أعلم منهما
قلت: لا، ولكن العلماء خطؤوهما فتبعتهم لأن قولهما مخالف لما تقرر في علم العربية
قال: فاذكر لي قول مَنْ خَطَّأَهما
قلت: قال ابن هشام: "ووهم أبو البقاء في قوله تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]، فقال: "الواو للحال، وقيل بمعنى إذ"، وسبقه إلى ذلك مكي وزاد عليه فقال: "الواو للابتداء وقيل للحال وقيل بمعنى إذ" انتهى، والثلاثة بمعنى واحد، فإن أراد بالابتداء الاستئناف فقولهما سواء[5].
قال: إذن فالواو هنا للابتداء أو للحال أو بمعنى (إذ) كله سواء.
قلت: نعم
_________________________
[1] الجنى الداني في حروف المعاني 164.
[2] مغني اللبيب/ الخطيب 4/ 380 بتصرف.
[3] التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء العكبري 1/ 303 ت. علي محمد البجاوي ط. عيسى البابي الحلبي.
[4] مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب 1/ 215 ت. حاتم الضامن ط. دار البشاير.
[5] مغني اللبيب – الخطيب 4/ 379.
-
النَّسْخ
قال المصنف
وَأَمَّا النَّسْخُ فَمَعْنَاهُ: الْإِزَالَةُ؛ يُقَالُ: " نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ ": إِذَا أَزَالَتْهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: النَّقْلُ؛ مِنْ قَوْلِهِمْ: " نَسَخْتُ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ": إِذَا نَقَلْتُهُ.
وَحَدُّهُ: الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا، مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ.
______________________________ ________
(وَ): استئنافية، أو عاطفة
(أَمَّا): حرف تفصيل فيه معنى الشرط
(النَّسْخُ): مبتدأ، وهو من جملة الجواب كما تقدم مرارا
(فَـ): واقعة في جواب (أمَّا) وهي مزحلقة عن موضعها، والأصل (وأما فالنسخ ...) فزحلقت الفاء عن موضعها من المبتدإ إلى الخبر لضرب من إصلاح اللفظ
(مَعْنَاهُ): (معنى) مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر
و(معنى) مضاف والضمير مضاف إليه مبني على الضم في محل جر
(الْإِزَالَةُ): خبر
والجملة من المبتدإ والخبر في محل رفع خبر المبتدإ (النسخ)
وجملة (النسخ معناه ...) جواب (أمّا) أو (مهما) أو جوابهما معا كما علمت سابقا
وجملة (أما النسخ فمعناه ...) لا محل لها من الإعراب استئنافية أو معطوفة على جملة (فأما أقسام الكلام ...) كما تقدم مرارا أيضا.
(يُقَالُ): فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة،
" نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ ": (نسخ) فعل ماض و(التاء) تاء التأنيث الساكنة وحُرِّكَتْ بالكسر لالتقاء الساكنين، و(الشمس) فاعل، و(الظل) مفعول به
والجملة في محل رفع: نائب فاعل لـ(يقال)
وجملة (يقال ... الظل) لا محل لها من الإعراب ابتدائية
(إِذَا): شرطية غير جازمة، ويقال في إعرابها: ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه
(أَزَالَتْهُ): (أزال): فعل ماض، والتاء تاء التأنيث الساكنة، والفاعل مستتر يعود على (الشمس) و(الهاء) ضمير مبني على الضم في محل نصب مفعول به
والجملة في محل جر بإضافة (إذا) إليها
وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه والتقدير: (إذا أزالت الشمسُ الظلَّ يقال نسخته)
-
(وَ): عاطفة
(قِيلَ): فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح لا محل له من الإعراب
(مَعْنَاهُ): (معنى) مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر، و(معنى) مضاف و(الهاء) ضمير مبني على الضم في محل جر مضاف إليه
(النَّقْلُ): خبر
والجملة في محل رفع نائب فاعل لـ(قيل)
وجملة (قيل ... النقل) في محل رفع معطوفة على جملة (معناه الإزالة) الواقعة خبرا لـ(النسخ)
(مِنْ قَوْلِهِمْ): متعلق بمحذوف نعت لـ(معنى) من قوله: "معناه النقل" أي: (معناه مأخوذ من قولهم: كذا)، و(قول) مضاف و(هم) مضاف إليه، والضمير (هم) يعود على العرب ولم يجر لهم ذكرٌ وثوقا بمعرفة السامع به، وهذا في الكلام كثير: كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، أي الشمس ولم يَجْرِ لها ذِكْرٌ، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، أي القرآن ولم يجر له ذكر في الكلام.
("نَسَخْتُ): (نسخ) فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بتاء الفاعل، و(التاء) تاء المتكلم ضمير مبني على الضم في محل رفع فاعل
(مَا): اسم موصول بمعنى الذي مبني على السكون في محل نصب مفعول به
(فِي): حرف جر مبني على السكون لا محل له من الإعراب
(هَذَا): اسم إشارة مبني على السكون المقدر في محل جر بـ (في)، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره (استقر) وشبه الجملة (في هذا) صلةُ (ما) لا محل لها من الإعراب
(الْكِتَابِ"): بدل أو عطف بيان من (هذا) مجرور مثله وعلامة جره الكسرة الظاهرة
وجملة: (نسختُ ما ... الكتاب) في محل نصب مقول القول (قولهم)
(إِذَا): ظرف لما يستقبل من الزمان
(نَقَلْتُهُ): فعل ماض (نقل)، وفاعل (التاء)، ومفعول به (الهاء)، والجملة في محل جر بإضافة (إذا) إليها، والجواب محذوف يدل عليه ما تقدم والتقدير: إذا نقلتُ ما في الكتابِ يقال نسخته.
(وَ): استئنافية
(حَدُّهُ): مبتدأ، ومضاف إليه، ويعود الضمير على (النسخ) بمعنى (الناسخ)، أو على (الناسخ) المفهوم من (النسخ) أي: وحَدُّ الناسخِ.
(الْخِطَابُ): خبر إما للمبتدإ (حَدُّه) أو لمبتدإ محذوف والتقدير: هو الخطابُ، وتكون الجملة في محل رفع خبر المبتدإ (حَدُّه)، وهذا الثاني أقرب؛ للتصريح به في بعض نُسَخِ الورقات فقد ورد هكذا: (وحَدُّهُ هو الخطابُ ...الخ)
(الدَّالُّ): نعت لـ(الخطاب)
(عَلَى رَفْعِ): متعلق بـ (الدال)، و(رفْعِ) مضاف
(الْحُكْمِ): مضاف إليه
(الثَّابِتِ): نعت لـ(الحكم)
(بِالْخِطَابِ): متعلق بـ (الثابت)
(الْمُتَقَدِّمِ) : نعت لـ(الخطاب)
(عَلَى وَجْهٍ): متعلق بمحذوف حال من فاعل (الدَّالّ) العائد على (الخِطَاب)[1] مِنْ قوله: "الخطاب الدال على رفع الحكم"
(لَوْلَاهُ): (لولا) حرف جر يجر الضمير خاصة، والهاء ضمير متصل نائب عن الضمير المنفصل إذ الأصل (لولا هو)، مبني على الضم وله محلان:
الأول–جر بـ (لولا) الامتناعية
والثاني-رفع على أنه مبتدأ، وهو يعود على (الخطاب الدَّالّ)، والخبر محذوف وجوبا أي: لولا الخطابُ الدَّالُّ موجودٌ.
(لَكَانَ): اللام واقعة في جواب (لولا)، و(كان) فعل ماض ناقص واسمها مستتر جوازا تقديره (هو) يعود على (الحكم) أي لكان الحُكْمُ الذي نُسِخَ ثابتا.
(ثَابِتًا): أي مستمرا، وهو خبر كان
وجملة (كان ثابتا) وما تعلق بها لا محل لها من الإعراب جواب شرط غير جازم هو (لولا)
وجملة (لولاه ... ثابتا) في محل جر صفة لـ(وجه) والعائد مقدر أي: معه[2].
(مَعَ): ظرف مكان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة، وهو متعلق بمحذوف حال من فاعل (الدَّالّ) أيضا أي في حال كونه مصاحبا لتراخيه عنه[3].
و(مع) مضاف
(تَرَاخِيهِ): (تراخي) مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها الثقل، و(تراخي) مضاف والهاء مضاف إليه يعود على (الخطاب الثاني)
(عَنْهُ): متعلق بـ (تراخِي)، والضمير يعود على (الخطاب المتقدم)، أي: مع تراخي الخطاب الثاني عن الخطاب المتقدم.
___________________________
[1] حاشية الدمياطي على شرح الورقات للمحلي 14، والشرح الكبير على الورقات لابن قاسم 312، وحاشية السوسي على قرة العين 120.
[2] انظر المراجع السابقة.
[3] السابقة.
-
المعنى
هذا هو الباب العاشر من أبواب أصول الفقه التي ذكرها المصنف هنا في (الورقات) وهو (النسخ) فتكلم عن تعريفه لغة واصطلاحا
فالنسخ لغة: يطلق على أحد شيئين:
الأول -الإزالة وعلى هذا أكثر العلماء.
واعلم أن النسخ بمعنى الإزالة في اللغة على نوعين[1]:
1- نسخٌ إلى بدل؛ كالمثال الذي جاء به المصنف وهو: (نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ) يعني: أن الشمس أزالت الظلَّ وحَلَّتْ مَحَلَّهُ.
2- نسخٌ إلى غير بدل مثل: (نَسَخَتِ الريحُ آثارَ القومِ) أي أزالتْ الريحُ آثارَ القومِ ولكنها لم تَحِلَّ مَحَلَّ آثارهم
الثاني – النقل: نحو: (نَسَخْتُ ما في الكتابِ) إذا نقلت ما فيه وليس المراد إذهابُ ما فيه وإعدامه وإنما نقلُ مثلِ ما فيه
والأكثرون على الأول وهو: الإزالة
واصطلاحا: ما ذكره المصنف بقوله: "وحَدُّهُ رفعُ الخطاب ...الخ" وتوضيحه أن يكون عندنا حكم قد ثبت بخطاب أي (بقول الله تعالى أو بقول رسوله صلى الله عليه وسلم) فهذا خطاب متقدم وحكم متقدم ثم يأتي بعده خطابٌ متأخر بحكم متأخرٍ مخالف للحكم المتقدم فينتج عن ذلك أن يَنْسَخَ الحكمُ المتأخرُ الحكمَ المتقدمَ
______________________
[1] الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي 122 -123 ت. أحمد طنطاوي جوهري ط. المكتبة المكية ودار ابن حزم، والأنجم الزاهرات للمارديني تحقيق د. عبد الكريم النملة 182 هامش رقم (4).
-
قال صاحبي
قال: ما إعراب (وَحْدَهُ) إذا قلت: (أشهد أن لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شريك له)؟
قلت: حال، ولكن ما علاقة هذا بموضوعنا؟
قال: علاقته أنك أعربتَها هنا مبتدأً فأردتُ أن أعرف الفرق بين الموضعين، لماذا أعربتها في الشهادة (حالًا) وأعربتها هنا (مبتدأً)؟
قلت متعجبا: ما هي التي أعربتُها حالا هناك ومبتدأ هنا؟!
قال: كلمة (وَحْدَهُ)
قلت: أنا لا أفهم شيئا، عن أي شيءٍ تسأل؟ أنا لم أتعرض لكلمة الشهادة هنا!
قال: أنا أعلم أنك لم تتعرض لكلمة الشهادة هنا ولكني أردت أن أعرف الفرق بين إعراب (وَحْدَهُ) في كلمة الشهادة حيث إن إعرابَها فيها (حالٌ)، وبين إعرابك هنا لها وأنها (مبتدأ)
قلت: يا أخي هداك الله، وأين لفظ (وَحْدَهُ) هنا الذي أعربتُهُ مبتدأ؟
قال: في قول المصنف: "وحده الخطابُ الدَّالُّ على رفع الحكم ...الخ "
فسكتُّ قليلا مُتَفَكِّرًا فيما يقول ثم ضحكتُ وقلتُ كما قال الأول:
أقول له (زيدٌ) فيسمعها (عَمْرا) *** ويكتبها (بكرًا) وينطقها (بِشْرا)
فأطرقَ خجلا ثم قال: وما ذاك؟
قلت: أتظن أن (وَحَدُّهُ) في كلام المصنف هي (وَحْدَهُ) في كلمة الشهادة؟
قال: بلى
قلت: هل تعرفُ (القِبَعْضَ)؟
قال: لا، فما هو؟
قلت: اجتمع جماعةٌ من الأدباء لتقطيع بعض الأبيات الشعرية فكان منها قول النابغة:
أبا منذرٍ أفنيتَ فاسْتَبْقِ بعضنا *** حنانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعضِ
فقال بعضهم هو من البحر الفلاني
وقال آخرون بل من البحر الفلاني
فتردَّدَ على أفواههم من تقطيعه (قِ بَعْض) يعني (حرف القاف) من كلمة مع كلمة (بعض) من الكلمة الأخرى
فاتفقوا أن يأتوا إلى المبرد ويمتحنوه بكلمة (القِبَعْضِ)
وقد كان المبرد يُتَّهَمُ بالكذبِ لِعِظَمِ حفظه للغة واتساعه فيها
فقالوا له: أنبئنا، أيدك الله، ما (القِبَعْضُ) في كلام العرب؟
فقال المبرد: هو القطنُ، ألم تسمعوا قول الشاعر:
*** كأن سَنامَها حُشِيَ القِبَعْضا ***
فقال بعضهم: تَرَوْنَ الجوابَ والشاهدَ إن كان صحيحا فهو عجيب، وإن كان مُخْتَلَقًا فهو أعجب
قال صاحبي: رحم الله المبرد لقد كان آية في الذكاء والفطنة، ومما يُرْوَى عنه أنه كاكاكا ...
فأشرت إليه أن كفى كفى وقلت له: ما هذا حديثُنا، يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق
فقال منتبها: نعم نعم، يكفي يكفي، ما الذي جَرَّنا إلى هذا الحديث؟ وما لنا وللقبعض؟
فقلت: ذكرنيه تصحيفُك
فقال: تصحيفي؟!
قلت: أجل، وما لك متعجبا!
قال: لأني لا أُصَحِّفُ، وإن حدث فإني لم أُصَحِّفُ الآن
قلت: بلى، قد فعلتَ
قال: فأين ذلك؟
قلت: زعمُكَ أو ظنُّك أن (وَحَدُّه) في كلام المصنف هو (وَحْدَهُ) في كلمة الشهادة، أتُراكَ إن كنت لا تُحْسِن القراءة أفلا تُحْسِنُ الاستماع؟
فسكتَ وعلِمَ أنه قد صَحَّفَ
ثم قال: فما معنى (حَدُّهُ) في كلام المصنف
قلت: المراد بالحَدِّ التعريفُ؛ فالمراد بـ (حَدِّ النسخِ) تعريفُ النسخِ
قال: تقول: إن معنى (الخطاب) في تعريف النسخ هو (قولُ الله أو قولُ رسوله صلى الله عليه وسلم)
قلت: نعم
قال: ...
