الدرس السابع والثلاثون
مراسلة النبي ﷺ ملوك العالم يدعوهم إلى الإسلام
وبعدما رجع النبي ﷺ من الحديبية، وقد عاهد قريشًا على وضع القتال بينهما لمدة عشر سنوات، مما أتاح له التفرغ التام للدعوة، بدأ رسول الله ﷺ في مراسلة ملوك العالم ودعوتهم إلى الإسلام، فكتب رسول الله ﷺ إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي هاجر إليه الصحابة ﭫ.
ولما أرسل النبي ﷺ كتابه إلى هرقل عظيم الروم، ووصله كتاب رسول الله ﷺ أرسل هِرَقْلُ إلى أبي سفيان بن حرب - وكان لا يزال على الشرك - في ركب من قريش، وكانوا تُجَّارًا بالشام، فأتوه، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبًا، فقال: أَدْنُوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه.
قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء مِنْ أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من مَلِك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يَغْدِرُ؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة، فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله، لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من ابائه من ملك فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سَخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يَغْدِرُ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تَغْدِر، وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه [معناه: لتكلفت الوصول إليه وارتكبت المشقة في ذلك]، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه، ثم دعا بكتاب رسول الله ﷺ الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل، فقرأه فإذا فيه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ [هم الفلاحون والأتباع]، و ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)﴾ [آل عمران: 64]».
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وَأُخْرِجْنَا، فقلت لأصحابي حين أُخْرِجْنَا: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ؛ إنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام.
وبعث النبي ﷺ بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فدعا عليهم رسول الله ﷺ أن يُمَزَّقوا كل ممزق.