-
قال: فأين الإجماع والقياس؟ وأين النسخُ بهما؟
قلت: لا نسخَ بـ (الإجماع) ولا بـ (القياس)
قال: ولِمَ؟
قلت: أما (الإجماع) فلأنه لا ينعقد إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته لا يمكن النسخ لأنه تشريع
وأما (القياس) فلأن النصَّ مقدَّمٌ عليه ولا يُصارُ إليه إلا عند عدم النص
قال: أرأيت الصلاة أليست فرضا؟
قلت: بلى
قال: ففرض الصلاة قد نسخ الحكم الأول
قلت: وما الحكم الأول؟
قال: عدم فرضيتها، وذلك أن الأصل براءة الذمة من وجوبها ثم جاء خطاب الشارع بفرضها وذلك في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [في مواضع منها البقرة: 43]، فهذا الخطاب التالي قد رفع الحكم السابق وهو البراءة الأصلية إلى الوجوب فهو نسخ، أليس كذلك؟
قلت: نعم، ليس كذلك
قال: ولِمَ؟
قلت: لأن الشرط في النسخ أن يكون الحكم الأول ثابتا بخطاب الشارع ثم يأتي خطاب آخر فينسخه
وأما ما ذكرتَــه هنا فليس كذلك إذ إن الحكم الأول وهو البراءة الأصلية ليس ثابتا بخطاب الشارع بل هو عام في كل ما لم يرد فيه دليل خاص على الإباحة أو التحريم أو غيرهما فالأصل براءة الذمة من التكليف بشيء حتى يأتي الدليلُ المُلْزِمُ بالتكليف بفعل أو نهي
قال: أفهمُ من هذا أن قولَ المصنف: "الحكم الثابت بالخطاب" احترازٌ عما غيرتْهُ النصوصُ من حكم البراءة الأصلية لأن ذلك لم يكن بخطاب؟
قلت: نعم، هو ذا، ولو كان ما غيرتْهُ النصوصُ من حكمِ البراءةِ الأصليةِ يسمَّى نسخا لكانت الشريعةُ كلُّها نسخا
قال: وكيف ذلك؟
قلت: ألا ترى أن الصلاة والصوم والفرائض كلها على خلاف البراءة الأصلية؟[1]
فسكتَ قليلا متفكِّرًا ثم قال: نعم نعم، صح صح.
قال: ماذا يريد المصنف بقوله: "على وجه لولاه لكان ثابتا"؟
_________________________
[1] شرح الورقات لابن الفركاح 215.
-
قلت: أما قوله: "على وجه" فمعناه: (على حالٍ)
قال: نعم، ولكن ألا ترى الصعوبة في هذا الحَد؟
قلت: نعم، وربما كان ذلك من عدم وضوح مرجع الضمائر
قال: نعم، أكمل، ما الذي أراده بقوله السابق؟
قلت: أراد الاحتراز عن شيئين
قال: وما هما؟
قلت: أما الأول: فالاحتراز عن الحكم الذي له غايةٌ ينتهي إليها
لكنه لم يذكرها في الخطاب الأول المتقدم
ثم جاء الخطاب المتأخر يدل على أن هذا الحكم إذا بلغ الغاية الفلانية فقد انتهى
فإن هذا الخطاب الثاني يرفع حكم الخطاب الأول ولكنه (ليس على وجه لولاه لكان ثابتا)
قال: كيف ذلك؟
قلت: يعني أن الحكم الأول يظل ثابتا، ثم إذا جاء الخطاب الآخر بيَّنَ فقط مدةَ بقائه ثابتا يعني: بيَّنَ الغايةَ التي ينتهي عندها.
قال: لو ضربتَ لي مثالا! فإني أحسبني أفهم ما تقول لكن ليس على الوجه المطلوب
قلت: لا بأس، انظر إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، ما الحكم هنا؟
قال: تحريمُ البيعِ وقت النداء لصلاة الجمعة
قلت: أحسنت، فهذا حكمٌ ثبتَ بخطابٍ؟
قال: نعم
قلت: فماذا تفهم من قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]؟
قال: أفهم أن تحريم البيعِ ينتهي بانتهاء صلاة الجمعة
قلت: أحسنت، وهذا هو المطلوب؛
فالحكم الأول وهو تحريم البيع وقت النداء للجمعة ثبت بخطاب
وليس في الخطاب الأول غاية لهذا الحكم
ثم جاء الخطاب الثاني فبيَّن أن هذا الحكمَ مُغَيًّا بغاية
فلم يرفع الحكمُ الثاني الحكمَ الأول وهو تحريم البيع وقت النداء للجمعة بل بيَّنَ أن هذا الحكم يظل ثابتا إلى غاية وهي الانتهاء من الصلاة فعندها ينتهي هذا الحكمُ
قال: نعم، فهمتُ هذا
قلت: فهذا لا يسمى نسخا؛ لأنه لم يرفع الحكمَ بل بيَّنَ أن له غايةً ينتهي عندها
قال: نعم
قلت: وأما الثاني فـ ...
قال: أيُّ ثانٍ تتحدث عنه؟
قلت: يا أخي انتبه قليلا، ألم أقل لك إن قوله: "على وجه لولاه لكان ثابتا" احترازٌ عن شيئين؟
قال: بلى
قلت: وذكرتُ لك أن الأول الذي احترز عنه هو الحكم المـُغَيَّا بغاية وهو ما ذكرناه آنفا؟
قال: أجل، تذكرتُ، فما الشيء الثاني الذي احترز عنه؟
قلت: هو الحكم الذي له علةٌ مذكورة في خطاب متقدم
ثم ورد خطاب متأخر بأنه عند عدم وجود هذه العلة فإن الحكم يكون خلاف الحكم الأول
فهذا لا يسمى نسخا.
قال: مثل ماذا؟
قلت: مثل قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]؛ فإن الإحرام علة لتحريم صيد البَــرِّ، وكما تعلمُ فإن صيدَ البَــرِّ حلالٌ لغيرِ المُحْرِمِ
قال: نعم
قلت: فلا يقال: إن قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، قد نسخ هذا الحكمَ؛ لأن الإحرام معنًى أوجب التحريم فإذا زالَ زال التحريمُ[1].
قال: نعم
ثم قال: فقوله: "مع تراخيه عنه"
قلت: أي مع مُضِيِّ مدةٍ بين الناسخ والمنسوخ
أراد بذلك الاحتراز عما إذا كان الخطاب الثاني غير متراخٍ بل كان متصلا بالأول فلا يكون نسخا بل بيانا: كالتقييد بالصفة والشرط والاستثناء[2] فإن ذلك يكون متصلا ولا ينفصل بخلاف النسخ فإنه يكون منفصلا
قال: أفهم مما سبق أن للنسخ شروطا؟
قلت: نعم، فهل تستطيع ذِكْرَها؟
قال: نعم
قلت: هاتِ
قال: شروط النسخ هي:
1- أن يكون النسخُ بخطاب شرعي من كتاب أو سنة
2- أن يَرفع حكما شرعيا ثابتا بخطاب من كتاب أو سنة
3- ألا يكون الخطاب الذي رُفِعَ حكمُهُ مُغَيــًّا بغاية أو مُعَلَّلًا بعلة
4- أن يكون الناسخُ متأخرا عن المنسوخ[3].
قال: ولكن لماذا يُشْتَرَطُ في الناسخ أن يكون متأخرا عن المنسوخ؟
قلت: لِيُفارِقَ التخصيصَ في هذا؛ فإن المخصِّصاتِ منها ما هو متصل ومنها ما هو منفصل كما علمت وأما النسخ فكله منفصل ولا يصح أن يكون فيه ناسخ متصل[4].
______________________________
[1] شرح الورقات لابن الفركاح 216، والتحقيقات شرح الورقات لابن قاوان 358.
[2] شرح الورقات لعبد الله الفوزان 87.
[3] تهذيب شرح الورقات 68.
[4] شرح الورقات – سعد الشثري 141.
-
أقسام النسخ باعتبار المنسوخ
قال المصنف:
وَيَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ. وَنَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ الرَّسْمِ. وَنَسْخُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا.
وَالنَّسْخُ إِلَى بَدَلٍ، وَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ. وَإِلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ، وَإِلَى مَا هُوَ أَخَفُّ.
______________________________ ___________________
(وَ): استئنافية
(يَجُوزُ): فعل مضارع
(نَسْخُ): فاعل، ومضاف
(الرَّسْمِ): مضاف إليه
(وَ): عاطفة، ومعناها المعية أي ويجوز نسخ الرسم مع بقاء الحكم، وقد علمت فيما سبق أن الواو قد تأتي للمعية فتعطف الشيء على مُصاحِبه: كقوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15]، فالنجاة حصلت لنوح وأصحاب السفينة معا.
قال ابن مالك: "وكونها للمعية راجحٌ وللترتيب كثير ولعكسه قليل"[1].
(بَقَاءُ): معطوف على (نسخ)، و(بقاء) مضاف
(الْحُكْمِ): مضاف إليه
(وَ): عاطفة
(نَسْخُ): معطوف على (نسخ الرسم)، و(نسخ) مضاف
(الْحُكْمِ): مضاف إليه
(وَبَقَاءُ الرَّسْمِ): تقدم مثله
(وَ): عاطفة
(نَسْخُ): معطوف على (نسخ الرسم)، و(نسخ) مضاف
(الْأَمْرَيْنِ): مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياءُ لأنه مثنى
(مَعًا): حال
(وَ): عاطفة أو استئنافية
(النَّسْخُ): إن جعلت الواو عاطفة فهو معطوف على (نسخ الرسم)، أي ويجوز النسخ إلى بدل
وإن جعلتها استئنافية فالمعنى: وينتقسم النسخ إلى بدل وإلى غير بدل ...الخ
(إِلَى بَدَلٍ): متعلق بـ (يجوز) أو بـ (ينقسم)
(وَ): عاطفة
(إِلَى غَيْرِ): معطوف على (إلى بدل)، و(غير) مضاف
(بَدَلٍ): مضاف إليه
(وَ): استئنافية
(إِلَى): حرف جر مبني على السكون لا محل له من الإعراب
(مَا): اسم مبني على السكون في محل جر بـ (إلى) والجار والمجرور متعلقان بـ (يجوز) أو بـ (ينقسم)
و(ما) نكرة موصوفة بمعنى حُكْم أي ويجوز النسخُ إلى حكم هو أغلظ
(هُوَ): مبتدأ
(أَغْلَظُ): خبر، والجملة في محل جر صفة لـ(ما)
(وَ): عاطفة
(إِلَى مَا هُوَ أَخَفُّ): تقدم مثله وهو معطوف على قوله: "إلى ما هو أغلظ"
__________________________
[1] مغني اللبيب – الخطيب 4/ 352.
-
المعنى
ذكر هنا أقسام النسخ وهو ينقسم باعتبارين:
الأول- باعتبار المنسوخ
والثاني- باعتبار الناسخ
فبدأ في بيان انقسامه باعتبار المنسوخ فذَكَر أنه أقسام هي:
الأول – نسخ الرسم (أي الكتابة التي في المصحف بحيث لا تظل آيةً تُتْلَى) وبقاءُ الحكم:
يعني: أن تنزل آيةٌ وتُكْتَبُ فيما يُكْتَبُ من القرآن ثم يُرْفَعُ تلاوتُها ويبقي حُكْمُها ثابتا كما كان
مثاله: آيةُ الرجم
فعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: لَقِيتُ أُبَيِّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَي ْنِ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَا تَجْعَلُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ
قَالَ أُبَيِّ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَنَا، فَنَحْنُ نَقُولُ.
كَمْ تعدُّون سُورَةَ الْأَحْزَابِ مِنْ آيَةٍ؟
قَالَ: قُلْتُ: ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ
قَالَ أُبَيِّ: وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ إِنْ كَانَتْ لَتَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَلَقَدْ قَرَأْنَا فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ: {الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ الله والله عزيز حكيم}[1].
ومعنى: (الشيخ والشيخة) أي: الثَّيِّبُ والثَّيِّبَةُ
الثاني: نسخُ الحُكْمِ وبقاءُ الرسم (الكتابة والتلاوة)
وهو عكس الأول، وهو أكثرُ أنواعِ النَّسْخِ
ومثاله: آيتي الأنفال:
الأولى – قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65]
فقد كان الحكم الأول الذي في هذه الآية هو وجوب ثبات الواحد من المسلمين لعشرة من المشركين فلا يجوز أن يَفِرَّ مِنْ أمامهم ما داموا عشرة فأقل
ثم نُسِخَ هذا الحكمُ بالآية الثانية وهي:
الثانية – قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66]
فنُسِخَ الحكمُ الأول وهو وجوب الثبات والمصابرة للمسلم الواحد إذا كان من أمامه عشرة من المشركين أو أقل
فنُسِخَ هذا الحكمُ وصار الواجبُ هو وجوبُ الثباتُ والمصابرةُ للواحد من المسلمين إذا كان مَنْ أمامه واحدٌ أو اثنان فقط من المشركين
وأما لو كانوا ثلاثةً فأكثر فلم يَثْبُتْ لهم ولم يصابرهم فلا إثمَ عليه
وهذا نسخٌ للحكم الذي في الآية الأولى مع بقاء تلاوتها
وهو أيضا نسخٌ من الأشد للأخف.
الثالث – نسخُ الأمرَيْنِ معا أي نسخُ الرسمِ والحُكمِ
ومثاله: ما ورد في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ
ثُمَّ نُسِخْنَ، بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ
فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ "[2]. فتحريمُ الـ (عشرِ رضَعات) نُسِخَ لفظاً وحكما، وأما تحريمُ الـ (خمسِ رضعات) فمنسوخٌ لفظا لا حكما
______________________________
[1] صحيح: رواه ابن حبان انظر التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان للألباني رقم (4412) والسلسلة الصحيحة رقم (2913) فقد ذكر أن آية الرجم قد ثبتت عن عدد من الصحابة هم عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وأبي بن كعب والعجماء خالة أبي أمامة بن سهل وذكرها.
[2] صحيح: رواه مسلم (1452)
-
ثم ذكر أقسام النسخ باعتبار وجود بدل وعدم وجوده
وهذا ليس قسما مستقلا بل يتبع ما سبق من أقسام النسخ باعتبار المنسوخ
فينقسم باعتبار البدل وعدمه إلى قسميْن:
الأول – النسخُ إلى بدلٍ: كنسخِ استقبال بيتِ المقدس إلى استقبالِ الكعبة
الثاني – النسخُ إلى غير بدل: نحو وجوب تقديم صدقة لِمَنْ أراد مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12]
فنُسِخَ هذا الحُكْمُ بغير بدل
وقد أنكر بعض العلماء وقوع النسخ إلى غير بدل وقالوا لانسخَ بدون بدلٍ
ثم ينقسم (النسخُ إلى بدل) إلى قسمين هما:
الأول – النسخُ إلى بدلٍ أغلظَ: مثل: التخيير بين الإطعام والصيام في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]
يعني مَنْ كان يستطيع صومَ رمضان فهو مُخَيَّرٌ بين الصيام وبين الفِطْرِ والتكفير عن ذلك بالإطعام عن كل يوم إطعامُ مسكين
ثم نُسِخَ هذا الحُكْمُ إلى وجوب الصيام فقط على المستطيع بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، ولا شك أن التخيير كان أهونُ عليهم من إلزام أحد الأمرين
الثاني – النسخُ إلى بدل أخفَّ: كآيتي المصابرة في الأنفال فنُسِخَ وجوبُ المصابرة لعشرة إلى وجوب المصابرة لاثنين فقط.
____________________________
قال صاحبي
قال: ألا ترى أن قوله: "وحَدُّهُ الخطابُ الدالُّ ...الخ" ليس تعريفا للنسخ؟
فسكتُّ قليلا ثم قلت: قاتلكَ الله، كيف عرفتَ هذا؟
قال: أخبرني أولا، أليس هذا صحيحا؟
قلت: بلى، صحيح
قال: فتعريفُ مَهْ؟
قلت: تعريف الناسخ
قال: ولِــمَـهْ؟
قلت: سؤالُكَ السابق يدل على أنك تعرف الجوابَ
قال: بلى، أعرفه ولكني أريد مزيد بيان
قلت: حسنا، فإن ...
-
قلت: حسنا
فإن الناسخ هو: الخطابُ الثاني الدَّالُّ على رفْعِ الحكم الثابت ...الخ
وأما النسخُ فهو: رفْعُ خِطابٍ متأخرٍ ثبوتَ حكم بخطاب متقدم
قال: نعم، هذا هو
ولكن لماذا عبَّر عن (الناسخ) بـ (النسخ)؟
وعلى أي شيء يعود الضمير في قوله: "وَحَدُّهُ: الخطابُ الدَّالُّ ...الخ"؟
قلت: أما الضميرُ في (وَحَدُّهُ) فيعود على (الناسخ) بـِ بِـ بِـ ...
فقاطعني قائلا: ولكن (الناسخ) لم يجرِ له ذكرٌ
فقلت متضجرا: يا أخي أنا أعرف ذلك ولو اصطبرت قليلا لجاءك الجوابُ
قال: معذرة، فأكمِلْ
قلت: الضميرُ في (حَدُّهُ) يعود على (الناسخ) المفهوم من (النسخ) أو على (النسخ) بمعنى (الناسخ)
قال: وكيف ذلك؟
قلت: على طريق الاستخدام
قال: وما الاستخدام؟
قلت: سبق تعريفه عند قول المصنف: "وترد صيغة الأمر والمراد به الإباحة ...الخ"
قال: قوله: "والنسخُ إلى بدل" أفهمُ أن يكون التقدير (وينقسم النسخُ إلى بدل وإلى غير بدل) ولكن لا أفهم كيف يكون التقدير: (ويجوز النسخ إلى بدل)؟
قلت: وما فيه؟
قال: كيف عَدَّى (النسخ) بـ (إلى) مع الفعل (يجوز)؟
قلت: عَدَّى (النسخ) بـ (إلى) لأنه ضمنه معنى (الانتقال) أي: ويجوز نسخُ الشيء منتقلا عنه إلى بدل ...الخ[1].
قال: فأي التقديرين أفضل؟
قلت: الأفضل في الموضعين أن يُجْعَلَ الظرفُ متعلقا بـ (يجوز) لأنه المذكور في الكلام ويكون (النسخُ) مُضَمَّنًا معنى (الانتقال)
قال: فما الحكمةُ في نسخِ الرَّسْمِ وبقاءِ الحكم؟
قلت: لِيَدُلَّ على أن هذه الأُمَّةَ مُتَّبِعَةٌ لنبيِّها صلى الله عليه وسلم ومقتديةٌ به حتى فيما لم يكن مسطورا في القرآن، وحتى فيما كان مسطورا ثم رُفِعَ لفظُهُ
على عكس اليهود الذين كان عندهم في التوراة حَدُّ الرجم فأنكروه.
قال: فما الحكمة من نسخِ الحُكْمِ وبقاءِ الرسم؟
قلت: للتنبيه على فضل الله علينا في مثل آيتي المصابرة اللتين في الأنفال
وبيان كيف كان الأمر شديدا في أول الأمر على الصحابة رضوان الله عليهم وأنهم لم يتأففوا ولم يتتضجروا مع شدة الأمر عليهم
فلما علم اللهُ منهم ذلك خفف عنهم وبيَّنَ لنا ذلك لنتأسى بهم ولنعلمَ أن مع العسرِ يسرا وأن مع الشدة والضيق فرجا
هذا مع ما في بقاء الرسم من ثواب التلاوة وتكرار الموعظة بتكرار القراءة
مع معرفة قَدْرِ الصحابة وعظيم فضلهم وجهادهم وتَحَمُّلِهِم المشاقَّ العظيمة َفي سبيل نصرة دين الله عز وجل
وغير ذلك
قال: أرأيت حديث عائشة رضي الله عنها: "كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ، بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ"
فأين هذه الآية من القرآن؟
قلت: قد نُسِخَ حُكْمُها ورَسْمُها كما علمتَ سابقا
قال: فكيف قالت: "فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ"؟!
قلت: ليس المعنى على ما فهمتَ
قال: فكيف هو؟ فقد أشْكَلَ عليَّ.
قلت: المراد أن ...
_______________________
[1] الشرح الكبير على الورقات لابن قاسم 332.
-
قلت: المراد أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد تُوُفِيَّ وبعضُ الناسِ لم يبلغه أن هذه الآية قد نُسِخَتْ فكان يقرؤها على أنها ما زالت ثابتة
ولهذا قَالَتْ: "وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ" أي يقرؤها بعضُ الناس لأنه لم يبلغه نسخُها
وكأن هذا يشير إلى أن نسخَها كان متأخرا فلم يَعْلَم بنسخها كلُّ الناس
قال: نعم، هكذا زال الإشكال والحمد لله
-
أنواع النسخ باعتبار الناسخ
قال المصنف:
وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ.
وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، وَبِالسُّنَّةِ.
وَيَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْمُتَوَاتِر ِ.
وَنَسْخُ الْآحَادِ بِالْآحَادِ، وَبِالْمُتَوَات ِرِ.
وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ.
______________________________ ____
(وَ): استئنافية
(يَجُوزُ): فعل مضارع مرفوع
(نَسْخُ): فاعل، ومضاف
(الْكِتَابِ): مضاف إليه
(بِالْكِتَابِ): متعلق بـ (نَسْخ)، والجملة لا محل لها من الإعراب استئنافية
(وَ): عاطفة
(نَسْخُ): معطوفة على (نَسْخ) الأولى، و(نسخ) مضاف
(السُّنَّةِ): مضاف إليه
(بِالْكِتَابِ): متعلق بـ (نسخ)
(وَبِالسُّنَّةِ) : معطوف على (بالكتاب)
(وَيَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْمُتَوَاتِر ِ): تقدم مثلها، والواو إما استئنافية فالجملة لا محل لها من الإعراب استئنافية، أو عاطفة فالجملة لا محل لها من الإعراب معطوفة على جملة (ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب)
(وَنَسْخُ الْآحَادِ بِالْآحَادِ، وَبِالْمُتَوَات ِرِ): تقدم مثلها
(وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ): تقدم مثلها و(لا) نافية.
-
المعنى
ذكر هنا أنواع النسخ باعتبار الناسخ وهي:
الأول – نسخُ الكتاب بالكتاب: وهذا النوع لا خلاف فيه وهو كثير ومثاله: آيتي المصابرة في سورة الأنفال كما تقدم وكذا آيتي الصوم في البقرة
الثاني – نسخ السنة بالكتاب: ومثاله: تحريمُ الأكلِ والشربِ والنساءِ في ليالي الصوم في أول الأمر وكان هذا التحريمُ بالسنة فنُسِخَ ذلك بآية البقرة كما في حديث ابن عباس: كان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا صَلوا العَتَمَةَ؛ حَرُمَ عليهم الطعامُ والشرابُ والنساءُ، وصاموا إلى القابلة، فاخْتَانَ رجلٌ نَفْسَهُ، فجامع امرأته؛ وقد صلى العشاء ولم يُفْطِرْ، فأراد الله أن يجعل ذلك يُسْراً لمن بقي، ورُخْصةً ومنفعةً، فقال سبحانه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة: 187]، وكان هذا مما نفع الله به الناس، ورخص لهم ويسَر[1].
ومثاله أيضا: أن استقبال بيتِ المقدس كان ثابتا بالسنة الفعلية بصلاته صلى الله عليه وسلم نحوه ثم نُسِخَ هذا بقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
الثالث – نسخُ السنة بالسنة، ومثاله: حديثُ عَلِيٍّ، "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَعَنِ الْأَوْعِيَةِ، وَأَنْ تُحْبَسَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلاثٍ"، ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمِ الْآخِرَةَ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَوْعِيَةِ فَاشْرَبُوا فِيهَا، وَاجْتَنِبُوا كُلَّ مَا أَسْكَرَ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ أَنْ تَحْبِسُوهَا بَعْدَ ثَلاثٍ، فَاحْبِسُوا مَا بَدَا لَكُمْ"[2].
الرابع – نسخ المتواتر بالمتواتر: و(المتواتر) إما أن يكون كتابا أو سنة متواترة فهو قسمان:
أحدهما – نسخُ الكتاب بالسنة المتواترة:
والجمهور على جواز هذا النوع
وذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه إلى عدم الجواز وهو الصحيح، والله أعلم.
ومثلوا لهذا النوع بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين َ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]، فنُسِخَتْ هذه الوصية بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصيةَ لوارث"[3]. وفيه مناقشات، لكن يكفي في المثال التعرض لموضع الشاهد.
ثانيهما – نسخُ السنة المتواترة بمثلها:
وهذا جائز بالاتفاق لكن لا يكاد يوجد له مثال كما في شرح الكوكب المنير[4].
الخامس – نسخ الآحاد بالآحاد: وهذا جائز بالإجماع وأمثلته كثيرة ومنه حديث عليّ رضي الله عنه السابق في النهي عن زيارة القبور ولحوم الأضاحي والأوعية ثم إباحتها.
السادس – نسخ السنة الآحاد بالسنة المتواترة: وهذا جائز بالاتفاق لأن المتواتر أقوى من الآحاد، لكن لم يقع.
السابع – نسخ الكتاب بالسنة الآحاد: وهذا ذهب المصنف هنا إلى عدم جوازه وعكس ذلك في (البرهان) فذهب إلى جوازه.
الثامن – نسخ المتواتر من الكتاب والسنة بالسنة الآحاد: مثاله حديث عبدِ الله بن عُمر قال: بيْنا النّاسُ بقُباءٍ في صلاةِ الصبْح، إذْ جاءهم آتٍ فقالَ: إنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أُنْزلَ عليهِ الليلةَ قرآنٌ، وقد أُمرَ أنْ يستقبلَ الكعبةَ، [ألا فاستقبِلوها]، فاستقبَلوها، وكانت وجوهُهم إلى الشامِ، فاستداروا [بوجوههم] إلى الكعبة[5].
وجه الدلالة: أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا بالسنة المتواترة، فلما جاءهم هذا الصحابيُّ وأخبرهم بتغيير القبلة قبلوا خبرَه وهو خبرُ واحد وعملوا به في نسخ ما تقرر عندهم من السنة المتواترة، ولم ينكر عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك، فدلَّ على الجواز، والله أعلم[6].
______________________________ ____
[1] صحيح: رواه أبو داود انظر صحيح وضعيف أبي داود/ الألباني (2313)
[2] صحيح: رواه أحمد (1236) ط. الرسالة.
[3] صحيح: انظر صحيح الجامع (1720).
[4] شرح الورقات لعبد الله الفوزان 93.
[5] صحيح: رواه البخاري، انظر مختصر صحيح البخاري/ الألباني (215)
[6] شرح الورقات لعبد الله الفوزان 94.
-
التعارض بين الأدلة
قال المصنف:
فَصْلٌ فِي التَّعَارُضِ: إِذَا تَعَارَضَ نُطْقَانِ فَلَا يَخْلُو:
إِمَّا أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ، أَوْ خَاصَّيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَامًّا، وَالْآخَرُ خَاصًّا.
أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ وَخَاصًّا مِنْ وَجْهٍ.
____________________________
(فَصْلٌ): خبر لمبتدإ محذوف والتقدير: هذا فصلٌ في التعارض
(فِي التَّعَارُضِ): متعلق بمحذوف نعت لـ(فصل) والتقدير (كائن في التعارض)
(إِذَا): ظرف للمستقبل
(تَعَارَضَ): فعل ماض
(نُطْقَانِ): فاعل مرفوع وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى
(فَـ): واقعة في جواب (إذا)
(لَا): نافية
(يَخْلُو): فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها الثقل، والفاعل مستتر جوازا تقديره (هو) يعود على (تعارض) أي: فلا يخلو التعارض
وحذف الظرف ومتعلَّقه لفهمه من السياق أي: فلا يخلو التعارض مما يأتي إما أن يكونا ...الخ
(إِمَّا): حرف تفصيل فيه معنى الشرط
(أَنْ): حرف مصدري ونصب
(يَكُونَا): فعل مضارع من (كان) الناقصة منصوب بـ(أن) وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، و(الأَلِف) ضمير مبني على السكون في محل رفع اسم (يكون)
(عَامَّيْنِ): خبر (يكون) منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه مثنى
(أَوْ): حرف عطف
(خَاصَّيْنِ): معطوف على (عامَّيْن)
(أَوْ): حرف عطف
(أَحَدُهُمَا): (أحد) اسم (يكون) محذوفا لدلالة ما قبله عليه، أي: أو يكون أحدهما عامًّا ...الخ، و(أحد) مضاف و(هما) مضاف إليه
(عَامًّا): خبر (يكون) المحذوف، والجملة معطوفة على جملة (يكونا عامين)
(وَ): عاطفة
(الْآخَرُ): اسم (يكون) محذوفا أيضا
(خَاصًّا): خبر (يكون) المحذوف، والجملة معطوفة على جملة (يكون أحدهما خاصا)
(أَوْ): عاطفة
(كُلُّ): اسم (يكون) محذوفا، وهو مضاف
(وَاحِدٍ): مضاف إليه
(مِنْهُمَا): متعلق بـ (يكون) المحذوف
(عَامًّا): خبر (يكون) المحذوف، والجملة معطوفة على جملة (يكون أحدهما عاما والآخر خاصا)
(مِنْ وَجْهٍ): متعلق بـ (عامًّا)
(وَ): عاطفة
(خَاصًّا): معطوف على (عامًّا)
(مِنْ وَجْهٍ): متعلق بـ (خاصًّا)
-
المعنى
هذا شروع في ذِكْرِ مباحث التعارض بين الأدلة، والأصوليون يذكرونه بعد الكلام على الأدلة الشرعية (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) لكن المصنف هنا اقتصر على الكتاب والسنة لقوله: "إذا تعارض نطقان" والمراد بـ (النطقان): قولُ اللهِ وقولُ رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومناسبة وضعه هنا أن النَّسْخ طريق من طرق دفع التعارض فأراد المصنف أن يبين بعد الكلام على النسخ أنواع التعارض وكيفية دفعه.
والمراد بـ (التعارض بين الأدلة): أن يدل كل منهما على مُنافِي جميع أو بعض ما يدل عليه الآخر
واعلم أن التعارض لا يمكن أن يقع بين الوحيَيْنِ: (الكتاب والسنة) وإنما التعارض الذي يقع إنما يكون في نظر المجتهد.
وقد ذكر المصنف صور التعارض بين الأدلة وهي أربع:
الأولى-أن يكون التعارض بين دليلين عامَّيْن
الثانية-أن يكون بين دليليْن خاصَّيْن
الثالثة-أن يكون بين دليلين أحدهما عام والآخر خاص
الرابعة-أن يكون بين دليلين كل منهما عام من وجه وخاص من وجه آخر.
-
تعـــــــارض العامَّيــْــــ ـن
قال المصنف:
فَإِنْ كَانَا عَامَّيْنِ:
فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جُمِعَ.
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا: يُتَوَقَّفْ فِيهِمَا إِنْ لَمْ يُعْلَمِ التَّارِيخُ.
فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فَيُنْسَخُ الْمُتَقَدِّمُ بِالْمُتَأَخِّر ِ.
______________________________ __
(فَـ): فاء الفصيحة
(إِنْ): شرطية
(كَانَا): (كان) فعل ماض ناقص مبني على الفتح لاتصاله بألف الاثنين في محل جزم لأنه فعل الشرط
و(ألف الاثنين) ضمير مبني على السكون في محل رفع اسم (كان)
(عَامَّيْنِ): خبر (كان) منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه مثنى
(فَـ): واقعة في جواب الشرط، وهو محذوف يفهم من السياق والتقدير مثلا: (فإن كانا عامَّيْنِ فالحاصل ما يأتي، أو فالتعارض كائنٌ كما يأتي، أو فيُنْظَرُ إن أمكن الجمعُ) أو نحو ذلك
(إِنْ): شرطية
(أَمْكَنَ): فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط.
(الْجَمْعُ): فاعل
(بَيْنَهُمَا): (بين) ظرف مكان منصوب وعلامة نصبه الفتحة وهو متعلق بمحذوف حال من (الجَمْعِ) والتقدير: (في حالِ كونِ الجمعِ كائنًا بينهما)
و(بين) مضاف و(هما) مضاف إليه
(جُمِعَ): فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح في محل جزم جواب الشرط
ونائب الفاعل محذوف يدل عليه ما تقدم والتقدير: (جُمِعَ بينهما) فـ(بَيْنَ) نائب فاعل ومضاف و(هما) مضاف إليه.
(وَ): عاطفة
(إِنْ): شرطية
(لَمْ): حرف نفي وجزم وقلب
(يُمْكِنِ): مضارع مجزوم بـ (لم) وعلامة جزمه السكون وحُرِّكَ بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين، وهو فعل الشرط.
(الْجَمْعُ): فاعل
(بَيْنَهُمَا): سبق مثلها
(يُتَوَقَّفْ): فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم لأنه جواب الشرط وعلامة جزمه السكون
(فِيهِمَا): الضمير (هما) نائب فاعل وحرف الجر (في) موصل العامل (يُتَوَقَّف) إليه كما سبق بيانه عند قول المصنف: "وَالصَّحِيحُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النُّفُوذُ، وَيُعْتَدُّ بِهِ."
(إِنْ لَمْ يُعْلَمِ التَّارِيخُ): مثل (إن لم يمكن الجمع) وجواب الشرط هنا محذوف لدلالة ما قبله عليه أي: إنْ لم يُعْلَمِ التاريخُ يُتَوَقَّفْ فيهما
(فَإِنْ عُلِم التَّارِيخُ): سبق مثله والفاء استئنافية
(فَـ): واقعة في جواب الشرط
(يُنْسَخُ): فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة
(الْمُتَقَدِّمُ) : نائب فاعل
والجملة من الفعل ونائب الفاعل وما تعلق بهما في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، وجملة المبتدإ والخبر جواب الشرط.
(بِالْمُتَأَخِّ ِ): متعلق بـ (يُنْسَخ).
-
المعنى
ذكر المصنف هنا الصور المحتملَة للتعارض بين الأدلة ثم مراتب دفع هذا التعارض الظاهري
أولا-صور التعارض بين الأدلة:
إذا وقع تعارض ظاهري بين الأدلة فله أربع صور محتملَة:
1- أن يكون التعارض بين عامَّيْن
2- أن يكون التعارض بين خاصَّيْن
3- أن يكون التعارض بين دليليْن أحدهما عامٌّ والآخر خاصٌّ
4- أن يكون التعارض بين دليلين كُلٌّ منهما عامٌّ من وجه وخاصٌّ من وجه
ثانيا-مراتب درء التعارض
إذا كان الدليلين المتعارضين عامَّيْنِ أو خاصَّيْنِ فمراتب دفع التعارض بينهما على الترتيب هي:
1- الجمع بين الدليلين إن أمكن. فإن لم يمكن:
2- انتقل إلى النسخ إن عُلِمَ التاريخُ فيُنسَخُ المتقدِّمُ بالمتأخر ويكون العمل بالمتأخر فقط. فإن لم يُعْلَم التاريخُ:
3- انتقل إلى الترجيح بينهما. فإن لم يمكن الترجيح:
4- توقفَ
أما إن كان التعارض بين دليلين أحدهما عام والآخر خاص:
- فيحمل العامُّ على الخاصِّ عند الجمهور
- ويُنسَخُ المتقدم بالمتأخر عند الحنفية
أما إن كان كل واحد من الدليلين المتعارضين عامًّا من وجه وخاصا من وجه:
- فيُحمَلُ عامُّ الأولِ على خاصِّ الثاني
- ويحمل عامُّ الثاني على خاصِّ الأول
-
قال صاحبي
قال: ذكرت أن نائب الفاعل لقوله: "جُمِعَ" محذوف وأن تقديره: (بينهما)
قلت: نعم
قال: فكيف ناب الظرفُ (بَيْنَ) وهو غيرُ متصرف عن الفاعل؟
قلت: ما معنى أن الظرف متصرف؟
قال: معناه: أن يستعمل ظرفا وغير ظرف فلا يكون ملازما للنصب على الظرفية
قلت: حسنا! مثلُ ماذا؟
قال: مثل (يوم):
- تقول: "أجيئُكَ يومَ الجمعة" فتنصبه على الظرفية
- وتقول: "اليومُ الجمعةُ" فترفعه على أنه مبتدأ وما بعده خبر
قلت: إذن فما وجهُ اعتراضِك على (بَيْن)؟
قال: لأنها ملازمة للنصب على الظرفية، فلا تقع إلا ظرفا
قلت: غيرُ صحيح
قال: بل صحيح، وإلا فائتني بمثال على وقوعها غيرَ ظرف
قلت: (بَيْنُكُمْ لا تقطعوه)
قال: ما هذا؟
قلت: البَيْنُ هنا بمعنى الوصل والمعنى: وَصْلُكُمْ لا تقطعوه، فقد وقعت كلمة (بَيْنُ) هنا اسما
قال: هذا مثال من عندك ولا يُسَلَّمُ لك، فإن كان ما تقول صحيحا وأن (بين) يقع اسما كما يقع ظرفا فائتني بشاهد لا بمثال من عند نفسك
فضحكتُ وقلت: أنا حجةٌ في اللغة وكفى بكلامي شاهدًا
فقال: أَيْهَات، لعلك حُصِرْتَ، أو كأنك انقطعتَ، فظهر خطأُ ما تقولُ؛ إذ لم تجدْ شاهدا غير ما اخترعته من هذا المثال الضعيف الذي يُظْهِرُ العِيَّ ووو...
فأشرت إليه: أن كفى
فسكتَ
فقلت له: إن شئتَ أتيتُكَ بشاهد من الكتاب
قال: هيهات، لو كان عند سيبويهِ في الكتاب شاهدٌ لعرفتُه وما خفيَ عليَّ
قلت متعجبا: ما شاء الله! أَبَلَغَتْ معرفتُك بكتاب سيبويه إلى هذه الدرجة
قال: بلى، وأكثر
وكنتُ أعلمُ أنه ذو هواجسَ وظنونٍ فقلت له: على كلٍّ فأنا لا أقصد كتاب سيبويه
قال: فما تقصد؟
قلت: أقصدُ القرآن
فازداد تعجبا وقال: تعني بالكتاب القرآنَ ؟!
قلت: نعم
قال: أتعني أنك ستأتيني بشاهد من القرآن الكريم وأنا لا أعلمه؟!
قلت: أجَلْ، أعني ذلك
قال: فهاتِ
قلت: قال تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94]
قوله: {بَيْنَكُمْ} قريء بالوجهين: الرفع والنصب؛
- فقرأ حمزة وشعبة وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر برفع النون {بَيْنُكُمْ}
- وقرأ الباقون بالنصب {بَيْنَكُمْ}
وتأويل الرفع على أنه اسم بمعنى الوصل أي: لقد تقطع وصلُكم، وأما النصب فعلى الظرفية
فاحمرتْ وجنتاه من الخجل وقال: ربما لم أعرف ذلك لأنها قراءة أخرى غير قراءتنا
قلت: أرأيتَ إن أتيتُك بشاهد آخر من قراءتنا؟
قال: أوَ يوجدُ ذلك؟
قلت: بلى
قال: فهاته
-
بارك الله فيك وفيك -صاحبك-
واصل أكرمك الله.
-
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو البراء محمد علاوة
بارك الله فيك وفيك -صاحبك-
واصل أكرمك الله.
وصلك الله بفضله وبارك فيك
-
قلت: قوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]:
فـ(هذا) مبتدأ
و(فراق) خبر وهو مضاف
و(بين) مضاف إليه
و(بين) مضاف
وياء المتكلم مضاف إليه.
قال: فما الشاهد هنا؟
قلت: الشاهد وقوع (بين) مجرورا بالإضافة؛
فقد وقع في القراءة الأولى مرفوعا
وفي الثانية مجرورا
فخرج عن كونه ملازما للنصب على الظرفية،
وظهر كونه متصرفا وجاز وقوعه نائبا للفاعل
قال: نعم، ظهرت صحةُ هذا
ثم قال: قولك: إن الفاء في قول المصنف: "فيُنْسَخُ المتقدمُ بالمتأخرِ" واقعة في جواب الشرط
قلت: نعم
قال: لماذا لم تجعل قوله: "يُنْسَخُ" هو جواب الشرط، أليس هذا هو الصواب؟
قلت: كما تعلم أن (يُنْسَخ) فعل مضارع يصلح لأن يكون شرطا
قال: أجل
قلت: وإذا كان كذلك لم يقترن بالفاء
قال: نعم
قلت: ولكن اقترانه بالفاء ليس ممتنعا
فصمتَ
قلت: إذا كان الجواب يصلح لأن يكون شرطا بأن كان:
- مضارعا:
ليس منفيا بـ (ما) أو بـ (لن)،
ولا مقرونا بحرف تسويف أو (قد)
- أو كان الجواب ماضيا
متصرفا
غير مقرون بـ (قد)
جاز اقترانه بالفاء ولم يجب أو يمتنع
فيجوز أن تقول: (إِنْ فهم محمدٌ يَفْهَمْ عليٌّ) أو (فَيَفْهَمُ عليٌّ)
قال: نعم
قلت: وفي حال جواز الاقتران بالفاء للمضارع مثل: (إِنْ يفهمْ محمد فيفهمُ علي) يكون المضارع (فَيَفْهَمُ) مرفوعا على أنه خبر لمبتدإ محذوف
وتكون الجملةُ جوابَ الشرط.
قال صاحبي: ذكرتَ مراتب درء التعارض بين الدليلين إذا كانا عامين أو خاصين وهي (الجمع والنسخ والترجيح والتعارض) وقلت إنها على الترتيب
قلت: نعم
قال: ما معنى أنها على الترتيب؟
-
قلت: يعني أنه إذا كان التعارض بين دليلين وقد عُلِمَ تاريخُ كلٍّ منهما فلا نبدأ في دفع التعارض بالنسخ بل نبدأ بالجمع بينهما
قال: إذا كان التاريخُ معلوما فلِمَ لا نبدأُ بالنسخ؟
قلت: لأن في الجمع بين الدليلين إعمال لهما جميعا وأما في النسخ ففيه إعمال لأحدهما وترك للآخر ولا شك أن العمل بالدليلين أولى مِنْ تركِ أحدهما
قال: نعم، ولكن أرأيت إن لم يمكن الجمع وانسد باب الترجيح؟
قلت: لا يمكن هذا فقد قال كثير من العلماء: لا يوجد تعادل بين الأدلة بحيث ينسد باب الترجيح تماما أو ينسد باب الجمع بينهما
فنظر إليَّ منتبها
فاستطردت قائلا: وقد كان إمام الأئمة ابنُ خزيمة يقول: "لا يوجد حديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعارضان ويتعذر الجمع بينهما فمن وجد من ذلك شيئا فليأتني به أنا أُؤَلِّفُ بينه"[1].
قال: لَمْ تضرب أمثلة على مراتب درء التعارض
قلت: أجل، أفتريد أمثلة عليها؟
قال: بلى
قلت: أأأ ...
فقاطعني قائلا: أريد أن أسأل أولا عن عن عن ...
قلت: عن ماذا؟
قال: متى يُعَدُّ الدليلان متعارضيْنِ؟
قلت: هناك أربعة شروط للقول بتعارض الدليلين وهي:
1- صحة الدليليْن، فلا تعارض بين صحيح وضعيف
2- التناقض أو التضاد بينهما، فإن دلَّا على حكم واحد فلا تعارض
3- اتحادهما في الزمان، فلو تقدم أحدهما على الآخر كأن يقول مرة: (لا تأكلوا بالنهار في رمضان) ويقول مرة أخرى: (كلوا بالنهار في غير رمضان) فلا تعارض لوقوع كل منهما في زمان مختلف عن الآخر
4- ألا يقوم دليل يبين أن أحدهما منسوخ بالآخر؛ لأنه إذا قام الدليل على النسخ فلا تعارض[2].
قال: حسنا، فحدثني إذن عن أمثلة دفع التعارض
قلت: هاك هي:
أمثلة على الجمع بين الدليلين إذا كانا عامَّيْن:
1- قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
ففي الأولى نَفَى الهدايةَ عنه صلى الله عليه وسلم، وفي الثانية أثبتها له.
ووجْهُ الجمع بينهما أنهما هدايتان مختلفتان فالهداية المنفيةُ هي هدايةُ التوفيق، وأما المُثْبَتَةُ فهدايةُ الدلالة والإرشاد
والمعنى: إنك لا تستطيع أن تخلق هداية التوفيق في قلب أحد بحيث يصير مؤمنا مهديًّا فهذه الهداية خاصة بالله تعالى، ولكنك تدل وترشد إلى الطريق المستقيم الذي مَنْ تبعه هُدِيَ
2- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ»[3]. مع حديث عبد الله بن عكيم وهو: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ، قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ "لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ"[4].
فهذا ظاهره التعارض
ووجُهُ الجمْعِ بينهما: أن (الإهاب) اسم للجلد إذا لم يُدْبَغْ، فإذا دُبِغَ لم يُسَمَّ (إهابا) وإنما يُسَمَّى (شِنًّا وقِرْبَةً)
قال أبو داود: وسمعت أحمد ابنَ شبُّوية، قال: قال النضرُ بنُ شُميلٍ: يُسمى إهاباً ما لم يُدْبَغْ، فإذا دبغ يُقال له: شنٌّ وقربةُ[5].
فيكون النهي عن الانتفاع بالإهاب مالم يدبغ لم يُسَمَّ إهابا فلا يدخل تحت النهي.
أمثلة على النسخ:
تقدم في باب النسخ أمثلتها
قال: قد تقدم، ولكن أخبرني ألستَ تزعم أن طريق معرفة النسخ هو معرفةُ التاريخِ؟
قلت: بلى
قال: أرأيتَ قوله صلى الله عليه وسلم: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا»[6].
قلت: ماذا فيه؟
قال: أليس الأمر بزيارة القبور ناسخ للنهي عنها وكذا ما معها من النهي عن لحوم الأضاحي والنهي عن الانتباذ في الأسقية ثم إباحة ذلك، أليس كل هذا من باب النسخ؟
قلت: بلى، وماذا في هذا؟
قال: أين التاريخ هنا؟
قلت: نعم نعم، فهمتُ ما تريد وسأخبرُك
قال: هاتِ
قلت: اعلم أن طرق معرفة النسخ ثلاثة:....
___________________________
[1] تهذيب شرح الورقات لعياض بن نامي السلمي 75.
[2] شرح الورقات لسعد الشثري 146.
[3] صحيح: رواه مسلم (366)
[4] صحيح: رواه أبو داود (4127) وابن ماجه (3613) وهو لفظه، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1/ 76/ رقم 38)
[5] سنن أبي داود 6/ 215 ت. الأرناؤوط، ط. دار الرسالة العالمية.
[6] صحيح: رواه مسلم (977)
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
جزاكم الله خيرا على تثبيت الموضوع
أسأل الله عز وجل أن يثبتنا وإياكم على صراطه المستقيم حتى نلقاه
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
قلت: اعلم أن طرق معرفة النسخ ثلاثة:
1- النص على النسخ: وهو أصرحها ومثاله حديث النهي عن زيارة القبور وعن لحوم الأضاحي السابق.
2- قول الصحابي: كما في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ» [1].
3- معرفة التاريخ: كقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]، فهذه الآية تفيد التخيير بين الصيام والإطعام، وأن الصيام أفضل.
وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فهذه الآية تفيد تعيين الصيام أداء في حق غير المريض والمسافر، وأما في حقهما فقضاء.
وهذه الآية متأخرة في النزول عن الآية الأولى فتكون ناسخة لها بدليل قول سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]. كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا»[2].
قال: بقي مثال الترجيح
قلت: أجل، مثال الترجيح بين الدليلين المتعارضين
حديث عبدِ الله بنِ أبي بكر، أنَّه سمع عُروة يقول: دخلتُ على مروانَ بن الحكم، فَذَكَرْنَا ما يكونُ منه الوضوءُ
فقال مَروانُ: ومِنْ مَسِّ الذكرِ.
فقال عُروةُ: ما عَلِمتُ ذلك.
فقال مروانُ: أخبَرَتني بُسْرَةُ بنتُ صَفوان، أنَّها سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَنْ مَسّ ذَكرَه فليَتَوضأ"[3].
مع حديث قيس بن طَلْق عن أبيه، قال: قَدِمنا على نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجلٌ كأنَّه بَدَويُّ فقال: يا نبيَّ الله، ما ترى في مَسِّ الرجلِ ذَكَرَهُ بعد ما يَتَوَضَّأ؟
فقال: "هل هو إلا مُضغَةٌ منه" أو: "بَضعَةٌ منه"[4].
فالحديث الأول يدل على أن مَسَّ الذَّكرِ ينقض الوضوء
والحديث الثاني يدل على أنه لا ينقضه
ولا يمكن الجمع بينهما فرجَّحَ العلماء الحديث الأول على الثاني لما يأتي:
1- أن العمل به أحوط
2- أنه أكثر طرقا ومصحِّحِيه أكثر
3- أنه ناقل عن البراءة الأصلية وهي عدم إيجاب الوضوء، والقاعدة: (أن الناقل يُقَدَّمُ على الـمُبْقِي)؛ لأن مع الناقل زيادة علمٍ[5].
قال: فما سبق هو الحالة الأولى وهو أن يكون التعارض بين دليلين عامَّيْن
قلت: أجل
قال: حدثتني عن حالتين وهما إذا كان التعارض بين دليلين عامين أو خاصين
قلت: نعم
قال: وذكرتَ أن طرق دفع التعارض بينهما هي: الجمع فالنسخ فالترجيح فالتوقف
قلت: نعم
قال: وبقي حالتان
قلت: نعم، الثالثة والرابعة
قال: إيهِ
قلت: أما الحالة الثالثة ففيها يكون التعارض بين دليلين أحدهما عامٌّ والآخر خاصٌّ.
قال: نعم نعم، هذا هو الثالث، هذه هي الحالة الثالثة، فما طريق دفع التعارض فيها.
قلت: طريق دفع التعارض فيها أن نحمل العامَّ على الخاصِّ
قال: وكيف ذلك؟
______________________________ ____
[1] صحيح: رواه أبو داود (192) والنسائي (185).
[2] صحيح: رواه البخاري (4507) ومسلم (1145)
[3] صحيح: رواه أبو داود (181)
[4] حسن: رواه أبو داود (182)، والترمذي (85)، والنسائي (165)، وابن ماجه (483)، وأحمد (16292، 16295)
[5] شرح الورقات لعبد الله الفوزان 97.
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
قلت: بأن يستثنى من أفراد العامِّ ما ذُكِرَ في الدليل الخاصِّ.
قال: هات مثالا
قلت: عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا[1] العُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ»[2].
فهذا الحديث عامٌّ في القليل والكثير، فتجب فيه الزكاة سواءٌ قلَّ أو كثر.
مع حديث أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ مِنَ الإِبِلِ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» [3].
فهذا خاصٌّ أخرج ما نقص عن خمسة أوسق فلا تجب فيه الزكاة.
فيُحْمَلُ الحديث الأول العامُّ على الثاني الخاصِّ فيكون معنى الحديثين معا: فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرِيًّا العُشْرُ إذا كان أكثر من خمسة أوسق وأما إذا كان أقل من خمسة أوسق فلا تجب الزكاة فيه.
وما سُقِيَ بالنضحِ ففيه نصفُ العُشْرِ إذا كان أكثر من خمسة أوسق وأما إن كان أقل من خمسة أوسق فلا زكاة فيه.
قال: بقيت الحالة الرابعةُ وهي إذا كان كل واحد من الدليلين المتعارِضَيْنِ عاما من وجه وخاصا من وجه آخر.
قلت: نعم، ومثالها أأأ ...
فقاطعني قائلا: قبل المثال بَيِّنْ لي كيفية دفع التعارض بينهما.
قلت: حسنا، طريق دفع التعارض بينهما أن نحملَ عامَّ الأول على خاصِّ الثاني، وعامَّ الثاني على خاصِّ الأول.
قال: هات مثالها الآن.
قلت: مثالها حديثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَتْ مِنَ الْجَنَابَةِ فَتَوَضَّأَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِفَضْلِهَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ «إِنَّ الْمَاءَ لاَ يُنَجِّسُهُ شَىْءٌ»[4].
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ»[5].
فهذا الحديث:
- عامٌّ مِنْ وجْهٍ وهو أن الماء لا ينجسه شيء. فهذا يشمل القليل والكثير.
- وخاصٌّ من وجه وهو كون الماء لا ينجس ما لم يتغير، فإن تغير ريحُه أو طعمُه أو لونُه نجس
مع حديث ابن عمر قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِالْفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ"[6].
فهذا الحديث:
- خاصٌّ من وجه وهو أن الماء الذي يبلغ قلتين فأكثر لا يحمل الخبث، فهذا خاصٌّ بالقلتين فما فوقهما
- وعامٌّ من وجه وهو أنه لا يحمل الخبث سواء تغير أم لم يتغير.
فإذا حملت عام الأول على خاص الثاني كان المعنى: الماء لا ينجسه شيء إذا بلغ قلتين
وإذا حملت عام الثاني على خاص الأول كان المعنى: الماء لا يحمل الخبث ما لم يتغير ريحه أو طعمه أو لونه، وصار معنى الحديثين معا: إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس إلا بالتغيُّرِ، وما تغيَّر تنجَّسَ سواء قلَّ أو كثُرَ.
قال: قد حدثتني عن أمثلة دفع التعارض
قلت: أجل
قال: هلا أعطيتني مثالا على دليلين متعارضين أحدهما صحيح والآخر ضعيف
قلت: قد علمت أنه في هذه الحالة لا يوجد تعارض
قال: نعم، علمتُ هذا، ولكني أريد مثالا على هذه الحالة
قلت: حسنا، مثاله ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع
ولفظه: عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ، وَقَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُهُمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ[7].
فهذا معارَضٌ بما روي عن البراء: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتَتَحَ الصلاةَ رفعَ يديهِ إلى قريبِ من أُذُنَيه، ثم لا يعودُ[8].
ثم رواه أبو داود من طريق أخرى عن سفيانِ (هو ابن عيينة)، عن يزيد، نحوَ حديثِ شريك، لم يقل: "ثم لا يعودُ"
قال سفيان: قال لنا بالكوفة بعد: "ثم لا يعودُ"
قال أبو داود: روى هذا الحديث هُشيم وخالد وابنُ إدريس عن يزيد، لم يذكروا: "ثم لا يعود".
فهنا لا تعارض لأن الأول الذي فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع، حديث صحيح والآخر الذي فيه أنه يرفعهما عند تكبيرة الإحرام ثم لا يعود حديث ضعيف. والله أعلم.
______________________________
[1] (عَثَرِيًّا): ما يشرب من غير سَقْيٍ إما بِعُرُوقِهِ أو بواسطة المطر والسيول والأنهار، وهو ما يسمى بالبعل، سمي بذلك من (العاثوراء) وهي الحفرة لتعثر الماء بها.
(بالنضح): أي بالساقية وفيه من المؤنة والكلفة في استخراجه ما جعل زكاته نصف زكاة ما سقي بغير مؤنة.
[2] صحيح: رواه البخاري (1483).
[3] صحيح: رواه البخاري (1447)
[4] صحيح لغيره: رواه أبو داود (68)، والترمذي (65) وقال: حسن صحيح، والنسائي (325) وهو لفظه، وابن ماجه (370).
[5] ضعيف بهذه الزيادة: (إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه) فإنها لم تصح سندا ولكن العمل عليها عند أهل العلم وحكى ابن المنذر الإجماع على ذلك فقال: أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعما أو لونا أو ريحا فهو نجس.
[6] صحيح: رواه أبو داود (64، 65)، والترمذي (67)، وابن ماجه (517، 518) وهو لفظه.
[7] صحيح: رواه البخاري (735، 736، 738، 739) ومسلم (390) وهو لفظه.
[8] ضعيف: رواه أبو داود (750) وفيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، وشريك بن عبد الله وهو سيء الحفظ.
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
الإجماع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ.
وَنَعْنِي بِالْعُلَمَاءِ: الْفُقَهَاءَ، وَنَعْنِي بِالْحَادِثَةِ: الْحَادِثَةَ الشَّرْعِيَّةَ.
____________________________
(وَ): استئنافية أو عاطفة
(أَمَّا): حرف تفصيل وتوكيد فيه معنى الشرط
(الْإِجْمَاعُ): مبتدأ، وهو من جملة الجواب
(فَـ): فاء الجزاء واقعة في جواب (أما)، ومزحلقة عن موضعها والأصل (فالإجماع هو ...)
(هُوَ): مبتدأ
(اتِّفَاقُ): خبر
وجملة (هو اتفاق) في محل رفع خبر المبتدإ (الإجماع)
وجملة (الإجماع هو اتفاق) جملة جواب (أما)، أو (مهما)، أو جوابهما معا
وجملة (أما الإجماع ...) معطوفة على قوله: "فأما أقسام الكلام" إن جعلت الواو عاطفة، أي: فأما أقسام الكلام فكذا، والأمر كذا، والنهي كذا وأما العامُّ فكذا... وأما الإجماع فكذا ...الخ، أو لا محل لها من الإعراب استئنافية إن جعلت الواو استئنافية
و(اتفاق) مضاف
(عُلَمَاءِ): مضاف إليه، وهو مضاف أيضا
(أَهْلِ): مضاف إليه، وهو مضاف أيضا
(الْعَصْرِ): مضاف إليه
(عَلَى حُكْمِ): متعلق بـ (اتفاق)، و(حكم) مضاف
(الْحَادِثَةِ): مضاف إليه
(وَ): للاستئناف البياني فإنه لما قال: "اتفاق علماء العصر ...الخ" كأن سائلا سأله: ومن علماء العصر؟ فقال: ونعني بالعلماء كذا.
(نَعْنِي): فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها الثقل، والفاعل مستتر وجوبا تقديره نحن، والجملة استئنافية لا محل لها من الإعراب
(بِالْعُلَمَاءِ) : متعلق بـ (نعني)
(الْفُقَهَاءَ): مفعول به
(وَنَعْنِي بِالْحَادِثَةِ الْحَادِثَةَ): مثل (ونعني بالعلماءِ الفقهاءَ)، و(الحادثةَ) مفعول به وهي مضاف
(الشَّرْعِيَّةَ) : مضاف إليه
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
اقتباس:
(وَنَعْنِي بِالْحَادِثَةِ الْحَادِثَةَ): مثل (ونعني بالعلماءِ الفقهاءَ)، و(الحادثةَ) مفعول به وهي مضاف
(الشَّرْعِيَّةَ) : مضاف إليه
وقع وهم هنا فيما تحته خط باللون الأزرق، نبه عليه بعض الإخوة، والصواب:
(الحادثةَ): مفعول به
(الشرعيةَ): نعت لـ(الحادثةَ) ونعت المنصوب منصوب
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
المعنى
هذا هو الدليل الثالث من أدلة الأحكام الشرعية المتفق عليها وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
والإجماع
في اللغة: يطلق على العزم، والاتفاق:
فأما العزم فمثاله قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71]
قال الإمام الطبري: يقول: إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم، وتذكيري بآيات الله، فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم، فعلى الله اتكالي وبه ثقتي، وهو سَنَدي وظهري = {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ}، يقول: فأعدُّوا أمركم، واعزموا على ما تنوُون عليه في أمري[1].
وأما الاتفاق فمن قولهم: (أجْمَعُوا على كذا): اتفقوا عليه[2]. وهو المناسب للمعنى الاصطلاحي.
الإجماع في الاصطلاح: (اتفاق علماء أهل العصر على حكم الحادثة)
- فلو اختلفوا لم يكن هناك إجماع
- ولو اتفق العَوَامُّ على شيء لم يُعْتَدَّ باتفاقهم.
وفسَّرَ المصنفُ المراد بـ (العلماء) بأنهم الفقهاء يعني لو اتفق غير الفقهاء على شيء لم يكن هو الإجماع المراد هنا كاتفاق النحويين على أن الفاء تفيد التعقيب مثلا.
وفسَّرَ المراد بـ (الحادثة) بأنها الحادثة الشرعية: كحِلِّ البيعِ والنكاح، وحرمة قتل النفس بغير حق
_______________________
[1] تفسيرالطبري 15/ 147 ت. شاكر، ط. مكتبة ابن تيمية.
[2] غاية المأمول في شرح ورقات الأصول للشهاب الرملي 243، والشرح الوسيط على الورقات لعبد الحميد الرفاعي 146.
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
قال المصنف رحمه الله تعالى
وَإِجْمَاعُ هَذِهِ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ دُونَ غَيْرِهَا؛
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ."
وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِعِصْمَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
______________________________ _______
(وَ): استئنافية
(إِجْمَاعُ): مبتدأ، ومضاف
(هَذِهِ): اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر مضاف إليه
(الْأُمَّةِ): بدل أو عطف بيان من اسم الإشارة، وبدل المجرور مجرور مثله
(حُجَّةٌ): خبر
(دُونَ): ظرف مكان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة
وهو مضاف
(غَيْرِهَا): (غير) مضاف إليه
و(غير) مضاف، و(ها) مضاف إليه
(لِقَوْلِهِ):
- اللام تعليلية وهي حرف جر مبني على الكسر لا محل له من الإعراب
- و(قول) مجرور باللام وعلامة جره الكسرة الظاهرة
والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف والتقدير (وذلك كائن لقوله)
فـ(ذلك) مبتدأ و(كائن) خبر وهو متعلَّق الظرف
و(قول) مضاف والضمير (الهاء) مضاف إليه
(صلى الله عليه وسلم):
- (صلى) فعل ماضٍ مبني على فتح مقدر لا محل له من الإعراب
- (الله) اسم الجلالة فاعل
- (عليه) متعلق بـ (صلَّى) والجملة استئنافية لا محل لها من الإعراب
- (وسلَّمَ) معطوفة على جملة (صلى الله عليه)
وقد حذف الفاعل والظرف من الثانية لدلالة الأولى عليهما
والتقدير: (وسلم الله عليه)
("لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ"):
- (لا): نافية
- (تجتمعُ): فعل مضارع مرفوع لأنه لم يسبقْهُ ناصب ولا جازم وعلامة رفعه الضمة الظاهرة
- (أُمَّتِي): (أُمَّة) فاعل مرفوع وعلامة رفعه المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بالكسرة لمناسبة ياء المتكلم
و(أمَّة) مضاف و(ياء المتكلم) مضاف إليه
- (على ضلالة) متعلق بـ (تجتمع).
والجملة في محل نصب مقول القول (لِقَوْلِهِ)
(وَ): استئنافية
(الشَّرْعُ): مبتدأ
(وَرَدَ): فعل ماض، والفاعل مستتر جوازا تقديره هو يعود على (الشرع)
(بِعِصْمَةِ): متعلق بـ (ورد)، و(عصمة) مضاف
(هَذِهِ): مضاف إليه
(الْأُمَّةِ): بدل أو عطف بيان من اسم الإشارة
والجملة من الفعل والفاعل وما تعلق بهما في محل رفع خبر
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
المعنى
لما فرغ من تعريف الإجماع شرع في بيان حجيته
وجمهور المسلمين على أنه حجة شرعية يجب العمل بها.
واستدل المصنف على حجيته بحديث: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وهو حديث ضعيف وله طرق يمكن أن يصل بمجموعها إلى الحسن.
على أن معناه صحيح، بل قيل: إنه من المتواتر المعنوي[1]
وله شواهد تشهد لصحة معناه: منها: حديثُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَنْ يَزَالَ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ»[2].
ومن أدلة صحة الإجماع:
- قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]
- وقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
______________________________
[1] غاية المرام في شرح مقدمة الإمام للتلمساني 2/ 642.
[2] صحيح: متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة رواه البخاري (3640، 7311، 7459) ومسلم (1921) وهو لفظه
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
قال صاحبي
قال: ذكرت أن الإجماع هو اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة
قلت: أجل
قال: وذكرت أن (الاتفاق) يُخْرِجُ الخلافَ
قلت: نعم
قال: أرأيت لو اتفق مائةٌ وخالف واحد هل يَبْطُلُ الإجماعُ بسببه؟
قلت: قبل أن أجيبك أسألك: متى اجتمع مائة مجتهد في عصر واحد؟
قال: ألَمْ يُفَسِّرِ المصنفُ العلماءَ بالفقهاءِ؟
قلت: بلى، ولكن ليس المراد بالفقيه من يحفظ الفروع أو ينقل مذهب إمامه وإنما المراد بالفقهاء المجتهدون منهم
قال: المجتهدون فقط؟
قلت: نعم
قال: لم أكن أعلم هذا ولكن هَبْ أنهم اجتمعوا في عصر واحد فاتفق تسعةٌ وتسعون منهم على حكمٍ وخالف واحدٌ هل يبطل الإجماع أو لا ينعقد بسببه؟
قلت: الراجح أنه إن كان ممن يُعْتَدُّ بخلافه لم ينعقد الإجماع بدونه، وقيل: تَضُرُّ مخالفةُ الاثنين دون الواحد، وقيل: تضر مخالفة الثلاثة دون الواحد والاثنين، وقيل: تضر مخالفتهم إذا بلغوا حد التواتر ولا تضر إن لم يبلغوه[1].
قال: أرأيت لو لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد فقط هل يُعَدُّ قولُهُ إجماعًا؟
قلت: لا
قال: ولِمَ؟
قلت: لأنا ذكرنا أن من شروط الإجماع: (الاتفاق)، وأقل ما يَصْدُقُ به الاتفاقُ اثنان.
قال: تقولُ شروط الإجماع؟
قلت: نعم
قال: وما هي؟
قلت: شروط صحة الإجماع هي:
1- الاتفاق، فلو خالف واحد أو أكثر من المجتهدين لم ينعقد الإجماع
2- أن يكون الاتفاق بين المجتهدين فلا عبرة بالعوام ولا المقلدين
3- أن يكون الاتفاق بين المجتهدين الموجودين في عصر واحد، فلا عبرة بمن مات قبل انعقاد الإجماع ولا بمن سيأتي.
4- أن يكون المُجْمِعُون من المسلمين فلا عبرة بمجتهد كافر
5- أن يكون الإجماع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
6- أن يكون الإجماع على أمر شرعي فلا عبرة بالإجماع على الأمور العقلية أو الدنيوية
قال: ذكرت أن من شروط الإجماع أن يكون بين المجتهدين الموجودين في عصر واحد
قلت:نعم
قال: أرأيت التابعيَّ المجتهدَ الذي أدرك الصحابة هل يعتبرُ قوله معهم؟
قلت: نعم؛ لأنه من علماء أهل العصر
قال: وذكرت أن من شروط الإجماع أن يكون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: نعم
قال: ولِمَ؟
قلت: لأنه صلى الله عليه وسلم إن وافقهم فالحجة في قوله هو، وإن خالفهم فلا اعتبار بقولهم دونه.
قال: فلماذا لا ينعقد الإجماع مع مخالفة واحد فقط؟
قلت: لأنه لو انعقد بدونه لزمه أن يترك ما أداه إليه اجتهادُه وأن يقلد غيره في اجتهاده، وهذا لا يقول به أحد
قال: فهلا انعقد الإجماع في حقهم دونه؟
قلت:هذا محال أيضا.
قال: ولِمَ؟
قلت: لأنه يلزم عليه أن يكون الإجماع دليلا في حق بعض الأمة (وهم المجتهدون المجمعون) وغير دليل في حق بعض الأمة (وهو المجتهد المخالف) وهذا محال أن يكون الشيء دليلا وغير دليل.
قال: وذكرت أن من شروطه أن يكون المجتهدون من المسلمين دون الكفار
قلت: نعم
قال: أرأيت إن كان أحد المجتهدين فاسقا؟
قلت: الراجح اعتبار موافقة المجتهد الفاسق بناء على عدم اعتبار العدالة في الاجتهاد
قال: فلماذا اختص الإجماع بهذه الأمة؟ ولماذا لم يكن إجماع الأمم السابقة حجة أيضا؟
قلت له: ويحك
فنظر إليَّ مقشعرا
فقلت له: أترى إجماع اليهود حجةً وقد أجمعوا على أن النبيَّ المنتظرَ لم يأتِ بعد؟!
فتلعثم وقال: ل ل ل ل لا.
قلت: أترى إجماع النصارى على التثليث حجة؟
فلم ينبس ببنتِ شَفَه، وعلمَ أن الإجماع خاصٌّ بهذه الأمة.
_____________________
[1] غاية المأمول للرملي 246.
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
من مسائل الإجماع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
وَالإجماع حُجَّةٌ عَلَى الْعَصْرِ الثَّانِي وَفِي أَيِّ عَصْرٍ كَانَ.
وَلَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ عَلَى الصَّحِيحِ.
فَإِنْ قُلْنَا: انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطٌ؛ يُعْتَبَرْ قَوْلُ مَنْ وُلِدَ فِي حَيَاتِهِمْ وَتَفَقَّهَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ.
وَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ.
______________________________ ___
(وَ): استئنافية
(الْإِجْمَاعُ): مبتدأ
(حُجَّةٌ): خبر
(عَلَى الْعَصْرِ): متعلق بمحذوف صفة لـ(حجة) أي: حجةٌ كائنةٌ على العصر الثاني
(الثَّانِي): نعت للعصر مجرور وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها الثقل
(وَ): عاطفة
(فِي أَيِّ): معطوف على (على العصر)، و(أيّ) مضاف
(عَصْرٍ): مضاف إليه
(كَانَ): تامة وهي فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب والفاعل مستتر جوازا يعود على (عصر) والجملة من الفعل والفاعل في محل جر صفة لـ(عصر)، أي: والإجماع حجة في أي عصر وُجِدَ، يعني في كل العصور التي توجد إلى يوم القيامة.
(وَ): استئنافية
(لَا): نافية
(يُشْتَرَطُ): فعل مضارع مرفوع لأنه لم يسبقه ناصب ولا جازم وعلامة رفعه الضمة الظاهرة
(انْقِرَاضُ): فاعل، ومضاف
(الْعَصْرِ): مضاف إليه
(عَلَى الصَّحِيحِ): إما أن يقال: إنه متعلق بمحذوف نعت للمصدر المفهوم من قوله: "لا يشترط" أو يقال: إنه متعلق بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف والتقدير على الحالين: (عدم الاشتراط كائن على القول الصحيح)، فـ"كائن" نعت على الأول، وخبر على الثاني، فتأمل.
(فَـ): فاء الفصيحة
(إِنْ): شرطية
(قُلْنَا): (قال) فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بـ (نا) الفاعلِين في محل جزم فعل الشرط، و(نا) ضمير رفع متحرك مبني على السكون في محل رفع فاعل
(انْقِرَاضُ): مبتدأ، ومضاف
(الْعَصْرِ): مضاف إليه
(شَرْطٌ): خبر
والجملة في محل نصب مقول القول
(يُعْتَبَرْ): فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الشرط، وأما بالرفع (يعتبرُ) فعلى إضمار الفاء: (فيعتبرُ)، على رأي الكوفيين، أو على أنه دليلُ الجواب لا نفس الجواب.
(قَوْلُ): فاعل، ومضاف
(مَنْ): اسم موصول مبني على السكون في محل جر مضاف إليه
(وُلِدَ): فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، ونائب الفاعل مستتر جوازا يعود على (مَنْ) وهو العائد، وجملة الفعل ونائب الفاعل لا محل لها من الإعراب صلة الموصول: (مَنْ).
(فِي حَيَاتِهِمْ): متعلق بـ (وُلِدَ)
(وَ): عاطفة
(تَفَقَّهَ): فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، والفاعل مستتر يعود على (مَنْ) والجملة لا محل لها من الإعراب معطوفة على جملة الصلة
(وَ): عاطفة
(صَارَ): فعل ماض ناقص من أخوات كان، واسمه مستتر جوازا يعود على (مَنْ)
(مِنْ أَهْلِ): متعلق بمحذوف خبر (صار)، و(أهل) مضاف
(الِاجْتِهَادِ): مضاف إليه
والجملة لا محل لها من الإعراب معطوفة على جملة الصلة
(وَ): استئنافية
(لَهُمْ): متعلق بمحذوف خبر مقدم
(أَنْ): حرف مصدري ونصب
(يَرْجِعُوا): فعل مضارع منصوب بـ(أنْ) وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، و(واو الجماعة) فاعل. و(أنْ) والفعل (يرجع) في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر
وجملة (يرجعوا) من الفعل والفاعل لا محل لها من الإعراب صلة (أَنْ)
(عَنْ ذَلِكَ): متعلق بـ (يرجع) واللام للبعد والكاف حرف خطاب
(الْحُكْمِ): بدل أو عطف بيان من اسم الإشارة (ذا)
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
وقع سهو في إعراب حرفين مما سبق نبه عليه أحد الإخوة جزاه الله خيرا
الأول- "انقراض" نائب فاعل في قول المصنف: "ولا يُشْتَرَطُ انقراضُ العصر"
الثاني- "قول" نائب فاعل في قول المصنف: "يُعْتَبَرُ قولُ مَنْ وُلِدَ"
وهو سهو ظاهر، لكن لزم التنبيه
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
المعنى
ذكر هنا أن الإجماع إذا انعقد في أي عصر من العصور فإنه يكون حجةً على جميع العصور التي بعده إلى يوم القيامة ولا يجوز لِمَنْ بعدهم مخالفته.
ثم ذكَرَ أنه ليس من شروط صحة الإجماع وحُجِّيَّتِهِ اشتراطُ انقراضِ العصرِ، وموتِ جميعِ المُجْمِعينَ، بل إذا انعقد الإجماع في أي وقت صار حجةً مِنْ وَقْتِ انعقاده إلى يوم القيامة، وهذا هو الصحيح.
وذهب قومٌ إلى اشتراط انقراض العصر وهو قولٌ مرجوحٌ.
ثم ذكر أن من ثمرات هذا الخلاف بيانَ حكم هذه المسألة وهي: أن الإجماع إذا انعقد في عصر من العصور ثم وُلِدَ أحدُ المجتهدين في حياةِ هؤلاء المجمعين وتفقَّهَ وصار مجتهدا مثلهم ثم وافقهم على إجماعهم أو خالفهم هل يُعْتَبَرُ قولُهُ معهم أو لا؟ يعني لو خالفهم هل ينتقض الإجماع بمخالفته؟
فعلى الرأي الراجح عند المصنف وهو عدمُ اشتراطِ انقراض العصر لا يُعتبرُ قولُهُ معهم، وأما على قولِ مَنِ اشترط انقراض العصرِ فإن قولَهُ يكون مُعْتَبَرًا فلو خالفهم انتقض الإجماع بمخالفته؛ إذ إنه مِنْ شروط صحة الإجماع انقراضُ العصر، والعصرُ لم ينقرض بعْدُ فالإجماع لم ينعقدْ بعدُ.
ولهم على القول المرجوح أن يرجعوا عن ذلك الحكمِ الذي أجمعوا عليه
وأما على القول الصحيح فليس لهم الرجوعُ عنه
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
قال صاحبي
قال: لماذا حملت قوله: "حجة على العصر الثاني" على أن المراد به جميع العصور التي بعده؟
قلت: لأن هذا هو المراد، فليس من المعقول أن يكون المراد أن الإجماع إذا انعقد في عصر من العصور فإنه يكون حجة على العصر الثاني الذي يليه ثم تنقطع حجيته فلا يكون حجة على العصر الثالث والرابع ... إلى يوم القيامة.
قال: نعم، هذا صحيح، ولكن ألا ترى أن قوله: "وفي أي عصر كان" تكرارًا لقوله: "حجة على العصر الثاني".
قلت: لا، ليس تكرارا
قال: كيف ذلك؟ ألم تذكر في الإعراب أن قوله: "في أي عصر" معطوف على قوله: "على العصر الثاني"؟
قلت: بلى
قال: وهذا معناه أن تأويل كلام المصنف هكذا: (الإجماع حجةٌ على العصر الثاني وحجةٌ في أيِّ عصرٍ كان)
قلت: نعم، هذا هو تأويلُه.
فقال: متعجبا: كيف لا يكون هذا تكرارا؟!
قلت: عندنا هنا جملتان:
الأولى - (الإجماع حُجَّةٌ على العصر الثاني) وهذه المراد بها بيان حجيته على العصور التي تليه إلى يوم القيامة
الثانية - (الإجماع حُجَّةٌ في أي عصرٍ كان) وهذه المراد بها بيان جواز انعقاد الإجماع في أي عصر كان من العصور وأنه لا يختص بعصر الصحابة فقط كما قيل.
فتفكَّرَ قليلا ثم قال: ياااااه، نعم نعم، أهذا هو المراد؟
قلت: نعم
قال: فالأُولى في بيان حجيته إذا انعقد، والثانية في بيان جواز وقوعه وانعقاده في أي عصر من العصور وأنه يكون حجةً إذا انعقد.
قلت: نعم، هذا هو المقصود
قال: أرأيت قول المصنف: "ولهم أن يرجعوا عن ذلك الحكم" مع تصحيحه سابقا عدم اشتراط انقراض العصر، أليس هذا تناقضا؟
قلت: نعم، ليس تناقضا.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: لأن قوله: "ولهم أن يرجعوا عن ذلك الحكم" إنما هو على القولِ المرجوح الذي يشترط انقراضَ العصرِ فقد ذكر عليه مسألتين وهما:
- اعتبارُ قولِ مَنْ وُلِدَ في حياتهم وصار فقيها مجتهدا مثلهم
- والثانيةُ هذه وهي: أن لهم أن يرجعوا عن ذلك الحكم الذي أجمعوا عليه.
قال: نعم نعم، كأنه ذكر هذه المسألة على قول مَنِ اشترط انقراضَ العصر لا على ما اختاره من عدم اشتراط ذلك
قلت: نعم، هو ذاك
قال: ولكن أليس قولُ مَنِ اشترطَ انقراضَ العصر هو الصحيحُ؟
قلت: ولِمَ؟
قال: لأن من المعقول جدا أن يخالفَ بعضُهُمُ اجتهادَهُ فيرجعَ عنه، فكيف نقولُ: إن الإجماع إذا انعقد لا يجوز نقضُهُ؟! والإجماع لم ينعقدْ إلا بهم ولم ينتقضْ إلا بهم أيضا، فلا بد من انقراض عصرهم حتى يكون أولُ قولِهِمْ وآخرُهُ واحدا على السواء.
قلت: هذا وإن ساعَدَهُ العقلُ، لم يساعدْهُ النَّقْلُ
قال: وكيف ذلك؟
قلت: ألم يسبق حديثُ: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وذكرنا أن معناه متفق عليه بين العلماء بل ذهب بعضهم إلى أنه من المتواتر المعنوي؟
قال: بلى
قلت: فإذا انعقد الإجماع في وقتٍ من الأوقات ثم انتقض فهذا معناه أن الأمةَ قد اجتمعتْ على ضلالة في وقت من الأوقات ثم رجعت عن هذه الضلالة، وهذا خلاف الثابت من عصمة هذه الأمة من الاجتماع على ضلالة.
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
أنواع الإجماع والإجماع السكوتي
قال المصنف:
وَالإجماع يَصِحُّ بِقَوْلِهِمْ وَبِفِعْلِهِمْ. وَبِقَوْلِ الْبَعْضِ وَبِفِعْلِ الْبَعْضِ.
وَانْتِشَارِ ذَلِكَ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ عَنْهُ.
_____________________________
(وَ): استئنافية
(الْإِجْمَاعُ): مبتدأ
(يَصِحُّ): فعل مضارع والفاعل مستتر جوازا يعود على (الإجماع)
والجملة من الفعل والفاعل وما تعلق بهما في محل رفع خبر
وجملة المبتدإ والخبر لا محل لها من الإعراب استئنافية
(بِقَوْلِهِمْ): (بقول) متعلق بـ (يصح)، و(قول) مضاف و(هم) مضاف إليه
(وَ): عاطفة
(بِفِعْلِهِمْ): معطوف على (بقولهم)
(وَ): عاطفة
(بِقَوْلِ): معطوف على (بقولهم)، و(قول) مضاف
(الْبَعْضِ): مضاف إليه
(وَبِفِعْلِ الْبَعْضِ): مثل (بقول البعض) ومعطوفة عليها لا على (بقولهم)
(وَ): عاطفة
(انْتِشَارِ): معطوف على (بقول... وبفعل) لا على أحدهما فقط من حيث المعنى
و(انتشار) مضاف
(ذَلِكَ): (ذا) اسم إشارة مضاف إليه، واللام للبعد والكاف حرف خطاب، والإشارة إلى (قول البعض) و(فعل البعض)
(وَ): عاطفة
(سُكُوتِ): معطوفة على (انتشار)، و(سكوت) مضاف
(الْبَاقِينَ): مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم
(عَنْهُ): متعلق بـ (سكوت)
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
المعنى
ذكر هنا أنواع الإجماع وهي أربعة أنواع:
النوع الأول -الإجماع القولي: بأن يتكلم كل واحد من الفقهاء المجتهدين بذلك الحكم، وهذا يسمَّى: الإجماع الصريح.
النوع الثاني-الإجماع الفعلي: بأن يفعلوا كلهم فعلا واحدا فيدُلّ فعلهم هذا على أن هذا الفعل مأذونٌ فيه إما على أنه مباح أو مندوب أو مكروه.
ومثاله: استعمالهم وسائل النقل الحديثة كالطائرات والسيارات فهذا إجماع فعلي يدل على جواز ركوبها واستعمالها.
وقد قيل إن هذا النوعَ لا يكادُ يتحقق؛ فإن الأمةَ متى فعلتْ شيئا فلابد من متكلم يحكم بذلك الشيء[1].
النوع الثالث -الإجماع المنعقدُ بقول بعض المجتهدين وفعل بعض: مثاله: أن يقول بعض المجتهدين: ركوب الطائرات جائز، ولا يقول الآخرون ذلك لكنهم يركبونها
النوع الرابع-الإجماع السكوتي: وهو أن يقول بعضهم: (حكمُ هذه المسألةِ كذا)، وينتشر هذا القولُ عنهم حتى يَبْلُغَ جميعَ المجتهدين الموجودين في هذا العصر، مع مُضِيِّ مدةٍ يمكنُ فيها النظرُ عادةً، وكونُ المسألة اجتهاديّةٍ تكليفيَّةٍ، وتَجَرُّدُ السكوتِ عن أمارةِ سُخْطٍ أو رِضًا.
______________________________
[1] قرة العين شرح ورقات إمام الحرمين للحطاب الرعيني 140 مطبوع بهامش حاشية الشيخ السوسي على قرة العين، وشرح الورقات لابن الفركاح 269.
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
قال صاحبي
قال: لماذا أعاد الباء في قوله: "بقولهم وبفعلهم"؟
قلت: لأنه لو قال: "والإجماع يصحُّ بقولِهِمْ وفعلِهِم" لأوهمَ أنه لا يصحُّ إلا باجتماعهما
فلما أعاد الباء في (وبفعلهم) قطع هذا الوهمَ وأفاد أنه يصح بكل واحد منهما على انفراده، أي:
- يصح الإجماع بقولهم فقط
- كما يصح بفعلهم فقط.
قال: ذكرتَ أن قوله: "وبفعل البعض" معطوف على قوله: "وبقولِ البعضِ" لا على قوله: "بقولهم"
قلت: نعم
قال: فما وجْهُ ذلك؟
قلت: وجهُهُ: أن المراد: أن الإجماع ينعقد بـ (قول البعض مع فعل البعض الآخر) فالواو للمعية
ولو عطفت على (بقولهم) لانتفت المعية وفسد المعنى.
قال: وكيف يفسد المعنى؟
قلت: يفسد المعنى؛ لأنه يصير هكذا: يصح الإجماع بـ:
(1) قولهم كلِّهم
(2) وفعلِهم كلِّهم
(3) وقولِ البعض فقط لا كلهم دون النظر إلى قول باقيهم أو فعلهم
(4) وفعلِ البعض فقط لا كلهم دون النظر إلى قول باقيهم أو فعلهم.
وهذا فاسد كما ترى؛ لأن الإجماع لا ينعقد إلا باتفاق الجميع.
قال: ذكرتَ أن (انتشارِ) معطوف على (بقول) و(بفعل) لا على أحدهما فقط من حيث المعنى
قلت: نعم
قال: فما وجه ذلك؟
قلت: وجهُهُ:
- أن المعنى على الأول: (يصح الإجماع بقولِ البعض وانتشارِ ذلك القولِ مع سكوت الباقين)
- والمعنى على الثاني (يصح الإجماع بفعلِ البعض وانتشارِ ذلك الفعل مع سكوت الباقين)
قال: قد مثلوا للإجماع الفعليِّ بجمعِ القرآن في المصاحف.
قلت: نعم، ولكن اعترض على ذلك بتقدُّمِ المشورة فيه مِنْ قِبَلِ الصحابة، أي إن القول قد تقدم على الفعل؛ فليس هذا من نوع الإجماع الفعلي.
قال: نعم، ليس منه.
قلت: لكن يمكن أن يقال: إن القول المتقدم لم يكن جازما بل كان مترددا بين الجواز والمنعِ وهذا لا يسمَّى إجماعا.
قال: هذا كلام سليم أيضا، ومعنى هذا أنه مثال صالحٌ للإجماع الفعليِّ
قلت: ربما؛ فإنه قد يُنازَعُ فيه بأن القول كان مترددا بين الجواز والمنع ثم اتفقت أقوالهم على الجواز ففعلوا.
فسكتَ ثم قال: ذكرت أن الإجماع الفعليَّ يدل على أن الفِعْلَ مأذونٌ فيه إما بالإباحة أو الندب أو الكراهة
قلت: بلى
قال: فأين الواجبُ والمحرم؟
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
قال: فأين الواجبُ والمحرم؟
قلت: لا يدلُّ الإجماع الفعليُّ عليهما
قال: ولِمَ؟
قلت: أما المُحَرَّمُ فظاهر
قال: لا، ليس ظاهرا
قلت: ويحك، أفترى أن الأمةَ تُجْمِعُ على فِعْلِ مُحَرَّمٍ؟!
فانتفض وقال: لا لا لا، لا يمكنُ هذا أبدا.
قلت: فالإجماع الفِعْلِيُّ لا يدلُّ على المُحَرَّمِ
قال: نعم نعم، لا يدلُّ عليه
قلت: وأما الواجبُ فلا يدل عليه أيضا؛ لأن الفِعْلَ لا يدلُّ على الطلب الجازم
قال: نعم، صار هذا واضحا أيضا
قال: أرأيت الإجماع السكوتيَّ هل هو حجة؟
قلت: هذا مختلف فيه، والراجح أنه إجماع معتبَرٌ وحجةٌ ويصح الاستدلال به، ولكنه ليس في قوة ما قبله من الأنواع، أي إنه ليس إجماعا قطعيا.
وقيل: إن هذا النوعَ حجةٌ ولكنه ليس إجماعا.
وقيل: ليس حجة ولا إجماعا؛ لأن الأصل أنه لا ينسب لساكتٍ قولٌ.
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
قول الصحابي
قال المصنف:
وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ.
______________________________ _____
(وَ): استئنافية
(قَوْلُ): مبتدأ، ومضاف
(الْوَاحِدِ): مضاف إليه
(مِنَ الصَّحَابَةِ): متعلق بمحذوف حال من (واحد) أي: الواحد حال كونه من الصحابة.
(لَيْسَ): فعل ماض ناقص من أخوات كان مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، واسمها ضمير مستتر جوازا تقديره هو يعود على (قول)
(بِحُجَّةٍ): الباء زائدة، و(حجة) خبر ليس منصوب وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد
وجملة (ليس بحجة) وما تعلق بها في محل رفع خبر المبتدإ (قول)
(عَلَى غَيْرِهِ): متعلق بمحذوف نعت لـ(حجة) أي: ليس بحجةٍ كائنةٍ على غيره، و(غير) مضاف والهاء مضاف إليه
(عَلَى الْقَوْلِ): متعلق بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف والتقدير (وهذا كائن على القول الجديد)
(الْجَدِيدِ): نعت لقول
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
المعنى
تكلم المصنف هنا عن حجية قولِ الصحابي فذكر أنه ليس بحجة على المذهب الجديد للإمام الشافعي، وإن كان حجة في القديم.
والصحابيُّ عند المحدثين: مَنْ رأَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنا به ولو مرة واحدة ومات على ذلك
وأما عند الأصوليين فلا يريدون هذا العموم ولكن يريدون الصحابيَّ الفقيه الذي طالت صحبتُه للنبي صلى الله عليه وسلم واكتسب منه العلمَ والفقه.
والمراد بـ (قول الصحابي) ما يشمل قولَه وفعله وتقريره أيضا.
والمراد بـ (قول الواحد من الصحابة) ما يشمل الاثنين فما فوقهما ما لم يبلغ حدَّ الإجماع
وقول الصحابي على ثلاثة أقسام:
الأول- أن يقول الصحابيُّ قولا ويخالفُه غيرُه من الصحابة فهذا فيه تفصيل:
1- أَنْ يخالفَه مثله: فهذا ليس حجةً اتفاقا، وليس قولُ أحدهما أولى بالأخذ به من قول الآخر، ولا يكون قول أحدهما حجة على غيره من الصحابة ولا على غير الصحابة، لكن لا يُهْمَلُ قولُهما بل يكون الترجيح بينهما بطريقة من طرق الترجيح المعروفة.
2- أن يخالفه من هو أعلم منه: كما إذا خالف الخلفاءُ الراشدون أو بعضُهم غيرَهم من الصحابة: فالشق الذي فيه الخلفاء الراشدون أو بعضُهم يكون أرجح من غيره وأولى بالأخذ به من الشق الآخر.
قال ابن القيم: "فإن كان الأربعة في شق فلا شك أنه الصوابُ،
وإن كان أكثرهم في شق فالصوابُ فيه أغلبُ،
وإن كانوا اثنين واثنين فشِقُّ أبي بكر وعمر أقرب إلى الصواب،
فإن اختلف أبو بكر وعمر فالصواب مع أبي بكر.
وهذه جملة لا يَعْرِفُ تفصيلها إلا من له خبرة واطلاع على ما اختلف فيه الصحابة وعلى الراجح من أقوالهم"[1].
الثاني- أن يقولَ الصحابيُّ قولا وينتشر عنه ولا يوجد له مخالفٌ: فهذا يكون إجماعًا سكوتيا وقد سبق الحديث عنه.
الثالث- أن يقول الصحابيُّ قولا ولم ينتشر عنه ولم يوجد له مخالف أيضا، فهذا اختلف فيه العلماء على قولين:
أولهما-أنه ليس بحجة وهذا هو الذي نسبه المصنف للشافعي في الجديد
وذلك لأن الشارع أمر عند الاختلاف بالرجوع إلى الكتاب والسنة
ولم يرد في شيء من النصوص الرجوع إلى قول الصحابي
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]،
وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
ثانيهما-أن قول الصحابي حجة وإليه ذهب الجمهور وهو القول القديم للشافعي،
واستدلوا على ذلك بأدلة منها حديث: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وهو حديث موضوع كما بينته في تخريج أحاديث المنهاج يسَّرَ اللهُ إتمامه.
___________________________
[1] إعلام الموقعين عن رب العالمين 5/ 546 -547 ت. مشهور حسن آل سلمان ط. دار ابن الجوزي.
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
الأخبار
تعريف الخبر وأقسامه
قال المصنف:
وَأَمَّا الْأَخْبَارُ: فَالخَبَرُ مَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ.
_________________________
(وَ): استئنافية أو عاطفة
(أَمَّا): حرف تفصيل وتوكيد فيه معنى الشرط
(الْأَخْبَارُ): مبتدأ، وهو من جملة الجواب كما علمت سابقا
(فَـ): واقعة في جواب (أما) ومزحلقة عن موضعها والأصل (وأما فالأخبار الخبر ما ...) فزحلقت الفاء عن موضعها إلى جملة الخبر لضرب من إصلاح اللفظ
(الخَبَرُ): مبتدأ
(مَا): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر، وهي واقعة على (المركب الإسنادي) أي: الخبر هو المركب الإسنادي الذي يحتمل الصدق والكذب.
والجملة من المبتدإ والخبر: (الخبر ما يدخله ...) وما تعلق بهما في محل رفع خبر المبتدإ (الأخبار)
والجملة من المبتدإ: (الأخبار) والخبر: (الخبر ما يدخله ... الخ) جواب (أما)
وجواب الشرط الذي نابت عنه (أما) محذوف لدلالة جواب (أما) عليه وهذا مذهب سيبويه
وللفارسي قولان:
أحدهما-مثل مذهب سيبويه
والآخر أن الجواب للشرط وجواب (أما) محذوف
وذهب الأخفش إلى أن الجواب لـ(أما) والشرط جميعا[1].
وجملة (أما الأخبار فالخبر ...) لا محل لها من الإعراب معطوفة على قوله: "فأما أقسام الكلام" أي: فأما أقسام الكلام فكذا، والأمر كذا والنهي كذا وأما العامُّ فكذا... وأما الأخبارُ فكذا ... الخ
هذا إن جعلت الواو عاطفة
فإن جعلتها استئنافية فالجملة استئنافية لا محل لها من الإعراب.
(يَدْخُلُهُ): فعل مضارع والهاء مفعول به
(الصِّدْقُ): فاعل، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول لا محل لها من الإعراب صلة الاسم الموصول: (ما).
(وَ): عاطفة
(الْكَذِبُ): معطوف على (الصدق)
______________________________ __
[1] الجنى الداني في حروف المعاني للمرادي 525 -526.
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
المعنى
شرع المصنف هنا في الكلام على الأخبار، والمقصود الأعظم من هذا الباب هو الكلامُ على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن السنة هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن.
فعرَّفَ المصنفُ:
(الخبر) بأنه: ما يدخله الصدق والكذب
وهذا التعريف يجري على كلام علماء العربية الذين يقسمون الكلام إلى خبر وإنشاء، فالخبرُ ما ذكره المصنف
والإنشاء: ما لا يحتمل الصدق ولا الكذب.
وأما علماء الحديث فإنهم يُعَرِّفُونَ:
(الخبر) باعتباره مرادفا لـ(الحديث) بأنه: ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير أو وصفٍ خِلْقِيٍّ أو خُلُقِيٍّ.
وهذا هو الذي ينقسم إلى متواتر وآحاد.
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
قال صاحبي
قال: ذكرتَ أن الخبرَ هو ما يدخله الصدقُ والكذبُ
قلت: نعم
قال: وكيف ذلك؟!
قلت: وما لي أراك متعجبا لا سائلا؟
قال: كيف يدخل الصدقُ والكذبُ معا في الكلام وهما متنافيان؟!
قلت: كأنك فهمت أن الصدق والكذب يدخلان جميعا في كلامٍ واحدٍ وفي وقت واحد ومن جهة واحدة.
قال: نعم، أليس هذا هو المقصود؟
قلت: نعم، ليس هذا هو المقصود قطعا.
قال: فما المقصودُ إذن؟
قلت: المقصودُ أن الكلام يكون محتملا لأن يدخله الصدق كما يكون محتملا لأن يدخله الكذب
فإذا قلت: (قام زيد) فهذا الكلامُ يَحْتَمِلُ الصدقَ والكذبَ: فإن كان زيد قد قام فعلا فهذا الكلام صِدْقٌ وإلا فهو كذبٌ
قال: قلتَ: إن الكلام يكون محتملا لهما
قلت: نعم
قال: فهل هذا الاحتمال يكون متساويا فيهما أو أن أحدهما أرجح من الآخر
قلت: هذه تُعْرَفُ بالقرائن:
- فقد يكون احتماله للصدق والكذبِ متساويا إذا كان القائلُ مجهولا
- وقد يكون الصدقُ راجحا إذا كان قائلُه عَدْلًا
- وقد يكون الكذب راجحا إذا كان قائلُهُ فاسقا.
قال: تقولُ: إن احتمالَهُ للصدق والكذب يكون متساويا إذا كان قائلُه مجهولا!
قلت: نعم
قال: فإذا كان هذا صحيحا فلماذا لا نقبل روايةَ المجهولِ؟ ولماذا نَرُدُّ الحديثَ المُرْسلَ؟
قلت: نردهما خوفا من أن يكونا كذابيْنِ
قال: ولكن قد يكونا صادِقَيْنِ
قلت: نعم، قد يكون هذا؛
ولهذا فنحن لا نكذبُهما بل نجعلهما من باب الضعيف الذي يمكن أن يتقوَّى بغيره
كما في المرسل إذا كان من مراسيل كبار التابعين وجاء من أكثر من طريق إلى آخر شروطه
وهذه الشروط إنما وضعت لتكون قرائنَ على أن الراوي المجهولَ في المرسَلِ غيرُ كذابٍ
وكذلك الأمر في رواية المجهولِ الحال وهو المستور
أما المجهول العين فمن باب الضعف الشديد كما تعلم.
قال: فلماذا عرَّفَ المصنفُ الخبرَ بتعريف أهل اللغة ولم يُعَرِّفْهُ بتعريف المُحَدِّثينَ إذا كان المقصود هو الكلام على السنة باعتبارها المصدر الثاني للتشريع؟
قلت: لِيُبَيِّنُ لكَ ما ذكرتُهُ آنفا
قال: وكيف ذلك؟ لا أفهمُ مرادك
قلت: اعلم أولا أن من الأخبار ما لا يحتمل إلا الصدقَ كخبر الله تعالى وخبرِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، ومنه المعلوم بالضرورة كقولنا: السماء فوقنا والأرض تحتنا والنارُ حارة ونحو ذلك
قال: نعم
قلت: ومن الأخبار ما لا يحتمل إلا الكذب كما إذا قيل: الواحد نصفُ الخمسة، والنقيضان يجتمعان ونحو ذلك.
قال: نعم
قلت: ومن الأخبار ما يكون محتملا لهما إما مساويا أو برجحان أحدهما كما سبق
قال: نعم
قلت: فالمصنف يُمَهِّدُ بهذا ليقولَ: إن من الأخبار المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم:
- ما لا يحتمل إلا الصدق كالخبر المتواتر
-وما لا يحتمل إلا الكذب كالحديث الموضوع الذي في رواته كذاب
- والمحتمل للقبولِ والرَّدِ وهو الضعيف الذي ضعفه غيرُ شديد.
قال: ذكرت أن علماء الحديث يجعلون (الخبر) مرادفا لـ(الحديث)
قلت: نعم
قال: فهل هم متفقون على هذا
قلت: هذا هو الراجح ولكن بعضهم يجعل (الخبر) أعم من (الحديث) فكل (حديثٍ) (خبرٌ) ولا ينعكس.
وقيل: (الحديث) ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم،
و(الخبرُ) ما نقل عن غيره؛
فلهذا يقال لمن يشتغل بالتاريخ: إخباريّ
ولمن يشتغل بالحديث: مُحَدِّث
وللمبتديء في طلب الحديث: حديثي.
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
تقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد
قال المصنف:
وَالْخَبَرُ يَنْقَسِمُ إِلَى: آحَادٍ وَمُتَوَاتِرٍ.
___________________________
(وَ): استئنافية
(الْخَبَرُ): مبتدأ
(يَنْقَسِمُ): فعل مضارع والفاعل مستتر جوازا يعود على (الخبر)
والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر
وجملة المبتدإ والخبر لا محل لها من الإعراب استئنافية
(إِلَى آحَادٍ): متعلق بـ (ينقسم)
(وَ): عاطفة
(مُتَوَاتِرٍ): معطوف على (آحاد)
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
المتـــــواتـــ ــر
قال المصنف:
فَالْمُتَوَاتِر ُ: مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ؛ وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَ جَمَاعَةٌ لَا يَقَعُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ مِنْ مِثْلِهِمْ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَيَكُونُ فِي الْأَصْلِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ، لَا عَنِ اجْتِهَادٍ.
الآحـــــــاد
قال المصنف:
وَالْآحَادُ: هُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ.
وَيَنْقَسِمُ إِلَى: مُرْسَلٍ وَمُسْنَدٍ.
________________________
(فَـ): فاء الفصيحة
(الْمُتَوَاتِرُ) : مبتدأ
(مَا): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر، وهي واقعة على (الخبر) أي أن المتواترَ هو الخبرُ الذي يوجبُ العلمَ.
(يُوجِبُ): فعل مضارع والفاعل ضمير مستتر يعود على (ما)
(الْعِلْمَ): مفعول به
والجملة من الفعل والفاعل والمفعول لا محل لها من الإعراب صلة (ما)
(وَ): استئنافية
(هُوَ): مبتدأ
(أَنْ): حرف مصدري ونصب
(يَرْوِيَ): فعل مضارع منصوب بـ (أنْ) وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة
و(أن) والفعل في تأويل مصدر تقديره (رواية) في محل رفع خبر
(جَمَاعَةٌ): فاعل
والجملة من الفعل والفاعل وما تعلق بهما لا محل لها من الإعراب صلة (أَنْ)
(لَا): نافية
(يَقَعُ): فعل مضارع
(التَّوَاطُؤُ): فاعل
والجملة من الفعل والفاعل وما تعلق بهما في محل رفع نعت لـ(جماعة)
(عَلَى الْكَذِبِ): متعلق بـ (التواطؤ)
(مِنْ مِثْلِهِمْ): متعلق بـ (يقع)
وفي بعض النسخ (عن مثلهم) فهو متعلق بـ (يرويَ)
و(مثل) مضاف و(هم) مضاف إليه وهو العائد على الموصوف: (جماعة)، وأما على نسخة (عن مثلهم) فالعائد محذوف تقديره: (منهم) أي: (لا يقع التواطؤ منهم على الكذب)
(إِلَى): حرف جر مبني على السكون لا محل له من الإعراب
(أَنْ): حرف مصدري ونصب
(يَنْتَهِيَ): فعل مضارع منصوب بـ (أن) وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة
والفاعل مستتر يأتي الكلام عليه قريبا.
و(أنْ) والفعل في تأويل مصدر تقديره (الانتهاء) مجرور بـ (إلى) وعلامة جره الكسرة الظاهرة
والجار والمجرور متعلقان بمحذوف مفهوم من السياق والتقدير: (وتستمر الروايةُ هكذا إلى أن تنتهيَ إلى المخبَر عنه)
وذَكَّرَ الفعل: (ينتهي) على المعنى لأن (الرواية) (خبرٌ) فالمراد إلى أن ينتهيَ الخبرُ إلى المخبر عنه.
(إِلَى الْمُخْبَرِ): متعلق بـ (ينتهي)
(عَنْهُ): متعلق بـ (المخبَر)
(وَ): استئنافية
(يَكُونُ): فعل مضارع من (كان) الناقصة، مرفوع لأنه لم يسبقه ناصب ولا جازم، واسمه ضمير مستتر يعود على (المتواتر).
ووقع في نسخة ابن قاسم (فيكون) بالفاء وجرى شرحه على أنها فاء الفصيحة ثم جوَّزَ كونها عاطفة فقال: "ويجوز أن يجعل الفاء في قوله: (فيكون) لمجرد العطف على قوله: (ينتهيَ) فيستغني عن تكلف ما يتفرع عليه"[1].
(فِي الْأَصْلِ): متعلق بـ (يكون)، أي ويكون في الأصل حاصلا عن مشاهدة.
والمراد بـ (الأصل) أصل السند وهو الطبقة الأولى منه
(عَنْ مُشَاهَدَةٍ): متعلق بمحذوف خبر (يكون)، والجملة استئنافية لا محل لها من الإعراب
(أَوْ): عاطفة
(سَمَاعٍ): معطوف على (مشاهدة)
(لَا): عاطفة
(عَنِ اجْتِهَادٍ): معطوف على (عن مشاهدة)
وشروط العطف بـ (لا) ثلاثة:
1- أن يتقدمها إثبات نحو: جاء زيد لا عمرو
2- ألا تقترن بعاطف فإذا قيل: (جاءني زيد لا بل عمرو) فالعاطف (بل) و(لا) رَدٌّ لما قبلها
3- أن يتعاند متعاطفاها أي لا يَصْدُقُ أحدهما على الآخر فلا يجوز (جاءني رجلٌ لا زيدٌ) لأن (رجل) يصدق على (زيد) ويجوز (جاءني رجل لا امرأة)
(وَ): استئنافية
(الْآحَادُ): مبتدأ
(هُوَ): ضمير فصل
(الَّذِي): خبر
(يُوجِبُ الْعَمَلَ): فعل وفاعل ومفعول
والجملة لا محل لها صلة (الذي)
(وَ): عاطفة
(لَا): نافية
(يُوجِبُ الْعِلْمَ): فعل وفاعل ومفعول
والجملة لا محل لها من الإعراب معطوفة على جملة الصلة
(وَ): استئنافية
(يَنْقَسِمُ): فعل مضارع، والفاعل مستتر يعود على (الآحاد)
(إِلَى مُرْسَلٍ): متعلق بـ (ينقسم)
(وَ): عاطفة
(مُسْنَدٍ): معطوف على (مرسل)
_________________________
[1] الشرح الكبير على الورقات لابن قاسم 2/ 402 ت. سيد عبد العزيز وعبد الله ربيع.
-
رد: تذليل العقبات بإعراب الورقات
المسند
قال المصنف:
فَالْمُسْنَدُ: مَا اتَّصَلَ إِسْنَادُهُ.
المرسل وحجيته
قال المصنف:
وَالْمُرْسَلُ: مَا لَمْ يَتَّصِلْ إِسْنَادُهُ. فَإِنْ كَانَ مِنْ مَرَاسِيلِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، إِلَّا مَرَاسِيلَ سَعِيدِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ؛ فَإِنَّهَا فُتِّشَتْ فَوُجِدَتْ مَسَانِيدَ.
______________________________ ___
(فَـ): فاء الفصيحة، أي فإذا أردت أن تعرف المسند فالمسند ...الخ
(الْمُسْنَدُ): مبتدأ
(مَا): خبر
(اتَّصَلَ): فعل ماض
(إِسْنَادُهُ): فاعل
و(إسناد) مضاف و(الهاء) مضاف إليه
والجملة من الفعل والفاعل وما تعلق بهما لا محل لها من الإعراب صلة (ما)
(وَ): استئنافية
(الْمُرْسَلُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ إِسْنَادُهُ): مثل (المسند ما اتصل إسناده) إلا أن (لم) حرف نفي وجزم وقلب، و(يتصل) مضارع مجزوم بها
(فَـ): فاء الفصيحة
(إِنْ): شرطية
(كَانَ): فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمها ضمير مستتر يعود على (المرسل)
(مِنْ مَرَاسِيلِ): متعلق بمحذوف خبر (كان)
و(مراسيل) مضاف
(غَيْرِ): مضاف إليه
و(غير) مضاف أيضا
(الصَّحَابَةِ): مضاف إليه
(فَـ): واقعة في جواب الشرط
(لَيْسَ): فعل ماض ناقص مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، واسمه ضمير مستتر يعود على (المرسل)
(بِحُجَّةٍ): الباء زائدة في خبر ليس
و(حجة) خبر (ليس) مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد
(إِلَّا): أداة استثناء
(مَرَاسِيلَ): منصوب على الاستثناء، وهو مضاف
(سَعِيدِ): مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة
(بْنِ): نعت لـ(سعيد) ونعت المجرور مجرورٌ مثله، و(ابن) مضاف
(الْمُسَيَّبِ): مضاف إليه
(فَـ): تعليلية
(إِنَّهَا): إنَّ واسمها
(فُتِّشَتْ): فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، والتاء تاء التأنيث الساكنة حرف مبني على السكون لا محل له من الإعراب، ونائب الفاعل ضمير مستتر جوازا يعود على (مراسيل)
وجملة (فتشت) من الفعل ونائب الفاعل وما تعلق بهما في محل رفع خبر (إن)
(فَـ): عاطفة
(وُجِدَتْ): مثل (فتشت) ومعطوفة عليها، ونائب الفاعل هو المفعول الأول لـ(وُجِد)
(مَسَانِيدَ): مفعول ثان لـ(وجد) وتُرِكَ تنوينُه لأنه ممنوع من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع