-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (76)
صـ401 إلى صـ 412
فصل
ويبقى النظر في مسألة لها تعلق بهذا الموضع ، وهي مسألة هبة الثواب ، وفيها نظر .
[ ص: 401 ] فللمانع أن يمنع ذلك من وجهين :
أحدهما : أن الهبة إنما صحت في الشريعة في شيء مخصوص ، وهو المال ، وأما في ثواب الأعمال ; فلا ، وإذا لم يكن لها دليل ; فلا يصح القول بها .
والثاني : أن الثواب والعقاب من جهة وضع الشارع كالمسببات بالنسبة إلى الأسباب ، وقد نطق بذلك القرآن ; كقوله تعالى : تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات [ النساء : 13 ] .
ثم قال : ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [ النساء : 14 ] ، وقوله : جزاء بما كانوا يعملون [ الأحقاف : 14 ] .
[ ص: 402 ] ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ النحل : 32 ] .
وهو كثير .
وهذا أيضا كالتوابع بالنسبة إلى المتبوعات ; كاستباحة الانتفاع بالمبيع مع عقد البيع ، واستباحة البضع مع عقد النكاح ; فلا خيرة للمكلف فيه ، هذا مع أنه مجرد تفضل من الله تعالى على العامل ، وإذا كان كذلك ; اقتضى أن الثواب والعقاب ليس للعامل فيه نظر ولا اختيار ، ولا في يده منه شيء ، فإذا لا يصح فيه تصرف ; لأن التصرف من توابع الملك الاختياري ، وليس في الجزاء ذلك ; فلا يصح للعامل تصرف فيما لا يملك ، كما لا يصح لغيره .
وللمجيز أن يستدل أيضا من وجهين :
أحدهما : أن أدلته من الشرع هي الأدلة على جواز الهبة في الأموال وتوابعها ; إما أن تدخل تحت عمومها أو إطلاقها ، وإما بالقياس عليها ; لأن كل واحد من المال والثواب عوض مقدر ، فكما جاز في أحدهما جاز في الآخر ، وقد تقدم في الصدقة عن الغير أنها هبة الثواب ، لا يصح فيها غير ذلك ، فإذا كان كذلك ; صح وجود الدليل ، فلم يبق للمنع وجه .
والثاني : أن كون الجزاء مع الأعمال كالمسببات مع الأسباب ، وكالتوابع مع المتبوعات ، يقضي بصحة الملك لهذا العامل ; كما يصح في الأمور الدنيوية ، وإذا ثبت الملك صح التصرف بالهبة .
لا يقال : إن الثواب لا يملك كما يملك المال ; لأنه إما أن يكون في الدار [ ص: 403 ] الآخرة فقط ، وهو النعيم الحاصل هنالك والآن لم يملك منه شيئا ، وإما أن يملك هنا منه شيئا حسبما اقتضاه قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ النحل : 97 ] الآية ; فذلك بمعنى الجزاء في الآخرة ، أي أنه ينال في الدنيا طيب عيش من غير كدر مؤثر في طيب عيشه ، كما ينال في الآخرة أيضا النعيم الدائم ، فليس له أمر يملكه الآن حتى تصح هبته ، وإنما ذلك في الأموال التي يصح حوزها وملكها الآن .
لأنا نقول : هو وإن لم يملك نفس الجزاء ; فقد كتب له في غالب الظن عند الله تعالى ، واستقر له ملكا بالتمليك ، وإن لم يحزه الآن ، ولا يلزم من الملك الحوز ، وإذا صح مثل هذا في المال ، وصح التصرف فيه بالهبة وغيرها ; صح فيما نحن فيه ; فقد يقول القائل : ما ورثته من فلان فقد وهبته لفلان ، ويقول : إن اشترى لي وكيلي عبدا ، فهو حر أو هبة لأخي ، وما أشبه ذلك وإن لم يحصل شيء من ذلك ، في حوزه وكما يصح هذا التصرف فيما بيد الوكيل فعله ، وإن لم يعلم به الموكل ، فضلا عن أن يحوزه من يد الوكيل ; يصح أيضا التصرف بمثله فيما هو بيد الله الذي هو على كل شيء وكيل ; فقد وضح إذا مغزى النظر في هبة الثواب ، والله الموفق للصواب .
[ ص: 404 ] المسألة الثامنة
من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها ، والدليل على ذلك واضح ؛ كقوله تعالى : إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون [ المعارج : 22 - 23 ] .
وقوله : يقيمون الصلاة [ البقرة : 3 ] .
وإقام الصلاة بمعنى الدوام عليها بهذا فسرت الإقامة حيث ذكرت مضافة إلى الصلاة ، وجاء هذا كله في معرض المدح ، وهو دليل على قصد الشارع إليه ، وجاء الأمر به صريحا في مواضع كثيرة ; كقوله : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 83 ] .
وفي الحديث : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل .
وقال : خذوا من العمل ما تطيقون ; فإن الله لن يمل حتى تملوا .
[ ص: 405 ] وكان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته ، وكان عمله ديمة .
وأيضا ; فإن في توقيت الشارع وظائف العبادات ; من مفروضات ومسنونات ، ومستحبات في أوقات معلومة الأسباب ظاهرة ولغير أسباب ; ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال ، وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا : فما رعوها حق رعايتها [ الحديد : 27 ] ، إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار .
فصل
فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات ، وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق ، لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم ; فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب ، فمن حقه أن لا ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله فيه ، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أم لا ؟ فإن المشقة التي تدخل على المكلف من وجهين :
أحدهما : من جهة شدة التكليف في نفسه ، بكثرته أو ثقله في نفسه .
والثاني : من جهة المداومة عليه وإن كان في نفسه خفيفا .
وحسبك من ذلك الصلاة ; فإنها من جهة حقيقتها خفيفة ، فإذا انضم إليها معنى المداومة ثقلت ، والشاهد لذلك قوله تعالى : [ ص: 406 ] واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] ; فجعلها كبيرة حتى قرن بها الأمر بالصبر ، واستثني الخاشعين فلم تكن عليهم كبيرة ; لأجل ما وصفهم به من الخوف الذي هو سائق ، والرجاء الذي هو حاد ، وذلك ما تضمنه قوله : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [ البقرة : 46 ] الآية ، فإن الخوف والرجاء يسهلان الصعب ، فإن الخائف من الأسد يسهل عليه تعب الفرار ، والراجي لنيل مرغوبه يقصر عليه الطويل من المسافة ، ولأجل الدخول في الفعل على قصد الاستمرار وضعت التكاليف على التوسط وأسقط الحرج ، ونهي عن التشديد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : إن هذا الدين متين ; فأوغل فيه برفق ، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ; فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، وقال : من يشاد هذا الدين يغلبه ، وهذا يشمل التشديد بالدوام ، كما يشمل التشديد بأنفس الأعمال ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة .
المسألة التاسعة
الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة ، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض ، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة ، والدليل على ذلك - مع أنه واضح - أمور :
أحدها : النصوص المتضافرة ; كقوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [ سبأ : 28 ] .
وقوله : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] .
وقوله عليه الصلاة والسلام : بعثت إلى الأحمر والأسود .
[ ص: 408 ] وأشباه هذه النصوص مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة ، ولو كان بعض الناس مختصا بما لم يخص به غيره ; لم يكن مرسلا للناس جميعا ; إذ يصدق على من لم يكلف بذلك الحكم الخاص أنه لم يرسل إليه به ; فلا يكون مرسلا بذلك الحكم الخاص إلى الناس جميعا ، وذلك باطل ، فما أدى إليه مثله بخلاف الصبيان والمجانين ونحوهم ممن ليس بمكلف ، فإنه لم يرسل إليه بإطلاق ، ولا هو داخل تحت الناس المذكورين في القرآن ، فلا اعتراض به ، وما تعلق بأفعالهم من الأحكام المنسوبة إلى خطاب الوضع ; فظاهر الأمر فيه .
والثاني : أن الأحكام إذا كانت موضوعة لمصالح العباد ; فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح مرآة ، فلو وضعت على الخصوص ; لم تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق ، لكنها كذلك حسبما تقدم في موضعه ; فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص ، وإنما يستثنى من هذا ما كان اختصاصا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; كقوله : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ، إلى قوله : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] .
[ ص: 409 ] وقوله : ترجي من تشاء منهن [ الأحزاب : 51 ] الآية .
وما أشبه ذلك مما ثبت فيه الاختصاص به بالدليل ، ويرجع إلى هذا ما خص هو به بعض أصحابه كشهادة خزيمة ; فإنه راجع إليه عليه الصلاة والسلام أو غير راجع إليه ; كاختصاص أبي بردة بن نيار بالتضحية بالعناق [ ص: 410 ] الجذعة ، وخصه بذلك بقوله : ولن تجزئ عن أحد بعدك ; فهذا لا نظر فيه ، إذ هو راجع إلى جهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأجله وقع النص على الاختصاص في مواضعه إعلاما بأن الأحكام الشرعية خارجة عن قانون الاختصاص .
والثالث : إجماع العلماء المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، ولذلك صيروا أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة للجميع في أمثالها ، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم ; إما بالقياس ، أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي ، أو غير ذلك من المحاولات ، بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصا به ، وقد قال تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 37 ] ; [ ص: 411 ] فقرر الحكم في مخصوص ليكون عاما في الناس ، وتقرر صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد ، لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة .
والرابع : أنه لو جاز خطاب البعض ببعض الأحكام حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس ; لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها ، وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر ، وهذا باطل ، فما لزم عنه مثله ، ولا أعني بذلك ما كان نحو الولايات وأشباهها ; من القضاء ، والإمامة ، والشهادة ، والفتيا في النوازل ، والعرافة ، والنقابة ، والكتابة ، والتعليم للعلوم وغيرها ; فإن هذه الأشياء راجعة إلى النظر في شرط التكليف بها ، وجامع الشروط في التكليف القدرة على المكلف به ; فالقادر على القيام بهذه الوظائف مكلف بها على الإطلاق والعموم ، ومن لا يقدر على ذلك سقط التكليف عنه بإطلاق ، كالأطفال والمجانين بالنسبة إلى الطهارة والصلاة ونحوها ; فالتكليف عام لا خاص ، [ ص: 412 ] [ وبسقوطه أيضا عام لا خاص ] من جهة القدرة أو عدمها لا من جهة أخرى ، بناء على منع التكليف بما لا يطاق ، وكذلك الأمر في كل ما كان موهما للخطاب الخاص ; كمراتب الإيغال في الأعمال ، ومراتب الاحتياط على الدين ، وغير ذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (77)
صـ413 إلى صـ 438
فصل
وهذا الأصل يتضمن فوائد عظيمة :
منها : أنه يعطى قوة عظيمة في إثبات القياس على منكريه ، من جهة أن الخطاب الخاص ببعض الناس والحكم الخاص كان واقعا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ، ولم يؤت فيها بدليل عام يعم أمثالها من الوقائع ; فلا يصح مع العلم بأن الشريعة موضوعة على العموم والإطلاق - إلا أن يكون الخصوص الواقع غير مراد ، وليس في القضية لفظ يستند إليه في إلحاق غير المذكور بالمذكور ، فأرشدنا ذلك إلى أنه لا بد في كل واقعة وقعت إذ ذاك أن يلحق بها ما في معناها ، وهو معنى القياس ، وتأيد بعمل الصحابة رضي الله عنهم ، فانشرح الصدر لقبوله ، ولعل هذا يبسط في كتاب الأدلة بعد هذا إن شاء الله .
ومنها : أن كثيرا ممن لم يتحقق بفهم مقاصد الشريعة يظن أن الصوفية جرت على طريقة غير طريقة الجمهور ، وأنهم امتازوا بأحكام غير الأحكام المبثوثة في الشريعة ، مستدلين على ذلك بأمور من أقوالهم وأفعالهم ، ويرشحون ذلك بما يحكى عن بعضهم أنه سئل عما يجب في زكاة كذا ; [ ص: 413 ] فقال : على مذهبنا أو على مذهبكم ؟ ثم قال : أما على مذهبنا ; فالكل لله ، وأما على مذهبكم ، فكذا وكذا ، وعند ذلك افترق الناس فيهم ، فمن مصدق بهذا الظاهر ، مصرح بأن الصوفية اختصت بشريعة خاصة هي أعلى مما بث في الجمهور ، ومن مكذب ومشنع يحمل عليهم وينسبهم إلى الخروج عن الطريقة المثلى والمخالفة للسنة ، وكلا الفريقين في طرف وكل مكلف داخل تحت أحكام الشريعة المبثوثة في الخلق ، كما تبين آنفا ، ولكن روح المسألة الفقه في الشريعة ، حتى يتبين ذلك ، والله المستعان .
ومن ذلك أن كثيرا يتوهمون أن الصوفية أبيح لهم أشياء لم تبح لغيرهم ; لأنهم ترقوا عن رتبة العوام المنهمكين في الشهوات إلى رتبة الملائكة الذين سلبوا الاتصاف بطلبها والميل إليها ; فاستجازوا لمن ارتسم في طريقتهم إباحة بعض الممنوعات في الشرع بناء على اختصاصهم عن الجمهور ; فقد ذكر نحو هذا في سماع الغناء وإن قلنا بالنهي عنه ، كما أن من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام من استباح شرب الخمر بناء على قصد التداوي بها ، واستجلاب النشاط في الطاعة ، لا على قصد التلهي ، وهذا باب فتحته الزنادقة بقولهم : إن [ ص: 414 ] التكليف خاص بالعوام ساقط عن الخواص ، وأصل هذا كله إهمال النظر في الأصل المتقدم ; فليعتن به ، وبالله التوفيق .
[ ص: 415 ] المسألة العاشرة
كما أن الأحكام والتكليفات عامة في جميع المكلفين على حسب ما كانت بالنسبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما خص به ، كذلك المزايا والمناقب ; فما من مزية أعطيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى ما وقع استثناؤه إلا وقد أعطيت أمته منها أنموذجا ; فهي عامة كعموم التكاليف ، بل قد زعم ابن العربي أن سنة الله [ ص: 416 ] جرت أنه إذ أعطى الله نبيا شيئا أعطى أمته منه ، وأشركهم معه فيه ، ثم ذكر من ذلك أمثلة .
وما قاله يظهر في هذه الملة بالاستقراء .
أما أولا ; فالوراثة العامة في الاستخلاف على الأحكام المستنبطة ، وقد كان من الجائز أن تتعبد الأمة بالوقوف عندما حد من غير استنباط ، وكانت تكفي العمومات والإطلاق حسبما قاله الأصوليون ، ولكن الله من على العباد بالخصوصية التي خص بها نبيه عليه الصلاة والسلام ; إذ قال تعالى : لتحكم بين الناس بما أراك الله [ النساء : 105 ] .
وقال في الأمة : لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ النساء : 83 ] .
وهذا واضح ; فلا نطول به .
وأما ثانيا ; فقد ظهر ذلك من مواضع كثيرة ، نقتصر منها على ثلاثين وجها :
أحدها : الصلاة من الله تعالى ; فقال تعالى في النبي عليه الصلاة والسلام : إن الله وملائكته يصلون على النبي [ الأحزاب : 56 ] الآية .
وقال في الأمة : هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور [ الأحزاب : 43 ] الآية .
[ ص: 417 ] وقال : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة [ البقرة : 157 ] .
والثاني : الإعطاء إلى الإرضاء ، قال تعالى في النبي : ولسوف يعطيك ربك فترضى [ الضحى : 5 ] .
وقال في الأمة : ليدخلنهم مدخلا يرضونه [ الحج : 59 ] .
وقال : رضي الله عنهم ورضوا عنه [ المائدة : 119 ] .
والثالث : غفران ما تقدم وما تأخر ، قال تعالى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ الفتح : 2 ] .
وفي الأمة ما روي أن الآية لما نزلت قال الصحابة : هنيئا مريئا ; فما لنا ؟ فنزل : ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم [ الفتح : 5 ] ; فعم ما تقدم وما تأخر .
[ ص: 418 ] وفي الآية الأولى إتمام النعمة في قوله : ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما [ الفتح : 2 ] .
وقال في الأمة : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم [ المائدة : 6 ] الآية .
وهو الوجه الرابع .
[ ص: 419 ] والخامس : الوحي وهو النبوة ، قال تعالى : إنا أوحينا إليك [ النساء : 163 ] ، وسائر ما في هذا المعنى ، ولا يحتاج إلى شاهد ، وفي الأمة : الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .
[ ص: 420 ] والسادس : نزول القرآن على وفق المراد ; قال تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء [ البقرة : 144 ] ; فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب أن يرد إلى الكعبة ، وقال تعالى أيضا : ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء [ الأحزاب : 51 ] ; لما كان قد حبب إليه النساء فلم يوقف فيهن على عدد معلوم .
وفي الأمة قال عمر : " وافقت ربي في ثلاث " . قلت : يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ البقرة : 125 ] [ ص: 421 ] وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب . قال : وبلغني معاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه ; فدخلت عليهن فقلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن . فأنزل الله : عسى ربه إن طلقكن [ التحريم : 5 ] الآية .
وحديث التي ظاهر منها زوجها فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن زوجي ظاهر مني ، وقد طالت صحبتي معه ، وقد ولدت له أولادا ; فقال عليه الصلاة والسلام : " قد حرمت عليه " . فرفعت رأسها إلى السماء ; فقالت : إلى الله أشكو حاجتي إليه . ثم عادت ، فأجابها ، ثم ذهبت لتعيد الثالثة ; فأنزل الله : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها [ المجادلة : 1 ] الآية .
[ ص: 422 ] ومن هذا كثير لمن تتبع .
ونزلت براءة عائشة - رضي الله عنها - من الإفك على وفق ما أرادت ; إذ قالت : وأنا حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما ظننت أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها .
[ ص: 423 ] وقال هلال بن أمية : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد . فنزل : والذين يرمون أزواجهم [ النور : 6 ] الآية ، وهذا خاص بزمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لانقطاع الوحي بانقطاعه .
والسابع : الشفاعة ; قال تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] .
وقد ثبتت شفاعة هذه الأمة ; كقوله عليه الصلاة والسلام في أويس : يشفع في مثل ربيعة ومضر .
[ ص: 424 ] " أئمتكم شفعاؤكم " ، وغير ذلك .
[ ص: 425 ] والثامن : شرح الصدر ; قال تعالى : ألم نشرح لك صدرك [ الشرح : 1 ] الآية .
وقال في الأمة : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه [ الزمر : 22 ] .
والتاسع : الاختصاص بالمحبة ; لأن محمدا حبيب الله ، ثبت ذلك في الحديث ; إذ خرج عليه الصلاة والسلام ، ونفر من أصحابه يتذاكرون ; فقال بعضهم : عجبا إن الله اتخذ من خلقه خليلا ، وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى ، كلمه الله تكليما ، وقال آخر : فعيسى كلمة الله وروحه . وقال آخر : آدم اصطفاه الله . فخرج عليهم فسلم وقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم ، إن الله اتخذ إبراهيم خليلا ، وهو كذلك ، وموسى نجي الله وهو كذلك ، وعيسى روح الله وهو كذلك ، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع وأنا أول مشفع ولا فخر ، [ ص: 426 ] وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر .
وفي الأمة : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه [ المائدة : 54 ] الآية .
وجاء في هذا الحديث أنه أول من يدخل الجنة وأن أمته كذلك ، وهو العاشر .
وأنه أكرم الأولين والآخرين ، وقد جاء في الأمة : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] .
[ ص: 427 ] وهو الحادي عشر .
والثاني عشر : أنه جعل شاهدا على أمته ، اختص بذلك دون الأنبياء عليهم السلام .
وفي القرآن الكريم : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] .
والثالث عشر : خوارق العادات معجزات وكرامات للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي حق الأمة كرامات ، وقد وقع الخلاف : هل يصح أن يتحدى الولي بالكرامة دليلا على أنه ولي أم لا ؟ وهذا الأصل شاهد له ، وسيأتي بحول الله وقدرته .
والرابع عشر : الوصف بالحمد في الكتب السالفة وبغيره من الفضائل ; ففي القرآن : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ الصف : 6 ] ، وسميت أمته الحمادين .
والخامس عشر : العلم مع الأمية ، قال تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم [ الجمعة : 2 ] .
وقال : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله [ الأعراف : 158 ] الآية .
[ ص: 428 ] وفي الحديث : نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب .
والسادس عشر : مناجاة الملائكة ; ففي النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهر ، وقد روي في بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنه كان يكلمه الملك ; كعمران بن الحصين ونقل عن الأولياء من هذا .
والسابع عشر : العفو قبل السؤال ، قال تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ التوبة : 43 ] .
وفي الأمة : ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم [ آل عمران : 152 ] .
والثامن عشر : رفع الذكر ، قال تعالى : ورفعنا لك ذكرك [ الشرح : 4 ] .
وذكر أن معناه قرن اسمه باسمه في عقد الأيمان ، وفي كلمة الأذان ; فصار ذكره عليه الصلاة والسلام مرفوعا منوها به ، وقد جاء من ذكر الأمة ومدحهم والثناء عليهم في القرآن وفي الكتب السالفة كثير .
وجاء في بعض الأحاديث عن موسى عليه الصلاة والسلام ; أنه قال : [ ص: 429 ] اللهم اجعلني من أمة أحمد لما وجد في التوراة من الإشادة بذكرهم والثناء عليهم .
والتاسع عشر : أن معاداتهم معاداة لله ، وموالاتهم موالاة لله ، قال تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله [ الأحزاب : 57 ] [ هي عند طائفة بمعنى أن الذين يؤذون رسول الله لعنهم الله ] .
وفي الحديث : من آذاني ; فقد آذى الله .
[ ص: 430 ] وفي الحديث : من آذى لي وليا ; فقد بارزني بالمحاربة .
وقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ النساء : 80 ] .
ومفهومه من لم يطع الرسول لم يطع الله .
وتمام العشرين : الاجتباء ; فقال تعالى في الأنبياء عليهم السلام : واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم [ الأنعام : 87 ] .
وفي الأمة : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .
وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مصطفى من الخلق .
[ ص: 431 ] وقال في الأمة : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا [ فاطر : 32 ] .
والحادي والعشرون : التسليم من الله ; ففي أحاديث إقراء السلام من الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام .
وقال تعالى : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى [ النمل : 59 ] .
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم [ الأنعام : 54 ] .
وقال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام في خديجة : اقرأ عليها السلام من ربها ومني .
والثاني والعشرون : التثبيت عند توقع التفلت البشري ، قال تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ الإسراء : 74 ] .
[ ص: 432 ] وفي الأمة : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة [ إبراهيم : 27 ] .
والثالث والعشرون : العطاء من غير منة ، قال تعالى : وإن لك لأجرا غير ممنون [ القلم : 3 ] .
وقال في الأمة : فلهم أجر غير ممنون [ التين : 6 ] .
والرابع والعشرون : تيسير القرآن عليهم ، قال تعالى : إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ القيامة : 17 - 19 ] .
قال ابن عباس : علينا أن نجمعه في صدرك ، ثم إن علينا بيانه [ القيامة : 19 ] ; علينا أن نبينه على لسانك .
وفي الأمة : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ القمر : 17 ] .
والخامس والعشرون : جعل السلام عليهم مشروعا في الصلاة ; إذ يقال في التشهد : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
والسادس والعشرون : أنه سمى نبيه عليه السلام بجملة من أسمائه كالرءوف الرحيم ، وللأمة نحو المؤمن والخبير والعليم والحكيم .
والسابع والعشرون : أمر الله تعالى بالطاعة لهم ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] ، [ ص: 433 ] وهم الأمراء والعلماء .
وفي الحديث : من أطاع أميري ; فقد أطاعني .
وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله .
والثامن والعشرون : الخطاب الوارد مورد الشفقة والحنان ; كقوله تعالى : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [ طه : 1 - 2 ] .
وقوله : فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به [ الأعراف : 2 ] .
واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [ الطور : 48 ] .
وفي الأمة : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم [ المائدة : 6 ] الآية .
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 28 ] .
ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] .
والتاسع والعشرون : العصمة من الضلال بعد الهدى ، وغير ذلك من [ ص: 434 ] وجوه الحفظ العامة ; فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عصمه الله تعالى من ذلك كله .
وجاء في الأمة : لا تجتمع أمتي على ضلالة .
[ ص: 435 ] [ ص: 436 ] [ ص: 437 ] وجاء : احفظ الله يحفظك .
وفي القرآن : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ ص : 83 ] ، تفسيره في قوله : لا تجتمع أمتي على ضلالة .
وفي قوله : وإنى والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها .
وتمام الثلاثين : إمامة الأنبياء ; ففي حديث الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام أم بالأنبياء ; قال : " وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء . . . فحانت الصلاة فأممتهم " .
وفي حديث نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض في آخر الزمان : إن إمام هذه الأمة منها ، وإنه يصلي مؤتما بإمامها .
[ ص: 438 ] ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا ، [ مجموعه ] يدل على أن أمته تقتبس منه خيرات وبركات ، وترث أوصافا وأحوالا موهوبة من الله تعالى ومكتسبة ، والحمد لله على ذلك .
يتبع
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (78)
صـ413 إلى صـ 438
وهو الحادي عشر .
والثاني عشر : أنه جعل شاهدا على أمته ، اختص بذلك دون الأنبياء عليهم السلام .
وفي القرآن الكريم : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] .
والثالث عشر : خوارق العادات معجزات وكرامات للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي حق الأمة كرامات ، وقد وقع الخلاف : هل يصح أن يتحدى الولي بالكرامة دليلا على أنه ولي أم لا ؟ وهذا الأصل شاهد له ، وسيأتي بحول الله وقدرته .
والرابع عشر : الوصف بالحمد في الكتب السالفة وبغيره من الفضائل ; ففي القرآن : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ الصف : 6 ] ، وسميت أمته الحمادين .
والخامس عشر : العلم مع الأمية ، قال تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم [ الجمعة : 2 ] .
وقال : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله [ الأعراف : 158 ] الآية .
[ ص: 428 ] وفي الحديث : نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب .
والسادس عشر : مناجاة الملائكة ; ففي النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهر ، وقد روي في بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنه كان يكلمه الملك ; كعمران بن الحصين ونقل عن الأولياء من هذا .
والسابع عشر : العفو قبل السؤال ، قال تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ التوبة : 43 ] .
وفي الأمة : ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم [ آل عمران : 152 ] .
والثامن عشر : رفع الذكر ، قال تعالى : ورفعنا لك ذكرك [ الشرح : 4 ] .
وذكر أن معناه قرن اسمه باسمه في عقد الأيمان ، وفي كلمة الأذان ; فصار ذكره عليه الصلاة والسلام مرفوعا منوها به ، وقد جاء من ذكر الأمة ومدحهم والثناء عليهم في القرآن وفي الكتب السالفة كثير .
وجاء في بعض الأحاديث عن موسى عليه الصلاة والسلام ; أنه قال : [ ص: 429 ] اللهم اجعلني من أمة أحمد لما وجد في التوراة من الإشادة بذكرهم والثناء عليهم .
والتاسع عشر : أن معاداتهم معاداة لله ، وموالاتهم موالاة لله ، قال تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله [ الأحزاب : 57 ] [ هي عند طائفة بمعنى أن الذين يؤذون رسول الله لعنهم الله ] .
وفي الحديث : من آذاني ; فقد آذى الله .
[ ص: 430 ] وفي الحديث : من آذى لي وليا ; فقد بارزني بالمحاربة .
وقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ النساء : 80 ] .
ومفهومه من لم يطع الرسول لم يطع الله .
وتمام العشرين : الاجتباء ; فقال تعالى في الأنبياء عليهم السلام : واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم [ الأنعام : 87 ] .
وفي الأمة : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] .
وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مصطفى من الخلق .
[ ص: 431 ] وقال في الأمة : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا [ فاطر : 32 ] .
والحادي والعشرون : التسليم من الله ; ففي أحاديث إقراء السلام من الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام .
وقال تعالى : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى [ النمل : 59 ] .
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم [ الأنعام : 54 ] .
وقال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام في خديجة : اقرأ عليها السلام من ربها ومني .
والثاني والعشرون : التثبيت عند توقع التفلت البشري ، قال تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ الإسراء : 74 ] .
[ ص: 432 ] وفي الأمة : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة [ إبراهيم : 27 ] .
والثالث والعشرون : العطاء من غير منة ، قال تعالى : وإن لك لأجرا غير ممنون [ القلم : 3 ] .
وقال في الأمة : فلهم أجر غير ممنون [ التين : 6 ] .
والرابع والعشرون : تيسير القرآن عليهم ، قال تعالى : إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ القيامة : 17 - 19 ] .
قال ابن عباس : علينا أن نجمعه في صدرك ، ثم إن علينا بيانه [ القيامة : 19 ] ; علينا أن نبينه على لسانك .
وفي الأمة : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ القمر : 17 ] .
والخامس والعشرون : جعل السلام عليهم مشروعا في الصلاة ; إذ يقال في التشهد : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
والسادس والعشرون : أنه سمى نبيه عليه السلام بجملة من أسمائه كالرءوف الرحيم ، وللأمة نحو المؤمن والخبير والعليم والحكيم .
والسابع والعشرون : أمر الله تعالى بالطاعة لهم ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] ، [ ص: 433 ] وهم الأمراء والعلماء .
وفي الحديث : من أطاع أميري ; فقد أطاعني .
وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله .
والثامن والعشرون : الخطاب الوارد مورد الشفقة والحنان ; كقوله تعالى : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [ طه : 1 - 2 ] .
وقوله : فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به [ الأعراف : 2 ] .
واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [ الطور : 48 ] .
وفي الأمة : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم [ المائدة : 6 ] الآية .
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 28 ] .
ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] .
والتاسع والعشرون : العصمة من الضلال بعد الهدى ، وغير ذلك من [ ص: 434 ] وجوه الحفظ العامة ; فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عصمه الله تعالى من ذلك كله .
وجاء في الأمة : لا تجتمع أمتي على ضلالة .
[ ص: 435 ] [ ص: 436 ] [ ص: 437 ] وجاء : احفظ الله يحفظك .
وفي القرآن : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ ص : 83 ] ، تفسيره في قوله : لا تجتمع أمتي على ضلالة .
وفي قوله : وإنى والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها .
وتمام الثلاثين : إمامة الأنبياء ; ففي حديث الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام أم بالأنبياء ; قال : " وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء . . . فحانت الصلاة فأممتهم " .
وفي حديث نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض في آخر الزمان : إن إمام هذه الأمة منها ، وإنه يصلي مؤتما بإمامها .
[ ص: 438 ] ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا ، [ مجموعه ] يدل على أن أمته تقتبس منه خيرات وبركات ، وترث أوصافا وأحوالا موهوبة من الله تعالى ومكتسبة ، والحمد لله على ذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (79)
صـ439 إلى صـ 444
فصل
وهذا الأصل ينبني عليه قواعد :
منها : أن جميع ما أعطيته هذه الأمة من المزايا والكرامات ، والمكاشفات والتأييدات وغيرها من الفضائل إنما هي مقتبسة من مشكاة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، لكن على مقدار الاتباع ; فلا يظن ظان أنه حصل على خير بدون وساطة نبوته ، كيف وهو السراج المنير الذي يستضئ به الجميع ، والعلم الأعلى الذي به يهتدى في سلوك الطريق .
ولعل قائلا يقول : قد ظهرت على أيدي الأمة أمور لم تظهر على يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا سيما الخواص التي اختص بها بعضهم ; كفرار الشيطان من ظل [ ص: 439 ] عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد نازع النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته الشيطان ، وقال لعمر : ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك .
وجاء في عثمان بن عفان رضي الله عنه : أن ملائكة السماء تستحي منه ، ولم يرد مثل هذا بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وجاء في أسيد بن حضير وعباد بن بشر : أنهما خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة ، فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا ، فافترق النور معهما ، ولم يؤثر مثل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام .
إلى غير ذلك من المنقولات عن الصحابة ومن بعدهم ، مما لم ينقل أنه ظهر مثله على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فيقال : كل ما نقل عن الأولياء أو العلماء أو ينقل إلى يوم القيامة من [ ص: 440 ] الأحوال والخوارق والعلوم والفهوم وغيرها ; فهي أفراد وجزئيات داخلة تحت كليات ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; غير أن أفراد الجنس وجزئيات الكلي قد تختص بأوصاف تليق بالجزئي من حيث هو جزئي ، وإن لم يتصف بها الكلي من جهة ما هو كلي ، ولا يدل ذلك على أن للجزئي مزية على الكلي ، ولا أن ذلك في الجزئي خاص به لا تعلق له بالكلي ، كيف والجزئي لا يكون كليا إلا بجزئي ؟ إذ هو من حقيقته وداخل في ماهيته ; فكذلك الأوصاف الظاهرة على الأمة لم تظهر إلا من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فهي كالأنموذج من أوصافه عليه الصلاة والسلام وكراماته .
والدليل على صحة ذلك أن شيئا منها لا يحصل إلا على مقدار الاتباع والاقتداء به ، ولو كانت ظاهرة للأمة على فرض الاختصاص بها والاستقلال [ ص: 441 ] لم تكن المتابعة شرطا فيها ، ويتبين هذا بالمثال المذكور في شأن عمر .
ألا ترى أن خاصيته المذكورة هي هروب الشيطان منه ، وذلك حفظ من الوقوع في حبائله وحمله إياه على المعاصي ، وأنت تعلم أن الحفظ التام المطلق العام خاصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ; إذ كان معصوما عن الكبائر والصغائر على العموم والإطلاق ، ولا حاجة إلى تقرير هذا المعنى هنا ; فتلك النقطة الخاصة بعمر من هذا البحر .
وأيضا ; فإن فرار الشيطان أو بعده من الإنسان إنما المقصود منه الحفظ من غير زيادة ، وقد زادت مزية النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خواص :
منها : أنه عليه الصلاة والسلام أقدره الله على تمكنه من الشيطان ، حتى هم أن يربطه إلى سارية المسجد ، ثم تذكر قول سليمان عليه السلام : وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي [ ص : 35 ] ، ولم يقدر عمر على شيء من ذلك .
[ ص: 442 ] ومنها : أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع على ذلك من نفسه ومن عمر ولم يطلع عمر على شيء منه .
ومنها : أنه عليه الصلاة والسلام كان آمنا من نزغات الشيطان وإن قرب منه ، وعمر لم يكن آمنا وإن بعد عنه .
وأما منقبة عثمان ; فلم يرد ما يعارضها بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل نقول : هو أولى بها وإن لم يذكرها عن نفسه ; إذ لا يلزم من عدم ذكرها عدمها .
وأيضا ; فإن ذلك لعثمان لخاصية كانت فيه وهى شدة حيائه ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حياء ، وأشد حياء من العذراء في خدرها ، فإذا كان الحياء أصلها ; فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حواه على الكمال .
وعلى هذا الترتيب يجري القول في أسيد وصاحبه ; لأن المقصود بذلك الإضاءة حتى يمكن المشي في الطريق ليلا بلا كلفة ، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن الظلام يحجب بصره ، بل كان يرى في الظلمة كما يرى في الضوء ، بل كان لا يحجب بصره ما هو أكثف من حجاب الظلمة ، فكان يرى [ ص: 443 ] من خلفه كما يرى من أمامه ، وهذا أبلغ ، حيث كانت الخارقة في نفس البصر لا في المبصر به ، على أن ذلك إنما كان من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام وكراماته التي ظهرت في أمته [ من ] بعده وفي زمانه .
فهذا التقرير هو الذي ينبغي الاعتماد عليه ، والأخذ لهذه الأمور من [ ص: 444 ] جهته لا على الجملة ، فربما يقع للناظر فيها ببادئ الرأي إشكال ، ولا إشكال فيها بحول الله ، وانظر في كلام القرافي في قاعدة الأفضلية والخاصية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (80)
صـ445 إلى صـ 456
فصل
ومن الفوائد في هذا الأصل أن ينظر إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد ; فإن كان لها أصل في كرامات الرسول عليه الصلاة والسلام ومعجزاته ; فهي صحيحة وإن لم يكن لها أصل ، فغير صحيحة ; وإن ظهر ببادئ الرأي أنها كرامة ; إذ ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة ، بل منها ما يكون كذلك ، ومنها ما لا يكون كذلك .
وبيان ذلك بالمثال أن أرباب التصريف بالهمم والتقربات بالصناعة الفلكية والأحكام النجومية قد تصدر عنهم أفاعيل خارقة ، وهي كلها ظلمات [ ص: 445 ] بعضها فوق بعض ، ليس لها في الصحة مدخل ، ولا يوجد لها في كرامات النبي - صلى الله عليه وسلم - منبع ; لأنه إن كان ذلك بدعاء مخصوص ، فدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على تلك النسبة ، ولا تجري فيه تلك الهيئة ، ولا اعتمد على قران في الكواكب ، ولا التمس سعودها أو نحوسها ، بل تحرى مجرد الاعتماد على من إليه يرجع الأمر كله واللجأ إليه ، معرضا عن الكواكب وناهيا عن الاستناد إليها ; إذ قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر الحديث ، وإن تحرى وقتا أو دعا [ إلى تحريه ] ; فلسبب بريء من هذا كله ; كحديث التنزل ، وحديث اجتماع الملائكة طرفي النهار ، وأشباه ذلك .
[ ص: 446 ] والدعاء أيضا عبادة لا يزاد فيها ولا ينقص ، أعني الكيفيات المستفعلة والهيئات المتكلفة التي لم يعهد مثلها فيما تقدم ، وكذلك الأدعية التي لا تجد مساقها في متقدم الزمان ولا متأخره ، ولا مستعمل النبي عليه الصلاة والسلام والسلف الصالح ، والتي روعي فيها طبائع الحروف في زعم أهل الفلسفة ومن نحا نحوهم مما لم يقل به غيرهم ، وإن كان بغير دعاء كتسليط الهمم على الأشياء حتى تنفعل ; فذلك غير ثابت النقل ، ولا تجد له أصلا ، بل أصل ذلك حال حكمي وتدبير فلسفي لا شرعي ، هذا وإن كان الانفعال الخارق حاصلا به ; فليس بدليل على الصحة ، كما أنه قد يتعدى ظاهرا بالقتل والجرح ، بل قد يوصل بالسحر والعين إلى أمثال ذلك ، ولا يكون شاهدا على صحته ، بل هو باطل صرف ، وتعد محض ، وهذا الموضع مزلة قدم للعوام ولكثير من الخواص ، فلتنبه له .
فصل
ومنها أنه لما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذر وبشر وأنذر ، وندب ، وتصرف بمقتضى الخوارق من الفراسة الصادقة ، والإلهام الصحيح ، والكشف الواضح ، والرؤيا الصالحة ; كان من فعل مثل ذلك ممن اختص بشيء من هذه الأمور على [ ص: 447 ] طريق من الصواب ، وعاملا بما ليس بخارج عن المشروع ، لكن مع مراعاة شرط ذلك ، ومن الدليل على صحته زائدا إلى ما تقدم أمران :
أحدهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عمل بمقتضى ذلك أمرا ونهيا ، وتحذيرا وتبشيرا وإرشادا ، مع أنه لم يذكر أن ذلك خاص به دون أمته ; فدل على أن الأمة حكمهم في ذلك حكمه ، شأن كل عمل صدر منه ولم يثبت دليل على الاختصاص به دون غيره ، ويكفي من ذلك ما ترك بعده في أمته من المبشرات ، وإنما فائدتها البشارة والنذارة التي يترتب عليها الإقدام والإحجام .
وقد قال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر في رؤياه الملكين وقولهما له : نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة ; فلم يزل بعد ذلك يكثر الصلاة .
[ ص: 448 ] وفي رواية : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل .
وقال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر : إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم .
وقوله لثعلبة بن حاطب وسأله الدعاء له بكثرة المال : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه .
[ ص: 449 ] وقال لأنس : اللهم كثر ماله وولده .
ودل عليه الصلاة والسلام أناسا شتى على ما هو أفضل الأعمال في حق كل واحد منهم ، عملا بالفراسة الصادقة فيهم ، وقال : لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه ; فأعطاها عليا - رضي الله عنه - ففتح الله على يديه .
وقال لعثمان بن عفان : إنه لعل الله أن يقمصك قميصا ، فإن أرادوك على خلعه ; فلا تخلعه .
[ ص: 450 ] فرتب على الاطلاع الغيبي وصاياه النافعة ، وأخبر أنه ستكون لهم أنماط ويغدو أحدهم في حلة ويروح في أخرى ، وتوضع بين يديه صحفة وترفع أخرى ، ثم قال آخر الحديث : وأنتم اليوم خير منكم يومئذ .
[ ص: 451 ] [ ص: 452 ] وأخبر بملك معاوية ووصاه ، وأن عمارا تقتله الفئة الباغية ، وبأمراء [ ص: 453 ] [ ص: 454 ] يؤخرون الصلاة عن وقتها ثم وصاهم كيف يصنعون ، وأنهم سيلقون بعده أثرة ، ثم أمرهم بالصبر إلى سائر ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من المغيبات التي حصلت بها فوائد الإيمان والتصديق ، والتحذير والتبشير ، وغير ذلك وهو أكثر من أن يحصى .
والثاني : عمل الصحابة رضي الله عنهم بمثل ذلك من الفراسة والكشف والإلهام والوحي النومي ; كقول أبي بكر : " إنما هما أخواك وأختاك " .
وقول عمر : " يا سارية الجبل " ; فاعمل النصيحة التي أنبأ عنها الكشف .
[ ص: 455 ] ونهيه لمن أراد أن يقص على الناس ، وقال : أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا .
وقوله لمن قص عليه رؤياه أن الشمس والقمر رآهما يقتتلان ; فقال : مع أيهما كنت ؟ قال : مع القمر . قال : كنت مع الآية الممحوة ، لا تلي [ لي ] عملا أبدا .
[ ص: 456 ] ويكثر نقل مثل هذا عن السلف الصالح ومن بعدهم من العلماء والأولياء - نفع الله بهم - ولكن يبقى هنا النظر في شرط العمل على مقتضى هذه الأمور ، والكلام فيه يحتمل بسطا ; فلنفرده بالكلام عليه ، وهي :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (81)
صـ457 إلى صـ 471
المسألة الحادية عشرة
وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر ; إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية ; فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق في نفسه ، بل هو إما خيال أو وهم ، وإما من إلقاء الشيطان ، وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه ، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع ، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام لا خاص ، كما تقدم في المسألة قبل هذا ، وأصله لا ينخرم ، ولا ينكسر له اطراد ، ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف ، وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة ; فهو فاسد باطل .
ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر ; فرأى الحاكم في منامه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " لا تحكم بهذه الشهادة ; فإنها باطل " ; فمثل هذا من الرؤيا لا معتبر بها في أمر ولا نهي ، ولا بشارة ولا نذارة ; لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة ، وكذلك سائر ما يأتي من هذا النوع .
[ ص: 458 ] وما روي " أن أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رئيت " ; فهي قضية عين لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها ، فلعل الورثة رضوا بذلك ، فلا يلزم منها خرم أصل .
وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا الماء المعين مغصوب أو نجس ، أو أن هذا الشاهد كاذب ، أو أن المال لزيد وقد تحصل بالحجة لعمرو ، أو ما أشبه ذلك ; فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر ; فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم ، ولا ترك قبول الشاهد ، ولا الشهادة بالمال لزيد على حال ; فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر ; فلا يتركها اعتمادا على مجرد المكاشفة أو الفراسة ، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية ، ولو جاز ذلك ; لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها ، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه .
وقد جاء في الصحيح : إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون [ ص: 459 ] ألحن بحجته من بعض ، فأحكم له على نحو ما أسمع منه الحديث ; فقيد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك ، وقد كان كثير من الأحكام التي تجرى على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل ، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يحكم إلا على وفق ما سمع ، لا على وفق ما علم ، وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم بعلمه .
وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه أن الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه ; وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب ; لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكما بعلمه هذا مع كون علم الحاكم مستفادا من العادات التي لا ريبة فيها ، لا من الخوارق التي تداخلها الأمور ، والقائل بصحة حكم الحاكم بعلمه ; فذلك بالنسبة إلى العلم [ ص: 460 ] المستفاد من العادات ، لا من الخوارق ، ولذلك لم يعتبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الحجة العظمى ، وحكى ابن العربي عن قاضي القضاة الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة في الأحكام ، جريا على طريقة إياس بن معاوية أيام كان قاضيا ، قال : " ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء في الرد عليه " ، هذا ما قال ، وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقا من غير حجة سواها .
فإن قيل : هذا مشكل من وجهين :
أحدهما : أنه خلاف ما نقل عن أرباب المكاشفات والكرامات ، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء كان جائزا لهم في الظاهر تناولها ، اعتمادا على كشف أو إخبار غير معهود ، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال ، فرأى بالبادية شجرة تين ; فهم أن يأكل منها فنادته الشجرة : أن لا تأكل مني فإني ليهودي .
وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة ، فليلة الدخول وقع عليه ندامة ، فلما أراد الدنو منها زجر عنها ; فامتنع وخرج ، فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج .
[ ص: 461 ] وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها ; هل هذا المتناول حلال أم لا ؟ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض أصابعه إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك ; فيمتنع منه .
وأصل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره في قصة الشاة المسمومة ، وفيه : فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل القوم ، وقال : ارفعوا أيديكم ; فإنها أخبرتني أنها مسمومة ومات بشر بن البراء الحديث ; فبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك القول ، وانتهى هو ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار .
وهذا أيضا موافق لشرع من قبلنا ، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ ، وذلك في قصة بقرة بني إسرائيل إذ أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها ; فأحياه الله وأخبر بقاتله ; فرتب عليه الحكم بالقصاص ، وفي قصة الخضر في خرق [ ص: 462 ] السفينة وقتل الغلام وهو ظاهر في هذا المعنى ، إلى غير ذلك مما يؤثر في معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكرامات الأولياء رضي الله عنهم .
والثاني : أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء كالعادات بالنسبة إلينا ، فكما لو دلنا أمر عادي على نجاسة الماء أو غصبه لوجب علينا الاجتناب ; فكذلك هاهنا ; إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب أو من عالم الشهادة ، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء ، ورؤيتها بعين الكشف الغيبي ; فلا بد أن يبنى الحكم على هذا كما يبنى على ذلك ، [ ص: 463 ] ومن فرق بينهما ; فقد أبعد .
فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابا ، وعملا بما هو مشروع على الجملة ، وذلك من وجهين :
أحدهما : الاعتبار بما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، فيلحق به في القياس ما كان في معناه ، إذا لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع ، وإنما يختص به من حيث كان معجزا ، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ في شريعتنا ، على أن خرق السفينة قد عمل بمقتضاه بعض العلماء ، بناء على ما ثبت عنده من العادات ، أما قتل [ ص: 464 ] [ ص: 465 ] [ ص: 466 ] الغلام ; فلا يمكن القول به ، وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين ، ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول : دمي عند فلان .
والثاني : على فرض أنه لا يقاس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى ، إذ الجاري عليها العمل بالقياس ، ولكن إن قدرنا عدمه ; فنقول : إن هذه الحكايات عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي ، وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذي هو الإثم ، وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر ، فيدخل فيها هذا النمط ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في صدرك ، فإذا لم يخرج هذا عن كونه مستندا إلى نصوص شرعية عند [ ص: 467 ] من فسر حزاز القلوب بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم ، ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية ، وكلامنا إنما هو في مثل مسألة ابن رشد وأشباهها ، وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول بمثله في شريعتنا البتة ، فهو حكم منسوخ ، ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال ; فعمدة الشريعة تدل على خلافه ، فإن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا ، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضا ; فإن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم ، وإن علم بواطن أحوالهم ، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه .
ولا يقال : إنما كان ذلك من قبيل ما قال : " خوفا أن يقول الناس : إن محمدا يقتل أصحابه " ; فالعلة أمر آخر لا ما زعمت ، فإذا عدم ما علل به ; فلا حرج .
[ ص: 468 ] لأنا نقول : هذا من أدل الدليل على ما تقرر ، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر ; فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر ; فالعذر فيه ظاهر واضح ، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر ، وران على الظواهر ، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ، ألا ترى إلى باب الدعاوى المستند إلى أن " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " ، ولم يستثن من ذلك أحد ، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتاج إلى البينة [ ص: 469 ] في بعض ما أنكر فيه مما كان اشتراه ; فقال : من يشهد لي ؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت ; فجعلها الله شهادتين ; فما ظنك بآحاد الأمة ؟ فلو ادعى أكفر الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، وهذا من ذلك ، والنمط واحد ; فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية ، ومن هنا لم يعبأ الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع ، بل عدوا أنه من الشيطان ، وإذا ثبت هذا ; فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة .
وما ذكر من تكليم الشجرة ; فليس بمانع شرعي ، بحيث يكون تناول التين منها حراما على المكلم ، كما لو وجد في الفلاة صيدا ; فقال له : إني مملوك ، وما أشبه ذلك ، لكنه تركه لغناه عنه بغيره من يقين بالله ، أو ظن طعام بموضع آخر ، أو غير ذلك ، وكذلك سائر ما في هذا الباب ، أو نقول : كان المتناول مباحا له ; فتركه لهذه العلامة كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا أو غير [ ص: 470 ] ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله تعالى ; فكذلك نقول في الماء الذي كوشف أنه نجس أو مغصوب ، وإذا كان له مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر ، بل يصير منتقلا من جائز إلى مثله ; فلا حرج عليه مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف إعمالا للظاهر ، واعتمادا على الشرع في معاملته به ، فلا حرج عليه ، ولا لوم ; إذ ليس القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرا شرعيا ، ولا أن تعود على شيء منه بالنقض ، كيف وهي نتائج عن اتباعه ; فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع ، أو يعود الفرع على أصله بالنقض ، هذا لا يكون البتة .
وتأمل ما جاء في شأن المتلاعنين ; إذ قال عليه الصلاة والسلام : إن جاءت به على صفة كذا ; فهو لفلان ، وإن جاءت به على صفة كذا ; فهو لفلان ; فجاءت به على إحدى الصفتين وهي المقتضية للمكروه ، ومع ذلك ; فلم يقم الحد عليها ، وقد جاء في الحديث نفسه : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن فدل على أن الأيمان هي المانعة وامتناعه مما هم به يدل على أن ما تفرس به لا حكم له حين شرعية الأيمان ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد الأيمان ما قال الزوج لم تكن الأيمان دارئة للحد عنها . والجواب على السؤال الثاني أن الخوارق وإن صارت لهم كغيرها ; [ ص: 471 ] فليس ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق ، إذا لم يثبت ذلك شرعا معمولا به .
وأيضا ; فإن الخوارق إن جاءت تقتضي المخالفة ، فهي مدخولة قد شابها ما ليس بحق ، كالرؤيا غير الموافقة ، كمن يقال له : " لا تفعل كذا " ، وهو مأمور شرعا بفعله ، أو " افعل كذا " ، وهو منهي عنه ، وكثيرا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب ، أو من سلك وحده بدون شيخ ، ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة ، غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء .
فإن قيل : هذا يقتضي أن لا يعمل عليها ، وقد بنيت المسألة على أنها يعمل عليها .
قيل : إن المنفي هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية ، فأما العمل عليها مع الموافقة ; فليس بمنفي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (82)
صـ472 إلى صـ 481
فصل
إذا تقرر اعتبار ذلك الشرط ; فأين يسوغ العمل على وفقها ؟
فالقول في ذلك أن الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدم ، وذلك على أوجه :
أحدها : أن يكون في أمر مباح ، كأن يرى المكاشف أن فلانا يقصده في الوقت الفلاني ، أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقة أو مخالفة ، أو يطلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقاد حق أو باطل ، وما أشبه ذلك ; فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه ، أو يتحفظ من مجيئه إن كان قصده الشر ; فهذا من الجائز له ، كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك ، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع كما تقدم .
والثاني : أن يكون العمل عليها لفائدة يرجو نجاحها ، فإن العاقل لا يدخل [ ص: 472 ] على نفسه ما لعله يخاف عاقبته ; فقد يلحقه بسبب الالتفات إليها عجب أو غيره ، والكرامة كما أنها خصوصية ، كذلك هي فتنة واختبار ، لينظر كيف تعملون ، وقد تقدم ذكره ، فإذا عرضت حاجة ، أو كان لذلك سبب يقتضيه ; فلا بأس ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بالمغيبات للحاجة إلى ذلك ، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يخبر بكل مغيب اطلع عليه ، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات ، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام المصلين خلفه أنه " يراهم من وراء ظهره " لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث ، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك ، وهكذا سائر [ ص: 473 ] كراماته ومعجزاته ; فعمل أمته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأول ، ولكنه مع ذلك في حكم الجواز ; لما تقدم من خوف العوارض كالعجب ونحوه ، والإخبار في حق النبي عليه الصلاة والسلام مسلم ، ولا يخلو إخباره من فوائد ، ومنها تقوية إيمان كل من رأى ذلك أو سمع به ، وهي فائدة لا تنقطع مع بقاء الدنيا .
والثالث : أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد لكل عدته ; فهذا أيضا جائز ، كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا ، أو لا يكون إن فعل كذا ; فيعمل على وفق ذلك على وزان الرؤيا الصالحة ، فله أن يجري بها مجرى الرؤيا ، كما روي عن أبي جعفر بن تركان ; قال : كنت أجالس الفقراء ; ففتح علي بدينار ، فأردت أن أدفعه إليهم ، ثم قلت في نفسي : لعلي أحتاج إليه ، فهاج بي وجع [ ص: 474 ] الضرس فقلعت سنا ، فوجعت الأخرى حتى قلعتها ; فهتف بي هاتف : إن لم تدفع إليهم الدينار لا يبقى في فيك سن واحدة .
وعن الروذباري قال : في استقصاء في أمر الطهارة ; فضاق صدري ليلة لكثرة ما صببت من الماء ولم يسكن قلبي ، فقلت : يا رب ! عفوك ، فسمعت هاتفا يقول : العفو في العلم ، فزال عني ذلك .
وعلى الجملة ; فالشرط المتقدم لا محيص من اعتباره في العمل بمقتضى الخوارق ، وهو المطلوب ، وإنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة لتكون مثالا يحتذى حذوه وينظر في هذا المجال إلى جهته ، وقد أشار هذا النحو إلى التنبيه على أصل آخر ، وهي :[ ص: 475 ] المسألة الثانية عشرة
إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين ، وجارية على مختلفات أحوالهم ; فهي عامة أيضا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف ; فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن ، كما نرد إليها كل ما في الظاهر ، والدليل على ذلك أشياء :
منها : ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة .
والثاني : أن الشريعة حاكمة لا محكوم عليها ، فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها بتخصيص عموم ، أو تقييد إطلاق ، أو تأويل ظاهر ، أو ما أشبه ذلك ; لكان غيرها حاكما عليها ، وصارت هي محكوما عليها بغيرها ، وذلك باطل باتفاق ; فكذلك ما يلزم عنه .
والثالث : أن مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها ، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك ، بل أعمالا من أعمال الشيطان ; كما حكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعو ويتضرع ، وقد وجد رقة ، فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم ، ثم بدا له وجه كالقمر ، وقال له : " تملأ من وجهي يا أبا ميسرة ; فأنا ربك الأعلى " ; فبصق فيه وقال له : " اذهب يا لعين عليك لعنة الله " .
وكما يحكى عن عبد القادر الكيلاني أنه عطش عطشا شديدا ; فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب ، ثم نودي من سحابة : " يا [ ص: 476 ] فلان ! أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات " . فقال له : اذهب يا لعين . فاضمحلت السحابة ، وقيل له : بم عرفت أنه إبليس ؟ قال : بقوله : قد أحللت لك المحرمات " .
هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكما فيها لما عرف أنها شيطانية .
وقد نزعت إلى هذا المنزع في ابتداء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة بنت خويلد زوجه رضي الله عنها ; فإنها قالت له : أي ابن عم ! أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال : نعم . قالت : فإذا جاءك فأخبرني به . فلما جاء أخبرها ; فقالت : قم يا بن عم ; فاجلس على فخذي اليسرى . فجلس ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : نعم . ثم حولته إلى فخذها اليمنى ، ثم إلى حجرها ، وفي كل ذلك تقول : هل تراه ؟ فيقول : نعم . قال الراوي : فتحسرت ، وألقت خمارها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في حجرها ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : لا . وفي رواية : أنها أدخلته بينها وبين درعها ; فذهب عند ذلك . فقالت : يا ابن عم ! اثبت وأبشر ; فوالله إنه لملك ، ما هذا بشيطان .
[ ص: 477 ] ولا يقال : إن ثم مدارك أخر يختص بها الولي ، لا يفتقر بها إلى النظر الشرعي ; لأنا نقول : إن كان كما قلت على فرض تسليمه ; فتلك المدارك من جملة الكرامات والخوارق ; إذ لا يختص بها إلا من كان وليا لله ، فلا فرق بينها وبين غيرها من الخوارق المشاهدة ، فلا بد إذا من حكم يحكم بصحتها ، وشاهد يشهد لها ; وإذ ذاك يلزم التسلسل ، وهو محال ، ولا يكتفى في ذلك بدعوى الوجدان ، فإن الوجدان من حيث هو وجدان لا دليل فيه على صحته ولا فساده ; لأن الآلام واللذات من المواجد التي لا تنكر ولا يدل ذلك على صحتها أو فسادها شرعا ، وكذلك سائر الأمور التي لا يقدر الإنسان على الانفكاك عنها ، فالغضب مثلا إذا هاج بالإنسان أمر لا ينكر كالمواجد من غير فرق ، وقد يكون محمودا إذا كان غضبا لله ، ومذموما إذا كان لغير الله ، ولا يفرق بينها إلا النظر الشرعي ; إذ لا يصح أن يقال : هذا الغضب قد أدرك صاحبه أنه محمود لا مذموم من غير نظر شرعي ; لأن الحمد والذم راجعان إلى الشرع لا إلى العقل ، فمن أين أدرك أنه محمود شرعا ، فلا يمكن أن يدركه كذلك بغير الشرع أصلا ، ولا يصح أيضا أن ينسب تمييزه إلى المربي والمعلم ; لأن البحث جار فيه أيضا .
وإنما الذي يشكل في المسألة أن الخوارق لا قدرة للإنسان على كسبها ولا على دفعها ; إذ هي مواهب من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده ، [ ص: 478 ] فإذا وردت على صاحبها ; فلا حكم فيها للشرع وإن فرضنا أنها غير موافقة له ; كورود الآلام والأوجاع على الإنسان بغتة ، أو ورود الأفراح عليه كذلك من غير اكتساب ، فكما لا توصف هذه الأشياء بحسن ولا قبح شرعا ، ولا يتعلق بها حكم شرعي ; كذلك في مسألتنا ، بل أشبه شيء بها الإغماء أو الجنون أو ما أشبهه ، فلا حكم يتعلق به وإن فرضنا لحوق الضرر به على الغير كما إذا أتلف المجنون مالا أو قتل نفسا أو شرب خمرا في حال جنونه ، ألا ترى ما يحكى عن جملة منهم في استغراقهم في الأحوال حتى تمضي عليهم أوقات الصلوات وهم لا يشعرون ، ويقع منهم الوعد فيؤخذون عن أنفسهم في المكاشفات والمنازلات ; فلا يفون ، ويكاشفون بأحوال الخلق بحيث يطلعون على عوراتهم إلى ما أشبه ذلك ; فهذا وما كان مثله إذا كان واقعا منهم ومنقولا عنهم ، وهو داخل عليهم شاءوا أم أبوا ، فكيف ينكر في نفسه أو يعد مما يدخل تحت أحكام الشريعة ؟
والجواب أن ما تقدم من الأدلة كاف في إثبات أصل المسألة ، وما اعترض به لا اعتراض به ; فإن الخوارق وإن كانت لا قدرة للإنسان في كسبها ولا دفعها ; فلقدرته تعلق بأسباب هذه المسببات . وقد مر أن الأسباب هي التي خوطب [ ص: 479 ] [ ص: 480 ] المكلف بها أمرا أو نهيا ، ومسبباتها خلق لله ; فالخوارق من جملتها .
وتقدم أيضا أن ما نشأ عن الأسباب من المسببات ; فمنسوب إلى المكلف حكمه من جهة التسبب ; لأجل أن عادة الله في المسببات أن تكون على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج ، والاعتدال والانحراف ; فالخوارق مسببات عن الأسباب التكليفية ، فبقدر اتباع السنة في الأعمال وتصفيتها من شوائب الأكدار وغيوم الأهواء تكون الخارقة المترتبة ; فكما أنه يعرف من نتائج الأعمال العادية صواب تلك الأعمال أو عدم صوابها ; كذلك ما نحن فيه ، وقد قال تعالى : إنما تجزون ما كنتم تعملون [ الطور : 16 ] .
وقال : هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون [ يونس : 52 ] .
إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها .
[ ص: 481 ] وهو عام في الجزاء الدنيوي والأخروي ، وفروع الفقه في المعاملات شاهدة هنا كشهادة العادات ; فالموضوع مقطوع به في الجملة .
وإذا ثبت هذا ; فما ظهر في الخارقة من استقامة أو اعوجاج ; فمنسوب إلى الرياضة المتقدمة ، والنتائج تتبع المقدمات بلا شك ; فصار الحكم التكليفي متعلقا بالخوارق من جهة مقدماتها ، فلا تسلم لصاحبها ، وإذ ذاك لا تخرج عن النظر الشرعي بخلاف المرض والجنون وأشباههما مما لا سبب له من جهة المكلف ; فإنه لا يتعلق به حكم تكليفي ، ولو فرضنا أن المكلف تسبب في تحصيله ; لكان منسوبا إليه ولتوجه التكليف إليه ; كالشكر ونحوه ; فحصل من هذا التقرير أن الشرع حاكم على الخوارق وغيرها ، لا يخرج عن حكمه شيء منها ، والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (83)
صـ482 إلى صـ 487
فصل
ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة فلا يصح ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة ; فإن ساغت هناك فهي صحيحة مقبولة في موضعها ، وإلا لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء عليهم السلام ; فإنه لا نظر فيها لأحد لأنها واقعة على الصحة قطعا ، فلا يمكن فيها غير ذلك ، ولأجل هذا حكم إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده بمقتضى رؤياه ، وقال له ابنه : يا أبت افعل ما تؤمر [ الصافات : 102 ] ، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم .
[ ص: 482 ] وبيان عرضها أن تفرض الخارقة واردة من مجاري العادات ، فإن ساغ العمل بها عادة وكسبا ; ساغت في نفسها ، وإلا فلا ; كالرجل يكاشف بامرأة أو عورة بحيث اطلع منها على ما لا يجوز له أن يطلع عليه وإن لم يكن مقصودا له ، أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يجامع زوجته ويراه عليها ، أو يكاشف بمولود في بطن امرأة أجنبية بحيث يقع بصره على بشرتها أو شيء من أعضائها التي لا يسوغ النظر إليها في الحس ، أو يسمع نداء يحس فيه بالصوت والحرف ، وهو يقول : " أنا ربك " ، أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له : " أنا ربك " ، أو يرى ويسمع من يقول له : قد أحللت لك المحرمات ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا يقبلها الحكم الشرعي على حال ، ويقاس على هذا ما سواه ، وبالله التوفيق .
[ ص: 483 ] المسألة الثالثة عشرة
لما كان التكليف مبنيا على استقراء عوائد المكلفين ; وجب أن ينظر في أحكام العوائد لما ينبني عليها بالنسبة إلى دخول المكلف تحت حكم التكليف .
فمن ذلك أن مجاري العادات في الوجود أمر معلوم لا مظنون ، وأعني في الكليات لا في خصوص الجزئيات ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : أن الشرائع بالاستقراء إنما جيء بها على ذلك ، ولتعتبر بشريعتنا ; فإن التكاليف الكلية فيها بالنسبة إلى من يكلف من الخلق موضوعة على وزان واحد ، وعلى مقدار واحد ، وعلى ترتيب واحد ، لا اختلاف فيه بحسب متقدم ولا متأخر ، وذلك واضح في الدلالة على أن موضوعات التكاليف وهي أفعال المكلفين كذلك ، وأفعال المكلفين إنما تجري على ترتيبها إذا كان الوجود باقيا على ترتيبه ، ولو اختلفت العوائد في الموجودات ; لاقتضى ذلك اختلاف التشريع واختلاف الترتيب واختلاف الخطاب ; فلا تكون الشريعة على ما هي عليه ، وذلك باطل .
والثاني : أن الإخبار الشرعي قد جاء بأحوال هذا الوجود على أنها دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة ; كالإخبار عن السماوات والأرض وما بينهما وما [ ص: 484 ] فيهما من المنافع والتصاريف والأحوال ، وأن سنة الله لا تبديل لها ، وأن لا تبديل لخلق الله ، كما جاء بإلزام الشرائع على ذلك الوزان أيضا ، والخبر من الصادق لا يكون بخلاف مخبره بحال ; فإن الخلاف بينهما محال .
والثالث : أنه لولا أن اطراد العادات معلوم ; لما عرف الدين من أصله فضلا عن تعرف فروعه ; لأن الدين لا يعرف إلا عند الاعتراف بالنبوة ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلا بواسطة المعجزة ، ولا معنى للمعجزة إلا أنها فعل خارق للعادة ، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلا بعد تقرير اطراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي ، ولا معنى للعادة إلا أن الفعل المفروض لو قدر وقوعه غير مقارن للتحدي لم يقع إلا على الوجه المعلوم في أمثاله ; فإذا وقع مقترنا بالدعوة خارقا للعادة علم أنه لم يقع كذلك مخالفا لما اطرد إلا والداعي صادق ، فلو كانت العادة غير معلومة ، لما حصل العلم بصدقه اضطرارا ; لأن وقوع مثل ذلك الخارق لم يكن يدعى بدون اقتران الدعوة والتحدي ، لكن العلم حاصل ; فدل على أن ما انبنى عليه العلم معلوم أيضا ، وهو المطلوب .
[ ص: 485 ] فإن قيل : هذا معارض بما يدل على أن اطراد العوائد غير معلوم ، بل إن كان فمظنون ، والدليل على ذلك أمران :
أحدهما : أن استمرار أمر في العالم مساو لابتداء وجوده ; لأن الاستمرار إنما هو بالإمداد المستمر ، والإمداد ممكن أن لا يوجد ، كما أن استمرار العدم على الموجود في الزمن الأول كان ممكنا فلما حصل أحد طرفي الإمكان مع جواز بقائه على أصل العدم ; فكذلك وجوده في الزمان الثاني ممكن ، وعدمه كذلك ، فإذا كان كذلك ; فكيف يصح مع إمكان عدم استمرار وجوده العلم باستمرار وجوده ، هل هذا إلا عين المحال ؟
والثاني : إن خوارق العادات في الوجود غير قليل ، بل ذلك كثير ولا سيما ما جرى على أيدي الأنبياء عليهم السلام من ذلك ، وكذلك ما انخرق للأولياء من هذه الأمة وفي الأمم قبلها من العادات ، والوقوع زائد على مجرد الإمكان ، فهو أقوى في الدلالة ، فإذا لا يصح أن يكون مجاري العادات معلومة البتة .
فالجواب عن الأول أن الجواز العقلي غير مندفع عقلا ، وإنما اندفع بالسمع القطعي ، وإذا اندفع بالسمع وهو جميع ما تقدم من الأدلة ; لم يفد حكم الجواز العقلي .
ولا يقال : إن هذا تعارض في القطعيات وهو محال .
لأنا نقول : إنما يكون محالا إذا تعارضا من وجه واحد ، وليس كذلك هنا ، بل الجواز العقلي هنا باق على حكمه في أصل الإمكان ، والامتناع السمعي راجع إلى الوقوع ، وكم من جائز غير واقع ؟ !
وكذلك نقول : العالم كان قبل وجوده ممكنا أن يبقى على أصله من العدم [ ص: 486 ] ويمكن أن يوجد ; فنسبة استمرار العدم عليه أو إخراجه إلى الوجود من جهة نفسه نسبة واحدة ، وقد كان من جهة علم الله فيه لا بد أن يوجد ; فواجب وجوده ، ومحال استمرار عدمه ، وإن كان في نفسه ممكن البقاء على أصل العدم ; ولذلك قالوا : من الجائز تنعيم من مات على الكفر ، وتعذيب من مات على الإسلام ، ولكن هذا الجائز محال الوقوع من جهة إخبار الله تعالى أن الكفار هم المعذبون ، وأن المسلمين هم المنعمون ; فلم يتوارد الجواز والامتناع والوجوب على مرمى واحد ، كذلك هاهنا ; فالجواز من حيث نفس الجائز ، والوجوب أو الامتناع من حيث أمر خارج ; فلا يتعارضان .
وعن الثاني أنا قدمنا أن العلم المحكوم به على العادات إنما هو في كليات الوجود لا في جزئياته ، وما اعترض به من باب الأمور الجزئية التي لا تخرم كلية ، ولذلك لم يدخل ذلك على أرباب العوائد شكا ولا توقفا في العمل على مقتضى العادات البتة ، ولولا استقرار العلم بالعادات ; لما ظهرت الخوارق كما تقدم ، وهو من أنبل الأدلة على العلم بمجاري العادات ، وأصله للفخر الرازي رحمه الله تعالى ، فإذا رأينا جزئيا انخرقت فيه العادة على شرط ذلك ; دلنا على ما تدل عليه الخوارق من نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن اقترنت بالتحدي ، أو ولاية الولي إن لم تقترن ، أو اقترنت بدعوى الولاية على القول بجواز ذلك ، ولا يقدح انخراقها في علمنا باستمرار العادات الكلية ، كما إذا رأينا عادة جرت في جزئية من هذا العالم في الماضي والحال ; غلب على ظنوننا أيضا استمرارها في الاستقبال ، [ ص: 487 ] وجاز عندنا خرقها بدليل انخراق ما انخرق منها ، ولا يقدح ذلك في علمنا باستمرار العاديات الكلية ، وهكذا حكم سائر مسائل الأصول ، ألا ترى أن العمل بالقياس قطعي ، والعمل بخبر الواحد قطعي ، والعمل بالترجيح عند تعارض الدليلين الظنيين قطعي ، إلى أشباه ذلك ، فإذا جئت إلى قياس معين لتعمل به كان العمل [ به ] ظنيا ، أو أخذت في العمل بخبر واحد معين وجدته ظنيا لا قطعيا ، وكذلك سائر المسائل ، ولم يكن ذلك قادحا في أصل المسألة الكلية ، وهذا كله ظاهر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (84)
صـ488 إلى صـ 495
المسألة الرابعة عشرة
العوائد المستمرة ضربان :
أحدهما : العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها ، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا ، أو نهى عنها كراهة أو تحريما ، أو أذن فيها فعلا وتركا .
والضرب الثاني : هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي .
فأما الأول ; فثابت أبدا كسائر الأمور الشرعية ، كما قالوا في سلب العبد أهلية الشهادة ، وفي الأمر بإزالة النجاسات ، وطهارة التأهب للمناجاة ، وستر العورات ، والنهي عن الطواف بالبيت على العري ، وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في الناس ، إما حسنة عند الشارع أو قبيحة ; فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع ; فلا تبديل لها وإن اختلف آراء المكلفين فيها ; فلا يصح أن ينقلب الحسن فيها قبيحا ولا القبيح حسنا ، حتى يقال مثلا : إن قبول شهادة العبد لا تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه ، أو إن كان كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح ; فلنجزه ، أو غير ذلك ، إذ لو صح مثل هذا لكان [ ص: 489 ] نسخا للأحكام المستقرة المستمرة ، والنسخ بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - باطل ، فرفع العوائد الشرعية باطل .
وأما الثاني ; فقد تكون تلك العوائد ثابتة ، وقد تتبدل ، ومع ذلك ; فهي أسباب لأحكام تترتب عليها .
فالثابتة كوجود شهوة الطعام والشراب ، والوقاع والنظر ، والكلام والبطش والمشي ، وأشباه ذلك ، وإذا كانت أسبابا لمسببات حكم بها الشارع ، فلا إشكال في اعتبارها والبناء عليها والحكم على وفقها دائما .
والمتبدلة :
منها : ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح ، وبالعكس ، مثل كشف الرأس ; فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع ، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية ، وغير قبيح في البلاد المغربية ; فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك ; فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة ، وعند أهل المغرب غير قادح .
ومنها : ما يختلف في التعبير عن المقاصد ; فتنصرف العبارة عن معنى إلى عبارة أخرى ، إما بالنسبة إلى اختلاف الأمم كالعرب مع غيرهم ، أو [ ص: 490 ] بالنسبة إلى الأمة الواحدة كاختلاف العبارات بحسب اصطلاح أرباب الصنائع في صنائعهم مع اصطلاح الجمهور ، أو بالنسبة إلى غلبة الاستعمال في بعض المعاني ، حتى صار ذلك اللفظ إنما يسبق منه إلى الفهم معنى ما ، وقد كان يفهم منه قبل ذلك شيء آخر ، أو كان مشتركا فاختص ، وما أشبه ذلك ، والحكم أيضا يتنزل على ما هو معتاد فيه بالنسبة إلى من اعتاده دون من لم يعتده ، وهذا المعنى يجري كثيرا في الأيمان والعقود والطلاق ، كناية وتصريحا .
ومنها : ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوها ; كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول ، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة ، أو بالعكس ، أو إلى أجل كذا دون غيره ; فالحكم أيضا جار على ذلك حسبما هو مسطور في كتب الفقه .
[ ص: 491 ] ومنها : ما يختلف بحسب أمور خارجة عن المكلف ، كالبلوغ ; فإنه يعتبر فيه عوائد الناس من الاحتلام أو الحيض ، أو بلوغ سن من يحتلم أو من تحيض ، وكذلك الحيض يعتبر فيه إما عوائد الناس بإطلاق أو عوائد لذات المرأة أو قراباتها ، أو نحو ذلك ; فيحكم لهم شرعا بمقتضى العادة في ذلك الانتقال .
ومنها : ما يكون في أمور خارقة للعادة ; كبعض الناس تصير له خوارق العادات عادة ، فإن الحكم عليه يتنزل على مقتضى عادته الجارية له المطردة الدائمة ، بشرط أن تصير العادة الأولى الزائلة لا ترجع إلا بخارقة أخرى ; كالبائل أو المتغوط من جرح حدث له حتى صار المخرج المعتاد في الناس بالنسبة إليه في حكم العدم ; فإنه إن لم يصر كذلك ; فالحكم للعادة العامة ، وقد يكون الاختلاف من أوجه غير هذه ، ومع ذلك ; فالمعتبر فيها من جهة الشرع أنفس تلك العادات ، وعليها تتنزل أحكامه لأن الشرع إنما جاء بأمور معتادة ، جارية على أمور معتادة كما تقدم بيانه .
فصل
واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ; فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب ; لأن الشرع موضوع على أنه دائم أبدي ، لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك ، لم يحتج في الشرع إلى مزيد ، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها ; كما في البلوغ مثلا ، فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف ; فسقوط [ ص: 492 ] التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب ، وإنما وقع الاختلاف في العوائد ، أو في الشواهد ، وكذلك الحكم بعد الدخول بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناء على العادة ، وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضا ، بناء على نسخ تلك العادة ليس باختلاف في حكم ، بل الحكم أن الذي ترجح جانبه بمعهود أو أصل ; فالقول قوله بإطلاق لأنه مدعى عليه ، وهكذا سائر الأمثلة ; فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق ، والله أعلم .
[ ص: 493 ] المسألة الخامسة عشرة
العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعا ، كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية ; أي : سواء كانت مقررة بالدليل شرعا أمرا أو نهيا أو إذنا أم لا .
أما المقررة بالدليل ; فأمرها ظاهر ، وأما غيرها ; فلا يستقيم إقامة التكليف إلا بذلك ، فالعادة جرت بأن الزجر سبب الانكفاف عن المخالفة ; كقوله تعالى : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] .
فلو لم تعتبر العادة شرعا ; لم ينحتم القصاص ولم يشرع ; إذ كان يكون شرعا لغير فائدة ، وذلك مردود بقوله : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] .
وكذلك البذر سبب لنبات الزرع ، والنكاح سبب للنسل ، والتجارة سبب لنماء المال عادة ; كقوله تعالى : وابتغوا ما كتب الله لكم [ البقرة : 187 ] .
وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .
وما أشبه ذلك مما يدل على وقوع المسببات عن أسبابها دائما ، فلو لم [ ص: 494 ] تكن المسببات مقصودة للشارع في مشروعية الأسباب ; لكان خلافا للدليل القاطع ، فكان ما أدى إليه باطلا .
ووجه ثان ، وهو ما تقدم في مسألة العلم بالعاديات ; فإنه جار هاهنا .
ووجه ثالث وهو أنه لما قطعنا بأن الشارع جاء باعتبار المصالح ; لزم القطع بأنه لا بد من اعتباره العوائد ; لأنه إذا كان التشريع على وزان واحد ; دل [ ص: 495 ] على جريان المصالح على ذلك ; لأن أصل التشريع سبب المصالح ، والتشريع دائم كما تقدم ; فالمصالح كذلك ، وهو معنى اعتباره للعادات في التشريع .
ووجه رابع ، وهو أن العوائد لو لم تعتبر لأدى إلى تكليف ما لا يطاق ، وهو غير جائز أو غير واقع ، وذلك أن الخطاب ; إما أن يعتبر فيه العلم والقدرة على المكلف به وما أشبه ذلك من العاديات المعتبرة في توجه التكليف ، أو لا ; فإن اعتبر فهو ما أردنا ، وإن لم يعتبر فمعنى ذلك أن التكليف متوجه على العالم والقادر ، وعلى غير العالم والقادر ، وعلى من له مانع ومن لا مانع له ، وذلك عين تكليف ما لا يطاق ، والأدلة على هذا المعنى واضحة كثيرة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (85)
صـ496 إلى صـ 501
فصل
وإذا كانت العوائد معتبرة شرعا ; فلا يقدح في اعتبارها انخراقها ما بقيت عادة على الجملة ، وإنما ينظر في انخراقها .
ومعنى انخراقها أنها تزول بالنسبة إلى جزئي ; فيخلفها في الموضع حالة ; إما من حالات الأعذار المعتادة في الناس ، أو من غير ذلك ، فإن كانت منخرقة بعذر ; فالموضع للرخصة ، وإن كانت من غير ذلك ; فإما إلى عادة أخرى دائمة بحسب الوضع العادي ، كما في البائل من جرح صار معتادا ; فهذا راجع إلى حكم العادة الأولى لا إلى حكم الرخص كما تقدم ، وإما إلى غير عادة ، أو [ ص: 496 ] إلى عادة لا تخرم العادة الأولى ، فإن انخرقت إلى عادة أخرى لا تخرم العادة الأولى ، فظاهر أيضا اعتبارها لكن على وجه راجع إلى باب الترخص ، كالمرض المعتاد ، والسفر المعتاد بالنسبة إلى جمع الصلاتين والفطر والقصر ونحو ذلك ، وإن انخرقت إلى غير معتاد ; فهل يكون لها حكمها في نفسها ، أو تجري عليها أحكام العوائد التي تناسبها ؟
ولا بد من تمثيلها أولا ، ثم النظر في مجاري تلك الأحكام في الخوارق .
فمن ذلك توقف عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عن إكراه من منع الزكاة ، وقوله لمن كتب له بذلك : " دعوه " .
وقصة ربعي بن حراش حين طلب الحجاج ابنه ليقتله ; فسأله الحجاج عن ابنه فأخبره ، والأب عارف بما يراد من ابنه .
[ ص: 497 ] وقصة أبي حمزة الخراساني حين وقع في البئر ثم سد رأسها عليه ولم يستغث .
وحديث أبي يزيد مع خديمه لما حضرهما شقيق البلخي وأبو تراب النخشبي ; فقالا للخديم : كل معنا . فقال : أنا صائم . فقال أبو تراب : كل ولك أجر صوم شهر ، فأبى . فقال شقيق : كل ولك أجر صوم سنة ، فأبى . فقال أبو يزيد : دعوا من سقط من عين الله . فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة ، [ ص: 498 ] وقطعت يده .
ومنه دخول البرية بلا زاد ، ودخول الأرض المسبعة ، وكلاهما من الإلقاء باليد إلى التهلكة .
فالذي يقال في هذا الموضع بعد العلم بأن ما خالف الشريعة غير صحيح أن هذه الأمور لا ينبغي حملها على المخالفة أصلا مع ثبوت دين أصحابها ، وورعهم وفضلهم وصلاحهم بناء على الأخذ بتحسين الظن في أمثالهم ، كما أنا مؤاخذون بذلك في سلفنا الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - وغيرهم ممن سلك في التقوى والفضل سبيلهم ، وإنما ينظر فيها بناء على أنها جارية على ما يسوغ شرعا .
وعند ذلك ; فلا يخلو ما بنوا عليه أن يكون غريبا من جنس العادي ، أو لا يكون من جنسه .
فإن كان الأول ; لحق بجنس أحكام العادات .
[ ص: 499 ] مثاله الأمر بالإفطار ; فإنه يمكن أن يكون مبنيا على رأي من يرى المتطوع أمير نفسه ، وهم الأكثر ; فتصير إباية التلميذ عن الإجابة عنادا واتباعا للهوى ، ومثل هذا مخوف العاقبة ، لا سيما بالنسبة إلى موافقة من شهر فضله وولايته ، وكذلك أمر عمر بترك مانع الزكاة ، لعله كان نوعا من الاجتهاد ; إذ عامله معاملة المغفلين المطرحين في قواعد الدين ; ليزدجر بنفسه وينتهي عما هم به ، وكذلك وقع ; فإنه راجع نفسه وأدى الزكاة الواجبة عليه لا أنه أراد تركه جملة ، بل ليزجره بذلك أو يختبر حاله ، حتى إذا أصر على الامتناع أقام عليه ما يقام على الممتنعين .
ومثل ذلك قصة ربعي بن حراش فإنه حكي عنه أنه لم يكذب قط ; فلذلك سأله الحجاج عن ابنه ، والصدق من عزائم العلم ، وإنما جواز الكذب رخصة يجوز أن لا يعمل بمقتضاها ، بل هو أعظم أجرا ; كما في النطق بكلمة الكفر وهي رأس الكذب ، وقد قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [ التوبة : 119 ] بعدما أخبر به من قصة الثلاثة الذين خلفوا ; فمدحهم الله بالتزام الصدق في موطن هو مظنة للرخصة ، ولكن أحمدوا أمرهم في طريق الصدق بناء على أن الأمن في طريق المخافة مرجو ؟ وقد قيل : " عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك ; فإنه ينفعك ، ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك ; فإنه يضرك " ، وهو أصل صحيح شرعي .
ومثله قصة أبي حمزة من باب الأخذ بعزائم العلم ; فإنه عقد على نفسه أن لا يعتمد على غير الله ; فلم يترخص ، وهو أصل صحيح ، ودل على [ ص: 500 ] خصوص مسألته قوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] ، ووكالة الله أعظم من وكالة غيره ، وقد قال هود عليه الصلاة والسلام : فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم [ هود : 55 ] الآية ، ولما عقد أبو حمزة عقدا طلب بالوفاء ; لقوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [ النحل : 91 ] .
وأيضا ; فإن بعض الأئمة نقل عنه أنه سمع أن أناسا بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يسألوا أحدا شيئا ; فكان أحدهم إذا وقع سوطه لا يسأل أحدا رفعه إليه ; فقال أبو حمزة : رب ! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذا رأوه ، وأنا أعاهدك أن لا أسأل أحدا شيئا أبدا . قال : فخرج حاجا من الشام يريد مكة . . . إلى آخر الحكاية .
وهذا أيضا من قبيل الأخذ بعزائم العلم ; إذ عقد على نفسه مثل ما عقد من هو أفضل منه ; فليس بجار على غير الأصل الشرعي ، ولذلك لما حكى ابن العربي الحكاية قال : " فهذا رجل عاهد الله ، فوجد الوفاء على التمام والكمال ; فبه فاقتدوا إن شاء الله تهتدوا " .
وكذلك دخول الأرض المسبعة ودخول البرية بلا زاد ; فقد تبين في كتاب الأحكام أن من الناس من يكون وجود الأسباب وعدمها عندهم سواء ; فإن الله هو مسبب الأسباب وخالق مسبباتها ; فمن كان هذا حاله ; فالأسباب عنده [ ص: 501 ] كعدمها ، فلم يكن له مخافة من مخوف مخلوق ، [ ولا رجاء في مرجو مخلوق ] ; إذ لا مخوف ولا مرجو إلا الله ; فليس هذا إلقاء باليد إلى التهلكة ، وإنما كان يكون كذلك لو حصل في اعتقاده أنه إن لم يتزود هلك ، وإن قارب السبع هلك ، وأما إذا لم يحصل ذلك ; فلا ، على أنه قد شرط الغزالي في دخول البرية بلا زاد اعتياد الصبر والاقتيات بالنبات ، وكل هذا راجع إلى حكم عادي .
ولعلك تجد مخرجا في كل ما يظهر على أيدي الأولياء الذي ثبتت ولايتهم ، بحيث يرجع إلى الأحكام العادية ، بل لا تجده إن شاء الله إلا كذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (86)
صـ502 إلى صـ 510
فصل
وأما إن كان ما بنوا عليه من غير جنس العادي ; كالمكاشفة ; فهل يكون حكمهم فيه حكم أهل العادات الجارية ، بحيث يطلبون بالرجوع إلى ما عليه الناس ؟ أم يعاملون معاملة أخرى خارجة عن أحكام أهل العوائد الظاهرة في الناس ، وإن كانت مخالفة في الظاهر ; لأنها في تحقيق الكشف الغيبي موافقة لا مخالفة .
والذي يطرد بحسب ما ثبت في المسألة الثانية عشرة وما قبلها أن لا يكون حكمهم مختصا ، بل يردون إلى أحكام أهل العوائد الظاهرة ويطلبهم المربي بذلك حتما ، وقد مر ما يستدل به على ذلك ، ومن الدليل عليه أيضا أوجه :
أحدها : أن الأحكام لو وضعت على حكم انخراق العوائد لم تنتظم لها [ ص: 502 ] قاعدة ، ولم يرتبط لحكمها مكلف إذ كانت ; لكون الأفعال كلها داخلة تحت إمكان الموافقة والمخالفة ; فلا وجه إلا ويمكن فيه الصحة والفساد ; فلا حكم لأحد على فعل من الأفعال بواحد منهما على البت ، وعند ذلك لا يحكم بترتب ثواب ولا عقاب ، ولا إكرام ولا إهانة ، ولا حقن دم ولا إهداره ، ولا إنفاذ حكم من حاكم ، وما كان هكذا ، فلا يصح أن يشرع مع فرض اعتبار المصالح ، وهو الذي انبنت الشريعة عليه .
والثاني : أن الأمور الخارقة لا تطرد أن تصير حكما يبنى عليه ; لأنها مخصوصة بقوم مخصوصين ، وإذا اختصت لم تجر مع غيرهم ; فلا تكون قواعد الظواهر شاملة لهم ، ولا أيضا تجري فيما بينهم وبين غيرهم ممن ليس منهم ; إذ لا يصح أن يحكم بمقتضى الخوارق على من ليس من أهلها باتفاق من الفريقين ، أعني في نصب أحكام العامة ; إذ ليس للحاكم أو السلطان أن يحكم للولي بمقتضى كشفه ، أو [ كشف ] السلطان نفسه على من ليس بولي من غير معاملة بالأسباب الظاهرة ، ولا أيضا للوليين إذا ترافقا إلى الحاكم في قضية .
وإذا فرض أنها غير شاملة لهم كان على غير ما تقدم البرهان عليه من أن الشريعة عامة وأحكامها عامة على جميع الخلق وفي جميع الأحوال ، كيف وهم يقولون : إن الولي قد يعصي والمعاصي جائزة عليه ; فلا فعل يخالف ظاهره ظاهر الشرع إلا والسابق إلى بادئ الرأي منه أنه عصيان ; فلا يصح مع هذا أن يثبت أن هذا الفعل الخارق الذي لا يجري على ظاهر الشرع مشروع ; لتطرق [ ص: 503 ] الاحتمالات .
وهذا هو الوجه الثالث .
والرابع : أن أولى الخلق بهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم الصحابة - رضي الله عنهم - ولم يقع منه عليه الصلاة والسلام شيء من ذلك ; إلا ما نصت شريعته عليه مما خص به ولم يعد إلى غيره وما سوى ذلك ، فقد أنكر على من قال له : " يحل الله لنبيه ما شاء " ، ومن قال : " إنك لست مثلنا ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر " . فغضب وقال : " إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي " .
وقد كان عليه الصلاة والسلام يستشفى به وبدعائه ، ولم يثبت أنه مس [ ص: 504 ] بشرة أنثى ممن ليست بزوجة له أو ملك يمين ، وكانت النساء يبايعنه ولم تمس يده يد أنثى قط ، ولكن كان يعمل في الأمور على مقتضى الظواهر وإن كان عالما بها ، وقد مر من هذا أشياء ، وهو الذي قعد القواعد ولم يستثن وليا من غيره ، وقد كان حقيقا بذلك لو نزل الحكم على استثناء الولي وأصحاب الخوارق ، وكذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وهم الأولياء حقا ، والفضلاء صدقا .
وفي قصة الربيع بيان لهذا ; حيث قال وليها أو من كان : والله لا تكسر ثنيتها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : كتاب الله القصاص .
[ ص: 505 ] ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بأن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ، فكان يرجئ الأمر حتى يبرز أثر القسم ، بل ألجأ إلى القصاص الذي فيه أشد محنة حتى عفا أهله ; فحينئذ قال عليه الصلاة والسلام : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ، فبين أن ذلك القسم قد أبره الله ، ولكن لم يحكم به حتى ظهر له كرسي وهو العفو ، والعفو منتهض في ظواهر الحكم سببا لإسقاط القصاص .
والخامس : أن الخوارق في الغالب إذا جرت أحكامها معارضة للضوابط الشرعية ; فلا تنتهض أن تثبت ولو كضرائر الشعر ، فإن ذلك إعمال لمخالفة المشروعات ، ونقض لمصالحها الموضوعات ، ألا ترى أن رسول الله قد كان عالما بالمنافقين وأعيانهم ، وكان يعلم منهم فسادا في أهل الإسلام ، ولكن كان يمتنع من قتلهم لمعارض هو أرجح في الاعتبار ; فقال : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ، فمثله يلغى في جريان أحكام الخوارق على أصحابها ; حتى لا يعتقد من لا خبرة له أن للصوفية شريعة أخرى ، ولهذا وقع إنكار الفقهاء لفعل أبي يعزى - رضي الله عنه - فالقول بجواز انفراد أصحاب الخوارق بأحكام خارجة عن أحكام العادات الجمهورية قول يقدح في القلوب [ ص: 506 ] أمورا يطلب بالتحرز منها شرعا ; فلا ينبغي أن يخصوا بزائد على مشروع الجمهور ، ولذلك أيضا اعتقد كثير من الغالين فيهم مذهب الإباحة ، وعضدوا بما سمعوا منها رأيهم ، وهذا [ كله ] تعريض لهم إلى سوء المقالة .
وحاش لله أن يكون أولياء الله إلا برآء من هذه الخوارق المنخرقة ، غير أن الكلام جرى إلى الخوض في هذا المعنى ; فقد علم منهم المحافظة على حدود الشريعة ظاهرا وباطنا ، وهم القائمون بأحكام السنة على ما ينبغي ، المحافظون على اتباعها ، لكن انحراف الفهم عنهم في هذه الأزمنة وفيما قبلها طرق في أحوالهم ما طرق ، ولأجله وقع البحث في هذه المسائل ; حتى يتقرر بحول الله ما يفهم به عنهم مقاصدهم ، وما توزن به أحوالهم ، حسبما تعطيه حقيقة طريقتهم المثلى ، نفعهم الله ونفع بهم .
ثم نرجع إلى تمام المسألة ; فنقول :
وليس الاطلاع على المغيبات ولا الكشف الصحيح بالذي يمنع من الجريان على مقتضى الأحكام العادية ، والقدوة في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ما جرى عليه السلف الصالح ، وكذلك القول في انخراق العادات لا ينبغي أن يبنى عليها في الأحكام الظاهرة ، وقد كان عليه الصلاة والسلام معصوما ; لقوله تعالى : والله يعصمك من الناس [ المائدة : 67 ] ، ولا غاية وراء هذا ، ثم إنه كان يتحصن بالدرع والمغفر ، ويتوقى ما العادة أن يتوقى ، ولم يكن ذلك [ ص: 507 ] نزولا عن رتبته العليا إلى ما دونها ، بل هي أعلى .
وما ذكر من استواء العوائد وعدمها بالنسبة إلى قدرة الله ; فذلك أيضا غير مانع من إجراء أحكام العوائد على مقتضاها .
وقد تقدم أن الصحابة قد كانوا حازوا رتبة التوكل ، ورؤية إنعام المنعم من المنعم لا من السبب ، ومع ذلك فلم يتركوا الدخول في الأسباب العادية التي ندبوا إليها ، ولم يتركهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مع هذه الحالة التي تسقط حكم الأسباب وتقضي بانخرام العوائد ، فدل على أنها العزائم التي جاء الشرع بها ; لأن حال انخراق العوائد ليس بمقام يقام فيه ، وإنما محله محل الرخصة كما تقدم ذكره ، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : قيدها وتوكل .
وقد كان المكملون من الصوفية يدخلون في الأسباب تأدبا بآداب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونظرا إلى أن وضع الله تعالى أحوال الخلق على العوائد الجارية يوضح أن المقصود الشرعي الدخول تحت أحكام العوائد ، ولم يكونوا ليتركوا الأفضل إلى غيره ، وأما قصة الخضر عليه السلام ، وقوله : وما فعلته عن أمري [ الكهف : 82 ] ، فيظهر به أنه نبي ، وذهب إليه جماعة من العلماء استدلالا بهذا القول ، ويجوز للنبي أن يحكم بمقتضى الوحي من غير إشكال ، وإن سلم ; فهي قضية عين ولأمر ما ، وليست جارية على شرعنا ، والدليل على ذلك [ ص: 508 ] أنه لا يجوز في هذه الملة لولي ولا لغيره ممن ليس بنبي أن يقتل صبيا لم يبلغ الحلم ، وإن علم أنه طبع كافرا ، وأنه لا يؤمن أبدا ، وأنه إن عاش أرهق أبويه طغيانا وكفرا ، وإن أذن له من عالم الغيب في ذلك ; لأن الشريعة قد قررت الأمر والنهي ، وإنما الظاهر في تلك القصة أنها وقعت على مقتضى شريعة أخرى ، وعلى مقتضى عتاب موسى عليه السلام وإعلامه أن ثم علما آخر وقضايا أخر لا يعلمها هو .
فليس كل ما اطلع عليه الولي من الغيوب يسوغ له شرعا أن يعمل عليه ، بل هو على ضربين :
أحدهما :
ما خالف العمل به ظواهر الشريعة من غير أن يصح رده إليها ; فهذا لا يصح العمل عليه البتة .
والثاني :
ما لم يخالف [ العمل ] به شيئا من الظواهر ، أو إن ظهر منه خلاف ; فيرجع بالنظر الصحيح إليها ; فهذا يسوغ العمل عليه ، وقد تقدم بيانه ، فإذا تقرر هذا الطريق ; فهو الصواب ، وعليه يربي المربي ، وبه يعلق همم السالكين تأسيا بسيد المتبوعين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقرب إلى الخروج عن مقتضى الحظوظ ، وأولى برسوخ القدم ، وأحرى بأن يتابع عليه صاحبه ويقتدى به فيه ، والله أعلم .
[ ص: 509 ] المسألة السادسة عشرة
العوائد أيضا ضربان بالنسبة إلى وقوعها في الوجود :
أحدهما : العوائد العامة التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال ; كالأكل والشرب ، والفرح والحزن ، والنوم واليقظة ، والميل إلى الملائم ، والنفور عن المنافر ، وتناول الطيبات والمستلذات ، واجتناب المؤلمات والخبائث ، وما أشبه ذلك .
والثاني : العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال ; كهيئات اللباس والمسكن ، واللين في الشدة والشدة فيه ، والبطء والسرعة في الأمور ، والأناة والاستعجال ، وما كان نحو ذلك .
فأما الأول ; فيقضى به على أهل الأعصار الخالية والقرون الماضية ; للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى في خلقه على هذا السبيل وعلى سننه لا تختلف عموما كما تقدم ; فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر محكوما به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقا ، كانت العادة وجودية أو شرعية .
وأما الثاني ; فلا يصح أن يقضى به على ما تقدم البتة ، حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج ، فإذ ذاك يكون قضاء على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة ، وكذلك في المستقبل ، ويستوي في ذلك أيضا العادة الوجودية والشرعية .
[ ص: 510 ] وإنما قلنا ذلك لأن الضرب الأول راجع إلى عادة كلية أبدية ، وضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق ، حسبما بين ذلك الاستقراء ، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا ; فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهي العادة التي تقدم الدليل على أنها معلومة لا مظنونة ، وأما الضرب الثاني ; فراجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية ، وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم ، فإذا كان كذلك ; لم يصح أن يحكم بالثانية على من مضى لاحتمال التبدل والتخلف ، بخلاف الأولى .
وهذه قاعدة محتاج إليها في القضاء على ما كان عليه الأولون ، لتكون حجة في الآخرين ، ويستعملها الأصوليون كثيرا بالبناء عليها ، ورد القضاء بالعامة إليها وليس هذا الاستعمال بصحيح بإطلاق ، ولا فاسد بإطلاق ، بل الأمر فيه يحتمل الانقسام كما تقدم ، وينشأ بين القسمين قسم ثالث يشكل الأمر فيه : هل يلحق بالأول فيكون حجة ، أم لا فلا يكون حجة ؟
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (87)
صـ511 إلى صـ 524
المسألة السابعة عشرة
المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها ، وقد علم من الشريعة أن أعظم المصالح جريان الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة ، وأن أعظم المفاسد ما يكر بالإخلال عليها .
والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها ; كما في الكفر وقتل النفس وما يرجع إليه ، والزنى والسرقة وشرب الخمر وما يرجع إلى ذلك مما وضع له حد أو وعيد ، بخلاف ما كان راجعا إلى حاجي أو تكميلي ; فإنه لم يختص بوعيد في نفسه ، ولا بحد معلوم يخصه ; فإن كان كذلك ، فهو راجع إلى أمر ضروري ، والاستقراء يبين ذلك ; فلا حاجة إلى بسط الدليل عليه .
إلا أن المصالح والمفاسد ضربان :
أحدهما : ما به صلاح العالم أو فساده ; كإحياء النفس في المصالح ، وقتلها في المفاسد .
والثاني : ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد ، وهذا الثاني ليس في مرتبة واحدة بل هو على مراتب ، وكذلك الأول على مراتب أيضا ، فإنا إذا نظرنا إلى الأول وجدنا الدين أعظم الأشياء ، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما ، ثم النفس ، ولذلك يهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل [ ص: 512 ] والمال ; فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنى أن يقي نفسه به ، وللمرأة إذا اضطرت وخافت الموت ولم تجد من يطعمها إلا ببذل بضعها جاز لها ذلك ، وهكذا سائرها .
ثم إذا نظرنا إلى بيع الغرر مثلا وجدناه المفسدة في العمل [ به ] على مراتب ; فليس مفسدة بيع حبل الحبلة كمفسدة بيع الجنين في بطن أمه الحاضرة الآن ، ولا بيع الجنين في البطن كبيع الغائب على الصفة وهو ممكن الرؤية من غير مشقة ، وكذلك المصالح في التوقي عن هذه الأمور ; فعلى هذا إن كانت الطاعة والمخالفة تنتج من المصالح أو المفاسد أمرا كليا ضروريا ; كانت الطاعة لاحقة بأركان الدين ، والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب ، وإن لم تنتج إلا أمرا جزئيا ; فطاعة لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية ، والمعصية صغيرة من الصغائر ، وليست الكبيرة في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد ، ولا كل ركن مع ما يعد ركنا على وزان واحد أيضا ، كما أن الجزئيات في الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد ، بل لكل منها مرتبة تليق بها .
[ ص: 513 ] المسألة الثامنة عشرة
الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني ، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني .
أما الأول ; فيدل عليه أمور :
منها الاستقراء ; فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها ، وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة ، إن خرجت عنها لم تكن عبادات ، ووجدنا الموجبات فيها تتحد مع اختلاف الموجبات ، وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب ، وفي هيئة أخرى غير مطلوب ، وأن [ ص: 514 ] طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره ، وأن التيمم - وليست فيه نظافة حسية - يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر ، وهكذا سائر العبادات ; كالصوم ، والحج ، وغيرهما ، وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى ، وإفراده بالخضوع ، والتعظيم لجلاله ، والتوجه إليه ، وهذا المقدار لا يعطي علة خاصة يفهم منها حكم خاص ; إذ لو كان كذلك لم يحد لنا أمر مخصوص ، بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حد وما لم يحد ، ولكان المخالف لما حد غير ملوم ; إذ كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلا ، وليس كذلك باتفاق ، فعلمنا قطعا أن المقصود الشرعي الأول التعبد لله بذلك المحدود ، وأن غيره غير مقصود شرعا .
والثاني : أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد ; لنصب الشارع عليه دليلا واضحا ، كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة لا يوقف معها على المنصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه في المعنى المفهوم من الأصل المنصوص عليه ، ولكان ذلك يتسع في أبواب [ ص: 515 ] العبادات ، ولما لم نجد ذلك كذلك بل على خلافه ; دل على أن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود ; إلا أن يتبين بنص أو إجماع معنى مراد في بعض الصور ; فلا لوم على من اتبعه ، لكن ذلك قليل ; فليس بأصل ، وإنما الأصل ما عم في الباب وغلب في الموضع .
وأيضا ; فإن المناسب فيها معدود عندهم فيما لا نظير له ; كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره ، والجمع بين الصلاتين ، وما أشبه ذلك .
وإلى هذا ; فأكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة [ ص: 516 ] الخصوص ; كقوله : " سها فسجد " ، وقوله : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ، ونهيه عن " الصلاة طرفي النهار " ، وعلل ذلك بأن [ ص: 517 ] الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان .
وكذلك ما يستعمله الخلافيون في قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية بأنها طهارة تعدت محل موجبها ; فتجب فيها النية قياسا على التيمم ، وما أشبه ذلك مما لا يدل على معنى ظاهر منضبط مناسب يصلح لترتيب الحكم عليه من غير نزاع ، بل هو من المسمى شبها ، بحيث لا يتفق على القول به القائلون ، وإنما يقيس به من يقيس بعد أن لا يجد سواه ، فإذا لم تتحقق لنا علة ظاهرة تشهد لها المسالك الظاهرة ; فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه [ ص: 518 ] الوقوف عند ما حد ، دون التعدي إلى غيره ; لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات ، فكان أصلا فيها .
والثالث : أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتد إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات ; فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها ، والمشي على غير طريق ، ومن ثم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة ، وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها ، فافتقرنا إلى الشريعة في ذلك ، ولما كان الأمر كذلك عذر أهل الفترات في [ ص: 519 ] عدم اهتدائهم ; فقال تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ الإسراء : 15 ] .
وقال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ النساء : 165 ] .
والحجة هاهنا هي التي أثبتها الشرع في رفع تكليف ما لا يطاق ، والله أعلم ، فإذا ثبت هذا ; لم يكن بد من الرجوع في هذا الباب إلى مجرد ما حده الشارع ، وهو معنى التعبد ، ولذلك كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب ، وأجرى على طريقة السلف الصالح ، وهو رأي مالك رحمه الله ; إذ لم يلتفت في رفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط النية والماء المطلق وإن حصلت النظافة بغير ذلك ، وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه ، والتسليم كذلك ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة ، واقتصر على مجرد العدد في الكفارات ، إلى غير ذلك من مبالغاته الشديدة في العبادات التي تقتضي الاقتصار على محض المنصوص عليه أو ما ماثله ; فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبنى عليه ، وركنا يلجأ إليه .
[ ص: 520 ] فصل
وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني ; فلأمور :
أولها الاستقراء ; فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد ، والأحكام العادية تدور [ معه ] حيثما دار ; فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة ، فإذا كان فيه مصلحة جاز ; كالدرهم بالدرهم إلى أجل ، يمتنع في المبايعة ، ويجوز في القرض ، وبيع الرطب باليابس ، يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة ، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات ، وقال تعالى : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب [ البقرة : 179 ] .
وقال : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] .
وفي الحديث : لا يقضي القاضي وهو غضبان .
وقال : لا ضرر ولا ضرار .
[ ص: 521 ] وقال : القاتل لا يرث .
[ ص: 522 ] ونهى عن بيع الغرر .
وقال : كل مسكر حرام .
وفي القرآن : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر [ المائدة : 91 ] [ ص: 523 ] الآية .
إلى غير ذلك مما لا يحصى ، وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد ، وأن الإذن دائر معها أينما دارت ، حسبما بينته مسالك العلة ; فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني .
والثاني : أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله ، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ; ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني ، لا الوقوف مع النصوص ، بخلاف باب العبادات ; فإن المعلوم فيه خلاف ذلك ، وقد توسع في هذا القسم مالك رحمه الله ; حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة ، وقال فيه بالاستحسان ، ونقل عنه أنه قال : " إنه تسعة أعشار [ ص: 524 ] العلم " ، حسبما يأتي إن شاء الله .
والثالث : إن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات ، واعتمد عليه العقلاء ; حتى جرت بذلك مصالحهم ، وأعملوا كلياتها على الجملة ; فاطردت لهم ، سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم ; إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل ; فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق ; فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات ، ومن هاهنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية ; كالدية ، والقسامة ، والاجتماع يوم العروبة - وهي الجمعة - للوعظ والتذكير ، والقراض ، وكسوة الكعبة ، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودا ، وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول ، وهي كثيرة ، وإنما كان عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (88)
صـ525 إلى صـ 538
فصل
فإذا تقرر هذا ، وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني ; فإذا وجد فيها التعبد ; فلا بد من التسليم والوقوف مع المنصوص ; كطلب الصداق في النكاح ، والذبح في [ المحل المخصوص في ] الحيوان المأكول ، والفروض المقدرة في المواريث ، وعدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية ; حتى يقاس عليها غيرها ; فإنا نعلم أن الشروط المعتبرة في النكاح من الولي والصداق وشبه ذلك ; لتمييز النكاح عن السفاح ، وأن فروض المواريث ترتبت على ترتيب القربى من الميت ، وأن العدد والاستبراءات المراد بها استبراء الرحم خوفا من اختلاط المياه ، ولكنها أمور جملية ; كما أن الخضوع والتعظيم والإجلال علة شرع العبادات ، وهذا المقدار لا يقضي بصحة القياس على الأصل فيها ، بحيث يقال : إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أخر مثلا لم تشترط تلك الشروط ، ومتى علم براءة الرحم لم تشرع العدة بالأقراء ولا بالأشهر ، ولا ما أشبه ذلك .
فإن قيل : وهل توجد لهذه الأمور التعبديات علة يفهم منها مقصد الشارع على الخصوص أم لا ؟ [ ص: 526 ] فالجواب أن يقال : أما أمور التعبدات ; فعلتها المطلوبة مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان ، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة ; قالت للسائلة : " أحرورية أنت ؟ " إنكارا عليها أن يسئل عن مثل هذا ; إذ لم يوضع التعبد أن تفهم علته الخاصة ، ثم قالت : كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ، وهذا يرجح التعبد على التعليل بالمشقة ، وقول ابن المسيب في مسألة تسوية الشارع بين دية الأصابع : " هي السنة يا ابن أخي " ، وهو كثير ، ومعنى هذا التعليل أن لا علة .
وأما العاديات وكثير من العبادات أيضا ; فلها معنى مفهوم ، وهو ضبط وجوه المصالح ، إذ لو ترك الناس والنظر لانتشر ولم ينضبط ، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي ، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل ، فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة ، وأسبابا معلومة لا تتعدى ; كالثمانين في القذف ، والمائة وتغريب العام في الزنا على غير إحصان ، وخص قطع اليد بالكوع وفي [ ص: 527 ] النصاب المعين ، وجعل مغيب الحشفة حدا في أحكام كثيرة ، وكذلك الأشهر والقروء في العدد ، والنصاب والحول في الزكاة ، وما لا ينضبط رد إلى أمانات المكلفين ، وهو المعبر عنه بالسرائر ; كالطهارة للصلاة ، والصوم ، والحيض ، والطهر ، وسائر ما لا يمكن رجوعه إلى أصل معين ظاهر ; فهذا مما قد يظن التفات الشارع إلى القصد إليه .
وإلى هذا المعنى يشير أصل سد الذرائع ; لكن له نظران :
نظر من جهة تشعبه وانتشار وجوهه إذا تتبعناه ، كما في مذهب مالك مثلا ، مع أن كثيرا من التكليفات ثبت كونها موكولة إلى أمانة المكلف ; فعلى هذا لا ينبغي أن يلتفت منه إلا إلى المنصوص عليه .
[ ص: 528 ] ونظر من جهة أن له ضوابط قريبة المأخذ وإن انتشرت فروعه ، وقد فهم من الشرع الالتفات إلى كليه ، فليجر بحسب الإمكان في مظانه ، وقد منع الشارع من أشياء من جهة جرها إلى منهي عنه والتوسل بها إليه ، وهو أصل مقطوع به على الجملة قد اعتبره السلف الصالح ; فلا بد من اعتباره ، ومن الناس من توسط بنظر ثالث ; فخص هذا المختلف فيه بالظاهر ، فسلط الحكام على ما اطلعوا عليه منه ضبطا لمصالح العباد ، ووكل من لم يطلع عليه إلى أمانته .
[ ص: 529 ] المسألة التاسعة عشرة
كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد ; فلا تفريع فيه ، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد ; فلا بد فيه من اعتبار التعبد لأوجه :
أحدها : أن معنى الاقتضاء أو التخيير لازم للمكلف من حيث هو مكلف ، عرف المعنى الذي لأجله شرع الحكم أو لم يعرفه ، بخلاف اعتبار المصالح فإنه غير لازم ; فإنه عبد مكلف ، فإذا أمره سيده لزمه امتثال أمره باتفاق العقلاء ، بخلاف المصلحة ; فإن اعتبارها غير لازم له من حيث هو عبد مكلف على رأي المحققين ، وإذا كان كذلك ; فالتعبد لازم لا خيرة فيه ، واعتبار المصلحة فيه الخيرة ، وما فيه الخيرة يصح تخلفه عقلا ، وإذا وقع الأمر [ ص: 530 ] والنهي شرعا لم يصح تخلفهما عقلا ; فإنه محال فالتعبد بالاقتضاء أو التخيير لازم بإطلاق ، واعتبار المصالح غير لازم بإطلاق ، خلافا لمن ألزم اللطف والأصلح .
وأيضا ; فإنه لازم على رأي من ألزم الأصلح وقال بالحسن والقبح العقليين ; فإن السيد إذا أمر عبده لأجل مصلحة هي علة الأمر بالعقل ; يلزم الامتثال من حيث مجرد الأمر لأن مخالفته قبيحة ، ومن جهة اعتبار المصلحة أيضا ; فإن تحصيلها واجب عقلا بالفرض ، فالأمران على مذهبهم لازمان ، ولا يقول أحد منهم : إن مخالفة العبد أمر سيده مع قطع النظر عن المصلحة غير قبيح ، بل هو قبيح على رأيهم وهو معنى لزوم التعبد .
والثاني : أنا إذا فهمنا بالاقتضاء أو التخيير حكمة مستقلة في شرع الحكم فلا يلزم من ذلك أن لا يكون ثم حكمة أخرى ومصلحة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك ، وغايتنا أنا فهمنا مصلحة دنيوية تصلح أن تستقل بشرعية الحكم ; فاعتبرناها بحكم الإذن الشرعي ، ولم نعلم حصر المصلحة والحكم بمقتضاها في ذلك الذي ظهر ، وإذا لم يحصل لنا بذلك علم ولا ظن ; لم يصح لنا القطع بأن لا مصلحة للحكم إلا ما ظهر لنا ، إذ هو قطع على غيب بلا دليل ، وذلك غير جائز ; فقد بقي لنا إمكان حكمة أخرى شرع لها الحكم ; فصرنا من تلك الجهة واقفين مع التعبد .
[ ص: 531 ] فإن قيل : لو جاز ذلك لم نقض بالتعدي على حال ، فإنا إذا جوزنا وجود حكمة أو مصلحة أخرى ; لم نجزم بأن الحكم لها فقط لجواز أن تكون جزء علة أو لجواز الفرع عن تلك الحكمة التي جهلناها وإن وجدت فيه العلة التي علمناها ، فإذا أمكن ذلك ; لم يصح الإلحاق والتفريع حتى نتحقق أن لا علة سوى ما ظهر ولا سبيل إلى ذلك ; فكذلك لا سبيل إلى القياس ولا القضاء بأن ذلك الحكم مشروع لتلك العلة .
فالجواب أن القضاء بالتعدي لا ينافي جواز التعبد ; لأن القياس قد صح كونه دليلا شرعيا ، ولا يكون شرعيا إلا على وجه نقدر على الوفاء به عادة ، وذلك إذا ظهر لنا علة تصلح للاستقلال بشرعية الحكم ، ولم نكلف أن ننفي ما عداها ; [ ص: 532 ] فإن الأصوليين مما يجوزون كون العلة خلاف ما ظهر لهم ، أو كون ذلك الظاهر جزء علة لا علة كاملة ، لكن غلبة الظن بأن ما ظهر مستقل بالعلية ، أو صالح لكونه علة ، كاف في تعدي الحكم به .
وأيضا ; فقد أجاز الجمهور تعليل الحكم الواحد بأكثر من علة واحدة وكل منها مستقل ، وجميعها معلوم ; فنعلل بإحداها مع الإعراض عن الأخرى وبالعكس ، ولا يمنع ذلك القياس وإن أمكن أن تكون الأخرى في الفرع أو لا تكون فيه ، وإذا لم يمنع ذلك فيما ظهر فأولى أن لا يمنع فيما لم يظهر ، فإذا ثبت هذا ، لم يبق للسؤال مورد ; فالظاهر هو المبني عليه حتى يتبين خلافه ، ولا علينا .
والوجه الثالث ; أن المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين :
أحدهما : ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة ; كالإجماع ، والنص ، والإشارة ، والسبر ، والمناسبة ، وغيرها . وهذا القسم هو الظاهر الذي [ ص: 533 ] نعلل به ، ونقول : إن شرعية الأحكام لأجله .
والثاني ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة ، ولا يطلع عليه إلا بالوحي ; كالأحكام التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإسلام ، وكذلك التي أخبر في مخالفتها أنها أسباب العقوبات وتسليط العدو ، وقذف الرعب ، والقحط ، وسائر أنواع العذاب الدنيوي والأخروي .
وإذا كان معلوما من الشريعة في مواطن كثيرة أن ثم مصالح أخر غير ما يدركه المكلف ; لا يقدر على استنباطها ولا على التعدية بها في محل آخر ; إذ لا يعرف كون المحل الآخر وهو الفرع وجدت فيه تلك العلة البتة ، لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل ; فبقيت موقوفة على التعبد المحض لأنه لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه إلا ما دخل تحت الإطلاق أو العموم المعلل ، وإذ [ ص: 534 ] ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبدا به ، ومعنى التعبد به الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان .
والرابع : أن السائل إذا قال للحاكم : لم لا تحكم بين الناس وأنت غضبان ؟ فأجاب بأني نهيت عن ذلك ; كان مصيبا ، كما أنه إذا قال : لأن الغضب يشوش عقلي وهو مظنة عدم التثبت في الحكم ; كان مصيبا أيضا ، والأول جواب التعبد المحض ، والثاني جواب الالتفات إلى المعنى ، وإذا جاز اجتماعهما وعدم تنافيهما ; جاز القصد إلى التعبد ، وإذا جاز القصد إلى التعبد دل على أن هنالك تعبدا ، وإلا لم يصح توجه القصد إلى ما لا يصح القصد إليه من معدوم أو ممكن أن يوجد أو لا يوجد ، فلما صح القصد مطلقا ; صح المقصود له مطلقا ، وذلك جهة التعبد ، وهو المطلوب .
والخامس : أن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم ، والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع ، لا مجال للعقل فيه ، بناء على قاعدة نفي [ ص: 535 ] التحسين والتقبيح ، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما ; فهو الواضع لها مصلحة ، وإلا ; فكان يمكن عقلا أن لا تكون كذلك ، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح ، فإذا كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل وتطمئن إليه النفس ، فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات ، وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبديا .
ومن هنا يقول العلماء : إن من التكاليف " ما هو حق لله خاصة " ، وهو راجع إلى التعبد ، وما هو حق للعبد ، ويقولون في هذا الثاني : " إن فيه حقا لله " ، كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب مائة وسجن عاما ، وفي القاتل غيلة إنه لا عفو فيه ، وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق ، ولا يقبل من بائع الجارية إسقاط المواضعة ولا من مسقط العدة عن مطلق المرأة ، وإن كانت براءة رحمها حقا له ، وما أشبه ذلك من المسائل الدالة على اعتبار التعبد وإن عقل المعنى الذي لأجله شرع الحكم ; فقد صار إذا كل تكليف حقا لله ، فإن ما هو لله ; فهو لله ، وما كان للعبد ; فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه ، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله ; إذ كان لله أن لا يجعل للعبد حقا أصلا .
[ ص: 536 ] ومن هذا الموضع يقول كثير من العلماء : " إن النهي يقتضي الفساد بإطلاق " ، علمت مفسدة النهي أم لا ، انتفى السبب الذي لأجله نهي عن العمل أو لا ، وقوفا مع نهي الناهي لأنه حقه ، والانتهاء هو القصد الشرعي في النهي ، فإذا لم يحصل ; فالعمل باطل بإطلاق ، فقد ثبت أن كل تكليف لا يخلو عن التعبد ، وإذا لم يخل ; فهو مما يفتقر إلى نية كالطهارات وسائر العبادات .
إلا أن التكاليف التي فيها حق العبد منها ما يصح بدون نية ، وهي التي فهمنا من الشارع فيها تغليب جانب العبد ; كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة ، ومنها ما لا يصح إلا بنية ، وذلك ما فهمنا فيه تغليب حق الله ; كالزكاة ، والذبائح ، والصيد ، والتي تصح بدون نية إذا فعلت بغير نية لا يثاب عليها ; فإن فعلها بنية الامتثال وهي نية التعبد أثيب عليها ، وكذلك التروك إذا تركت بنية ، وهذا متفق عليه ، ولو كانت حقوقا للعباد خاصة ولم يكن لله فيه حق ، لما حصل الثواب فيها أصلا ; لأن حصول الثواب فيها يستلزم كونها طاعة من حيث هي مكتسبة مأمور بها ، والمأمور به متقرب إلى الله به ، وكل طاعة من حيث هي طاعة لله عبادة ، وكل عبادة مفتقرة إلى نية ; فهذه الأمور من حيث هي طاعة مفتقرة إلى نية .
[ ص: 537 ] فإن قيل : إنما أمر بها من حيث حق العبد خاصة ، ومن جهة حق العبد حصل فيها الثواب ، لا من كونها طاعة متقربا بها .
قيل : هذا غير صحيح ; إذ لو كان كذلك ; لصح الثواب بدون النية ; لأن حق العبد حاصل بمجرد الفعل من غير نية ، لكن الثواب مفتقر في حصوله إلى نية .
وأيضا ; فلو حصل الثواب بغير نية ، لأثيب الغاصب إذا أخذ منه المغصوب كرها ، وليس كذلك باتفاق وإن حصل حق العبد ; فالصواب أن النية شرط في كون العمل عبادة ، والنية المرادة هنا نية الامتثال لأمر الله ونهيه ، وإذا كان هذا جاريا في كل فعل وترك ; ثبت أن في الأعمال المكلف بها طلبا تعبديا على الجملة .
وهو دليل سادس في المسألة .
فإن قيل : فيلزم على هذا أن يفتقر كل عمل إلى نية ، وأن لا يصح عمل من لم ينو ، أو يكون عاصيا .
قيل : قد مر أن ما فيه حق العبد تارة يكون هو المغلب ، وقد تكون جهة التعبد هي المغلبة ، فما كان المغلب فيه التعبد ; فمسلم ذلك فيه ، وما غلب فيه جهة العبد ; فحق العبد يحصل بغير نية ; فيصح العمل هنا من غير نية ولا يكون عبادة لله ، فإن راعى جهة الأمر ; فهو من تلك الجهة عبادة ، فلا بد فيه من نية ; أي لا يصير عبادة إلا بالنية لا أنه يلزم فيه النية أو يفتقر إليها ، بل بمعنى أن النية في الامتثال صيرته عبادة ; كما إذا أقرض امتثالا للأمر بالتوسعة على المسلم ، أو أقرض بقصد دنيوي ، وكذلك البيع والشراء ، والأكل والشرب ، والنكاح والطلاق ، وغيرها . ومن هنا كان السلف - رضي الله عنهم - يثابرون على [ ص: 538 ] إحضار النيات في الأعمال ، ويتوقفون عن جملة منها حتى تحضرهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (89)
صـ539 إلى صـ 547
فصل
ويتبين بهذا أمور ، منها أن كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله تعالى ، وهو جهة التعبد ; فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق ، فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد مجردا ; فليس كذلك بإطلاق ، بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية .
كما أن كل حكم شرعي ; ففيه حق للعباد إما عاجلا وإما آجلا ، بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد ، ولذلك قال في الحديث : حق العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئا ألا يعذبهم ، وعادتهم في تفسير " حق [ ص: 539 ] الله " ; أنه ما فهم من الشرع أنه لا خيرة فيه للمكلف ، كان له معنى معقول أو غير معقول ، " وحق العبد " ما كان راجعا إلى مصالحه في الدنيا ، فإن كان من المصالح الأخروية ; فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق لله ، ومعنى " التعبد " عندهم أنه ما لا يعقل معناه على الخصوص ، وأصل العبادات راجعة إلى حق الله ، وأصل العادات راجعة إلى حقوق العباد .
فصل
والأفعال بالنسبة إلى حق الله أو حق الآدمي ثلاثة أقسام :
أحدها : ما هو حق لله خالصا كالعبادات ، وأصله التعبد كما تقدم ، فإذا طابق الفعل الأمر ; صح ، وإلا ; فلا .
والدليل على ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى ، وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس ، وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده لا يتعدى ، فإذا وقع طابق قصد الشارع وإن لا ; خالف ، وقد تقدم أن مخالفة قصد الشارع مبطل للعمل ; فعدم مطابقة الأمر مبطل للعمل .
[ ص: 540 ] وأيضا ; فلو فرضنا أن عدم معقولية المعنى ليس بدليل على أن قصد الشارع الوقوف عندما حده الشارع ; فيكفي في ذلك عدم تحقق البراءة منه [ وإن لم تحصل البراءة ] ، وعدم تحقق البراءة [ منه إن لم تحصل المطابقة ، وعدم تحقيق البراءة ] موجب لطلب الخروج عن العهدة بفعل مطابق ، لا بفعل غير مطابق .
والنهي في هذا القسم أيضا نظير الأمر ; فإن النهي يقتضي عدم صحة الفعل المنهي عنه إما بناء على أن النهي يقتضي الفساد بإطلاق ، وإما لأن النهي يقتضي أن الفعل المنهي عنه غير مطابق لقصد الشارع ; إما بأصله ; كزيادة صلاة سادسة ، أو ترك الصلاة ، وإما بوصفه ; كقراءة القرآن في الركوع والسجود ، والصلاة في الأوقات المكروهة ; إذ لو كان مقصودا لم ينه عنه ، ولأمر به أو أذن فيه ; فإن الإذن هو المعروف أولا بقصد الشارع فلا تتعداه .
فعلى هذا إذا رأيت من يصحح المنهي عنه بعد الوقوع ، أو المأمور به من غير المطابق ; فذلك إما لعدم صحة الأمر أو النهي عنده ، وإما أنه ليس بأمر حتم ولا نهي حتم ، وإما لرجوع جهة المخالفة إلى وصف منفك ; كالصلاة في الدار المغصوبة بناء على القول بصحة الانفكاك ، وإما لعد النازلة من باب المفهوم والمعنى المعلل بالمصالح ; فيجري على حكمه ، وقد مر أن هذا قليل ، وأن التعبد هو العمدة .
والثاني : ما هو مشتمل على حق الله وحق العبد ، والمغلب فيه حق الله ، وحكمه راجع إلى الأول ; لأن حق العبد إذا صار مطرحا شرعا ; فهو كغير المعتبر ، إذ لو اعتبر لكان هو المعتبر ، والفرض خلافه كقتل النفس ; إذ ليس [ ص: 541 ] للعبد خيرة في إسلام نفسه للقتل لغير ضرورة شرعية كالفتن ونحوها ، فإذا رأيت من يصحح المنهي أو المأمور غير المطابق بعد الوقوع ; فذلك للأمور الثلاثة الأول ، ولأمر رابع وهو الشهادة بأن حق العبد فيه هو المغلب .
والثالث : ما اشترك فيه الحقان وحق العبد هو المغلب ، وأصله معقولية المعنى ، فإذا طابق مقتضى الأمر والنهي ; فلا إشكال في الصحة ; لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلا أو آجلا حسبما يتهيأ له ، وإن وقعت المخالفة فهنا نظر ; أصله المحافظة على تحصيل مصلحة العبد ، فإما أن يحصل مع ذلك حق العبد ولو بعد الوقوع ، على حد ما كان يحصل عند المطابقة أو أبلغ ، أو لا ; فإن فرض غير حاصل ; فالعمل باطل لأن مقصود الشارع لم يحصل ، وإن حصل - ولا يكون حصوله إلا مسببا عن سبب آخر غير السبب المخالف - ; صح وارتفع مقتضى النهي بالنسبة إلى حق العبد ، ولذلك يصحح مالك بيع المدبر إذا أعتقه المشتري ; لأن النهي لأجل فوت العتق ، فإذا حصل ; فلا معنى للفسخ عنده بالنسبة إلى حق المملوك ، وكذلك يصح العقد فيما تعلق به حق [ ص: 542 ] الغير إذا أسقط ذو الحق حقه ; لأن النهي قد فرضناه لحق العبد ، فإذا رضي بإسقاطه ; فله ذلك ، وأمثلة هذا القسم كثيرة ، فإذا رأيت من يصحح العمل المخالف بعد الوقوع ; فذلك لأحد الأمور الثلاثة .
[ ص: 543 ] المسألة العشرون
لما كانت الدنيا مخلوقة ليظهر فيها أثر القبضتين ، ومبنية على بذل النعم للعباد لينالوها ويتمتعوا بها ، وليشكروا الله عليها فيجازيهم في الدار الأخرى ، حسبما بين لنا الكتاب والسنة ; اقتضى ذلك أن تكون الشريعة التي عرفتنا بهذين مبنية على بيان وجه الشكر في كل نعمة ، وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة مطلقا .
وهذان القصدان أظهر في الشريعة من أن يستدل عليهما ، ألا ترى إلى قوله تعالى : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ النحل : 78 ] .
وقوله : هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ الملك : 23 ] .
[ ص: 544 ] وقال : فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون [ البقرة : 152 ] .
وقوله : فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون [ النحل : 114 ] .
وقال : لئن شكرتم لأزيدنكم [ إبراهيم : 7 ] الآية .
والشكر هو صرف ما أنعم عليك في مرضاة المنعم ، وهو راجع إلى الانصراف إليه بالكلية ، ومعنى بالكلية أن يكون جاريا على مقتضى مرضاته بحسب الاستطاعة في كل حال ، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا .
ويستوي في هذا ما كان من العبادات أو العادات .
أما العبادات ; فمن حق الله تعالى الذي لا يحتمل الشركة ; فهي مصروفة إليه .
وأما العادات ; فهي أيضا من حق الله تعالى على النظر الكلي ، ولذلك لا يجوز تحريم ما أحل الله من الطيبات ; فقد قال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] الآية .
وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ المائدة : 87 ] الآية .
فنهى عن التحريم ، وجعله تعديا على حق الله تعالى ، ولما هم بعض أصحابه بتحريم بعض المحللات قال عليه الصلاة والسلام : من رغب عن سنتي ; فليس مني .
[ ص: 545 ] وذم الله تعالى من حرم على نفسه شيئا مما وضعه من الطيبات بقوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام [ المائدة : 103 ] .
وقوله : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم [ الأنعام : 138 ] الآية .
فذمهم على أشياء في الأنعام والحرث اخترعوها ، منها مجرد التحريم ، وهو المقصود هاهنا .
وأيضا ; ففي العادات حق لله تعالى من جهة وجه الكسب ووجه الانتفاع ; لأن حق الغير محافظ عليه شرعا أيضا ، ولا خيرة فيه للعبد ; فهو حق لله تعالى صرفا في حق الغير ; حتى يسقط حقه باختياره في بعض الجزئيات ، لا في [ ص: 546 ] الأمر الكلي ، ونفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق ; إذ ليس له التسليط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف .
فإذا ; العاديات يتعلق بها حق الله من وجهين :
أحدهما : من جهة الوضع الأول الكلي الداخل تحت الضروريات .
والثاني : من جهة الوضع التفصيلي الذي يقتضيه العدل بين الخلق ، وإجراء المصلحة على وفق الحكمة البالغة ; فصار الجميع ثلاثة أقسام .
[ ص: 547 ] وفيها أيضا حق للعبد من وجهين :
أحدهما : جهة الدار الآخرة ، وهو كونه مجازى عليه بالنعيم ، موقى بسببه عذاب الجحيم .
والثاني : جهة أخذه للنعمة على أقصى كمالها فيما يليق بالدنيا ، لكن بحسبه في خاصة نفسه ، كما قال تعالى : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (90)
صـ7 إلى صـ 22
بسم الله الرحمن الرحيم
القسم الثاني من الكتاب
فيما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
إن الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات والأدلة على هذا المعنى لا تنحصر .
[ ص: 8 ] ويكفيك منها أن المقاصد تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة ، وفي العبادات بين ما هو واجب وغير واجب ، وفي العادات بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم والصحيح والفاسد وغير ذلك من الأحكام ، والعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة ، ويقصد به شيء آخر فلا يكون [ ص: 9 ] كذلك ، بل يقصد به شيء فيكون إيمانا ، ويقصد به شيء آخر فيكون كفرا كالسجود لله أو للصنم .
وأيضا فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية ، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها كفعل النائم والغافل والمجنون .
وقد قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ البينة : 5 ] .
فاعبد الله مخلصا له الدين [ الزمر : 2 ] .
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] .
وقال : ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون [ التوبة : 54 ] .
وقال : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا [ البقرة : 231 ] بعد قوله : فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف [ البقرة : 231 ] .
وقال : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] .
وقال : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء إلى قوله : [ ص: 10 ] إلا أن تتقوا منهم تقاة [ آل عمران : 28 ] .
وفي الحديث : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى إلى آخره .
وقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .
وفيه : أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك معي فيه شريكا تركت نصيبي لشريكي .
وتصديقه قول الله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ الكهف : 110 ] .
وأباح عليه الصلاة والسلام للمحرم أكل لحم الصيد ما لم يصده أو [ ص: 11 ] [ ص: 12 ] يصد له ، وهذا المكان أوضح في نفسه من أن يستدل عليه .
لا يقال : إن المقاصد وإن اعتبرت على الجملة فليست معتبرة بإطلاق وفي كل حال ، والدليل على ذلك أشياء ، منها الأعمال التي يجب الإكراه عليها شرعا ، فإن المكره على الفعل يعطي ظاهره أنه لا يقصد فيما أكره عليه امتثال أمر الشارع ، إذ لم يحصل الإكراه إلا لأجله ، فإذا فعله وهو قاصد لدفع العذاب عن نفسه فهو غير قاصد لفعل ما أمر به ; لأن الفرض أن العمل لا يصح إلا بالنية المشروعة فيه ، وهو لم ينو ذلك فيلزم أن لا يصح ، وإذا لم يصح كان وجوده وعدمه سواء ، فكان يلزم أن يطالب بالعمل أيضا ثانيا ، ويلزم في الثاني ما لزم في الأول ، ويتسلسل ، أو يكون الإكراه [ ص: 13 ] عبثا ، وكلاهما محال ، أو يصح العمل بلا نية وهو المطلوب .
ومنها أن الأعمال ضربان : عادات ، وعبادات .
فأما العادات فقد قال الفقهاء : إنها لا تحتاج في الامتثال بها إلى نية ، بل مجرد وقوعها كاف كرد الودائع والمغصوب والنفقة على الزوجات والعيال وغيرها ، فكيف يطلق القول بأن المقاصد معتبرة في التصرفات .
وأما العبادات فليست النية بمشروطة فيها بإطلاق أيضا ، بل فيها تفصيل وخلاف بين أهل العلم في بعض صورها ، فقد قال جماعة من العلماء بعدم اشتراط النية في الوضوء ، وكذلك [ ص: 14 ] الصوم والزكاة ، وهي عبادات .
وألزموا الهازل العتق والنذر كما ألزموه النكاح والطلاق والرجعة .
وفي الحديث : ثلاث جدهن وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة .
[ ص: 15 ] وفي حديث آخر : من نكح لاعبا أو طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أربع جائزات إذا تكلم بهن : الطلاق والعتاق والنكاح والنذر .
[ ص: 16 ] ومعلوم أن الهازل من حيث هو هازل لا قصد له في إيقاع ما هزل به ، وفي مذهب مالك فيمن رفض نية الصوم في أثناء اليوم ولم يفطر - أن صومه صحيح ، ومن سلم من اثنتين في الظهر مثلا ظانا للتمام فتنفل بعدها بركعتين ثم تذكر أنه لم يتم - أجزأت عنه ركعتا النافلة عن ركعتي الفريضة .
وأصل مسألة الرفض مختلف فيها ، فجميع هذا ظاهر في صحة العبادة مع فقد النية فيها حقيقة .
ومنها أن من الأعمال ما لا يمكن فيه قصد الامتثال عقلا ، وهو النظر [ ص: 17 ] الأول المفضي إلى العلم بوجود الصانع والعلم بما لا يتم الإيمان إلا به .
فإن قصد الامتثال فيه محال حسبما قرره العلماء ، فكيف يقال إن كل عمل لا يصح بدون نية ؟ .
وإذا ثبت هذا كله دل على نقيض الدعوى ، وهو أنه ليس كل عمل بنية ولا أن كل تصرف تعتبر فيه المقاصد هكذا مطلقا; لأنا نجيب عن ذلك بأمرين :
أحدهما : أن نقول : إن المقاصد المتعلقة بالأعمال ضربان : ضرب هو من ضرورة كل فاعل مختار من حيث هو مختار ، وهنا يصح أن يقال : إن كل عمل معتبر بنيته فيه شرعا قصد به امتثال أمر الشارع أو لا ، وتتعلق إذ ذاك الأحكام التكليفية ، وعليه يدل ما تقدم من الأدلة ، فإن كل فاعل عاقل مختار إنما يقصد بعمله غرضا من الأغراض حسنا كان أو قبيحا ، مطلوب الفعل أو الترك أو غير مطلوب شرعا ، فلو فرضنا العمل مع عدم الاختيار كالملجأ والنائم والمجنون وما أشبه ذلك فهؤلاء غير مكلفين فلا يتعلق بأفعالهم مقتضى الأدلة السابقة ، فليس هذا النمط بمقصود للشارع ، فبقي ما كان مفعولا بالاختيار ، لا بد فيه من القصد ، وإذ ذاك تعلقت به الأحكام ولا يتخلف عن الكلية عمل ألبتة .
وكل ما أورد في السؤال لا يعدو هذين القسمين ، فإنه إما مقصود لما قصد له من رفع مقتضى الإكراه أو الهزل أو طلب الدليل ، أو غير ذلك فيتنزل ذلك الحكم الشرعي بالاعتبار وعدمه .
وإما غير مقصود فلا يتعلق به حكم على حال ، وإن تعلق به حكم فمن باب خطاب الوضع لا من باب خطاب التكليف ، فالممسك عن المفطرات لنوم أو غفلة إن صححنا صومه فمن جهة خطاب الوضع ، كأن الشارع جعل نفس الإمساك سببا في إسقاط القضاء أو في صحة الصوم شرعا ، لا بمعنى أنه مخاطب به وجوبا ، وكذلك ما [ ص: 18 ] في معناه .
والضرب الثاني : ليس من ضرورة كل فعل ، وإنما هو من ضرورة التعبديات من حيث هي تعبديات ، فإن الأعمال كلها الداخلة تحت الاختيار لا تصير تعبدية إلا مع القصد إلى ذلك ، أما ما وضع على التعبد كالصلاة والحج وغيرهما فلا إشكال فيه ، وأما العاديات فلا تكون تعبديات إلا بالنيات ولا يتخلف عن ذلك من الأعمال شيء إلا النظر الأول لعدم إمكانه ، لكنه في الحقيقة راجع إلى أن قصد التعبد فيه غير متوجه عليه فلا يتعلق به الحكم التكليفي ألبتة; بناء على منع التكليف بما لا يطاق ، أما تعلق الوجوب بنفس العمل فلا إشكال في صحته; لأن المكلف به قادر عليه متمكن من تحصيله بخلاف قصد التعبد بالعمل ، فإنه محال ، فصار في عداد ما لا قدرة عليه ، فلم تتضمنه الأدلة الدالة على طلب هذا القصد أو اعتباره شرعا .
والثاني من وجهي الجواب : بالكلام على تفاصيل ما اعترض به .
فأما الإكراه على الواجبات فما كان منها غير مفتقر إلى نية التعبد وقصد امتثال الأمر فلا يصح فيه عبادة إلا أنه قد حصلت فائدته ، فتسقط المطالبة به شرعا كأخذ الأموال من أيدي الغصاب ، وما افتقر منها إلى نية التعبد فلا يجزئ فعلها بالنسبة إلى المكره في خاصة نفسه حتى ينوي القربة ، كالإكراه [ ص: 19 ] على الصلاة ، لكن المطالبة تسقط عنه في ظاهر الحكم فلا يطالبه الحاكم بإعادتها; لأن باطن الأمر غير معلوم للعباد ، فلم يطالبوا بالشق عن القلوب .
وأما الأعمال العادية وإن لم تفتقر في الخروج عن عهدتها إلى نية فلا تكون عبادات ولا معتبرات في الثواب إلا مع قصد الامتثال وإلا كانت باطلة . وبيان بطلانها في كتاب الأحكام وما ذكر من الأعمال التعبدية ، فإن القائل بعدم اشتراط النية فيها بان على أنها كالعاديات ومعقولة المعنى ، وإنما تشترط النية فيما كان غير معقول المعنى ، فالطهارة والزكاة من ذلك ، وأما الصوم فبناء على أن الكف قد استحقه الوقت ، فلا ينعقد لغيره ولا يصرفه [ ص: 20 ] قصد سواه ولهذا نظائر في العاديات كنكاح الشغار ، فإنه عند أبي حنيفة منعقد على وجه الصحة وإن لم يقصدوه .
[ ص: 21 ] وأما النذر والعتق وما ذكر معهما فقد تقدم أن القاصد لإيقاع السبب غير قاصد للمسبب لا ينفعه عدم قصده له عن وقوعه عليه والهازل كذلك; لأنه قاصد لإيقاع السبب بلا شك .
وهو في المسبب إما غير قاصد له بنفي ولا إثبات ، وإما قاصد أن لا يقع ، وعلى كل تقدير فيلزمه المسبب شاء أم أبى .
وإذ قلنا بعدم اللزوم فبناء على أنه ناطق باللفظ غير قاصد لمعناه ، وإنما قصد مجرد الهزل باللفظ ، ومجرد الهزل لا يلزم عليه حكم إلا حكم نفس الهزل ، وهو الإباحة أو غيرها ، وقد علل اللزوم في هذه المسائل بأن الجد والهزل أمر باطن ، فيحمل على أنه جد ومصاحب للقصد لإيقاع مدلوله ، أو يقال : إنه قاصد بالعقد - الذي هو جد شرعي - اللعب ، فناقض مقصود الشارع ، فبطل حكم الهزل فيه ، فصار إلى الجد .
ومسألة رفض نية الصوم بناء على أنه انعقد على الصحة ، فالنية الأولى [ ص: 22 ] مستصحبة حكما حتى يقع الإفطار الحقيقي ، وهو لم يكن ، فصح الصوم ، ومثله نيابة ركعتي النافلة عن الفريضة لأن ظن الإتمام لم يقطع عند المصحح حكم النية الأولى ، فكان السلام بينهما والانتقال إلى نية التنفل لغوا لم يصادف محلا ، وعلى هذا السبيل تجري مسألة الرفض .
وأما النظر الأول فقصد التعبد فيه محال ، وقد تقدم بيانه في الوجه الأول ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (91)
صـ23 إلى صـ 33
المسألة الثانية :
قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة ، إذ قد مر أنها موضوعة [ ص: 24 ] لمصالح العباد على الإطلاق والعموم والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله ، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع ولأن المكلف خلق لعبادة الله وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد في وضع الشريعة ، هذا محصول العبادة ، فينال بذلك الجزاء في الدنيا والآخرة .
وأيضا فقد مر أن قصد الشارع المحافظة على الضروريات وما رجع إليها من الحاجيات والتحسينيات وهو عين ما كلف به العبد فلا بد أن يكون مطلوبا بالقصد إلى ذلك ، وإلا لم يكن عاملا على المحافظة لأن الأعمال بالنيات ، وحقيقة ذلك أن يكون خليفة الله في إقامة هذه المصالح بحسب طاقته [ ص: 25 ] ومقدار وسعه ، وأقل ذلك خلافته على نفسه ثم على أهله ثم على كل من تعلقت له به مصلحة ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .
وفى القرآن الكريم آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه [ الحديد : 7 ] .
وإليه يرجع قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة [ البقرة : 30 ] .
وقوله : ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون [ الأعراف : 129 ] .
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم [ الأنعام : 165 ] .
والخلافة عامة وخاصة حسبما فسرها الحديث حيث قال : الأمير راع والرجل راع على أهل بيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده ، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .
وإنما أتى بأمثلة تبين أن الحكم كلي عام غير [ ص: 26 ] مختص فلا يتخلف عنه فرد من أفراد الولاية عامة كانت أو خاصة ، فإذا كان كذلك فالمطلوب منه أن يكون قائما مقام من استخلفه ، يجري أحكامه ومقاصده مجاريها ، وهذا بين .
فصل
وإذا حققنا تفصيل المقاصد الشرعية بالنسبة إلى المكلف وجدناها ترجع إلى ما ذكر في كتاب الأحكام ، وفي مسألة دخول المكلف في الأسباب ، إذ مر هنالك خمسة أوجه ، منها يؤخذ القصد الموافق والمخالف ، فعلى الناظر هنا مراجعة ذلك الموضع حتى يتبين له ما أراد إن شاء الله .
[ ص: 27 ] المسألة الثالثة
كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض [ ص: 28 ] الشريعة وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل ، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل .
أما أن العمل المناقض باطل فظاهر ، فإن المشروعات إنما وضعت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد ، فإذا خولفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولف بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة .
وأما أن من ابتغى في الشريعة ما لم توضع له فهو مناقض لها ، فالدليل عليه أوجه :
أحدها : أن الأفعال والتروك من حيث هي أفعال أو تروك متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها ، إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح ، فإذا جاء الشارع [ ص: 29 ] بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة فقد بين الوجه الذي منه تحصل المصلحة فأمر به أو أذن فيه ، وبين الوجه الذي به تحصل المفسدة فنهى عنه رحمة بالعباد .
فإذا قصد المكلف عين ما قصده الشارع بالإذن فقد قصد وجه المصلحة على أتم وجوهه ، فهو جدير بأن تحصل له وإن قصد غير ما قصده الشارع ، وذلك إنما يكون في الغالب لتوهم أن المصلحة فيما قصد لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كفاحا ، فقد جعل ما قصد الشارع مهمل الاعتبار ، وما أهمل الشارع مقصودا معتبرا ، وذلك مضادة للشريعة ظاهرة .
والثاني : أن حاصل هذا القصد يرجع إلى أن ما رآه الشارع حسنا فهو عند هذا القاصد ليس بحسن ، وما لم يره الشارع حسنا فهو عنده حسن ، وهذه مضادة أيضا .
والثالث : أن الله تعالى يقول : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى [ النساء : 115 ] الآية .
وقال عمر بن عبد العزيز : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ، من عمل بها مهتد ، ومن استنصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا والأخذ في خلاف مآخذ [ ص: 30 ] الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء المفسدة مشاقة ظاهرة .
والرابع : أن الآخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارع ذلك القصد آخذ في غير مشروع حقيقة; لأن الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم فلم يأت بذلك المشروع أصلا ، وإذا لم يأت به ناقض الشارع في ذلك الأخذ من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به والتارك لما أمر به .
والخامس : أن المكلف إنما كلف بالأعمال من جهة قصد الشارع بها [ ص: 31 ] في الأمر والنهي ، فإذا قصد بها غير ذلك كانت بفرض القاصد وسائل لما قصد لا مقاصد ، إذ لم يقصد بها قصد الشارع فتكون مقصودة ، بل قصد قصدا آخر ، جعل الفعل أو الترك وسيلة له ، فصار ما هو عند الشارع مقصود وسيلة عنده ، وما كان شأنه هذا نقض لإبرام الشارع وهدم لما بناه .
والسادس : أن هذا القاصد مستهزئ بآيات الله لأن من آياته أحكامه التي شرعها ، وقد قال بعد ذكر أحكام شرعها : ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ البقرة : 231 ] .
والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها لأجلها ولذلك قيل للمنافقين حيث قصدوا بإظهار الإسلام غير ما قصده الشارع : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون [ التوبة : 65 ] .
والاستهزاء بما وضع على الجد مضادة لحكمته ظاهرة ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة .
وللمسألة أمثلة كثيرة كإظهار كلمة التوحيد قصدا لإحراز الدم ، والمال لا لإقرار للواحد الحق بالوحدانية ، والصلاة لينظر إليه بعين الصلاح ، والذبح لغير الله ، والهجرة لينال دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، والجهاد للعصبية أو لينال شرف الذكر في الدنيا ، والسلف ليجر به نفعا ، والوصية بقصد المضارة للورثة ، ونكاح المرأة ليحلها لمطلقها ، وما أشبه ذلك .
وقد يعترض هذا الإطلاق بأشياء :
منها ما تقدم في المسألة الأولى; كنكاح الهازل وطلاقه ، وما ذكر [ ص: 32 ] معهما ، فإنه قاصد غير ما قصد الشارع بلفظ النكاح والطلاق وغيرهما ، وقد تقدم جوابه ، ومن ذلك المكره بباطل ، فإنه عند الحنفية تنعقد تصرفاته شرعا فيما لا يحتمل الفسخ بالإقالة كما تنعقد حالة الاختيار كالنكاح والطلاق والعتق واليمين والنذر ، وما يحتمل الإقالة ينعقد كذلك ، لكن موقوفا على اختيار المكره ورضاه ، إلى مسائل من هذا النحو .
ومنها أن الحيل في رفع وجوب الزكاة وتحليل المرأة لمطلقها ثلاثا وغير ذلك - مقصود به خلاف ما قصده الشارع ، مع أنها عند القائل بها صحيحة ، ومن تتبع الأحكام الشرعية ألفى منها ما لا ينحصر وجميعه يدل على أن العمل المشروع إذا قصد به غير ما قصده الشارع فلا يلزم أن يكون باطلا .
والجواب أن مسائل الإكراه إنما قيل بانعقادها شرعا بناء على أنها مقصودة للشارع بأدلة قررها الحنفية ولا يصح أن يقر أحد بكون العمل غير مقصود للشارع على ذلك الوجه ، ثم يصححه; لأن تصحيحه إنما هو بالدليل الشرعي ، والأدلة الشرعية أقرب إلى تفهيم مقصود الشارع من كل شيء ، فكيف يقال : إن العمل صحيح شرعا مع أنه غير مشروع ، هل هذا إلا عين المحال .
وكذلك القول في الحيل عند من قال بها مطلقا ، فإنما قال بها بناء على أن للشارع قصدا في استجلاب المصالح ودرء المفاسد ، بل الشريعة لهذا [ ص: 33 ] وضعت فإذا صحح مثلا نكاح المحلل ، فإنما صححه على فرض أنه غلب على ظنه من قصد الشارع الإذن في استجلاب مصلحة الزوجين فيه ، وكذلك سائر المسائل بدليل صحته في النطق بكلمة الكفر خوف القتل أو التعذيب ، وفي سائر المصالح العامة والخاصة ، إذ لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة كما أنه لا يقوم دليل على تصحيح كل حيلة ، فإنما يبطل منها ما كان مضادا لقصد الشارع ، خاصة وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام ، ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة ولهذا موضع يذكر فيه في هذا القسم إن شاء الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (92)
صـ34 إلى صـ 52
المسألة الرابعة :
فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فعله أو تركه موافقا أو مخالفا ، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته . فالجميع أربعة أقسام :
أحدها : أن يكون موافقا وقصده الموافقة كالصلاة والصيام والصدقة والحج وغيرها ، يقصد بها امتثال أمر الله تعالى وأداء ما وجب عليه أو ندب إليه ، وكذلك ترك الزنا والخمر وسائر المنكرات يقصد بذلك الامتثال ، فلا إشكال في صحة هذا العمل .
والثاني : أن يكون مخالفا ، وقصده المخالفة كترك الواجبات وفعل المحرمات قاصدا لذلك ، فهذا أيضا ظاهر الحكم .
والثالث : أن يكون الفعل أو الترك موافقا ، وقصده المخالفة ، وهو ضربان :
أحدهما : أن لا يعلم بكون الفعل أو الترك موافقا .
والآخر : أن يعلم بذلك .
فالأول كواطئ زوجته ظانا أنها أجنبية وشارب الجلاب ظانا أنه خمر وتارك الصلاة يعتقد أنها باقية في ذمته وكان قد أوقعها وبرئ منها في نفس الأمر ، فهذا الضرب قد حصل فيه قصد العصيان بالمخالفة ، ويحكي الأصوليون في هذا النحو الاتفاق على العصيان في مسألة " من أخر الصلاة مع ظن الموت قبل الفعل " وحصل فيه أيضا أن مفسدة النهي لم تحصل ; لأنه إنما نهى عن ذلك لأجل ما ينشأ عنها من المفاسد ، فإذا لم يوجد هذا لم يكن مثل من فعله فحصلت المفسدة ، فشارب الجلاب لم يذهب عقله وواطئ زوجته لم يختلط [ ص: 35 ] نسب من خلق من مائه ولا لحق المرأة بسبب هذا الوطء معرة ، وتارك الصلاة لم تفته مصلحة الصلاة ، وكذلك سائر المسائل المندرجة تحت هذا الأصل ، فالحاصل أن هذا الفعل أو الترك فيه موافقة ومخالفة .
فإن قيل : فهل وقع العمل على الموافقة أو المخالفة ؟ فإن وقع على الموافقة فمأذون فيه ، وإذا كان مأذونا فيه فلا عصيان في حقه ، لكنه عاص باتفاق ، هذا خلف ، وإن وقع مخالفا فهو غير مأذون فيه ولا عبرة بكونه موافقا في نفس الأمر ، وإذا كان غير مأذون فيه وجب أن يتعلق به من الأحكام ما يتعلق بما لو كان مخالفا في نفس الأمر ، فكان يجب الحد على الواطئ ، والزجر على الشارب ، وشبه ذلك ، لكنه غير واجب باتفاق أيضا ، هذا خلف .
فالجواب أن العمل هنا آخذ بطرف من القسمين الأولين ، فإنه وإن كان مخالفا في القصد قد وافق في نفس العمل فإذا نظرنا إلى فعله أو تركه وجدناه لم تقع به مفسدة ولا فاتت به مصلحة ، وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه منتهكا حرمة الأمر والنهي ، فهو عاص في مجرد القصد غير عاص بمجرد العمل ، وتحقيقه أنه آثم من جهة حق الله غير آثم من جهة حق الآدمي; كالغاصب لما يظن [ ص: 36 ] أنه متاع المغصوب منه فإذا هو متاع الغاصب نفسه ، فلا طلب عليه لمن قصد الغصب منه وعليه الطلب من جهة حرمة الأمر والنهي والقاعدة أن كل تكليف مشتمل على حق الله وحق العبد .
ولا يقال : إذا كان فوت المفسدة أو عدم فوت المصلحة مسقطا لمعنى الطلب فليكن كذلك فيما إذا شرب الخمر فلم يذهب عقله ، أو زنى فلم يتخلق ماؤه في الرحم بعزل أو غيره; لأن المتوقع من ذلك غير موجود ، فكان ينبغي أن لا يترتب عليه حد ولا يكون آثما إلا من جهة قصده ، خاصة لأنا نقول : لا يصح ذلك لأن هذا العامل قد تعاطى السبب الذي تنشأ عنه المفسدة أو تفوت به المصلحة ، وهو الشرب والإيلاج المحرمان في نفس الأمر ، وهما مظنتان للاختلاط وذهاب العقل ولم يضع الشارع الحد بإزاء زوال العقل أو اختلاط الأنساب ، بل بإزاء تعاطي أسبابه خاصة ، وإلا فالمسببات ليست من فعل المتسبب وإنما هي من فعل الله تعالى ، فالله هو خالق الولد من الماء ، والسكر عن الشرب كالشبع مع الأكل والري مع الماء والإحراق مع النار كما تبين في موضعه ، وإذا كان كذلك فالمولج والشارب قد [ ص: 37 ] تعاطيا السبب على كماله ، فلا بد من إيقاع مسببه وهو الحد ، وكذلك سائر ما جرى هذا المجرى مما عمل فيه بالسبب لكنه أعقم ، وأما الإثم فعلى وفق ذلك .
وهل يكون في الإثم مساويا لمن أنتج سببه أم لا ؟ هذا نظر آخر لا حاجة إلى ذكره ها هنا .
والثاني : أن يكون الفعل أو الترك موافقا إلا أنه عالم بالموافقة ومع ذلك فقصده المخالفة ، ومثاله : أن يصلي رياء لينال دنيا أو تعظيما عند الناس أو ليدرأ عن نفسه القتل وما أشبه ذلك ، فهذا القسم أشد من الذي قبله ، وحاصله أن هذا العامل قد جعل الموضوعات الشرعية التي جعلت مقاصد - وسائل لأمور أخر لم يقصد الشارع جعلها لها ، فيدخل تحته النفاق والرياء والحيل على أحكام الله تعالى ، وذلك كله باطل لأن القصد مخالف لقصد الشارع عينا ، فلا يصح جملة ، وقد قال الله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ النساء : 145 ] وقد تقدم بيان هذا المعنى .
والقسم الرابع : أن يكون الفعل أو الترك مخالفا والقصد موافقا ، فهو أيضا ضربان :
أحدهما : أن يكون مع العلم بالمخالفة .
والآخر : أن يكون مع الجهل بذلك ، فإن كان مع العلم بالمخالفة فهذا هو الابتداع كإنشاء العبادات [ ص: 38 ] المستأنفة والزيادات على ما شرع ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل ، ومع ذلك فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة ، والموضع مستغن عن إيراده ها هنا ، وسيأتي له مزيد تقرير بعد هذا إن شاء الله والذي يتحصل هنا أن جميع البدع مذمومة لعموم الأدلة في ذلك كقوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ الأنعام : 159 ] .
وقوله : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام : 153 ] .
وفي الحديث : كل بدعة ضلالة وهذا المعنى في الأحاديث كالمتواتر .
فإن قيل : إن العلماء قد قسموا البدع بأقسام الشريعة ، والمذموم منها بإطلاق هو المحرم ، وأما المكروه فليس الذم فيه بإطلاق ، وما عدا ذلك فغير قبيح شرعا ، فالواجب منها والمندوب حسن بإطلاق وممدوح فاعله ومستنبطه ، والمباح حسن باعتبار .
فعلى الجملة من استحسن من البدع ما استحسنه الأولون لا يقول : إنها مذمومة ولا مخالفة لقصد الشارع ، بل هي موافقة أي موافقة كجمع الناس على المصحف العثماني والتجميع في قيام رمضان في المسجد ، وغير ذلك من المحدثات الحسنة التي اتفق الناس على [ ص: 39 ] حسنها ، أعني السلف الصالح والمجتهدين من الأمة ، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن فجميع هذه الأشياء داخلة تحت ترجمة المسألة إذ هي أفعال مخالفة للشارع; لأنه لم يضعها مقترنة بقصد موافق ؛ لأنهم لم يقصدوا إلا الصلاح ، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون البدع كلها مذمومة ، خلاف المدعى .
فالجواب : أن هذا كله ليس مما وقعت الترجمة عليه ، فإن الفرض أن الفعل مخالف للفعل الذي وضعه الشارع . وما أحدثه السلف وأجمع عليه العلماء لم يقع فيه مخالفة لما وضعه الشارع بحال . بيان ذلك أن جمع المصحف مثلا لم يكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستغناء عنه بالحفظ في الصدور ولأنه لم يقع في القرآن اختلاف يخاف بسببه الاختلاف في الدين ، وإنما وقعت فيه نازلتان أو ثلاثة كحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم رضي الله عنهما [ ص: 40 ] وقصة أبي بن كعب مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، وفيه قال عليه الصلاة والسلام لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر .
[ ص: 41 ] فحاصل الأمر أن جمع المصحف كان مسكوتا عنه في زمانه عليه الصلاة والسلام ثم لما وقع الاختلاف في القرآن وكثر حتى صار أحدهم يقول لصاحبه أنا كافر بما تقرأ به صار جمع المصحف واجبا ورأيا رشيدا في واقعة لم يتقدم بها عهد ، فلم يكن فيها مخالفة ، وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعة ، وهو باطل باتفاق ، لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين ، وهو الذي يسمى المصالح المرسلة وكل ما أحدثه السلف الصالح من هذا القبيل لا يتخلف عنه بوجه وليس من المخالف لمقصد الشارع أصلا ، كيف وهو يقول : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، ولا تجتمع أمتي على ضلالة فثبت أن هذا المجمع عليه موافق لقصد الشارع ، فقد خرج هذا [ ص: 42 ] الضرب عن أن يكون فيه الفعل أو الترك مخالفا للشارع ، وأما البدعة المذمومة فهي التي خالفت ما وضع الشارع من الأفعال أو التروك ، وسيأتي تقرير هذا المعنى بعد إن شاء الله .
وإن كان العمل المخالف مع الجهل بالمخالفة فله وجهان :
أحدهما : كون القصد موافقا ، فليس بمخالف من هذا الوجه والعمل وإن كان مخالفا فالأعمال بالنيات ، ونية هذا العامل على الموافقة ، لكن الجهل أوقعه في المخالفة ، ومن لا يقصد مخالفة الشارع كفاحا لا يجري مجرى المخالف بالقصد والعمل معا ، فعمله بهذا النظر منظور فيه على الجملة لا مطرح على الإطلاق .
والثاني : كون العمل مخالفا ، فإن قصد الشارع بالأمر والنهي الامتثال ، فإذا لم يمتثل فقد خولف قصده ولا يعارض المخالفة موافقة القصد الباعث على العمل; لأنه لم يحصل قصد الشارع في ذلك العمل على وجهه ولا طابق القصد العمل ، فصار المجموع مخالفا كما لو خولف فيهما معا ، فلا يحصل الامتثال .
[ ص: 43 ] وكلا الوجهين يعارض الآخر في نفسه ويعارضه في الترجيح لأنك إن رجحت أحدهما عارضك في الآخر وجه مرجح ، فيتعارضان أيضا ولذلك صار هذا المحل غامضا في الشريعة ، ويتبين ذلك بإيراد شيء من البحث فيه ، وذلك أنك إذا رجحت جهة القصد الموافق بأن العامل ما قصد قط إلا الامتثال والموافقة ولم ينتهك حرمة للشارع بذلك القصد ، عارضك أن قصد الموافقة مقيد بالامتثال المشروع لا بمخالفته ، وإن كان مقيدا فقصد المكلف لم يصادف محلا ، فهو كالعبث ، وأيضا إذا لم يصادف محلا صار غير موافق; لأن القصد في الأعمال ليس بمشروع على الانفراد .
فإن قلت : إن القصد قد ثبت اعتباره قبل الشرائع كما ذكر عمن آمن في الفترات وأدرك التوحيد وتمسك بأعمال يعبد الله بها وهى غير معتبرة إذ لم تثبت في شرع بعد .
[ ص: 44 ] قيل لك : إن فرض أولئك في زمان فترة لم يتمسكوا بشريعة متقدمة فالمقاصد الموجودة لهم منازع في اعتبارها بإطلاق فإنها كأعمالهم المقصود بها التعبد ، فإن قلت باعتبار القصد كيف كان لزم ذلك في الأعمال ، وإن قلت بعدم اعتبار الأعمال لزم ذلك في القصد ، وأيضا فكلامنا فيما بعد الشرائع لا فيما قبلها ، وإن فرضنا أن من نقل عنهم من أهل الفترات كانوا متمسكين ببعض الشرائع المتقدمة فذلك واضح ، فإن قيل قوله عليه الصلاة والسلام : إنما الأعمال بالنيات يبين أن هذه الأعمال ، وإن خالفت قد تعتبر ، فإن المقاصد أرواح الأعمال ، فقد صار العمل ذا روح على الجملة ، وإذا كان كذلك اعتبر بخلاف ما إذا خالف القصد ووافق العمل ، أو خالفا معا ، فإنه جسد بلا روح ، فلا يصدق عليه مقتضى قوله : الأعمال بالنيات لعدم النية في العمل .
قيل : إن سلم فمعارض بقوله - عليه الصلاة والسلام - : كل عمل ليس [ ص: 45 ] عليه أمرنا فهو رد وهذا العمل ليس بموافق لأمره - عليه الصلاة والسلام - فلم يكن معتبرا ، بل كان مردودا .
وأيضا فإذا لم ينتفع بجسد بلا روح كذلك لا ينتفع بروح في غير جسد; لأن الأعمال هنا قد فرضت مخالفة ، فهي في حكم العدم ، فبقيت النية منفردة في حكم عملي ، فلا اعتبار بها ، وتكثر المعارضات في هذا من الجانبين فكانت المسألة مشكلة جدا ، ومن هنا صار فريق من المجتهدين إلى تغليب جانب القصد فتلافوا من العبادات ما يجب تلافيه وصححوا المعاملات ، ومال فريق إلى الفساد بإطلاق ، وأبطلوا كل عبادة ، أو معاملة خالفت الشارع ميلا إلى جانب العمل المخالف ، وتوسط فريق فأعملوا الطرفين على الجملة لكن على أن يعمل مقتضى القصد في وجه ، ويعمل مقتضى الفعل في وجه آخر والذي يدل على إعمال الجانبين أمور .
أحدها : أن متناول المحرم غير عالم بالتحريم قد اجتمع فيه موافقة [ ص: 46 ] القصد إذ لم يتلبس إلا بما اعتقد إباحته ، ومخالفة الفعل; لأنه فاعل لما نهي عنه فأعمل مقتضى الموافقة في إسقاط الحد والعقوبة ، وأعمل مقتضى المخالفة في عدم البناء على ذلك الفعل ، وعدم الاعتماد عليه حتى صحح ما يجب أن يصحح مما فيه تلاف ميلا فيه إلى جهة القصد أيضا ، وأهمل ما يجب أن يهمل مما لا تلافي فيه .
فقد اجتمع في هذه المسألة اعتبار الطرفين بما يليق بكل واحد منهما كالمرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد بنائه بها ، فقد [ ص: 47 ] فاتت بمقتضى فتوى عمر ، ومعاوية والحسن وروي مثله عن علي رضي الله عنهم ، ونظيرها في مسألة المفقود إذا تزوجت امرأته ثم قدم فالأول أولى بها قبل نكاحها ، والثاني أولى بعد دخوله بها ، وفيما بعد العقد ، وقبل البناء قولان ، وفي الحديث : أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل [ ص: 48 ] باطل باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها ، وعلى هذا يجري [ ص: 49 ] [ ص: 50 ] باب السهو في الصلاة ، وباب الأنكحة الفاسدة في تشعب مسائلها .
والثاني : أن عمدة مذهب مالك ، بل عمدة مذاهب الصحابة اعتبار الجهل في العبادات اعتبار النسيان على الجملة فعدوا من خالف في الأفعال ، أو الأقوال جهلا على حكم الناسي ولو كان المخالف في الأفعال دون القصد مخالفا على الإطلاق لعاملوه معاملة العامد كما يقوله ابن حبيب ، ومن وافقه وليس الأمر كذلك ، فهذا واضح في أن للقصد الموافق أثرا ، وهو بين في الطهارات والصلاة والصيام والحج ، وغير ذلك من العبادات ، وكذلك في كثير [ ص: 51 ] من العادات كالنكاح والطلاق والأطعمة والأشربة ، وغيرها .
ولا يقال : إن هذا ينكسر في الأمور المالية فإنها تضمن في الجهل والعمد; لأنا نقول : الحكم في التضمين في الأموال آخر; لأن الخطأ فيها مساو للعمد في ترتب الغرم في إتلافها .
والثالث : الأدلة الدالة على رفع الخطأ عن هذه الأمة ففي الكتاب : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [ الأحزاب : 5 ] .
وقال : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] .
وفي الحديث : قال قد فعلت .
وقال : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] .
وفي الحديث : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه .
وهو معنى متفق عليه في الجملة لا مخالف فيه ، وإن اختلفوا فيما تعلق به رفع المؤاخذة هل ذلك مختص بالمؤاخذة الأخروية خاصة أم لا ؟ فلم يختلفوا أيضا أن رفع المؤاخذة بإطلاق لا يصح ، فإذا كان كذلك ظهر أن كل [ ص: 52 ] واحد من الطرفين معتبر على الجملة ما لم يدل دليل من خارج على خلاف ذلك ، والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (93)
صـ53 إلى صـ 63
المسألة الخامسة :
جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين :
أحدهما : أن لا يلزم عنه إضرار الغير .
والثاني : أن يلزم عنه ذلك ، وهذا الثاني ضربان :
أحدهما : أن يقصد الجالب ، أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه وصحبه قصد الإضرار بالغير .
والثاني : أن لا يقصد إضرارا بأحد ، وهو قسمان : أحدهما : أن يكون الإضرار عاما كتلقي السلع ، وبيع الحاضر للبادي والامتناع من بيع داره ، أو فدانه ، وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع ، أو غيره .
والثاني : أن يكون خاصا ، وهو نوعان :
[ ص: 54 ] أحدهما : أن يلحق الجالب ، أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره ، أو يسبق إلى شراء طعام ، أو ما يحتاج إليه ، أو إلى صيد ، أو حطب ، أو ماء ، أو غيره عالما أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه ولو أخذ من يده استضر .
والثاني : أن لا يلحقه بذلك ضرر ، وهو على ثلاثة أنواع :
أحدها : ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا أعني القطع العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد ، وشبه ذلك .
والثاني : ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه ، وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدا ، وما أشبه ذلك .
والثالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا ، وهو على وجهين :
أحدهما : أن يكون غالبا كبيع السلاح من أهل الحرب والعنب من [ ص: 55 ] الخمار ، وما يغش به ممن شأنه الغش ، ونحو ذلك .
والثاني : أن يكون كثيرا لا غالبا كمسائل بيوع الآجال فهذه ثمانية أقسام :
فأما الأول فباق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء .
وأما الثاني ، فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس ، وقصد إضرار الغير : هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن ، ويكون عليه إثم ما قصد ؟ هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة ، وهو جار على مسألة [ ص: 56 ] الصلاة في الدار المغصوبة ، ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلا :
وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة ، أو درء تلك المفسدة حصل له ما أراد أو لا ، فإن كان كذلك ، فلا إشكال في منعه منه لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار فلينقل عنه ولا ضرر عليه كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار ، وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر منها الغير [ ص: 57 ] فحق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وهو ممنوع من قصد الإضرار ولا يقال : إن هذا تكليف بما لا يطاق ، فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار ، وهو داخل تحت الكسب لا ينفي الإضرار بعينه .
وأما الثالث فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أو لا ، فإن لزم قدم حقه على الإطلاق على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي فرضها الأصوليون فيما إذا تترس الكفار بمسلم ، وعلم أن الترس إذا لم يقتل استؤصل أهل الإسلام ، وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى فيمنع الجالب ، أو الدافع مما هم به; لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع ، وعن بيع [ ص: 58 ] الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة ، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله ، وما لا ، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة .
وأما الرابع فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين : نظر من جهة إثبات الحظوظ ، ونظر من جهة إسقاطها ، فإن اعتبرنا الحظوظ ، فإن حق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وإن استضر غيره بذلك; لأن جلب المنفعة ، أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود ولذلك أبيحت الميتة ، وغيرها من المحرمات الأكل ، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد ، والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة ، إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها ، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره ، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح ، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه ، وذلك لا يلزمه ، بل قد [ ص: 59 ] يتعين عليه حق نفسه في الضروريات ، فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه لأنه من حقه على بينة ، ومن حق غيره على ظن أو شك ، وذلك في دفع الضرر واضح ، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به .
وقد سئل الداودي : هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل ؟ قال : نعم ولا يحل له إلا ذلك . قيل : له ، فإن وضعه السلطان على أهل بلدة ، وأخذهم بمال معلوم يؤدونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل ، وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم ؟ قال : ذلك له ، قال : ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب : إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء ، قال : ولست بآخذ في هذا بما روي عن سحنون ; لأن الظلم لا أسوة فيه ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره والله تعالى يقول : إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق [ الشورى : 42 ] هذا ما قال .
[ ص: 60 ] ورأيت في بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه مع العلم بأنه يطرحه على غيره إذا كان المطروح جورا بينا .
وذكر عبد الغني في المؤتلف والمختلف عن حماد بن أبي أيوب قال : قلت لحماد بن أبي سليمان : إني أتكلم فترفع عني النوبة ، فإذا رفعت عني وضعت على غيري فقال : إنما عليك أن تتكلم في نفسك ، فإذا رفعت عنك ، فلا تبالي على من وضعت .
ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك ، وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى ولمانعي الحاج حتى يؤدوا خراجا ، كل ذلك انتفاع ، أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر ، أو قتل الكافر المسلم ، بل قال - عليه الصلاة والسلام - : وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل الحديث .
ولازم ذلك دخول قاتله النار ، وقول أحد ابني آدم : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك [ المائدة : 29 ] ، بل العقوبات كلها جلب مصلحة ، أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير إلا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة; لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام ولأن جانب الجالب والدافع أولى ، [ ص: 61 ] وقد تقدم الكلام على هذا قبل .
فإن قيل : هذا يشكل في كثير من المسائل ، فإن القاعدة المقررة أن لا ضرر ولا ضرار ، وما تقدم واقع فيه الضرر ، فلا يكون مشروعا بمقتضى هذا الأصل ، ويؤيد ذلك إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر إما بعوض ، وإما مجانا مع أن صاحب الطعام محتاج إليه ، وقد أخذ من يده قهرا لما كان إمساكه مؤديا إلى إضرار المضطر ، وكذلك إخراج الإمام الطعام من يد محتكره قهرا لما صار منعه مؤديا لإضرار الغير ، وما أشبه ذلك .
فالجواب أن هذا كله لا إشكال فيه ، وذلك أن إضرار الغير في المسائل المتقدمة والأصول المقررة ليس بمقصود في الإذن ، وإنما الإذن لمجرد جلب الجالب ، ودفع الدافع ، وكونه يلزم عنه إضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن .
وأيضا فقد تعارض هنالك إضراران : إضرار صاحب اليد والملك وإضرار من لا يد له ولا ملك والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق والحاصل أن [ ص: 62 ] الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار ، وكيف ، ومن شأن الشارع أن ينهى عنه ، ألا ترى أنه إذا قصد الجالب ، أو الدافع الإضرار أثم ، وإن كان محتاجا إلى ما فعل ، فهذا يدلك على أن الشارع لم يقصد الإضرار ، بل عن الإضرار نهى ، وهو الإضرار بصاحب اليد والملك .
وأما مسألة المضطر ، فهي شاهد لنا; لأن المكره على الطعام ليس محتاجا إليه بعينه حاجة يضر به عدمها ، وإلا فلو فرضته كذلك لم يصح إكراهه ، وهو عين مسألة النزاع ، وإنما يكره على البذل من لا يستضر به فافهمه ، وأما المحتكر ، فإنه خاطئ باحتكاره مرتكب للنهي مضر بالناس ، فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به .
وأيضا فهو من القسم الثالث الذي يحكم فيه على الخاصة لأجل العامة .
هذا كله مع اعتبار الحظوظ ، وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان :
أحدهما : إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء ، وهو محمود جدا ، وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد ، فهم مني ، وأنا منهم ، وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه ، وكأنه هو أخوه ، أو ابنه ، أو قريبه ، أو يتيمه ، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا ، أو وجوبا ، [ ص: 63 ] وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد ، فهو على ذلك واحد منهم ، فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله ، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده ، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم فقال - عليه الصلاة والسلام - : فهم مني ، وأنا منهم لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان في هذا المعنى الإمام الأعظم ، وفي الشفقة الأب الأكبر إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (94)
صـ64 إلى صـ 85
وفي مسلم عن أبي سعيد قال : بينما نحن في سفر مع رسول الله إذ جاء رجل على راحلة له قال : فجعل يصرف بصره يمينا ، وشمالا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له قال : فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل .
[ ص: 64 ] وفي الحديث أيضا : إن في المال حقا سوى الزكاة ، ومشروعية الزكاة والإقراض والعرية والمنحة ، وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى وجميعه جار على أصل مكارم الأخلاق ، وهو لا يقتضي استبدادا ، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجميع ، أو أقل ولا يكون موقعا على نفسه [ ص: 65 ] ضررا ناجزا ، وإنما هو متوقع ، أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره ، وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله : - عليه الصلاة والسلام - : المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، وقوله : المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وقوله : المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه [ ص: 66 ] وسائر ما في المعنى من الأحاديث إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى ، وأسبابه ، وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء كل أحد بما يليق به كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه ، أو أقل لخرج عن اعتداله ، وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض ، وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة ، وترك الفرقة ، وهو كثير; إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء ، وأشباهها مما يرجع إليها .
والوجه الثاني : الإيثار على النفس ، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ ، وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين ، وإصابة لعين التوكل ، وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله ، وهو من محامد الأخلاق ، وزكيات الأعمال ، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن خلقه المرضي ، وقد كان - عليه الصلاة والسلام - أجود الناس بالخير ، وأجود ما كان في شهر رمضان ، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة .
وقالت له خديجة : إنك تحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتعين على [ ص: 67 ] نوائب الحق ، وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه وجاءه رجل فسأله ، فقال : ما عندي شيء ولكن ابتع علي ، فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر : ما كلفك الله ما لا تقدر عليه ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرف البشر في وجهه ، وقال : بهذا أمرت ذكره الترمذي ، وقال أنس : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد . وهذا كثير .
[ ص: 68 ] وهكذا كان الصحابة ، وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ الإنسان : 8 ] ، وما جاء في الصحيح في قوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ الحشر : 9 ] ، وما روي عن عائشة ، وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام عند الكلام على مسألة العمل على إسقاط الحظوظ ، وهو ضربان :
إيثار بالملك من المال ، وبالزوجة بفراقها لتحل للمؤثر كما في حديث المؤاخاة المذكور في الصحيح .
[ ص: 69 ] وإيثار بالنفس كما في الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله يصيبك سهم من سهام القوم ، نحري دون نحرك ، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت ، وهو معلوم من فعله - عليه الصلاة والسلام - ; إذ كان في غزوه أقرب الناس إلى العدو ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت ، وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه ، وهو يقول : لن تراعوا ، وهذا فعل من آثر بنفسه ، وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم; إذ عزم الكفار على قتله مشهور .
[ ص: 70 ] وفي المثل السائر .
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
، ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها الإيثار ، ويدل على ذلك قول امرأة العزيز في يوسف عليه السلام أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين [ يوسف : 51 ] فآثرته بالبراءة على نفسها .
قال النووي : أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ، ونحوه من أمور الدنيا ، وحظوظ النفس بخلاف القربات ، فإن الحق فيها لله .
وهذا مع ما قبله على مراتب والناس في ذلك مختلفون باختلاف أحوالهم في الاتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام ، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر جميع ماله ، ومن عمر النصف ورد أبا لبابة ، وكعب [ ص: 71 ] بن مالك إلى الثلث قال ابن العربي : لقصورهما عن درجتي أبي بكر ، وعمر . هذا ما قال .
وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي ، فإن أخل بمقصد شرعي فلا يعد ذلك إسقاطا للحظ ولا هو محمود شرعا أما أنه ليس [ ص: 72 ] بمحمود شرعا فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر ، وإما لأمر آخر ، أو لغير شيء فكونه لغير شيء عبث لا يقع من العقلاء ، وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي; لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر ، وإذا لم يكن كذلك فهو مخالف له ، ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له فثبت أنه لأمر ثالث ، وهو الحظ ، وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ . هذا تمام الكلام في القسم الرابع ، ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ .
وأما القسم الخامس ، وهو أن لا يلحق الجالب ، أو الدافع ضرر ولكن أداؤه إلى المفسدة قطعي عادة فله نظران :
نظر من حيث كونه قاصدا لما يجوز أن يقصد شرعا من غير قصد إضرار بأحد ، فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه .
ونظر من حيث كونه عالما بلزوم مضرة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه ، فإنه من هذا الوجه مظنة لقصد الإضرار; لأنه في فعله إما فاعل لمباح صرف لا يتعلق بفعله مقصد ضروري ولا حاجي ولا تكميلي ، فلا قصد للشارع في إيقاعه من حيث يوقع ، وإما فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرة مع إمكان فعله على وجه لا يلحق فيه مضرة وليس للشارع قصد في وقوعه على الوجه الذي يلحق به الضرر دون الآخر .
وعلى كلا التقديرين فتوخيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع العلم بالمضرة لا بد فيه من أحد أمرين :
إما تقصير في النظر المأمور به ، وذلك [ ص: 73 ] ممنوع ، وإما قصد إلى نفس الإضرار ، وهو ممنوع أيضا فيلزم أن يكون ممنوعا من ذلك الفعل ، لكن إذا فعله فيعد متعديا بفعله ، ويضمن ضمان المتعدي على الجملة ، وينظر في الضمان بحسب النفوس والأموال على ما يليق بكل نازلة ولا يعد قاصدا له ألبتة إذا لم يتحقق قصده للتعدي ، وعلى هذه القاعدة تجري مسألة الصلاة في الدار المغصوبة والذبح بالسكين المغصوبة ، وما لحق بها من المسائل التي هي في أصلها مأذون فيها ، ويلزم عنها إضرار الغير ولأجل هذا تكون العبادة عند الجمهور صحيحة مجزئة والعمل الأصلي [ ص: 74 ] صحيحا ، ويكون عاصيا بالطرف الآخر ، وضامنا إن كان ثم ضمان ولا تضاد في الأحكام لتعدد جهاتها ، ومن قال : هنالك بالفساد يقول به هنا وله في النظر الفقهي مجال رحب يرجع ضابطه إلى هذا المعنى هذا من جهة إثبات الحظوظ ، ومعلوم أن أصحاب إسقاطها لا يدخلون تحت عمل هذا شأنه ألبتة .
وأما السادس ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا فهو على أصله من الإذن; لأن المصلحة إذا كانت غالبة ، فلا اعتبار بالندور في انخرامها ; إذ لا توجد في العادة مصلحة عرية عن المفسدة جملة إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة إجراء للشرعيات مجرى العاديات في الوجود ولا يعد هنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة مع معرفته بندور المضرة عن ذلك تقصيرا في النظر ولا قصدا إلى وقوع الضرر فالعمل إذا باق على أصل المشروعية .
والدليل على ذلك أن ضوابط المشروعات هكذا وجدناها كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج مع إمكان الكذب والوهم والغلط ، وإباحة القصر في المسافة المحدودة مع إمكان عدم المشقة كالملك المترفه ، ومنعه في الحضر بالنسبة إلى ذوي الصنائع الشاقة ، وكذلك إعمال خبر الواحد ، [ ص: 75 ] والأقيسة الجزئية في التكاليف مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه ، لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة ، وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب .
وأما السابع ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيا فيحتمل الخلاف ، أما أن الأصل الإباحة والإذن فظاهر كما تقدم في السادس ، وأما أن الضرر والمفسدة تلحق ظنا فهل يجري الظن مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين أم لا لجواز تخلفهما ، وإن كان التخلف نادرا ؟ ولكن اعتبار الظن هو الأرجح لأمور :
أحدها : أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم فالظاهر جريانه هنا .
والثاني : أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] [ ص: 76 ] فإنهم قالوا : لتكفن عن سب آلهتنا ، أو لنسبن إلهك ، فنزلت .
وفي الصحيح : إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه ، وكان - عليه الصلاة والسلام - يكف عن قتل المنافقين; لأنه ذريعة إلى قول الكفار إن محمدا يقتل أصحابه ، ونهى الله تعالى المؤمنين أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا [ البقرة : 104 ] مع قصدهم الحسن لاتخاذ اليهود لها ذريعة إلى شتمه - عليه الصلاة والسلام - ، وذلك كثير كله مبني على حكم أصله ، وقد ألبس حكم ما هو ذريعة إليه .
والثالث : أنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه ، والحاصل من هذا القسم أن الظن بالمفسدة والضرر لا يقوم مقام القصد إليه [ ص: 77 ] فالأصل الجواز من الجلب ، أو الدفع ، وقطع النظر عن اللوازم الخارجية إلا أنه لما كانت المصلحة تسبب مفسدة من باب الحيل ، أو من باب التعاون منع من هذه الجهة لا من جهة الأصل ، فإن المتسبب لم يقصد إلا مصلحة نفسه ، فإن حمل محمل التعدي فمن جهة أنه مظنة للقصد أو مظنة للتقصير ، وهو أخفض رتبة من القسم الخامس ولذلك وقع الخلاف فيه : هل تقوم مظنة الشيء مقام نفس القصد إلى ذلك الشيء أم لا ؟ هذا نظر إثبات الحظوظ ، وأما نظر إسقاطها فأصحابه في هذا القسم مثلهم في القسم الخامس بخلاف القسم السادس ، فإنه لا قدرة للإنسان على الانفكاك عنه عادة .
وأما الثامن ، وهو ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا غالبا ولا نادرا فهو موضع نظر والتباس والأصل فيه الحمل على الأصل من صحة الإذن كمذهب الشافعي ، وغيره ولأن العلم والظن بوقوع المفسدة منتفيان; إذ ليس هنا إلا احتمال مجرد بين الوقوع ، وعدمه ولا قرينة ترجح أحد الجانبين على الآخر ، واحتمال القصد للمفسدة والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه لوجود العوارض من الغفلة ، وغيرها عن كونها موجودة ، أو غير موجودة .
وأيضا فإنه لا يصح أن يعد الجالب ، أو الدافع هنا مقصرا ولا قاصدا كما في العلم والظن; لأنه ليس حمله على القصد إليهما أولى من حمله على عدم القصد لواحد منهما ، وإذا كان كذلك فالتسبب المأذون فيه قوي جدا إلا أن مالكا اعتبره في سد الذرائع بناء على كثرة القصد وقوعا ، وذلك أن القصد لا ينضبط في نفسه; لأنه من الأمور الباطنة ، لكن له مجال هنا ، وهو كثرة الوقوع في [ ص: 78 ] الوجود ، أو هو مظنة ذلك ، فكما اعتبرت المظنة ، وإن صح التخلف كذلك تعتبر الكثرة; لأنها مجال القصد ولهذا أصل ، وهو حديث أم ولد زيد بن أرقم .
وأيضا فقد يشرع الحكم لعلة مع كون فواتها كثيرا كحد الخمر ، فإنه مشروع للزجر ، والازدجار به كثير لا غالب ، فاعتبرنا الكثرة في الحكم بما هو على خلاف الأصل ، فالأصل عصمة الإنسان عن الإضرار به ، وإيلامه ، كما أن الأصل في مسألتنا الإذن ، فخرج عن الأصل هنالك لحكمة الزجر ، وخرج عن [ ص: 79 ] الأصل هنا من الإباحة لحكمة سد الذريعة إلى الممنوع .
وأيضا فإن هذا القسم مشارك لما قبله في وقوع المفسدة بكثرة ، فكما اعتبرت في المنع هناك فلتعتبر هنا كذلك .
وأيضا فقد جاء في هذا القسم من النصوص كثير ، فقد نهى - عليه الصلاة والسلام - عن الخليطين ، وعن شرب النبيذ بعد ثلاث ، [ ص: 80 ] وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها ، وبين - عليه الصلاة والسلام - أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة ، فقال : لو رخصت في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه يعني أن النفوس [ ص: 81 ] لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا ، ووقوع المفسدة في هذه الأمور ليست بغالبة في العادة ، وإن كثر وقوعها .
وحرم - عليه الصلاة والسلام - الخلوة بالمرأة الأجنبية ، وأن تسافر مع غير ذي محرم ، ونهى عن بناء المساجد على القبور ، وعن الصلاة إليها ، [ ص: 82 ] وعن الجمع بين المرأة ، وعمتها ، أو خالتها ، وقال : إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ، وحرم نكاح ما فوق الأربع لقوله تعالى : ذلك أدنى ألا تعولوا [ النساء : 3 ] ، وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ، ونكاحها ، [ ص: 83 ] وحرم على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة ، وسائر دواعي النكاح ، وكذلك الطيب ، وعقد النكاح للمحرم ، [ ص: 84 ] ونهى عن البيع والسلف ، وعن هدية المديان ، وعن ميراث القاتل ، وعن تقدم شهر رمضان بصوم يوم ، أو يومين ، وحرم صوم يوم عيد الفطر ، وندب إلى تعجيل الفطر ، وتأخير السحور [ ص: 85 ] إلى غير ذلك مما هو ذريعة ، وفي القصد إلى الإضرار والمفسدة فيه كثرة وليس بغالب ولا أكثري والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة ، فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل ، فليس العمل عليه ببدع في الشريعة ، بل هو أصل من أصولها راجع إلى ما هو مكمل إما لضروري ، أو حاجي ، أو تحسيني ولعله يقرر في كتاب الاجتهاد إن شاء الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (95)
صـ86 إلى صـ 91
المسألة السادسة
كل من كلف بمصالح نفسه فليس على غيره القيام بمصالحه مع الاختيار والدليل على ذلك أوجه :
أحدها : أن المصالح إما دينية أخروية ، وإما دنيوية ، أما الدينية ، فلا سبيل إلى قيام الغير مقامه فيها حسبما تقدم وليس الكلام هنا فيها; إذ لا ينوب فيها أحد عن أحد ، وإنما النظر في الدنيوية التي تصح النيابة فيها ، فإذا فرضنا أنه مكلف بها ، فقد تعينت عليه ، وإذا تعينت عليه سقطت عن الغير بحكم التعيين فلم يكن غيره مكلفا بها أصلا .
والثاني : أنه لو كان الغير مكلفا بها أيضا لما كانت متعينة على هذا المكلف ولا كان مطلوبا بها ألبتة; لأن المقصود حصول المصلحة ، أو درء المفسدة ، وقد قام بها الغير بحكم التكليف فلزم أن لا يكون هو مكلفا بها وقد فرضناه مكلفا بها على التعيين ، هذا خلف لا يصح .
والثالث : أنه لو كان الغير مكلفا بها فإما على التعيين ، وإما على الكفاية ، وعلى كل تقدير فغير صحيح ، أما كونه على التعيين فكما تقدم ، وأما على الكفاية فالفرض أنه على المكلف عينا لا كفاية فيلزم أن يكون واجبا عليه عينا غير واجب عليه عينا في حالة واحدة ، وهو محال [ ص: 87 ] اللهم إلا أن تلحقه ضرورة ، فإنه عند ذلك ساقط عنه التكليف بتلك المصالح ، أو ببعضها مع اضطراره إليها فيجب على الغير القيام بها ولذلك شرعت الزكاة والصدقة والإقراض والتعاون ، وغسل الموتى ، ودفنهم والقيام على الأطفال والمجانين والنظر في مصالحهم ، وما أشبه ذلك من المصالح التي لا يقدر المحتاج إليها على استجلابها والمفاسد التي لا يقدر على استدفاعها ، فعلى هذا يقال : كل من لم يكلف بمصالح نفسه فعلى غيره القيام بمصالحه بحيث لا يلحق ذلك الغير ضرر ، فالعبد لما استغرقت منافعه مصالح سيده كان سيده مطلوبا بالقيام بمصالحه ، والزوجة كذلك صيرها الشارع للزوج كالأسير تحت يده فهو قد ملك منافعها الباطنة من جهة الاستمتاع والظاهرة من جهة القيام على ولده ، وبيته فكان مكلفا بالقيام عليها فقال الله تعالى الرجال قوامون على النساء [ النساء : 34 ] الآية .
[ ص: 88 ] المسألة السابعة
كل مكلف بمصالح غيره ، فلا يخلو أن يقدر مع ذلك على القيام بمصالح نفسه أو لا ، أعني المصالح الدنيوية المحتاج إليها ، فإن كان قادرا على ذلك من غير مشقة فليس على الغير القيام بمصالحه ، والدليل على ذلك أنه إذا كان قادرا على الجميع ، وقد وقع عليه التكليف بذلك فالمصالح المطلوبة من ذلك التكليف حاصلة من جهة هذا المكلف ، فطلب تحصيلها من جهة غيره غير صحيح; لأنه طلب تحصيل الحاصل ، وهو محال ، وأيضا فما تقدم في المسألة قبلها جار هنا ، ومثال ذلك السيد والزوج والوالد بالنسبة إلى الأمة أو العبد ، والزوجة والأولاد ، فإنه لما كان قادرا على القيام بمصالحه ، ومصالح من تحت حكمه لم يطلب غيره بالقيام عليه ولا كلف به ، فإذا فرضنا أنه غير قادر على مصالح غيره سقط عنه الطلب بها ، ويبقى النظر في دخول الضرر على الزوجة والعبد والأمة ينظر فيه من جهة أخرى لا تقدح في هذا التقرير ، وإن لم يقدر على ذلك ألبتة ، أو قدر لكن مع مشقة معتبرة في إسقاط التكليف ، فلا يخلو أن تكون المصالح المتعلقة من جهة الغير خاصة ، أو عامة ، فإن كانت خاصة سقطت ، وكانت مصالحه هي المقدمة; لأن حقه مقدم على حق غيره شرعا كما تقدم في القسم الرابع من المسألة الخامسة ، فإن معناه جار هنا على استقامة إلا إذا أسقط حظه ، فإن ذلك نظر آخر قد تبين أيضا .
[ ص: 89 ] وإن كانت المصلحة عامة فعلى من تعلقت بهم المصلحة أن يقوموا بمصالحه على وجه لا يخل بأصل مصالحهم ولا يوقعهم في مفسدة تساوي تلك المصلحة ، أو تزيد عليها ، وذلك أنه إما أن يقال للمكلف : لا بد لك من القيام بما يخصك ، وما يعم غيرك ، أو بما يخصك فقط ، أو بما يعم غيرك فقط والأول لا يصح فإنا قد فرضناه مما لا يطاق ، أو مما فيه مشقة تسقط التكليف فليس بمكلف بهما معا أصلا .
والثاني أيضا لا يصح; لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة كما تقدم قبل هذا إلا إذا دخل على المكلف بها مفسدة في نفسه ، فإنه لا يكلف إلا بما يخصه على تنازع في المسألة ، وقد أمكن هنا قيام الغير بمصلحته الخاصة ، فذلك واجب عليهم ، وإلا لزم تقديم المصلحة الخاصة على العامة بإطلاق من غير ضرورة ، وهو باطل بما تقدم من الأدلة ، وإذا وجب عليهم ، تعين على هذا المكلف التجرد إلى القيام بالمصلحة العامة ، وهو الثالث من الأقسام المفروضة .
فصل
إذا تقرر أن هذا القسم الثالث متعين على من كلف به على أن يقوم الغير بمصالحه فالشرط في قيامهم بمصالحه أن يقع من جهة لا تخل بمصالحهم ولا يلحقه فيها أيضا ضرر .
[ ص: 90 ] وقد تعين ذلك في زمان السلف الصالح; إذ جعل الشرع في الأموال ما يكون مرصدا لمصالح المسلمين لا يكون فيه حق لجهة معينة إلا لمطلق المصالح كيف اتفقت ، وهو مال بيت المال فيتعين لإقامة مصلحة هذا المكلف ذلك الوجه بعينه ويلحق به ما كان من الأوقاف مخصوصا بمثل هذه الوجوه فيحصل القيام بالمصالح من الجانبين ولا يكون فيه ضرر على واحد من أهل الطرفين; إذ لو فرض على غير ذلك الوجه لكان فيه ضرر على القائم ، وضرر على المقوم لهم .
أما مضرة القائم فمن جهة لحاق المنة من القائمين إذا تعينوا في القيام بأعيان المصالح والمنن يأباها أرباب العقول الآخذون بمحاسن العادات ، وقد اعتبر الشارع هذا المعنى في مواضع كثيرة ولذلك شرطوا في صحة الهبة وانعقادها القبول .
وقالت جماعة : إذا وهب الماء لعادم الماء للطهارة لم يلزمه قبوله وجاز له التيمم إلى غير ذلك ، وأصله قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ البقرة : 264 ] فجعل المن من جملة ما يبطل أجر الصدقة ، وما ذاك إلا لما في المن من إيذاء المتصدق عليه ، وهذا المعنى موجود على الجملة في كل ما فرض من هذا الباب ، هذا وجه ، ووجه ثان ما يلحقه من الظنون المتطرقة والتهمة اللاحقة عند القبول من المعين ولذلك لم يجز باتفاق للقاضي ولا لسائر الحكام - أن يأخذوا من [ ص: 91 ] الخصمين ، أو من أحدهما أجرة على فصل
الخصومة بينهما وامتنع قبول هدايا الناس للعمال وجعلها - عليه الصلاة والسلام - من الغلول الذي هو كبيرة من كبائر الذنوب .
وأما مضرة الدافع فمن جهة كلفة القيام بالوظائف عند التعيين ، وقد يتيسر له ذلك في وقت دون وقت ، أو في حال دون حال ، وبالنسبة إلى شخص دون شخص ولا ضابط في ذلك يرجع إليه ولأنها تصير بالنسبة إلى المتكلف لها أخية الجزية التي ليس لها أصل مشروع إذا كانت موظفة على الرقاب ، أو على الأموال ، هذا إلى ما يلحق في ذلك من مضادة أصل المصلحة التي طلب ذلك المكلف بإقامتها; إذ كان هذا الترتيب ذريعة إلى الميل لجهة المبالغ في القيام بالمصلحة فيكون سببا في إبطال الحق ، وإحقاق الباطل ، وذلك ضد المصلحة ولأجل الوجه الأول جاء في القرآن نفي ذلك في قوله تعالى : وما أسألكم عليه من أجر [ الشعراء : 109 ] قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله [ سبأ : 47 ] قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ]
إلى سائر ما في هذا المعنى ، وبالوجه الآخر علل إجماع العلماء على المنع من أخذ الأجرة من الخصمين ، وهذا كله في غاية الظهور ، والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (96)
صـ92 إلى صـ 100
فصل
[ ص: 92 ] هذا كله فيما إذا كانت المصلحة العامة إذا قام بها لحقه ضرر ، ومفسدة دنيوية يصح أن يقوم بها غيره .
فإن كانت المفسدة اللاحقة له دنيوية لا يمكن أن يقوم بها غيره ، فهي مسألة الترس ، وما أشبهها فيجري فيها خلاف كما مر ولكن قاعدة منع التكليف بما لا يطاق شاهدة بأنه لا يكلف بمثل هذا ، وقاعدة تقديم المصلحة العامة على الخاصة شاهدة بالتكليف به فيتواردان على هذا المكلف من جهتين ولا تناقض فيه ، فلأجل ذلك احتمل الموضع الخلاف .
وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ ، فقد يترجح جانب المصلحة العامة ، ويدل عليه أمران :
أحدهما : قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها ، فمثل هذا داخل تحت حكمها .
والثاني : ما جاء في خصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ، وقوله نحري دون نحرك ، ووقايته له حتى شلت يده ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم غيره على نفسه في [ ص: 93 ] مبادرته للقاء العدو دون الناس حتى يكون متقى به ، فهو إيثار راجع إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير ، ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته بنفسه ظاهر; لأنه كان كالجنة للمسلمين .
وفي قصة أبي طلحة أنه كان وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين ، وأهله ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما عدمه فتعم مفسدته الدين ، وأهله ، وإلى هذا النحو مال أبو الحسين النوري حين تقدم إلى السياف ، وقال : أوثر أصحابي بحياة ساعة . في القصة المشهورة .
[ ص: 94 ] وإن كانت أخروية كالعبادات اللازمة عينا والنواهي اللازم اجتنابها عينا ، فلا يخلو أن يكون دخوله في القيام بهذه المصلحة مخلا بهذه الواجبات الدينية والنواهي الدينية قطعا ، أو لا .
فإن أخل بها لم يسع الدخول فيها إذا كان الإخلال بها عن غير تقصير; لأن المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق ولا أظن هذا القسم واقعا; لأن الحرج ، وتكليف ما لا يطاق مرفوع ، ومثل هذا التزاحم في العادات غير واقع .
وإن لم يخل بها لكنه أورثها نقصا ما بحيث يعد خلافه كمالا فهذا من جهة المندوبات ولا تعارض المندوبات الواجبات ، كالخطرات في ذلك الشغل العام تخطر على قلبه ، وتعارضه حتى يحكم فيها بقلبه ، وينظر فيها بحكم الغلبة ، وقد نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو هذا من تجهيز الجيش ، وهو في الصلاة ، ومن نحو هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - : إني [ ص: 95 ] لأسمع بكاء الصبي الحديث ، وإن لم يخل بها ولا أورثها نقصا بعد ولكن ذلك متوقع ، فإنه يحل محل مفاسد تدخل عليه ، وعوارض تطرقه فهل يعد ذلك من قبيل المفسدة الواقعة في الدين أم لا ، كالعالم يعتزل الناس خوفا من الرياء والعجب ، وحب الرياسة ، وكذلك السلطان ، أو الوالي العدل الذي يصلح لإقامة تلك الوظائف والمجاهد إذا قعد عن الجهاد خوفا من قصده طلب الدنيا به ، أو المحمدة ، وكان ذلك الترك مؤديا إلى الإخلال بهذه المصلحة العامة ؟ فالقول هنا بتقديم العموم أولى; لأنه لا سبيل لتعطيل مصالح الخلق ألبتة ، فإن إقامة الدين والدنيا لا تحصل إلا بذلك ، وقد فرضنا هذا الخائف مطالبا بها ، فلا يمكن إلا القيام بها على وجه لا يدخله في تكليف ما لا يطيقه ، أو ما يشق عليه ، والتعرض للفتن والمعاصي راجع إلى اتباع هوى النفس خاصة لا سيما في المنهيات; لأنها مجرد ترك ، والترك لا يزاحم الأفعال في تحصيله ، والأفعال إنما يلزمه منها الواجب ، وهو يسير ، فلا ينحل عن عنقه رباط الاحتياط لنفسه ، وإن كان لا يقدر على القيام بذلك إلا مع المعصية فليس بعذر; لأنه أمر قد تعين عليه ، فلا يرفعه عنه مجرد متابعة الهوى; إذ ليس من المشقات كما أنه إذا وجبت عليه الصلاة ، أو الجهاد عينا ، أو الزكاة ، فلا يرفع وجوبها عليه خوف الرياء والعجب ، وما أشبه ذلك ، وإن فرض أنه يقع به ، بل يؤمر بجهاد نفسه في الجميع .
فإن قيل : كيف هذا ، وقد علم أنه لا يسلم من ذلك ، فصار كالمتسبب [ ص: 96 ] لنفسه في الهلكة ، فالوجه أنه لا سبيل له إلى دخوله فيما فيه هلاكه ؟
فالجواب : أنه لو كان كذلك ، وقد تعين عليه القيام بذلك العام لجاز في مثله مما تعين عليه من الواجبات ، وذلك باطل باتفاق .
نعم ، قد يقال : إذا كان في دخوله فيه معصية أخرى من ظلم ، أو غصب ، أو تعد فهذا أمر خارج عن المسألة فهو سبب لعزله من جهة عدم عدالته الطارئة ، لا من جهة أنه قد كان ساقطا عنه بسبب الخوف ، وإنما حاصل هذا أنه واقع في مخالفة أسقطت عدالته فلم تصح إقامته ، وهو على تلك الحال .
وأما إن فرض أن عدم إقامته لا يخل بالمصلحة العامة لوجود غيره مثلا ممن يقوم بها ، فهو موضع نظر قد يرجح جانب السلامة من العارض ، وقد يرجح جانب المصلحة العامة ، وقد يفرق بين من يكون وجوده وعدمه سواء ، فلا ينحتم عليه طلب ، وبين من له قوة في إقامة المصلحة ، وغناء ليس لغيره ، وإن كان لغيره غناء أيضا فينحتم ، أو يترجح الطلب والضابط في ذلك التوازن بين المصلحة والمفسدة ، فما رجح منها غلب ، وإن استويا كان محل إشكال ، وخلاف بين العلماء قائم من مسألة انخرام المناسبة بمفسدة تلزم راجحة ، أو مساوية .
فصل
وقد تكون المفسدة مما يلغى مثلها في جانب عظم المصلحة ، وهو مما ينبغي أن يتفق على ترجيح المصلحة عليها ولذلك مثال واقع .
حكى عياض في المدارك أن عضد الدولة فناخسرو الديلمي بعث إلى أبي بكر بن مجاهد والقاضي ابن الطيب ليحضرا مجلسه لمناظرة المعتزلة [ ص: 97 ] فلما وصل كتابه إليهما قال : الشيخ ابن مجاهد ، وبعض أصحابه : هؤلاء قوم كفرة فسقة; لأن الديلم كانوا روافض لا يحل لنا أن نطأ بساطهم ، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال : إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم ، ولو كان خالصا لله لنهضت .
قال القاضي ابن الطيب : فقلت لهم : كذا قال المحاسبي ، وفلان ، ومن في عصرهم : إن المأمون فاسق لا نحضر مجلسه ، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه ما عرف ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر ، وتبين له ما هم عليه بالحجة ، وأنت أيضا أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد ، ويقولوا بخلق القرآن ، ونفي الرؤية ، وها أنا خارج إن لم تخرج ، فقال الشيخ : إذ شرح الله صدرك لهذا فاخرج . إلى آخر الحكاية .
فمثل هذا إذا اتفق يلغي في جانب المصلحة فيه ما يقع من جزئيات المفاسد ، فلا يكون لها اعتبار ، وهو نوع من أنواع الجزئيات التي يعود اعتبارها على الكلي بالإخلال والفساد ، وقد مر بيانه في أوائل هذا الكتاب والحمد لله .
[ ص: 98 ] المسألة الثامنة
التكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها فللمكلف في الدخول تحتها ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشارع في شرعها فهذا لا إشكال فيه ولكن ينبغي أن لا يخليه من قصد التعبد; لأن مصالح العباد إنما جاءت من طريق التعبد; إذ ليست بعقلية حسبما تقرر في موضعه ، وإنما هي تابعة لمقصود التعبد ، فإذا اعتبر صار أمكن في التحقق بالعبودية ، وأبعد عن أخذ العاديات للمكلف فكم ممن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها فغاب عن أمر الآمر بها ، وهي غفلة تفوت خيرات كثيرة بخلاف ما إذا لم يهمل التعبد .
وأيضا فإن المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر إلا دليل ناص على الحصر ، وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصي; إذ يقل في كلام الشارع أن يقول مثلا : لم أشرع هذا الحكم إلا لهذه الحكم ، فإذا لم يثبت الحصر ، أو ثبت في موضع ما ولم يطرد كان قصد تلك الحكمة ربما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم فنقص عن كمال غيره .
والثاني : أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشارع مما اطلع عليه ، أو لم [ ص: 99 ] يطلع عليه ، وهذا أكمل من الأول إلا أنه ربما فاته النظر إلى التعبد ، والقصد إليه في التعبد ، فإن الذي يعلم أن هذا العمل شرع لمصلحة كذا ثم عمل لذلك القصد ، فقد يعمل العمل قاصدا للمصلحة غافلا عن امتثال الأمر فيها فيشبه من عملها من غير ورود أمر ، والعامل على هذا الوجه عمله عادي فيفوت قصد التعبد ، وقد يستفزه فيه الشيطان فيدخل عليه قصد التقرب إلى المخلوق ، أو الوجاهة عنده ، أو نيل شيء من الدنيا ، أو غير ذلك من المقاصد المردية بالأجر ، وقد يعمل هنالك لمجرد حظه ، فلا يكمل أجره كمال من يقصد التعبد .
والثالث : أن يقصد مجرد امتثال الأمر فهم قصد المصلحة ، أو لم يفهم فهذا أكمل وأسلم .
أما كونه أكمل فلأنه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ، ومملوكا ملبيا; إذ لم يعتبر إلا مجرد الأمر .
وأيضا فإنه لما امتثل الأمر ، فقد وكل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة ، وتفصيلا ولم يكن ليقصر العمل على بعض المصالح دون بعض ، وقد علم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل فصار مؤتمرا في تلبيته التي لم يقيدها ببعض المصالح دون بعض .
[ ص: 100 ] وأما كونه أسلم ؛ فلأن العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية واقف على مركز الخدمة ، فإن عرض له قصد غير الله رده قصد التعبد ، بل لا يدخل عليه في الأكثر إذا عمل على أنه عبد مملوك لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء بخلاف ما إذا عمل على جلب المصالح ، فإنه قد عد نفسه هنالك واسطة بين العباد ، ومصالحهم ، وإن كان واسطة لنفسه أيضا فربما داخله شيء من اعتقاد المشاركة فتقوم لذلك نفسه ، وأيضا فإن حظه هنا ممحو من جهته بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي ، والعمل على الحظوظ طريق إلى دخول الدواخل ، والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها ولهذا بسط في كتاب الأحكام ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (97)
صـ101 إلى صـ 119
المسألة التاسعة
كل ما كان من حقوق الله ، فلا خيرة فيه للمكلف على حال ، وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة .
أما حقوق الله تعالى فالدلائل على أنها غير ساقطة ولا ترجع لاختيار المكلف كثيرة ، وأعلاها الاستقراء التام في موارد الشريعة ، ومصادرها كالطهارة على أنواعها والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أعلاه الجهاد ، وما يتعلق بذلك من الكفارات والمعاملات والأكل والشرب واللباس ، وغير ذلك من العبادات والعادات التي ثبت فيها حق الله تعالى ، أو حق الغير من العباد ، وكذلك الجنايات كلها على هذا الوزان .
جميعها لا يصح إسقاط حق الله فيها ألبتة فلو طمع أحد في أن يسقط طهارة للصلاة أي طهارة كانت ، أو صلاة من الصلوات المفروضات ، أو زكاة ، أو صوما ، أو حجا ، أو غير ذلك لم يكن له ذلك ، وبقي مطلوبا بها أبدا حتى يتقصى عن عهدتها ، وكذلك لو حاول استحلال مأكول حي مثلا من غير ذكاة ، أو إباحة ما حرم الشارع من ذلك ، أو استحلال نكاح بغير ولي أو صداق ، أو الربا ، أو سائر البيوع الفاسدة ، أو إسقاط حد الزنا ، أو الخمر ، أو الحرابة ، أو الأخذ بالغرم والأداء على الغير بمجرد الدعوى عليه ، وأشباه ذلك لم يصح شيء منه ، وهو ظاهر جدا في مجموع الشريعة حتى إذا كان الحكم دائرا بين حق الله ، وحق العبد لم يصح للعبد إسقاط حقه إذا أدى إلى إسقاط حق الله .
[ ص: 102 ] فلأجل ذلك لا يعترض هذا بأن يقال مثلا : إن حق العبد ثابت له في حياته وكمال جسمه وعقله وبقاء ماله في يده ، فإذا أسقط ذلك بأن سلط يد الغير عليه فإما أن يقال بجواز ذلك له أو لا ، فإن قلت : لا ، وهو الفقه كان نقضا لما أصلت; لأنه حقه ، فإذا أسقطه اقتضى ما تقدم أنه مخير في إسقاطه ، والفقه يقتضي أن ليس له ذلك ، وإن قلت نعم خالفت الشرع; إذ ليس لأحد أن يقتل نفسه ولا أن يفوت عضوا من أعضائه ولا مالا من ماله ، فقد قال تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] ثم توعد عليه ، وقال : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] الآية .
وقد جاء الوعيد الشديد فيمن قتل نفسه ، وحرم شرب الخمر لما فيه من تفويت مصلحة العقل برهة فما ظنك بتفويته جملة ، وحجر على مبذر المال ، ونهى - عليه الصلاة والسلام - عن إضاعة المال ، فهذا كله دليل على أن ما هو حق للعبد لا يلزم أن تكون له فيه الخيرة; لأنا نجيب بأن إحياء النفوس ، وكمال العقول والأجسام من حق الله تعالى في العباد لا من حقوق العباد ، وكون ذلك لم يجعل إلى اختيارهم هو الدليل على ذلك ، فإذا أكمل الله تعالى على عبد حياته وجسمه ، وعقله الذي به يحصل له ما طلب به من القيام بما كلف به ، فلا يصح للعبد إسقاطه ، اللهم إلا أن يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه ، وفات بسبب [ ص: 103 ] ذلك نفسه ، أو عقله ، أو عضو من أعضائه فهنالك يتمحض حق العبد; إذ ما وقع لا يمكن رفعه فله الخيرة فيمن تعدى عليه; لأنه قد صار حقا مستوفى في الغير كدين من الديون ، فإن شاء استوفاه ، وإن شاء تركه ، وتركه هو الأولى إبقاء على الكلي قال الله تعالى : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ الشورى : 43 ]
وقال : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ الشورى : 40 ] ، وذلك أن القصاص والدية إنما هي جبر لما فات المجني عليه من مصالح نفسه ، أو جسده ، فإن حق الله قد فات ولا جبر له ، وكذلك ما وقع مما يمكن رفعه كالأمراض إذا كان التطبب غير واجب ، ودفع الظالم عنك غير واجب على تفصيل في ذلك مذكور في الفقهيات ، وأما المال فجار على ذلك الأسلوب ، فإنه إذا تعين الحق للعبد فله إسقاطه ، وقد قال تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون [ البقرة : 280 ] بخلاف ما إذا كان في يده فأراد التصرف فيه ، وإتلافه في غير مقصد شرعي يبيحه الشارع ، فلا ، وكذلك سائر ما كان من هذا الباب .
وأما تحريم الحلال ، وتحليل الحرام ، وما أشبهه فمن حق الله تعالى; لأنه تشريع مبتدأ ، وإنشاء كلية شرعية ألزمها العباد فليس لهم فيها تحكم; إذ ليس للعقول تحسين ولا تقبيح تحلل به ، أو تحرم فهو مجرد تعد فيما ليس لغير الله فيه نصيب فلذلك لم يكن لأحد فيه خيرة .
فإن قيل : فقد تقدم أيضا أن كل حق للعبد لا بد فيه من تعلق حق الله به ، فلا شيء من حقوق العباد إلا وفيه لله حق فيقتضي أن ليس للعبد إسقاطه ، [ ص: 104 ] فلا يبقى بعد هذا التقرير حق واحد يكون العبد فيه مخيرا ، فقسم العبد إذا ذاهب ولم يبق إلا قسم واحد .
فالجواب أن هذا القسم الواحد هو المنقسم; لأن ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقا له بإثبات الشرع ذلك له لا بكونه مستحقا لذلك بحكم الأصل ، وقد تقدم هذا المعنى مبسوطا في هذا الكتاب ، وإذا كان كذلك فمن هنا ثبت للعبد حق ولله حق .
فأما ما هو لله صرفا ، فلا مقال فيه للعبد ، وأما ما هو للعبد فللعبد فيه الاختيار من حيث جعل الله له ذلك لا من جهة أنه مستقل بالاختيار ، وقد ظهر بما تقدم آنفا تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة ، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات ، وغيرها مما هو حلال له ، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق .
فله إسقاطها وله الاعتياض منها والتصرف فيما بيده من [ ص: 105 ] غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات ، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق لله ، وما هو حق للعباد ، وقد تقدمت الإشارة إليه في آخر النوع الثالث من هذا الكتاب والحمد لله .
[ ص: 106 ] المسألة العاشرة
التحيل بوجه سائغ مشروع في الظاهر ، أو غير سائغ على إسقاط حكم ، أو قلبه إلى حكم آخر بحيث لا يسقط ، أو لا ينقلب إلا مع تلك الواسطة فتفعل ليتوصل بها إلى ذلك الغرض المقصود مع العلم بكونها لم تشرع له فكأن التحيل مشتمل على مقدمتين :
إحداهما : قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض في ظاهر الأمر .
والأخرى : جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معان - وسائل إلى قلب تلك الأحكام هل يصح شرعا القصد إليه والعمل على وفقه أم لا ؟
وهو محل يجب الاعتناء به ، وقبل النظر في الصحة ، أو عدمها لا بد من شرح هذا الاحتيال .
وذلك أن الله تعالى أوجب أشياء ، وحرم أشياء إما مطلقا من غير قيد ولا ترتيب على سبب كما أوجب الصلاة والصيام والحج ، وأشباه ذلك ، [ ص: 107 ] وكما حرم الزنا والربا والقتل ، ونحوها ، وأوجب أيضا أشياء مرتبة على أسباب ، وحرم أخر كذلك كإيجاب الزكاة والكفارات والوفاء بالنذور والشفعة للشريك ، وكتحريم المطلقة والانتفاع بالمغصوب ، أو المسروق ، وما أشبه ذلك ، فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه ، أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر ، أو المحرم حلالا في الظاهر أيضا .
فهذا التسبب يسمى حيلة ، وتحيلا كما لو دخل وقت الصلاة عليه في الحضر فإنها تجب عليه أربعا فأراد أن يتسبب في إسقاطها كلها بشرب خمر ، أو دواء مسبت حتى يخرج وقتها ، وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه ، أو قصرها فأنشأ سفرا ليقصر الصلاة ، وكذلك من أظله شهر رمضان فسافر ليأكل ، أو كان له مال يقدر على الحج به فوهبه ، أو أتلفه بوجه من وجوه الإتلاف كي لا يجب عليه الحج ، وكما لو أراد وطء جارية الغير فغصبها ، وزعم أنها ماتت فقضي عليه بقيمتها فوطئها بذلك ، أو أقام شهود زور على تزويج بكر برضاها فقضى الحاكم بذلك ثم وطئها ، أو أراد بيع عشرة دراهم نقدا بعشرين إلى أجل فجعل العشرة [ ص: 108 ] ثمنا لثوب ثم باع الثوب من البائع الأول بعشرين إلى أجل ، أو أراد قتل فلان فوضع له في طريقه سببا مجهزا كإشراع الرمح ، وحفر البئر ، ونحو ذلك ، وكالفرار من وجوب الزكاة بهبة المال ، أو إتلافه ، أو جمع متفرقه ، أو تفريق مجتمعه ، وهكذا سائر الأمثلة في تحليل الحرام ، وإسقاط الواجب ، ومثله جار في تحريم الحلال كالزوجة ترضع جارية الزوج ، أو الضرة لتحرم عليه ، أو إثبات حق لا يثبت كالوصية للوارث في قالب الإقرار بالدين .
وعلى الجملة فهو تحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعا إلى أحكام أخر بفعل صحيح الظاهر لغو في الباطن كانت الأحكام من خطاب التكليف ، أو من خطاب الوضع .
[ ص: 109 ] المسألة الحادية عشرة
الحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة في الجملة ، والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة ، لكن في خصوصيات يفهم من مجموعها منعها والنهي عنها على القطع .
فمن الكتاب ما وصف الله به المنافقين في قوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر [ البقرة : 8 ] إلى آخر الآيات .
فذمهم ، وتوعدهم ، وشنع عليهم ، وحقيقة أمرهم أنهم أظهروا كلمة الإسلام إحرازا لدمائهم ، وأموالهم لا لما قصد له في الشرع من الدخول تحت طاعة الله على اختيار ، وتصديق قلبي ، وبهذا المعنى كانوا في الدرك الأسفل من النار ، وقيل فيهم : إنهم يخادعون الله والذين آمنوا [ البقرة : 9 ] .
وقالوا عن أنفسهم : إنما نحن مستهزئون [ البقرة : 14 ] لأنهم تحيلوا بملابسة الدين ، وأهله إلى أغراضهم الفاسدة .
وقال تعالى في المرائين بأعمالهم : كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب [ البقرة : 264 ] الآية .
وقال : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر [ النساء : 38 ] .
وقال : يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [ النساء : 142 ] فذم ، [ ص: 110 ] وتوعد; لأنه إظهار للطاعة لقصد دنيوي يتوصل بها إليه ، وقال تعالى في أصحاب الجنة : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة الآية إلى قوله : فأصبحت كالصريم [ القلم : 17 - 20 ] لما احتالوا على إمساك حق المساكين بأن قصدوا الصرام في غير وقت إتيانهم عذبهم الله تعالى بإهلاك مالهم .
وقال : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت [ البقرة : 65 ] الآية ، وأشباهها لأنهم احتالوا للاصطياد في السبت بصورة الاصطياد في غيره .
وقال تعالى : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا إلى قوله : ولا تتخذوا آيات الله هزوا [ البقرة : 231 ] .
وفسرت بأن الله حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها [ ص: 111 ] بأن يطلقها ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ، ثم يرتجعها ، ثم يطلقها حتى تشارف انقضاء العدة ، وهكذا لا يرتجعها لغرض له فيها سوى الإضرار بها .
وقد جاء في قوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا [ البقرة : 228 ] إلى قوله : الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] أن الطلاق كان في أول الإسلام إلى غير عدد فكان الرجل يرتجع المرأة قبل أن تنقضي عدتها ، ثم يطلقها ، ثم يرتجعها كذلك قصدا .
فنزلت الطلاق مرتان [ البقرة : 229 ] ، ونزل مع ذلك ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا [ البقرة : 229 ] الآية فيمن كان يضار المرأة حتى تفتدي منه .
وهذه كلها حيل على بلوغ غرض لم يشرع ذلك الحكم لأجله ، وقال تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار [ النساء : 12 ] يعني بالورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث ، أو يوصي لوارث احتيالا على حرمان بعض الورثة .
وقال تعالى : ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا [ النساء : 6 ] ، وقوله تعالى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن [ النساء : 19 ] الآية إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى .
[ ص: 112 ] ومن الأحاديث قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة فهذا نهي عن الاحتيال لإسقاط الواجب ، أو تقليله .
وقال : لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود والنصارى يستحلون محارم الله بأدنى الحيل .
وقال : من أدخل فرسا بين فرسين ، وقد أمن أن تسبق فهو قمار .
وقال : قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها ، وأكلوا أثمانها .
[ ص: 113 ] وقال : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ، ويجعل منهم القردة والخنازير .
ويروى موقوفا على ابن عباس ، ومرفوعا : " يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء : يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها ، والسحت [ ص: 114 ] بالهدية ، والقتل بالرهبة ، والزنى بالنكاح ، والربا بالبيع " .
وقال : إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء ، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم .
[ ص: 115 ] [ ص: 116 ] وقال : لعن الله المحلل والمحلل له .
وقال : لعن الله الراشي والمرتشي .
[ ص: 117 ] ونهى عن هدية المديان فقال : إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه ، أو حمله على الدابة ، فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه ، وبينه قبل ذلك .
[ ص: 118 ] وقال : القاتل لا يرث .
وجعل هدايا الأمراء غلولا ، ونهى عن البيع والسلف .
وقالت عائشة : أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 119 ] إن لم يتب .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة كلها دائرة على أن التحيل في قلب الأحكام ظاهرا غير جائز ، وعليه عامة الأمة من الصحابة والتابعين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (98)
صـ120 إلى صـ 132
المسألة الثانية عشرة
لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك; لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين ، فإذا كان الأمر في ظاهره ، وباطنه على أصل المشروعية ، فلا إشكال ، وإن كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح ، وغير مشروع; لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها ، [ ص: 121 ] وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها ، وهي المصالح التي شرعت لأجلها فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات .
فنحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة ، وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب بها إلى الله والرجوع إليه ، وإفراده بالتعظيم والإجلال ، ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد ، فإذا عمل بذلك على قصد نيل حظ من حظوظ الدنيا من دفع ، أو نفع كالناطق بالشهادتين قاصدا لإحراز دمه ، وماله لا لغير ذلك ، أو المصلي رئاء الناس ليحمد على ذلك ، أو ينال به رتبة في الدنيا فهذا العمل ليس من المشروع في شيء; لأن المصلحة التي شرع لأجلها لم تحصل ، بل المقصود به ضد تلك المصلحة ، وعلى هذا نقول في الزكاة مثلا : إن المقصود بمشروعيتها رفع رذيلة الشح ، ومصلحة إرفاق المساكين ، وإحياء النفوس المعرضة للتلف ، فمن وهب [ ص: 122 ] في آخر الحول ماله هروبا من وجوب الزكاة عليه ، ثم إذا كان في حول آخر ، أو قبل ذلك استوهبه فهذا العمل تقوية لوصف الشح ، وإمداد له ورفع لمصلحة إرفاق المساكين فمعلوم أن صورة هذه الهبة ليست هي الهبة التي ندب الشرع إليها; لأن الهبة إرفاق ، وإحسان للموهوب له ، وتوسيع عليه غنيا كان ، أو فقيرا وجلب لمودته ، ومؤالفته ، وهذه الهبة على الضد من ذلك ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقا لمصلحة الإرفاق والتوسعة ورفعا لرذيلة الشح ، فلم يكن هروبا عن أداء الزكاة .
فتأمل كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدا شرعيا ، والقصد غير الشرعي هادم [ ص: 123 ] للقصد الشرعي ، ومثله أن الفدية شرعت للزوجة هربا من أن لا يقيما حدود الله في زوجيتهما ، فأبيح للمرأة أن تشتري عصمتها من الزوج عن طيب نفس منها خوفا من الوقوع في المحظور ، فهذه بذلت مالها طلبا لصلاح الحال بينها ، وبين زوجها ، وهو التسريح بإحسان ، وهو مقصد شرعي مطابق للمصلحة لا فساد فيه حالا ولا مآلا ، فإذا أضر بها لتفتدي منه ، فقد عمل هو بغير المشروع حين أضر بها لغير موجب مع القدرة على الوصول إلى الفراق من غير إضرار ، فلم يكن التسريح إذا طلبته بالفداء تسريحا بإحسان ولا خوفا من أن لا يقيما حدود الله; لأنه فداء مضطر ، وإن كان جائزا لها من جهة الاضطرار والخروج من الإضرار وصار غير جائز له إذ وضع على غير المشروع .
وكذلك نقول : إن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة ، وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص .
أما الجزئية فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصيته ، وأما الكلية فهي أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته ، وأقواله واعتقاداته ، فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها حتى يرتاض بلجام الشرع ، وقد مر بيان هذا فيما تقدم ، فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه ، فقد خلع ربقة التقوى ، وتمادى في متابعة الهوى ، ونقض ما أبرمه الشارع ، وأخر ما قدمه ، وأمثال ذلك كثيرة .
[ ص: 124 ] فصل
فإذا ثبت هذا فالحيل التي تقدم إبطالها ، وذمها والنهي عنها ما هدم أصلا شرعيا ، وناقض مصلحة شرعية .
فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلا شرعيا ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة في النهي ولا هي باطلة ، ومرجع الأمر فيها إلى أنها على ثلاثة أقسام :
أحدها : لا خلاف في بطلانه كحيل المنافقين والمرائين .
والثاني : لا خلاف في جوازه كالنطق بكلمة الكفر إكراها عليها ، فإن نسبة التحيل بها في إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقاد لمقتضاها كنسبة التحيل بكلمة الإسلام في إحراز الدم بالقصد الأول كذلك ، إلا أن هذا مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بخلاف الأول فإنه غير مأذون فيه لكونه مفسدة أخروية بإطلاق ، والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق; إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع ، فكان باطلا ، ومن هنا جاء في ذم النفاق ، وأهله ما جاء .
وهكذا سائر ما يجري مجراه ، وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع .
[ ص: 125 ] وأما الثالث فهو محل الإشكال والغموض ، وفيه اضطربت أنظار النظار من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول ، أو الثاني ولا تبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مقصود له ولا ظهر أنه على خلاف المصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه .
فصار هذا القسم من هذا الوجه متنازعا فيه ، شهادة من المتنازعين بأنه غير مخالف للمصلحة فالتحيل جائز ، أو مخالف فالتحيل ممنوع ، ولا يصح أن يقال : إن من أجاز التحيل في بعض المسائل مقر بأنه خالف في ذلك قصد الشارع ، بل إنما أجازه بناء على تحري قصده ، وأن مسألته لاحقة بقسم التحيل الجائز الذي علم قصد الشارع إليه ; لأن مصادمة الشارع صراحا علما أو ظنا لا تصدر من عوام المسلمين فضلا عن أئمة الهدى ، وعلماء الدين نفعنا الله بهم .
كما أن المانع إنما منع بناء على أن ذلك مخالف لقصد الشارع ولما وضع في الأحكام من المصالح ولا بد من بيان هذه الجملة ببعض الأمثلة لتظهر صحتها ، وبالله التوفيق .
فمن ذلك نكاح المحلل ، فإنه تحيل إلى رجوع الزوجة إلى مطلقها الأول بحيلة توافق في الظاهر قول الله تبارك وتعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ، فقد نكحت المرأة هذا المحلل ، فكان رجوعها إلى الأول بعد تطليق الثاني موافقا ، ونصوص الشارع مفهمة لمقاصده ، بل هي أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية .
وقوله - عليه الصلاة والسلام - : لا ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك [ ص: 126 ] ظاهر أن المقصود في النكاح الثاني : ذوق العسيلة ، وقد حصل في المحلل ولو كان قصد التحليل معتبرا في فساد هذا النكاح لبينه - عليه الصلاة والسلام - ولأن كونه حيلة لا يمنعها ، وإلا لزم ذلك في كل حيلة كالنطق بكلمة الكفر للإكراه ، وسائر ما يدخل تحت القسم الجائز باتفاق ، فإذا ثبت هذا ، وكان موافقا للمنقول دل على صحة موافقته لقصد الشارع .
وكذلك إذا اعتبرت جهة المصلحة فمصلحة هذا النكاح ظاهرة; لأنه قد قصد فيه الإصلاح بين الزوجين; إذ كان تسببا في التآلف بينهما على وجه صحيح ولأن النكاح لا يلزم فيه القصد إلى البقاء المؤبد ; لأن هذا هو التضييق الذي تأباه الشريعة ولأجله شرع الطلاق ، وهو كنكاح النصارى ، وقد أجاز العلماء النكاح بقصد حل اليمين من غير قصد إلى الرغبة في بقاء عصمة المنكوحة ، وأجازوا نكاح المسافر في بلدة لا قصد له إلا قضاء الوطر زمان الإقامة بها إلى غير ذلك .
وأيضا لا يلزم إذا شرعت القاعدة الكلية لمصلحة أن توجد المصلحة في كل فرد من أفرادها عينا حسبما تقدم كما في نكاح حل اليمين والقائل إن تزوجت فلانة ، فهي طالق على رأي مالك فيهما ، وفي نكاح المسافر ، وغير ذلك .
هذا تقرير بعض ما يستدل به من قال : بجواز الاحتيال هنا ، وأما تقرير [ ص: 127 ] الدليل على المنع فأظهر ، فلا نطول بذكره ، وأقرب تقرير فيه ما ذكره عبد الوهاب في شرح الرسالة ، فإليك النظر فيه .
ومن ذلك مسائل بيوع الآجال ، فإن فيها التحيل إلى بيع درهم نقدا بدرهمين إلى أجل ، لكن بعقدين ، كل واحد منهما مقصود في نفسه ، وإن كان الأول ذريعة فالثاني غير مانع ; لأن الشارع إذا كان قد أباح لنا الانتفاع بجلب المصالح ، ودرء المفاسد على وجوه مخصوصة ، فتحري المكلف تلك الوجوه غير قادح ، وإلا كان قادحا في جميع الوجوه المشروعة ، وإذا فرض أن العقد الأول ليس بمقصود العاقد ، وإنما مقصوده الثاني ، فالأول إذا منزل منزلة الوسائل والوسائل مقصودة شرعا من حيث هي وسائل ، وهذا منها ، فإن جازت الوسائل من حيث هي وسائل فليجز ما نحن فيه ، وإن منع ما نحن فيه فلتمنع الوسائل على الإطلاق ، لكنها ليست على الإطلاق ممنوعة إلا بدليل ، فكذلك هنا لا يمنع إلا بدليل ، [ ص: 128 ] [ ص: 129 ] [ ص: 130 ] بل هنا ما يدل على صحة التوسل في مسألتنا وصحة قصد الشارع إليه في قوله - عليه الصلاة والسلام - : بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا فالقصد ببيع الجمع بالدراهم التوسل إلى حصول الجنيب بالجمع ، لكن على وجه مباح ولا فرق في القصد بين حصول ذلك مع عاقد واحد ، وعاقدين; إذ لم يفصل النبي - عليه الصلاة والسلام - .
وقول القائل : إن هذا مبني على قاعدة القول بالذرائع غير مفيد هنا ، [ ص: 131 ] فإن الذرائع على ثلاثة أقسام :
منها ما يسد باتفاق ، كسب الأصنام مع العلم بأنه مؤد إلى سب الله تعالى ، وكسب أبوي الرجل إذا كان مؤديا إلى سب أبوي الساب ، فإنه عد في الحديث سبا من الساب لأبوي نفسه ، وحفر الآبار في طرق المسلمين مع العلم بوقوعهم فيها ، وإلقاء السم في الأطعمة والأشربة التي يعلم تناول المسلمين لها .
ومنها ما لا يسد باتفاق كما إذا أحب الإنسان أن يشتري بطعامه أفضل منه ، أو أدنى من جنسه فيتحيل ببيع متاعه ليتوصل بالثمن إلى مقصوده ، بل كسائر التجارات ، فإن مقصودها الذي أبيحت له إنما يرجع إلى التحيل في بذل دراهم في السلعة ليأخذ أكثر منها .
ومنها ما هو مختلف فيه ، ومسألتنا من هذا القسم فلم نخرج عن حكمه بعد والمنازعة باقية فيه .
وهذه جملة مما يمكن أن يقال في الاستدلال على جواز التحيل في المسألة ، وأدلة الجهة الأخرى مقررة واضحة شهيرة فطالعها في مواضعها ، وإنما قصد هنا هذا التقرير الغريب لقلة الاطلاع عليه من كتب أهله; إذ كتب الحنفية كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب ، وكذلك كتب الشافعية ، وغيرهم من أهل المذاهب ، ومع أن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورا ، وإنكارا لمذهب غير مذهبه من غير إطلاع على مأخذه فيورث ذلك حزازة في الاعتقاد في الأئمة الذين أجمع الناس على فضلهم ، وتقدمهم في [ ص: 132 ] الدين واضطلاعهم بمقاصد الشارع ، وفهم أغراضه ، وقد وجد هذا كثيرا ولنكتف بهذين المثالين فهما من أشهر المسائل في باب الحيل ، ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (99)
صـ133 إلى صـ 142
فصل
هذا القسم يشتمل على مسائل كثيرة جدا ، وقد مر منها فيما تقدم تفريعا على المسائل المقررة كثير ، وسيأتي منه مسائل أخر تفريعا أيضا ولكن لا بد من خاتمة تكر على كتاب المقاصد بالبيان ، وتعرف بتمام المقصود فيه بحول الله ، فإن للقائل أن يقول : إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبني على المعرفة بمقصود الشارع ، فبماذا يعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له ؟
والجواب : أن النظر ها هنا ينقسم بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يقال : إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا ما يعرفنا به وليس ذلك إلا بالتصريح الكلامي مجردا عن تتبع المعاني التي يقتضيها الاستقراء ولا تقتضيها الألفاظ بوضعها اللغوي ، إما مع القول بأن التكاليف لم يراع فيها مصالح العباد على حال ، وإما مع القول بمنع وجوب مراعاة المصالح ، وإن وقعت في بعض فوجهها غير معروف لنا على التمام ، أو غير معروف [ ص: 133 ] ألبتة ، ويبالغ في هذا حتى يمنع القول بالقياس ، ويؤكده ما جاء في ذم الرأي والقياس ، وحاصل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقا ، وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص ولعله يشار إليه في كتاب القياس إن شاء الله ، فإن القول به بإطلاق أخذ في طرف تشهد الشريعة بأنه ليس على إطلاقه كما قالوا .
والثاني في الطرف الآخر من هذا إلا أنه ضربان :
الأول : دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها ، وإنما المقصود أمر آخر وراءه ، ويطرد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع ، وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة ، وهم الباطنية فإنهم لما قالوا بالإمام المعصوم لم يمكنهم ذلك إلا بالقدح في النصوص والظواهر الشرعية لكي يفتقر إليه على زعمهم ، ومآل هذا الرأي إلى الكفر والعياذ بالله والأولى أن لا يلتفت إلى قول هؤلاء .
فلننزل عنه إلى قسم آخر يقرب من موازنة الأول ، وهو الضرب الثاني ، بأن يقال : إن مقصود الشارع الالتفات إلى معاني الألفاظ بحيث لا تعتبر الظواهر والنصوص إلا بها على الإطلاق ، فإن خالف النص المعنى النظري اطرح ، وقدم المعنى النظري ، وهو إما بناء على وجوب مراعاة المصالح على الإطلاق ، أو على عدم الوجوب ، لكن مع تحكيم المعنى جدا حتى تكون الألفاظ الشرعية تابعة للمعاني النظرية ، وهو رأي المتعمقين [ ص: 134 ] في القياس المقدمين له على النصوص ، وهذا في طرف آخر من القسم الأول .
والثالث : أن يقال باعتبار الأمرين جميعا على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا بالعكس لتجري الشريعة على نظام واحد ، لا اختلاف فيه ولا تناقض ، وهو الذي أمه أكثر العلماء الراسخين فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع .
فنقول ، وبالله التوفيق : إنه يعرف من جهات : إحداها :
مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي ، فإن الأمر معلوم أنه إنما كان أمرا لاقتضائه الفعل ، فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مقصود للشارع ، وكذلك النهي معلوم أنه مقتض لنفي الفعل ، أو الكف عنه فعدم وقوعه مقصود له ، وإيقاعه مخالف لمقصوده كما أن عدم إيقاع المأمور به مخالف لمقصوده ، فهذا وجه ظاهر عام لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي من غير نظر إلى علة ولمن اعتبر العلل والمصالح ، وهو الأصل الشرعي .
وإنما قيد بالابتدائي تحرزا من الأمر ، أو النهي الذي قصد به غيره كقوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] ، فإن النهي عن البيع ليس نهيا مبتدأ ، بل هو تأكيد للأمر بالسعي فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني .
فالبيع ليس منهيا عنه بالقصد الأول كما نهي عن الربا والزنا مثلا ، بل لأجل تعطيل السعي عند الاشتغال به ، وما شأنه هذا ففي فهم قصد الشارع من مجرده نظر واختلاف منشؤه من أصل المسألة المترجمة بالصلاة في [ ص: 135 ] الدار المغصوبة .
وإنما قيد بالتصريحي تحرزا من الأمر ، أو النهي الضمنى الذي ليس بمصرح به كالنهي عن أضداد المأمور به الذي تضمنه الأمر والأمر الذي تضمنه النهي عن الشيء ، فإن النهي والأمر ها هنا إن قيل بهما فهما بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول; إذ مجراهما عند القائل بهما مجرى التأكيد للأمر ، أو النهي المصرح به .
فأما إن قيل بالنفي فالأمر أوضح في عدم القصد ، وكذلك الأمر بما لا يتم المأمور إلا به ، المذكور في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به .
فدلالة الأمر والنهي في هذا على مقصود الشارع متنازع فيه فليس داخلا فيما نحن فيه ولذلك قيد الأمر والنهي بالتصريحي .
والثانية : اعتبار علل الأمر والنهي ولماذا أمر بهذا الفعل ؟ ولماذا نهي عن هذا الآخر ؟
والعلة إما أن تكون معلومة أو لا ، فإن كانت معلومة اتبعت فحيث وجدت وجد مقتضى الأمر والنهي من القصد ، أو عدمه كالنكاح لمصلحة التناسل والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه والحدود لمصلحة الازدجار ، وتعرف العلة هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه ، فإذا تعينت علم أن [ ص: 136 ] مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل ، أو عدمه ، ومن التسبب ، أو عدمه ، وإن كانت غير معلومة ، فلا بد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا ، وكذا إلا أن التوقف هنا له وجهان من النظر .
أحدهما : أن لا يتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين ، أو السبب المعين; لأن التعدي مع الجهل بالعلة تحكم من غير دليل ، وضلال على غير سبيل ولا يصح الحكم على زيد بما وضع حكما على عمرو ، ونحن لا نعلم أن الشارع قصد الحكم به على زيد أو لا; لأنا إذا لم نعلم ذلك أمكن أن لا يكون حكما عليه فنكون قد أقدمنا على مخالفة الشارع فالتوقف هنا لعدم الدليل .
والثاني : أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعا أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي; لأن عدم نصبه دليلا على التعدي دليل على عدم التعدي; إذ لو كان عند الشارع متعديا لنصب عليه دليلا ، ووضع له مسلكا ، ومسالك العلة معروفة ، وقد خبر بها محل الحكم ، فلم توجد له علة [ ص: 137 ] يشهد لها مسلك من المسالك فصح أن التعدي لغير المنصوص عليه غير مقصود للشارع .
فهذان مسلكان كلاهما متجه في الموضع إلا أن الأول يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي المفروض غير مراد ، ويقتضي هذا إمكان أنه مراد فيبقى الناظر باحثا حتى يجد مخلصا; إذ يمكن أن يكون مقصود الشارع ، ويمكن أن لا يكون مقصودا له ، والثاني يقتضي جزم القضية بأنه غير مراد فينبني عليه نفي التعدي من غير توقف ، ويحكم به علما ، أو ظنا بأنه غير مقصود له; إذ لو كان مقصودا لنصب عليه دليلا ولما لم نجد ذلك دل على أنه غير مقصود ، فإن أتى ما يوضح خلاف المعتقد رجع إليه كالمجتهد يجزم القضية في الحكم ، ثم يطلع بعد على دليل ينسخ جزمه إلى خلافه .
فإن قيل : فهما مسلكان متعارضان; لأن أحدهما يقتضي التوقف والآخر لا يقتضيه ، وهما في النظر سواء ، فإذا اجتمعا تدافعا أحكامهما ، فلا يبقى إلا التوقف ، وحده فكيف يتجهان معا ؟
فالجواب أنهما قد يتعارضان عند المجتهد في بعض المسائل ، فيجب التوقف لأنهما كدليلين لم يترجح أحدهما على الآخر فيتفرع الحكم عند المجتهد على مسألة تعارض الدليلين ، وقد لا يتعارضان بحسب مجتهدين ، أو مجتهد واحد في وقتين ، أو مسألتين فيقوى عنده مسلك التوقف في مسألة ، ومسلك النفي في مسألة أخرى ، فلا تعارض على الإطلاق .
[ ص: 138 ] وأيضا فقد علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات ، وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد ، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني والعكس في البابين قليل ولذلك لم يلتفت مالك في إزالة الأنجاس ورفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط الماء المطلق ، وفي رفع الأحداث النية ، وإن حصلت النظافة دون ذلك وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم مقامهما ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة واقتصر على مجرد العدد في الكفارات إلى غير ذلك من المسائل التي تقتضي الاقتصار على عين المنصوص عليه ، أو ما ماثله .
وغلب في باب العادات المعنى فقال فيها بقاعدة المصالح المرسلة والاستحسان الذي قال فيه : إنه تسعة أعشار العلم إلى ما يتبع ذلك ، وقد مر الكلام في هذا والدليل عليه ، وإذا ثبت هذا فمسلك النفي متمكن في العبادات ، ومسلك التوقف متمكن في العادات .
وقد يمكن أن تراعى المعاني في باب العبادات ، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه ، وهي طريقة الحنفية ، والتعبدات في باب العادات ، وقد ظهر منه شيء فيجري الباقي عليه ، وهي طريقة الظاهرية ولكن العمدة ما [ ص: 139 ] تقدم ، وقاعدة النفي الأصلي والاستصحاب راجعة إلى هذه القاعدة .
والجهة الثالثة أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصد أصلية ، ومقاصد تابعة .
مثال ذلك : النكاح ، فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول ، ويليه طلب السكن والازدواج ، والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية من الاستمتاع بالحلال والنظر إلى ما خلق الله من المحاسن في النساء والتجمل بمال المرأة أو قيامها عليه ، وعلى أولاده منها ، أو من غيرها ، أو إخوته ، والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين ، والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد ، وما أشبه ذلك ، فجميع هذا مقصود للشارع من شرع النكاح ، فمنه منصوص عليه ، أو مشار إليه ، ومنه ما علم بدليل آخر ، ومسلك استقرئ من ذلك المنصوص ، وذلك أن ما نص عليه من هذه المقاصد التوابع هو مثبت للمقصد الأصلي ، ومقو لحكمته ، ومستدع لطلبه ، وإدامته ، ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف الذي يحصل به مقصد الشارع الأصلي من التناسل ، فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك مقصود للشارع أيضا كما روي من فعل عمر بن الخطاب في نكاح أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب طلبا لشرف النسب ، ومواصلة أرفع البيوتات ، وما أشبه ذلك ، فلا شك أن النكاح لمثل هذه المقاصد سائغ ، وأن قصد التسبب له حسن .
وعند ذلك يتبين أن نواقض هذه الأمور مضادة لمقاصد الشارع بإطلاق [ ص: 140 ] من حيث كان مآلها إلى ضد المواصلة والسكن والموافقة كما إذا نكحها ليحلها لمن طلقها ثلاثا ، فإنه عند القائل بمنعه مضاد لقصد المواصلة التي جعلها الشارع مستدامة إلى انقطاع الحياة من غير شرط; إذ كان المقصود منه المقاطعة بالطلاق ، وكذلك نكاح المتعة وكل نكاح على هذا السبيل ، وهو أشد في ظهور محافظة الشارع على دوام المواصلة حيث نهى عما لم يكن فيه ذلك .
وهكذا العبادات ، فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود ، وإفراده بالقصد إليه على كل حال ، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة ، أو ليكون من أولياء الله تعالى ، وما أشبه ذلك ، فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول ، وباعثة عليه ، ومقتضية للدوام فيه سرا وجهرا بخلاف ما إذا كان القصد إلى التابع لا يقتضي دوام المتبوع ولا تأكيده كالتعبد بقصد حفظ المال والدم ، أو لينال من أوساخ الناس ، أو من تعظيمهم كفعل المنافقين والمرائين ، فإن القصد إلى هذه الأمور ليس بمؤكد ولا باعث على الدوام ، بل هو مقو للترك ، ومكسل عن الفعل ولذلك لا يدوم عليه صاحبه إلا ريثما يترصد به مطلوبه ، فإن بعد عليه تركه ، قال الله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف [ الحج : 11 ] الآية .
فمثل هذا المقصد مضاد لقصد الشارع إذا قصد العمل لأجله ، وإن كان [ ص: 141 ] مقتضاه حاصلا بالتبعية من غير قصد ، فإن الناكح على المقصد المؤكد لبقاء النكاح قد يحصل له الفراق فيستوي مع الناكح للمتعة والتحليل والمتعبد لله على القصد المؤكد ، يحصل له حفظ الدم والمال ، ونيل المراتب والتعظيم فيستوي مع المتعبد للرياء والسمعة ولكن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن قاصد التابع المؤكد حر بالدوام ، وقاصد التابع غير المؤكد حر بالانقطاع .
فإن قيل : هذه المضادة هل تعتبر من حيث تقتضي عينا أم يكتفى فيها بكونها لا تقتضي الموافقة ؟
وبيان ذلك أن نكاح المتعة يقتضي المقاطعة عينا ، فلا يصح; لأن مخالفته لقصد الشارع عينية ، ونكاح القاصد لمضارة الزوجة ، أو لأخذ مالها ، أو ليوقع بها ، وما أشبه ذلك ما لا يقتضي مواصلة ولكنه مع ذلك لا يقتضي عين المقاطعة - مخالف لقصد الشارع في شرع النكاح ولكنه لا يقتضي المخالفة عينا; إذ لا يلزم من قصد مضارة الزوجة وقوعها ولا من وقوع المضارة وقوع الطلاق ضربة لازب لجواز الصلح ، أو الحكم على الزوج ، أو زوال ذلك الخاطر السببي ، وإن كان القصد الأول مقتضيا فليس اقتضاؤه عينيا .
فالجواب أن اقتضاء المخالفة العينية لا شك في امتناعها ، وبطلان مقتضاها مطلقا في العبادات والعادات معا ، فلا يصح أن يتعبد لله بما يظهر أنه غير مشروع في المقاصد ، وإن أمكن كونه مشروعا في نفس الأمر ، وكذلك لا يصح له أن يتزوج بذلك القصد ، وأما ما لا يقتضي المخالفة عينا كالنكاح بقصد المضارة ، وكنكاح التحليل عند من يصححه ، فإن هنا وجهين من النظر ، فإن القصد ، وإن كان غير موافق لم يظهر فيه عين المخالفة ، فمن ترجح عنده جانب [ ص: 142 ] عدم الموافقة منع ، ومن ترجح عنده جانب عدم تعين المخالفة لم يمنع ، ويظهر هذا في مثال نكاح المضارة ، فإنه من باب التعاون بالنكاح الجائز في نفسه على الإثم والممنوع .
فالنكاح منفرد بالحكم في نفسه ، وهو في البقاء ، أو الفرقة ممكن إلا أن المضارة مظنة للتفرق فمن اعتبر هذا المقدار منع ، ومن لم يعتبره أجاز .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (100)
صـ143 إلى صـ 152
فصل
وهذا البحث مبني على أن للشارع مقاصد تابعة في العبادات والعادات معا .
أما في العادات فهو ظاهر ، وقد مر منه أمثلة ، وأما في العبادات ، فقد ثبت ذلك فيها .
فالصلاة مثلا أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه ، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه ، وتذكير النفس بالذكر له ، قال تعالى : وأقم الصلاة لذكري [ طه : 14 ] ، وقال : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [ العنكبوت : 45 ] .
وفي الحديث : إن المصلي يناجي ربه .
ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر والاستراحة إليها [ ص: 143 ] من أنكاد الدنيا ، في الخبر أرحنا بها يا بلال ، وفي الصحيح وجعلت قرة عيني في الصلاة ، وطلب الرزق بها قال الله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] .
وفي الحديث تفسير هذا المعنى ، وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة ، وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار ، وهي الفائدة العامة الخاصة ، وكون المصلي في خفارة الله .
في الحديث من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله ، ونيل أشرف المنازل قال تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] فأعطي بقيام الليل المقام المحمود .
وفي الصيام سد مسالك الشيطان والدخول من باب الريان والاستعانة على التحصن في العزبة ، في الحديث : من استطاع منكم الباءة فليتزوج .
ثم قال : ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء [ ص: 144 ] وقال : الصيام جنة ، وقال : ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان .
وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية ، وهي العامة ، وفوائد دنيوية ، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية ، وهي الانقياد والخضوع لله كما تقدم ، وبعد هذا يتبع القصد الأصلي جميع ما ذكر من فوائدها ، وسواها ، وهي تابعة فينظر فيها بحسب التقسيم المتقدم .
فالأول وهو المؤكد كطلب الأجر العام ، أو الخاص ، وضده كطلب المال والجاه ، فإن هذا القسم لا يتأكد به المقصد الأصلي ، بل هو على خلاف ذلك .
والثالث كطلب قطع الشهوة بالصيام ، وسائر [ ص: 145 ] ما تقدم من المقاصد التابعة في مسألة الحظوظ ، وينبغي تحقيق النظر فيها ، وفي الثاني : المقتضي لعدم التأكد ، وما يقتضي من ذلك ضد التأكد عينا ، وما لا يقتضيه عينا .
وأيضا فهنا نظر آخر يتعلق بالعبادات من حيث يطلب بها المواهب التي هي نتائج موهوبة من الله تعالى للعبد المطيع ، وحلى يحليه بها ، وأول ذلك الثواب في الآخرة من الفوز بالجنة والدرجات العلى ولما كان هذا المعنى إذا قصد باعثا على العمل الذي أصل القصد به الخضوع لله والتواضع لعظمته; كان التعبد لله من جهته صحيحا لا دخل فيه ولا شوب; لأن القصد الرجوع إلى من بيده ذلك والإخلاص له ، وما جاء في ذلك مما عده بعضهم طلبا للإجارة وصاحبه عبد سوء ، فقد مر الكلام عليه ، ومن ذلك الطرف الآخر العامل لأجل أن يحمد ، أو يعظم ، أو يعطى فهذا عامل على الرياء ولا يثبت فيه كما تقدم .
وأيضا فإن عمله على غير أصالة; إذ لا إخلاص فيه فهو عبث ، وإن فرض خالصا لله ، لكن قصد به حصول هذه النتيجة فليس هذا القصد بمقو للإخلاص لله ، بل هو مقو لترك الإخلاص .
اللهم إلا أن يكون مضطرا إلى العطاء فيسأل من الله العطاء ، ويسأل له لأجل ما أصابه من الضراء بسبب المنع وفقد الأسباب ، ويكون عمله بمقتضى محض الإخلاص لا ليراه الناس ، فلا إشكال في صحة هذا ، فإنه عمل مقتض لما شرع له التعبد ، ومقو له ، وأصله قول الله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها [ طه : 132 ] .
[ ص: 146 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا اضطر أهله إلى فضل الله ورزقه أمرهم بالصلاة لأجل هذه الآية .
فهذه صلاة لله يستمنح بها ما عند الله ، وعلى هذا المهيع جرى ابن العربي ، وشيخه فيمن أظهر عمله لتثبت عدالته ، وتصح إمامته وليقتدى به إذا كان مأمورا شرعا بذلك لتوفر شروطه فيه ، وعدم من يقوم ذلك المقام ، فلا بأس به عندهما; لأنه قائم بما أمر به ، وتلك العبادة الظاهرة لا تقدح في أصل مشروعية العبادة بخلاف من يقصد نفس ثبوت العدالة عند الناس ، أو الإمامة ، أو نحو ذلك ، فإنه مخوف ولا يقتضي ذلك العمل المداومة; لأن فيه ما في طلب الجاه والتعظيم من الخلق بالعبادة .
ومما ينظر فيه هنا الانقطاع إلى العمل لنيل درجة الولاية ، أو العلم ، أو نحو ذلك فيجري فيه الأمران ، ودليل الجواز قوله تعالى : واجعلنا للمتقين إماما [ الفرقان : 74 ] ، وحديث النخلة حين قال عمر لابنه عبد الله : لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا ، وكذا .
[ ص: 147 ] وانظر في مسألة العتبية ترى أن اختلاف مالك ، وشيخه فيها إنما يتنزل على هذين الأمرين .
ومما يشكل من هذا النمط التعبد بقصد تجريد النفس بالعمل والاطلاع على عالم الأرواح ورؤية الملائكة ، وخوارق العادات ، ونيل الكرامات والاطلاع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية ، وما أشبه ذلك فلقائل أن يقول : إن قصد مثل هذا بالتعبد جائز ، وسائغ; لأن حاصله راجع إلى طلب نيل درجة الولاية ، وأن يكون من خواص الله ، ومن المصطفين من الناس ، وهذا صحيح في الطلب مقصود في الشرع الترقي إليه ، ودليل الجواز ما تقدم في الأمثلة قبل هذا ولا فرق .
وقد يقال : إنه خارج عن نمط ما تقدم ، فإنه تخرص على علم الغيب ، ويزيد بأنه جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك ، وهو أقرب إلى الانقطاع عن العبادة; لأن صاحب هذا القصد داخل بوجه ما تحت قوله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية [ الحج : 11 ] .
كذلك هذا إن وصل إلى ما طلب فرح به وصار هو قصده من التعبد فقوي في نفسه مقصوده وضعفت العبادة ، وإن لم يصل رمى بالعبادة وربما كذب بنتائج الأعمال التي يهبها الله تعالى لعباده المخلصين ، وقد روي أن [ ص: 148 ] بعض الناس سمع بحديث : من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يفتح له [ ص: 149 ] بابها ، فبلغت القصة بعض الفضلاء ، فقال : هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله ، وهكذا يجري الحكم في سائر المعاني المذكورة ، ونحوها ولا أعلم دليلا يدل على طلب هذه الأمور ، بل ثم ما يدل على خلاف ذلك ، فإن ما غيب عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف لم يطلب بدركه ولا حض على الوصول إليه .
وفي كتب التفسير أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ، ثم ينمو إلى أن يصير بدرا ، ثم يصير إلى حالته الأولى ؟ فنزلت : [ ص: 150 ] يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها [ البقرة : 189 ] الآية فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالا شاملا لمقتضى هذا السؤال; لأنه تطلب لما لم يؤمر بتطلبه .
ولا يقال : إن المعرفة بالله ، وبصفاته ، وأفعاله على مقدار المعرفة بمصنوعاته ، ومن جملتها العوالم الروحانية ، وخوارق العادات فيها تقوية للنفس واتساع في درجة العلم بالله تعالى; لأنا نقول : إنما يطلب العلم شرعا لأجل العمل حسبما تقدم في المقدمات ، وما في عالم الشهادة كاف ، وفوق الكفاية فالزيادة على ذلك فضل ، وأيضا إن كان ذلك مطلوبا على الجملة كما قال إبراهيم عليه السلام : رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] الآية ، فإن الجواب عن ذلك من وجوه :
أحدها : أن طلب الخوارق بالدعاء وطلب فتح البصيرة للعلم به لا نكير فيه ، وإنما النظر فيمن أخذ يعبد الله ، ويقصد بذلك أن يرى هذه الأشياء ، فالدعاء بابه مفتوح في الأمور الدنيوية والأخروية شرعا ما لم يدع بمعصية ، والعبادة إنما القصد بها التوجه لله ، وإخلاص العمل له والخضوع بين يديه ، فلا تحتمل الشركة ولولا أن طلب الأجر والثواب الأخروي مؤكد لإخلاص العمل [ ص: 151 ] لله في العبادة لما ساغ القصد إليه بالعبادة مع أن كثيرا من أرباب الأحوال يعزب عنهم هذا القصد ، فكيف يجعلان مثلين ؟ أعني طلب الخوارق بالدعاء مع القصد إليها بالعبادة ، ما أبعد ما بينهما لمن تأمل .
والثاني : أنه لو لم نجد ما نستدل به على ذلك كله لكان لنا بعض العذر في التخطي عن عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، فكيف وفي عالم الشهادة من العجائب والغرائب القريبة المأخذ السهلة الملتمس ما يفنى الدهر وهي باقية لم يبلغ منها في الاطلاع والمعرفة عشر المعشار ولو نظر العاقل في أقل الآيات ، وأذل المخلوقات ، وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب لقضى العجب وانتهى إلى العجز في إدراكه ، وعلى ذلك نبه الله تعالى في كتابه أن تنظر فيه كقوله : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء [ الأعراف : 185 ] أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت [ الغاشية : 17 - 18 ] إلى آخرها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (101)
صـ153 إلى صـ 162
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ ق : 6 ] إلى تمام الآيات .
[ ص: 152 ] ومعلوم أنه لم يأمرهم بالنظر فيما حجب عنهم ولم يكن لهم الاطلاع عليه عادة إلا بخارقة ، فإنه إحالة على ما يندر التوصل إليه ، وإذا تأملت الآيات التي ذكر فيها الملائكة ، وعوالم الغيب لم تجدها مما أحيل على النظر فيه ولا مأمورا بتطلب الاطلاع عليها ، وعلى ذواتها ، وحقائقها .
فهذه التفرقة كافية في أن ذلك غير مطلوب النظر فيه شرعا ، وإذا لم يكن مطلوبا لم ينبغ أن يطلب .
والثالث : أن أصل هذا التطلب الخاص فلسفي ، فإن الاعتناء بطلب تجريد النفس والاطلاع على العوالم التي وراء الحس إنما نقل عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين في فنون البحث من المتألهين منهم ، ومن غيرهم ولذلك تجدهم يقررون لطلب هذا المعنى رياضة خاصة لم تأت بها الشريعة المحمدية من اشتراط التغذي بالنبات دون الحيوان ، أو ما يخرج من الحيوان إلى غير ذلك من شروطهم التي لم تنقل في الشريعة ولا وجد منها في السلف الصالح عين ولا أثر; كما أن ذكر التجريد والعوالم الروحانية ، وما يتصل بذلك لم ينقل عن أحد منهم ، وكفى بذلك حجة في أنه غير مطلوب كما سيأتي على أثر هذا بحول الله تعالى .
والرابع : أن طلب الاطلاع على ما غيب عنا من الروحانيات ، وعجائب المغيبات كطلب الاطلاع على ما غيب عنا من المحسوسات النائية كالأمصار البعيدة والبلاد القاصية والمغيبات تحت أطباق الثرى; لأن الجميع أصناف من مصنوعات الله تعالى فكما لا يصح أن يقال بجواز التعبد لله قصد أن يطلع الأندلسي على قطر بغداد ، وخراسان ، وأقصى بلاد الصين ، فكذلك لا ينبغي مثله في الاطلاع على ما ليس من قبيل المحسوسات .
والخامس : أنه لو فرض كون هذا سائغا فهو محفوف بعوارض كثيرة ، وقواطع معترضة تحول بين الإنسان ، ومقصوده ، وإنما هي ابتلاءات يبتلي الله بها [ ص: 153 ] عباده; لينظر كيف يعملون .
فإذا وازن الإنسان بين مصلحة حصول هذه الأشياء ، وبين مفسدة ما يعترض صاحبها ، كانت جهة العوارض أرجح ، فيصير طلبها مرجوحا ولذلك لم يخلد إلى طلبها المحققون من الصوفية ولا رضوا بأن تكون عبادتهم يداخلها أمر حتى بالغ بعضهم فقال في طلب الثواب ما تقدم .
وأشد العوارض طلب هذه الأشياء بالعبادة من الصلاة والصيام والذكر ، ونحوها مما يقتضي وضعها الإخلاص التام ، فلا يليق به طلب الحظوظ ، فإن طالب العلم بالروحانيات إما أن يكون لأمر الله ورسوله بها ، وهذا لا يوجد ، وإما لأنه أحب أن يطلع على ما لم يطلع عليه أحد من جنسه ، فسار كالمسافر ليرى البلاد النائية والعجائب المبثوثة في الأرض لا لغير ذلك ، وهذا مجرد حظ لا عبادة فيه ، ومقصود الأمر أن مثل هذا لا يكون عاضدا لما وضعت له العبادة في الأصل من التحقق بمحض العبودية .
فإن قيل : فقد سئل بعض السلف عن دواء الحفظ ، فقال : ترك المعاصي ، ومن مشهور القواعد أن الطاعة تعين على الطاعة ، وأن الخير لا يأتي إلا بالخير كما في الحديث ، كما أن الشر لا يأتي إلا بالشر فهل للإنسان [ ص: 154 ] أن يفعل الخير ليصل به إلى الخير أم لا ؟ فإن قلت : لا; كان على خلاف هذه القاعدة ، وإن قلت : نعم ; خالفت ما أصلت .
فالجواب أن هذا نمط آخر ، وذلك أن الإنسان قد يعلم أن الذي يصده مثلا عن الخير الفلاني عمل شر فيترك الشر ليصل إلى ذلك الخير الذي يثاب عليه ، أو يكون فعل الخير يوصله إلى خير آخر كذلك فهذا عون بالطاعة على الطاعة ولا إشكال فيه ، وقد قال الله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة [ البقرة : 45 ] وقال : وتعاونوا على البر والتقوى [ المائدة : 2 ] الآية .
ومسألة الحفظ من هذا ، وأما ما وقع الكلام فيه فحاصله طلب حظ شهواني يطلبه بالطاعة ، وما أقرب هذا أن يكون العمل فيه غير مخلص فالحاصل لمن اعتبر أن ما كان من التوابع مقويا ، ومعينا على أصل العبادة ، وغير قادح في الإخلاص فهو المقصود التبعي السائغ ، وما لا فلا ، وأن المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما يقتضي تأكيد المقاصد الأصلية وربطها والوثوق بها ، وحصول الرغبة فيها ، فلا شك أنه مقصود للشارع فالقصد إلى التسبب إليه بالسبب المشروع موافق لقصد الشارع فيصح .
والثاني : ما يقتضي زوالها عينا ، فلا إشكال أيضا في أن القصد إليها مخالف لمقصد الشارع عينا ، فلا يصح التسبب بإطلاق .
[ ص: 155 ] والثالث : ما لا يقتضي تأكيدا ولا ربطا ولكنه لا يقتضي رفع المقاصد الأصلية عينا فيصح في العادات دون العبادات .
أما عدم صحته في العبادات فظاهر ، وأما صحته في العادات فلجواز حصول الربط والوثوق بعد التسبب ، ويحتمل الخلاف ، فإنه قد يقال : إذا كان لا يقتضي تأكيد المقصد الأصلي ، وقصد الشارع التأكيد ، فلا يكون ذلك التسبب موافقا لمقصد الشارع ، فلا يصح ، وقد يقال : هو وإن صدق عليه أنه غير موافق يصدق عليه أيضا أنه غير مخالف ; إذ لم يقصد انحتام رفع ما قصد الشارع وضعه ، وإنما قصد في التسبب أمرا يمكن أن يحصل معه مقصود الشارع ، ويؤكد ذلك أن الشارع أيضا مما يقصد رفع التسبب ، فلذلك شرع في النكاح الطلاق ، وفي البيع الإقالة ، وفي القصاص العفو ، وأباح العزل ، وإن ظهر لبادئ الرأي أن هذه الأمور مضادة لقصد الشارع لما كان كل منها غير مخالف له عينا ، ومثله [ ص: 156 ] ما إذا قصد بالنكاح قضاء الوطر خاصة ولم يتعرض لقصد الشارع الأصلي من التناسل فليس خلافا لقصد الشارع كما تقدم فكذلك غيره مما مضى تمثيله .
وليس من هذا أن المخالف لقصد الشارع بلا بد هو الاحتيال بالتسبب على تحصيل أمر على وجه يكون التسبب فيه عبثا لا محصول تحته شرعا إلا التوصل إلى ما وراءه ، فإذا حصل انحل التسبب وانخرم من أصله ولا يكون كذلك إلا وهو منخرم شرعا في أصل التسبب .
وأما إذا أمكن أن لا ينخرم ، أو أمكن أن لا يكون منخرما من أصله فليس بمخالف للمقصد الشرعي من كل وجه فهو محل اجتهاد ، ويبقى التسبب إن صحبه نهي محل نظر أيضا ، وقد تقدم الكلام فيه والله أعلم .
والجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع السكوت عن شرع التسبب ، أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له ، وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين :
[ ص: 157 ] أحدهما : أن يسكت عنه; لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقدر لأجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها لم تكن موجودة ، ثم سكت عنها مع وجودها ، وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها ، وإجرائها على ما تقرر في كلياتها ، وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم كجمع المصحف ، وتدوين العلم ، وتضمين الصناع ، وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعا بلا إشكال فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل .
والثاني : أن يسكت عنه ، وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص; لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا ، ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه كان ذلك صريحا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ، ومخالفة لما قصده [ ص: 158 ] الشارع; إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه .
ومثال هذا : سجود الشكر في مذهب مالك ، وهو الذي قرر هذا المعنى في العتبية من سماع أشهب وابن نافع قال فيها : وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكرا ، فقال : لا يفعل ، ليس هذا مما مضى من أمر الناس . قيل له : إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا لله أفسمعت ذلك ؟ قال : ما سمعت ذلك ، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر ، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء ، فيقول : هذا شيء لم أسمع له خلافا . فقيل له : إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به . فقال : نأتيك بشيء آخر أيضا لم تسمعه مني : قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المسلمين بعده ، أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا ؟ إذا جاءك مثل هذا مما قد كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك ; لأنه لو كان لذكر ; لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم ، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجماع إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه . هذا تمام الرواية ، وقد احتوت على [ ص: 159 ] فرض سؤال والجواب عنه بما تقدم .
وتقرير السؤال أن يقال في البدع مثلا : إنها فعل ما سكت الشارع عن فعله ، أو ترك ما أذن في فعله ، أو تقول فعل ما سكت الشارع عن الإذن فيه ، أو ترك ما أذن في فعله ، أو أمر خارج عن ذلك ، فالأول كسجود الشكر عند مالك حيث لم يكن ثم دليل على فعله ، والدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات ، والاجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفة في غير عرفات ، والثاني : كالصيام مع ترك الكلام ، ومجاهدة النفس بترك مأكولات معينة ، والثالث : كإيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة ، وهذا الثالث مخالف للنص الشرعي ، فلا يصح بحال فكونه بدعة قبيحة بين .
[ ص: 160 ] وأما الضربان الأولان ، وهما في الحقيقة فعل ، أو ترك لما سكت الشارع عن فعله ، أو تركه ، فمن أين يعلم مخالفتهما لقصد الشارع ، أو أنهما مما يخالف المشروع ، وهما لم يتواردا مع المشروع على محل واحد ، بل هما في المعنى كالمصالح المرسلة والبدع إنما أحدثت لمصالح يدعيها أهلها ، ويزعمون أنها غير مخالفة لقصد الشارع ولا لوضع الأعمال .
أما القصد فمسلم بالفرض ، وأما الفعل فلم يشرع الشارع فعلا نوقض بهذا العمل المحدث ولا تركا لشيء فعله هذا المحدث كترك الصلاة وشرب الخمر ، بل حقيقته أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع والمسكوت من الشارع لا يقتضي مخالفة ولا موافقة ولا يفهم للشارع قصدا معينا دون ضده ، وخلافه ، فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح ، فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالا للمصالح المرسلة ، وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالا للمصالح أيضا ، وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحات إعمالا للمصالح المرسلة [ ص: 161 ] أيضا فالحاصل أن كل محدثة يفرض ذمها تساوي المحدثة المحمودة في المعنى . فما وجه ذم هذه ومدح هذه ولا نص يدل على مدح ولا ذم على الخصوص ؟
وتقرير الجواب ما ذكره مالك ، وأن السكوت عن حكم الفعل ، أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضي للفعل ، أو الترك إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان ، وهو غاية في تحصيل هذا المعنى .
قال ابن رشد : الوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين يعني سجود الشكر لا فرضا ولا نفلا; إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله ، ولا [ ص: 162 ] أجمع المسلمون على اختيار فعله والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه .
قال : واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل صحيح; إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين ، وقد أمروا بالتبليغ .
قال : وهذا أصل من الأصول ، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر ; لأنا نزلنا ترك نقل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها ، فكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيه ، ثم حكى خلاف الشافعي والكلام عليه ، والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق .
[ ص: 163 ] وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل ، وأنها بدعة منكرة من حيث وجد في زمانه - عليه الصلاة والسلام - المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليراجعا كما كانا أول مرة ، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها ، وهو أصل صحيح ، إذا اعتبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع ، وما ليس منها ، ودل على أن وجود المعنى المقتضي مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجودا قبل ، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (102)
صـ163 إلى صـ 183
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ
وَالنَّظَرُ فِيهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ .
فَالنَّظَرُ إِذًا يَتَعَلَّقُ بِطَرَفَيْنِ .
[ ص: 168 ] [ ص: 169 ] النظر الأول
في كليات الأدلة على الجملة
[ ص: 170 ] [ ص: 171 ] المسألة الأولى
لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينات ، وكانت هذه الوجوه مبثوثة في أبواب [ ص: 172 ] الشريعة وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل ولا بباب دون باب ولا بقاعدة دون قاعدة كان النظر الشرعي فيها أيضا عاما لا يختص بجزئية دون أخرى; لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها ، وسواء علينا أكان جزئيا إضافيا أم حقيقيا; إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه ، بل هي أصول الشريعة ، وقد تمت ، فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس ، أو غيره ، فهي الكافية في مصالح الخلق عموما ، وخصوصا; لأن الله تعالى قال : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] [ ص: 173 ] وقال : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] ، وفي الحديث : تركتكم على الجادة الحديث ، وقوله : لا يهلك على الله إلا هالك ، ونحو ذلك من الأدلة الدالة على تمام الأمر ، وإيضاح السبيل ، وإذا كان كذلك ، وكانت الجزئيات ، وهي أصول الشريعة فما تحتها [ ص: 174 ] مستمدة من تلك الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس; إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها ، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليه ، فقد أخطأ ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه .
وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات ، واستقرائها [ ص: 175 ] وإلا فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات ولأنه ليس بموجود في الخارج ، وإنما هو مضمن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات ، فإذا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي ، وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي ، والجزئي هو مظهر العلم به ، وأيضا فإن الجزئي لم يوضع جزئيا إلا لكون الكلي فيه على التمام ، وبه قوامه فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة ، وذلك تناقض ولأن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي ، أو توهم المخالفة له ، وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من الجزئي دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءا منه ، وإذا أمكن هذا لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي ، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي ، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع ; [ ص: 176 ] لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك والجزئي كذلك أيضا ، فلا بد من اعتبارهما معا في كل مسألة .
فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة ، فلا بد من الجمع في النظر بينهما ; لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد; إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة ، فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع ، وإذا ثبت هذا لم يمكن أن يعتبر الكلي ، ويلغى الجزئي .
فإن قيل : الكلي لا يثبت كليا إلا من استقراء الجزئيات كلها ، أو أكثرها ، وإذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض جزئي إلا وهو داخل تحت الكلي; لأن الاستقراء قطعي إذا تم ، فالنظر إلى الجزئي بعد ذلك عناء ، وفرض مخالفته [ ص: 177 ] غير صحيح كما أنا إذا حصلنا من حقيقة الإنسان مثلا بالاستقراء معنى الحيوانية لم يصح أن يوجد إنسان إلا وهو حيوان فالحكم عليه بالكلي حكم قطعي لا يتخلف ، وجد أو لم يوجد ، فلا اعتبار به في الحكم بهذا الكلى من حيث إنه لا يوجد إلا كذلك ، فإذا فرضت المخالفة في بعض الجزئيات فليس بجزئي له كالتماثيل ، وأشباهها .
فكذلك هنا إذا وجدنا أن الحفظ على الدين ، أو النفس ، أو النسل ، أو المال ، أو العقل في الضروريات معتبر شرعا ، ووجدنا ذلك عند استقراء جزئيات الأدلة حصل لنا القطع بحفظ ذلك ، وأنه المعتبر حيثما وجدناه فنحكم به على كل جزئي فرض عدم الاطلاع عليه ، فإنه لا يكون إلا على ذلك الوزان لا يخالفه على حال ; إذ لا يوجد بخلاف ما وضع ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] فما فائدة اعتبار الجزئي بعد حصول العلم بالكلي ؟
فالجواب أن هذا صحيح على الجملة ، وأما في التفصيل فغير صحيح ، فإنه إن علم أن الحفظ على الضروريات معتبر فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة ، فإن للحفظ وجوها قد يدركها العقل ، وقد لا يدركها ، وإذا أدركها ، فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال ، أو زمان دون زمان ، أو عادة دون عادة فيكون اعتبارها على الإطلاق خرما للقاعدة نفسها كما قالوا في القتل بالمثقل إنه لو لم يكن فيه قصاص لم ينسد باب القتل بالقصاص إذا اقتصر [ ص: 178 ] به على حالة واحدة ، وهو القتل بالمحدد ، وكذلك الحكم في اشتراك الجماعة في قتل الواحد ، ومثله القيام في الصلاة مثلا مع المرض ، وسائر الرخص [ ص: 179 ] الهادمة لعزائم الأوامر والنواهي إعمالا لقاعدة الحاجيات في الضروريات ، ومثل ذلك المستثنيات من القواعد المانعة كالعرايا والقراض والمساقاة والسلم والقرض ، وأشباه ذلك .
فلو اعتبرنا الضروريات كلها لأخل ذلك بالحاجيات ، أو بالضروريات أيضا فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها كان ذلك محافظا على تلك الرتبة ، وعلى غيرها من الكليات ، فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضا ، ويخص بعضها بعضا ، فإذا كان كذلك ، فلا بد من اعتبار الكل في مواردها ، وبحسب أحوالها .
وأيضا فقد يعتبر الشارع من ذلك ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه ، [ ص: 180 ] وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات; لأن العقلاء في الفترات قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء بمقتضى أنظار عقولهم ، لكن على وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم ، بل كان مع ذلك الهرج واقعا والمصلحة تفوت مصلحة أخرى ، وتهدم قاعدة أخرى ، أو قواعد فجاء الشرع باعتبار المصلحة والنصفة المطلقة في كل حين وفي كل حال ، وبين من المصالح ما يطرد ، وما يعارضه وجه آخر من المصلحة كما في استثناء العرايا ، ونحوه فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق لدخلت مفاسد ولفاتت مصالح ، وهو مناقض لمقصود الشارع ؛ ولأنه من جملة المحافظة على الكليات ; لأنها يخدم بعضها بعضا ، وقلما تخلو جزئية من اعتبار القواعد الثلاث فيها ، وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضا فيقدم الأهم حسبما هو مبين في كتاب الترجيح والنصوص والأقيسة المعتبرة تتضمن هذا على الكمال .
فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها ، وبالعكس ، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق ، وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد ، وما قرر في السؤال على الجملة صحيح; إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما ، [ ص: 181 ] والجزئي محكوم عليه بالكلي ، لكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي لا بالنسبة إلى الأمور الخارجة ، فإن الإنسان مثلا يشتمل على الحيوانية بالذات ، وهي التحرك بالإرادة ، وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض ، أو مانع غيره فالكلي صحيح في نفسه ، وكون جزئي من جزيئاته منعه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج ولكن الطبيب إنما ينظر في الكلي بحسب جريانه في الجزئي ، أو عدم جريانه ، وينظر في الجزئي من حيث يرده إلى الكلي بالطريق المؤدي لذلك فكما لا يستقل الطبيب بالنظر في الكلي دون النظر في الجزئي من حيث هو طبيب ، وكذلك بالعكس فالشارع هو الطبيب الأعظم ، وقد جاء في الشريعة في العسل أن فيه شفاء للناس ، وتبين للأطباء أنه شفاء من علل كثيرة ، وأن فيه أيضا ضررا من بعض الوجوه حصل هذا بالتجربة العادية التي أجراها الله في هذه الدار فقيد العلماء ذلك كما اقتضته التجربة بناء على قاعدة كلية ضرورية من قواعد الدين ، وهي امتناع أن يأتي في الشريعة خبر بخلاف مخبره مع أن النص لا يقتضي الحصر في أنه شفاء فقط فأعملوا القاعدة الشرعية الكلية ، وحكموا بها على الجزئي واعتبروا الجزئي أيضا في غير الموضع [ ص: 182 ] المعارض; لأن العسل ضار لمن غلبت عليه الصفراء فمن لم يكن كذلك فهو له شفاء ، أو فيه له شفاء ولا يقال : إن هذا تناقض; لأنه يؤدي إلى اعتبار الجزئي ، وعدم اعتباره معا; لأنا نقول : إن ذلك من جهتين ولأنه لا يلزم أن يعتبر كل جزئي ، وفي كل حال ، بل المراد بذلك أنه يعتبر الجزئي إذا لم تتحقق استقامة الحكم بالكلى فيه كالعرايا ، وسائر المستثنيات ، ويعتبر الكلي في تخصيصه للعام [ ص: 183 ] الجزئي ، أو تقييده لمطلقه ، وما أشبه ذلك بحيث لا يكون إخلالا بالجزئي على الإطلاق ، وهذا معنى اعتبار أحدهما مع الآخر ، وقد مر منه أمثلة في أثناء المسائل ، فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف ، فإن فيها جملة الفقه ، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ ، وحقيقته نظر مطلق في مقاصد الشارع ، وأن تتبع نصوصه مطلقة ، ومقيدة أمر واجب .
فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة ، ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (103)
صـ184 إلى صـ 191
المسألة الثانية
كل دليل شرعي إما أن يكون قطعيا ، أو ظنيا ، فإن كان قطعيا ، فلا إشكال في اعتباره ، كأدلة وجوب الطهارة من الحدث والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل ، وأشباه ذلك ، وإن كان ظنيا فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا ، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضا ، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله ولكنه قسمان :
قسم يضاد أصلا قطعيا ، وقسم لا يضاده ولا يوافقه ، فالجميع أربعة أقسام .
فأما الأول ، فلا يفتقر إلى بيان .
وأما الثاني ، وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضا ظاهر ، وعليه عامة إعمال أخبار الآحاد فإنها بيان للكتاب لقوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ]
ومثل ذلك ما جاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج ، وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب .
[ ص: 185 ] وكذلك ما جاء من الأحاديث في النهي عن جملة من البيوع والربا ، وغيره من حيث هي راجعة إلى قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ]
وقوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] الآية . إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد ، أو التواتر إلا أن دلالتها ظنية ، ومنه أيضا قوله : - عليه الصلاة والسلام - : لا ضرر ولا ضرار ، فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى ، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات ، وقواعد كليات كقوله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا [ البقرة : 231 ]
ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن [ الطلاق : 6 ]
لا تضار والدة بولدها [ البقرة : 233 ] .
ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض ، وعن الغصب والظلم وكل ما هو في المعنى إضرار ، وضرار ، ويدخل تحته الجناية على [ ص: 186 ] النفس ، أو العقل ، أو النسل ، أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك ، وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك .
وأما الثالث ، وهو الظني المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال ، ومن الدليل على ذلك أمران :
أحدهما : أنه مخالف لأصول الشريعة ، ومخالف أصولها لا يصح; لأنه ليس منها ، وما ليس من الشريعة كيف يعد منها .
والثاني : أنه ليس له ما يشهد بصحته ، وما هو كذلك ساقط الاعتبار ، وقد مثلوا هذا القسم في المناسب الغريب بمن أفتى بإيجاب شهرين متتابعين [ ص: 187 ] [ ص: 188 ] ابتداء على من ظاهر من امرأته ولم يأت الصيام في الظهار إلا لمن لم يجد رقبة .
وهذا القسم على ضربين :
أحدهما : أن تكون مخالفته للأصل قطعية ، فلا بد من رده .
والآخر أن تكون ظنية إما بأن يتطرق الظن من جهة الدليل الظني ، وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا ، وفي هذا الموضع مجال للمجتهدين ولكن الثابت في الجملة أن مخالفة الظني لأصل قطعي يسقط اعتبار الظني على الإطلاق ، وهو مما لا يختلف فيه
والظاهري وإن ظهر من أمره ببادئ الرأي عدم المساعدة فيه فمذهبه راجع في الحقيقة إلى المساعدة على هذا الأصل لاتفاق الجميع على أن الشريعة لا اختلاف فيها ولا تناقض ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] .
وإذا ثبت هذا فالظاهري لا تناقض عنده في ورود نص مخالف لنص آخر ، أو لقاعدة أخرى .
أما على اعتبار المصالح ، فإنه يزعم أن في المخالف مصلحة ليست في الآخر علمناها ، أو جهلناها ، وأما على عدم اعتبارها [ ص: 189 ] فأوضح ، فإن للشارع أن يأمر ، وينهى كيف شاء ، فلا تناقض بين المتعارضين على كل تقدير .
فإذا تقرر هذا ، فقد فرضوا في كتاب الأخبار مسألة مختلفا فيها ترجع إلى الوفاق في هذا المعنى فقالوا : خبر الواحد إذا كملت شروط صحته هل يجب عرضه على الكتاب أم لا ؟
فقال الشافعي : لا يجب; لأنه لا تتكامل شروطه إلا وهو غير مخالف للكتاب ، وعند عيسى بن أبان يجب محتجا بحديث في هذا المعنى ، وهو قوله : إذا روي لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق فاقبلوه ، وإلا فردوه .
[ ص: 190 ] فهذا الخلاف كما ترى راجع إلى الوفاق ، وسيأتي تقرير ذلك في دليل السنة إن شاء الله تعالى .
وللمسألة أصل في السلف الصالح ، فقد ردت عائشة رضي الله تعالى عنها حديث : إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه بهذا الأصل نفسه [ ص: 191 ] لقوله تعالى : ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 38 ، 39 ]
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (104)
صـ192 إلى صـ 206
وردت حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء لقوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] [ ص: 192 ] وإن كان عند غيرها غير مردود لاستناده إلى أصل آخر لا يناقض الآية ، وهو ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة بأدلة قرآنية ، وسنية تبلغ القطع ولا فرق في صحة الرؤية بين الدنيا والآخرة .
وردت هي وابن عباس خبر أبي هريرة في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء استنادا إلى أصل مقطوع به ، وهو رفع الحرج ، وما لا طاقة به عن الدين ، فلذلك قالا : فكيف يصنع بالمهراس ؟ [ ص: 193 ] [ ص: 194 ] وردت أيضا خبر ابن عمر في الشؤم ، وقالت : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن أقوال الجاهلية; لمعارضته الأصل القطعي أن الأمر كله لله ، وأن شيئا من الأشياء لا يفعل شيئا ولا طيرة ولا عدوى .
ولقد اختلفوا على عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام فأخبر أن الوباء قد وقع بها ، فاستشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه إلا مهاجرة الفتح فإنهم اتفقوا على رجوعه ، فقال أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ فهذا استناد في رأي اجتهادي إلى أصل قطعي ، قال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله . فهذا استناد إلى أصل قطعي أيضا ، وهو أن الأسباب من قدر الله ، ثم مثل ذلك برعي العدوة المجدبة والعدوة المخصبة ، وأن الجميع بقدر الله ، ثم أخبر بحديث الوباء الحاوي لاعتبار الأصلين .
[ ص: 195 ] وفي الشريعة من هذا كثير جدا ، وفي اعتبار السلف له نقل كثير ولقد اعتمده مالك بن أنس في مواضع كثيرة لصحته في الاعتبار .
ألا ترى إلى قوله في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا : جاء الحديث ولا [ ص: 196 ] أدري ما حقيقته ؟ وكان يضعفه ، ويقول : يؤكل صيده ، فكيف يكره لعابه ؟ وإلى هذا المعنى أيضا يرجع قوله في حديث خيار المجلس حيث قال [ ص: 197 ] بعد ذكره : وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه . إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة ولو شرط أحد الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعا ، فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطا بالشرع ؟ فقد رجع إلى أصل إجماعي .
وأيضا فإن قاعدة الغرر والجهالة قطعية ، وهى تعارض هذا الحديث الظني .
فإن قيل : فقد أثبت مالك خيار المجلس في التمليك .
قيل : الطلاق [ ص: 198 ] يعلق على الغرر ، ويثبت في المجهول ، فلا منافاة بينهما بخلاف البيع .
ومن ذلك أن مالكا أهمل اعتبار حديث : من مات ، وعليه صيام صام عنه وليه ، وقوله : أرأيت لو كان على أبيك دين الحديث ؛ لمنافاته للأصل القرآني الكلي نحو قوله : ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 38 ، 39 ] كما اعتبرته عائشة في حديث ابن عمر .
وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم قبل القسم تعويلا على أصل رفع الحرج الذي يعبر عنه بالمصالح المرسلة فأجاز [ ص: 199 ] أكل الطعام قبل القسم لمن احتاج ، قاله ابن العربي .
ونهى عن صيام ست من شوال مع ثبوت الحديث فيه تعويلا على أصل سد الذرائع .
ولم يعتبر في الرضاع خمسا ولا عشرا; للأصل القرآني في قوله : [ ص: 200 ] وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة [ النساء : 23 ] وفي مذهبه من هذا كثير ، وهو أيضا رأي أبي حنيفة ، فإنه قدم خبر القهقهة في الصلاة على القياس; إذ لا إجماع في المسألة ورد خبر القرعة; لأنه يخالف الأصول; لأن الأصول قطعية ، وخبر الواحد [ ص: 201 ] ظني والعتق حل في هؤلاء العبيد ، والإجماع منعقد على أن العتق بعد ما نزل في المحل لا يمكن رده فلذلك رده كذا قالوا ، وقال ابن العربي : إذا جاء خبر الواحد معارضا لقاعدة من قواعد الشرع; هل يجوز العمل به أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : لا يجوز العمل به ، وقال الشافعي : يجوز ، وتردد مالك في المسألة .
قال : ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به ، وإن كان وحده تركه ، ثم ذكر مسألة مالك في ولوغ الكلب قال : لأن هذا الحديث عارض أصلين عظيمين :
أحدهما : قول الله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم [ المائدة : 4 ] والثاني : أن علة الطهارة هي الحياة ، وهي قائمة في الكلب ، وحديث العرايا إن صدمته قاعدة الربا عضدته قاعدة المعروف .
[ ص: 202 ] وكذلك لم يأخذ أبو حنيفة بحديث منع بيع الرطب بالتمر لتلك العلة أيضا .
[ ص: 203 ] قال ابن عبد البر : كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيرا من أخبار الآحاد العدول .
قال : لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ، ومعاني القرآن فما شذ من ذلك رده ، وسماه شاذا .
[ ص: 204 ] وقد رد أهل العراق مقتضى حديث المصراة ، وهو قول مالك لما رآه مخالفا للأصول ، فإنه قد خالف أصل الخراج بالضمان ولأن متلف [ ص: 205 ] الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته ، وأما غرم جنس آخر من الطعام ، أو العروض ، فلا .
وقد قال مالك فيه : إنه ليس بالموطأ ولا الثابت ، وقال به في القول الآخر شهادة بأن له أصلا متفقا عليه يصح رده إليه بحيث لا يضاد هذه الأصول الأخر ، وإذا ثبت هذا كله ظهر وجه المسألة إن شاء الله .
[ ص: 206 ] وأما الرابع ، وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلا قطعيا فهو في محل النظر ، وبابه باب المناسب الغريب ، فقد يقال : لا يقبل لأنه إثبات شرع على غير ما عهد في مثله والاستقراء يدل على أنه غير موجود ، وهذان يوهنان التمسك به على الإطلاق; لأنه في محل الريبة ، فلا يبقى مع ذلك ظن ثبوته ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي معارض لأصول الشرع; إذ كان عدم الموافقة مخالفة وكل ما خالف أصلا قطعيا مردود فهذا مردود ، ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن على الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة ، وهذا فرد من أفراده ، وهو وإن لم يكن موافقا لأصل ، فلا مخالفة فيه أيضا ، فإن عضد الرد عدم الموافقة عضد القبول عدم المخالفة فيتعارضان ، ويسلم أصل العمل بالظن ، وقد وجد منه في الحديث قوله : - عليه الصلاة [ ص: 207 ] والسلام - : القاتل لا يرث ، وقد أعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس ، وإن كان قليلا في بابه فذلك غير ضائر إذا دل الدليل على صحته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (105)
صـ207 إلى صـ 216
فصل
واعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة الدليل القطعي على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد ، أو بالقياس واجب مثلا ، بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدم في حديث لا ضرر ولا ضرار والمسائل المذكورة معه ، وهو معنى مخالف للمعنى الذي قصده الأصوليون والله أعلم .
[ ص: 208 ] المسألة الثالثة
الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول والدليل على ذلك من وجوه :
أحدها : أنها لو نافتها لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ولا غيره لكنها أدلة باتفاق العقلاء فدل على أنها جارية على قضايا العقول ، وبيان ذلك أن الأدلة إنما نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين حتى يعملوا بمقتضاها من الدخول تحت أحكام التكليف ولو نافتها لم تتلقها فضلا عن أن تعمل بمقتضاها ، وهذا معنى كونها خارجة عن حكم الأدلة ، ويستوي في هذا الأدلة المنصوبة على الأحكام الإلهية ، وعلى الأحكام التكليفية .
والثاني : أنها لو نافتها لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا يطاق ، وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره ، بل يتصور [ ص: 209 ] خلافه ، ويصدقه ، فإذا كان كذلك امتنع على العقل التصديق ضرورة ، وقد فرضنا ورود التكليف المنافي التصديق ، وهو معنى تكليف ما لا يطاق ، وهو باطل حسبما هو مذكور في الأصول .
والثالث : أن مورد التكليف هو العقل ، وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا ، وعد فاقده كالبهيمة المهملة ، وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه لكان لزوم التكليف على العاقل أشد من لزومه على المعتوه والصبي والنائم; إذ لا عقل لهؤلاء يصدق ، أو لا يصدق بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به ، ولما كان التكليف ساقطا عن هؤلاء لزم أن يكون ساقطا عن العقلاء أيضا ، وذلك مناف لوضع الشريعة فكان ما يؤدي إليه باطلا .
والرابع : أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من رد الشريعة به لأنهم كانوا في غاية الحرص على رد ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كانوا يفترون عليه ، وعليها . فتارة يقولون ساحر ، وتارة مجنون ، وتارة يكذبونه كما كانوا يقولون في القرآن سحر ، وشعر وافتراء ، وإنما يعلمه بشر ، وأساطير الأولين ، بل كان أولى ما يقولون : إن هذا لا يعقل ، أو هو مخالف للعقول ، أو ما أشبه ذلك فلما [ ص: 210 ] لم يكن من ذلك شيء دل على أنهم عقلوا ما فيه ، وعرفوا جريانه على مقتضى العقول إلا أنهم أبوا من اتباعه لأمور أخر حتى كان من أمرهم ما كان ولم يعترضه أحد بهذا المدعى فكان قاطعا في نفيه عنه .
والخامس : أن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول بحيث تصدقها العقول الراجحة ، وتنقاد لها طائعة ، أو كارهة ولا كلام في عناد معاند ولا في تجاهل متعام ، وهو المعني بكونها جارية على مقتضى العقول لا أن العقول حاكمة عليها ولا محسنة فيها ولا مقبحة ، وبسط هذا الوجه مذكور في كتاب المقاصد في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام .
فإن قيل : هذه دعوى عريضة يصد عن القول بها غير ما وجه .
أحدها : أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلا كفواتح السور ، فإن الناس قالوا إن في القرآن ما يعرفه الجمهور ، وفيه ما لا يعرفه إلا العرب ، وفيه ما لا يعرفه إلا العلماء بالشريعة ، وفيه ما لا يعرفه إلا الله ، فأين جريان هذا [ ص: 211 ] القسم على مقتضى العقول ؟
والثاني : أن في الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس ، أو لا يعلمها إلا الله تعالى كالمتشابهات الفروعية ، وكالمتشابهات الأصولية ولا معنى لاشتباهها إلا أنها تتشابه على العقول ، فلا تفهمها أصلا ، أو لا يفهمها إلا القليل والمعظم مصدودون عن فهمها ، فكيف يطلق القول بجريانها على فهم العقول ؟
والثالث : أن فيها أشياء اختلفت على العقول حتى تفرق الناس بها فرقا ، وتحزبوا أحزابا وصار كل حزب بما لديهم فرحون فقالوا فيها أقوالا كل على مقدار عقله ، ودينه .
فمنهم من غلب عليه هواه حتى أداه ذلك إلى الهلكة كنصارى نجران حين اتبعوا في القول بالتثليث قول الله تعالى : فعلنا ، و قضينا ، و خلقنا ، ثم من بعدهم من أهل الانتماء إلى الإسلام الطاعنين على الشريعة بالتناقض والاختلاف ، ثم يليهم سائر الفرق الذين أخبر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ذلك ناشئ عن خطاب يزل به العقل كما هو الواقع ، فلو كانت الأدلة جارية على تعقلات العقول لما وقع في الاعتياد هذا [ ص: 212 ] الاختلاف فلما وقع فهم أنه من جهة ما له خروج عن المعقول ولو بوجه ما .
فالجواب عن الأول أن فواتح السور للناس في تفسيرها مقال بناء على أنه مما يعلمه العلماء ، وإن قلنا إنه مما لا يعلمه العلماء ألبتة فليس مما يتعلق به تكليف على حال ، فإذا خرج عن ذلك خرج عن كونه دليلا على شيء من الأعمال فليس مما نحن فيه ، وإن سلم فالقسم الذي لا يعلمه إلا الله تعالى في الشريعة نادر والنادر لا حكم له ولا تنخرم به الكلية المستدل عليها أيضا; لأنه مما لا يهتدي العقل إلى فهمه وليس كلامنا فيه إنما الكلام على ما يؤدي مفهوما ، لكن على خلاف المعقول ، وفواتح السور خارجة عن ذلك; لأنا نقطع أنها لو بينت لنا معانيها لم تكن إلا على مقتضى العقول ، وهو المطلوب .
وعن الثاني : أن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول ، وإن توهم بعض الناس فيها ذلك; لأن من توهم فيها ذلك فبناء على اتباع هواه كما نصت عليه الآية قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله [ آل عمران : 7 ] [ ص: 213 ] لا أنه بناء على أمر صحيح ، فإنه إن كان كذلك فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف ، وإن فرض أنها مما لا يعلمها أحد إلا الله فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجي لا لمخالفته لها ، وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة ، وأخبار بمعان كثيرة ربما يتوهم القاصر النظر فيها الاختلاف ، وكذلك الأعجمي الطبع الذي يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه ، وهو جاهل به ، ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث ، ودعوى الملحدين على القرآن والسنة التناقض والمخالفة للعقول ، وضموا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض ، وفيما لم يجز لهم الخوض فيه فتاهوا ، فإن القرآن والسنة لما كانا عربيين لم يكن لينظر فيهما إلا عربي كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما; إذ لا يصح له نظر حتى يكون عالما بهما ، فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة ولذلك مثال يتبين به المقصود ، وهو أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس ، فقال له : [ ص: 214 ] إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي ، قال : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ المؤمنون : 101 ] .
[ ص: 215 ] وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ الصافات : 27 ] .
ولا يكتمون الله حديثا [ النساء : 42 ] ربنا ما كنا مشركين [ الأنعام : 23 ] ، فقد كتموا في هذه الآية .
وقال : بناها رفع سمكها فسواها إلى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ النازعات : 28 - 30 ] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض .
ثم قال : أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى أن قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ فصلت : 9 - 11 ] فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء .
وقال : وكان الله غفورا رحيما [ الفرقان : 70 ] ، عزيزا حكيما ، سميعا بصيرا فكأنه كان ثم مضى .
فقال ابن عباس : فلا أنساب بينهم [ المؤمنون : 101 ] في النفخة الأولى ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [ الزمر : 68 ] ، فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ الصافات : 27 ] .
وأما قوله : ما كنا مشركين [ الأنعام : 23 ] ، ولا يكتمون الله حديثا [ النساء : 42 ] ، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون : تعالوا [ ص: 216 ] نقول : ما كنا مشركين ، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم ، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا ، وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض [ النساء : 42 ] .
وخلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ، ثم دحا الأرض أي أخرج الماء والمرعى ، وخلق الجبال والآكام ، وما بينهما في يومين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السماوات في يومين ، وكان الله غفورا رحيما ، سمى نفسه ذلك ، وذلك قوله ، أي لم أزل كذلك ، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلف عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله .
هذا تمام ما قال في الجواب .
وهو يبين أن جميع ذلك معقول إذا نزل منزلته ، وأتى من بابه ، وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون ، وما أشكل على الطالبين ، وما وقف فيه الراسخون ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] .
وفي كتاب الاجتهاد من ذلك بيان كاف والحمد لله ، وقد ألف الناس في رفع التناقض والاختلاف عن القرآن والسنة كثيرا ، فمن تشوف إلى البسط ، ومد الباع ، وشفاء الغليل طلبه في مظانه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (106)
صـ217 إلى صـ 226
المسألة الرابعة
المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها ، وهذا لا نزاع فيه إلا أن أفعال المكلفين لها اعتباران .
[ ص: 218 ] اعتبار من جهة معقوليتها واعتبار من جهة وقوعها في الخارج .
وبيان ذلك أن الفعل المكلف به ، أو بتركه ، أو المخير فيه يعتبر من جهة ماهيته مجردا عن الأوصاف الزائدة عليها واللاحقة لها كانت تلك الأوصاف لازمة ، أو غير لازمة ، وهذا هو الاعتبار العقلي ، ويعتبر من جهة ماهيته بقيد الاتصاف بالأوصاف الزائدة اللاحقة في الخارج لازمة ، أو غير لازمة ، وهو الاعتبار الخارجي فالصلاة المأمور بها مثلا يتصور فيها هذان الاعتباران ، وكذلك الطهارة والزكاة والحج ، وسائر العبادات والعادات من الأنكحة والبيوع والإجارات ، وغيرها ، ويظهر الفرق بين الاعتبارين فيما إذا نظر إلى الصلاة في الدار المغصوبة ، أو الصلاة التي تعلق بها شيء من المكروهات والأوصاف التي تنقص من كمالها ، وكذلك سائر الأفعال .
فإذا صح الاعتباران عقلا فمنصرف الأدلة إلى أي الجهتين هو ، ألجهة [ ص: 219 ] المعقولية أم لجهة الحصول في الخارج ؟ هذا مجال نظر محتمل للخلاف ، بل هو مقتضى الخلاف المنصوص في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ، وأدلة المذاهب منصوص عليها مبينة في علم الأصول ولكن نذكر من ذلك طرفا يتحرى منه مقصد الشارع في أحد الاعتبارين فمما يدل على الأول أمور .
أحدها : أن المأمور به ، أو المنهي عنه ، أو المخير فيه إنما هو حقائق الأفعال التي تنطلق عليها تلك الأسماء ، وهذا أمر ذهني في الاعتبار; لأنا إذا أوقعنا الفعل عرضناه على ذلك المعقول الذهني ، فإن صدق عليه صح ، وإلا ، فلا .
ولصاحب الثاني أن يقول : إن المقصود من الأمر والنهي والتخيير إنما هو أن يقوم المكلف بمقتضاها حتى تكون له أفعالا خارجية لا أمورا ذهنية ، بل الأمور الذهنية هي مفهومات الخطاب ، ومقصود الخطاب ليس نفس التعقل ، بل الانقياد وذلك الأفعال الخارجية سواء علينا أكانت عملية أم اعتقادية ، وعند ذلك ، فلا بد أن تقع موصوفة فيكون الحكم عليها كذلك .
[ ص: 220 ] والثاني : أنا لو لم نعتبر المعقول الذهني في الأفعال لزمت شناعة مذهب الكعبي المقررة في كتاب الأحكام; لأن كل فعل ، أو قول فمن لوازمه في الخارج أن يكون ترك الحرام ، ويلقى فيه جميع ما تقدم ، وقد مر بطلانه .
ولصاحب الثاني : أن يقول لو اعتبرنا المعقول الذهني مجردا عن الأوصاف الخارجية لزم أن لا تعتبر الأوصاف الخارجية بإطلاق ، وذلك باطل باتفاق ، فإن سد الذرائع معلوم في الشريعة ، وهو من هذا النمط وكذلك كل فعل سائغ في نفسه ، وفيه تعاون على البر والتقوى ، أو على الإثم والعدوان إلى ما أشبه ذلك ولم يصح النهي عن صيام يوم العيد ولا عن الصلاة عند [ ص: 221 ] طلوع الشمس ، أو عند غروبها ، وهذا الباب واسع جدا .
والثالث : أنا لو اعتبرنا الأفعال من حيث هي خارجية فقط لم يصح للمكلف عمل إلا في النادر; إذ كانت الأفعال والتروك مرتبطا بعضها ببعض ، وقد فرضوا مسألة من صلى وعليه دين حان وقته ، وألزموا المخالفين أن يقولوا ببطلان تلك الصلاة; لأنه ترك بها واجبا ، وهكذا كل من خلط عملا صالحا ، وآخر سيئا ، فإنه يلزم أن يبطل عليه العمل الصالح إذا تلازما في الخارج ، وهو على خلاف قول الله تعالى : خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ التوبة : 102 ] لأنهما إذا تلازما في الخارج فكان أحدهما للوصف الثاني لم يكن العمل الصالح صالحا فلم يكن ثم خلط عملين ، بل صارا عملا واحدا إما صالحا ، وإما سيئا ، ونص الآية يبطل هذا ، وكذلك جريان [ ص: 222 ] العوائد في المكلفين فدل ذلك على أن المقصود هو ما يصدق عليه عمل في الذهن لا في الخارج .
ولصاحب الثاني : أن يقول : إن الأمور الذهنية مجردة من الأمور الخارجية تعقل ، أو ما لا تعقل لا يكلف به أما أن ما لا يعقل لا يكلف به فواضح ، وأما أن الأمور الذهنية لا تعقل مجردة فهو ظاهر أيضا .
في المحسوسات فكالإنسان مثلا ، فإن ماهيته المعقولة المركبة من الحيوانية والنطقية لا تثبت في الخارج; لأنها كلية حتى تتخصص ولا تتخصص حتى تتشخص ، ولا تتشخص حتى تمتاز عن سواها من المتشخصات بأمور أخر فنوع الإنسان يلزمه خواص كلية هي له أوصاف كالضحك وانتصاب القامة ، وعرض الأظفار ، ونحوها ، وخواص شخصية ، وهي التي امتاز بها كل واحد من أشخاص الإنسان عن الآخر ، ولولا ذلك لم يظهر الإنسان في الخارج ألبتة ، فقد صارت إذا الأمور الخارجة العارضة لازمة لوجود حقيقة الإنسان في الخارج .
وأما في الشرعيات فكالصلاة مثلا ، فإن حقيقتها المركبة من القيام ، [ ص: 223 ] والركوع والسجود والقراءة ، وغير ذلك لا تثبت في الخارج إلا على كيفيات ، وأحوال ، وهيئات شتى ، وتلك الهيئات محكمة في حقيقة الماهية حتى يحكم عليها بالكمال ، أو النقصان والصحة أو البطلان ، وهي متشخصات ، وإلا لم يصح الحكم على صاحبها بشيء من ذلك; إذ هي في الذهن كالمعدوم ، وإذا كان كذلك فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج ، وليس إلا أفعالا موصوفة بأمور خاصة لازمة ، وأمور على خلاف ذلك ، وكل مكلف مخاطب في خاصة نفسه بها فهو إذا مخاطب بما يصح له أن يحصله في الخارج ، فلا يمكن ذلك إلا باللوازم الخارجية فهو إذا مخاطب بها لا بغيرها ، وهو المطلوب ، فإن حصلت بزيادة وصف ، أو نقصانه فلم تحصل إذا على حقيقتها ، بل على حقيقة أخرى والتي خوطب بها لم تحصل بعد ، فإن قيل : فيشكل معنى الآية إذا ، وهو قوله : خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ التوبة : 102 ] ، وأيضا فإن الصلاة قد تحصل بزيادة ، أو نقصان ، وتصح مع ذلك ، وهو دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة في الجملة ، وهو الاعتبار الذهني .
قيل : أما الآية ، فإن الأعمال المتعارضة الأحكام ليست بمتلازمة لحصولها في زمانين ، وفي حالين ، وفي مثله نزلت الآية ، وإذا تلازمت حتى صار أحدها : كالوصف للآخر ، فإن كان كالوصف السلبي ، فلا إشكال في عدم التلازم; لأن الوصف السلبي اعتباري للموصوف به ليس صفة وجودية ، وأما إن كانت [ ص: 224 ] صفة وجودية ، أو كالصفة الوجودية فحينئذ يرجع ذلك إلى الحاصل في الخارج ولا يدخل مثله تحت الآية ، وأما الزيادة غير المبطلة ، أو النقصان فالاعتبار فيه بما حصل في الخارج جاريا مجرى المخاطب به فالصلاة الناقصة أشبهت في الخارج الصلاة الكاملة فعوملت معاملتها لا أنه اعتبر فيها الذهني في الجملة والبحث في هذه المسألة يتشعب ، وينبني عليه مسائل فقهية .
فصل
ويتصدى النظر هنا فيما يصير من الأفعال المختلفة وصفا لصاحبه حتى يجري فيه النظران ، وما لا يصير كذلك ، فلا يجريان فيه .
[ ص: 225 ] وبيان ذلك أن الأفعال المتلازمة إما أن يصير أحدها وصفا للآخر ، أو لا ، فإن كان الثاني ، فلا تلازم كترك الصلاة مع ترك الزنى ، أو السرقة ، فإن أحد التركين لا يصير كالوصف للآخر لعدم التزاحم في العمل; إذ كان يمكن المكلف الترك لكل فعل مشروع ، أو غير مشروع ، وما ذاك إلا لأنهما ليسا متزاحمين على المكلف ، وسبب ذلك أنهما راجعان إلى أمر سلبي ، والسلبيات اعتباريات لا حقيقية ، وإن كان الأول فإما أن يكون وصفا سلبيا ، أو وجوديا ، فإن كان سلبيا فإما أن يثبت اعتباره فيه شرعا على الخصوص أو لا ، فإن كان الأول فلا إشكال في اعتبار الصورة الخارجية كترك الطهارة في الصلاة وترك الاستقبال ، وإن كان الثاني ، فلا اعتداد بالوصف السلبي كترك قضاء الدين مع فعل الصلاة فيمن فر من قضائه إلى الصلاة ، فإن الصلاة ، وإن وصفت بأنها فرار من واجب فليس ذلك بوصف لها إلا اعتباريا تقديريا لا حقيقة له في الخارج ، وإن كان الوصف وجوديا فهذا هو محل النظر كالصلاة في الدار المغصوبة والذبح بالسكين المغصوبة والبيوع الفاسدة لأوصاف فيها خارجة عن حقائقها ، وما أشبه ذلك .
فالحاصل أن التروك من حيث هي تروك لا تتلازم في الخارج ، وكذلك [ ص: 226 ] الأفعال مع التروك إلا أن يثبت تلازمها شرعا ، ويرجع ذلك في الحقيقة إلى أن الترك إنما اعتبر من جهة فقد وصف وجودي للفعل الوجودي كالطهارة للصلاة ، وأما الأفعال مع الأفعال ، فهي التي تتلازم إذا قرنت في الخارج فيحدث منها فعل واحد موصوف فينظر فيه ، وفي وصفه كما تقدم والله أعلم .
ولهذه المسألة تعلق بباب الأوامر والنواهي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (107)
صـ227 إلى صـ 230
المسألة الخامسة
الأدلة الشرعية ضربان :
أحدهما : ما يرجع إلى النقل المحض ، والثاني : ما يرجع إلى الرأي المحض .
وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة ، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر; لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل ، فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة ، وأما الثاني فالقياس والاستدلال ، ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق ، وإما باختلاف فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل [ ص: 228 ] به ، ومذهب الصحابي ، وشرع من قبلنا; لأن ذلك كله ، وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد .
ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري ، وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية حسبما يتبين في موضعه من هذا الكتاب بحول الله .
فصل
ثم نقول : إن الأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب الأول; لأنا لم نثبت الضرب الثاني بالعقل ، وإنما أثبتناه بالأول; إذ منه قامت أدلة صحة الاعتماد عليه ، وإذا كان كذلك فالأول هو العمدة ، وقد صار; إذ ذاك الضرب الأول مستند الأحكام التكليفية من جهتين .
إحداهما جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية والأخرى جهة دلالته على القواعد التي تستند إليها الأحكام الجزئية الفرعية .
فالأولى كدلالته على أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والحج والجهاد والصيد والذبائح والبيوع والحدود ، وأشباه ذلك والثانية كدلالته على أن الإجماع حجة ، وعلى أن القياس حجة ، وأن قول الصحابي حجة ، وشرع من قبلنا حجة ، وما كان نحو ذلك .
فصل
[ ص: 229 ] ثم نقول : إن الضرب الأول راجع في المعنى إلى الكتاب ، وذلك من وجهين .
أحدهما : أن العمل بالسنة والاعتماد عليها إنما يدل عليه الكتاب; لأن الدليل على صدق الرسول المعجزة ، وقد حصر - عليه الصلاة والسلام - معجزته في القرآن بقوله : وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي هذا وإن كان له من المعجزات كثير جدا بعضه يؤمن على مثله البشر ولكن معجزة القرآن أعظم من ذلك كله .
وأيضا فإن الله قد قال في كتابه : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] ، وقال : وأطيعوا الله ورسوله في مواضع كثيرة .
وتكراره يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب ، ومما ليس فيه مما هو من سنته ، وقال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ الحشر : 7 ] ، وقال : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ النور : 63 ] [ ص: 230 ] إلى ما أشبه ذلك .
والوجه الثاني : أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب ، وشارحة لمعانيه ولذلك قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] ، وقال : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك [ المائدة : 67 ] ، وذلك التبليغ من وجهين :
تبليغ الرسالة ، وهو الكتاب ، وبيان معانيه .
وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم وجزاه عنا أفضل الجزاء بمنه وفضله ، فأنت إذا تأملت موارد السنة وجدتها بيانا للكتاب هذا هو الأمر العام فيها .
وتمام بيان هذا الوجه مذكور بعد إن شاء الله فكتاب الله تعالى هو أصل الأصول والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار ، ومدارك أهل الاجتهاد وليس وراءه مرمى; لأنه كلام الله القديم ، وأن إلى ربك المنتهى [ النجم : 42 ] ، وقد قال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين [ النحل : 89 ] ، وقال : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] ، وبيان هذا مذكور بعد إن شاء الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (108)
صـ231 إلى صـ 240
المسألة السادسة
كل دليل شرعي فمبنى على مقدمتين :
إحداهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم . والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي .
فالأولى نظرية ، وأعني بالنظرية هنا ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر ولا أعني بالنظرية مقابل الضرورية . والثانية نقلية ، وبيان ذلك ظاهر في كل مطلب شرعي ، بل هذا جار في كل مطلب عقلي ، أو نقلي فيصح أن نقول : الأولى راجعة إلى تحقيق المناط والثانية راجعة إلى الحكم ، ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية ، فإذا قلت إن كل مسكر حرام ، فلا يتم القضاء عليه حتى يكون بحيث يشار إلى المقصود [ ص: 232 ] منه ليستعمل ، أو لا يستعمل ; لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون ، فإذا شرع المكلف في تناول خمر مثلا قيل : له أهذا خمر أم لا ، فلا بد من النظر في كونه خمرا ، أو غير خمر ، وهو معنى تحقيق المناط فإذا وجد فيه أمارة الخمر ، أو حقيقتها بنظر معتبر قال : نعم هذا خمر ، فيقال له كل خمر حرام الاستعمال فيجتنبه ، وكذلك إذا أراد أن يتوضأ بماء ، فلا بد من النظر إليه هل هو مطلق أم لا ، وذلك برؤية اللون ، وبذوق الطعم ، وشم الرائحة ، فإذا تبين أنه على أصل خلقته ، فقد تحقق مناطه عنده ، وأنه مطلق ، وهى المقدمة النظرية ، ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية ، وهي أن كل ماء مطلق فالوضوء به جائز ، وكذلك إذا نظر هل هو مخاطب بالوضوء أم لا فينظر هل هو محدث أم لا ، فإن تحقق الحدث ، فقد حقق مناط الحكم فيرد عليه أنه مطلوب بالوضوء ، وإن تحقق فقده فكذلك ، فيرد عليه أنه غير مطلوب الوضوء ، وهى المقدمة النقلية .
فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة ، ومقيدة ، وذلك مقتضى إحدى المقدمتين ، وهي النقلية ولا ينزل الحكم بها إلا على ما [ ص: 233 ] تحقق أنه مناط ذلك الحكم على الإطلاق ، أو على التقييد ، وهو مقتضى المقدمة النظرية والمسألة ظاهرة في الشرعيات .
نعم ، وفي اللغويات والعقليات فإنا إذا قلنا ضرب زيد عمرا ، وأردنا أن نعرف ما الذي يرفع من الاسمين ، وما الذي ينصب ، فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول ، فإذا حققنا الفاعل ، وميزناه حكمنا عليه بمقتضى المقدمة النقلية ، وهى أن كل فاعل مرفوع ، ونصبنا المفعول كذلك; لأن كل مفعول منصوب ، وإذا أردنا أن نصغر عقربا حققنا أنه رباعي فيستحق من أبنية التصغير بنية فعيعل; لأن كل رباعي على هذه الشاكلة تصغيره على هذه البنية ، وهكذا في سائر علوم اللغة ، وأما العقليات فكما إذا نظرنا في العالم هل هو حادث أم لا ، فلا بد من تحقيق مناط الحكم ، وهو العالم فنجده متغيرا ، وهي المقدمة الأولى ، ثم نأتي بمقدمة مسلمة ، وهو قولنا : كل متغير حادث .
لكنا قلنا في الشرعيات ، وسائر النقليات إنه لا بد أن تكون إحدى المقدمتين نظرية ، وهي المفيدة لتحقيق المناط ، وذلك مطرد في العقليات أيضا ، والأخرى نقلية فما الذي يجري في العقليات مجرى النقليات ؟ هذا لا بد من تأمله .
والذي يقال : فيه أن خاصية المقدمة النقلية أن تكون مسلمة إذا تحقق [ ص: 234 ] أنها نقلية ، فلا تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلا ، ونظير هذا في العقليات المقدمات المسلمة ، وهي الضروريات ، وما تنزل منزلتها مما يقع مسلما عند الخصم فهذه خاصية إحدى المقدمتين ، وهي أن تكون مسلمة ، وخاصية الأخرى أن تكون تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه ولا حاجة إلى البسط هنا ، فإن التأمل يبين حقيقة الأمر فيه ، وأيضا في فصل السؤال والجواب له بيان آخر ، وبالله التوفيق .
[ ص: 235 ] المسألة السابعة
كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف ، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات ، والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ، ونقض العهد في المنهيات .
وكل دليل ثبت فيها مقيدا غير مطلق وجعل له قانون ، وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره; إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها ، وكذلك في العوارض الطارئة عليها; لأنها من جنسها ، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية ، وهذا القسم الثاني كثير في الأصول المدنية; لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه ، أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية ، ويتبين ذلك بإيراد مسألة مستأنفة .
[ ص: 236 ] المسألة الثامنة
فنقول : إذا رأيت في المدنيات أصلا كليا فتأمله تجده جزئيا بالنسبة إلى ما هو أعم منه ، أو تكميلا لأصل كلي ، وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة ، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال .
أما الدين فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة ، وما نشأ عنهما ، وهو أول ما نزل بمكة .
وأما النفس فظاهر إنزال حفظها بمكة كقوله : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق [ الأنعام : 151 ] ، وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت [ التكوير : 8 ] ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ الأنعام : 119 ] ، وأشباه ذلك .
[ ص: 237 ] وأما العقل فهو ، وإن لم يرد تحريم ما يفسده ، وهو الخمر إلا بالمدينة ، فقد ورد في المكيات مجملا; إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء ، ومنافعها من السمع والبصر ، وغيرهما ، وكذلك منافعها ، فالعقل محفوظ شرعا في الأصول المكية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء وإنما استدرك بالمدينة حفظه عما يزيله ساعة ، أو لحظة ، ثم يعود كأنه غطي ثم كشف عنه .
[ ص: 238 ] وأيضا فإن حفظه على هذا الوجه من المكملات; لأن شرب الخمر قد بين الله مثالبها في القرآن ، حيث قال :إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [ المائدة : 91 ] إلى آخر الآية فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان .
وأما النسل ، فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنا والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج ، أو ملك اليمين .
وأما المال فورد فيه تحريم الظلم ، وأكل مال اليتيم والإسراف والبغي ، ونقص المكيال ، أو الميزان والفساد في الأرض ، وما دار بهذا المعنى .
وأما العرض الملحق بها فداخل تحت النهي عن أذايات النفوس .
ولم ترد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم إلا وحفظها من جانب [ ص: 239 ] الوجود حاصل ، ففي الأربعة الأواخر ظاهر ، وأما الدين فراجع إلى التصديق بالقلب والانقياد بالجوارح ، والتصديق بالقلب آت بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ليفرع عن ذلك كل ما جاء مفصلا في المدني فالأصل وارد في المكي ، والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد ، ويكون ما زاد على ذلك تكميلا .
وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة ، وذلك يحصل به معنى الانقياد ، وأما الصوم والحج فمدنيان من باب التكميل على أن الحج كان من فعل العرب أولا وراثة عن أبيهم إبراهيم فجاء الإسلام فأصلح منه ما أفسدوا وردهم فيه إلى مشاعرهم .
[ ص: 240 ] وكذلك الصيام أيضا ، فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضا حين قدم المدينة صامه ، وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان وانظر في حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء ، فأحكمهما التشريع المدني ، وأقرهما على ما أقر الله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذي هو أعظم أيامه حين قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] الآية فلهما أصل في المكي على الجملة .
والجهاد الذي شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مقرر بمكة كقوله يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر [ لقمان : 17 ] ، وما أشبه ذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (109)
صـ241 إلى صـ 251
المسألة التاسعة
كل دليل شرعي يمكن أخذه كليا ، وسواء علينا أكان كليا أم جزئيا إلا ما خصه الدليل كقوله تعالى : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، وأشباه ذلك ، والدليل على ذلك أن المستند إما أن يكون كليا ، أو جزئيا ، فإن كان كليا فهو المطلوب ، وإن كان جزئيا فبحسب النازلة لا بحسب التشريع في الأصل بأدلة .
[ ص: 242 ] منها عموم التشريع في الأصل كقوله تعالى : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] ، وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [ سبأ : 28 ] ، وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] .
وهذا معنى مقطوع به لا يخرم القطع به ما جاء من شهادة خزيمة ، وعناق أبي بردة ، وقد جاء في الحديث : بعثت للأحمر والأسود .
ومنها أصل شرعية القياس; إذ لا معنى له إلا جعل الخاص الصيغة عام الصيغة في المعنى ، وهو معنى متفق عليه ولو لم يكن أخذ الدليل كليا بإطلاق لما ساغ ذلك .
ومنها أن الله تعالى قال : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [ الأحزاب : 37 ] الآية ، فإن نفس التزويج لا صيغة له تقتضي عموما ، أو غيره ولكن الله تعالى بين أنه أمر به نبيه لأجل التأسي ، فقال : لكيلا ولذلك قال : [ ص: 243 ] لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصه الله بأشياء كهبة المرأة نفسها له ، وتحريم نكاح أزواجه من بعده والزيادة على أربع فلذلك لم يخرجه عن شمول الأدلة فيما سوى ذلك المستثنى فغيره أحق أن تكون الأدلة بالنسبة إليه مقصودة العموم ، وإن لم يكن لها صيغ عموم ، وهكذا الصيغ المطلقة تجري في الحكم مجرى العامة ، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بقوله ، وفعله فالقول كقوله : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " ، وقوله في قضايا خاصة سئل فيها : أهي لنا [ ص: 244 ] خاصة أم للناس عامة ؟ : بل للناس عامة كما في قضية الذي نزلت فيه [ ص: 245 ] وأقم الصلاة طرفي النهار [ هود : 114 ] ، وأشباهها ، وقد جعل نفسه - عليه الصلاة والسلام - قدوة للناس كما ظهر في حديث الإصباح جنبا ، وهو يريد أن يصوم ، والغسل من التقاء الختانين .
وقوله : إني لأنسى ، أو أنسى لأسن ، وقوله : صلوا كما رأيتموني أصلي [ ص: 246 ] وخذوا عني مناسككم ، وهو كثير .
المسألة العاشرة
الأدلة الشرعية ضربان :
أحدهما : أن يكون على طريقة البرهان العقلي فيستدل به على المطلوب الذي جعل دليلا عليه ، وكأنه تعليم للأمة كيف يستدلون على المخالفين ، وهو في أول الأمر موضوع لذلك ، ويدخل هنا جميع البراهين العقلية ، وما جرى مجراها كقوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء : 22 ] ، وقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ] ، وقوله : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته [ فصلت : 44 ] ، وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم [ يس : 81 ] ، وقوله : قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب [ البقرة : 258 ] ، وقوله : الله الذي خلقكم ثم رزقكم إلى قوله : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء [ الروم : 40 ] ، وهذا الضرب يستدل به على الموالف والمخالف; لأنه أمر معلوم عند [ ص: 248 ] من له عقل ، فلا يقتصر به على الموافق في النحلة .
والثاني : مبني على الموافقة في النحلة ، وذلك الأدلة الدالة على الأحكام التكليفية كدلالة الأوامر والنواهي على الطلب من المكلف ، ودلالة كتب عليكم القصاص في القتلى [ البقرة : 178 ] ، كتب عليكم الصيام [ البقرة : 183 ] ، أحل لكم ليلة الصيام الرفث [ البقرة : 187 ] ، فإن هذه النصوص وأمثالها لم توضع وضع البراهين ولا أتي بها في محل استدلال ، بل جيء بها قضايا يعمل بمقتضاها مسلمة متلقاة بالقبول ، وإنما برهانها في الحقيقة المعجزة الدالة على صدق الرسول الآتي بها ، فإذا ثبت برهان المعجزة ثبت الصدق ، وإذا ثبت الصدق ثبت التكليف على المكلف .
فالعالم إذا استدل بالضرب الأول أخذ الدليل إنشائيا كأنه هو واضعه ، وإذا استدل بالضرب الثاني : أخذه معنى مسلما لفهم مقتضاه إلزاما والتزاما ، فإذا أطلق لفظ الدليل على الضربين فهو إطلاق بنوع من اشتراك اللفظ; لأن الدليل بالمعنى الأول خلافه بالمعنى الثاني ، فهو بالمعنى الأول جار على الاصطلاح المشهور عند العلماء ، وبالمعنى الثاني نتيجة أنتجتها المعجزة فصارت قولا مقبولا فقط .
[ ص: 249 ] المسألة الحادية عشرة
إذا كان الدليل على حقيقته في اللفظ لم يستدل به على المعنى المجازى إلا على القول بتعميم اللفظ المشترك بشرط أن يكون ذلك المعنى مستعملا عند العرب في مثل ذلك اللفظ ، وإلا فلا .
فمثال ذلك مع وجود الشرط قال تعالى : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي [ يونس : 31 ] فذهب جماعة إلى أن المراد بالحياة والموت ما هو حقيقي كإخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة ، وبالعكس ، وأشباه ذلك مما يرجع إلى معناه ، وذهب قوم إلى تفسير الآية بالموت والحياة المجازيين المستعملين في مثل قوله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه الآية [ الأنعام : 122 ] وربما ادعى قوم أن الجميع مراد بناء على القول بتعميم اللفظ المشترك واستعمال اللفظ في حقيقته ، ومجازه ، ولهذا الأصل أمثلة كثيرة .
[ ص: 250 ] ومثال ما تخلف فيه الشرط قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا [ النساء : 43 ] .
فالمفسرون هنا على أن المراد بالسكر ما هو الحقيقة ، أو سكر النوم ، وهو مجاز فيه مستعمل ، وأن الجنابة والغسل منها على حقيقته فلو فسر على أن السكر هو سكر الغفلة والشهوة ، وحب الدنيا المانع من قبول العبادة في اعتبار التقوى كما منع سكر الشراب من الجواز في صلب الفقه ، وأن الجنابة المراد بها التضمخ بدنس الذنوب والاغتسال هو التوبة ، لكان هذا التفسير غير معتبر; لأن العرب لم تستعمل مثله في مثل هذا الموضع ولا عهد لها به ، لأنها لا تفهم من الجنابة والاغتسال إلا الحقيقة ، ومثله قول من زعم أن النعلين في قوله تعالى : فاخلع نعليك [ طه : 12 ] إشارة إلى خلع الكونين ، فهذا على ظاهره لا تعرفه العرب لا في حقائقها المستعملة ولا في مجازاتها وربما نقل في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : تداووا ، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء أن فيه إشارة إلى التداوي بالتوبة من أمراض الذنوب وكل ذلك غير [ ص: 251 ] معتبر ، فلا يصح استعمال الأدلة الشرعية في مثله ، وأول قاطع فيه أن القرآن أنزل عربيا ، وبلسان العرب ، وكذلك السنة إنما جاءت على ما هو معهود لهم ، وهذا الاستعمال خارج عنه ولهذا المعنى تقرير في موضعه من هذا الكتاب والحمد لله ، فإن نقل في التفسير نحوه عن رجل يعتد به في أهل العلم فالقول فيه مبسوط بعد هذا بحول الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (110)
صـ252 إلى صـ 261
المسألة الثانية عشرة
كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولا به في السلف المتقدمين دائما ، أو أكثريا ، أو لا يكون معمولا به إلا قليلا ، أو في وقت ما ، أو لا يثبت به عمل فهذه ثلاثة أقسام .
أحدها : أن يكون معمولا به دائما ، أو أكثريا ، فلا إشكال في الاستدلال به ولا في العمل على وفقه ، وهي السنة المتبعة والطريق المستقيم كان الدليل مما يقتضي إيجابا ، أو ندبا ، أو غير ذلك من الأحكام كفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله : في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل ، والزكاة بشروطها والضحايا والعقيقة والنكاح والطلاق والبيوع ، وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة ، وبينها - عليه الصلاة والسلام - بقوله ، أو فعله ، أو إقراره ، ووقع فعله ، أو فعل صحابته معه ، أو بعده على وفق ذلك دائما ، أو أكثريا ، وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه ، فلا إشكال في صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق فمن خالف ذلك فلم يعمل به على حسب ما عمل به الأولون جرى فيه ما تقدم في كتاب الأحكام من اعتبار الكلية والجزئية ، فلا معنى للإعادة .
والثاني : أن لا يقع العمل به إلا قليلا ، أو في وقت من الأوقات ، أو حال [ ص: 253 ] من الأحوال ، ووقع إيثار غيره والعمل به دائما ، أو أكثريا فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة ، وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلا فيجب التثبت فيه ، وفي العمل على وفقه ، والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر ، فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل إما أن يكون لمعنى شرعي ، أو لغير معنى شرعي ، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي ، فلا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به ، وإذا كان كذلك ، فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه ، وإن لم يكن معارضا في الحقيقة ، فلا بد من تحري ما تحروا ، وموافقة ما داوموا عليه .
وأيضا فإن فرض أن هذا المنقول الذي قل العمل به مع ما كثر العمل به [ ص: 254 ] يقتضيان التخيير فعملهم إذا حقق النظر فيه لا يقتضي مطلق التخيير ، بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى في الجملة ، وإن كان العمل الواقع على وفق الآخر لا حرج فيه كما نقول : في المباح مع المندوب إن وضعهما بحسب فعل المكلف يشبه المخير فيه; إذ لا حرج في ترك المندوب على الجملة فصار المكلف كالمخير فيهما لكنه في الحقيقة ليس كذلك ، بل المندوب أولى أن يعمل به من المباح في الجملة فكذلك ما نحن فيه .
وإلى هذا ، فقد ذكر أهل الأصول أن قضايا الأعيان لا تكون بمجردها حجة ما لم يعضدها دليل آخر لاحتمالها في أنفسها ، وإمكان أن لا تكون مخالفة لما عليه العمل المستمر ، ومن ذلك في كتاب الأحكام ، وما بعده ، فإذا كان كذلك ترجح العمل على خلاف ذلك القليل ولهذا القسم أمثلة كثيرة ولكنها على ضربين .
أحدهما : أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببا للقلة حتى إذا عدم السبب عدم المسبب وله مواضع كوقوعه بيانا لحدود حدت ، [ ص: 255 ] أو أوقات عينت ، أو نحو ذلك .
كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين ، وبيان رسول الله [ ص: 256 ] صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن وقت الصلاة فقال : صل معنا هذين اليومين فصلاته في اليوم في أواخر الأوقات وقع موقع البيان لآخر الوقت الاختياري الذي لا يتعدى ، ثم لم يزل مثابرا على أوائل الأوقات إلا عند عارض كالإبراد في شدة الحر والجمع بين الصلاتين في السفر ، وأشباه ذلك .
[ ص: 257 ] وكذلك قوله : من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ، فقد أدرك الصبح إلخ بيان لأوقات الأعذار لا مطلقا فلذلك لم يقع العمل عليه في حال الاختيار ، ومن أجل ذلك يفهم أن قوله - عليه الصلاة والسلام - : أسفروا بالفجر مرجوح بالنسبة إلى العمل على وفقه ، وإن لم يصح فالأمر [ ص: 258 ] واضح ، وبه أيضا يفهم وجه إنكار أبي مسعود الأنصاري على المغيرة بن شعبة تأخير الصلاة إلى آخر وقتها ، وإنكار عروة بن الزبير على عمر بن عبد العزيز كذلك واحتجاج عروة بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر ولفظ كان يفعل يقتضي الكثرة [ ص: 259 ] بحسب العرف فكأنه احتج عليه في مخالفة ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما احتج أيضا أبو مسعود على المغيرة بأن جبريل نزل فصلى إلى أن قال : بهذا أمرت ، وكذلك قول عمر بن الخطاب للداخل للمسجد يوم الجمعة ، وهو على المنبر أية ساعة هذه ، وأشباهه .
وكما جاء في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ، ثم ترك ذلك [ ص: 260 ] مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ولم يعد إلى ذلك هو ولا أبو بكر حتى جاءت خلافة عمر بن الخطاب فعمل بذلك لزوال علة الإيجاب ، ثم نبه على أن القيام في آخر الليل أفضل من ذلك فلأجل ذلك كان كبار السلف من الصحابة والتابعين ينصرفون بعد صلاة العشاء إلى بيوتهم ولا يقومون مع الإمام واستحبه مالك لمن قدر عليه .
وإلى هذا الأصل ردت عائشة ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإدامة على صلاة الضحى فعملت بها لزوال العلة بموته فقالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط ، وإني لأسبحها .
[ ص: 261 ] وفي رواية : وإني لأسبحها ، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل ، وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم .
وكانت تصلي الضحى ثماني ركعات ، ثم تقول لو نشر لي أبواي ما تركتها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (111)
صـ262 إلى صـ 272
فإذا بنينا على ما فهمت من ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للمداومة على الضحى ، [ ص: 262 ] فلا حرج على من فعلها .
ونظير ذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يواصل الصيام ، ثم نهى عن الوصال وفهم الصحابة من ذلك عائشة ، وغيرها أن النهي للرفق فواصلوا ولم يواصلوا كلهم ، وإنما واصل منهم جماعة كان لهم قوة على الوصال ولم يتخوفوا عاقبته من الضعف عن القيام بالواجبات .
وأمثلة هذا الضرب كثيرة ، وحكمه الذي ينبغي فيه الموافقة للعمل الغالب كائنا ما كان ، وترك القليل ، أو تقليله حسبما فعلوه أما فيما كان تعريفا بحد ، وما أشبهه ، فقد استمر العمل الأول على ما هو الأولى فكذلك يكون بالنسبة إلى [ ص: 263 ] ما جاء بعد موافقته لهم على ذلك ، وأما غيره فكذلك أيضا ، ويظهر لك بالنظر في الأمثلة المذكورة .
فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ، ثم تركه بإطلاق مخافة التشريع يوجد مثله بعد موته ، وذلك بالنسبة إلى الأئمة والعلماء والفضلاء المقتدى بهم ، فإن هؤلاء منتصبون; لأن يقتدى بهم فيما يفعلون ، وفي باب البيان من هذا الكتاب لهذا بيان فيوشك أن يعتقد الجاهل بالفعل إذا رأى العالم مداوما عليه أنه واجب ، وسد الذرائع مطلوب مشروع ، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع ، وفي هذا الكتاب له ذكر اللهم إلا أن يعمل به الصحابة كما في قيام رمضان ، فلا بأس ، وسنتهم سنة ماضية ، وقد حفظ الله فيها هذا المحظور الذي هو ظن الوجوب مع أنهم لم يجتمعوا على إعماله والمداومة عليه إلا وهم يرون أن القيام في البيوت أفضل ، ويتحرونه أيضا فكان على قولهم ، وعملهم القيام في البيوت أولى ولذلك جعل بعض الفقهاء القيام في المساجد أولى لمن لم يستظهر القرآن ، أو لمن لا يقوى إلا بالتأسي فكانت أولويته لعذر كالرخصة ، ومنهم من يطلق القول بأن البيوت أولى فعلى كل [ ص: 264 ] تقدير ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو المقدم ، وما رآه السلف الصالح فسنة أيضا ولذلك يقول بعضهم لا ينبغي تعطيل المساجد عنها جملة; لأنها مخالفة لما استمر عليه العمل في الصحابة .
وأما صلاة الضحى فشهادة عائشة بأنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها قط دليل على قلة عمله بها ، ثم الصحابة لم ينقل عنهم عموم العمل بها ، وإنما داوم من داوم عليها منهم بمكان لا يتأسى بهم فيه كالبيوت عملا بقاعدة الدوام على الأعمال ولأن عائشة فهمت أنه لولا خوف الإيجاب لداوم عليها ، وهذا أيضا موجود في عمل المقتدى بهم إلا أن ضميمة إخفائها يصد عن الاقتداء .
ومن هنا لم تشرع الجماعة في النوافل بإطلاق ، بل في بعض مؤكداتها كالعيدين والخسوف ، ونحوها ، وما سوى ذلك ، فقد بين - عليه الصلاة والسلام - أن النوافل في البيوت أفضل حتى جعلها في ظاهر لفظ الحديث أفضل من [ ص: 265 ] صلاتها في مسجده الذي هو أفضل البقاع التي يصلى فيها فلذلك صلى - عليه الصلاة والسلام - في بيت مليكة ركعتين في جماعة وصلى بابن عباس في بيت خالته ميمونة بالليل جماعة ولم يظهر ذلك في الناس ولا أمرهم به ولا شهره فيهم ولا أكثر من ذلك ، بل كان عامة عمله في النوافل على حال الانفراد فدلت هذه القرائن كلها مع ما انضاف إليها من أن ذلك أيضا لم يشتهر في السلف الصالح ولا واظبوا على العمل به دائما ولا كثيرا أنه مرجوح ، وأن ما كانوا عليه في الأعم الأغلب هو الأولى والأحرى ، وإذا نظرنا إلى أصل الذريعة اشتد الأمر في هذه القضايا فكان العمل على ما داوم عليه الأولون أولى ، وهو الذي أخذ به مالك فيما روي عنه أنه يجيز الجماعة في النافلة [ ص: 266 ] في الرجلين والثلاثة ، ونحو ذلك ، وحيث لا يكون مظنة اشتهار ، وما سوى ذلك فهو يكرهه .
وأما مسألة الوصال ، فإن الأحق والأولى ما كان عليه عامتهم ولم يواصل خاصتهم حتى كانوا في صيامهم كالعامة في تركهم له لما رزقهم الله من القوة التي هي أنموذج من قوله - عليه الصلاة والسلام - : إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني مع أن بعض من كان يسرد الصيام قال : بعد ما ضعف يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأيضا فإن طلب المداومة على الأعمال الصالحة يطلب المكلف بالرفق والقصد خوف الانقطاع ، وقد مر لهذا المعنى تقرير في كتاب الأحكام فكان الأحرى الحمل على التوسط وليس إلا ما كان عليه العامة ، وما واظبوا عليه ، وعلى هذا فاحمل نظائر هذا الضرب .
[ ص: 267 ] والضرب الثاني : ما كان على خلاف ذلك ولكنه يأتي على وجوه .
منها أن يكون محتملا في نفسه فيختلفوا فيه بحسب ما يقوى عند المجتهد فيه ، أو يختلف في أصله والذي هو أبرأ للعهدة ، وأبلغ في الاحتياط تركه والعمل على وفق الأعم الأغلب كقيام الرجل للرجل إكراما له ، وتعظيما ، فإن العمل المتصل تركه ، فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل عليهم ، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان لنقل حتى روي عن عمر بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس ، فقال : إن تقوموا [ ص: 268 ] نقم ، وإن تقعدوا نقعد ، وإنما يقوم الناس لرب العالمين فقيامه صلى الله عليه وسلم لجعفر ابن عمه ، وقوله قوموا لسيدكم إن حملناه على ظاهره فالأولى خلافه لما تقدم ، وإن نظرنا فيه وجدناه محتملا أن يكون القيام على وجه الاحترام والتعظيم أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق يجده القائم للمقوم [ ص: 269 ] له ، أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود ، أو للإعانة على معنى من المعاني ، أو لغير ذلك مما يحتمل .
وإذا احتمل الموضع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر لإمكان أن يكون هذا العمل القليل غير معارض له فنحن في اتباع العمل المستمر على بينة ، وبراءة ذمة باتفاق ، وإن رجعنا إلى هذا المحتمل لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجها للتمسك إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر ، وذلك لا يقوى قوة معارضه .
ومثل ذلك قصة مالك مع سفيان في المعانقة ، فإن مالكا قال له : كان ذلك خاصا بجعفر فقال سفيان ما يخصه يخصنا ، وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين . فيمكن أن يكون مالك عمل في المعانقة بناء على هذا الأصل فجعل معانقة النبي - عليه الصلاة والسلام - أمرا خاصا أي ليس عليه العمل فالذي ينبغي وقفه على ما جرى فيه .
وكذلك تقبيل اليد إن فرضنا ، أو سلمنا صحة ما روي فيه ، فإنه لم يقع [ ص: 270 ] تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نادرا ، ثم لم يستمر فيه عمل إلا الترك من الصحابة والتابعين فدل على مرجوحيته .
ومن ذلك سجود الشكر إن فرضنا ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يداوم عليه مع كثرة البشائر التي توالت عليه والنعم التي أفرغت عليه إفراغا فلم ينقل عنه مواظبة على ذلك ولا جاء عن عامة الصحابة منه شيء إلا في الندرة مثل كعب بن مالك ؛ إذ نزلت توبته ، فكان العمل على وفقه تركا للعمل على وفق العامة منهم .
ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل مقدما على الأحاديث; إذ كان إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر ، ويترك ما سوى ذلك ، وإن جاء فيه أحاديث ، وكان ممن أدرك التابعين وراقب [ ص: 271 ] أعمالهم ، وكان العمل المستمر فيهم مأخوذا عن العمل المستمر في الصحابة ، ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو في قوة المستمر .
وقد قيل لمالك : إن قوما يقولون إن التشهد فرض ، فقال : أما كان أحد يعرف التشهد ؟ فأشار إلى الإنكار عليه بأن مذهبهم كالمبتدع الذي جاء بخلاف ما عليه من تقدم .
وسأله أبو يوسف عن الأذان فقال مالك : وما حاجتك إلى ذلك ؟ فعجبا من فقيه يسأل عن الأذان ، ثم قال له مالك : وكيف الأذان عندكم ؟ فذكر مذهبهم فيه ، فقال من أين لكم هذا ؟ فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه أن يؤذن لهم فأذن لهم كما ذكر عنهم ، فقال له مالك : ما أدري ما أذان يوم ؟ وما صلاة يوم ؟ هذا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وولده من بعده يؤذنون في حياته ، وعند قبره ، وبحضرة الخلفاء الراشدين بعده .
فأشار مالك إلى أن ما جرى عليه العمل ، وثبت مستمرا أثبت في الاتباع ، وأولى أن يرجع إليه .
وقد بين في العتبية أصلا لهذا المعنى عظيما يجل موقعه عند من نظر إلى مغزاه ، وذلك أنه سئل عن الرجل يأتي إليه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا فقال لا يفعل ليس مما مضى من أمر الناس قيل : له إن أبا بكر الصديق [ ص: 272 ] فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا ، أفسمعت ذلك ؟ قال : ما سمعت ذلك ، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر ، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم نسمع له خلافا ، ثم قال : قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المسلمين بعده أفسمعت أن أحدا منهم سجد ؟ إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك ، فإنه لو كان لذكر ; لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم ، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجماع إذا جاءك الأمر لا تعرفه فدعه .
هذا ما قال ، وهو واضح في أن العمل العام هو المعتمد على أي وجه كان ، وفي أي محل وقع ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (112)
صـ273 إلى صـ 286
ومنها أن يكون هذا القليل خاصا بزمانه ، أو بصاحبه الذي عمل به ، أو خاصا بحال من الأحوال ، فلا يكون فيه حجة على العمل به في غير ما تقيد به كما قالوا في مسحه - عليه الصلاة والسلام - على ناصيته ، وعلى العمامة في الوضوء أنه كان به مرض ، وكذلك نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن ادخار لحوم الأضاحي [ ص: 273 ] بعد ثلاث بناء على أن إذنه بعد ذلك لم يكن نسخا ، وهو قوله : إنما نهيتكم لأجل الدافة .
ومنها أن يكون مما فعل فلتة فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به ، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره ولا يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأذن فيه ابتداء لأحد ، فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي - عليه الصلاة والسلام - في أمر فعمل فيه ، ثم رأى أن قد خان الله ورسوله فربط نفسه بسارية من سواري المسجد ، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - عليه الصلاة والسلام - : أما إنه لو جاءني لاستغفرت له ، وتركه كذلك حتى حكم الله فيه .
[ ص: 274 ] فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دواما أما الابتداء فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما دواما ، فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه ، وهذا خاص بزمانه; إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي ، وقد انقطع بعده ، فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينتظر الحكم فيه .
وأيضا فإنه لم يؤثر عن ذلك الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله لا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما بعده ، فإذا العمل بمثله أشد غررا; إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له ولو كان قبله تشريع لكان استمرار العمل بخلافه كافيا في مرجوحيته .
ومنها أن يكون العمل القليل رأيا لبعض الصحابة لم يتابع عليه; إذ كان في زمانه - عليه الصلاة والسلام - ولم يعلم به فيجيزه ، أو يمنعه; لأنه من الأمور التعبدية البعيدة عن الاجتهاد كما روي عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بردا ، وهو صائم في رمضان فقيل له : أتأكل البرد ، وأنت صائم ، فقال : " إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا ، وإنه ليس بطعام ولا شراب " .
قال الطحاوي : ولعل ذلك من فعله لم يقف النبي - عليه الصلاة والسلام - [ ص: 275 ] عليه فيعلمه الواجب عليه فيه . قال : وقد كان مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير ذلك عمر شيئا; إذ لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ينكره .
فكذلك ما روي عن أبي طلحة قال : والذي كان من ذلك ما روي عن رفاعة بن رافع قال : كنت عن يمين عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل فقال زيد بن ثابت يفتي الناس في الغسل من الجنابة برأيه ، فقال أعجل به علي فجاء زيد فقال عمر قد بلغ من أمرك أن تفتي الناس بالغسل من الجنابة في مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - برأيك ، فقال زيد والله يا أمير المؤمنين ما أفتيت برأيي ولكني سمعت من أعمامي شيئا فقلت به ، فقال من أي أعمامك فقال من أبي بن كعب ، وأبي أيوب ورفاعة بن رافع فالتفت إلي عمر فقال ما يقول هذا الفتى ، فقلت إنا كنا نفعله على عهد رسول الله [ ص: 276 ] صلى الله عليه وسلم ، ثم لا نغتسل قال : أفسألتم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فقلت : لا ، ثم قال في آخر الحديث : لئن أخبرت بأحد يفعله ، ثم لا يغتسل لأنهكته عقوبة .
فهذا أيضا من ذلك القبيل ، والشاهد له أنه لم يعمل به ولا استمر من عمل الناس على حال فكفى بمثله حجة على الترك .
ومنها إمكان أن يكون عمل به قليلا ، ثم نسخ فترك العمل به جملة ، فلا يكون حجة بإطلاق فكان من الواجب في مثله الوقوف مع الأمر العام .
ومثاله حديث الصيام عن الميت ، فإنه لم ينقل استمرار عمل به ولا كثرة ، فإن غالب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس ، وهما أول من [ ص: 277 ] خالفاه فروي عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت ، وعليها صوم ، فقالت : أطعموا عنها . وعن ابن عباس أنه قال : لا يصوم أحد عن أحد .
قال مالك : ولم أسمع أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من التابعين بالمدينة أمروا أحدا أن يصوم عن أحد ، ولا يصلي أحد عن أحد ، وإنما يفعل ذلك كل أحد عن نفسه .
[ ص: 278 ] فهذا إخبار بترك العمل دائما في معظم الصحابة ، ومن يليهم ، وهو الذي عول عليه في المسألة كما أنه عول عليه في جملة عمله .
وقد سئل عن سجود القرآن الذي في المفصل ، وقيل له : أتسجد أنت فيه فقال : لا ، وقيل له : إنما ذكرنا هذا لك لحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال : أحب الأحاديث إلي ما اجتمع الناس عليه ، وهذا مما لم يجتمع الناس عليه ، وإنما هو حديث من حديث الناس ، وأعظم من ذلك القرآن يقول الله : منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] فالقرآن أعظم خطرا ، وفيه الناسخ والمنسوخ فكيف بالأحاديث .
وهذا مما لم يجتمع عليه ، وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه الناسخ للآخر; إذ كانوا إنما يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 279 ] وروي عن ابن شهاب أنه قال : أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه ، وهذا صحيح ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر والحمد لله .
وثم أقسام أخر يستدل على الحكم فيها بما تقدم ذكره .
وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين ، فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل إلا قليلا ، وعند الحاجة ، ومس الضرورة إن اقتضى معنى التخيير ولم يخف نسخ العمل ، أو عدم صحة في الدليل .
[ ص: 280 ] أو احتمالا لا ينهض به الدليل أن يكون حجة ، أو ما أشبه ذلك أما لو عمل بالقليل دائما للزمه أمور :
أحدها : المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها ، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها .
والثاني : استلزام ترك ما داوموا عليه; إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف هذه الآثار فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه .
والثالث : أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه; إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به كان أشد .
الحذر الحذر من مخالفة الأولين فلو كان ثم فضل ما لكان الأولون أحق به والله المستعان .
والقسم الثالث : أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهو أشد مما قبله والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى ، وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة ; إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ، ثم يفهمه هؤلاء فعمل الأولين - كيف كان - مصادم لمقتضى هذا المفهوم ، ومعارض له ولو كان ترك العمل ، فما عمل به [ ص: 281 ] المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة فما كانوا عليه من فعل ، أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر ، وهو الهدى وليس ثم إلا صواب أو خطأ ، فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ ، وهذا كاف ، والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى .
ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي أنه الخليفة بعده; لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه ، أو عدم اعتباره ; لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ ، وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونهما مذاهبهم ، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ، ويظنون أنهم على شيء .
ولذلك أمثلة كثيرة كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو شهير [ ص: 282 ] في النقل عنهم ، وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله ، واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى : في أي صورة ما شاء ركبك [ الانفطار : 8 ] .
وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر ، ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين ، وحاش لله من ذلك .
ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة ، وذكر الله برفع الأصوات ، وبهيئة الاجتماع بقوله - عليه الصلاة والسلام - : ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه فيما بينهم الحديث . والحديث الآخر ما اجتمع قوم يذكرون الله . . إلخ ، وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر .
[ ص: 283 ] وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي [ الأنعام : 52 ] الآية ، وقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية [ الأعراف : 55 ] .
وبجهر قوام الليل بالقرآن واستدلالهم على الرقص في المساجد ، وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب ، وقوله عليه الصلاة والسلام لهم : دونكم يا بني أرفدة .
واستدلال كل من اخترع بدعة ، أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ككتب المصحف ، وتصنيف الكتب ، وتدوين الدواوين ، وتضمين الصناع ، وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة فخلطوا ، وغلطوا واتبعوا ما [ ص: 284 ] تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها ، وهو كله خطأ على الدين واتباع لسبيل الملحدين ، فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك ، وعبروا على هذه المسالك إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون ، أو حادوا عن فهمها ، وهذا الأخير هو الصواب ; إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم ولم يفهموا من الأدلة المذكورة ، وما أشبهها إلا ما كانوا عليه ، وهذه المحدثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا إجماعيا على أن هؤلاء في استدلالهم ، وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة .
فيقال لمن استدل بأمثال ذلك : هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين ، أو لم يوجد ؟ فإن زعم أنه لم يوجد ولا بد من ذلك ، فيقال له : أفكانوا غافلين عما تنبهت له ، أو جاهلين به أم لا ؟ ولا يسعه أن يقول بهذا ; لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه ، وخرق للإجماع ، وإن قال : إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها قيل له فما الذي حال بينهم ، وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المتقول ، والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه .
فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين ، وإذا كان مسكوتا عنه ، ووجد له في الأدلة مساغ ، فلا مخالفة ، إنما [ ص: 285 ] المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده ، وهو البدعة المنكرة قيل له : بل هو مخالف ; لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين :
أحدهما : أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه ، فلا سبيل إلى مخالفته ; لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له فمن استلحقه صار مخالفا للسنة حسبما تبين في كتاب المقاصد .
والثاني : أن لا توجد مظنة العمل به ، ثم توجد فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله ، وهي المصالح المرسلة ، وهي من أصول الشريعة المبني عليها ; إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع حسبما تبين في علم الأصول ، فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع .
وأيضا فالمصالح المرسلة عند القائل بها لا تدخل في التعبدات ألبتة ، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة ، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية ولذلك تجد مالكا ، وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين فلذلك نهى عن أشياء ، وكره أشياء ، وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل ، فلا مزيد عليه ، وقد تمهد أيضا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه لم يكن حجة في غيره .
[ ص: 286 ] فالحاصل أن الأمر ، أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم ، فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه ، وذلك كله مبين في باب الأوامر والنواهي من هذا الكتاب ، لكن على وجه آخر ، فإذا ليس ما انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه ولا من قبيل ما أصله المصالح المرسلة فلم يبق إذا أن يكون إلا من قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين ، وكفى بذلك مزلة قدم ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (113)
صـ287 إلى صـ 296
فصل
واعلم أن المخالفة لعمل الأولين فيما تقدم ليست على رتبة واحدة ، بل فيها ما هو خفيف ، ومنها ما هو شديد ، وتفصيل القول في ذلك يستدعي طولا فلنكله إلى نظر المجتهدين ولكن المخالف على ضربين :
أحدهما : أن يكون من أهل الاجتهاد ، فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع أولا ، فإن كان كذلك ، فلا حرج عليه ، وهو مأجور على كل حال ، وإن لم يعط الاجتهاد حقه وقصر فيه فهو آثم حسبما بينه أهل الأصول .
والثاني : أن لا يكون من أهل الاجتهاد ، وإنما أدخل نفسه فيه غلطا ، أو [ ص: 287 ] مغالطة ; إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة ولا رأوه أهلا للدخول معهم فهذا مذموم .
وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم ; لأن المجتهدين ، وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها لا يختلفون إلا فيما اختلف فيه الأولون أو في مسألة من موارد الظنون لا ذكر لهم فيها فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل والثاني : يلزم منه الجريان على ما ورد فيه عمل .
أما القسم الثاني : فإن أهله لا يعرفون ما في موافقة العمل من أوجه الرجحان ، فإن موافقته شاهد للدليل الذي استدل به ، ومصدق له على نحو ما يصدقه الإجماع ، فإنه نوع من الإجماع فعلي ، بخلاف ما إذا خالفه ، فإن المخالفة موهنة له ، أو مكذبة .
[ ص: 288 ] وأيضا فإن العمل مخلص للأدلة من شوائب المحامل المقدرة الموهنة ; لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة لا يستقيم إعمال الدليل دونها والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها حتما ، ومعين لناسخها من منسوخها ، ومبين لمجملها إلى غير ذلك فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم ولذلك اعتمده مالك بن أنس ، ومن قال بقوله ، وقد تقدم منه أمثلة ، وأيضا فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف ، وهو مشاهد معنى ، ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحدا من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة ، وقد مر من ذلك أمثلة ، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة ، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة .
وانظر في مسألة التداوي من الخمار في درة الغواص للحريري ، وأشباهها ، بل قد استدل بعض [ ص: 289 ] النصارى على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن ، ثم تحيل فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد وتعالى عما يقولون علوا كبيرا [ الإسراء : 43 ] .
فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون ، وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب ، وأقوم في العلم والعمل ولهذا الأمر سبب نذكره بحول الله على الاختصار ، وهي .
[ ص: 290 ] المسألة الثالثة عشرة
فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين :
أحدهما : أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم ، أما قبل وقوعها فبأن توقع على وفقه ، وأما بعد وقوعها فليتلافى الأمر ، ويستدرك الخطأ الواقع فيها بحيث يغلب على الظن ، أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع ، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة .
والثاني : أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة ، أن يظهر في بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحر لقصد الشارع ، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه ، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة .
ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله [ آل عمران : 7 ] فليس مقصودهم الاقتباس منها ، وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم ; إذ هو السابق المعتبر ، وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم ، والراسخون في العلم ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة فلذلك يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، [ ص: 291 ] ويقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ آل عمران : 8 ] فيتبرءون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم ، وهو أصل الشريعة ; لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله ، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا ، وتفصيل هذه الجملة قد مر منه في كتاب المقاصد ، وسيأتي تمامه في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى .
[ ص: 292 ] المسألة الرابعة عشرة
اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين :
أحدهما : الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض ، وهو الواقع على المحل مجردا عن التوابع والإضافات كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة ، وسن النكاح ، وندب الصدقات غير الزكاة ، وما أشبه ذلك .
والثاني : الاقتضاء التبعي ، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء ، ووجوبه على من خشي العنت ، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو ، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام ، أو لمن يدافعه الأخبثان ، وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي .
فإذا تبين المعنى المراد فهل يصح الاقتصار في الاستدلال عن الدليل المقتضي للحكم الأصلي أم لا بد من اعتبار التوابع والإضافات حتى يتقيد دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها هذا مما فيه نظر وتفصيل .
فلا يخلو أن يأخذ المستدل الدليل على الحكم مفردا مجردا عن اعتبار الواقع أولا ، فإن أخذه مجردا صح الاستدلال ، وإن أخذه بقيد الوقوع ، فلا يصح ، وبيان ذلك أن الدليل المأخوذ بقيد الوقوع معناه التنزيل على المناط [ ص: 293 ] المعين ، وتعيين المناط موجب في كثير من النوازل إلى ضمائم وتقييدات لا يشعر المكلف بها عند عدم التعيين ، وإذا لم يشعر بها لم يلزم بيانها ; إذ ليس موضع الحاجة بخلاف [ ما ] إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الاستدلال ، فلا بد من اعتباره .
فقول الله تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين [ النساء : 95 ] الآية لما نزلت أولا كانت مقررة لحكم أصلي منزل على مناط أصلي من القدرة ، وإمكان الامتثال ، وهو السابق فلم ينزل حكم أولي الضرر ولما اشتبه ذو الضرر ظن أن عموم نفي الاستواء ، يستوي فيه ذو الضرر وغيره ، فخاف من ذلك وسأل الرخصة ، فنزل : غير أولي الضرر .
ولما قال عليه الصلاة والسلام من نوقش الحساب عذب بناء على [ ص: 294 ] تأصيل قاعدة أخروية سألت عائشة عن معنى قول الله عز وجل فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] ; لأنه يشكل دخوله تحت عموم الحديث فبين - عليه الصلاة والسلام - أن ذلك العرض لا الحساب المناقش فيه .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه إلخ فسألته عائشة عن هذه الكراهية هل هي الطبيعية أم لا فأخبرها أن لا ، وتبين مناط الكراهية المرادة ، وقال الله تعالى : وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] تنزيلا على المناط المعتاد فلما عرض مناط آخر خارج عن المعتاد ، وهو المرض بينه - عليه الصلاة والسلام - بقوله وفعله حين جحش شقه .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : أنا وكافل اليتيم كهاتين ، ثم لما تعين [ ص: 295 ] مناط فيه نظر ، قال - عليه الصلاة والسلام - لأبي ذر : لا تولين مال يتيم .
والأمثلة في هذا المعنى لا تحصى واستقراؤها من الشريعة يفيد العلم بصحة هذا التفصيل فلو فرض نزول حكم عام ، ثم أتى كل من سمعه يتثبت في مقتضى ذلك العام بالنسبة إليه لكان الجواب على وفق هذه القاعدة نظير وصيته - عليه الصلاة والسلام - لبعض أصحابه بشيء ، ووصيته لبعض بأمر آخر كما قال : قل ربي الله ، ثم استقم ، وقال لآخر : لا تغضب ، وكما قبل من [ ص: 296 ] بعضهم جميع ماله ، ومن بعضهم شطره ورد على بعضهم ما أتى به بعد تحريضه على الإنفاق في سبيل الله إلى سائر الأمثال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (114)
صـ297 إلى صـ 311
فصل
ولتعين المناط مواضع .
منها الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام كما إذا نزلت آية ، أو جاء حديث على سبب ، فإن الدليل يأتي بحسبه ، وعلى وفاق البيان التمام فيه ، فقد قال تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم الآية [ البقرة : 187 ] [ ص: 297 ] إذ كان ناس يختانون أنفسهم فجاءت الآية تبيح لهم ما كان ممنوعا قبل حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت خيانة منهم لأنفسهم .
وقوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] الآية ; إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا ، وما أشبه ذلك .
وفي الحديث : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله . . . الحديث ، أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب ، وقال : ويل للأعقاب من النار مع أن غير الأعقاب يساويها حكما لكنه كان السبب في الحديث التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين ، ومن ذلك كثير .
ومنها أن يتوهم بعض المناطات داخلا في حكم عام ، أو خارجا عنه ولا يكون كذلك في الحكم فمثال الأول ما تقدم في قوله - عليه الصلاة والسلام - : من نوقش الحساب عذب .
[ ص: 298 ] وقوله : من كره لقاء الله كره الله لقاءه .
ومثال الثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام - للمصلي : ما منعك أن تجيبني ; إذ دعوتك ، وقد جاء فيما نزل علي استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم الآية [ الأنفال : 24 ] ؟ .
أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، إذ كان إنما ثبت على صلاته لاعتقاده أن نازلته المعينة لا يتناولها معنى الآية .
ومنها أن يقع اللفظ المخاطب به مجملا ، بحيث لا يفهم المقصود به ابتداء ، فيفتقر المكلف عند العمل إلى بيانه ، وهذا الإجمال قد يقع لعامة المكلفين ، وقد يقع لبعضهم دون بعض ، فمثال العام قوله تعالى : وأنفقوا من ما رزقناكم [ المنافقون : 10 ] ، فإنه لا يفهم المقصود به من أول وهلة فجاءت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأفعاله مبينة لذلك .
ومثال الخاص قصة عدي بن حاتم في فهم الخيط الأبيض من [ ص: 299 ] الخيط الأسود حتى نزل بسببه من الفجر [ البقرة : 187 ] ، وقصته في معنى قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ التوبة : 31 ] [ ص: 300 ] وقصة ابن عمر في طلاق زوجته إلى أمثال من ذلك كثيرة .
فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة فأما إن لم يكن ثم تعيين فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع ، ويصح إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل ما لم يتعين ، فلا [ ص: 301 ] بد من اعتبار توابعه ، وعند ذلك نقول : لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع ، فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار المناط المسئول عن حكمه ; لأنه سئل عن مناط معين فأجاب عن مناط غير معين .
لا يقال : إن المعين يتناوله المناط غير المعين ; لأنه فرد من أفراد عام ، أو مقيد من مطلق ; لأنا نقول : ليس الفرض هكذا ، وإنما الكلام على مناط خاص يختلف مع العام لطروء عوارض كما تقدم تمثيله ، فإن فرض عدم اختلافهما فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص ، وما مثل هذا إلا مثل من سأل : هل يجوز بيع الدرهم من سكة كذا بدرهم في وزنه من سكة أخرى ، أو المسكوك بغير المسكوك ، وهو في وزنه ؟
فأجابه المسئول بأن الدرهم بالدرهم سواء بسواء فمن زاد ، أو ازداد ، فقد أربى ، فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل ; إذ له أن يقول : فهل [ ص: 302 ] ما سألتك عنه من قبيل الربا أم لا ؟ أما لو سأله هل يجوز الدرهم بالدرهم ، وهو في وزنه ، وسكته وطيبه ؟ فأجابه كذلك لحصل المقصود ، لكن بالعرض لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان من كل وجه .
فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب بذلك الكلام لكان مصيبا ; لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق فأجابه بمقتضى الأصل ولو فصل له الأمر بحسب الواقع لجاز ، ويحتمل فرض صور كثيرة ، وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط للمسائل ، وبسبب ذلك عظمت أجرام الدواوين ، وكثرت أعداد المسائل غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد سؤاله ، فإن سأل عن مناط غير معين أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي ، وإن سأل عن معين ، فلا بد من اعتباره في الواقع إلى أن يستوفي له ما يحتاج إليه ، ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسنة وجدها على وفق هذا الأصل ، وبالله التوفيق .
[ ص: 303 ] وأما النظر الثاني في عوارض الأدلة فينحصر القول فيه في خمسة فصول .
[ ص: 304 ] [ ص: 305 ] الأول في الإحكام والتشابه .
وله مسائل .
المسألة الأولى
المحكم يطلق بإطلاقين : عام ، وخاص .
فأما الخاص فالذي يراد به خلاف المنسوخ ، وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ سواء علينا أكان ذلك الحكم ناسخا أم لا فيقولون هذه الآية محكمة ، وهذه الآية منسوخة ، وأما العام فالذي يعني به البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره فالمتشابه بالإطلاق الأول هو المنسوخ ، وبالإطلاق الثاني : الذي لا يتبين المراد به من لفظه كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا ، وعلى هذا الثاني : مدارك كلام المفسرين في بيان معنى قول الله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات [ آل عمران : 7 ] .
ويدخل تحت المتشابه والمحكم بالمعنى الثاني ما نبه عليه الحديث [ ص: 306 ] من قول النبي صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات فالبين هو المحكم ، وإن كانت وجوه التشابه تختلف بحسب الآية والحديث فالمعنى واحد ; لأن ذلك راجع إلى فهم المخاطب ، وإذا تؤمل هذا الإطلاق وجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخلة تحت معنى المتشابه كما أن الناسخ ، وما ثبت حكمه والمبين والمؤول والمخصص والمقيد داخلة تحت معنى المحكم .
[ ص: 307 ] المسألة الثانية
التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات ، لكن النظر في مقدار الواقع منه هل هو قليل أم كثير ؟ والثابت من ذلك القلة لا الكثرة لأمور .
أحدها : النص الصريح ، وذلك قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] فقوله في المحكمات : هن أم الكتاب يدل أنها المعظم والجمهور ، وأم الشيء معظمه ، وعامته كما قالوا أم الطريق بمعنى معظمه ، وأم الدماغ بمعنى الجلدة الحاوية له الجامعة لأجزائه ونواحيه والأم أيضا الأصل ولذلك قيل لمكة أم القرى ; لأن الأرض دحيت من تحتها والمعنى يرجع إلى الأول ، فإذا كان كذلك فقوله تعالى : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] إنما يراد بها القليل .
[ ص: 308 ] والثاني : أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا ، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان ، وهدى كقوله تعالى : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين [ آل عمران : 138 ] ، وقوله تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] .
وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس ، والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى ، لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى فدل على أنه ليس بكثير ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها لم يصح القول به ، لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به ، وإقراره كما جاء ، وهذا واضح .
والثالث : الاستقراء ، فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر واتسقت أحكامها وانتظمت أطرافها على وجه واحد كما قال تعالى : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ هود : 1 ] ، وقال تعالى : تلك آيات الكتاب الحكيم [ يونس : 1 ] ، وقال تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها [ الزمر : 23 ] يعني يشبه بعضه بعضا ، ويصدق أوله آخره ، وآخره أوله ، أعني أوله وآخره في النزول .
[ ص: 309 ] فإن قيل : كيف يكون المتشابه قليلا ، وهو كثير جدا على الوجه الذي فسر به آنفا ، فإنه قد دخل فيه من المنسوخ والمجمل والعام والمطلق والمؤول كثير وكل نوع من هذه الأنواع يحتوي على تفاصيل كثيرة ، ويكفيك من ذلك الخبر المنقول عن ابن عباس حيث قال : لا عام إلا مخصص إلا قوله تعالى : والله بكل شيء عليم [ البقرة : 282 ] .
وإذا نظر المتأمل إلى أدلة الشرع على التفصيل مع قواعدها الكلية ألفيت لا تجري على معهود الاطراد فالواجبات من الضروريات أوجبت على حكم الإطلاق والعموم في الظاهر ، ثم جاءت الحاجيات والتكميليات والتحسينيات فقيدتها على وجوه شتى ، وأنحاء لا تنحصر ، وهكذا سائر ما ذكر مع العام .
ثم إنك لا تجد المسائل المتفق عليها من الشريعة بالنسبة إلى ما اختلف فيه إلا القليل ، ومعلوم أن المتفق عليه واضح ، وأن المختلف فيه غير واضح ; لأن مثار الاختلاف إنما هو التشابه يقع في مناطه ، وإلى هذا ، فإن الشريعة مبناها في التكليف على الأمر والنهي ، وقد اختلف فيه أولا في معناه ، ثم في [ ص: 310 ] صيغته ، ثم إذا تعينت له صيغة " افعل " ، أو " لا تفعل " فاختلف في ماذا تقتضيه على أقوال مختلفة فكل ما ينبني على هذا الأصل من فرع متفق عليه ، أو مختلف فيه مختلف فيه أيضا إلى أن يثبت تعيينه إلى جهة بإجماع ، وما أعز ذلك .
وأيضا فإن الأدلة التي يتلقى معناها من الألفاظ لا تتخلص إلا أن تسلم من القوادح العشرة المذكورة في أول الكتاب ، وذلك عسير جدا ، وأما الإجماع فمتنازع فيه أولا ، ثم إذا ثبت ففي ثبوت كونه حجة باتفاق شروط كثيرة جدا إذا تخلف منها شرط لم يكن حجة ، أو اختلف فيه ، ثم إن العموم مختلف فيه ابتداء هل له صيغة موجودة أم لا ، وإذا قلنا بوجودها ، فلا يعمل منها ما يعمل إلا بشروط تشترط ، وأوصاف تعتبر ، وإلا لم يعتبر ، أو اختلف في اعتباره ، وكذلك المطلق مع مقيده .
وأيضا فإذا كان معظم الأدلة غير نصوص ، بل محتملة للتأويل لم يستقر منها للناظر دليل يسلم بإطلاق ، [ ص: 311 ] ثم أخبار الآحاد هي عمدة الشريعة ، وهى أكثر الأدلة ، ويتطرق إليها من جهة الأسانيد ضعف حتى إنها مختلف في كونها حجة أم لا ، وإذا كانت حجة فلها شروط أيضا إن اختلت لم تعمل ، أو اختلف في إعمالها ، ومن جملة ما يقتنص منه الأحكام المفهوم ، وكله مختلف فيه ، فلا مسألة تتفرع عنه متفقا عليه .
ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه على القرى بسبب اختلافهم فيه أولا ، ثم في أصنافه ، ثم في مسالك علله ، ثم في شروط صحته ولا بد مع ذلك أن يسلم من خمسة وعشرين اعتراضا ، وما أبعد هذا من التخلص حتى يصير مقتضاه حكما ظاهرا جليا .
وأيضا فإن كل استدلال شرعي مبني على مقدمتين .
إحداهما شرعية ، وفيها من النظر ما فيها ، ومقدمة نظرية تتعلق بتحقيق المناط وليس كل مناط معلوما بالضرورة ، بل الغالب أنه نظري ، فقد صار غالب أدلة الشرع نظرية ، وقد زعم ابن الجويني أن المسائل النظرية العقلية لا يمكن الاتفاق فيها عادة ، وهو رأي القاضي أيضا والنظرية غير العقلية المحضة أولى أن لا يقع الاتفاق فيها فهذا كله مما يبين لك أن المتشابهات في الشريعة كثيرة جدا بخلاف ما تقدم الاستدلال عليه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (115)
صـ312 إلى صـ 318
فالجواب أن هذا كله لا دليل فيه أما المتشابه بحسب التفسير المذكور [ ص: 312 ] وإن دخل فيه تلك الأنواع كلها التي مدار الأدلة عليها ، فلا تشابه فيها بحسب الواقع ; إذ هي قد فسرت بالعموم المراد به الخصوص قد نصب الدليل على تخصيصه ، وبين المراد به ، وعلى ذلك يدل قول ابن عباس لا عام إلا مخصص فأي تشابه فيه ، وقد حصل بيانه ، ومثله سائر الأنواع ، وإنما يكون متشابها عند عدم بيانه والبرهان قائم على البيان ، وأن الدين قد كمل قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك لا يقتصر ذو الاجتهاد على التمسك بالعام مثلا حتى يبحث عن مخصصه ، وعلى المطلق حتى ينظر هل له مقيد أم لا إذا كان حقيقة البيان مع الجمع بينهما فالعام مع خاصه هو الدليل ، فإن فقد الخاص صار العام مع إرادة الخصوص فيه من قبيل المتشابه وصار ارتفاعه زيغا وانحرافا عن الصواب .
[ ص: 313 ] ولأجل ذلك عدت المعتزلة من أهل الزيغ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ، وقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ الكهف : 29 ] .
وتركوا مبينه ، وهو قوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ التكوير : 29 ] واتبع الخوارج نحو قوله تعالى : إن الحكم إلا لله [ يوسف : 40 ] ، وتركوا مبينه ، وهو قوله : يحكم به ذوا عدل منكم هديا [ المائدة : 95 ] الآية ، وقوله : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : 35 ] واتبع الجبرية نحو قوله : والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] ، وتركوا بيانه ، وهو قوله : جزاء بما كانوا يكسبون [ التوبة : 82 و 95 ] ، وما أشبهه ، وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها ولو جمعوا [ ص: 314 ] بين ذلك ، ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل لوصلوا إلى المقصود ، فإذا ثبت هذا فالبيان مقترن بالمبين ، فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابها وليس بمتشابه في نفسه شرعا ، بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم فضلوا عن الصراط المستقيم ، وبيان هذا المعنى يتقرر بفرض قاعدة ، وهي .
[ ص: 315 ] المسألة الثالثة
وهي أن المتشابه الواقع في الشريعة على ضربين .
أحدهما : حقيقي والآخر إضافي ، وهذا فيما يختص بها نفسها ، وثم ضرب آخر راجع إلى المناط الذي تتنزل عليه الأحكام .
فالأول هو المراد بالآية ، ومعناه راجع إلى أنه لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ولا نصب لنا دليل على المراد منه ، فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة ، وتقصاها وجمع أطرافها لم يجد فيها ما يحكم له معناه ولا ما يدل على مقصوده ، ومغزاه ولا شك في أنه قليل لا كثير ، وعلى ذلك دلت الأدلة السابقة في أول المسألة ولا يكون إلا فيما لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به ، وهذا مذكور في فصل البيان والإجمال ، وفي نحو من هذا نزلت آية آل عمران هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] حين قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 316 ] قال ابن إسحاق : بعد ما ذكر منهم جملة ، ووصف من شأنهم ، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يريد في شأن عيسى يقولون هو الله ; لأنه كان يحيي الموتى ، و يبرئ الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفح فيه فيكون طيرا ، ويقولون هو ولد الله ; لأنه لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه ولد آدم قبله ، ويقولون هو ثالث ثلاثة لقول الله فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا ولو كان واحدا لما قال : إلا فعلت ، وقضيت ، وأمرت ، وخلقت ولكنه هو وعيسى ومريم .
قال : ففي كل ذلك من أمرهم قد نزل القرآن يعني صدر سورة آل عمران إلى قوله : فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [ آل عمران : 64 ] ففي الحكاية مما نحن فيه أنهم ما قدروا الله حق قدره ; إذ قاسوه بالعبيد فنسبوا له الصاحبة والولد ، وأثبتوا للمخلوق مالا يصلح إلا للخالق ، ونفوا عن الخالق القدرة على خلق إنسان من غير أب ، وكان الواجب عليهم الإيمان بآيات الله ، وتنزيهه عما لا يليق به فلم يفعلوا ، بل حكموا على الأمور الإلهية بمقتضى [ ص: 317 ] آرائهم فزاغوا عن الصراط المستقيم .
والثاني : وهو الإضافي ليس بداخل في صريح الآية ، وإن كان في المعنى داخلا فيه ; لأنه لم يصر متشابها من حيث وضع في الشريعة من جهة أنه قد حصل بيانه في نفس الأمر ولكن الناظر قصر في الاجتهاد ، أو زاغ عن طريق البيان اتباعا للهوى ، فلا يصح أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة ، وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير ، أو الجهل بمواقع الأدلة فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه لأنهم إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان فما ظنك بهم مع عدمه فلهذا قيل : إنهم داخلون بالمعنى في حكم الآية .
ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة والخوارج ، وغيرهم ، ومثله ما خرجه مسلم عن سفيان قال : سمعت رجلا يسأل جابر بن يزيد الجعفي عن قوله : فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين [ يوسف : 80 ] فقال جابر : لم يجئ تأويل هذه الآية . قال سفيان : وكذب . قال الحميدي : فقلنا لسفيان : ما أراد بهذا ؟ فقال : إن الرافضة تقول إن عليا في السحاب ، فلا يخرج يعني مع من خرج من ولده حتى ينادي مناد من السماء يريد عليا أنه ينادي - : اخرجوا مع فلان يقول جابر فذا تأويل هذه الآية ، وكذب ، كانت في إخوة يوسف .
فهذه الآية أمرها واضح ، ومعناها ظاهر يدل عليه ما قبل الآية ، وما بعدها كما دل الخاص على معنى العام ، ودل المقيد على معنى المطلق فلما قطع [ ص: 318 ] جابر الآية عما قبلها ، وما بعدها كما قطع غيره الخاص عن العام والمقيد عن المطلق صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه فكان من حقه التوقف لكنه اتبع فيه هواه فزاغ عن معنى الآية .
وأما الثالث فالتشابه فيه ليس بعائد على الأدلة ، وإنما هو عائد على مناط الأدلة فالنهي عن أكل الميتة واضح والإذن في أكل الذكية كذلك ، فإذا اختلطت الميتة بالذكية حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله ، أو تحريمه ، لكن جاء الدليل المقتضي لحكمه في اشتباهه ، وهو الاتقاء حتى يتبين الأمر ، وهو أيضا واضح لا تشابه فيه ، وهكذا سائر ما دخل في هذا النوع مما يكون محل الاشتباه فيه المناط لا نفس الدليل ، فلا مدخل له في المسألة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (116)
صـ319 إلى صـ 329
فصل
فإذا ثبت هذا فلنرجع إلى الجواب عن باقي السؤال فنقول : قد ظهر مما تقدم أن التشابه باعتبار وقوع الأدلة مع ما يعارضها كالعام والخاص ، وما ذكر معه قليل ، وأن ما عد منه غير معدود منه ، وإنما يعد منه التشابه الحقيقي خاصة .
وأما مسائل الخلاف ، وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق ، بل فيها ما هو منها ، وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم [ ص: 319 ] يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبة المحجوب أمره عن العباد كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه ، وأشباه ذلك .
وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم ، وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها ، وهو ظاهر القرآن ; لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل ولا تكليف يتعلق بمعناها ، وما سواها من مسائل الخلاف ليس من أجل تشابه أدلتها ، فإن البرهان قد دل على خلاف ذلك ، بل من جهة نظر المجتهد في مخارجها ، ومناطاتها والمجتهد لا تجب إصابته لما في نفس الأمر ، بل عليه الاجتهاد بمقدار وسعه والأنظار تختلف باختلاف القرائح والتبحر في علم الشريعة فلكل مأخذ يجري عليه وطريق يسلكه بحسبه لا بحسب ما في نفس الأمر فخرج المنصوص من الأدلة عن أن يكون متشابها [ ص: 320 ] بهذا الاعتبار ، وإنما قصاراه أن يصير إلى التشابه الإضافي ، وهو الثاني ، أو إلى التشابه الثالث .
ويدل على ذلك أنك تأخذ كل عالم في نفسه ، وما حصل له من علم الشريعة ، فلا تجد عنده من الأدلة المتشابهة والنصوص المجملة إلا النادر القليل ; لأنه أخذ الشريعة مأخذا اطردت له فيه واستمرت أدلتها على استقامة ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم تشابه أدلتها لتشابهت على أكثر الناس ولم يتخلص منها بالبيان إلا القليل والأمر على ضد ذلك ، وما من مجتهد إلا وهو مقر بوضوح أدلة الشرع ، وإن وقع الخلاف في مسائلها ، ومعترف بأن قوله تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] على ظاهره من غير شك فيه فيستقرئ من هذا إجماعا على أن المتشابه في الشريعة قليل : وإن اعترفوا بكثرة الخلاف .
وأيضا فإن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد في الخلاف أما أولا فلما تقدم من أن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تجمع بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت ، وما ضلت إلا وهى غير معتبرة القول فيما ضلت فيه فخلافها لا يعد خلافا ، وهكذا ما جرى مجراها في الخروج عن الجادة ، وإلى [ ص: 321 ] ذلك ، فإن من الخلاف ما هو راجع في المعنى إلى الوفاق ، وهذا مذكور في كتاب الاجتهاد فسقط بسببه كثير مما يعد في الخلاف ، وإذا روجع ما هنالك تبين منه هذا المقصد ، ووجه آخر وهو أن كثيرا مما ليس بمحتاج إليه في علم الشريعة قد أدخل فيها وصار من مسائلها ولو فرض رفعه من الوجود رأسا لما اختل مما يحتاج إليه في الشريعة شئ بدليل ما كان عليه السلف الصالح في فهمها - دع العرب المحفوظة اللسان كالصحابة ، ومن يليهم من غيرهم - ، بل من ولد بعد ما فسد اللسان فاحتاج إلى علم كلام العرب كمالك والشافعي ، وأبي حنيفة ، ومن قبلهم ، أو بعدهم وأمثالهم ، فلما دخلت تلك الأمور وقع الخلاف بسببها ولو لم تدخل فيها لم يقع ذلك الخلاف .
ومن استقرأ مسائل الشريعة وجد منها في كلام المتأخرين عن تلك الطبقة كثيرا ، وقد مر في المقدمات تنبيه على هذا المعنى ، وفي كتاب الاجتهاد معرفة ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم المعينة له على اجتهاده ، فإذا جمعت هذه الأطراف تبين منها أن المتشابه قليل ، وأن المحكم هو الأمر العام الغالب .
[ ص: 322 ] المسألة الرابعة
التشابه لا يقع في القواعد الكلية ، وإنما يقع في الفروع الجزئية والدليل على ذلك من وجهين .
أحدهما : الاستقراء أن الأمر كذلك .
والثاني : أن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه ، وهذا باطل .
وبيان ذلك أن الفرع مبني على أصله يصح بصحته ، ويفسد بفساده ، ويتضح باتضاحه ، ويخفى بخفائه ، وبالجملة فكل وصف في الأصل مثبت في الفرع ; إذ كل فرع فيه ما في الأصل ، وذلك يقتضي أن الفروع المبنية على الأصول المتشابهة متشابهة ، ومعلوم أن الأصول منوط بعضها ببعض في [ ص: 323 ] التفريع عليها فلو وقع في أصل من الأصول اشتباه لزم سريانه في جميعها ، فلا يكون المحكم أم الكتاب لكنه كذلك فدل على أن المتشابه لا يكون في شيء من أمهات الكتاب .
فإن قيل : فقد وقع في الأصول أيضا ، فإن أكثر الزائغين عن الحق إنما زاغوا في الأصول لا في الفروع ولو كان زيغهم في الفروع لكان الأمر أسهل عليهم .
فالجواب أن المراد بالأصول القواعد الكلية كانت في أصول الدين ، أو في أصول الفقه ، أو في غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية ، وعند ذلك لا نسلم أن التشابه وقع فيها ألبتة ، وإنما [ وقع ] في فروعها ؛ فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها فروع عن أصل التنزيه الذي هو [ ص: 324 ] [ ص: 325 ] [ ص: 326 ] قاعدة من قواعد العلم الإلهي كما أن فواتح السور ، وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع من علوم القرآن ، بل الأمر كذلك أيضا في التشابه الراجع إلى المناط ، فإن الإشكال الحاصل في الذكية المختلطة بالميتة من بعض فروع أصل التحليل والتحريم في المناطات البينة ، وهي الأكثر ، فإذا اعتبر هذا [ ص: 327 ] المعنى ؛ لم يوجد التشابه في قاعدة كلية ولا في أصل عام ، اللهم إلا أن يؤخذ التشابه على أنه الإضافي فعند ذلك لا فرق بين الأصول والفروع في ذلك ، ومن تلك الجهة حصل في العقائد الزيغ والضلال وليس هو المقصود هاهنا ولا هو مقصود صريح اللفظ ، وإن كان مقصودا بالمعنى والله أعلم ; لأنه تعالى قال : منه آيات محكمات [ آل عمران : 7 ] الآية فأثبت فيه متشابها ، وما هو راجع لغلط الناظر لا ينسب إلى الكتاب حقيقة ، وإن نسب إليه فبالمجاز .
[ ص: 328 ] المسألة الخامسة
تسليط التأويل على التشابه فيه تفصيل ، فلا يخلو أن يكون من المتشابه الحقيقي ، أو من الإضافي ، فإن كان من الإضافي ، فلا بد منه إذا تعين بالدليل كما بين العام بالخاص والمطلق بالمقيد والضروري بالحاجي ، وما أشبه ذلك ; لأن مجموعهما هو المحكم ، وقد مر بيانه ، وأما إن كان من الحقيقي فغير لازم تأويله ; إذ قد تبين في باب الإجمال والبيان أن المجمل لا يتعلق به تكليف إن كان موجودا ; لأنه إما أن يقع بيانه بالقرآن الصريح ، أو بالحديث الصحيح ، أو بالإجماع القاطع ، أو لا ، فإن وقع بيانه بأحد هذه ، فهو من قبيل الضرب الأول من التشابه ، وهو الإضافي ، وإن لم يقع بشيء من ذلك ، فالكلام في مراد الله تعالى من غير هذه الوجوه تسور على ما لا يعلم ، وهو غير محمود .
وأيضا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء ولا تكلموا فيها بما يقتضي تعيين [ ص: 329 ] تأويل من غير دليل ، وهم الأسوة والقدوة ، وإلى غير ذلك ، فالآية مشيرة إلى ذلك بقوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه [ آل عمران : 7 ] الآية ، ثم قال : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] ، وقد ذهب جملة من متأخري الأمة إلى تسليط التأويل عليها أيضا رجوعا إلى ما يفهم من اتساع العرب في كلامها من جهة الكناية والاستعارة والتمثيل ، وغيرها من أنواع الاتساع تأنيسا للطالبين ، وبناء على استبعاد الخطاب بما لا يفهم مع إمكان الوقوف على قوله : والراسخون في العلم وهو أحد القولين للمفسرين منهم مجاهد ، وهي مسألة اجتهادية ولكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف ، وقد استدل الغزالي على صحة هذا المذهب بأمور ذكرها في كتابه المسمى ب ( إلجام العوام ) فطالعه من هنالك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (117)
صـ330 إلى صـ 343
المسألة السادسة
إذا تسلط التأويل على المتشابه فيراعى في المؤول به أوصاف ثلاثة : أن يرجع إلى معنى صحيح في الاعتبار متفق عليه في الجملة بين المختلفين ، ويكون اللفظ المؤول قابلا له ، وذلك أن الاحتمال المؤول به إما أن يقبله اللفظ أو لا ، فإن لم يقبله فاللفظ نص لا احتمال فيه ، فلا يقبل التأويل ، وإن قبله اللفظ فإما أن يجري على مقتضى العلم أولا ، فإن جرى على ذلك ، فلا [ ص: 331 ] إشكال في اعتباره ; لأن اللفظ قابل له والمعنى المقصود من اللفظ لا يأباه فاطراحه إهمال لما هو ممكن الاعتبار قصدا ، وذلك غير صحيح ما لم يقم دليل آخر على إهماله ، أو مرجوحيته ، وأما إن لم يجر على مقتضى العلم ، فلا يصح أن يحمله اللفظ على حال والدليل على ذلك أنه لو صح لكان الرجوع إليه مع ترك اللفظ الظاهر رجوعا إلى العمى ، ورميا في جهالة ، فهو ترك للدليل لغير شيء ، وما كان كذلك فباطل .
هذا وجه .
ووجه ثان وهو أن التأويل إنما يسلط على الدليل لمعارضة ما هو أقوى منه فالناظر بين أمرين إما أن يبطل المرجوح جملة اعتمادا على الراجح ولا يلزم نفسه الجمع ، وهذا نظر يرجع إلى مثله عند التعارض على الجملة ، وإما [ ص: 332 ] أن لا يبطله ، ويعتمد القول به على وجه ، فذلك الوجه إن صح واتفق عليه فذاك ، وإن لم يصح فهو نقض الغرض ; لأنه رام تصحيح دليله المرجوح لشيء لا يصح ، فقد أراد تصحيح الدليل بأمر باطل ، وذلك يقتضي بطلانه عند ما رام أن يكون صحيحا ، هذا خلف .
ووجه ثالث ، وهو أن تأويل الدليل معناه أن يحمل على وجه يصح كونه دليلا في الجملة فرده إلى ما يصح رجوع إلى أنه دليل لا يصح على وجه ، وهو جمع بين النقيضين ، ومثاله تأويل من تأول لفظ الخليل في قوله تعالى : واتخذ الله إبراهيم خليلا [ النساء : 125 ] بالفقير ؛ فإن ذلك يصير المعنى القرآني غير صحيح ، وكذلك تأويل من تأول غوى من قوله : وعصى آدم ربه فغوى [ طه : 121 ] [ ص: 333 ] أنه من غوي الفصيل لعدم صحة غوى بمعنى غوي ، فهذا لا يصح فيه التأويل من جهة اللفظ والأول لا يصح فيه من جهة المعنى ، ومثال ما تخلفت فيه الأوصاف تأويل بيان بن سمعان في قوله تعالى : هذا بيان للناس [ آل عمران : 138 ] .
وهذا المعنى لا يختص بباب التأويل ، بل هو جار في باب التعارض والترجيح ، فإن الاحتمالين قد يتواردان على موضوع واحد فيفتقر إلى الترجيح فيهما فذلك ثان عن صحة قبول المحل لهما وصحتهما في أنفسهما ، والدليل في الموضعين واحد .
الفصل الثاني : في الإحكام والنسخ .
ويشتمل على مسائل :
المسألة الأولى :
اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا والذي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، ثم تبعها أشياء بالمدينة كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة ، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة ؛ كالصلاة وإنفاق المال ، وغير ذلك ، ونهى عن كل ما هو كفر ، أو تابع للكفر كالافتراءات التي افتروها من الذبح لغير الله تعالى ، وما جعل لله وللشركاء الذين ادعوهم افتراء على الله ، وسائر ما حرموه على أنفسهم ، أو أوجبوه من غير أصل مما يخدم أصل عبادة غير الله ، وأمر مع ذلك بمكارم الأخلاق كلها كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد ، وأخذ العفو والإعراض عن الجاهل والدفع بالتي هي أحسن والخوف من الله وحده والصبر والشكر ، ونحوها ، ونهى عن مساوئ الأخلاق من الفحشاء والمنكر والبغي ، [ ص: 336 ] والقول بغير علم والتطفيف في المكيال والميزان والفساد في الأرض والزنا والقتل والوأد ، وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية ، وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر .
ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واتسعت خطة الإسلام كملت هنالك الأصول الكلية على تدريج كإصلاح ذات البين والوفاء بالعقود ، وتحريم المسكرات ، وتحديد الحدود التي تحفظ الأمور الضرورية ، وما يكملها ، ويحسنها ورفع الحرج بالتخفيفات والرخص ، وما أشبه ذلك ، وإنما ذلك كله تكميل للأصول الكلية .
فالنسخ إنما وقع معظمه بالمدينة لما اقتضته الحكمة الإلهية في تمهيد الأحكام ، وتأمل كيف تجد معظم النسخ إنما هو لما كان فيه تأنيس أولا للقريب [ ص: 337 ] العهد بالإسلام واستئلاف لهم ، مثل كون الصلاة كانت صلاتين ، ثم صارت خمسا ، وكون إنفاق المال مطلقا بحسب الخيرة في الجملة ، ثم صار محدودا مقدرا ، وأن القبلة كانت بالمدينة بيت المقدس ، ثم صارت الكعبة ، وكحل نكاح المتعة ، ثم تحريمه ، وأن الطلاق كان إلى غير نهاية على قول طائفة ، ثم صار ثلاثا والظهار كان طلاقا ، ثم صار غير طلاق إلى غير ذلك مما كان أصل الحكم فيه باقيا على حاله قبل الإسلام ، ثم أزيل ، أو كان أصل مشروعيته قريبا خفيفا ، ثم أحكم .
[ ص: 338 ] المسألة الثانية
لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية والقواعد الأصولية في الدين على غالب الأمر اقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير ; لأن النسخ لا يكون في الكليات ، وقوعا ، وإن أمكن عقلا .
ويدل على ذلك الاستقراء التام ، وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء ، بل إنما أتى بالمدينة ما يقويها ، ويحكمها ، ويحصنها ، وإذا كان كذلك لم يثبت نسخ [ ص: 339 ] لكلي ألبتة ، ومن استقرأ كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها ، والجزئيات المكية قليلة .
وإلى هذا ، فإن الاستقراء يبين أن الجزئيات الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي محكما قليلة ، ويقوى هذا في قول من جعل المنسوخ من المتشابه ، وغير المنسوخ من المحكم لقوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] .
فدخول النسخ في الفروع المكية قليل ، و هي قليلة فالنسخ فيها قليل في قليل ، فهو إذا بالنسبة إلى الأحكام المكية نادر .
ووجه آخر ، وهو أن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق ; لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق ؛ فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق ؛ ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر ; لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون فاقتضى [ ص: 340 ] هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعي نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين ولا دعوى الإحكام فيهما .
فصل
وهكذا يقال : في سائر الأحكام مكية كانت ، أو مدنية .
ويدل على ذلك الوجهان الأخيران ، ووجه ثالث ، وهو أن غالب ما ادعي فيه النسخ إذا تأمل وجدته متنازعا فيه ، ومحتملا ، وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني بيانا لمجمل ، أو تخصيصا لعموم ، أو تقييدا لمطلق ، وما أشبه ذلك من وجوه الجمع مع البقاء على الأصل من الإحكام في الأول والثاني .
وقد أسقط ابن العربي من الناسخ والمنسوخ كثيرا بهذه الطريقة ، وقال الطبري أجمع أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت ، ثم اختلفوا في نسخها .
قال ابن النحاس : " فلما ثبتت بالإجماع ، وبالأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز أن تزال إلا بالإجماع ، أو حديث يزيلها ، ويبين نسخها ولم [ ص: 341 ] يأت من ذلك شيء " . انتهى المقصود منه .
ووجه رابع يدل على قلة النسخ ، وندوره أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين كالخمر والربا ، فإن تحريمهما بعد ما كانا على حكم الأصل لا يعد نسخا لحكم الإباحة الأصلية ولذلك قالوا في حد النسخ إنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ، ومثله رفع براءة الذمة بدليل .
وقد كانوا في الصلاة يكلم بعضهم بعضا إلى أن نزل وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] [ ص: 342 ] وروي أنهم كانوا يلتفتون في الصلاة إلى أن نزل قوله : الذين هم في صلاتهم خاشعون [ المؤمنون : 2 ] [ ص: 343 ] قالوا ، وهذا إنما نسخ أمرا كانوا عليه ، وأكثر القرآن على ذلك ، معنى هذا أنهم كانوا يفعلون ذلك بحكم الأصل من الإباحة فهو مما لا يعد نسخا ، وهكذا كل ما أبطله الشرع من أحكام الجاهلية .
فإذا اجتمعت هذه الأمور ، ونظرت إلى الأدلة من الكتاب والسنة لم يتخلص في يدك من منسوخها إلا ما هو نادر على أن هاهنا معنى يجب التنبه له ليفهم اصطلاح القوم في النسخ ، وهي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (118)
صـ344 إلى صـ 367
وذلك أنالذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين،فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا ، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل ، أومنفصل نسخا ، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا كما يطلقون على رفع الحكمالشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا ; لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد ، وهو أنالنسخ في الاصطلاحالمتأخراقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف ، وإنما المراد ما جيء بهآخرا ؛ فالأول غير معمول به ؛ والثاني : هو المعمول به . وهذا المعنى جار في تقييد المطلق ، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده ،فلا إعمال له في إطلاقه ، بل المعمل هو المقيد ، فكأن المطلق لم يفد معمقيده شيئا فصار مثل الناسخ والمنسوخ ، وكذلك العام مع الخاص ; إذ كان ظاهرالعام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ فلما جاء الخاص أخرج حكمظاهر العام عن الاعتبار فأشبه الناسخ المنسوخ إلا أن اللفظ العام لم يهملمدلوله جملة ، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص ،[ ص: 345 ] وبقيالسائر على الحكم الأول والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق فلما كانكذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد . ولا بد من أمثلة تبين المراد ، فقد رويعنابن عباسأنه قال في قوله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد[ الإسراء : 18 ] : إنه ناسخ لقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها[ الشورى : 20 ] . وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق إذا كان قوله : نؤته منهامطلقا ، ومعناه مقيد بالمشيئة ، وهو قوله في الآية الأخرى : لمن نريد، وإلا فهو إخبار ، والأخبار لا يدخلها النسخ . [ ص: 346 ] وقال في قوله : والشعراء يتبعهم الغاوونإلى قوله : وأنهم يقولون ما لا يفعلون[ الشعراء : 224 - 226 ] : هو منسوخ بقوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا[ الشعراء : 227 ] الآية . قالمكي: وقد ذكر عنابن عباسفي أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء أنه قال : منسوخ . قال : وهو مجاز لا حقيقة ; لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه بينه حرفالاستثناء أنه في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول ، والناسخ[ ص: 347 ] منفصل عن المنسوخ رافع لحكمه ، وهو بغير حرف . هذا ما قال ، ومعنى ذلك أنه تخصيص للعموم قبله ولكنه أطلق عليه لفظ النسخ ، إذ لم يعتبر فيه الاصطلاح الخاص . وقال في قوله تعالى : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها[ النور : 27 ] إنه منسوخ بقوله : ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة[ النور : 29 ] الآية . وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء غير أن قوله : ليس عليكم جناحيثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة . وقال في قوله : انفروا خفافا وثقالا[ التوبة : 41 ] إنه منسوخ[ ص: 348 ] بقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة[ التوبة : 122 ] والآيتان في معنيين ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير على الجميع . وقال في قوله تعالى : قل الأنفال لله والرسول[ الأنفال : 1 ] منسوخ بقوله : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسهالآية [ الأنفال : 41 ] ، وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله : لله والرسولوقال في قوله : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء[ الأنعام : 69 ] إنه منسوخ بقوله : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها[ النساء : 140 ] الآية ، وآية الأنعام خبر من الأخبار والأخبار[ ص: 349 ] لا تنسخ ولا تنسخ . وقال في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه[ النساء : 8 ] [ ص: 350 ] الآية : إنه منسوخ بآية المواريث . وقال مثلهالضحاكوالسدي،وعكرمة، وقالالحسنمنسوخ بالزكاة ، وقالابن المسيبنسخه الميراث والوصية . والجمع بين الآيتين ممكن لاحتمال [ حمل ] الآية على الندب والمراد بأولي القربى من لا يرث بدليل قوله : وإذا حضرفقيد كما[ ص: 351 ] ترى الرزق بالحضور ، [ فدل أن ] المراد غير الوارثين ، وبينالحسنأن المراد الندب أيضا بدليل آية الوصية والميراث فهو من بيان المجمل والمبهم . وقال هووابن مسعودفي قوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء[ البقرة : 284 ] : إنه منسوخ بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها[ البقرة : 286 ] ، مع أن الأخبار لا تنسخ ، وإنما المراد - والله أعلم - ما انطوت عليه النفوس من الأمور الكسبية التي هي في وسع الإنسان ، وبينذلك قوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها[ البقرة : 286 ] [ ص: 352 ] بدليل أنابن عباسفسر الآية بكتمان الشهادة ; إذ تقدم قوله : [ ص: 353 ] ولا تكتموا الشهادة[ البقرة : 283 ] ثم قال : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللهالآية [ البقرة : 284 ] فحصل أن ذلك من باب[ ص: 354 ] تخصيص العموم ، أو بيان المجمل . وقال في قوله : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها[ النور : 31 ] : إنه منسوخ بقوله : والقواعد من النساءالآية [ النور : 60 ] وليس بنسخ إنما هو تخصيص لما تقدم من العموم . وعنأبي الدرداء،وعبادة بن الصامتفي قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم[ المائدة : 5 ] أنه ناسخ لقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه[ الأنعام : 121 ] ، فإن كان المراد أن طعامأهل الكتابحلال، وإن لم يذكر اسم الله عليه فهو تخصيص للعموم ، وإن كان المراد أن طعامهمحلال بشرط التسمية فهو أيضا من باب التخصيص ، لكن آية الأنعام هي آيةالعموم المخصوص في الوجه الأول ، وفي الثاني بالعكس . [ ص: 355 ] وقالعطاءفي قوله تعالى : ومن يولهم يومئذ دبره[ الأنفال : 16 ] : إنه منسوخ بقوله : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين[ الأنفال : 65 ] إلى آخر الآيتين، وإنما هو تخصيص ، وبيان لقوله : ومن يولهمفكأنه على معنى : ومن يولهم وكانوا مثلي عدد المؤمنين ، فلا تعارض ولا نسخ بالإطلاق الأخير . وقال في قوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم[ النساء : 24 ] : إنه منسوخ بالنهي عن نكاح المرأة على عمتها ، أو على خالتها ، وهذا من باب تخصيص العموم . [ ص: 356 ] وقالوهب بن منبهفي قوله : ويستغفرون لمن في الأرض[ الشورى : 5 ] : نسختها الآية التي في غافرويستغفرون للذين آمنوا[ غافر : 7 ] . وهذا معناه أن آية غافر مبينة لآية الشورى ; إذ هو خبر محض والأخبار لا نسخ فيها . وقالابن النحاس: " هذا لا يقع فيها ناسخ ولا منسوخ ; لأنه خبر من الله ولكن يجوز أن يكون ،وهب بن منبهأراد أن هذه الآية على نسخة تلك الآية لا فرق بينهما يعني أنهما بمعنى واحد وإحداهما تبين الأخرى " . قال : " وكذا يجب أن يتأول للعلماء ولا يتأول عليهم الخطأ العظيم إذا كان لما قالوه وجه " . [ ص: 357 ] قال : والدليل على ما قلناه ما حدثناهأحمد بن محمد، ثم أسندعنقتادةفي قوله : ويستغفرون لمن في الأرض[ الشورى : 5 ] قال : للمؤمنين منهم. وعنعراك بن مالكوعمر بن عبد العزيزوابن شهابأن قوله : والذين يكنزون الذهب والفضةالآية [ التوبة : 34 ] منسوخ بقوله : خذ من أموالهم صدقة[ التوبة : 103 ] ، وإنما هو بيان لما يسمى كنزا ، وأن المال إذا أديتزكاته لا يسمى كنزا ، وبقي ما لم يزك داخلا تحت التسمية ، فليس من النسخ فيشيء . وقالقتادةفي قوله : اتقوا الله حق تقاته[ آل عمران : 102 ] : إنه منسوخ بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم[ التغابن : 16 ] ، وقالهالربيع بن أنسوالسديوابن زيد، وهذا من الطراز المذكور ; لأن الآيتين مدنيتان ولم[ ص: 358 ] تنزلا إلا بعد تقرير أن الدين لا حرج فيه ، وأن التكليف بما لا يستطاع مرفوع فصار معنى قوله : اتقوا الله حق تقاته[ آل عمران : 102 ] فيما استطعتم ، وهو معنى قوله : فاتقوا الله ما استطعتم[ التغابن : 16 ] فإنما أرادوا بالنسخ أن إطلاق سورة آل عمران مقيد بسورة التغابن . وقالقتادةأيضا في قوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء[ البقرة : 228 ] : إنه نسخ من ذلك التي لم يدخل بها بقوله : فما لكم عليهن من عدة تعتدونها[ الأحزاب : 49 ] والتي يئست من المحيض والتي لم تحض بعد والحامل بقوله : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهرإلى قوله : أن يضعن حملهن[ الطلاق : 4 ] . وقالعبد الملك بن حبيبفي قوله : اعملوا ما شئتم[ فصلت : 40 ] [ ص: 359 ] وقوله : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر[ الكهف : 29 ] ، وقوله : لمن شاء منكم أن يستقيم[ التكوير : 28 ] : إن ذلك منسوخ بقوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين[ التكوير : 29 ] ، وهذه الآية إنما جاءت في معرض التهديد والوعيد ،وهو معنى لا يصح نسخه فالمراد أن إسناد المشيئة للعباد ليس على ظاهره ، بلهي مقيدة بمشيئة الله سبحانه . وقال في قوله : الأعراب أشد كفرا ونفاقا[ التوبة : 97 ] ، وقوله : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما[ التوبة : 98 ] إنه منسوخ بقوله : ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر[ التوبة : 99 ] الآية ، وهذا من[ ص: 360 ] الأخبار التي لا يصح نسخها والمقصود أن عموم الأعراب مخصوص بمن كفر دون من آمن . وقالأبو عبيد، وغيره إن قوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون[ النور : 4 ] [ ص: 361 ] منسوخ بقوله : إلا الذين تابوا من بعد ذلكالآية [ النور : 5 ] . وقد تقدملابن عباسمثله . وقيل في قوله : إن الله يغفر الذنوب جميعا[ الزمر : 53 ] منسوخ بقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك بهالآية [ النساء : 48 ] ، وقوله : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنمالآية [ النساء : 93 ] ، وهذا من باب تخصيص العموم لا من باب النسخ . وفي قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم[ الأنبياء : 98 ] [ ص: 362 ] إنه منسوخ بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون[ الأنبياء : 101 ] ، وكذلك قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها[ مريم : 71 ] منسوخ بها[ ص: 363 ] أيضا ، وهو إطلاق النسخ في الأخبار ، وهو غير جائز . قالمكي: " وأيضا فإن هذا لو نسخ لوجب زوال حكم دخول المعبودين من دون اللهكلهم النار ; لأن النسخ إزالة الحكم الأول ، وحلول الثاني محله ولا يجوززوال الحكم الأول في هذا بكليته إنما زال بعضه فهو تخصيص ، وبيان " . [ ص: 364 ] وفي قوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمناتالآية [ النساء : 25 ] إنه منسوخ بقوله : ذلك لمن خشي العنت منكم[ النساء : 25 ] ، وإنما هو بيان لشرط نكاح الإماء المؤمنات . والأمثلة هنا كثيرة توضح لك أن مقصود المتقدمين بإطلاق لفظ النسخ بيان مافي تلقي الأحكام من مجرد ظاهره إشكال وإيهام لمعنى غير مقصود للشارع فهوأعم من إطلاق الأصوليين فليفهم هذا ، وبالله التوفيق . [ ص: 365 ] المسألة الرابعةالقواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ،وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل الاستقراء ، فإن كل ما يعود بالحفظعلى الأمور الخمسة ثابت ، وإن فرض نسخ بعض جزئياتها فذلك لا يكون إلا بوجهآخر من الحفظ ، وإن فرض النسخ في بعضها إلى غير بدل فأصل الحفظ باق ; إذ لايلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس . بل زعم الأصوليون أن الضروريات مراعاة في كل ملة ، وإن اختلفت أوجه الحفظبحسب كل ملة ، وهكذا يقتضي الأمر في الحاجيات والتحسينيات . وقد قال الله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه[ الشورى : 13 ] وقال تعالى : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل[ الأحقاف : 35 ] وقال بعد ذكر كثير من الأنبياء عليهم السلام : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده[ الأنعام : 90 ] وقال تعالى : وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم اللهالآية [ المائدة : 43 ] . [ ص: 366 ] وكثير من الآيات أخبر فيها بأحكام كلية كانت في الشرائع المتقدمة ، وهي في شريعتنا ولا فرق بينهما . وقال تعالى : ملة أبيكم إبراهيم[ الحج : 78 ] . وقال في قصةموسىعليه السلام : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري[ طه : 14 ] وقال : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم[ البقرة : 183 ] وقال : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة[ القلم : 17 ] وقال : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس[ المائدة : 45 ] إلى سائر ما في ذلك من معاني الضروريات . وكذلك الحاجيات فإنا نعلم أنهم لم يكلفوا بما لا يطاق ، هذا وإن كانوا قدكلفوا بأمور شاقة فذلك لا يرفع أصل اعتبار الحاجيات ، ومثل ذلك التحسينيات ،فقد قال تعالى : أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر[ العنكبوت : 29 ] ، وقوله : فبهداهم اقتده[ الأنعام : 90 ] يقتضي بظاهره دخول محاسن العادات من الصبر على الأذى والدفع بالتي هي أحسن ، وغير ذلك . [ ص: 367 ] وأما قوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا[ المائدة : 48 ] ، فإنه يصدق على الفروع الجزئية ، وبه تجتمع معانيالآيات والأخبار ، فإذا كانت الشرائع قد اتفقت في الأصول مع وقوع النسخفيها ، وثبتت ولم تنسخ ، فهي في الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولىوالله تعالى أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (119)
صـ368 إلى صـ 378
الفصل الثالث في الأوامر والنواهي .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى
الأمر والنهي يستلزم طلبا وإرادة من الآمر ؛ فالأمر يتضمن طلب المأمور به ، وإرادة إيقاعه والنهي يتضمن طلبا لترك المنهي عنه وإرادة لعدم إيقاعه ، ومع [ ص: 370 ] هذا ففعل المأمور به ، وترك المنهي عنه يتضمنان ، أو يستلزمان إرادة بها يقع الفعل ، أو الترك ، أو لا يقع .
وبيان ذلك أن الإرادة جاءت في الشريعة على معنيين .
أحدهما : الإرادة الخلقية القدرية المتعلقة بكل مراد فما أراد الله كونه كان ، وما أراد أن لا يكون ، فلا سبيل إلى كونه ، أو تقول ، وما لم يرد أن يكون ، فلا سبيل إلى كونه .
والثاني : الإرادة الأمرية المتعلقة بطلب إيقاع المأمور به ، وعدم إيقاع [ ص: 371 ] المنهي عنه ، ومعنى هذه الإرادة أنه يحب فعل ما أمر به ، ويرضاه ، ويحب أن يفعله المأمور ، ويرضاه منه من حيث هو مأمور به ، وكذلك النهي يحب ترك المنهي عنه ، ويرضاه .
فالله عز وجل أمر العباد بما أمرهم به ؛ فتعلقت إرادته بالمعنى الثاني بالأمر ; إذ الأمر يستلزمها ; لأن حقيقة إلزام المكلف الفعل أو الترك ؛ فلا بد أن يكون ذلك الإلزام مرادا ، وإلا لم يكن إلزاما ولا يتصور له معنى مفهوم .
وأيضا فلا يمكن مع ذلك أن يريد الإلزام مع العرو عن إرادة إيقاع الملزم به على المعنى المذكور ، لكن الله تعالى أعان أهل الطاعة فكان أيضا مريدا لوقوع الطاعة منهم فوقعت على وفق إرادته بالمعنى الأول ، وهو القدري ولم يعن أهل المعصية فلم يرد وقوع الطاعة منهم فكان الواقع الترك ، وهو مقتضى إرادته بالمعنى الأول ، والإرادة بهذا المعنى الأول لا يستلزمها الأمر ، فقد يأمر بما لا يريد ، وينهى عما يريد ، وأما بالمعنى الثاني ، فلا يأمر إلا بما يريد ولا ينهى إلا عما لا يريد .
والإرادة على المعنيين قد جاءت في الشريعة ؛ فقال تعالى في الأولى : [ ص: 372 ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا الآية [ الأنعام : 125 ]
وفي حكاية نوح عليه السلام : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم [ هود : 34 ] .
وقال تعالى : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم إلى قوله : ولكن الله يفعل ما يريد [ البقرة : 253 ] ، وهو كثير جدا .
وقال في الثانية : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ]
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم الآية [ المائدة : 6 ] .
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم إلى قوله : يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 26 - 28 ] [ ص: 373 ] إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت [ الأحزاب : 33 ] ، وهو كثير جدا أيضا .
ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في المسألة ؛ فربما نفى بعض الناس الإرادة عن الأمر والنهي مطلقا ، وربما نفاها بعضهم عما لم يؤمر به مطلقا ، وأثبتها في الأمر مطلقا ، ومن عرف الفرق بين الموضعين لم يلتبس عليه شيء من ذلك .
وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع ولا بد من إثباتها بإطلاق ، والإرادة القدرية هي إرادة التكوين ، فإذا رأيت في هذا التقييد إطلاق لفظ القصد وإضافته إلى الشارع فإلى معنى الإرادة التشريعية أشير ، وهي أيضا إرادة التكليف ، وهو شهير في علم الأصوليين أن يقولوا إرادة التكوين ، ويعنون بالمعنى الأول إرادة التكليف ، ويعنون بالمعنى الثاني الذي يجري ذكره بلفظ القصد في هذا الكتاب ولا مشاحة في الاصطلاح والله المستعان .
[ ص: 374 ] المسألة الثانية
الأمر بالمطلقات يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها كما أن النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها .
وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك ، ومعنى الاقتضاء الطلب والطلب يستلزم مطلوبا والقصد لإيقاع ذلك المطلوب ولا معنى للطلب إلا هذا .
ووجه ثان أنه لو تصور طلب لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب لأمكن أن يرد أمر مع القصد لعدم إيقاع المأمور به ، وأن يرد نهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه ، وبذلك لا يكون الأمر أمرا ولا النهي نهيا ، هذا خلف ، ولصح انقلاب الأمر نهيا ، وبالعكس ولأمكن أن يوجد أمر أو نهي من غير قصد إلى إيقاع فعل ، أو عدمه فيكون المأمور به ، أو المنهي عنه مباحا ، أو مسكوتا عن [ ص: 375 ] حكمه ، وهذا كله محال .
والثالث أن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به ، وترك المنهي عنه هو كلام الساهي والنائم والمجنون ، وذلك ليس بأمر ولا نهي باتفاق والأمر في هذا أوضح من أن يستدل عليه .
فإن قيل : هذا مشكل من أوجه .
أحدها : أنه يلزم على هذا أن يكون التكليف بما لا يطاق مقصودا إلى إيقاعه ، فإن المحققين اتفقوا على جواز ذلك ، وإن لم يقع ، فإن جوازه يستلزم صحة القصد إلى إيقاعه ، والقصد إلى إيقاع ما لا يمكن إيقاعه عبث ؛ فيلزم أن يكون القصد إلى الأمر بما لا يطاق عبثا ، وتجويز العبث على الله محال ؛ فكل ما يلزم عنه محال ، وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع بخلاف ما إذا قلنا إن الأمر لا يستلزم القصد إلى الإيقاع ، فإنه لا يلزم منه محظور عقلي فوجب القول به .
[ ص: 376 ] والثاني : أن مثل هذا يلزم في السيد إذا أمر عبده بحضرة ملك قد توعد السيد على ضرب عبده زاعما أنه لا يطيعه ، وطلب تمهيد عذره بمشاهدة الملك ، فإنه يأمر العبد ، وهو غير قاصد لإيقاع المأمور به ; لأن القصد هنا يستلزم قصده لإهلاك نفسه ، وذلك لا يصدر من العقلاء فلم يصح أن يكون قاصدا وهو آمر ، وإذا لم يصح لم يلزم أن يكون كل آمر قاصدا للمأمور به ، وكذلك النهي حرفا بحرف ، وهو المطلوب .
والثالث : أن هذا لازم في أمر التعجيز نحو فليمدد بسبب إلى السماء [ الحج : 15 ] ، وفي أمر التهديد نحو اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ، وما أشبه ذلك ; إذ معلوم أن المعجز والمهدد غير قاصد لإيقاع المأمور به في تلك الصيغة .
فالجواب عن الأول أن القصد إلى إيقاع ما لا يطاق لا بد منه ولا يلزم من القصد إلى ذلك حصوله ; إذ القصد إلى الأمر بالشيء لا يستلزم إرادة الشيء إلا على قول من يقول : إن الأمر إرادة الفعل ، وهو رأي المعتزلة .
[ ص: 377 ] وأما الأشاعرة فالأمر عندهم غير مستلزم للإرادة ، وإلا وقعت المأمورات كلها ، وأيضا لو فرض في تكليف ما لا يطاق عدم القصد إلى إيقاعه لم يكن تكليف ما لا يطاق ; لأن حقيقته إلزام فعل ما لا يقدر على فعله ، وإلزام الفعل هو القصد إلى أن يفعل ، أو لازم القصد إلى أن يفعل ، فإذا علم ذلك ، فلا تكليف به فهو طلب للتحصيل لا طلب للحصول ، وبينهما فرق واضح .
وهكذا القول في جميع الأسئلة ، فإن السيد إذا أمر عبده ، فقد طلب منه أن يحصل ما أمر به ولم يطلب حصول ما أمره به ، وفرق بين طلب التحصيل وطلب الحصول .
[ ص: 378 ] وأما أمر التعجيز والتهديد فليس في الحقيقة بأمر ، وإن قيل : أنه أمر بالمجاز فعلى ما تقدم ; إذ الأمر ، وإن كان مجازيا فيستلزم قصدا به يكون أمرا فيتصور وجه المجاز ، وإلا فلا يكون أمرا دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (120)
صـ379 إلى صـ 390
المسألة الثالثة
الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد ، والدليل على ذلك أمور :
أحدها : أنه لو استلزم الأمر بالمقيد لانتفى أن يكون أمرا بالمطلق .
وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف ، فإنه إذا قال الشارع : " أعتق رقبة " فمعناه أعتق ما يطلق عليه هذا الاسم من غير تعيين فلو كان يستلزم الأمر بالمقيد لكان معناه أعتق الرقبة المعينة الفلانية ، فلا يكون أمرا بمطلق ألبتة .
[ ص: 380 ] والثاني : أن الأمر من باب الثبوت ، وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص فالأمر بالأعم لا يستلزم الأمر بالأخص ، وهذا على اصطلاح بعض الأصوليين الذين اعتبروا الكليات الذهنية في الأمور الشرعية .
والثالث : أنه لو كان أمرا بالمقيد فإما أن يكون معينا ، أو غير معين ، فإن كان معينا لزم تكليف ما لا يطاق وقوعا ، فإنه لم يعين في النص وللزم أن يكون ذلك المعين بالنسبة إلى كل مأمور ، وهذا محال ، وإن كان غير معين فتكليف ما لا يطاق لازم أيضا ; لأنه أمر بمجهول والمجهول لا يتحصل به امتثال ؛ فالتكليف به محال ، وإذا ثبت أن الأمر لا يتعلق بالمقيد لزم أن لا يكون قصد الشارع متعلقا بالمقيد من حيث هو مقيد ، فلا يكون مقصودا له ; لأنا قد فرضنا أن قصده إيقاع المطلق فلو كان له قصد في إيقاع المقيد لم يكن [ ص: 381 ] قصده إيقاع المطلق ، هذا خلف لا يمكن .
فإن قيل : هذا معارض بأمرين :
أحدهما : أنه لو كان الأمر بالمطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد لكان التكليف به محالا أيضا ; لأن المطلق لا يوجد في الخارج ، وإنما هو موجود في الذهن ، والمكلف به يقتضي أن يوجد في الخارج ; إذ لا يقع به الامتثال إلا عند حصوله في الخارج ، وإذ ذاك يصير مقيدا لا مطلقا ، فلا يكون بإيقاعه ممتثلا والذهني لا يمكن إيقاعه في الخارج ، فلا يكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق ، وهو ممتنع ، فلا بد أن يكون الأمر به مستلزما للأمر بالمقيد ، وحينئذ يمكن الأمتثال فوجب المصير إليه ، بل القول به .
والثاني : أن المقيد لو لم يقصد في الأمر بالمطلق لم يختلف الثواب باختلاف الأفراد الواقعة من المكلف ; لأنها من حيث الأمر بالمطلق على تساو ؛ فكان يكون الثواب على تساو أيضا ، وليس كذلك ، بل يقع الثواب على مقادير المقيدات المتضمنة لذلك المطلق فالمأمور بالعتق إذا أعتق أدون الرقاب كان له من الثواب بمقدار ذلك ، وإذا أعتق الأعلى كان ثوابه أعظم .
وقد سئل - عليه الصلاة والسلام - عن أفضل الرقاب فقال : أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها .
[ ص: 382 ] وأمر بالمغالاة في أثمان القربات كالضحايا ، وبإكمال الصلاة وغيرها من العبادات حتى يكون الأمر فيها أعظم ، ولا خلاف في أن قصد الأعلى في أفراد المطلقات المأمور بها أفضل ، وأكثر ثوابا من غيره ، فإذا كان التفاوت في أفراد المطلقات موجبا للتفاوت في الدرجات ؛ لزم من ذلك كون المقيدات مقصودة للشارع ، وإن حصل الأمر بالمطلقات .
[ ص: 383 ] فالجواب عن الأول أن التكليف بالمطلق عند العرب ليس معناه التكليف بأمر ذهني ، بل معناه التكليف بفرد من الأفراد الموجودة في الخارج ، أو التي يصح وجودها في الخارج مطابقا لمعنى اللفظ [ بحيث ] لو أطلق عليه اللفظ صدق ، وهو الاسم النكرة عند العرب ، فإذا قال : " أعتق رقبة " فالمراد طلب إيقاع العتق بفرد مما يصدق عليه لفظ الرقبة فإنها لم تضع لفظ الرقبة إلا على فرد من الأفراد غير مختص بواحد من الجنس ، هذا هو الذي تعرفه العرب والحاصل أن الأمر به أمر بواحد كما في الخارج ، وللمكلف اختياره في الأفراد الخارجية .
وعن الثاني : أن ذلك التفاوت الذي التفت إليه الشارع إما أن يكون القصد إليه مفهوما من نفس الأمر بالمطلق ، أو من دليل خارجي والأول ممنوع لما تقدم من الأدلة ولذلك لم يقع التفاوت في الوجوب ، أو الندب الذي اقتضاه الأمر بالمطلق ، وإنما وقع التفاوت في أمر آخر خارج عن مقتضى مفهوم [ ص: 384 ] [ المطلق ] ، وهذا صحيح .
والثاني : مسلم ؛ فإن التفاوت إنما فهم من دليل خارجي كالأدلة الدالة على أن أفضل الرقاب أعلاها ، وأن الصلاة المشتملة على جميع آدابها المطلوبة أفضل من التي نقص منها بعض ذلك ، وكذا سائر المسائل فمن هنالك كان مقصود الشارع ؛ ولذلك كان ندبا لا وجوبا ، وإن كان الأصل واجبا ; لأنه زائد على مفهومه ، فإذا القصد إلى تفضيل بعض الأفراد على بعض يستلزم القصد إلى الأفراد وليس ذلك من جهة الأمر بالمطلق ، بل [ بدليل من ] خارج ؛ فثبت أن القصد إلى المطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم القصد إلى المقيد من حيث هو مقيد .
بخلاف الواجب المخير ، فإن أنواعه مقصودة للشارع بالإذن ، فإذا أعتق المكلف رقبة ، أو ضحى بأضحية ، أو صلى صلاة ، ومثلها موافق للمطلق فله أجر ذلك من حيث هو داخل تحت المطلق ؛ إلا أن يكون ثم فضل زائد فيثاب عليه بمقتضى الندب الخارجي ، وهو مطلق أيضا ، وإذا كفر بعتق فله أجر العتق ، أو أطعم فأجر الإطعام ، أو كسا فأجر الكسوة بحسب ما فعل ، لا لأن له أجر كفارة اليمين فقط من غير تقييد بما كفر [ به ] ، فإن تعيين الشارع المخير فيه يقتضي قصده إلى ذلك دون غيره ، وعدم تعيينه في المطلقات يقتضي عدم قصده إلى ذلك .
وقد اندرج هنا أصل آخر ، وهي .
[ ص: 385 ] المسألة الرابعة
وترجمتها أن الأمر المخير يستلزم قصد الشارع إلى أفراده المطلقة المخير فيها .
المسألة الخامسة
المطلوب الشرعي ضربان :
أحدهما : ما كان شاهد الطبع خادما له ، ومعينا على مقتضاه بحيث يكون الطبع الإنساني باعثا على مقتضى الطلب كالأكل والشرب والوقاع والبعد عن استعمال القاذورات من أكلها والتضمخ بها ، أو كانت العادة الجارية من العقلاء في محاسن الشيم ، ومكارم الأخلاق موافقة لمقتضى ذلك الطلب من غير منازع طبيعي كستر العورة والحفظ على النساء والحرم ، وما أشبه ذلك ، وإنما قيد بعدم المنازع تحرزا من الزنا ، ونحوه مما [ ص: 386 ] يصد فيه الطبع عن موافقة الطلب .
والثاني : ما لم يكن كذلك كالعبادات من الطهارات والصلوات والصيام والحج ، وسائر المعاملات المراعى فيها العدل الشرعي والجنايات والأنكحة المخصوصة بالولاية والشهادة ، وما أشبه ذلك .
فأما الضرب الأول ، فقد يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية والعادات الجارية ، فلا يتأكد الطلب تأكد غيره ، حوالة على الوازع الباعث على الموافقة دون المخالفة ، وإن كان في نفس الأمر متأكدا ألا ترى أنه لم يوضع في هذه الأشياء على المخالفة حدود معلومة زيادة على ما أخبر به من الجزاء الأخروي ؟
ومن هنا يطلق كثير من العلماء على تلك الأمور أنها سنن ، أو مندوب إليها ، أو مباحات على الجملة مع أنه لو خولف الأمر والنهي فيها مخالفة ظاهرة لم يقع الحكم على وفق ذلك المقتضى ؛ كما جاء في قاتل نفسه أنه يعذب في جهنم بما قتل به نفسه .
[ ص: 387 ] وجاء في مذهب مالك أن من صلى بنجاسة ناسيا ، فلا إعادة عليه إلا استحسانا ، ومن صلى بها عامدا أعاد أبدا من حيث خالف الأمر الحتم فأوقع على إزالة النجاسة لفظ السنة اعتمادا على الوازع الطبيعي والمحاسن العادية ، فإذا خالف ذلك عمدا رجع إلى الأصل من الطلب الجزم فأمر بالإعادة أبدا .
وأبين من هذا أنه لم يأت نص جازم في طلب الأكل والشرب واللباس الواقي من الحر والبرد والنكاح الذي به بقاء النسل ، وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة ، أو الندب ؛ حتى إذا كان المكلف في مظنة مخالفة الطبع أمر وأبيح له المحرم إلى أشباه ذلك .
[ ص: 388 ] وأما الضرب الثاني ؛ فإن الشارع قرره على مقتضاه من التأكيد في المؤكدات والتخفيف في المخففات ; إذ ليس للإنسان فيه خادم طبعي باعث على مقتضى الطلب ، بل ربما كان مقتضى الجبلة يمانعه ، وينازعه كالعبادات ; لأنها مجرد تكليف .
وكما يكون ذلك في الطلب الأمري ، كذلك يكون في النهي ؛ فإن المنهيات على الضربين : فالأول كتحريم الخبائث ، وكشف العورات ، وتناول السموم واقتحام المهالك وأشباهها ، ويلحق بها اقتحام المحرمات لغير شهوة عاجلة ولا باعث طبعي ؛ كالملك الكذاب والشيخ الزاني والعائل المستكبر ، فإن مثل هذا قريب مما تخالفه الطباع ، ومحاسن العادات ، فلا تدعو إليه شهوة ولا يميل إليه عقل سليم فهذا الضرب لم يؤكد بحد معلوم في [ ص: 389 ] الغالب ولا وضعت له عقوبة معينة ، بل جاء النهي فيه كما جاء الأمر في المطلوبات التي لا يكون الطبع خادما لها ؛ إلا أن مرتكب هذا لما كان مخالفا لوازع الطبع ، ومقتضى العادة إلى ما فيه من انتهاك حرمة الشرع أشبه بذلك المجاهر بالمعاصي المعاند فيها ، بل هو هو فصار الأمر في حقه أعظم بسبب أنه لا يستدعي لنفسه حظا عاجلا ولا يبقى لها في مجال العقلاء بل البهائم مرتبة ولأجل ذلك جاء من الوعيد في الثلاثة : " الشيخ الزاني وأخويه " ما جاء ، وكذلك فيمن قتل نفسه .
بخلاف العاصي بسبب شهوة عنت وطبع غلب ناسيا لمقتضى الأمر ، ومغلقا عنه باب العلم بمآل المعصية ، ومقدار ما جنى بمخالفة الأمر ولذلك قال تعالى : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية : [ النساء : 17 ] .
أما الذي ليس له داع إليها ولا باعث عليها فهو في حكم المعاند المجاهر فصار هاتكا لحرمة النهي والأمر مستهزئا بالخطاب ؛ فكان الأمر فيه أشد ، ولكن كل ما كان الباعث فيه على المخالفة الطبع جعل فيه في الغالب [ ص: 390 ] حدود وعقوبات مرتبة إبلاغا في الزجر عما تقتضيه الطباع .
بخلاف ما خالف الطبع ، أو كان الطبع وازعا عنه ، فإنه لم يجعل له حد محدود .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (121)
صـ391 إلى صـ 403
فصل
هذا الأصل وجد منه بالاستقراء جمل ؛ فوقع التنبيه عليه لأجلها ليكون الناظر في الشريعة ملتفتا إليه ؛ فإنه ربما وقع الأمر والنهي في الأمور الضرورية على الندب ، أو الإباحة والتنزيه فيما يفهم من مجاريها ؛ فيقع الشك في كونها من الضروريات ؛ كما تقدم تمثيله في الأكل والشرب واللباس والوقاع .
وكذلك وجوه الاحتراس من المضرات والمهلكات ، وما أشبه ذلك فيرى أن ذلك لا يلحق بالضروريات ، وهو منها في الاعتبار الاستقرائي شرعا وربما وجد الأمر بالعكس من هذا ؛ فلأجل ذلك وقع التنبيه عليه ليكون من المجتهد [ ص: 391 ] على بال ؛ إلا أن ما تقدم هو الحكم المتحكم والقاعدة التي لا تنخرم ؛ فكل أحد وما رأى ، والله المستعان .
وقد تقدم التنبيه على شيء منه في كتاب المقاصد ، وهو مقيد بما تقيد به هنا أيضا ، [ والله أعلم ] .
[ ص: 392 ] المسألة السادسة
كل خصلة أمر بها ، أو نهي عنها مطلقا من غير تحديد ولا تقدير فليس الأمر ، أو النهي فيها على وزان واحد في كل فرد من أفرادها كالعدل ، والإحسان ، والوفاء بالعهد ، وأخذ العفو من الأخلاق ، والإعراض عن الجاهل ، والصبر ، والشكر ، ومواساة ذي القربى والمساكين والفقراء والاقتصاد في الإنفاق والإمساك والدفع بالتي هي أحسن والخوف والرجاء والانقطاع إلى الله والتوفية في الكيل والميزان واتباع الصراط المستقيم والذكر لله ، وعمل الصالحات والاستقامة والاستجابة لله والخشية والصفح ، وخفض الجناح للمؤمنين والدعاء إلى سبيل الله والدعاء للمؤمنين والإخلاص والتفويض والإعراض عن اللغو ، وحفظ الأمانة ، وقيام الليل والدعاء والتضرع والتوكل والزهد في الدنيا وابتغاء الآخرة والإنابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتقوى والتواضع والافتقار إلى الله والتزكية والحكم بالحق واتباع الأحسن والتوبة والإشفاق والقيام بالشهادة والاستعاذة عند نزغ الشيطان والتبتل ، وهجر الجاهلين ، وتعظيم الله والتذكر والتحدث بالنعم ، وتلاوة القرآن والتعاون على الحق والرهبة والرغبة ، وكذلك الصدق والمراقبة ، وقول المعروف والمسارعة إلى الخيرات ، وكظم الغيظ وصلة الرحم والرجوع إلى الله ورسوله عند التنازع والتسليم لأمر الله والتثبت في الأمور والصمت والاعتصام بالله وإصلاح ذات البين والإخبات والمحبة لله والشدة على الكفار والرحمة للمؤمنين والصدقة [ ص: 393 ] هذا كله في المأمورات .
وأما المنهيات فالظلم والفحش ، وأكل مال اليتيم واتباع السبل المضلة والإسراف والإقتار والإثم والغفلة والاستكبار والرضا بالدنيا من الآخرة والأمن من مكر الله والتفرق في الأهواء شيعا والبغي واليأس من روح الله ، وكفر النعمة والفرح بالدنيا والفخر بها والحب لها ، ونقص المكيال والميزان والإفساد في الأرض واتباع الآباء من غير نظر والطغيان والركون للظالمين والإعراض عن الذكر ، ونقض العهد والمنكر ، وعقوق الوالدين والتبذير واتباع الظنون والمشي في الأرض مرحا وطاعة من اتبع [ ص: 394 ] هواه والإشراك في العبادة واتباع الشهوات والصد عن سبيل الله والإجرام ولهو القلب والعدوان ، وشهادة الزور والكذب والغلو في الدين والقنوط والخيلاء والاغترار بالدنيا واتباع الهوى والتكلف والاستهزاء بآيات الله والاستعجال ، وتزكية النفس والنميمة والشح والهلع والدجر والمن والبخل والهمز واللمز والسهو عن الصلاة والرياء ، ومنع المرافق ، وكذلك اشتراء الثمن القليل بآيات الله ولبس الحق بالباطل ، وكتم العلم ، وقسوة القلب واتباع خطوات الشيطان والإلقاء باليد إلى التهلكة ، وإتباع الصدقة بالمن والأذى واتباع المتشابه واتخاذ الكافرين أولياء ، وحب الحمد بما لم يفعل والحسد والترفع عن حكم الله والرضا بحكم الطاغوت والوهن للأعداء والخيانة ورمي البريء بالذنب ، وهو البهتان ، ومشاقة الله ، [ ص: 395 ] والرسول واتباع غير سبيل المؤمنين والميل عن الصراط المستقيم والجهر بالسوء من القول والتعاون على الإثم والعدوان والحكم بغير ما أنزل الله والارتشاء على إبطال الأحكام والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ، ونسيان الله والنفاق ، وعبادة الله على حرف والظن والتجسس والغيبة والحلف الكاذبة .
وما أشبه ذلك من الأمور التي وردت مطلقة في الأمر والنهي لم يؤت فيها بحد محدود إلا أن مجيئها في القرآن على ضربين .
أحدهما : أن تأتي على العموم والإطلاق في كل شيء ، وعلى كل [ ص: 396 ] حال ، لكن بحسب كل مقام ، وعلى ما تعطيه شواهد الأحوال في كل موضع لا على وزان واحد ولا حكم واحد ثم وكل ذلك إلى نظر المكلف فيزن بميزان نظره ، ويتهدى لما هو اللائق والأحرى في كل تصرف آخذا ما بين الأدلة الشرعية والمحاسن العادية كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد ، وإنفاق عفو المال ، وأشباه ذلك ألا ترى إلى قوله : في الحديث : إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة الحديث إلخ .
فقول الله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ النحل : 90 ] ليس الإحسان فيه مأمورا به أمرا جازما في كل شيء ولا غير جازم في كل شيء ، بل ينقسم بحسب المناطات ألا ترى أن إحسان العبادات بتمام أركانها من باب الواجب ، وإحسانها بتمام آدابها من باب المندوب .
ومنه إحسان القتلة كما نبه عليه الحديث ، وإحسان الذبح إنما هو مندوب لا واجب .
وقد يكون في الذبح من باب الواجب إذا كان هذا الإحسان راجعا إلى تتميم الأركان والشروط ، وكذلك العدل في عدم المشي بنعل واحدة ليس كالعدل في أحكام الدماء والأموال ، وغيرها ، فلا يصح إذا إطلاق القول في قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ النحل : 90 ] أنه أمر إيجاب ، أو أمر ندب حتى يفصل الأمر فيه ، وذلك راجع إلى نظر المجتهد تارة ، وإلى نظر المكلف ، وإن كان مقلدا تارة أخرى بحسب ظهور المعنى ، وخفائه .
[ ص: 397 ] والضرب الثاني : أن تأتي في أقصى مراتبها ولذلك تجد الوعيد مقرونا بها في الغالب ، وتجد المأمور به منها أوصافا لمن مدح الله من المؤمنين والمنهي عنها أوصافا لمن ذم الله من الكافرين .
[ ص: 398 ] ويعين ذلك أيضا أسباب التنزيل لمن استقرأها فكان القرآن آتيا بالغايات تنصيصا عليها من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك ، ومنبها بها على ما هو دائر بين الطرفين حتى يكون العقل ينظر فيما بينهما بحسب ما دله دليل الشرع فيميز بين المراتب بحسب القرب والبعد من أحد الطرفين كي لا يسكن إلى حالة هي مظنة الخوف لقربها من الطرف المذموم ، أو مظنة الرجاء لقربها من الطرف المحمود تربية حكيم خبير .
وقد روي في هذا المعنى عن أبي بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب عند موته حين قال له : ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة ، وآية [ ص: 399 ] الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا ، فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيده إلى التهلكة أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيئ أعمالهم ; لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن ، فإذا ذكرتهم قلت إني أخشى أن أكون منهم ، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم ; لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيئ ، فإذا ذكرتهم قلت إني مقصر أين عملي من أعمالهم ؟ هذا ما نقل ، وهو معنى ما تقدم .
فإن صح فذاك ، وإلا فالمعنى صحيح يشهد له الاستقراء .
وقد روي : أو لم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيئ أعمالهم ; لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن فيقول قائل أنا خير منهم فيطمع ، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم ; لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيئ فيقول قائل من أين أدرك درجتهم فيجتهد .
والمعنى على هذه الرواية صحيح أيضا يتنزل على المساق المذكور ، فإذا [ ص: 400 ] كان الطرفان مذكورين كان الخوف والرجاء جائلا بين هاتين الأخيتين المنصوصتين في محل مسكوت عنه لفظا منبه عليه تحت نظر العقل ليأخذ كل على حسب اجتهاده ، ودقة نظره ، ويقع التوازن بحسب القرب من أحد الطرفين والبعد من الآخر .
وأيضا فمن حيث كان القرآن آتيا بالطرفين الغائبين حسبما اقتضاه المساق فإنما أتى بهما في عبارات مطلقة تصدق على القليل والكثير فكما يدل المساق على أن المراد أقصى المحمود ، أو المذموم في ذلك الإطلاق كذلك قد يدل اللفظ على القليل والكثير من مقتضاه فيزن المؤمن أوصافه المحمودة فيخاف ، ويرجو ، ويزن أوصافه المذمومة فيخاف أيضا ، ويرجو .
مثال ذلك : أنه إذا نظر في قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان [ النحل : 90 ] فوزن نفسه في ميزان العدل عالما أن أقصى العدل الإقرار بالنعم لصاحبها وردها إليه ، ثم شكره عليها ، وهذا هو الدخول في الإيمان والعمل بشرائعه والخروج عن الكفر ، واطراح توابعه ، فإن وجد نفسه متصفا بذلك فهو يرجو أن يكون من أهله ، ويخاف أن لا يكون يبلغ في هذا المدى غايته ; لأن العبد لا يقدر على توفية حق الربوبية في جميع أفراد هذه الجملة ، فإن نظر بالتفصيل فكذلك أيضا ، فإن العدل كما يطلب في الجملة يطلب في التفصيل كالعدل بين الخلق إن كان حاكما والعدل في أهله ، وولده ، ونفسه حتى العدل في البدء بالميامن في لباس النعل ، ونحوه كما أن هذا جار في ضده ، [ ص: 401 ] وهو الظلم ، فإن أعلاه الشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ، ثم في التفاصيل أمور كثيرة أدناها مثلا البدء بالمياسر ، وهكذا سائر الأوصاف وأضدادها ، فلا يزال المؤمن في نظر واجتهاد في هذه الأمور حتى يلقى الله ، وهو على ذلك .
فلأجل هذا قيل : إن الأوامر والنواهي المتعلقة بالأمور المطلقة ليست على وزان واحد ، بل منها ما يكون من الفرائض ، أو من النوافل في المأمورات ، ومنها ما يكون من المحرمات ، أو من المكروهات في المنهيات لكنها وكلت إلى أنظار المكلفين ليجتهدوا في نحو هذه الأمور .
كان الناس من السلف الصالح يتوقفون عن الجزم بالتحريم ، ويتحرجون عن أن يقولوا حلال ، أو حرام هكذا صراحا ، بل كانوا يقولون في الشيء إذا سئلوا عنه لا أحب هذا ، وأكره هذا ولم أكن لأفعل هذا ، وما أشبهه ; لأنها أمور مطلقة في مدلولاتها غير محدودة في الشرع تحديدا يوقف عنده لا يتعدى .
وقد قال تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب [ النحل : 116 ] .
وقد جاء مما يعضد هذا الأصل زيادة على الاستقراء المقطوع به فيها قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية [ الأنعام : 82 ] فإنها لما نزلت قال الصحابة : وأينا لم يظلم . فنزلت : إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ، وفي رواية لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، [ ص: 402 ] وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس بذلك ، ألا تسمع إلى قول لقمان : إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] .
وفي الصحيح آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان فقال ابن عباس وابن عمر ، وذكرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أهمهما من هذا الحديث فضحك - عليه الصلاة والسلام - فقال : ما لكم ولهن ؟ إنما خصصت بهن المنافقين ، أما قولي : إذا حدث كذب ، فذلك فيما أنزل الله علي إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية [ المنافقون : 1 ] ، أفأنتم كذلك ؟ قلنا : لا ، قال : لا عليكم أنتم من ذلك برآء ، وأما [ ص: 403 ] قولي : إذا وعد أخلف ، فذلك فيما أنزل الله علي ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن - الآيات الثلاث - [ التوبة : 75 - 78 ] أفأنتم كذلك ؟ قلنا : لا ، قال : لا عليكم ، أنتم من ذلك برآء ، وأما قولي : إذا ائتمن خان ، فذلك فيما أنزل الله علي إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال - الآية - [ الأحزاب : 72 ] فكل إنسان مؤتمن على دينه ، فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السر والعلانية ، ويصوم ، ويصلي في السر والعلانية . والمنافق لا يفعل ذلك ، أفأنتم كذلك ؟ قلنا : لا ، قال : لا عليكم أنتم من ذلك برآء .
ومن تأمل الشريعة وجد من هذا ما يطمئن إليه قلبه في اعتماد هذا الأصل ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (122)
صـ404 إلى صـ 421
المسألة السابعة
الأوامر والنواهي ضربان :
صريح ، وغير صريح .
فأما الصريح فله نظران .
أحدهما : من حيث مجرده لا يعتبر فيه علة مصلحية ، وهذا نظر من يجري مع مجرد الصيغة مجرى التعبد المحض من غير تعليل ، فلا فرق عند صاحب هذا النظر بين أمر وأمر ولا بين نهي ونهي كقوله أقيموا الصلاة مع قوله : اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة ، وقوله : فاسعوا إلى ذكر الله [ الجمعة : 9 ] مع قوله : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] ، وقوله : ولا تصوموا يوم النحر مثلا مع قوله : لا تواصلوا .
[ ص: 405 ] وما أشبه ذلك مما يفهم فيه التفرقة بين الأمرين ، وهذا نحو ما في الصحيح أنه - عليه الصلاة والسلام - خرج على أبي بن كعب ، وهو يصلي فقال - عليه الصلاة والسلام - : يا أبي فالتفت إليه ولم يجبه وصلى فالتفت إليه ولم يجبه وصلى فخفف ثم انصرف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبي ، ما منعك أن تجيبني إذا دعوتك ؟ فقال : يا رسول الله ، كنت أصلي ، فقال : أفلم تجد فيما أوحي إلي : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [ الأنفال : 24 ] قال : بلى يا رسول الله ولا أعود إن شاء الله .
وهو في البخاري عن أبي سعيد بن المعلى ، وأنه صاحب القصة فهذا منه - عليه الصلاة والسلام - إشارة إلى النظر لمجرد الأمر ، وإن كان ثم معارض .
وفي أبي داود أن ابن مسعود جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فسمعه يقول : اجلسوا فجلس بباب المسجد فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : تعال يا [ ص: 406 ] عبد الله . وسمع عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بالطريق يقول : اجلسوا فجلس بالطريق فمر به - عليه الصلاة والسلام - فقال : ما شأنك ؟ فقال : سمعتك تقول اجلسوا فقال له : زادك الله طاعة .
[ ص: 407 ] وفي البخاري قال - عليه الصلاة والسلام - يوم الأحزاب : لا يصل أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركهم وقت العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم ، بل نصلي ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدة من الطائفتين .
[ ص: 408 ] [ ص: 409 ] وكثير من الناس فسخوا البيع الواقع في وقت النداء لمجرد قوله تعالى : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] .
وهذا وجه من الاعتبار يمكن الانصراف إليه والقول به عاما ، وإن كان غيره أرجح منه وله مجال في النظر منفسح ، فمن وجوهه أن يقال : لا يخلو أن نعتبر في الأوامر والنواهي المصالح أولا ، فإن لم نعتبرها فذلك أحرى في الوقوف مع مجردها ، وإن اعتبرناها فلم يحصل لنا من معقولها أمر يتحصل عندنا دون اعتبار الأوامر والنواهي ، فإن المصلحة وإن علمناها على الجملة فنحن جاهلون بها على التفصيل ، فقد علمنا أن حد الزنا مثلا لمعنى الزجر بكونه في [ ص: 410 ] المحصن الرجم دون ضرب العنق ، أو الجلد إلى الموت ، أو إلى عدد معلوم ، أو السجن ، أو الصوم ، أو بذل مال كالكفارات ، وفي غير المحصن جلد مائة ، وتغريب عام دون الرجم ، أو القتل ، أو زيادة عدد الجلد على المائة ، أو نقصانه عنها إلى غير ذلك من وجوه الزجر الممكنة في العقل .
هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة فيما حد فيه على الخصوص دون غيره ، وإذا لم نعقل ذلك ولا يمكن ذلك للعقول دل على أن فيما حد من ذلك مصلحة لا نعلمها ، وهكذا يجرى الحكم في سائر ما يعقل معناه أما التعبدات ، فهي أحرى بذلك فلم يبق لنا إذا وزر دون الوقوف مع مجرد الأوامر والنواهي .
وكثيرا ما يظهر لنا ببادئ الرأي للأمر ، أو النهي معنى مصلحي ، ويكون في نفس الأمر بخلاف ذلك يبينه نص آخر يعارضه ، فلا بد من الرجوع إلى ذلك النص دون اعتبار ذلك المعنى .
وأيضا فقد مر في كتاب المقاصد أن كل أمر ، ونهي لا بد فيه من معنى [ ص: 411 ] تعبدي ، وإذا ثبت هذا لم يكن لإهماله سبيل فكل معنى يؤدى إلى عدم اعتبار مجرد الأمر والنهي لا سبيل إلى الرجوع إليه ، فإذا المعنى المفهوم للأمر والنهي إن كر عليه بالإهمال ، فلا سبيل إليه ، وإلا فالحاصل الرجوع إلى الأمر والنهي دونه فآل الأمر في القول باعتبار المصالح أنه لا سبيل إلى اعتبارها مع الأمر والنهي ، وهو المطلوب .
ولا يقال : إن عدم الالتفات إلى المعاني إعراض عن مقاصد الشارع المعلومة كما في قول القائل لا يجوز الوضوء بالماء الذي بال فيه الإنسان ، فإن كان قد بال في إناء ، ثم صبه في الماء جاز الوضوء به ; لأنا نقول : هذا أيضا معارض بما يضاده في الطرف الآخر في تتبع المعاني مع إلغاء الصيغ كما قيل : في قوله - عليه الصلاة والسلام - : في أربعين شاة شاة إن المعنى قيمة شاة ; لأن المقصود سد الخلة ، وذلك حاصل [ ص: 412 ] بقيمة الشاة فجعل الموجود معدوما والمعدوم موجودا ، وأدى ذلك إلى أن لا تكون الشاة واجبة ، وهو عين المخالفة ، وأشباه ذلك من أوجه المخالفة الناشئة عن تتبع المعاني .
وإذا كانت المعاني غير معتبرة بإطلاق ، وإنما تعتبر من حيث هي مقصود الصيغ فاتباع أنفس الصيغ التي هي الأصل واجب ; لأنها مع المعاني كالأصل مع الفرع ولا يصح اتباع الفرع مع إلغاء الأصل ، ويكفي من التنبيه على رجحان هذا النحو ما ذكر .
والثاني من النظرين هو من حيث يفهم من الأوامر والنواهي قصد شرعي بحسب الاستقراء ، وما يقترن بها من القرائن الحالية ، أو المقالية الدالة على [ ص: 413 ] أعيان المصالح في المأمورات والمفاسد في المنهيات ، فإن المفهوم من قوله : أقيموا الصلاة المحافظة عليها والإدامة لها ، ومن قوله : اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة الرفق بالمكلف خوف العنت ، أو الانقطاع لا أن المقصود نفس التقليل من العبادة ، أو ترك الدوام على التوجه لله .
وكذلك قوله : فاسعوا إلى ذكر الله [ الجمعة : 9 ] مقصوده الحفظ على إقامة الجمعة وعدم التفريط فيها لا الأمر بالسعي إليها فقط .
وقوله : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] جار مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة الشاغل عن السعي لا أن المقصود النهي عن البيع مطلقا في ذلك الوقت على حد النهي عن بيع الغرر ، أو بيع الربا ، أو نحوهما .
وكذلك إذا قال : لا تصوموا يوم النحر المفهوم منه مثلا قصد الشارع إلى ترك إيقاع الصوم فيه خصوصا ، ومن قوله : لا تواصلوا ، أو قوله : لا [ ص: 414 ] تصوموا الدهر الرفق بالمكلف أن لا يدخل فيما لا يحصيه ولا يدوم عليه ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - يواصل ويسرد الصوم .
وكذلك سائر الأوامر والنواهي التي مغزاها راجع إلى هذا المعنى ، كما أنه قد يفهم من مغزى الأمر والنهي الإباحة ، وإن كانت الصيغة لا تقتضي بوضعها الأصلي ذلك ، كقوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] ، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض [ الجمعة : 10 ] ; إذ علم قطعا أن مقصود [ ص: 415 ] الشارع ليس ملابسة الاصطياد عند الإحلال ولا الانتشار عند انقضاء الصلاة وإنما مقصوده أن سبب المنع من هذه الأشياء قد زال ، وهو انقضاء الصلاة وزوال حكم الإحرام فهذا النظر يعضده الاستقراء أيضا .
وقد مر منه أمثلة .
وأيضا فقد قام الدليل على اعتبار المصالح شرعا ، وأن الأوامر والنواهي مشتملة عليها فلو تركنا اعتبارها على الإطلاق لكنا قد خالفنا الشارع من حيث قصدنا موافقته ، فإن الفرض أن هذا الأمر وقع لهذه المصلحة ، فإذا ألغينا النظر فيها في التكليف بمقتضى الأمر كنا قد أهملنا في الدخول تحت حكم الأمر ما اعتبره الشارع فيه فيوشك أن نخالفه في بعض موارد ذلك الأمر ، وذلك أن الوصال وسرد الصيام قد جاء النهي عنه ، وقد واصل - عليه الصلاة والسلام - بأصحابه حين نهاهم فلم ينتهوا .
[ ص: 416 ] وفي هذا أمران إن أخذنا بظاهر النهي .
أحدهما : أنه نهاهم فلم ينتهوا فلو كان المقصود من النهي ظاهره لكانوا قد عاندوا نهيه بالمخالفة مشافهة ، وقابلوه بالعصيان صراحا ، وفي القول بهذا ما فيه .
والآخر أنه واصل بهم حين لم يمتثلوا نهيه ولو كان النهي على ظاهره لكان تناقضا ، وحاشى لله من ذلك ، وإنما كان ذلك النهي للرفق بهم خاصة ، وإبقاء عليهم فلما لم يسامحوا أنفسهم بالراحة وطلبوا فضيلة احتمال التعب في مرضاة الله أراد - عليه الصلاة والسلام - أن يريهم بالفعل ما نهاهم لأجله ، وهو دخول المشقة حتى يعلموا أن نهيه - عليه الصلاة والسلام - هو الرفق بهم والأخلق بالضعفاء الذين لا يصبرون على احتمال اللأواء في مرضاة ربهم .
وأيضا فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - نهى عن أشياء ، وأمر بأشياء ، وأطلق القول فيها إطلاقا ليحملها المكلف في نفسه ، وفي غيره على التوسط لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة والنهي عن مساوئ الأخلاق وسائر المناهي المطلقة .
وقد تقدم أن المكلف جعل له النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومنته ، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجردا من الالتفات إلى المعاني .
وقد نهى - عليه الصلاة والسلام - عن بيع الغرر ، وذكر منه أشياء كبيع [ ص: 417 ] الثمرة قبل أن تزهى وبيع حبل الحبلة والحصاة ، وغيرها .
وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه ، [ ص: 418 ] وشراؤه كبيع الجوز واللوز والقسطل في قشرها ، وبيع الخشبة والمغيبات في الأرض والمقاثي كلها ، بل كان يمتنع كل ما فيه وجه مغيب كالديار والحوانيت المغيبة الأسس والأنقاض ، وما أشبه ذلك مما لا يحصى ولم يأت فيه نص بالجواز ، ومثل هذا لا يصح فيه القول بالمنع أصلا ; لأن الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررا مترددا بين السلامة والعطب فهو مما خص بالمعنى المصلحي ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده .
[ ص: 419 ] وأيضا فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساو في دلالة الاقتضاء والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب ، أو ندب ، وما هو نهي تحريم ، أو كراهة لا تعلم من النصوص ، وإن علم منها بعض فالأكثر منها غير معلوم ، وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني والنظر إلى المصالح ، وفي أي مرتبة تقع ، وبالاستقراء المعنوي ولم نستند فيه لمجرد الصيغة ، وإلا لزم في الأمر أن لا يكون في الشريعة إلا على قسم واحد لا على أقسام متعددة والنهي كذلك أيضا ، بل نقول : كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ ، وإلا صار ضحكة وهزأة ألا ترى إلى قولهم فلان أسد ، أو حمار ، أو عظيم الرماد ، أو جبان الكلب ، وفلانة بعيدة مهوى القرط ، وما لا [ ص: 420 ] ينحصر من الأمثلة لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول فما ظنك بكلام الله ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا المساق يجري التفريق بين البول في الماء الدائم وصبه من الإناء فيه .
وقد حكى إمام الحرمين عن ابن سريج أنه ناظر أبا بكر بن داود الأصبهاني في القول بالظاهر فقال له ابن سريج أنت تلتزم الظواهر .
وقد قال تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [ الزلزلة : 7 ] فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين فقال مجيبا الذرتان ذرة وذرة فقال ابن سريج فلو عمل مثقال ذرة ونصف ؟ فتبلد وانقطع .
وقد نقل عياض عن بعض العلماء أن مذهب داود بدعة ظهرت بعد المائتين ، وهذا وإن كان تغاليا في رد العمل بالظاهر فالعمل بالظواهر أيضا [ ص: 421 ] على تتبع وتغال بعيد عن مقصود الشارع كما أن إهمالها إسراف أيضا كما تقدم تقريره في آخر كتاب المقاصد ، وسيذكر بعد إن شاء الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (123)
صـ422 إلى صـ 432
فصل
فإذا ثبت هذا ، وعمل العامل على مقتضى المفهوم من علة الأمر والنهي فهو جار على السنن القويم موافق لقصد الشارع في ورده وصدره ولذلك أخذ السلف الصالح أنفسهم بالاجتهاد في العبادة والتحري في الأخذ بالعزائم ، وقهروها تحت مشقات التعبد فإنهم فهموا أن الأوامر والنواهي واردة مقصودة من جهة الآمر والناهي لننظر كيف تعملون [ يونس : 14 ] ، و ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] .
لكن لما كان المكلف ضعيفا في نفسه ضعيفا في عزمه ضعيفا في صبره عذره ربه الذي علمه كذلك ، وخلقه عليه فجعل له من جهة ضعفه رفقا يستند إليه في الدخول في الأعمال ، وأدخل في قلبه حب الطاعة ، وقواه عليها ، وكان معه عند صبره على بعض الزعازع المشوشة والخواطر المشغبة ، وكان من جملة الرفق به أن جعل له مجالا في رفع الحرج عند صدماته ، وتهيئة له في أول العمل بالتخفيف استقبالا بذلك ثقل المداومة حتى لا يصعب عليه البقاء فيه والاستمرار عليه ، فإذا داخل العبد حب الخير وانفتح له يسر المشقة صار [ ص: 422 ] الثقيل عليه خفيفا فتوخى مطلق الأمر بالعبادة بقوله : وتبتل إليه تبتيلا [ المزمل : 8 ] ، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] .
فكأن المشقة وضدها إضافيان لا حقيقتان كما تقدم في مسائل الرخص ، فالأمر متوجه وكل أحد فقيه نفسه ، فإذا كان الأمر والنهي - المراد بهما الرفق والتوسعة على العبد ; اشتركت الرخص معهما في هذا القصد ، فكان الأمر والنهي في العزائم مقصودا أن يمتثل على الجملة ، وفي الرفق راجعا إلى جهة العبد : إذا اختار مقتضى الرفق ، فمثل الرخصة ، وإذا اختار خلافه فعلى مقتضى العزيمة التي اقتضاها قوله : وتبتل إليه تبتيلا [ المزمل : 8 ] وأشباهه .
فصل
وأما الأوامر والنواهي غير الصريحة فضروب .
أحدها : ما جاء مجيء الإخبار عن تقرير الحكم كقوله تعالى كتب عليكم الصيام [ البقرة : 183 ] .
والوالدات يرضعن أولادهن [ البقرة : 233 ] .
ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [ النساء : 141 ] .
فكفارته إطعام عشرة مساكين [ المائدة : 89 ] .
وأشباه ذلك مما فيه معنى الأمر فهذا ظاهر الحكم ، وهو جار مجرى الصريح من الأمر والنهي .
والثاني : ما جاء مجيء مدحه ، أو مدح فاعله في الأوامر ، أو ذمه ، أو ذم فاعله [ ص: 423 ] في النواهي ، وترتيب الثواب على الفعل في الأوامر ، وترتيب العقاب في النواهي ، أو الإخبار بمحبة الله في الأوامر والبغض والكراهية ، أو عدم الحب في النواهي .
وأمثلة هذا الضرب ظاهرة كقوله : والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون [ الحديد : 19 ] .
وقوله : بل أنتم قوم مسرفون [ الأعراف : 81 ] .
وقوله : ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات [ النساء : 13 ] .
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا [ النساء : 14 ] .
وقوله : والله يحب المحسنين [ آل عمران : 134 ] .
وقوله : إنه لا يحب المسرفين [ الأعراف : 31 ] .
ولا يرضى لعباده الكفر [ الزمر : 7 ] .
وإن تشكروا يرضه لكم [ الزمر : 7 ] .
وما أشبه ذلك ، فإن هذه الأشياء دالة على طلب الفعل في المحمود وطلب الترك في المذموم من غير إشكال .
والثالث : ما يتوقف عليه المطلوب كالمفروض في مسألة ما لا يتم [ ص: 424 ] الواجب إلا به ، وفي مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده ، وكون المباح مأمورا به بناء على قول الكعبي ، وما أشبه ذلك من الأوامر والنواهي التي هي لزومية للأعمال لا مقصودة لأنفسها .
وقد اختلف الناس فيها ، وفي اعتبارها ، وذلك مذكور في الأصول ولكن إذا بنينا على اعتبارها فعلى القصد الثاني ، لا على القصد الأول ، بل هي أضعف في الاعتبار من الأوامر والنواهي الصريحة التبعية كقوله : وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] ; [ ص: 425 ] لأن رتبة الصريح ليست كرتبة الضمني في الاعتبار أصلا .
وقد مر في كتاب المقاصد أن المقاصد الشرعية ضربان :
مقاصد أصلية ، ومقاصد تابعة فهذا القسم في الأوامر والنواهي مستمد من ذلك ، وفي الفرق بينهما فقه كثير ولا بد من ذكر مسألة تقررها في فصل يبين ذلك حتى تتخذ دستورا لأمثالها في فقه الشريعة بحول الله .
فصل
الغصب عند الفقهاء هو التعدي على الرقاب والتعدي مختص بالتعدي على المنافع دون الرقاب .
فإذا قصد الغاصب تملك رقبة المغصوب فهو منهي عن ذلك آثم فيما فعل من جهة ما قصد ، وهو لم يقصد إلا الرقبة فكان النهي أولا عن الاستيلاء على الرقبة .
وأما التعدي على المنافع فالقصد فيه تملك المنافع دون الرقبة فهو منهي عن ذلك الانتفاع من جهة ما قصد ، وهو لم يقصد [ ص: 426 ] إلا المنافع ، لكن كل واحد منهما يلزمه الآخر بالحكم التبعي ، وبالقصد الثاني لا بالقصد الأول .
فإذا كان غاصبا فهو ضامن للرقاب لا للمنافع ، وإنما يضمن قيمة الرقبة يوم الغصب لا بأرفع القيم ; لأن الانتفاع تابع .
فإذا كان تابعا صار النهي عن الانتفاع تابعا للنهي عن الاستيلاء على الرقبة فلذلك لا يضمن قيمة المنافع إلا على قول بعض العلماء بناء على أن المنافع مشاركة في القصد الأول والأظهر أن لا ضمان عليه لعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : [ ص: 427 ] الخراج بالضمان ، وسبب ذلك ما ذكر من أن النهي عن الانتفاع غير مقصود لنفسه ، بل هو تابع للنهي عن الغصب ، وإنما هو شبيه بالبيع وقت النداء .
فإذا كان البيع مع التصريح بالنهي صحيحا عند جماعة من العلماء لكونه غير مقصود في نفسه فأولى أن يصح مع النهي الضمني ، وهذا البحث جار في مسألة ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب أم لا ، فإن قلنا : غير واجب ، فلا إشكال ، وإن قلنا : واجب فليس وجوبه مقصودا في نفسه ، وكذلك مسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده والنهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده ، فإن قلنا بذلك فليس بمقصود لنفسه ، فلا يكون للأمر والنهي حكم منحتم إلا عند فرضه مقصودا بالقصد الأول وليس [ ص: 428 ] كذلك .
أما إذا كان متعديا فضمانه ضمان التعدي لا ضمان الغصب ، فإن الرقبة تابعة .
فإذا كان كذلك صار النهي عن إمساك الرقبة تابعا للنهي عن الاستيلاء على المنافع فلذلك يضمن بأرفع القيم مطلقا ، ويضمن ما قل ، وما كثر .
وأما ضمان الرقبة في التعدي فعند التلف خاصة من حيث كان تلفها عائدا على المنافع بالتلف بخلاف الغصب في هذه الأشياء .
ولو كان أمرهما واحدا لما فرق بينهما مالك ولا غيره قال : مالك في الغاصب والسارق إذا حبس المغصوب ، أو المسروق عن أسواقه ، ومنافعه ، ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يضمنه ، وإن كان مستعيرا ، أو متكاريا ضمن قيمته .
[ ص: 429 ] وهذا التفريع إنما هو على المشهور في مذهب مالك ، وأصحابه ، وإلا فإذا بنينا على غيره فالمأخذ آخر والأصل المبني عليه ثابت .
فالقائل باستواء البابين ينبني قوله على مآخذ .
منها القاعدة التي يذكرها أهل المذهب ، وهي هل الدوام كالابتداء ، فإن قلنا ليس الدوام كالابتداء فذلك جار على المشهور في الغصب فالضمان يوم الغصب والمنافع تابعة ، وإن قلنا إنه كالابتداء فالغاصب في كل حين كالمبتدئ للغصب فهو ضامن في كل وقت ضمانا جديدا فيجب أن يضمن المغصوب بأرفع القيم كما قال ابن وهب ، وأشهب ، وعبد الملك . قال ابن شعبان : لأن عليه أن يرده في كل وقت ، ومتى لم يرده كان كمغتصبه حينئذ .
ومنها القاعدة المتقررة ، وهي أن الأعيان لا يملكها في الحقيقة إلا باريها تعالى ، وإنما للعبد منها المنافع ، وإذا كان كذلك فهل القصد إلى [ ص: 430 ] ملك الرقاب منصرف إلى ملك المنافع أم لا ، فإن قلنا هو منصرف إليها ; إذ أعيان الرقاب لا منفعة فيها من حيث هي أعيان ، بل من حيث اشتمالها على المنافع المقصودة فهذا مقتضى قول من لم يفرق بين الغصب والتعدي في ضمان المنافع ، وإن قلنا ليس بمنصرف فهو بمقتضى التفرقة .
ومنها أن الغاصب إذا قصد تملك الرقبة فهل يتقرر له عليها شبهة ملك بسبب ضمانه لها أم لا ، فإن قلنا : إنه يتقرر عليها شبهة مالك كالذي في أيدي الكفار من أموال المسلمين كان داخلا تحت قوله - عليه الصلاة والسلام - : الخراج بالضمان فكانت كل غلة وثمن يعلو أو يسفل ، أو حادث يحدث للغاصب وعليه بمقتضى الضمان كالاستحقاق والبيوع الفاسدة ، وإن قلنا : إنه لا يتقرر له عليها شبهة ملك ، بل المغصوب على ملك صاحبه فكل ما يحدث من غلة ، ومنفعة فعلى ملكه ، فهي له ، فلا بد للغاصب من غرمها ; لأنه قد غصبها أيضا .
وأما ما يحدث من نقص فعلى الغاضب بعدائه ; لأن نقص الشيء [ ص: 431 ] المغصوب إتلاف لبعض ذاته فيضمنه كما يضمن المتعدي على المنافع ; لأن قيام الذات من جملة المنافع هذا أيضا مما يصح أن يبنى عليه الخلاف .
ومنها أن يقال : هل المغصوب إذا رد بحاله إلى يد صاحبه يعد كالمتعدي فيه ; لأن الصورة فيهما معا واحدة ولا أثر لقصد الغصب إذا كان الغاصب قد رد ما غصب استرواحا من قاعدة مالك في اعتبار الأفعال دون النظر إلى المقاصد ، وإلغائه الوسائط أم لا يعد كذلك ؟ فالذي يشير إليه قول مالك هنا أن للقصد أثرا ، وظاهر كلام ابن القاسم أن لا أثر له ولذلك لما قال مالك في الغاصب ، أو السارق إذا حبس الشيء المأخوذ عن أسواقه ، ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يضمنه ، وإن كان مستعيرا ، أو متكاريا ضمن قيمته قال ابن القاسم : لولا ما قاله مالك لجعلت على السارق مثل ما جعل على المتكاري .
فهذه أوجه يمكن إجراء الخلاف في مذهب مالك ، وغيره عليها مع بقاء القاعدة المتقدمة على حالها ، وهى أن ما كان من الأوامر ، أو النواهي بالقصد الأول فحكمه منحتم ، بخلاف ما كان منه بالقصد الثاني .
فإذا نظر في هذه الوجوه بالقاعدة المذكورة ظهر وجه الخلاف وربما خرجت عن ذلك أشياء ترجع إلى الاستحسان ولا تنقض أصل القاعدة والله أعلم .
واعلم أن مسألة الصلاة في الدار المغصوبة إذا عرضت على هذا الأصل تبين منه وجه صحة مذهب الجمهور القائلين بعدم بطلانها ، ووجه مذهب ابن [ ص: 432 ] حنبل ، وأصبغ ، وسائر القائلين ببطلانها .
وقد أذكرت هذه المسألة مسألة أخرى ترجع إلى هذا المعنى ، وهي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (124)
صـ433 إلى صـ 448
المسألة الثامنة
الأمر والنهي إذا تواردا على متلازمين فكان أحدهما مأمورا به والآخر منهيا عنه عند فرض الانفراد ، وكان أحدهما في حكم التبع للآخر وجودا ، أو عدما ، فإن المعتبر من الاقتضاءين ما انصرف إلى جهة المتبوع .
وأما ما انصرف إلى جهة التابع فملغى وساقط الاعتبار شرعا والدليل على ذلك أمور .
أحدها : ما تقدم تقريره في المسألة قبلها ، هذا وإن كان الأمر والنهي هنالك غير صريح ، وهنا صريح ، فلا فرق بينهما إذا ثبت حكم التبعية ولذلك نقول : إن القائل ببطلان البيع وقت النداء لم يبن على كون النهي تبعيا .
وإنما [ ص: 434 ] بنى البطلان على كونه مقصودا .
والثاني : أنه لا يخلو إذا تواردا على المتلازمين .
أما أن يردا معا عليهما أو لا يردا ألبتة ، أو يرد أحدهما دون الآخر والأول غير صحيح ; إذ قد فرضناهما متلازمين ، فلا يمكن الامتثال في التلبس بهما لاجتماع الأمر والنهي فمن حيث أخذ في العمل صادمه النهي عنه ، ومن حيث تركه صادمه الأمر فيؤدي إلى اجتماع الأمر والنهي على المكلف فعل أو ترك ، وهو تكليف بما لا يطاق ، وهو غير واقع فما أدى إليه غير صحيح .
والثاني : كذلك أيضا ; لأن الفرض أن الطلبين توجها ، فلا يمكن ارتفاعهما معا فلم يبق إلا أن يتوجه أحدهما دون الثاني .
وقد فرضنا أحدهما متبوعا ، وهو المقصود أولا والآخر تابعا ، وهو المقصود ثانيا فتعين توجه ما تعلق بالمتبوع دون ما تعلق بالتابع ولا يصح العكس ; لأنه خلاف المعقول .
والثالث : الاستقراء من الشريعة كالعقد على الأصول مع منافعها وغلاتها والعقد على الرقاب مع منافعها وغلاتها ، فإن كل واحد منهما مما يقصد في نفسه فللإنسان أن يتملك الرقاب ، ويتبعها منافعها وله أيضا أن [ ص: 435 ] يتملك أنفس المنافع خاصة ، وتتبعها الرقاب من جهة استيفاء المنافع ، ويصح القصد إلى كل واحد منهما .
فمثل هذه الأمثلة يتبين فيها وجه التبعية بصور لا خلاف فيها ، وذلك أن العقد في شراء الدار ، أو الفدان ، أو الجنة ، أو العبد ، أو الدابة ، أو الثوب ، وأشباه ذلك جائز بلا خلاف ، وهو عقد على الرقاب لا على المنافع التابعة لها ; لأن المنافع قد تكون موجودة والغالب أن تكون وقت العقد معدومة ، وإذا كانت معدومة امتنع العقد عليها للجهل بها من كل جهة ، ومن كل طريق ; إذ لا يدري مقدارها ولا صفتها ولا مدتها ولا غير ذلك ، بل لا يدري هل توجد من أصل أم لا ، فلا يصح العقد عليها على فرض انفرادها للنهي عن بيع الغرر والمجهول ، بل العقد على الأبضاع لمنافعها جائز ولو انفرد العقد على منفعة البضع لامتنع مطلقا إن كان وطئا ولامتنع فيما سوى البضع أيضا إلا بضابط [ ص: 436 ] يخرج المعقود عليه من الجهل إلى العلم كالخدمة والصنعة ، وسائر منافع الرقاب المعقود عليها على الانفراد .
والعكس كذلك أيضا كمنافع الأحرار يجوز العقد عليها في الإجارات على الجملة باتفاق ولا يجوز العقد على الرقاب باتفاق ، ومع ذلك فالعقد على المنافع فيه يستتبع العقد على الرقبة ; إذ الحر محجور عليه زمن استيفاء المنفعة من رقبته بسبب العقد ، وذلك أثر كون الرقبة معقودا عليها ، لكن بالقصد الثاني وهذا المعنى أوضح من أن يستدل عليه ، وهو على الجملة يعطى أن التوابع مع المتبوعات لا يتعلق بها من حيث هي توابع أمر ولا نهي ، وإنما يتعلق بها الأمر والنهي إذا قصدت ابتداء ، وهي إذ ذاك متبوعة لا تابعة .
فإن قيل : هذا مشكل بأمور أحدها : أن العلماء قالوا : إن الرقاب - وبالجملة الذوات - لا يملكها إلا الله تعالى ، وإنما المقصود في التملك شرعا منافع الرقاب ; لأن المنافع هي التي تعود على العباد بالمصالح لا أنفس الذوات فذات الأرض ، أو [ ص: 437 ] الدار ، أو الثوب ، أو الدرهم مثلا لا نفع فيها ولا ضر من حيث هي ذوات ، وإنما يحصل المقصود بها من حيث إن الأرض تزدرع مثلا والدار تسكن والثوب يلبس والدرهم يشترى به ما يعود عليه بالمنفعة فهذا ظاهر حسبما نصوا عليه ، وإذا كان كذلك فالعقد أولا إنما وقع على المنافع خاصة والرقاب لا تدخل تحت الملك ، فلا تابع ولا متبوع ، وإذا لم يتصور فيما تقدم وأشباهه تابع ومتبوع بطل فكل ما فرض من المسائل خارج عن تمثيل الأصل المستدل عليه ، فلا بد من إثباته أولا واقعا في الشريعة ، ثم الاستدلال عليه ثانيا .
والثاني : إن سلمنا أن الذوات هي المعقود عليها فالمنافع هي المقصود أولا منها لما تقدم من أن الذوات لا نفع فيها ولا ضر من حيث هي ذوات فصار المقصود أولا هي المنافع ، وحين كانت المنافع لا تحصل على [ ص: 438 ] الجملة إلا عند تحصيل الذوات سعى العقلاء في تحصيلها فالتابع إذا في القصد هي الذوات والمتبوع هو المنافع فاقتضى هذا بحكم ما تحصل أولا أن تكون الذوات مع المنافع في حكم المعدوم ، وذلك باطل ; إذ لا تكون ذات الحر تابعة لحكم منافعه باتفاق ، بل لا تكون الإجارة ولا الكراء في شيء يتبعه ذات ذلك الشيء فاكتراء الدار يملك منفعتها ولا يتبعه ملك الرقبة ، وكذلك كل مستأجر من أرض ، أو حيوان ، أو عرض ، أو غير ذلك فهذا أصل منخرم إن كان مبنيا على أمثال هذه الأمثلة .
والثالث : أنا وجدنا الشارع نص على خلاف ذلك ، فإنه قال : من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع ، وقال من باع عبدا وله مال فماله لسيده إلا أن يشترطه المبتاع فهذان حديثان لم يجعلا [ ص: 439 ] المنفعة للمبتاع بنفس العقد مع أنها عندكم تابعة للأصول كسائر منافع الأعيان ، بل جعل فيهما التابع للبائع ولا يكون كذلك إلا عند انفصال الثمرة عن الأصل حكما ، وهو يعطى في الشرع انفصال التابع من المتبوع ، وهو معارض لما تقدم ، فلا يكون صحيحا .
والرابع أن المنافع مقصودة بلا خلاف بين العقلاء ، وأرباب العوائد ، وإن فرض الأصل مقصودا فكلاهما مقصود ولذلك يزاد في ثمن الأصل بحسب زيادة المنافع ، وينقص منه بحسب نقصانها ، وإذا ثبت هذا فكيف تكون المنافع ملغاة ، وهي مثمونة معتد بها في أصل العقد مقصودة فهذا يقتضي القصد إليها ، وعدم القصد إليها معا ، وهو محال .
ولا يقال : إن القصد إليها عادي ، وعدم القصد إليها شرعي فانفصلا ، فلا تناقض ; لأنا نقول : كون الشارع غير قاصد لها في الحكم مبني على عدم القصد إليها عرفا ، وعادة ; لأن من أصول الشرع إجراء الأحكام على العوائد .
[ ص: 440 ] ومن أصوله مراعاة المصالح ، ومقاصد المكلفين فيها أعنى في غير العبادات المحضة ، وإذا تقرر أن مصالح الأصول هي المنافع ، وأن المنافع مقصودة عادة وعرفا للعقلاء ثبت أن حكم الشرع بحسب ذلك .
وقد قلتم : إن المنافع ملغاة شرعا مع الأصول ، فهي إذا ملغاة في عادات العقلاء ، لكن تقرر أنها مقصودة في عادات العقلاء هذا خلف محال .
فالجواب عن الأول أن ما أصلوه صحيح ولا يقدح في مقصودنا ; لأن الأفعال أيضا ليس للعبد فيها ملك حقيقي إلا مثل ماله في الصفات والذوات فكما تضاف الأفعال إلى العباد كذلك تضاف إليهم الصفات والذوات ولا فرق بينهما إلا أن من الأفعال ما هو لنا مكتسب وليس لنا من الصفات ولا الذوات شيء مكتسب لنا ، وما أضيف لنا من الأفعال كسبا فإنما هي أسباب لمسببات هي أنفس المنافع والمضار ، أو طريق إليها ، ومن جهتها [ ص: 441 ] كلفنا في الأسباب بالأمر والنهي .
وأما أنفس المسببات من حيث هي مسببات فمخلوقة لله تعالى حسبما تقرر في كتاب الأحكام فكما يجوز إضافة المنافع والمضار إلينا ، وإن كانت غير داخلة تحت قدرتنا كذلك الذوات يصح إضافتها إلينا على ما يليق بنا ، ويدلك على ذلك أن منها ما يجوز التصرف فيه بالإتلاف والتغيير كذبح الحيوان وقتله للمأكلة ، وإتلاف المطاعم والمشارب والملابس بالأكل والشرب واللباس ، وما أشبه ذلك ، وأبيح لنا إتلاف ما لا ينتفع به إذا كان مؤذيا ، أو لم يكن مؤذيا ، وكان إتلافه تكملة لما ليس بضروري ولا حاجي من المنافع كإزالة الشجرة المانعة للشمس عنك ، وما أشبه ذلك فجواز التصرف في أنفس الذوات بالإتلاف والتغيير وغيرهما دليل على صحة تملكها شرعا ولا يبقى بيننا وبين من أطلق تلك العبارة أن الذوات لا يملكها إلا الله سوى الخلاف في اصطلاح .
وأما حقيقة المعنى فمتفق عليها ، وإذا ثبت ملك الذوات وكانت المنافع ناشئة عنها صح كون المنافع تابعة ، وتصور معنى القاعدة .
والجواب عن الثاني : أنه إن سلم على الجملة فهو في التفصيل غير مسلم .
أما أن المقصود المنافع فكذلك نقول : إلا أن المنافع لا ضابط لها إلا ذواتها التي نشأت عنها ، وذلك أن منافع الأعيان لا تنحصر ، وإن انحصرت [ ص: 442 ] الأعيان ، فإن العبد مثلا قد هيئ في أصل خلقته إلى كل ما يصلح له الآدمي من الخدم والحرف والصنائع والعلوم والتعبدات وكل واحد من هذه الخمسة جنس تحته أنواع تكاد تفوت الحصر وكل نوع تحته أشخاص من المنافع لا تتناهى هذا ، وإن كان في العادة لا يقدر على جميع هذه الأمور فدخوله في جنس واحد معرفا فيه ، أو في بعض أصنافه يكفي في حصر ما لا يتناهى من المنافع بحيث يكون كل شخص منها تصح مؤاجرته عليه من الغير بأجرة ينتفع بها عمره ، وكذلك كل رقبة من الرقاب ، وعين من الأعيان المملوكة للانتفاع بها فالنظر إلى الأعيان نظر إلى كليات المنافع .
وأما إذا نظرنا إلى المنافع ، فلا يمكن حصرها في حيز واحد ، وإنما يحصر منها بعض إليه يتوجه القصد بحسب الوقت والحال والإمكان فحصل القصد من جهتها جزئيا لا كليا ولم تنضبط المنافع من جهتها قصدا لا في الوقوع وجودا ولا في العقد عليها شرعا لحصول الجهالة حتى يضبط منها بعض إلى حد محدود ، وشيء معلوم ، وذلك كله جزئي لا كلي .
فإذا النظر إلى المنافع خصوصا نظر إلى جزئيات المنافع والكلي مقدم على الجزئي طبعا ، وعقلا ، وهو أيضا مقدم شرعا كما مر .
[ ص: 443 ] فقد تبين من هذا على تسليم أن المقصود المنافع أن الذوات هي المقدمة المقصودة أولا المتبوعة ، وأن المنافع هي التابعة ، وظهر لك حكمة الشارع في إجازة ملك الرقاب لأجل المنافع ، وإن كانت غير معلومة ولا محصورة ، ومنع ملك المنافع خصوصا إلا على الحصر والضبط والعلم المقيد المحاط به بحسب الإمكان ; لأن أنفس الرقاب ضابط كلي لجملة المنافع فهو معلوم من جهة الكلية الحاصلة .
بخلاف أنفس المنافع مستقلة بالنظر فيها فإنها غير منضبطة في أنفسها ولا معلومة أمدا ولا حدا ولا قصدا ولا ثمنا ولا مثمونا .
فإذا ردت إلى ضابط يليق بها يحصل العلم من تلك الجهات أمكن العقد عليها والقصد في العادة إليها ، فإن أجازه الشارع جاز ، وإلا امتنع .
وما ذكر في السؤال من المنافع إذا كانت هي المقصودة فالرقاب تابعة ; إذ هي الوسائل إلى المقصود ، فإن أراد أنها تابعة لها مطلقا فممنوع بما تقدم ، وإن أراد تبعية ما فمسلم ولا يلزم من ذلك محظور ، فإن الأمور الكلية قد تتبع جزئياتها بوجه ما ولا يلزم من ذلك تبعيتها لها مطلقا .
[ ص: 444 ] وأيضا فالإيمان أصل الدين ، ثم إنك تجده وسيلة وشرطا في صحة العبادات حسبما نصوا عليه والشرط من توابع المشروط فيلزم إذا على مقتضى السؤال أن تكون الأعمال هي الأصول والإيمان تابع لها أولا ترى أنه يزيد بزيادة الأعمال ، وينقص بنقصانها ، لكن ذلك باطل ، فلا بد أن تكون التبعية إن ظهرت في الأصل جزئية لا كلية .
وكذلك نقول : إن العقد على المنافع بانفرادها يتبعها الأصول من حيث إن المنافع لا تستوفى إلا من الأصول ، فلا تخلو الأصول من إبقاء يد المنتفع عليها ، وتحجيرها عن انتفاع صاحبها بها كالعقد على الأصول سواء ، وهو معنى الملك إلا أنه مقصور على الانتفاع بالمنافع المعقود عليها ، ومنقض بانقضائها فلم يسم في الشرع ولا في العرف ملكا ، وإن كان كذلك في المعنى ; لأن العرف العادي والشرعي قد جرى بأن التملك في الرقاب هو التملك المطلق الأبدي الذي لا ينقطع إلا بالموت ، أو بانتفاع صاحبها بها ، أو المعاوضة عليها .
وقد كره مالك للمسلم أن يستأجر نفسه من الذمي ; لأنه لما ملك منفعة المسلم صار كأنه قد ملك رقبته وامتنع شراء الشيء على شرط فيه تحجير [ ص: 445 ] كشراء الأمة على أن يتخذها أم ولد ، أو على أن لا يبيع ولا يهب ، وما أشبه ذلك ; لأنه لما حجر عليه بعض منافع الرقبة فكأنه لم يملكها ملكا تاما وليس بشركة ; لأن الشركة على الشياع ، وهذا ليس كذلك وانظر في تعليل مالك المسألة في باب ما يفعل بالوليدة إذا بيعت في الموطأ ، فقد تبين أن هذا الأصل المستدل عليه مؤسس لا منخرم والحمد لله .
والجواب عن الثالث أن ما ذكر فيه شاهد على صحة المسألة ، وذلك أن الثمرة لما برزت في الأصل برزت على ملك البائع فهو المستحق لها أولا بسبب سبق استحقاقه لأصلها على حكم التبعية للأصل فلما صار الأصل للمشتري ولم يكن ثم اشتراط ، وكانت قد أبرزت ، وتميزت بنفسها عن أصلها لم تنتقل المنفعة إليه بانتقال الأصل ; إذ كانت قد تعينت منفعة لمن كان الأصل إليه فلو صارت للمشتري إعمالا للتبعية لكان هذا العمل بعينه قطعا ، وإهمالا للتبعية بالنسبة إلى البائع ، وهو السابق في استحقاق التبعية فثبتت أنها له دون المشتري .
وكذلك مال العبد لما برز في يد العبد ولم ينفصل عنه أشبه الثمرة مع [ ص: 446 ] الأصل فاستحقه الأول بحكم التبعية قبل استحقاق الثاني له ، فإن اشترطه المشتري ، فلا إشكال ، وإنما جاز اشتراطه ، وإن تعلق به المانع من أجل بقاء التبعية أيضا ، فإن الثمرة قبل الطيب مضطرة إلى أصلها لا يحصل الانتفاع بها إلا مع استصحابه فأشبهت وصفا من أوصاف الأصل .
وكذلك مال العبد يجوز اشتراطه ، وإن لم يجز شراؤه وحده ; لأنه ملك العبد وفي حوزه لا يملكه السيد إلا بحكم الانتزاع كالثمرة التي لم تطب .
فالحاصل أن التبعية للأصل ثابتة على الإطلاق غير أن مسألة ظهور الثمرة ومال العبد تعارض فيها جهتان للتبعية جهة البائع وجهة المشتري فكان البائع أولى ; لأنه المستحق الأول ، فإن اشترطه المبتاع انتقلت التبعية ، وهذا واضح جدا .
والجواب عن الرابع أن القصد إلى المنافع لا إشكال في حصوله على الجملة ولكن إذا أضيفت إلى الأصل يبقى النظر : هل هي مقصودة من حيث أنفسها على الاستقلال أم هي مقصودة من حيث رجوعها إلى الأصل كوصف من أوصافه .
فإن قلت : إنها مقصودة على حكم الاستقلال فغير صحيح ; لأن المنافع [ ص: 447 ] التي لم تبرز إلى الوجود بعد مقصودة ، ويجوز العقد عليها مع الأصل ولكنها ليست بمقصودة إلا من جهة الأصل فالقصد راجع إلى الأصل فالشجرة إذا اشتريت ، أو العبد قبل أن يتعلم خدمة ، أو صناعة ولم يستفد مالا والأرض قبل أن تكرى ، أو تزدرع ، وكذلك سائر الأشياء مقصود فيها هذه المنافع ، وغيرها ، لكن من جهة الأعيان والرقاب لا من جهة أنفس المنافع ; إذ هي غير موجودة بعد فليست بمقصودة إذا قصد الاستقلال ، وهو المراد بأنها غير مقصودة ، وإنما المقصود الأصل .
فالمنافع إنما هي كالأوصاف في الأصل كشراء العبد الكاتب لمنفعة الكتابة ، أو العالم للانتفاع بعلمه ، أو لغير ذلك من أوصافه التي لا تستقل في أنفسها ولا يمكن أن تستقل ; لأن أوصاف الذات لا يمكن استقلالها دون الذات ، قد زيد في أثمان الرقاب لأجلها فحصل لجهتها قسط من الثمن [ ص: 448 ] لا من حيث الاستقلال ، بل من حيث الرقاب .
وقد مر أن الرقاب هي ضوابط المنافع بالكلية ، وإذا ثبت اندفع التنافي والتناقض وصح الأصل المقرر والحمد لله .
وحاصل الأمر أن الطلبين لم يتواردا على هذا المجموع في الحقيقة ، وإنما توجه الطلب إلى المتبوع خاصة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (125)
صـ449 إلى صـ 460
فصل
وبقي هنا تقسيم ملائم لما تقدم ، وهو أن منافع الرقاب ، وهى التي قلنا إنها تابعة لها على الجملة تنقسم ثلاثة أقسام .
أحدها : ما كان في أصله بالقوة لم يبرز إلى الفعل لا حكما ولا وجودا كثمرة الشجر قبل الخروج ، وولد الحيوان قبل الحمل ، وخدمة العبد ، ووطء قبل حصول التهيئة ، وما أشبه ذلك ، فلا خلاف في هذا القسم أن المنافع هنا [ ص: 449 ] غير مستقلة في الحكم ; إذ لم تبرز إلى الوجود فضلا عن أن تستقل ، فلا قصد إليها هنا ألبتة وحكمها التبعية كما لو انفردت فيه الرقبة بالاعتبار .
والثاني : ما ظهر فيه حكم الاستقلال وجودا وحكما ، أو حكما عاديا ، أو شرعيا كالثمرة بعد اليبس ، وولد الحيوان بعد استغنائه عن أمه ، ومال العبد بعد الانتزاع ، وما أشبه ذلك ، فلا خلاف أيضا أن حكم التبعية منقطع عنه ، وحكمه مع الأصل حكم غير المتلازمين إذا اجتمعا قصدا لا بد من اعتبار كل واحد منهما على القصد الأول مطلقا .
والثالث : ما فيه الشائبتان فمباينة الأصل فيه ظاهرة ، لكن على غير الاستقلال ، فلا هو منتظم في سلك الأول ولا في الثاني ، وهو ضربان :
الأول : ما كان هذا المعنى فيه محسوسا كالثمرة الظاهرة قبل مزايلة الأصل والعبد ذي المال الحاضر تحت ملكه ، وولد الحيوان قبل الاستغناء عن أمه ، ونحو ذلك .
والآخر ما كان في حكم المحسوس كمنافع العروض والحيوان والعقار وأشباه ذلك مما حصلت فيه التهيئة للتصرفات الفعلية كاللبس والركوب والوطء والخدمة والاستصناع والازدراع والسكنى ، وأشباه ذلك فكل واحد من الضربين قد اجتمع مع صاحبه من وجه وانفرد عنه من وجه ولكن الحكم فيهما واحد .
[ ص: 450 ] فالطرفان يتجاذبان في كل مسألة من هذا القسم ولكن لما ثبتت التبعية على الجملة ارتفع توارد الطلبين عنه وصار المعتبر ما يتعلق بجهة المتبوع كما مر بيانه ، ومن جهة أخرى لما برز التابع وصار مما يقصد تعلق الغرض في المعاوضة عليه ، أو في غير ذلك من وجوه المقاصد التابعة على الجملة .
ولا ينازع في هذا أيضا ; إذ لا يصح أن تكون الشجرة المثمرة في قيمتها لو لم تكن مثمرة ، وكذلك العبد دون مال لا تكون قيمته كقيمته مع المال ولا العبد الكاتب كالعبد غير الكاتب فصار هذا القسم من هذه الجهة محل نظر واجتهاد بسبب تجاذب الطرفين فيه .
[ ص: 451 ] وأيضا فليس تجاذب الطرفين فيه على حد واحد ، بل يقوى الميل إلى أحد الطرفين في حال ولا يقوى في حال أخرى ، وأنت تعلم أن الثمرة حين أبرزوها وقبل الإبار ليست في القصد ولا في الحكم كما بعد الإبار ، وقبل بدو الصلاح ولا هي قبل بدو الصلاح كما بعد بدو الصلاح ، وقبل اليبس فإنها قبل الإبار للمشتري .
فإذا أبرت ، فهي عند أكثر العلماء للبائع إلا أن يشترطها المبتاع فتكون له عند الأكثر .
فإذا بدا صلاحها ، فقد قربت من الاستقلال ، وبعدت من التبعية فجاز بيعها بانفرادها ولكن من اعتبر الاستقلال قال : هي مبيعة على حكم الجذ كما لو يبست على رءوس الشجر ، فلا جائحة فيها ، ومن اعتبر عدم الاستقلال ، وأبقى حكم التبعية قال : حكمها على التبعية لما بقي من مقاصد الأصل فيها ، ووضع فيها الجوائح اعتبارا بأنها لما افتقرت إلى الأصل كانت كالمضمونة إليه التابعة له فكأنها على ملك صاحب الأصل ، وحين تعين وجه الانتفاع بها على المعتاد صارت كالمستقلة فكانت الجائحة اليسيرة مغتفرة فيها ; لأن اليسير في الكثير كالتبع .
[ ص: 452 ] ومن هنا اختلفوا في السقي بعد بدو الصلاح هل هو على البائع أم على المبتاع ؟
فإذا انتهى الطيب في الثمرة ولم يبق لها ما تضطر إلى الأصل فيه ، وإنما بقي ما يحتاج إليه فيه على جهة التكملة من بقاء النضارة وحفظ المائية اختلف هل بقي فيها حكم الجائحة أم لا بناء على أنها استقلت بنفسها ، وخرجت عن تبعية الأصل مطلقا أم لا .
فإذا انقطعت المائية والنضارة اتفق الجميع على حكم الاستقلال فانقطعت التبعية ، وعلى نحو من هذا التقرير يجري الحكم في كل ما يدخل تحت هذه الترجمة .
فصل
وعلى هذا الأصل تتركب فوائد .
منها أن كل شيء بينه وبين الآخر تبعية جار في الحكم مجرى التابع والمتبوع المتفق عليه ما لم يعارضه أصل آخر كمسألة الإجارة [ ص: 453 ] على الإمامة مع الأذان ، أو خدمة المسجد ، ومسألة اكتراء الدار تكون فيها الشجرة ، أو مساقاة الشجر يكون بينها البياض اليسير ، ومسألة الصرف والبيع إذا كان أحدهما يسيرا ، وما أشبه ذلك من المسائل التي تتلازم في الحس ، أو في القصد ، أو في المعنى ، ويكون بينها قلة ، وكثرة ، فإن للقليل مع [ ص: 454 ] الكثير حكم التبعية ثبت ذلك في كثير من مسائل الشريعة ، وإن لم يكن بينهما تلازم في الوجود ولكن العادة جارية بأن القليل إذا انضم إلى الكثير في حكم الملغى قصدا فكان كالملغى حكما .
ومنها أن كل تابع قصد فهل تكون زيادة الثمن لأجله مقصودة على الجملة لا على التفصيل أم هي مقصودة على الجملة والتفصيل ؟ والحق الذي تقتضيه التبعية أن يكون القصد جمليا لا تفصيليا ; إذ لو كان تفصيليا لصار إلى حكم الاستقلال فكان النهي واردا عليه فامتنع ، وكذلك يكون إذا فرض هذا القصد ، فإن كان جمليا صح بحكم التبعية ، وإذا ثبت حكم التبعية فله جهتان .
جهة زيادة الثمن لأجله وجهة عدم القصد إلى التفصيل فيه .
فإذا فات ذلك التابع فهل يرجع بقيمته أم لا يختلف في ذلك ولأجله اختلفوا في مسائل داخلة تحت هذا الضابط كالعبد إذا رد بعيب وقد كان أتلف ماله فهل يرجع على البائع بالثمن كله أم لا ، وكذلك ثمرة الشجرة وصوف الغنم ، وأشباه ذلك .
[ ص: 455 ] ومنها قاعدة الخراج بالضمان فالخراج تابع للأصل .
فإذا كان الملك حاصلا فيه شرعا فمنافعه تابعة سواء طرأ بعد ذلك استحقاق أو لا ، فإن طرأ الاستحقاق بعد ذلك كان كانتقال الملك على الاستئناف ، وتأمل مسائل الرجوع بالغلات في الاستحقاق ، أو عدم الرجوع تجدها جارية على هذا الأصل .
ومنها في تضمين الصناع ما كان تابعا للشيء المستصنع فيه هل يضمنه الصانع كجفن السيف ، ومنديل الثوب وطبق الخبز ، ونسخة الكتاب المستنسخ ، ووعاء القمح ، ونحو ذلك بناء على أنه تابع كما يضمن نفس المستصنع أم لا ، فلا يضمن لأنه وديعة عند الصانع .
[ ص: 456 ] ومنها في الصرف ما كان من حلية السيف والمصحف ونحوهما تابعا وغير تابع ، ومسائل هذا الباب كثيرة .
فصل
ومن الفوائد في ذلك أن كل ما لا منفعة فيه من المعقود عليه في [ ص: 457 ] المعاوضات لا يصح العقد عليه ، وما فيه منفعة ، أو منافع لا يخلو من ثلاثة أقسام .
أحدها : أن يكون جميعها حراما أن ينتفع به ، فلا إشكال في أنه جار مجرى ما لا منفعة فيه ألبتة .
والثاني : أن يكون جميعها حلالا ، فلا إشكال في صحة العقد به وعليه .
وهذان القسمان وإن تصورا في الذهن بعيد أن يوجدا في الخارج ; إذ ما من عين موجودة يمكن الانتفاع بها والتصرف فيها إلا وفيها جهة مصلحة وجهة مفسدة .
وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في كتاب المقاصد ، فلا بد من هذا الاعتبار ، وهو ظاهر بالاستقراء فيرجع القسمان إذا إلى القسم الثالث ، وهو أن يكون بعض المنافع حلالا ، وبعضها حراما فهاهنا معظم نظر المسألة ، وهو أولا ضربان :
أحدهما : أن يكون أحد الجانبين هو المقصود بالأصالة عرفا والجانب الآخر تابع غير مقصود بالعادة إلا أن يقصد على الخصوص ، وعلى خلاف العادة ، فلا إشكال في أن الحكم لما هو مقصود بالأصالة والعرف والآخر لا حكم له ; لأنا لو اعتبرنا الجانب التابع لم يصح لنا تملك عين من الأعيان ولا عقد عليه لأجل منافعه ; لأن فيه منافع محرمة ، وهو من الأدلة على سقوط [ ص: 458 ] الطلب في جهة التابع .
وقد تقدم بيان هذا المعنى في المسألة السابقة ، وأن جهة التبعية يلغى فيها ما تعلق بها من الطلب فكذلك هاهنا اللهم إلا أن يكون للعاقد قصد إلى المحرم على الخصوص ، فإن هذا يحتمل وجهين .
الأول : اعتبار القصد الأصيل ، وإلغاء التابع ، وإن كان مقصودا فيرجع إلى الضرب الأول .
والآخر : اعتبار القصد الطارئ ; إذ صار بطريانه سابقا ، أو كالسابق ، وما سواه كالتابع فيكون الحكم له .
ومثاله في أصالة المنافع المحللة شراء الأمة بقصد إسلامها للبغاء كسبا به ، وشراء الغلام للفجور به ، وشراء العنب ليعصر خمرا والسلاح لقطع الطريق ، وبعض الأشياء للتدليس بها ، وفي أصالة [ ص: 459 ] المنافع المحرمة شراء الكلب للصيد والضرع والزرع على رأي من منع ذلك ، وشراء السرقين لتدمين المزارع ، وشراء الخمر للتخليل ، وشراء شحم الميتة لتطلى به السفن ، أو يستصبح به الناس ، وما أشبه ذلك .
والمنضبط هو الأول والشواهد عليه أكثر ; لأن اعتبار ما يقصد بالأصالة ، [ ص: 460 ] والعادة هو الذي جاء في الشريعة القصد إليه بالتحريم والتحليل ، فإن شراء الأمة للانتفاع بها في التسري إن كانت من علي الرقيق ، أو الخدمة إن كانت من الوخش ، وشراء الخمر للشرب والميتة والدم والخنزير للأكل هو الغالب المعتاد عند العرب الذين نزل القرآن عليهم ، ولذلك حذف متعلق التحريم والتحليل في نحو حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ النساء : 24 ] فوجه التحليل والتحريم على أنفس الأعيان ; لأن المقصود مفهوم ، وكذلك قال : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] .
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما [ النساء : 10 ] ، وأشباهه .
وإن كان ذلك محرما في غير الأكل ; لأن أول المقاصد وأعظمها هو الأكل ، وما سوى ذلك مما يقصد بالتبع ، وما لا يقصد في نفسه عادة إلا بالتبعية لا حكم له ، وقد ورد تحريم الميتة وأخواتها ، وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام في شحم الميتة : إنه تطلى به السفن ، ويستصبح به الناس فأورد ما دل على منع البيع ، ولم يعذرهم بحاجتهم إليه في بعض الأوقات ; لأن المقصود هو الأكل محرم ، وقال : لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ، وأكلوا أثمانها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (126)
صـ461 إلى صـ 470
[ ص: 461 ] وقال في الخمر : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ، و إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه لأجل أن المقصود من المحرم في العادة هو الذي توجه إليه التحريم ، وما سواه تبع لا حكم له .
ولأجل ذلك أجازوا نكاح الرجل ليبر يمينه إذا حلف أن يتزوج على امرأته ، ولم يكن قصده البقاء ; لأن هذا من توابع النكاح التي ليست بمقصودة في أصل النكاح ، ولا تعتبر في أنفسها ، وإنما تعتبر من حيث هي توابع ، ولو كانت التوابع مقصودة شرعا حتى يتوجه عليها مقتضاها من الطلب لم يجز كثير من العقود للجهالة بتلك المنافع المقصودة ، بل لم يجز النكاح ; لأن الرجل إذا [ ص: 462 ] نكح لزمه القيام على زوجته بالإنفاق ، وسائر ما تحتاج إليه زيادة إلى بذل الصداق ، وذلك كله كالعوض من الانتفاع بالبضع ، وهذا ثمن مجهول فالمنافع التابعة للرقبة المعقود عليها ، أو للمنافع التي هي سابقة في المقاصد العادية هي المعتبرة ، وما سواها مما هو تبع لا ينبني عليه حكم إلا أن يقصد قصدا فيكون فيه نظر .
والظاهر أن لا حكم له في ظاهر الشرع لعموم ما تقدم من الأدلة ، ولخصوص الحديث في سؤالهم عن شحم الميتة ، وأنه مما يقصد لطلاء السفن وللاستصباح ، وكلا الأمرين مما يصح الانتفاع بالشحم فيه على الجملة ، ولكن هذا القصد الخاص لا يعارض القصد العام .
فإن صار التابع غالبا في القصد ، وسابقا في عرف بعض الأزمنة حتى [ ص: 463 ] يعود ما كان بالأصالة كالمعدوم المطرح فحينئذ ينقلب الحكم ، وما أظن هذا يتفق هكذا بإطلاق ، ولكن إن فرض اتفاقه انقلب الحكم ، والقاعدة مع ذلك ثابتة كما وضعت في الشرع ، وإن لم يتفق ، ولكن القصد إلى التابع كثير فالأصل اعتبار ما يقصد مثله عرفا والمسألة مختلف فيها على الجملة اعتبارا بالاحتمالين ، وقاعدة الذرائع أيضا مبنية على سبق القصد إلى الممنوع ، وكثرة ذلك في ضم العقدين ، ومن لا يراها بنى على أصل القصد في انفكاك العقدين [ ص: 464 ] عرفا ، وأن القصد الأصلي خلاف ذلك .
والضرب الثاني : أن لا يكون أحد الجانبين تبعا في القصد العادي ، بل كل واحد منهما مما يسبق القصد إليه عادة بالأصالة كالحلي والأواني المحرمة إذا فرضنا العين والصياغة مقصودتين معا عرفا ، أو يسبق كل واحد منهما على الانفراد عرفا فهذا بمقتضى القاعدة المتقدمة لا يمكن القضاء فيه باجتماع الأمر والنهي ; لأن متعلقيهما متلازمان ، فلا بد من انفراد أحدهما ، واطراح الآخر حكما .
أما على اعتبار التبعية كما مر فيسقط الطلب المتوجه إلى التابع .
وأما على عدم اعتبارها فيصير التابع عفوا ، ويبقى التعيين فهو محل اجتهاد ، وموضع إشكال ، ويقل وقوع مثل هذا في الشريعة ، وإذا فرض وقوعه فكل أحد ، وما أداه إليه اجتهاده .
وقد قال المازري في نحو هذا القسم في البيوع : ينبغي أن يلحق بالممنوع ; لأن كون المنفعة المحرمة مقصودة يقتضي أن لها حصة من الثمن ، [ ص: 465 ] والعقد واحد على شيء واحد لا سبيل إلى تبعيضه والمعاوضة على المحرم منه ممنوعة فمنع الكل لاستحالة التمييز ، وإن سائر المنافع المباحة يصير ثمنها مجهولا لو قدر انفراده بالعقد هذا ما قال ، وهو متوجه .
وأيضا فقاعدة الذرائع تقوى ها هنا إذا قد ثبت القصد إلى الممنوع .
وأيضا فقاعدة معارضة درء المفاسد لجلب المصالح جارية هنا ; لأن درء المفاسد مقدم ، ولأن قاعدة التعاون هنا تقضي بأن المعاملة على مثل هذا تعاون على الإثم والعدوان ، ولذلك يمنع باتفاق شراء العنب للخمر قصدا ، [ ص: 466 ] وشراء السلاح لقطع الطريق ، وشراء الغلام للفجور ، وأشباه ذلك ، وإن كان ذلك القصد تبعيا فهذا أولى أن يكون متفقا على الحكم بالمنع فيه لكنه من باب سد الذرائع ، وإنما وقع النظر الخلافي في هذا الباب بالنسبة إلى مقطع الحكم ، وكون المعاوضة فاسدة ، أو غير فاسدة .
وقد تقدم لذلك بسط في كتاب المقاصد .
[ ص: 467 ] المسألة التاسعة
ورود الأمر والنهي على شيئين كل واحد منهما ليس بتابع للآخر ، ولا هما متلازمان في الوجود ، ولا في العرف الجاري إلا أن المكلف ذهب قصده إلى جمعهما معا في عمل واحد ، وفي غرض واحد كجمع الحلال والحرام في صفقة واحدة ، ولنصطلح في هذا المكان على وضع الأمر في موضع الإباحة لأن الحكم فيهما واحد ; لأن الأمر قد يكون للإباحة كقوله تعالى : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .
وإنما قصد هنا الاختصار بهذا الاصطلاح والمعنى في المساق مفهوم فمعلوم أن كل واحد منهما غير تابع في القصد بالفرض ، ولا يمكن حملهما على حكم الانفراد ; لأن القصد يأباه والمقاصد معتبرة في التصرفات ، [ ص: 468 ] ولأن الاستقراء من الشرع عرف أن للاجتماع تأثيرا في أحكام لا تكون حالة الانفراد .
ويستوي في ذلك الاجتماع بين مأمور ، ومنهي مع الاجتماع بين مأمورين ، أو منهيين ، فقد نهى - عليه الصلاة والسلام - عن بيع وسلف ، وكل واحد منهما لو انفرد لجاز .
ونهى الله تعالى عن الجمع بين الأختين في النكاح مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها ، وفي الحديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها ، والمرأة وخالتها ، وقال إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ، وهو داخل بالمعنى في مسألتنا من حيث كان للجمع حكم ليس للانفراد فكان الاجتماع مؤثرا ، وهو [ ص: 469 ] دليل ، وكان تأثيره في قطع الأرحام ، وهو رفع الاجتماع ، وهو دليل أيضا على تأثير الاجتماع .
وفي الحديث النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم حتى يضم إليه ما قبله ، أو ما بعده .
وكذلك نهى عن تقدم شهر رمضان بيوم ، أو يومين ، وعن صيام يوم الفطر لمثل ذلك أيضا .
[ ص: 470 ] ونهى عن جمع المفترق ، وتفريق المجتمع خشية الصدقة ، وذلك يقتضي أن للاجتماع تأثيرا ليس للانفراد واقتضاؤه أن للانفراد حكما ليس للاجتماع يبين أن للاجتماع حكما ليس للانفراد ، ولو في سلب الانفراد .
ونهى عن الخليطين في الأشربة ; لأن لاجتماعهما تأثيرا في تعجيل صفة الإسكار .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (127)
صـ471 إلى صـ 480
[ ص: 471 ] وعن التفرقة بين الأم وولدها ، وهو في الصحيح .
[ ص: 472 ] وعن التفرقة بين الأخوين ، وهو حديث حسن ، وهو كثير في الشريعة .
[ ص: 473 ] وأيضا فإذا أخذ الدليل في الاجتماع أعم من هذا تكاثرت الأدلة على اعتباره في الجملة كالأمر بالاجتماع والنهي عن التفرقة لما في الاجتماع من المعاني التي ليست في الانفراد كالتعاون والتظاهر ، وإظهار أبهة الإسلام وشعائره ، وإخماد كلمة الكفر ، ولذلك شرعت الجماعات والجمعات والأعياد ، وشرعت المواصلات بين ذوي الأرحام خصوصا ، وبين سائر أهل الإسلام عموما .
وقد مدح الاجتماع ، وذم الافتراق ، وأمر بإصلاح ذات البين ، وذم ضدها ، وما يؤدي إليها إلى غير ذلك مما في هذا المعنى .
وأيضا فالاعتبار النظري يقضي أن للاجتماع أمرا زائدا لا يوجد مع الافتراق هذا وجه تأثير الاجتماع .
وللافتراق أيضا تأثير من جهة أخرى فإنها إذا كان للاجتماع معان لا تكون في الافتراق فللافتراق أيضا معان لا تزيلها حالة الاجتماع فالنهي عن [ ص: 474 ] البيع والسلف مجتمعين قضى بأن لافتراقهما معنى هو موجود حالة الاجتماع ، وهو الانتفاع بكل واحد منهما ; إذ لم يبطل ذلك المعنى بالاجتماع ، ولكنهما نشأ بينهما معنى زائد لأجله وقع النهي وزيادة المعنى في الاجتماع لا يلزم أن يعدم معاني الانفراد بالكلية ، ومثله الجمع بين الأختين ، وما في معناه مما ذكر من الأدلة .
وأيضا فإن كان للاجتماع معان لا تكون في الانفراد فللانفراد في الاجتماع خواص لا تبطل به ، فإن لكل واحد من المجتمعين معاني لو بطلت لبطلت معاني الاجتماع بمنزلة الأعضاء مع الإنسان ، فإن مجموعها هو الإنسان ، ولكن لو فرض اجتماعها من وجه واحد ، أو على تحصيل معنى واحد لبطل الإنسان ، بل الرأس يفيد ما لا تفيده اليد واليد تفيد ما لا تفيده الرجل ، وهكذا الأعضاء المتشابهة كالعظام والعصب والعروق ، وغيرها .
فإذا ثبت هذا فافهم مثله في سائر الاجتماعات .
[ ص: 475 ] فالأمر بالاجتماع والنهي عن الفرقة غير مبطل لفوائد الأفراد حالة الاجتماع فمن حيث حصلت الفائدة بالاجتماع ، فهي حاصلة من جهة الافتراق أيضا حالة الاجتماع .
وأيضا فمن حيث كان الاجتماع في شيئين يصح استقلال كل واحد منهما بحكم يصح أن يعتبرا من ذلك الوجه أيضا فيتعارضان في مثل مسألتنا حتى ينظر فيها فليس اعتبار الاجتماع وحده بأولى من اعتبار الانفراد ، ولكل وجه تتجاذبه أنظار المجتهدين .
وإذا كان كذلك فحين امتزج الأمران في المقصد صارا في الحكم كالمتلازمين في الوجود اللذين حكمهما حكم الشيء الواحد ، فلا يمكن اجتماع الأمر والنهي معا فيهما كما تقدم في المتلازمين ، ولا بد من حكم شرعي يتوجه عليهما بالأمر ، أو بالنهي ، أو لا ، فإن من العلماء من يجرى عليهما حكم الانفكاك والاستقلال اعتبارا بالعرف الوجودي والاستعمال إذا كان الشأن في كل واحد منهما الانفراد عن صاحبه والخلاف موجود بين العلماء في مسألة [ ص: 476 ] الصفقة تجمع بين حرام وحلال ، ووجه كل قول منهما قد ظهر .
ولا يقال : إن الذي يساعد عليه الدليل هو الأول ، فإنه إذا ثبت تأثير الاجتماع ، وأن له حكما لا يكون حالة الانفراد ، فقد صار كل واحد من الأمرين بالنسبة إلى المجموع كالتابع مع المتبوع ، فإنه صار جزءا من الجملة ، وبعض الجملة تابع للجملة ، ومن الدليل على ذلك ما مر في كتاب الأحكام من كون الشيء مباحا بالجزء مطلوبا بالكل ، أو مندوبا بالجزء واجبا بالكل ، وسائر الأقسام التي يختلف فيها حكم الجزء مع الكل ، وعند ذلك لا يتصور أن يرد الأمر والنهي معا .
فإذا نظرنا إلى الجملة وجدنا محل النهي موجودا في الجملة فتوجه النهي لما تعلق به من ذلك ، ووجه ما تقدم في تعليل المازري ، وما ذكر معه .
لأنا نقول : إن صار كل واحد من الجزئين كالتابع مع المتبوع فليس جزء الحرام بأن يكون متبوعا أولى من أن يكون تابعا ، وما ذكر في كتاب الأحكام لا ينكر ، وله معارض ، وهو اعتبار الأفراد كما مر .
وأما توجيه المازري فاعتباره مختلف فيه ، وليس من الأمر المتفق عليه في مذهب مالك ، ولا غيره فهو مما يمكن أن يذهب إليه مجتهد ، ويمكن أن لا .
[ ص: 477 ] المسألة العاشرة
الأمران يتواردان على شيئين كل واحد منهما غير تابع لصاحبه إذا ذهب قصد المكلف إلى جمعها معا في عمل واحد ، وفي غرض واحد ، فقد تقدم أن للجمع تأثيرا ، وأن في الجمع معنى ليس في الانفراد كما أن معنى الانفراد لا يبطل بالاجتماع .
ولكن لا يخلو أن يكون كل منهما منافي الأحكام لأحكام أخر أو لا ، فإن كان كذلك رجع في الحكم إلى اجتماع الأمر والنهي على الشيئين يجتمعان قصدا ، وذلك مقتضى المسألة قبلها ، ومعنى ذلك أن الشيء إذا كان له أحكام شرعية تقترن به ، فهي منوطة به على مقتضى المصالح الموضوعة في ذلك الشيء ، وكذلك كل عمل من أعمال المكلفين كان ذلك العمل عادة ، أو عبادة ، فإن اقترن عملان ، وكانت أحكام كل واحد منهما تنافي أحكام الآخر فمن حيث صارا كالشيء الواحد في القصد الاجتماعي اجتمعت الأحكام المتنافية التي وضعت للمصالح فتنافت وجوه المصالح ، وتدافعت ، وإذا تنافت [ ص: 478 ] لم تبق مصالح على ما كانت عليه حالة الانفراد فاستقرت الحال على وجه استقرارها في اجتماع المأمور به مع المنهي عنه فاستويا في تنافي الأحكام ; لأن النهي يعتمد المفاسد والأمر يعتمد المصالح واجتماعهما يؤدي إلى الامتناع كما مر فامتنع ما كان مثله .
وأصل هذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والسلف ; لأن باب البيع يقتضي المغابنة والمكايسة ، وباب السلف يقتضي المكارمة والسماح والإحسان ، فإذا اجتمعا داخل السلف المعنى الذي في البيع فخرج السلف عن أصله ; إذ كان مستثنى من بيع الفضة بالفضة ، أو الذهب بالذهب نسيئة فرجع إلى أصله المستثنى منه من حيث كان ما استثنى منه ، وهو الصرف أصله المغابنة والمكايسة ، والمكايسة فيه وطلب الربح ممنوعة .
فإذا رجع السلف إلى أصله بمقارنة البيع امتنع من جهتين .
إحداهما : الأجل الذي في السلف .
والأخرى : طلب الربح الذي تقتضيه المكايسة أنه لم يضم إلى البيع إلا وقد داخله في قصد الاجتماع ذلك المعنى .
وعلى هذا يجري المعنى في إشراك المكلف في العبادة غيرها مما هو مأمور به إما وجوبا ، أو ندبا ، أو إباحة إذا لم يكن أحدهما تبعا للآخر ، [ ص: 479 ] وكانت أحكامهما متنافية مثل الأكل والشرب والذبح والكلام المنافي في الصلاة وجمع نية الفرض والنفل في الصلاة والعبادة لأداء الفرض والندب معا وجمع فرضين معا في فعل واحد كظهرين ، أو عصرين ، أو ظهر وعصر ، أو صوم رمضان أداء وقضاء معا إلى أشباه ذلك .
[ ص: 480 ] ولأجل هذا منع مالك من جمع عقود بعضها إلى بعض ، وإن كان في بعضها خلاف فالجواز ينبني على الشهادة بعدم المنافاة بين الأحكام اعتبارا بمعنى الانفراد حالة الاجتماع فمنع من اجتماع الصرف والبيع والنكاح والبيع والقراض والبيع والمساقاة والبيع والشركة والبيع والجعل والبيع والإجارة في الاجتماع مع هذه الأشياء كالبيع ، ومنع من اجتماع الجزاف والمكيل واختلف العلماء في اجتماع الإجارة والبيع .
وهذا كله لأجل اجتماع الأحكام المختلفة في العقد الواحد فالصرف مبني على غاية التضييق حتى شرط فيه التماثل الحقيقي في الجنس والتقابض الذي لا تردد فيه ، ولا تأخير ، ولا بقاء علقة ، وليس البيع كذلك .
والنكاح مبني على المكارمة والمسامحة ، وعدم المشاحة ، ولذلك سمى الله الصداق نحلة ، وهي العطية لا في مقابلة عوض ، وأجيز فيه نكاح التفويض .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (128)
صـ481 إلى صـ 490
بخلاف البيع والقراض والمساقاة مبنيان على التوسعة ; إذ هما مستثنيان من أصل [ ص: 481 ] ممنوع ، وهو الإجارة المجهولة فصارا كالرخصة .
بخلاف البيع ، فإنه مبني على رفع الجهالة في الثمن والمثمون والأجل ، وغير ذلك فأحكامه تنافي أحكامهما .
والشركة مبناها على المعروف والتعاون على إقامة المعاش للجانبين بالنسبة إلى كل واحد من الشريكين والبيع يضاد ذلك والجعل مبني على الجهالة بالعمل ، وعلى أن العامل بالخيار والبيع يأبى هذين واعتبار الكيل في المكيل قصد إلى غاية الممكن في العلم بالمكيل والجزاف مبني على المسامحة في العلم بالمبلغ للاجتزاء فيه بالتخمين الذي لا يوصل إلى علم .
والإجارة عقد على منافع لم توجد فهو على أصل الجهالة ، وإنما جازت لحاجة التعاون كالشركة والبيع ليس كذلك .
وقد اختلفوا أيضا في عقد على بت في سلعة ، وخيار في أخرى والمنع بناء على تضاد البت والخيار .
وكما اختلفوا في جمع العاديين في عمل واحد بناء على الشهادة بتضاد الأحكام فيهما ، أو عدم تضادها كذلك اختلفوا أيضا في جمع العبادي مع العادي كالتجارة في الحج ، أو الجهاد ، وكقصد التبرد مع الوضوء ، وقصد [ ص: 482 ] الحمية مع الصوم ، وفي بعض العبادتين كالغسل بنية الجنابة والجمعة .
وقد مر هنا ، وفي كتاب المقاصد بيان هذا المعنى في الكلام على المقاصد الأصلية مع المقاصد التابعة ، وبالله التوفيق .
وإن كانا غير متنافي الأحكام ، فلا بد أيضا من اعتبار قصد الاجتماع .
وقد تقدم الدليل عليه قبل ، فلا يخلو أن يحدث الاجتماع حكما يقتضي النهي ، أو لا .
فإن أحدث ذلك صارت الجملة منهيا عنها واتحدت جهة الطلب ، فإن الاجتماع ألغى الطلب المتعلق بالأجزاء وصارت الجملة شيئا واحدا يتعلق به ، إما الأمر ، وإما النهي ، فيتعلق به الأمر إن اقتضى المصلحة ، ويتعلق به النهي إذا اقتضى مفسدة فالفرض هنا أنه اقتضى مفسدة ، فلا بد أن يتعلق به النهي كالجمع بين الأختين ، وبين المرأة وعمتها ، أو خالتها ، والجمع بين صوم أطراف رمضان مع ما قبله ، وما بعده والخليطين في الأشربة ، وجمع الرجلين في البيع سلعتيهما على رأي من رآه في مذهب مالك ، فإن الجمع يقتضي عدم [ ص: 483 ] اعتبار الإفراد بالقصد الأول فيؤدي ذلك إلى الجهالة في الثمن بالنسبة إلى كل واحد من البائعين ، وإن كانت الجملة معلومة فامتنع لحدوث هذه المفسدة المنهي عنها .
وأما المجيز فيمكن أن يكون اعتبر أمرا آخر ، وهو أن صاحبي السلعتين لما قصدا إلى جمع سلعتيهما في البيع صار ذلك معنى الشركة فيهما فكأنهما قصدا الشركة أولا ، ثم بيعهما والاشتراك في الثمن ، وإذا كانا في حكم الشريكين فلم يقصدا إلى مقدار ثمن كل واحدة من السلعتين ; لأن كل واحدة كجزء السلعة الواحدة فهو قصد تابع لقصد الجملة ، فلا أثر له ، ثم الثمن يفض على رءوس المالين إذا أرادا القسمة ، ولا امتناع في ذلك ; إذ لا جهالة فيه فلم يكن في الاجتماع حدوث فساد .
وإذا لم يكن فيه شيء مما يقتضي النهي فالأمر متوجه ; إذ ليس إلا أمر ، أو نهي على الاصطلاح المنبه عليه .
[ ص: 484 ] المسألة الحادية عشرة
الأمران يتواردان على الشيء الواحد باعتبارين إذا كان أحدهما راجعا إلى الجملة والآخر راجعا إلى بعض تفاصيلها ، أو إلى بعض أوصافها ، أو إلى بعض جزئياتها فاجتماعهما جائز حسبما ثبت في الأصول .
والذي يذكر هنا أن أحدهما تابع والآخر متبوع ، وهو الأمر الراجع إلى الجملة ، وما سواه تابع ; لأن ما يرجع إلى التفاصيل ، أو الأوصاف ، أو الجزئيات كالتكملة للجملة والتتمة لها ، وما كان هذا شأنه فطلبه إنما هو من تلك الجهة لا مطلقا ، وهذا معنى كونه تابعا .
وأيضا فإن هذا الطلب لا يستقل بنفسه بحيث يتصور وقوع مقتضاه دون مقتضى الأمر بالجملة ، بل إن فرض فقد الأمر بالجملة لم يمكن إيقاع التفاصيل ; لأن التفاصيل لا تتصور إلا في مفصل والأوصاف لا تتصور إلا في موصوف والجزئي لا يتصور إلا من حيث الكلي ، وإذا كان كذلك فطلبه إنما هو على جهة التبعية لطلب الجملة .
ولذلك أمثلة كالصلاة بالنسبة إلى طلب الطهارة الحدثية والخبثية ، وأخذ الزينة والخشوع والذكر والقراءة والدعاء واستقبال القبلة ، وأشباه [ ص: 485 ] ذلك ، ومثل الزكاة مع انتقاء أطيب الكسب فيها وإخراجها في وقتها ، وتنويع المخرج ، ومقداره ، وكذلك الصيام مع تعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، وترك الرفث ، وعدم التغرير ، وكالحج مع مطلوباته التي هي له كالتفاصيل والجزئيات والأوصاف التكميليات ، وكذلك القصاص مع العدل واعتبار الكفاءة والبيع مع توفية المكيال والميزان ، وحسن القضاء والاقتضاء والنصيحة ، وأشباه ذلك فهذه الأمور مبنية في الطلب على طلب ما رجعت [ ص: 486 ] إليه وانبنت عليه ، فلا يمكن أن تفرض إلا وهي مستندة إلى الأمور المطلوبة الجمل ، وكذلك سائر التوابع مع المتبوعات .
بخلاف الأمر والنهي إذا تواردا على التابع والمتبوع كالشجرة المثمرة قبل الطيب ، فإن النهي لم يرد على بيع الثمرة إلا على حكم الاستقلال فلو فرضنا عدم الاستقلال فيها فذلك راجع إلى صيرورة الثمرة كالجزء التابع للشجرة ، وذلك يستلزم قصد الاجتماع في الجملة ، وهو معنى القصد إلى العقد عليهما معا فارتفع النهي بإطلاق على ما تقدم ، وحصل من ذلك اتحاد [ ص: 487 ] الأمر ; إذ ذاك بمعنى توارد الأمرين على الجملة الواحدة باعتبارها في نفسها واعتبار تفاصيلها وجزئياتها ، وأوصافها .
وعلى هذا الترتيب جرت الضروريات مع الحاجيات والتحسينيات ، فإن التوسعة ورفع الحرج يقتضي شيئا يمكن فيه التضييق والحرج ، وهو الضروريات بلا شك والتحسينات مكملات ومتممات ، فلا بد أن تستلزم أمورا تكون مكملات لها ; لأن التحسين والتكميل والتوسيع لا بد له من موضوع إذا فقد فيه ذلك عد غير حسن ولا كامل ولا موسع ، بل قبيحا مثلا ، أو ناقصا ، أو ضيقا ، أو حرجا ، فلا بد من رجوعها إلى أمر آخر مطلوب فالمطلوب أن يكون تحسينا وتوسيعا ، تابع في الطلب للمحسن والموسع ، وهو معنى ما تقدم من طلب التبعية وطلب المتبوعية ، وإذا ثبت هذا تصور في الموضع قسم آخر ، وهى .
[ ص: 488 ] المسألة الثانية عشرة
فنقول : الأمر والنهي إذا تواردا على شيء واحد وأحدهما راجع إلى الجملة والآخر راجع إلى بعض أوصافها ، أو جزئياتها ، أو نحو ذلك ، فقد مر في المسألة قبلها ما يبين جواز اجتماعهما وله صورتان إحداهما أن يرجع الأمر إلى الجملة والنهي إلى أوصافها ، وهذا كثير كالصلاة بحضرة الطعام والصلاة مع مدافعة الأخبثين والصلاة في الأوقات المكروهة وصيام أيام العيد والبيع المقترن بالغرر والجهالة والإسراف في القتل ، ومجاوزة الحد في العدل فيه والغش والخديعة في البيوع ، ونحوها إلى ما كان من هذا القبيل .
والثانية : أن يرجع النهي إلى الجملة والأمر إلى أوصافها وله أمثلة كالتستر بالمعصية في قوله - عليه الصلاة والسلام - : من ابتلي منكم من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله .
[ ص: 489 ] وإتباع السيئة الحسنة لقوله تعالى : ثم يتوبون من قريب [ النساء : 17 ] .
وروى : من مشى منكم إلى طمع فليمش رويدا .
[ ص: 490 ] وأشباه ذلك .
فأما الأول ، فقد تكلم عليه الأصوليون ، فلا معنى لإعادته هنا .
وأما الثاني : فيؤخذ الحكم فيه من معنى كلامهم في الأول فإليك النظر في التفريع والله أعلم .
وينجر هنا الكلام إلى معنى آخر ، وهي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (129)
صـ491 إلى صـ 500
[ ص: 491 ] المسألة الثالثة عشرة
وذلك تفاوت الطلب فيما كان متبوعا مع التابع له ، وأن الطلب المتوجه للجملة أعلى رتبة ، وآكد في الاعتبار من الطلب المتوجه إلى التفاصيل ، أو الأوصاف ، أو خصوص الجزئيات والدليل على ذلك ما تقدم من أن المتبوع بالقصد الأول ، وأن التابع مقصود بالقصد الثاني ، وما قصد بالقصد الأول آكد في الشرع والعقل مما يقصد الثاني ولأجل ذلك يلغى جانب التابع في جنب المتبوع ، فلا يعتبر التابع إذا كان اعتباره يعود على المتبوع بالإخلال ، أو يصير منه كالجزء ، أو كالصفة ، أو التكملة .
وبالجملة فهذا المعنى مبسوط فيما تقدم ، وكله دليل على قوة المتبوع في الاعتبار وضعف التابع فالأمر المتعلق بالمتبوع آكد في الاعتبار من الأمر المتعلق بالتابع .
[ ص: 492 ] وبهذا الترتيب يعلم أن الأوامر في الشريعة لا تجري في التأكيد مجرى واحدا ، وأنها لا تدخل تحت قصد واحد ، فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها ، بل بينهما تفاوت معلوم ، بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات .
والحاجيات كذلك فليس الطلب بالنسبة إلى التمتعات المباحة التي لا معارض لها كالطلب بالنسبة إلى ما له معارض كالتمتع باللذات المباحة مع استعمال القرض والسلم والمساقاة ، وأشباه ذلك ولا أيضا طلب هذه كطلب الرخص التي يلزم في تركها حرج على الجملة ولا طلب هذه كطلب ما يلزم في تركه تكليف ما لا يطاق ، وكذلك التحسينيات حرفا بحرف .
فإطلاق القول في الشريعة بأن الأمر للوجوب ، أو للندب ، أو للإباحة [ ص: 493 ] أو مشترك ، أو لغير ذلك مما يعد في تقرير الخلاف في المسألة إلى هذا المعنى يرجع الأمر فيه فإنهم يقولون إنه للوجوب ما لم يدل دليل على خلاف ذلك فكان المعنى يرجع إلى اتباع الدليل في كل أمر ، وإذا كان كذلك [ ص: 494 ] رجع إلى ما ذكر ، لكن إطلاق القول فيما لم يظهر دليله صعب ، وأقرب المذاهب في المسألة مذهب الواقفية وليس في كلام العرب ما يرشد إلى اعتبار جهة من تلك الجهات دون صاحبتها .
فالضابط في ذلك أن ينظر في كل أمر : هل هو مطلوب طلب الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات ، فإذا كان من قسم الضروريات مثلا نظر هل هو مطلوب فيها بالقصد الأول أم بالقصد الثاني ، فإن كان مطلوبا بالقصد الأول فهو في أعلى المراتب في ذلك النوع ، وإن كان من المطلوب بالقصد الثاني نظر هل يصح إقامة أصل الضروري في الوجود بدونه حتى يطلق على العمل اسم ذلك الضروري أم لا ، فإن لم يصح فذلك المطلوب قائم مقام الركن والجزء المقام لأصل الضروري ، وإن صح أن يطلق عليه الاسم بدونه فذلك المطلوب ليس بركن ولكنه مكمل ، ومتمم ، إما من الحاجيات ، وإما من التحسينيات فينظر في مراتبه على الترتيب المذكور ، أو نحوه بحسب ما يؤدي إليه الاستقراء في الشرع في كل جزء منها .
[ ص: 495 ] المسألة الرابعة عشرة
الأمر بالشيء على القصد الأول ليس أمر بالتوابع ، بل التوابع إذا كانت مأمورا بها مفتقرة إلى استئناف أمر آخر والدليل على ذلك ما تقدم من أن الأمر بالمطلقات لا يستلزم الأمر بالمقيدات فالتوابع هنا راجعة إلى تأدية المتبوعات على وجه مخصوص والأمر إنما تعلق بها مطلقا لا مقيدا فيكفي فيها إيقاع مقتضى الألفاظ المطلقة ، فلا يستلزم إيقاعها على وجه مخصوص دون وجه ولا على صفة دون صفة ، فلا بد من تعيين وجه ، أو صفة على الخصوص واللفظ لا يشعر به على الخصوص فهو مفتقر إلى تجديد أمر يقتضي الخصوص ، وهو المطلوب .
فصل
وينبني على هذا أن المكلف مفتقر في أداء مقتضى المطلقات على وجه واحد دون غيره إلى دليل فإنا إذا فرضناه مأمورا بإيقاع عمل من العبادات مثلا من غير تعيين وجه مخصوص فالمشروع فيه على هذا الفرض لا يكون مخصوصا بوجه ولا بصفة ، بل أن يقع على حسب ما تقع الأعمال الاتفاقية الداخلة تحت الإطلاق فالمأمور بالعتق مثلا أمر بالإعتاق مطلقا من غير تقييد [ ص: 496 ] مثلا بكونه ذكرا دون أنثى ولا أسود دون أبيض ولا كاتبا دون صانع ولا ما أشبه ذلك .
فإذا التزم هو في الإعتاق نوعا من هذه الأنواع دون غيره احتاج في هذا الالتزام إلى دليل ، وإلا كان التزامه غير مشروع ، وكذلك إذا التزم في صلاة الظهر مثلا أن يقرأ بالسورة الفلانية دون غيرها دائما ، أو أن يتطهر من ماء البئر دون ماء الساقية ، أو غير ذلك من الالتزامات التي هي توابع لمقتضى الأمر في المتبوعات ، فلا بد من طلب دليل على ذلك ، وإلا لم يصح في التشريع ، وهو عرضة لأن يكر على المتبوع بالإبطال .
وبيانه أن الأمر إذا تعلق بالمأمور المتبوع من حيث الإطلاق ولم يرد عليه أمر آخر يقتضي بعض الصفات ، أو الكيفيات التوابع ، فقد عرفنا من قصد الشارع أن المشروع عمل مطلق لا يختص في مدلول اللفظ بوجه دون وجه ولا وصف دون وصف فالمخصص له بوجه دون وجه ، أو وصف دون وصف لم يوقعه على مقتضى الإطلاق فافتقر إلى دليل يدل على ذلك التقييد ، أو صار مخالفا لمقصود الشارع .
[ ص: 497 ] وقد سئل مالك عن القراءة في المسجد فقال : لم يكن بالأمر القديم ، وإنما هو شيء أحدث ، قال : ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها والقرآن حسن ، وقال أيضا أترى الناس اليوم أرغب في الخير ممن مضى ؟
قال ابن رشد : يريد أن التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات ، أو على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كأنه سنة مثل ما يفعل بجامع قرطبة أثر صلاة الصبح فرأى ذلك بدعة .
قال : وأما القراءة على غير هذا الوجه ، فلا بأس بها في المسجد ولا وجه لكراهيتها والذي أشار إليه مالك هو الذي صرح به في موضع آخر ، فإنه قال في القوم يجتمعون جميعا فيقرءون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية فكره ذلك ، وأنكر أن يكون من عمل الناس .
وسئل مالك عن الجلوس في المسجد يوم عرفة بعد العصر للدعاء فكرهه ، فقيل له : فالرجل يكون في مجلسه فيجتمع الناس إليه ، ويكبرون . [ ص: 498 ] قال : ينصرف ولو أقام في منزله كان خيرا له .
قال ابن رشد : كره هذا ، وإن كان الدعاء حسنا ، وأفضله يوم عرفة ; لأن الاجتماع لذلك بدعة .
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفضل الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ، وكره مالك في سجود القرآن أن يقصد القارئ مواضع السجود فقط ليسجد فيها ، وكره في المدونة أن يجلس الرجل لمن سمعه يقرأ السجدة لا يريد بذلك تعلما ، [ ص: 499 ] وأنكر على من يقرأ في المساجد ، ويجتمع عليه ورأى أن يقام وفيها : ومن قعد إليه فعلم أنه يريد قراءة سجدة قام عنه ولم يجلس معه .
وقال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : إن أول من أحدث الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك رجليه رجل قد عرف وسمى إلا أني لا أحب أن أذكره ، وكان مساء يعني يساء الثناء عليه .
قال ابن رشد : جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى ; لأن ذلك ليس من حدود الصلاة ; إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين الكرام ، وهو من محدثات الأمور .
وعن مالك نحو هذا في القيام للدعاء ، وفي الدعاء عند ختم القرآن ، [ ص: 500 ] وفي الاجتماع للدعاء عند الانصراف من الصلاة والتثويب للصلاة والزيادة في الذبح على التسمية المعلومة والقراءة في الطواف دائما والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التعجب ، وأشباه ذلك مما هو كثير في الناس ، يكون الأمر واردا على الإطلاق فيقيد بتقييدات تلتزم من غير دليل دل على ذلك ، وعليه أكثر البدع المحدثات .
وفي الحديث : لا يجعلن أحدكم للشيطان حظا من صلاته يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (130)
صـ501 إلى صـ 510
[ ص: 501 ] وعن ابن عمر وغيره أنه سئل عن الالتفات في الصلاة يمينا وشمالا فقال : بل نلتفت هكذا ، وهكذا ، ونفعل ما يفعل الناس . كأنه كره التزام عدم الالتفات ورآه من الأمور التي لم يرد التزامها .
[ ص: 502 ] وقال عمر : واعجبا لك يا ابن العاص لئن كنت تجد ثيابا أفكل الناس يجد ثيابا والله لو فعلت لكانت سنة ، بل أغسل ما رأيت ، وأنضح ما لم أر .
هذا فيما لم يظهر الدوام فيه فكيف مع الالتزام ؟
والأحاديث في هذا والأخبار كثيرة ، جميعها يدل على أن التزام الخصوصات في الأوامر المطلقة مفتقر إلى دليل ، وإلا كان قولا بالرأي واستنانا بغير مشروع ، وهذه الفائدة انبنت على هذه المسألة مع مسألة أن الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد .
[ ص: 503 ] المسألة الخامسة عشرة
المطلوب الفعل بالكل هو المطلوب بالقصد الأول ، وقد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني : كما أن المطلوب الترك بالكل هو المطلوب الترك بالقصد الأول .
وقد يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني وكل واحد منهما لا يخرج عن أصله من القصد الأول .
أما الأول فيتبين من أوجه :
أحدها : أنه قد يؤخذ من حيث قصد الشارع فيه ، وهذا هو الأصل فيتناول على الوجه المشروع ، وينتفع به كذلك ولا ينسى حق الله فيه لا في [ ص: 504 ] سوابقه ولا في لواحقه ولا في قرائنه .
فإذا أخذ على ذلك الوزان كان مباحا بالجزء مطلوبا بالكل ، فإن المباحات إنما وضعها الشارع للانتفاع بها على وفق المصالح على الإطلاق بحيث لا تقدح في دنيا ولا في دين ، وهو الاقتصاد فيها ، ومن هذه الجهة جعلت نعما ، وعدت مننا ، وسميت خيرا وفضلا .
فإذا خرج المكلف بها عن ذلك الحد إلى أن تكون ضررا عليه في الدنيا ، أو في الدين كانت من هذه الجهة مذمومة ; لأنها صدت عن مراعاة وجوه الحقوق السابقة واللاحقة والمقارنة ، أو عن بعضها فدخلت المفاسد بدلا عن المصالح في الدنيا ، وفي الدين ، وإنما سبب ذلك تحمل المكلف منها ما لا يحتمله ، فإنه إذا كان يكتفي منها بوجه ما ، أو بنوع ما ، أو بقدر ما ، وكانت مصالحه تجرى على ذلك ، ثم زاد على نفسه منها فوق ما يطيقه تدبيره ، وقوته البدنية والقلبية كان مسرفا وضعفت قوته عن حمل الجميع فوقع الاختلال وظهر الفساد كالرجل يكفيه لغذائه مثلا رغيف ، وكسبه المستقيم إنما يحمل ذلك المقدار ; لأن تهيئته لا تقوى على غيره فزاد على الرغيف مثله فذلك إسراف منه في جهة اكتسابه أولا من حيث كان يتكلف كلفة ما يكفيه مع التقوى فصار يتكلف كلفة اثنين ، وهو مما لا يسعه ذلك إلا مع المخالفة ، وفي جهة تناوله ، فإنه يحمل نفسه من الغذاء فوق ما تقوى عليه الطباع فصار ذلك شاقا عليه وربما ضاق نفسه واشتد كربه ، وشغله عن التفرغ للعبادة المطلوب فيها الحضور مع الله تعالى ، [ ص: 505 ] وفي جهة عاقبته ، فإن أصل كل داء البردة ، وهذا قد عمل على وفق الداء فيوشك أن يقع به .
[ ص: 506 ] وهكذا حكم سائر أحواله الظاهرة والباطنة في حين الإسراف فهو في الحقيقة الجالب على نفسه المفسدة لا نفس الشيء المتناول من حيث هو غذاء تقوم به الحياة .
فإذا تأملت الحالة وجدت المذموم تصرف المكلف في النعم لا أنفس النعم إلا أنها لما كانت آلة للحالة المذمومة ذمت من تلك الجهة ، وهو القصد الثاني ; لأنه مبني على قصد المكلف المذموم ، وإلا فالرب تعالى قد تعرف إلى عبده بنعمه وامتن بها قبل النظر في فعل المكلف فيها على الإطلاق ، وهذا دليل على أنها محمودة بالقصد الأول على الإطلاق ، وإنما ذمت حين صدت من صدت عن سبيل الله ، وهو ظاهر لمن تأمله .
والثاني : أن جهة الامتنان لا تزول أصلا . وقد يزول الإسراف رأسا ، وما هو دائم لا يزول على حال هو الظاهر في القصد الأول . بخلاف ما قد يزول ، فإن المكلف إذا أخذ المباح كما حد له لم يكن فيه من وجوه الذم [ ص: 507 ] شيء ، وإذا أخذه من داعي هواه ولم يراع ما حد له صار مذموما في الوجه الذي اتبع فيه هواه ، وغير مذموم في الوجه الآخر .
وأيضا فإن وجه الذم قد تضمن النعمة واندرجت تحته ، لكن غطى عليها هواه ، ومثاله أنه إذا تناول مباحا على غير الجهة المشروعة فقد حصل له في ضمنه جريان مصالحه على الجملة ، وإن كانت مشوبة فبمتبوع هواه والأصل هو النعمة ، لكن هواه أكسبها بعض أوصاف الفساد ولم يهدم أصل المصلحة ، وإلا فلو انهدم أصل المصلحة لانعدم أصل المباح ; لأن البناء إنما كان عليه فلم يزل أصل المباح ، وإن كان مغمورا تحت أوصاف الاكتساب والاستعمال المذموم فهذا أيضا مما يدل على أن كون المباح مذموما ، ومطلوب الترك إنما هو بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول .
والثالث : أن الشريعة مصرحة بهذا المعنى كقوله تعالى : أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون [ النحل : 72 ] ، [ ص: 508 ] وقوله : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا [ يونس : 59 ] وقوله : إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون [ غافر : 61 ] ، وقوله : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا [ النحل : 14 ] إلى قوله : ولعلكم تشكرون [ القصص : 73 ] فهذه الآيات وأشباهها تدل على أن ما بث في الأرض من النعم والمنافع على أصل ما بث إلا أن المكلف لما وضع له فيها اختيار به يناط التكليف داخلتها من تلك الجهة الشوائب لا من جهة ما وضعت له أولا فإنها من الوضع الأول خالصة .
فإذا جرت في التكليف بحسب المشروع فذلك هو الشكر ، وهو جريها على ما وضعت أولا ، وإن جرت على غير ذلك فهو الكفران ، ومن ثم انجرت المفاسد ، وأحاطت بالمكلف وكل بقضاء الله وقدره والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] .
وفي الحديث : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا فقيل : أيأتي الخير بالشر ؟ فقال : لا يأتي الخير إلا بالخير ، وإن مما [ ص: 509 ] ينبت الربيع ما يقتل حبطا ، أو يلم الحديث .
وأيضا فباب سد الذرائع من هذا القبيل ، فإنه راجع إلى طلب ترك ما ثبت طلب فعله لعارض يعرض ، وهو أصل متفق عليه في الجملة ، وإن اختلف العلماء في تفاصيله فليس الخلاف في بعض الفروع مما يبطل دعوى الإجماع في الجملة لأنهم اتفقوا على مثل قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] .
وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله [ الأنعام : 108 ] .
وشبه ذلك والشواهد فيه كثيرة .
وهكذا الحكم في المطلوب طلب الندب قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك حسبما تناولته أدلة التعمق والتشديد والنهي عن الوصال ، [ ص: 510 ] وسرد الصيام والتبتل .
وقد تقدم من ذلك كثير .
ومثله المطلوب طلب الوجوب عزيمة قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك إذا كان مقتضى العزيمة فيه مشوشا ، وعائدا على الواجب بالنقصان كقوله : ليس من البر الصيام في السفر ، وأشباه ذلك .
فالحاصل أن المطلوب بالقصد الأول على الإطلاق قد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني ، وهو المطلوب .
فإن قيل : هذا معارض بما يدل على خلافه ، وأن المدح والذم راجع إلى ما بث في الأرض ، وعلى ما وضع فيها من المنافع على سواء ، فإن الله عز وجل قال : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ هود : 7 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (131)
صـ511 إلى صـ 521
و قال : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ تبارك : 2 ] .
وقوله : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ محمد : 31 ] .
وقد مر أن التكاليف وضعت للابتلاء والاختبار ليظهر في الشاهد ما سبق العلم به في الغائب .
وقد سبق العلم بأن هؤلاء للجنة ، وهؤلاء للنار ، لكن بحسب ذلك الابتلاء والابتلاء إنما يكون بما له جهتان لا بما هو ذو جهة واحدة ولذلك ترى النعم المبثوثة في الأرض للعباد لا يتعلق بها من حيث هي مدح ولا ذم ولا أمر ولا نهي ، وإنما يتعلق بها من حيث تصرفات المكلفين فيها ، وتصرفات المكلفين بالنسبة إليها على سواء .
فإذا عدت نعما ومصالح من حيث تصرفات المكلف ، فهي معدودة فتنا ونقما بالنسبة إلى تصرفاتهم أيضا ، ويوضح ذلك أن الأمور المبثوثة للانتفاع ممكنة في جهتي المصلحة والمفسدة ، ومهيأة للتصرفين معا .
فإذا كانت الأمور المبثوثة في الأرض للتكليف بهذا القصد ، وعلى هذا الوجه فكيف يترجح أحد الجانبين على الآخر حتى يعد القصد الأول هو بثها نعما فقط ، وكونها نقما وفتنا إنما هو على القصد الثاني .
فالجواب أن لا معارضة في ذلك من وجهين .
أحدهما : أن هذه الظواهر التي نصت على أنها نعم مجردة من الشوائب إما أن يكون المراد بها ما هو ظاهرها ، وهو المطلوب الأول ، أو يراد بها أنها في الحقيقة على غير ذلك ، وهذا الثاني لا يصح ; إذ لا يمكن في العقل ولا يوجد [ ص: 512 ] في السمع أن يخبر الله تعالى عن أمر بخلاف ما هو عليه فإنا إن فرضنا أن هذه المبثوثات ليست بنعم خالصة كما أنها ليست بنقم خالصة فإخبار الله عنها بأنها نعم ، وأنه امتن بها ، وجعلها حجة على الخلق ، ومظنة لحصول الشكر مخالف للمعقول ، ثم إذا نظرنا في تفاصيل النعم كقوله : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ الأنبياء : 6 - 7 ] إلى آخر الآيات .
وقوله : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر [ النحل : 10 ] إلى آخر ما ذكر فيها ، وفي غيرها ، أفيصح في واحدة منها أن يقال : إنها ليست كذلك بإطلاق ، أو يقال : إنها نعم بالنسبة إلى قوم ، ونقم بالنسبة إلى قوم آخرين ؟ هذا كله خارج عن حكم المعقول والمنقول .
والشواهد لهذا أن القرآن أنزل هدى ورحمة ، وشفاء لما في الصدور ، وأنه النور الأعظم ، وطريقه هو الطريق المستقيم ، وأنه لا يصح أن ينسب إليه خلاف ذلك مع أنه قد جاء فيه : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ البقرة : 26 ] .
وأنه هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] لا لغيرهم .
وأنه هدى ورحمة للمحسنين [ لقمان : 3 ] إلى أشباه ذلك .
ولا يصح أن يقال : أنزل القرآن ليكون هدى لقوم ، وضلالا لآخرين ، أو هو محتمل ; لأن يكون هدى أو ضلالا نعوذ بالله من هذا التوهم .
[ ص: 513 ] لا يقال : إن ذلك قد يصح بالاعتبارين المذكورين في أن الحياة الدنيا لعب ولهو ، وأنها سلم إلى السعادة ، وجد لا هزل وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين [ الأنبياء : 16 ] .
لأنا نقول : هذا حق إذا حملنا التعرف بالنعم على ظاهر ما دلت عليه النصوص كما يصح في كون القرآن هدى ، وشفاء ، ونورا كما دل عليه الإجماع ، وما سوى ذلك فمحمول على وجه لا يخل بالقصد الأول في بث النعم .
والوجه الثاني : أن كون النعم تئول بأصحابها إلى النقم إنما ذلك من جهة وضع المكلف ; لأنها لم تصر نقما في أنفسها ، بل استعمالها على غير [ ص: 514 ] الوجه المقصود فيها هو الذي صيرها كذلك ، فإن كون الأرض مهادا والجبال أوتادا وجميع ما أشبهه نعم ظاهرة لم تتغير ، فلما صارت تقابل بالكفران بأخذها على غير ما حد صارت عليهم وبالا ، وفعلهم فيها هو الوبال في الحقيقة لا هي ; لأنهم استعانوا بنعم الله على معاصيه .
وعلى هذا الترتيب جرى شأن القرآن فإنهم لما مثلت أصنامهم التي اتخذوها من دون الله ببيت العنكبوت في ضعفه تركوا التأمل والاعتبار فيما قيل لهم حتى يتحققوا أن الأمر كذلك ، وأخذوا في ظاهر التمثيل بالعنكبوت من غير التفات إلى المقصود ، وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا [ المدثر : 31 ] فأخبر الله تعالى عن الحقيقة السابقة فيمن شأنه هذا بقوله : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا [ المدثر : 32 ] .
[ ص: 515 ] ثم استدرك البيان المنتظر بقوله : وما يضل به إلا الفاسقين [ البقرة : 26 ] نفيا لتوهم من يتوهم أنه أنزل بقصد الإضلال لقوم والهداية لقوم ، أي : هو هدى كما قال أولا هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، لكن الفاسقين يضلون بنظرهم إلى غير المقصود من إنزال القرآن ، كذلك هو هدى للمتقين الذين ينظرون إلى صوب الحقيقة فيه ، وهو الذي أنزل من أجله ، وهذا المكان يستمد من المسألة الأولى
فإذا تقرر هذا صارت النعم نعما بالقصد الأول ، وكونها بالنسبة إلى قوم آخرين بخلاف ذلك من جهة أخذهم لها على غير الصوب الموضوع فيها ، وذلك معنى القصد الثاني والله أعلم .
وأما الثاني : وهو أن المطلوب الترك بالكل هو بالقصد الأول فكذلك أيضا لأنه لما تبين أنه خادم لما يضاد المطلوب الفعل صار مطلوب الترك ; لأنه ليس فيه إلا قطع الزمان في غير فائدة وليس له قصد ينتظر حصوله منه على الخصوص ، فصار الغناء المباح مثلا ليس بخادم لأمر ضروري ولا حاجي ولا تكميلي ، بل قطع الزمان به صد عما هو خادم لذلك فصار خادما لضده .
ووجه ثان أنه من قبيل اللهو الذي سماه الشارع باطلا كقوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا [ الجمعة : 11 ] يعني الطبل ، أو المزمار ، أو الغناء .
[ ص: 516 ] أو اللعب على حسب اختلاف المفسرين ، وقوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] وهو الغناء ، وقال في معرض الذم للدنيا : إنما الحياة الدنيا لعب ولهو الآية [ محمد : 36 ] ، وفي الحديث : كل لهو باطل إلا ثلاثة فعده مما لا فائدة فيه إلا الثلاثة فإنها لما كانت تخدم أصلا ضروريا أو لاحقا به استثناها ولم يجعلها باطلا .
ووجه ثالث : وهو أن هذا الضرب لم يقع الامتنان به ولا جاء في معرض تقرير النعم كما جاء القسم الأول فلم يقع امتنان باللهو من حيث هو لهو ولا بالطرب ولا بسببه من جهة ما يسببه ، بل من جهة ما فيه من الفائدة العائدة [ ص: 517 ] لخدمة ما هو مطلوب ، وهو على وفق ما جرى في محاسن العادات ، فإن هذا القسم خارج عنها بالجملة .
ويحقق ذلك أيضا أن وجوه التمتعات هيئت للعباد أسبابها خلقا واختراعا فحصلت المنة بها من تلك الجهة ولا تجد للهو ، أو اللعب تهيئة تختص به في أصل الخلق ، وإنما هي مبثوثة لم يحصل من جهتها تعرف بمنة ألا ترى إلى قوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] .
وقال : والأرض وضعها للأنام [ الرحمن : 10 ] إلى قوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن : 22 ] وقوله : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [ النحل : 8 ] إلى أشباه ذلك ولا تجد في القرآن ولا في السنة تعرف الله إلينا بشيء خلق للهو واللعب .
فإن قيل : إن حصول اللذة وراحة النفس والنشاط للإنسان مقصود ولذلك كان مبثوثا في القسم الأول كلذة الطعام والشراب والوقاع ، [ ص: 518 ] والركوب ، وغير ذلك ، وطلب هذه اللذات بمجردها من موضوعاتها جائز ، وإن لم يطلب ما وراءها من خدمة الأمور ونحوها ، فليكن جائزا أيضا في اللهو واللعب بالتفرج في البساتين وسماع الغناء ، وأشباهها مما هو مقصود للشارع فعله .
والدليل على ذلك أمور :
منها : بثها في القسم الأول .
ومنها : أنه جاء في القرآن ما يدل على القصد إليها ، كقوله تعالى : ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون [ النحل : 6 ] .
وقال : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [ النحل : 8 ] .
وقال : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا [ النحل : 67 ] .
[ ص: 519 ] وما كان نحو ذلك ، وهذا كله في معرض الامتنان بالنعم والتجمل بالأموال والتزين بها واتخاذ السكر راجع إلى معنى اللهو واللعب فينبغي أن يدخل في القسم الأول .
ومنها أن هذه الأشياء إن كانت خادمة لضد المطلوب بالكل ، فهي خادمة للمأمور به أيضا ; لأنها مما فيه تنشيط وعون على العبادة أو الخير كما كان المطلوب بالكل كذلك ، فالقسمان متحدان ، فلا ينبغي أن يفرق بينهما .
فالجواب أن استدعاء النشاط واللذات إن كان مبثوثا في المطلوب بالكل ، فهو فيه خادم للمطلوب الفعل .
وأما إذا تجرد عن ذلك ، فلا نسلم أنه مقصود ، وهى مسألة النزاع ولكن المقصود أن تكون اللذة والنشاط فيما هو خادم لضروري ، أو نحوه .
ومما يدل على ذلك قوله في الحديث : كل لهو باطل إلا ثلاثة .
[ ص: 520 ] فاستثنى ما فيه خدمة لمطلوب مؤكد ، وأبطل البواقي .
وفي الحديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة ، فقالوا : يا رسول الله حدثنا - يعنون بما ينشط النفوس - فأنزل الله عز وجل : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الآية [ الزمر : 23 ] .
[ ص: 521 ] فذلك في معنى أن الرجوع إلى كتاب الله بالجد فيه غاية ما طلبتم ، وذلك ما بث فيه من الأحكام والحكم والمواعظ والتحذيرات والتبشيرات الحاملة على الاعتبار والأخذ بالاجتهاد فيما فيه النجاة والفوز بالنعيم المقيم ، وهذا خلاف ما طلبوه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (132)
صـ531 إلى صـ 532
قال الراوي : " ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا شيئا فوق الحديث ودون القرآن فنزلت سورة يوسف " فيها آيات ، ومواعظ ، وتذكيرات ، وغرائب تحثهم على الجد في طاعة الله ، وتروح من تعب أعباء التكاليف مع ذلك فدلوا على ما تضمن قصدهم بما هو خادم للضروريات لا ما هو خادم لضد ذلك .
وفي الحديث أيضا : إن لكل عابد شدة ولكل شدة فترة فإما إلى سنة ، وإما إلى بدعة ، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك .
[ ص: 523 ] وأما آيات الزينة والجمال والسكر فإنما ذكرت فيها لتبعيتها لأصول تلك النعم لا أنها هي المقصود الأول في تلك النعم .
وأيضا فإن الجمال والزينة مما يدخل تحت القسم الأول ; لأنه خادم له ، ويدل عليه قوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده [ الأعراف : 32 ] .
[ ص: 524 ] وقوله - عليه الصلاة والسلام - : إن الله جميل يحب الجمال .
إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده .
وأما السكر ، فإنه قال فيه : تتخذون منه سكرا [ النحل : 67 ] فنسب إليهم اتخاذ السكر ولم يحسنه ، وقال : ورزقا حسنا [ النحل : 67 ] فحسنه .
فالامتنان بالأصل الذي وقع فيه التصرف لا بنفس التصرف كالامتنان بالنعم الأخرى الواقع فيها التصرف ، فإنهم تصرفوا بمشروع وغير مشروع ولم يؤت بغير المشروع قط على طريق الامتنان به كسائر النعم ، بل قال تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا [ يونس : 59 ] الآية فتفهم هذا .
[ ص: 525 ] وأما الوجه الثالث فإنها إن فرض كونها خادمة للمأمور به ، فهي من القسم الأول كملاعبة الزوجة ، وتأديب الفرس ، وغيرهما ، وإلا فخدمتهما للمأمور به بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول إذا كان ذلك الوقت الذي لعب فيه يمكنه فيه عمل ما ينشطه مما هو مطلوب الفعل بالكل كملاعبة الزوجة ، ويكفي من ذلك أن يستريح بترك الأشياء كلها والاستراحة من الأعمال بالنوم ، وغيره ريثما يزول عنه كلال العمل لا دائما كل هذه الأشياء مباحة ; لأنها خادمة للمطلوب بالقصد الأول .
أما الاستراحة إلى اللهو واللعب من غير ما تقدم فهو أمر زائد على ذلك كله ، فإن جاء به من غير مداومة ، فقد أتى بأمر يتضمن ما هو خادم للمطلوب الفعل فصارت خدمته له بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول فباين القسم الأول ; إذ جيء فيه بالخادم له ابتداء ، وهذا إنما جيء فيه بما هو خادم للمطلوب الترك لكنه تضمن خدمة المطلوب الفعل إذا لم يداوم عليه ، وهذا ظاهر لمن تأمله .
فصل
فإن قيل : هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية تترتب عليه ; لأن كلا القسمين قد تضمن ضد ما اقتضاه في وضعه الأول ، فالواجب العمل على ما [ ص: 526 ] يقتضيه الحال في الاستعمال للمباح ، أو ترك الاستعمال ، وما زاد على ذلك لا فائدة فيه فيما يظهر إلا تعليق الفكر بأمر صناعي وليس هذا من شأن أهل الحزم من العلماء .
فالجواب أنه ينبني عليه أمور فقهية ، وأصول عملية .
منها الفرق بين ما يطلب الخروج عنه من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للفاسد ، وما لا يطلب الخروج عنه ، وإن اعترضت العوارض ، وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل إذا داخلتها المناكر كالبيع والشراء والمخالطة والمساكنة إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجاته وتصرفه في أحواله لا يسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته ، فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجاته ، كانت مطلوبة بالجزء ، أو بالكل ، وهى إما مطلوب بالأصل ، وإما خادم للمطلوب بالأصل ; لأنه إن فرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج ، أو تكليف ما لا يطاق ، وذلك مرفوع عن هذه الأمة ، فلا بد للإنسان من ذلك ، لكن مع الكف عما [ ص: 527 ] يستطاع الكف عنه ، وما سواه فمعفو عنه ; لأنه بحكم التبعية لا بحكم الأصل .
وقد بسطه الغزالي في كتاب الحلال والحرام من الإحياء على وجه أخص من هذا . فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد .
وقد قال ابن العربي في مسألة دخول الحمام بعد ما ذكر جوازه : فإن قيل : فالحمام دار يغلب فيها المنكر فدخولها إلى أن يكون حراما أقرب منه إلى أن يكون مكروها ، فكيف أن يكون جائزا ؟ قلنا : الحمام موضع تداو وتطهر ، فصار بمنزلة النهر ، فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات ، [ ص: 528 ] وتظاهر المنكرات . فإذا احتاج إليه المرء دخله ، ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه ، والمنكر اليوم في المساجد والبلدان ، فالحمام كالبلد عموما ، وكالنهر خصوصا . هذا ما قاله ، وهو ظاهر في هذا المعنى .
وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها ، وهذا إذا أدى الاحتراز من العارض للحرج . وأما إذا لم يؤد إليه ، وكان في الأمر المفروض مع ورود النهي سعة كسد الذرائع ففي المسألة نظر ، ويتجاذبها طرفان فمن اعتبر العارض سد في بيوع الآجال وأشباهها من الحيل ، ومن اعتبر الأصل لم يسد ما لم يبد الممنوع صراحا .
ويدخل أيضا في المسألة النظر في تعارض الأصل والغالب ، فإن لاعتبار الأصل رسوخا حقيقيا واعتبار غيره تكميلي من باب التعاون ، وهو [ ص: 529 ] ظاهر .
أما إذا كان المباح مطلوب الترك بالكل فعلى خلاف ذلك ; إذ لا يجوز لأحد أن يستمع إلى الغناء ، وإن قلنا : إنه مباح إذا حضره منكر ، أو كان في طريقه ; لأنه غير مطلوب الفعل في نفسه ولا هو خادم لمطلوب الفعل ، فلا يمكن والحالة هذه أن يستوفي المكلف حظه منه ، فلا بد من تركه جملة ، وكذلك اللعب وغيره .
وفي كتاب الأحكام بيان لهذا المعنى في فصل الرخص ، وإليه يرجع وجه الجمع بين التحذير من فتنة الدنيا مع عدم التحذير من اجتنابها ، أو اكتسابها .
فإن قيل : فقد حذر السلف من التلبس بما يجر إلى المفاسد ، وإن كان أصله مطلوبا بالكل ، أو كان خادما للمطلوب ، فقد تركوا الجماعات واتباع الجنائز ، وأشباهها مما هو مطلوب شرعا ، وحض كثير من الناس على ترك التزوج ، وكسب العيال لما داخل هذه الأشياء واتبعها من المنكرات والمحرمات .
وقد ذكر عن مالك أنه ترك الجمعات والجماعات وتعليم العلم واتباع الجنائز ، وما أشبه ذلك مما هو مطلوب لا يحصل إلا مع مخالطة الناس ، [ ص: 530 ] وهكذا غيره ، وكانوا علماء وفقهاء ، وأولياء ، ومثابرين على تحصيل الخيرات وطلب المثوبات ، وهذا كله له دليل في الشريعة كقوله - عليه الصلاة والسلام - : يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ، وسائر ما جاء في طلب العزلة ، وهى متضمنة لترك كثير مما هو مطلوب بالكل ، أو بالجزء ندبا ، أو وجوبا خادما لمطلوب ، أو مقصودا لنفسه فكيف بالمباح ؟
فالجواب أن هذا المعنى لا يرد من وجهين :
أحدهما : أنا إنما تكلمنا في جواز المخالطة في طلب الحاجات الضرورية وغيرها ، فمن عمل على أحد الجائزين فلا حرج عليه ولا يرد علينا ما هو مطلوب بالجزء ; لأنا لم نتعرض في هذه المسألة للنظر فيه .
والثاني : أن ما وقع التحذير فيه ، وما فعل السلف من ذلك إنما هو بناء على [ ص: 531 ] معارض أقوى في اجتهادهم مما تركوه كالفرار من الفتن فإنها في الغالب قادحة في أصول الضروريات كفتن سفك الدماء بين المسلمين في الباطل ، أو ما أشبه ذلك أو للإشكال الواقع عند التعارض بين المصلحة الحاصلة بالتلبس مع المفسدة المنجرة بسببه ، أو ترك ورع المتورع يحمل على نفسه مشقة يحتملها والمشقات تختلف كما مر في كتاب الأحكام فكل هذا لا يقدح في مقصودنا على حال .
فصل
ومنها الفرق بين ما ينقلب بالنية من المباحات طاعة ، وما لا ينقلب ، وذلك أن ما كان منها خادما لمأمور به تصور فيه أن ينقلب إليه ، فإن الأكل والشرب والوقاع ، وغيرها تسبب في إقامة ما هو ضروري لا فرق في ذلك بين كون المتناول في الرتبة العليا من اللذة والطيب ، وبين ما ليس كذلك وليس بينهما تفاوت يعتد به إلا في أخذه من جهة الحظ ، أو من جهة الخطاب الشرعي .
فإذا أخذ من جهة الحظ فهو المباح بعينه ، وإذا أخذ من جهة الإذن الشرعي فهو المطلوب بالكل ; لأنه في القصد الشرعي خادم للمطلوب ، [ ص: 532 ] وطلبه بالقصد الأول ، وهذا التقسيم قد مر بيانه في كتاب الأحكام .
فإذا ثبت هذا صح في المباح الذي هو خادم المطلوب الفعل انقلابه طاعة ; إذ ليس بينهما إلا قصد الأخذ من جهة الحظ ، أو من جهة الإذن .
وأما ما كان خادما لمطلوب الترك فلما كان مطلوب الترك بالكل لم يصح انصرافه إلى جهة المطلوب الفعل ; لأنه إنما ينصرف إليه من جهة الإذن .
وقد فرض عدم الإذن فيه بالقصد الأول ، وإذا أخذ من جهة الحظ فليس بطاعة فلم يصح فيه أن ينقلب طاعة فاللعب مثلا ليس في خدمة المطلوبات كأكل الطيبات ، وشربها ، فإن هذا داخل بالمعنى في جنس الضروريات ، وما دار بها بخلاف اللعب ، فإنه داخل بالمعنى في جنس ما هو ضد لها ، وحاصل هذا المباح أنه مما لا حرج فيه خاصة لا أنه مخير فيه كالمباح حقيقة .
وقد مر بيان ذلك ، وعلى هذا الأصل تخرج مسألة السماع المباح .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (133)
صـ533 إلى صـ 543
فإن من الناس من يقول : إنه ينقلب بالقصد طاعة ، وإذا عرض على هذا الأصل تبين الحق فيه إن شاء [ ص: 533 ] الله تعالى .
فإن قيل : إذا سلمنا أن الخادم لمطلوب الترك مطلوب الترك بالقصد الأول ، فقد مر أنه يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني : فاللعب والغناء ونحوهم إذا قصد باستعمالها التنشيط على وظائف الخدمة والقيام بالطاعة ، فقد صارت على هذا الوجه طاعة فكيف يقال : إن مثل هذا لا ينقلب بالنية طاعة ؟
فالجواب أن اعتبار وجه النشاط على الطاعة ليس من جهة ما هو لعب ، أو غناء ، بل من جهة ما تضمن من ذلك لا بالقصد الأول ، فإنه استوى مع النوم مثلا ، والاستلقاء على القفا واللعب مع الزوجة في مطلق الاستراحة ، وبقي اختيار كونه لعبا على الجملة ، أو غناء تحت حكم اختيار المستريح .
فإذا أخذه من اختياره فهو سعي في حظه ، فلا طلب ، وإن أخذه من جهة الطلب ، فلا طلب في هذا القسم كما تبين .
ولو اعتبر فيه ما تضمنه بالقصد الثاني : لم يضر الإكثار منه والدوام عليه ولا كان منهيا عنه بالكل ; لأنه قد تضمن خدمة المطلوب الفعل فكأن [ ص: 534 ] يكون مطلوب الفعل بالكل . وقد فرضناه على خلاف ذلك ، هذا خلف ، وإنما يصير هذا شبيها بفعل المكروه طلبا لتنشيط النفس على الطاعة فكما أن المكروه بهذا القصد لا ينقلب طاعة كذلك ما كان في معناه ، أو شبيها به .
فصل
ومنها بيان وجه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأناس بكثرة المال مع علمه بسوء عاقبتهم فيه كقوله لثعلبة بن حاطب : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ثم دعا له بعد ذلك فيقول القائل لو كان عنده أن كثرة المال يضر به فلم دعا له ؟ وجواب هذا راجع إلى ما تقدم من أن دعاءه له إنما كان من جهة أصل الإباحة في الاكتساب ، أو أصل الطلب ، فلا إشكال في دعائه - عليه الصلاة والسلام - له .
ومثله التحذير من فتنة المال مع أصل مشروعية الاكتساب له كقوله : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل : وما بركات الأرض ؟ قال : زهرة الدنيا فقيل : هل يأتي الخير بالشر ؟ فقال : لا يأتي الخير إلا بالخير ، وإن هذا المال حلوة خضرة الحديث .
وقال حكيم بن حزام : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني [ ص: 535 ] ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : إن هذا المال حلوة خضرة الحديث ، وقال : المكثرون هم الأقلون يوم القيامة الحديث .
وما أشبه ذلك مما أشار به إلى التحذير من الفتنة ولم ينه عن أصل الاكتساب المؤدي إلى ذلك ولا عن الزائد على ما فوق الكفاية بناء على أن الأصل المقصود في المال شرعا مطلوب ، وإنما الاكتساب خادم لذلك المطلوب فلذلك كان الاكتساب من أصله حلالا إذا روعيت فيه شروطه كان صاحبه مليا ، أو غير ملي فلم يخرجه النهي عن الإسراف فيه عن كونه مطلوبا في الأصل ; لأن الطلب أصلي والنهي تبعي فلم يتعارضا ولأجل هذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يعملون في جميع ما يحتاجون إليه في دنياهم ليستعينوا به ، وهو ظاهر من هذه القاعدة .
والفوائد المبنية عليها كثيرة .
[ ص: 536 ] المسألة السادسة عشرة .
قد تقدم أن الأوامر والنواهي في التأكيد ليست على رتبة واحدة في الطلب الفعلي ، أو التركي ، وإنما ذلك بحسب تفاوت المصالح الناشئة عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي والمفاسد الناشئة عن مخالفة ذلك .
وعلى ذلك التقدير يتصور انقسام الاقتضاء إلى أربعة أقسام ، وهي الوجوب والندب والكراهة والتحريم .
وثم اعتبار آخر لا ينقسم فيه ذلك الانقسام ، بل يبقى الحكم تابعا لمجرد الاقتضاء وليس للاقتضاء إلا وجهان .
أحدهما : اقتضاء الفعل .
والآخر : اقتضاء الترك .
فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب ولا بين مكروه ومحرم ، وهذا الاعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية ، ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة ، وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة ; إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب في العمل بهما ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما ، بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على السالك ، وعلى المكروه أنه محرم ، وهؤلاء هم الذين عدوا المباحات من قبيل الرخص كما مر في أحكام الرخص ، وإنما أخذوا هذا المأخذ من طريقين .
[ ص: 537 ] أحدهما : من جهة الآمر ، وهو رأي من لم يعتبر في الأوامر والنواهي إلا مجرد الاقتضاء ، وهو شامل للأقسام كلها والمخالفة فيها كلها مخالفة للآمر والناهي ، وذلك قبيح شرعا دع القبيح عادة وليس النظر هنا فيما يترتب على المخالفة من ذم ، أو عقاب ، بل النظر إلى مواجهة الآمر بالمخالفة ، ومن هؤلاء من بالغ في الحكم بهذا الاعتبار حتى لم يفرق بين الكبائر والصغائر من المخالفات ، وعد كل مخالفة كبيرة ، وهذا رأي أبي المعالي في الإرشاد ، فإنه لم ير الانقسام إلى الصغائر والكبائر بالنسبة إلى مخالفة الآمر والناهي ، وإنما صح عنده الانقسام بالنسبة إلى المخالفات في أنفسها مع قطع النظر عن الآمر والناهي ، وما رآه يصح في الاعتبار .
والثاني : من جهة معنى الأمر والنهي وله اعتبارات .
[ ص: 538 ] أحدها : النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها ، فإن امتثال الأوامر واجتناب النواهي من حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك فطالب القرب لا فرق عنده بين ما هو واجب ، وبين ما هو مندوب ; لأن الجميع يقتضيه حسبما دلت عليه الشريعة كما أنه لا فرق بين المكروه والمحرم عنده ; لأن الجميع يقتضي نقيض القرب ، وهو إما البعد ، وإما الوقوف عن زيادة القرب والتمادي في القرب هو المطلوب فحصل من تلك أن الجميع على وزان واحد في قصد التقرب والهرب عن البعد .
والثاني : النظر إلى ما تضمنته الأوامر والنواهي من جلب المصالح ، ودرء المفاسد عند الامتثال ، وضد ذلك عند المخالفة ، فإنه قد مر أن الشريعة وضعت لجلب المصالح ، ودرء المفاسد فالباني على مقتضى ذلك لا يفترق عنده طلب من طلب كالأول في القصد إلى التقرب .
وأيضا فإذا كان التفاوت في مراتب الأوامر والنواهي راجعا إلى مكمل خادم ، ومكمل مخدوم ، وما هو كالصفة والموصوف فمتى حصلت [ ص: 539 ] المندوبات كملت الواجبات ، وبالضد فالأمر راجع إلى كون الضروريات آتية على أكمل وجوهها فكان الافتقار إلى المندوبات كالمضطر إليه في أداء الواجبات فزاحمت المندوبات الواجبات في هذا الوجه من الافتقار فحكم عليها بحكم واحد .
وعلى هذا الترتيب ينظر في المكروهات مع المحرمات من حيث كانت رائدا لها ، وأنسا بها ، فإن الأنس بمخالفة ما يوجب بمقتضى العادة الأنس بما فوقها حتى قيل : المعاصي بريد الكفر .
[ ص: 540 ] ودل على ذلك قوله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ المطففين : 14 ] .
وتفسيره في الحديث .
وحديث الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات إلخ .
[ ص: 541 ] فقوله : كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
وفي قسم الامتثال قوله : وما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه الحديث .
والثالث : النظر إلى مقابلة النعمة بالشكران أو بالكفران من حيث كان امتثال الأوامر والنواهي شكرانا على الإطلاق ، فإذا كانت النعمة على العبد ممدودة من العرش إلى الفرش بحسب الارتباط الحكمي ، وما دل عليه قوله تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ الجاثية : 13 ] .
وقوله : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم إلى قوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [ إبراهيم : 32 - 34 ] وأشباه ذلك .
فتصريف النعمة في مقتضى الأمر شكران لكل نعمة وصلت إليك ، أو [ ص: 542 ] كانت سببا في وصولها إليك والأسباب الموصلة ذلك إليك لا تختص بسبب دون سبب ولا خادم دون خادم فحصل شكر النعم التي في السماوات والأرض ، وما بينهما ، وتصريفها في مخالفة الأمر كفران لكل نعمة وصلت إليك ، أو كانت سببا فيها كذلك أيضا .
وهذا النظر ذكره الغزالي في الإحياء ، وهو يقتضي أن لا فرق بين أمر وأمر ولا بين نهي ونهي ، فامتثال كل أمر شكران على الإطلاق ، ومخالفة كل أمر كفران على الإطلاق ، وثم أوجه أخر يكفي منها ما ذكر ، وهذا النظر راجع إلى مجرد اصطلاح لا إلى معنى يختلف فيه ; إذ لا ينكر أصحاب هذا النظر انقسام الأوامر والنواهي كما يقول الجمهور بحسب التصور النظري ، وإنما أخذوا في نمط آخر ، وهو أنه لا يليق بمن يقال له : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] أن يقوم بغير التعبد وبذل المجهود في التوجه إلى الواحد المعبود ، وإنما النظر في مراتب الأوامر والنواهي يشبه الميل إلى مشاحة العبد لسيده في طلب حقوقه ، وهذا غير لائق بمن لا يملك لنفسه شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة ; إذ ليس للعبد حق على السيد من حيث هو عبد ، بل عليه بذل المجهود والرب يفعل ما يريد .
فصل
ويقتضي هذا النظر التوبة عن كل مخالفة تحصل بترك المأمور به ، أو فعل المنهي عنه ، فإنه إذا ثبت أن مخالفة الشارع قبيحة شرعا ثبت أن المخالف [ ص: 543 ] مطلوب بالتوبة عن تلك المخالفة من حيث هي مخالفة الأمر ، أو النهي ، أو من حيث ناقضت التقرب ، أو من حيث ناقضت وضع المصالح ، أو من حيث كانت كفرانا للنعمة .
ويندرج هنا المباح على طريقة هؤلاء من حيث جرى عندهم مجرى الرخص ، ومذهبهم الأخذ بالعزائم .
وقد تقدم أن الأولى ترك الرخص فيما استطاع المكلف فيحصل من ذلك أن العمل بالمباح مرجوح على ذلك الوجه ، وإذا كان مرجوحا فالراجح الأخذ بما يضاده من المأمورات ، وترك شيء من المأمورات مع الاستطاعة مخالفة فالنزول إلى المباح على هذا الوجه مخالفة في الجملة ، وإن لم تكن مخالفة في الحقيقة .
وبهذا التقرير يتبين معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (134)
صـ544 إلى صـ 554
[ ص: 544 ] وقوله : إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله الحديث ، ويشمله عموم قوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون [ النور : 31 ] .
ولأجله أيضا جعل الصوفية بعض مراتب الكمال إذا اقتصر السالك عليها دون ما فوقها نقصا وحرمانا ، فإن ما تقتضيه المرتبة العليا فوق ما تقتضيه المرتبة التي دونها والعاقل لا يرضى بالدون ولذلك أمر بالاستباق إلى الخيرات مطلقا ، وقسم المكلفون إلى أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال والسابقين ، وإن كان السابقون من أصحاب اليمين ، وقال تعالى : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين [ ص: 545 ] الآية [ الواقعة : 88 - 89 ] ، فكان من شأنهم أن يتجاروا في ميدان الفضائل حتى يعدوا من لم يكن في ازدياد ناقصا ، ومن لم يعمر أنفاسه بطالا .
وهذا مجال لا مقال فيه ، وعليه أيضا نبه حديث الندامة يوم القيامة [ ص: 546 ] حيث تعم الخلائق كلهم فيندم المسيء أن لا يكون قد أحسن والمحسن أن لا يكون قد ازداد إحسانا .
فإن قيل : هذا إثبات للنقص في مراتب الكمال .
وقد تقدم أن مراتب الكمال لا نقص فيها .
فالجواب أنه ليس بإثبات نقص على الإطلاق ، وإنما هو إثبات راجح ، وأرجح ، وهذا موجود .
وقد ثبت أن الجنة مائة درجة ولا شك في تفاوتها في الأكملية والأرجحية ، وقال الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ البقرة : 253 ] .
وقال : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ الإسراء : 55 ] .
ومعلوم أن لا نقص في مراتب النبوة إلا أن المسارعة في الخيرات تقتضي المطالبة بأقصى المراتب بحسب الإمكان عادة ، فلا يليق بصاحبها الاقتصار على مرتبة دون ما فوقها فلذلك قد تستنقص النفوس الإقامة ببعض [ ص: 547 ] المراتب مع إمكان الرقي ، وتتحسر إذا رأت شفوف ما فوقها عليها كما يتحسر أصحاب النقص حقيقة إذا رأوا مراتب الكمال ، كالكفار وأصحاب الكبائر من المسلمين ، وما أشبه ذلك .
ولما فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين دور الأنصار ، وقال : في كل دور الأنصار خير قال سعد بن عبادة : يا رسول الله خير دور الأنصار فجعلنا آخرا ، فقال : أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار ؟ .
وفي حديث آخر : قد فضلكم على كثير .
فهذا يشير إلى أن رتب الكمال تجتمع في مطلق الكمال ، وإن كان لها مراتب أيضا ، فلا تعارض بينهما والله أعلم .
[ ص: 548 ] وقد يقال : إن قول من قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين راجع إلى هذا المعنى ، وهو ظاهر فيه والله أعلم .
[ ص: 549 ] المسألة السابعة عشرة
تقدم أن من الحقوق المطلوبة ما هو حق لله ، وما هو حق للعباد ، وأن ما هو حق للعباد ففيه حق لله كما أن ما هو حق لله فهو راجع إلى العباد ، وعلى ذلك يقع التفريع هنا بحول الله فنقول الأوامر والنواهي يمكن أخذها امتثالا من جهة ما هي حق لله تعالى مجردا عن النظر في غير ذلك ، ويمكن أخذها من جهة ما تعلقت بها حقوق العباد ، ومعنى ذلك أن المكلف إذا سمع مثلا قول الله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ آل عمران : 97 ] فلامتثاله هذا الأمر مأخذان :
أحدهما : وهو المشهور المتداول أن ينظر في نفسه بالنسبة إلى قدرته على قطع الطريق ، وإلى زاد يبلغه ، وإلى مركوب يستعين به ، وإلى الطريق إن كان مخوفا ، أو مأمونا ، وإلى استعانته بالرفقة والصحبة لمشقة الوحدة وغررها ، وإلى غير ذلك من الأمور التي تعود عليه في قصده بالمصلحة الدنيوية ، أو بالمفسدة .
فإذا حصلت له أسباب السفر وشروطه العاديات انتهض للامتثال ، [ ص: 550 ] وإن تعذر عليه ذلك علم أن الخطاب لم ينحتم عليه .
والثاني : أن ينظر في نفس ورود الخطاب عليه من الله تعالى غافلا ، ومعرضا عما سوى ذلك فينتهض إلى الامتثال كيف أمكنه لا يثنيه عنه إلا العجز الحالي أو الموت آخذا للاستطاعة أنها باقية ما بقي من رمقه بقية ، وأن الطوارق العارضة والأسباب المخوفة لا توازي عظمة أمر الله فتسقطه ، أو ليست بطوارق ولا عوارض في محصول العقد الإيماني حسبما تقدم في فصل الأسباب والمسببات من كتاب الأحكام .
وهكذا سائر الأوامر والنواهي .
فأما المأخذ الأول فجار على اعتبار حقوق العباد ; لأن ما يذكره الفقهاء في الاستطاعة المشروطة راجع إليها .
[ ص: 551 ] وأما الثاني : فجار على إسقاط اعتبارها .
وقد تقدم ما يدل على صحة ذلك الإسقاط ، ومن الدليل أيضا على صحة هذا المأخذ أشياء .
أحدها : ما جاء في القرآن من الآيات الدالة على أن المطلوب من العبد التعبد بإطلاق ، وأن على الله ضمان الرزق كان ذلك مع تعاطي الأسباب أولا كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 56 - 57 ] .
وقوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ طه : 132 ] .
فهذا واضح في أنه إذا تعارض حق الله ، وحق العباد فالمقدم حق الله ، فإن حقوق العباد مضمونة على الله تعالى والرزق من أعظم حقوق العباد ، فاقتضى الكلام أن من اشتغل بعبادة الله كفاه الله مؤنة الرزق ، وإذا ثبت هذا [ ص: 552 ] في الرزق ، ثبت في غيره من سائر المصالح المجتلبة والمفاسد المتوقاة ، وذلك لأن الله قادر على الجميع .
وقال تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله [ يونس : 107 ] وفي الآية الأخرى : وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ الأنعام : 17 ] .
وقال : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] بعد قوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق : 2 - 3 ] .
فمن اشتغل بتقوى الله تعالى فالله كافيه والآيات في هذا المعنى كثيرة .
[ ص: 553 ] والثاني : ما جاء في السنة من ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه ، وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه الحديث فهو كله نص في ترك الاعتماد على الأسباب ، وفي الاعتماد على الله والأمر بطاعة الله .
[ ص: 554 ] وأحاديث الرزق والأجل كقوله : اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد .
وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب في ابن صياد : إن يكنه ، فلا تطيقه .
وقال : جف القلم بما أنت لاق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (135)
صـ555 إلى صـ 567
وقال : لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح ، فإن لها [ ص: 555 ] ما قدر لها .
وقال في العزل : ولا عليكم أن لا تفعلوا ، فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة .
وفي الحديث : المعصوم من عصم الله .
وقال : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة .
[ ص: 556 ] إلى سائر ما في هذا المعنى مما هو صريح في أن أصل الأسباب التسبب ، وأنها لا تملك شيئا ولا ترد شيئا ، وأن الله هو المعطي والمانع ، وأن طاعة الله هي العزيمة الأولى .
والثالث : ما ثبت من هذا العمل عن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، فقدموا طاعة الله على حقوق أنفسهم ، فقد قام - عليه الصلاة والسلام - حتى تفطرت قدماه .
[ ص: 557 ] [ ص: 558 ] وقال : أفلا أكون عبدا شكورا .
وبلغ رسالة ربه على ما كان عليه من الخوف من قومه حين تمالئوا على إهلاكه ولكن الله عصمه ، وقال الله له : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا الآية [ التوبة : 51 ] .
وقال له : ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله [ الأحزاب : 48 ] .
فأمره باطراح ما يتوقاه ، فإن الله حسبه .
وقال : الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله [ الأحزاب : 39 ] .
[ ص: 559 ] وقال قبل ذلك : وكان أمر الله قدرا مقدورا [ الأحزاب : 38 ] .
وقال هود عليه السلام لقومه ، وهو يبلغهم الرسالة : فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله الآية [ هود : 55 - 56 ] .
وقال موسى وهارون عليهما السلام : ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [ طه : 45 ] .
فقال الله لهما : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ طه : 46 ] .
وكان عبد الله ابن أم مكتوم قد نزل عذره في قوله تعالى : غير أولي الضرر [ النساء : 95 ] ولكنه كان بعد ذلك يقول : إني أعمى لا أستطيع أن أفر فادفعوا إلي اللواء ، وأقعدوني بين الصفين فيترك ما منح من الرخصة ، ويقدم حق الله على حق نفسه .
وروي عن جندع بن ضمرة أنه كان شيخا كبيرا فلما أمروا بالهجرة ، وشدد عليهم فيها مع علمهم بأن الدين لا حرج فيه ولا تكليف بما لا يطاق قال لبنيه : إني أجد حيلة ، فلا أعذر احملوني على سرير فحملوه فمات بالتنعيم ، وهو يصفق يمينه على شماله ، ويقول : هذا لك ، وهذا لرسولك . الحديث .
[ ص: 560 ] وعن بعض الصحابة أنه قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخ لي أحدا فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي ، أو قال لي : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جرحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة ، ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون ، وفي النقل من هذا النحو كثير .
وقد مر منه في فصل الرخص والعزائم من كتاب الأحكام ما فيه كفاية .
فإن قيل : إن هذه الأدلة إذا وقف معها حسبما تقرر اقتضت اطراح الأسباب جملة أعني ما كان منها عائدا إلى مصالح العباد ، وهذا غير صحيح ; لأن الشارع وضعها ، وأمر بها واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه والتابعون [ ص: 561 ] بعده ، وهى عمدة ما حافظت عليه الشريعة .
وأيضا فإن حقوق الله تعالى ليست على وزان واحد في الطلب فمنها ما هو مطلوب حتما كالقواعد الخمس ، وسائر الضروريات المراعاة في كل ملة .
ومنها ما ليس بحتم كالمندوبات فكيف يقال : إن المندوبات مقدمة على غيرها من حقوق العباد ، وإن كانت واجبة ؟ هذا مما لا يستقيم في النظر .
وأيضا فالأدلة المعارضة لما تقدم أكثر كقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ البقرة : 195 ] .
وقوله : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ البقرة : 197 ] .
وقوله : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل الآية [ الأنفال : 60 ] .
وقد كان - عليه الصلاة والسلام - يستعد الأسباب لمعاشه ، وسائر أعماله من جهاد وغيره ، ويعمل بمثل ذلك أصحابه والسنة الجارية في الخلق الجريان على العادات ، وما تقدم لا يقتضيه ، فلا بد من صحة أحدهما ، وإن صح بطل الآخر وليس ما دللتم عليه بأولى مما دللنا عليه والترجيح من غير دليل تحكم .
[ ص: 562 ] فالجواب أن ما تقدم لا يدل على اطراح الأسباب ، بل يدل على تقديم بعض الأسباب خاصة ، وهى الأسباب التي يقتضيها حق الله تعالى على الأسباب التي تقتضيها حقوق العباد على وجه اجتهادي شرعي قامت الأدلة عليه فليس بين ذلك ، وبين أمره - عليه الصلاة والسلام - بالأسباب واستعماله لها تعارض ، ودليل ذلك إقراره - عليه الصلاة والسلام - فعل من اطرحها عند التعارض ، وعمله - عليه الصلاة والسلام - على اطراحها كذلك في مواطن كثيرة ، وندبه إلى ذلك كما تبين في الأحاديث المتقدمة .
وقد مر في فصل الأسباب من كتاب الأحكام وجه الفقه في هذا المكان عند ذكر كيفية الدخول في الأسباب ، هذا جواب الأول .
وأما الثاني فإن حقوق الله تعالى على أي وجه فرضت أعظم من حقوق العباد كيف كانت ، وإنما فسح للمكلف في أخذ حقه وطلبه من باب الرخصة والتوسعة لا من باب عزائم المطالب ، وبيان ذلك في فصل الرخص والعزائم ، وإذا كان كذلك فالعزائم أولى بالتقديم ما لم يعارض معارض .
وأيضا فإن حقوق الله إن كانت ندبا إنما هي من باب التحسينات ، وقد مر أن أصل التحسينيات خادم للضروريات ، وإنها ربما أدى الإخلال بها إلى الإخلال بالضروريات ، وإن المندوبات بالجزء واجبات بالكل فلأجل هذا كله قد يسبق إلى النظر تقديمها على واجبات حقوق العباد ، وهو نظر فقهي صحيح مستقيم في النظر .
[ ص: 563 ] وأما الثالث ، فلا معارضة فيه ، فإن أدلته لا تدل على تقديم حقوق العباد على حقوق الله أصلا ، وإذا لم تدل عليها لم يكن فيها معارضة أصلا ، وإلى هذا كله ، فإن تقديم حقوق العباد إنما يكون حيث يعارض في تقديم حق الله معارض يلزم منه تضييع حق الله تعالى ، فإنه إذا شق عليه الصوم مثلا لمرضه ولكنه صام فشغله ألم المشقة بالصوم عن استيفاء الصلاة على كمالها ، وإدامة الحضور فيها ، أو ما أشبه ذلك عادت عليه المحافظة على تقديم حق الله إلى الإخلال بحقه فلم يكن له ذلك .
فأما إن لم يكن كذلك فليس تقديم حق الله على حق العبد بنكير ألبتة ، بل هو الأحق على الإطلاق ، وهذا فقه في المسألة حسن جدا ، وبالله التوفيق .
فصل
واعلم أن ما تقدم من تأخير حقوق العباد إنما هو فيما يرجع إلى نفس المكلف لا إلى غيره .
أما ما كان من حق غيره من العباد فهو بالنسبة إليه من حقوق الله تعالى ، وقد تبين هذا في موضعه .
[ ص: 564 ] المسألة الثامنة عشرة .
الأمر والنهي يتواردان على الفعل وأحدهما راجع إلى جهة الأصل والآخر راجع إلى جهة التعاون هل يعتبر الأصل ، أو جهة التعاون ؟
أما اعتبارهما معا من جهة واحدة ، فلا يصح ولا بد من التفصيل فالأمر إما أن يرجع إلى جهة الأصل ، أو التعاون .
فإن كان الأول فحاصله راجع إلى قاعدة سد الذرائع ، فإنه منع الجائز لئلا يتوسل به إلى الممنوع .
وقد مر ما فيه ، وحاصل الخلاف فيه أنه يحتمل ثلاثة أوجه .
أحدها : اعتبار الأصل ; إذ هو الطريق المنضبط والقانون المطرد .
والثاني : اعتبار جهة التعاون ، فإن اعتبار الأصل مؤد إلى المآل [ ص: 565 ] [ ص: 566 ] الممنوع والأشياء إنما تحل وتحرم بمآلاتها ولأنه فتح باب الحيل .
والثالث : التفصيل ، فلا يخلو أن تكون جهة التعاون غالبة ، أو لا ، فإن كانت غالبة فاعتبار الأصل واجب ; إذ لو اعتبر الغالب هنا لأدى إلى انخرام الأصل جملة ، وهو باطل ، وإن لم تكن غالبة فالاجتهاد .
وإن كان الثاني : فظاهره شنيع ; لأنه إلغاء لجهة النهي ليتوصل إلى [ ص: 567 ] المأمور به تعاونا ، وطريق التعاون متأخر في الاعتبار عن طريق إقامة الضروري والحاجي ; لأنه تكميلي ، وما هو إلا بمثابة الغاصب والسارق ليتصدق بذلك على المساكين ، أو يبني قنطرة ولكنه صحيح إذا نزل منزلته ، وهو أن يكون من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة كالمنع من تلقي الركبان ، فإن منعه في الأصل ممنوع ; إذ هو من باب منع الارتفاق ، وأصله ضروري ، أو حاجي لأجل أهل السوق ، ومنعبيع الحاضر للبادي ; لأنه في الأصل منع من النصيحة إلا أنه إرفاق لأهل الحضر ، وتضمين الصناع قد يكون من هذا القبيل وله نظائر كثيرة ، فإن جهة التعاون هنا أقوى .
وقد أشار الصحابة على الصديق ; إذ قدموه خليفة بترك التجارة والقيام بالتحرف على العيال لأجل ما هو أعم في التعاون ، وهو القيام بمصالح المسلمين ، وعوضه من ذلك في بيت المال ، وهذا النوع صحيح كما تفسر ، والله أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (136)
صـ7 إلى صـ 18
الْفَصْلُ الرَّابِعُ
فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ
وَلَابُدَّ مِنْ مُقَدِّمَةٍ تُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ هَاهُنَا ، وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ الْمَعْنَوِيُّ ، كَانَ لَهُ صِيغَةٌ مَخْصُوصَةٌ أَوْ لَا ، فَإِذَا قُلْنَا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَفِي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ أَوْ غَيْرِهِ إِنَّهُ عَامٌّ فَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ ، بِدَلِيلٍ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ أَوْ لَا ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُسْتَعْمَلَ ةَ هُنَا إِنَّمَا هِيَ الِاسْتِقْرَائِ يَّةُ ، الْمُحَصِّلَةُ بِمَجْمُوعِهَا الْقَطْعَ بِالْحُكْمِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ ، وَالْخُصُوصُ بِخِلَافِ الْعُمُومِ ، فَإِذَا ثَبَتَ مَنَاطُ النَّظَرِ وَتَحَقَّقَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَسَائِلُ :
[ ص: 8 ] المسألة الأولى
إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة ; فلا تؤثر فيها معارضة : قضايا الأعيان ، ولا حكايات الأحوال ، والدليل على ذلك أمور : أحدها أن القاعدة مقطوع بها بالفرض ; لأنا إنما نتكلم في الأصول الكلية القطعية ، وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة ، والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه .
والثاني : أن القاعدة غير محتملة لاستنادها إلى الأدلة القطعية ، وقضايا الأعيان محتملة ; لإمكان أن تكون على غير ظاهرها ، أو على ظاهرها وهي مقتطعة ومستثناة من ذلك الأصل ; فلا يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه .
والثالث : أن قضايا الأعيان جزئية ، والقواعد المطردة كليات ، ولا تنهض [ ص: 9 ] الجزئيات أن تنقض الكليات ، ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص ; كما في المسألة السفرية بالنسبة إلى الملك المترف ، وكما في الغنى بالنسبة إلى مالك النصاب والنصاب لا يغنيه على الخصوص ، وبالضد في مالك غير النصاب وهو به غني .
والرابع : أنها لو عارضتها ; فإما أن يعملا معا ، أو يهملا أو يعمل بأحدهما دون الآخر ، أعني في محل المعارضة ; فإعمالهما معا باطل ، وكذلك إهمالهما ; لأنه إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي ، وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي ، وهو خلاف القاعدة ; فلم يبق إلا الوجه الرابع ، وهو إعمال الكلي دون الجزئي ، وهو المطلوب .
فإن قيل : هذا مشكل على بابي التخصيص والتقييد ; فإن تخصيص العموم وتقييد المطلق صحيح عند الأصوليين بأخبار الآحاد وغيرها من الأمور المظنونة وما ذكرت جار فيها ; فيلزم إما بطلان ما قالوه ، وإما بطلان هذه القاعدة ، لكن ما قالوه صحيح ; فلزم إبطال هذه القاعدة .
فالجواب من وجهين : أحدهما أن ما فرض في السؤال ليس من مسألتنا بحال ; فإن ما نحن [ ص: 10 ] فيه من قبيل ما يتوهم فيه الجزئي معارضا وفي الحقيقة ليس بمعارض ; فإن القاعدة إذا كانت كلية ، ثم ورد في شيء مخصوص وقضية عينية ما يقتضي بظاهره المعارضة في تلك القضية المخصوصة وحدها ، مع إمكان أن يكون معناها موافقا لا مخالفا ; فلا إشكال في أن لا معارضة هنا ، وهو هنا محل التأويل لمن تأول ، أو محل عموم الاعتبار إن لاقى بالموضع الاطراح والإهمال كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه كليا عاما ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمر [ ص: 11 ] خاص يمكن أن يراد به خلاف ظاهره ، على ما أعطته قاعدة التنزيه ; فمثل هذا لا يؤثر في صحة الكلية الثابتة ، وكما إذا ثبت لنا أصل عصمة الأنبياء من الذنوب ، ثم جاء قوله : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ونحو ذلك ، فهذا لا يؤثر لاحتمال حمله على وجه لا يخرم ذلك الأصل ، وأما تخصيص العموم ; فشيء آخر لأنه إنما يعمل بناء على أن المراد بالمخصص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال ; فحينئذ يعلم ويعتبر كما قاله الأصوليون ، وليس ذلك ما نحن فيه
[ ص: 12 ] فصل
وهذا الموضع كثير الفائدة ، عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان ; فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة ; فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة في الكلي ; فثبت في حقه المعارضة ، ورمت به أيدي الإشكالات في مهاو بعيدة ، وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين ; لأنه اتباع للمتشابهات ، وتشكك في القواطع المحكمات ، ولا توفيق إلا بالله .
ومن فوائد سهولة المتناول في انقطاع الخصام والتشغيب الواقع من المخالفين .
ومثال هذا ما وقع في بعض المجالس ، وقد ورد على غرناطة بعض طلبة العدوة الأفريقية ; فأورد على مسألة العصمة الإشكال المورد في قتل موسى للقبطي ، وأن ظاهر القرآن يقضي بوقوع المعصية منه عليه السلام بقوله : هذا من عمل الشيطان [ القصص : 15 ] وقوله : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي [ القصص : 16 ] [ ص: 13 ] فأخذ معه في تفصيل ألفاظ الآية بمجردها ، وما ذكر فيها من التأويلات بإخراج الآيات عن ظواهرها ، وهذا المأخذ لا يتخلص ، وربما وقع الانفصال على غير وفاق ; فكان مما ذاكرت به بعض الأصحاب في ذلك : أن المسألة سهلة في النظر إذا روجع بها الأصل ، وهي مسألة عصمة الأنبياء عليهم السلام ; فيقال له : الأنبياء معصومون من الكبائر باتفاق أهل السنة وعن الصغائر باختلاف ، وقد قام البرهان على ذلك في علم الكلام ; فمحال أن يكون هذا الفعل من موسى كبيرة ، وإن قيل : إنهم معصومون أيضا من الصغائر ، وهو صحيح ; فمحال أن يكون ذلك الفعل منه ذنبا ، فلم يبق إلا أن يقال : إنه ليس بذنب ، ولك في التأويل السعة بكل ما يليق بأهل النبوة ولا ينبو عنه ظاهر الآيات فاستحسن ذلك ، ورأى ذلك مأخذا علميا في المناظرات ، وكثيرا ما يبني عليه النظار ، وهو حسن ، والله أعلم .
[ ص: 14 ] المسألة الثانية
ولما كان قصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة ، وكانت العوائد قد جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة ، وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الوضع ; كان من الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي ، لا العموم الكلي التام الذي لا يختلف عنه جزئي ما .
أما كون الشريعة على ذلك الوضع ; فظاهر ، ألا ترى أن وضع التكاليف عام ؟ وجعل على ذلك علامة البلوغ ، وهو مظنة لوجود العقل الذي هو مناط التكليف لأن العقل يكون عنده في الغالب لا على العموم ; إذ لا يطرد ولا ينعكس كليا على التمام ; لوجود من يتم عقله قبل البلوغ ، ومن ينقص وإن كان بالغا ، إلا أن الغالب الاقتران .
وكذلك ناط الشارع الفطر والقصر بالسفر لعلة المشقة ، وإن كانت المشقة قد توجد بدونها وقد تفقد معها ، ومع ذلك ; فلم يعتبر الشارع تلك النوادر ، بل أجرى القاعدة مجراها ، ومثله حد الغنى بالنصاب ، وتوجيه الأحكام [ ص: 15 ] بالبينات ، وإعمال أخبار الآحاد والقياسات الظنية إلى غير ذلك من الأمور التي قد تتخلف مقتضياتها في نفس الأمر ، ولكنه قليل بالنسبة إلى عدم التخلف ; فاعتبرت هذه القواعد كلية عادية لا حقيقية .
وعلى هذا الترتيب تجد سائر الفوائد التكليفية .
وإذا ثبت ذلك ظهر أن لابد من إجراء العمومات الشرعية على مقتضى الأحكام العادية ، من حيث هي منضبطة بالمظنات ، إلا إذا ظهر معارض ; فيعمل على ما يقتضيه الحكم فيه ، كما إذا عللنا القصر بالمشقة ; فلا ينتقض بالملك المترف ولا بالصناعة الشاقة ، وكما لو علل الربا في الطعام بالكيل ; [ ص: 16 ] فلا ينتقض بما لا يتأتى كيله لقلة أو غيرها كالتافه من البر وكذلك إذا عللناه في النقدين بالثمنية لا ينتقض بما لا يكون ثمنا لقلته ، أو عللناه في الطعام بالاقتيات ، فلا ينتقض بما ليس فيه اقتيات ، كالحبة الواحدة ، وكذلك إذا اعترضت علة القوت بما يقتات في النادر ; كاللوز ، والجوز ، والقثاء ، والبقول ، وشبهها ، بل الاقتيات إنما اعتبر الشارع منه ما كان معتادا مقيما للصلب على الدوام وعلى العموم ، ولا يلزم اعتباره في جميع الأقطار .
[ ص: 17 ] وكذلك نقول : إن الحد علق في الخمر على نفس التناول حفظا على العقل ، ثم إنه أجري الحد في القليل الذي لا يذهب العقل مجرى الكثير اعتبارا بالعادة في تناول الكثير ، وعلق حد الزنى على الإيلاج وإن كان المقصود حفظ الأنساب ; فيحد من لم ينزل لأن العادة الغالبة مع الإيلاج الإنزال ، وكثير من هذا .
فليكن على بال من النظر في المسائل الشرعية أن القواعد العامة إنما تنزل على العموم العادي .
[ ص: 18 ] المسألة الثالثة
لا كلام في أن للعموم صيغا وضعية ، والنظر في هذا مخصوص بأهل العربية ، وإنما ينظر هنا في أمر آخر وإن كان من مطالب أهل العربية أيضا ، ولكنه أكيد التقرير هاهنا ، وذلك أن للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظرين : أحدهما : باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق ، وإلى هذا النظر قصد الأصوليين ; فلذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل والحس وسائر المخصصات المنفصلة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (137)
صـ19 إلى صـ 29
والثاني : بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها ، وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك .
وهذا الاعتبار استعمالي ، والأول قياسي .
والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي .
وبيان ذلك هنا أن العرب قد تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلام خاصة ، دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي ; كما أنها أيضا تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع ، وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال ; فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره ، وهو لا يريد نفسه ولا يريد أنه داخل في مقتضى العموم ، وكذلك قد يقصد بالعموم صنفا مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع ، دون غيره من الأصناف ، كما أنه قد يقصد [ ص: 20 ] ذكر البعض في لفظ العموم ، ومراده من ذكر البعض الجميع ; كما تقول : فلان يملك المشرق والمغرب ، والمراد جميع الأرض ، وضرب زيد الظهر والبطن ، ومنه رب المشرقين ورب المغربين [ الرحمن : 17 ] وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [ الزخرف : 84 ] فكذلك إذا قال : من دخل داري أكرمته ; فليس المتكلم بمراد ، وإذا قال : أكرمت الناس ، أو قاتلت الكفار ; فإنما المقصود من لقي منهم ; فاللفظ عام فيهم خاصة ، وهم المقصودون باللفظ العام دون من لم يخطر بالبال .
قال ابن خروف : " ولو حلف رجل بالطلاق والعتق ليضربن جميع من في الدار وهو معهم فيها ، فضربهم ولم يضرب نفسه ; لبر ولم يلزمه شيء ، ولو قال : اتهم الأمير كل من في المدينة فضربهم ; فلا يدخل الأمير في التهمة والضرب قال : " فكذلك لا يدخل شيء من صفات الباري تعالى تحت الإخبار في نحو قوله تعالى : خالق كل شيء [ الزمر : 62 ] لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه ، ومثله : والله بكل شيء عليم [ البقرة : 282 ] وإن كان عالما بنفسه وصفاته ، ولكن الإخبار إنما وقع عن جميع المحدثات ، وعلمه بنفسه وصفاته شيء آخر " قال : فكل ما وقع الإخبار به من نحو هذا ، فلا تعرض فيه لدخوله تحت [ ص: 21 ] المخبر عنه ; فلا تدخل صفاته تعالى تحت الخطاب ، وهذا معلوم من وضع اللسان فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال ، ووجوه الاستعمال كثيرة ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان فإن قوله : تدمر كل شيء بأمر ربها [ الأحقاف : 25 ] لم يقصد به أنها تدمر السماوات والأرض والجبال ، ولا المياه ولا غيرها مما هو في معناها ، وإنما المقصود تدمر كل شيء مرت عليه مما شأنها أن تؤثر فيه على الجملة ، ولذلك قال : فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم [ الأحقاف : 25 ] وقال في الآية الأخرى : ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ الذاريات : 25 ] ومن الدليل على هذا أنه لا يصح استثناء هذه الأشياء بحسب اللسان ; فلا يقال من دخل داري أكرمته إلا نفسي أو أكرمت الناس إلا نفسي ، ولا قاتلت الكفار إلا من لم ألق منهم ، ولا ما كان نحو ذلك ، وإنما يصح الاستثناء من غير المتكلم ممن دخل الدار ، أو ممن لقيت من الكفار ، وهو الذي يتوهم دخوله لو لم يستثن ، هذا كلام العرب في التعميم ; فهو إذا الجاري في عمومات الشرع .
[ ص: 22 ] وأيضا ; فطائفة من أهل الأصول نبهوا على هذا المعنى ، وأن ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخطار لا يحمل لفظه عليه ; إلا مع الجمود على مجرد اللفظ ، وأما المعنى ; فيبعد أن يكون مقصودا للمتكلم ; كقوله صلى الله عليه وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر قال الغزالي : " خروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع عند التعرض للدباغ ليس ببعيد ، بل هو الغالب الواقع ، ونقيضه هو الغريب المستبعد " وكذا قال غيره أيضا ، وهو موافق لقاعدة العرب ، وعليه يحمل كلام الشارع بل لابد [ ص: 23 ] فإن قيل : إذا ثبت أن اللفظ العام ينطلق على جميع ما وضع له في الأصل حالة الإفراد ، فإذا حصل التركيب والاستعمال ; فإما أن تبقى دلالته على ما كانت عليه حالة الانفراد ، أو لا ، فإن كان الأول ; فهو مقتضى وضع اللفظ ، فلا إشكال ، وإن كان الثاني ; فهو تخصيص للفظ العام ، وكل تخصيص لابد له من مخصص عقلي أو نقلي أو غيرهما ، وهو مراد الأصوليين .
ووجه آخر وهو أن العرب حملت اللفظ على عمومه في كثير من أدلة الشريعة ، مع أن معنى الكلام يقتضي على ما تقرر خلاف ما فهموا ، وإذا كان فهمهم في سياق الاستعمال معتبرا في التعميم حتى يأتي دليل التخصيص دل على أن الاستعمال لم يؤثر في دلالة اللفظ حالة الإفراد عندهم ، بحيث صار كوضع ثان ، بل هو باق على أصل وضعه ، ثم التخصيص آت من وراء ذلك بدليل متصل أو منفصل .
[ ص: 24 ] ومثال ذلك أنه لما نزل قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] الآية شق ذلك عليهم وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال عليه الصلاة والسلام " إنه ليس بذاك ألا تسمع إلى قول لقمان إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] وفي رواية فنزلت إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ومثل ذلك أنه لما نزلت : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [ الأنبياء : 98 ] قال بعض الكفار : فقد عبدت الملائكة وعبد المسيح فنزل : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية [ الأنبياء : 101 ] إلى أشياء كثيرة سياقها يقتضي بحسب المقصد الشرعي عموما أخص من عموم اللفظ ، وقد فهموا فيها مقتضى اللفظ وبادرت أفهامهم فيه ، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ، ولولا أن الاعتبار عندهم ما وضع له اللفظ في الأصل ; لم يقع منهم فهمه .
فالجواب عن الأول أنا إذا اعتبرنا الاستعمال العربي ; فقد تبقى دلالته الأولى وقد لا تبقى ، فإن بقيت ; فلا تخصيص ، وإن لم تبق دلالته ; فقد صار للاستعمال اعتبار آخر ليس للأصل ، وكأنه وضع ثان حقيقي لا مجازي ، وربما [ ص: 25 ] أطلق بعض الناس على مثل هذا لفظ " الحقيقة اللغوية " إذا أرادوا أصل الوضع ، ولفظ الحقيقة العرفية إذا أرادوا الوضع الاستعمالي ، والدليل على صحته ما ثبت في أصول العربية من أن للفظ العربي أصالتين : أصالة قياسية ، وأصالة استعمالية ; فللاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع وهي التي وقع الكلام فيها ، وقام الدليل عليها في مسألتنا ; فالعام إذا في الاستعمال لم يدخله تخصيص بحال .
وعن الثاني أن الفهم في عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه ، وللشريعة بهذا النظر مقصدان : أحدهما : المقصد في الاستعمال العربي الذي أنزل القرآن بحسبه ، وقد تقدم القول فيه .
والثاني : المقصد في الاستعمال الشرعي الذي تقرر في سور القرآن [ ص: 26 ] بحسب تقرير قواعد الشريعة ، وذلك أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع الاستعمالي العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري ; كما نقول في الصلاة : إن أصلها الدعاء لغة ، ثم خصت في الشرع بدعاء مخصوص على وجه مخصوص ، وهي فيه حقيقة لا مجاز ; فكذلك نقول في ألفاظ العموم بحسب الاستعمال الشرعي : إنها إنما تعم الذكر بحسب مقصد الشارع فيها ، والدليل على ذلك مثل الدليل على الوضع الاستعمالي المتقدم الذكر ، واستقراء مقاصد الشارع يبين ذلك ، مع ما ينضاف إليه في مسألة إثبات الحقيقة الشرعية .
فأما الأول ; فالعرب فيه شرع سواء ; لأن القرآن نزل بلسانهم .
وأما الثاني : فالتفاوت في إدراكه حاصل ; إذ ليس الطارئ الإسلام من العرب في فهمه كالقديم العهد ، ولا المشتغل بتفهمه وتحصيله كمن ليس في تلك الدرجة ، ولا المبتدئ فيه كالمنتهي يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [ المجادلة : 11 ] فلا مانع من توقف بعض الصحابة في بعض ما يشكل أمره ، ويغمض وجه القصد الشرعي فيه ; حتى إذا تبحر في إدراك معاني الشريعة نظره ، واتسع في ميدانها باعه ; زال عنه ما وقف من الإشكال واتضح له القصد الشرعي على الكمال ، فإذا تقرر وجه الاستعمال ; فما ذكر مما توقف فيه بعضهم راجع إلى هذا القبيل ، ويعضده ما فرضه الأصوليون من وضع [ ص: 27 ] الحقيقة الشرعية ; فإن الموضع يستمد منها ، وهذا الوضع وإن كان قد جيء به مضمنا في الكلام العربي ; فله مقاصد تختص به يدل عليها المساق الحكمي أيضا ، وهذا المساق يختص بمعرفته العارفون بمقاصد الشارع ، كما أن الأول يختص بمعرفته العارفون بمقاصد العرب ; فكل ما سألوا عنه فمن [ هذا ] القبيل إذا تدبرته .
فصل
ويتبين لك صحة ما تقرر في النظر في الأمثلة المعترض بها في السؤال الأول .
فأما قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية [ الأنعام : 82 ] فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص ، فإن السورة من أولها إلى آخرها مقررة لقواعد التوحيد ، وهادمة لقواعد الشرك وما يليه ، والذي تقدم قبل الآية قصةإبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس ، وكان قد تقدم قبل ذلك قوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته [ الأنعام : 21 ] فبين أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخلتين وظهر أنهما المعني بهما في سورة الأنعام إبطالا بالحجة ، وتقريرا لمنزلتهما في المخالفة ، [ ص: 28 ] وإيضاحا للحق الذي هو مضاد لهما ; فكأن السؤال إنما ورد قبل تقرير هذا المعنى .
وأيضا ; فإن ذلك لما كان تقريرا لحكم شرعي بلفظ عام ; كان مظنة لأن يفهم منه العموم في كل ظلم ، دق أو جل ; فلأجل هذا سألوا وكان ذلك عند نزول السورة ، وهي مكية نزلت في أول الإسلام قبل تقرير جميع كليات الأحكام .
وسبب احتمال النظر ابتداء أن قوله : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] نفي على نكرة لا قرينة فيها تدل على استغراق أنواع الظلم ، بل هو كقوله : لم يأتني رجل ; فيحتمل المعاني التي ذكرها سيبويه ، وهي كلها نفي لموجب مذكور أو مقدر ، ولا نص في مثل هذا على الاستغراق في جميع الأنواع المحتملة ; إلا مع الإتيان بمن وما يعطي معناها ، وذلك مفقود هنا ، بل في السورة ما يدل على أن ذلك النفي وارد على ظلم معروف ، وهو ظلم [ ص: 29 ] الافتراء على الله والتكذيب بآياته ;
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (138)
صـ30 إلى صـ 40
فصارت الآية من جهة إفرادها بالنظر في هذا المساق مع كونها أيضا في مساق تقرير الأحكام مجملة في عمومها فوقع الإشكال فيها ، ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن عمومها إنما القصد به نوع أو نوعان من أنواع الظلم ، وذلك ما دلت عليه السورة ، وليس فيه تخصيص على هذا بوجه [ ص: 30 ] وأما قوله : إنكم وما تعبدون الآية [ الأنبياء : 98 ] فقد أجاب الناس عن اعتراض ابن الزبعرى فيها بجهله بموقعها ، وما روي في الموضع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " ما أجهلك بلغة قومك يا غلام " لأنه جاء في الآية إنكم وما تعبدون [ ص: 31 ] [ الأنبياء : 98 ] في الأصنام التي كانوا يعبدون " وما " لما لا يعقل ; فكيف تشمل الملائكة والمسيح ؟ ! .
والذي يجري على أصل مسألتنا أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملائكة ولا المسيح ، وإنما كانوا يعبدون الأصنام ; فقوله : وما تعبدون [ الأنبياء : 98 ] عام في الأصنام التي كانوا يعبدون ، فلم يدخل في العموم الاستعمالي غير ذلك ; فكان اعتراض المعترض جهلا منه بالمساق ، وغفلة عما قصد في الآيات .
وما روي من قوله : " ما أجهلك بلغة قومك يا غلام " دليل على عدم تمكنه في فهم المقاصد العربية وإن كان من العرب ; لحداثته وغلبة الهوى عليه في الاعتراض أن يتأمل مساق الكلام حتى يهتدي للمعنى المراد ، ونزل قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى [ الأنبياء : 101 ] بيانا [ ص: 32 ] لجهله ومثله ما في الصحيح أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس ، فقل له : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ; لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : مالكم ولهذه الآية ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء ، فكتموه إياه وأخبروه بغيره ; فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم . ثم قرأ ابن عباس وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب [ آل عمران : 187 ] كذلك حتى قوله : يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا [ آل عمران : 188 ] ; فهذا من ذلك المعنى أيضا [ ص: 33 ] وبالجملة فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة ، وإن ثم قصدا آخر سوى القصد العربي لابد من تحصيله ، وبه يحصل فهمها ، وعلى طريقه يجري سائر العمومات ، وإذ ذاك لا يكون ثم تخصيص بمنفصل ألبتة ، واطردت العمومات قواعد صادقة العموم ، ولنورد هنا فصلا هو مظنة لورود الإشكال على ما تقرر ، وبالجواب عنه يتضح المطلوب اتضاحا أكمل .
[ ص: 34 ] فلقائل أن يقول : إن السلف الصالح مع معرفتهم بمقاصد الشريعة وكونهم عربا قد أخذوا بعموم اللفظ وإن كان سياق الاستعمال يدل على خلاف ذلك وهو دليل على أن المعتبر عندهم في اللفظ عمومه بحسب اللفظ الإفرادي وإن عارضه السياق ، وإذا كان كذلك عندهم صار ما يبين لهم خصوصه كالأمثلة المتقدمة مما خص بالمنفصل ، لا مما وضع في الاستعمال على العموم المدعى .
ولهذا الموضع من كلامهم أمثلة ، منها أن عمر بن الخطاب كان يتخذ الخشن من الطعام ، كما كان يلبس المرقع في خلافته ; فقيل له : لو اتخذت طعاما ألين من هذا ؟ . فقال : أخشى أن تعجل طيباتي ، يقول الله تعالى : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا [ الأحقاف : 20 ] الحديث .
وجاء أنه قال لأصحابه وقد رأى بعضهم قد توسع في الإنفاق شيئا : أين تذهب بكم هذه الآية : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية [ ص: 35 ] [ الأحقاف : 20 ] وسياق الآية يقتضي أنها إنما نزلت في الكفار الذين رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة ، ولذلك قال : ويوم يعرض الذين كفروا على النار ثم قال : فاليوم تجزون عذاب الهون [ الأحقاف : 20 ] فالآية غير لائقة بحالة المؤمنين ، ومع ذلك ; فقد أخذها عمر مستندا في ترك الإسراف مطلقا ، وله أصل في الصحيح في حديث المرأتين المتظاهرتين على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يوسع على أمتك ; فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدونه . فاستوى جالسا ; فقال : " أوفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ ! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " فهذا يشير إلى مأخذ عمر في الآية وإن دل السياق على خلافه وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة أن [ ص: 36 ] معاوية قال : صدق الله ورسوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها [ هود : 15 ] إلى آخر الآيتين فجعل مقتضى الحديث وهو في أهل الإسلام داخلا تحت عموم الآية ، وهي في الكفار ; لقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار [ هود : 16 ] إلخ ; فدل على الأخذ بعموم من في غير الكفار أيضا . وفي البخاري عن محمد بن عبد الرحمن ; قال : قطع على أهل المدينة بعث ; فاكتتبت ، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس ، فأخبرته ; فنهاني عن ذلك أشد النهي ، ثم قال : أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين ، يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل ; فأنزل الله عز وجل : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية [ النساء : 97 ] فهذا أيضا من ذلك ; لأن الآية عامة فيمن كثر سواد المشركين ، ثم إن عكرمة أخذها على وجه أعم من ذلك وفي الترمذي والنسائي عن ابن عباس لما نزلت : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم [ ص: 37 ] الآية [ الأنبياء : 284 ] دخل قلوبهم منه شيء لم يدخل من شيء ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " قولوا سمعنا وأطعنا " فألقى الله الإيمان في قلوبهم ; فأنزل الله تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون الآية ، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت الحديث إلخ ، فهموا من الآية العموم ، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم ونزل بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] على وجه النسخ أو غيره مع قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وهي [ ص: 38 ] قاعدة مكية كلية ; ففي هذا ما يدل على صحة الأخذ بالعموم اللفظي وإن دل الاستعمال اللغوي أو الشرعي على خلافه .
وكذلك قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى [ النساء : 115 ] الآية ; فإنها نزلت فيمن ارتد عن الإسلام بدليل قوله بعد : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ] ثم إن عامة العلماء استدلوا بها على كون الإجماع حجة ، وأن مخالفه عاص ، وعلى أن الابتداع في الدين مذموم .
وقوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه [ هود : 5 ] ظاهر مساق الآية أنها في الكفار والمنافقين أو غيرهم بدليل قوله : ليستخفوا منه [ هود : 5 ] أي : من الله تعالى أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس : إنها في أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ; فنزل ذلك فيهم فقد عم هؤلاء في حكم الآية مع [ ص: 39 ] أن المساق لا يقتضيه ومثل هذا كثير ، وهو كله مبني على القول باعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب ومثله قوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] مع أنها نزلت في اليهود والسياق يدل على ذلك ، ثم إن العلماء عموا بها غير الكفار ، وقالوا : كفر دون كفر [ ص: 40 ] فإذا رجع هذا البحث إلى القول بأن لا اعتبار بعموم اللفظ ، وإنما الاعتبار بخصوص السبب ، وفيه من الخلاف ما علم ; فقد رجعنا إلى أن أحد القولين هو الأصح ، ولا فائدة زائدة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (139)
صـ41 إلى صـ 50
والجواب : إن السلف الصالح إنما جاءوا بذلك الفقه الحسن بناء على أمر آخر غير راجع إلى الصيغ العمومية ; لأنهم فهموا من كلام الله تعالى مقصودا يفهمه الراسخون في العلم ، وهو أن الله تعالى ذكر الكفار بسيئ أعمالهم ، والمؤمنين بأحسن أعمالهم ; ليقوم العبد بين هذين المقامين على قدمي الخوف والرجاء ، فيرى أوصاف أهل الإيمان وما أعد لهم ; فيجتهد رجاء أن يدركهم ، ويخاف أن لا يلحقهم فيفر من ذنوبه ، ويرى أوصاف أهل الكفر وما أعد لهم ; فيخاف من الوقوع فيما وقعوا فيه ، وفيما يشبهه ، ويرجو بإيمانه أن لا يلحق بهم ; فهو بين الخوف والرجاء من حيث يشترك مع الفريقين في وصف ما وإن كان مسكوتا عنه ; لأنه إذا ذكر الطرفان كان الحائل بينهما مأخوذ الجانبين كمحال [ ص: 41 ] الاجتهاد لا فرق ، لا من جهة أنهم حملوا ذلك محمل الداخل تحت العموم اللفظي ، وهو ظاهر في آية الأحقاف وهود والنساء في آية : إن الذين توفاهم الملائكة الآية [ النساء : 97 ] ويظهر أيضا في قوله : ويتبع غير سبيل المؤمنين [ النساء : 115 ] وما سوى ذلك ; فإما من تلك القاعدة ، وإما أنها بيان فقه الجزئيات من الكليات العامة ، لا أن المقصود التخصيص ، بل بيان جهة العموم ، وإليك النظر في التفاصيل ، والله المستعان .
[ ص: 42 ] [ ص: 43 ] فصل
إذا تقرر ما تقدم ; فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل . فإن كان بالمتصل ; كالاستثناء ، والصفة ، والغاية ، وبدل البعض ، وأشباه ذلك ; فليس في الحقيقة بإخراج لشيء ، بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد ، وهو ينظر إلى قول سيبويه : " زيد الأحمر " عند من لا يعرفه كزيد وحده عند من يعرفه ، وبيان ذلك أن زيدا الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم ، كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما ، وهكذا إذا قلت : " الرجل الخياط " فعرفه السامع ; فهو مرادف " لزيد " فإذا المجموع هو الدال ، ويظهر ذلك في الاستثناء إذا قلت : عشرة إلا ثلاثة فإنه مرادف لقولك : سبعة فكأنه وضع آخر عرض حالة التركيب [ ص: 44 ] وإذا كان كذلك ; فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظا ولا قصدا ، ولا يصح أن يقال : إنه مجاز أيضا لحصول الفرق عند أهل العربية بين قولك : ما رأيت أسدا يفترس الأبطال وقولك : ما رأيت رجلا شجاعا وأن الأول مجاز ، والثاني حقيقة ، والرجوع في هذا إليهم ، لا إلى ما يصوره العقل في مناحي الكلام .
وأما التخصيص بالمنفصل ; فإنه كذلك أيضا راجع إلى بيان المقصود في عموم الصيغ ، حسبما تقدم في رأس المسألة ، لا أنه على حقيقة التخصيص الذي يذكره الأصوليون .
فإن قيل : وهكذا يقول الأصوليون : إن التخصيص بيان المقصود بالصيغ المذكورة ; فإنه رفع لتوهم دخول المخصوص تحت عموم الصيغة في فهم السامع ، وليس بمراد الدخول تحتها ، وإلا كان التخصيص نسخا ، فإذا لا فرق بين التخصيص بالمنفصل والتخصيص بالمتصل على ما فسرت ; فكيف تفرق بين ما ذكرت وبين ما يذكره الأصوليون ؟ .
فالجواب : إن الفرق بينهما ظاهر ، وذلك أن ما ذكر هنا راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي ، وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص ; فنحن بينا أنه بيان لوضع اللفظ ، وهم قالوا : إنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه ، [ ص: 45 ] وبينهما فرق ; فالتفسير الواقع هنا نظير البيان الذي سيق عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه ، والذي للأصوليين نظير البيان الذي سيق عقيب الحقيقة ليبين أن المراد المجاز ; كقولك : رأيت أسدا يفترس الأبطال .
فإن قيل : أفيكون تأصيل أهل الأصول كله باطلا ، أم لا ؟ فإن كان باطلا ; لزم أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك خطأ ، والأمة لا تجتمع على الخطأ ، وإن كان صوابا وهو الذي يقتضيه إجماعهم ; فكل ما يعارضه خطأ ، فإذا كل ما تقدم بيانه خطأ ، فالجواب : أن إجماعهم أولا غير ثابت على شرطه ، ولو سلم أنه ثابت ;لم يلزم منه إبطال ما تقدم لأنهم إنما اعتبروا صيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإفرادي ، ولم يعتبروا حالة الوضع الاستعمالي ، حتى إذا أخذوا في الاستدلال على الأحكام ; رجعوا إلى اعتباره : كل على اعتبار رآه ، أو تأويل ارتضاه ; فالذي تقدم بيانه مستنبط من اعتبارهم الصيغ في الاستعمال ، بلا [ ص: 46 ] خلاف بيننا وبينهم ; إلا ما يفهم عنهم من لا يحيط علما بمقاصدهم ، ولا يجود محصول كلامهم ، وبالله التوفيق .
فصل
فإن قيل : حاصل ما مر أنه بحث في عبارة ، والمعنى متفق عليه ، ومثله لا ينبني عليه حكم .
فالجواب أن لا ، بل هو بحث فيما ينبني عليه أحكام : منها : أنهم اختلفوا في العام إذا خص ; هل يبقى حجة أم لا ؟ وهي من المسائل الخطيرة في الدين ; فإن الخلاف فيها في ظاهر الأمر شنيع لأن غالب الأدلة الشرعية وعمدتها هي العمومات ، فإذا عدت من المسائل المختلف فيها بناء على ما قالوه أيضا من أن جميع العمومات أو غالبها مخصص ; صار معظم الشريعة مختلفا فيها : هل هو حجة أم لا ؟ ومثل ذلك يلقى في المطلقات فانظر فيه ، فإذا عرضت المسألة على هذا الأصل المذكور ; لم يبق الإشكال المحظور ، وصارت العمومات حجة على كل قول [ ص: 47 ] ولقد أدى إشكال هذا الموضع إلى شناعة أخرى ، وهي أن عمومات [ ص: 48 ] القرآن ليس فيها ما هو معتد به في حقيقته من العموم ، وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص ، وفيه ما يقتضي إبطال الكليات القرآنية ، وإسقاط الاستدلال به جملة ; إلا بجهة من التساهل وتحسين الظن ، لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم ، وفي هذا إذا تؤمل توهين الأدلة الشرعية ، وتضعيف الاستناد إليها ، وربما نقلوا في الحجة لهذا الموضع عن ابن عباس ; أنه قال : ليس في القرآن عام إلا مخصص ، إلا قوله تعالى : والله بكل شيء عليم [ البقرة : 282 ] وجميع ذلك مخالف لكلام العرب ، ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته التي فهموها تحقيقا ، بحسب قصد العرب في اللسان ، وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام .
وأيضا ; فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم ، واختصر له الكلام اختصارا على وجه هو أبلغ ما يكون ، وأقرب ما يمكن في التحصيل ، ورأس هذه الجوامع في التعبير العمومات فإذا فرض أنها ليست بموجودة في [ ص: 49 ] القرآن جوامع ، بل على وجه تفتقر فيه إلى مخصصات ومقيدات وأمور أخر ; فقد خرجت تلك العمومات عن أن تكون جوامع مختصرة ، وما نقل عن ابن عباس إن ثبت من طريق صحيح ; فيحتمل التأويل .
فالحق في صيغ العموم إذا وردت أنها على عمومها في الأصل الاستعمالي ، بحيث يفهم محل عمومها العربي الفهم المطلع على مقاصد الشرع ; فثبت أن هذا البحث ينبني عليه فقه كثير وعلم جميل ، وبالله التوفيق
[ ص: 50 ] المسألة الرابعة
عمومات العزائم وإن ظهر ببادئ الرأي أن الرخص تخصصها ; فليست بمخصصة لها في الحقيقة ، بل العزائم باقية على عمومها ، وإن أطلق عليها أن الرخص خصصتها ; فإطلاق مجازي لا حقيقي .
والدليل على ذلك أن حقيقة الرخصة ; إما أن تقع بالنسبة إلى ما لا يطاق ، أو لا فإن كان الأول فليست برخصة في الحقيقة ; إذ لم يخاطب بالعزيمة من لا يطيقها ، وإنما يقال هنا : إن الخطاب بالعزيمة مرفوع من الأصل بالدليل الدال على رفع تكليف ما لا يطاق ; فانتقلت العزيمة إلى هيئة أخرى ، وكيفية مخالفة للأولى كالمصلي لا يطيق القيام ; فليس بمخاطب بالقيام ، بل صار فرضه الجلوس أو على جنب أو ظهر ، وهو العزيمة عليه ، وإن كان الثاني ; فمعنى الرخصة في حقه أنه إن انتقل إلى الأخف ; فلا جناح عليه ، لا أنه سقط عنه فرض القيام .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (140)
صـ51 إلى صـ 60
والدليل على ذلك أنه إن تكلف فصلى قائما ; فإما أن يقال : إنه أدى الفرض على كمال العزيمة ، أو لا ; فلا يصح أن يقال : إنه لم يؤده على كماله ; إذ قد ساوى فيه الصحيح القادر من غير فرق ; فالتفرقة بينهما تحكم من غير دليل ; فلابد أنه أداه على كماله ، وهو معنى كونه داخلا تحت عموم الخطاب بالقيام [ ص: 51 ] فإن قيل : إذا قلت : إن العزيمة مع الرخصة من باب خصال الكفارة بالنسبة إليه ; فأي الخصلتين فعل فعلى حكم الوجوب ، وإذا كان ذلك كذلك ; فعمله بالعزيمة عمل على كمال ، وقد ارتفع عنه حكم الانحتام ، وذلك معنى تخصيص عموم العزيمة بالرخصة ; فقد تخصصت عمومات العزائم بالرخص على هذا التقرير ; فلا يستقيم القول ببقاء العمومات إذ ذاك .
وأيضا ، فإن الجمع بين بقاء حكم العزيمة ومشروعية الرخصة جمع بين متنافيين ; لأن معنى بقاء العزيمة أن القيام في الصلاة واجب عليه حتما ، ومعنى جواز الترخص أن القيام ليس بواجب حتما ، وهما قضيتان متناقضتان ، لا تجتمعان على موضوع واحد ; فلا يصح القول ببقاء العموم بالنسبة إلى من يشق عليه القيام في الصلاة .
وأمر ثالث ، وهو أن الرخصة قد ثبت التخيير بينها وبين العزيمة ، فلو كانت العزيمة هنا باقية على أصلها من الوجوب المنحتم ; لزم من ذلك التخيير بين الواجب وغير الواجب ، والقاعدة أن ذلك محال لا يمكن ; فما أدى إليه مثله .
فالجواب : أن العزيمة مع الرخصة ليستا من باب خصال الكفارة إذ لم يأت دليل ثابت يدل على حقيقة التخيير ، بل الذي أتى في حقيقة الرخصة أن من ارتكبها ; فلا جناح عليه خاصة ، لا أن المكلف مخير بين العزيمة والرخصة ، وقد تقدم الفرق بينهما في كتاب الأحكام في فصل العزائم والرخص ، وإذا ثبت [ ص: 52 ] ذلك ; فالعزيمة على كمالها وأصالتها في الخطاب بها ، وللمخالفة حكم آخر .
وأيضا ; فإن الخطاب بالعزيمة من جهة حق الله تعالى ، والخطاب بالرخصة من جهة حق العبد ; فليسا بواردين على المخاطب من جهة واحدة ، بل من جهتين مختلفتين ، وإذا اختلفت الجهات أمكن الجمع وزال التناقض المتوهم في الاجتماع ، ونظير تخلف العزيمة للمشقة تخلفها للخطأ ، والنسيان ، والإكراه ، وغيرها من الأعذار التي يتوجه الخطاب مع وجودها مع أن التخلف غير مؤثم ولا موقع في محظور ، وعلى هذا ينبني معنى آخر يعم هذه المسألة وغيرها وهو أن العمومات التي هي عزائم إذا رفع الإثم عن المخالف فيها لعذر من الأعذار ; فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص ، وإن أطلق عليها أن الأعذار خصصتها ; فعلى المجاز لا على الحقيقة ، ولنعدها مسألة على حدتها ، وهي :
[ ص: 53 ] المسألة الخامسة
والأدلة على صحتها ما تقدم ، والمسألة وإن كانت مختلفا فيها على وجه آخر ; فالصواب جريانها على ما جرت عليه العزائم مع الرخص ، ولنفرض المسألة في موضعين : أحدهما : فيما إذا وقع الخطأ من المكلف فتناول ما هو محرم ; ظهرت علة تحريمه بنص أو إجماع أو غيرهما ; كشارب المسكر يظنه حلالا ، وآكل مال [ ص: 54 ] اليتيم أو غيره يظنه متاع نفسه ، أو قاتل المسلم يظنه كافرا ، أو واطئ الأجنبية يظنها زوجته أو أمته ، وما أشبه ذلك ; فإن المفاسد التي حرمت هذه الأشياء لأجلها واقعة أو متوقعة ، فإن شارب المسكر قد زال عقله وصده عن ذكر الله وعن الصلاة ، وآكل مال اليتيم قد أخذ ماله الذي حصل له به الضرر والفقر وقاتل المسلم قد أزهق دم نفس ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [ المائدة : 32 ] وواطئ الأجنبية قد تسبب في اختلاط نسب المخلوق من مائه ; فهل يسوغ في هذه الأشياء أن يقال : إن الله أذن فيها وأمر بها ؟ كلا ، بل عذر الخاطئ ورفع الحرج والتأثيم بها ، وشرع مع ذلك فيها التلافي حتى تزول المفسدة فيما يمكن فيه الإزالة ; كالغرامة ، والضمان في المال ، وأداء الدية مع تحرير الرقبة في النفس ، وبذل المهر مع إلحاق الولد بالواطئ ، وما أشبه ذلك إن الله لا يأمر بالفحشاء [ الأعراف : 28 ] إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [ النحل : 90 ] غير أن عذر الخطأ رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم [ ص: 55 ] والموضع الثاني : إذا أخطأ الحاكم في الحكم ; فسلم المال إلى غير أهله ، أو الزوجة إلى غير زوجها ، أو أدب من لم يستحق تأديبا وترك من كان مستحقا له ، أو قتل نفسا بريئة إما لخطأ في دليل أو في الشهود ، أو نحو ذلك ; فقد قال تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله الآية [ المائدة : 49 ] وقال : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] فإذا أخطأ فحكم بغير ما أنزل الله ; فكيف يقال إنه مأمور بذلك ؟ أو أشهد ذوي زور ; فهل يصح أن يقال : إنه مأمور بقبولهم وبإشهادهم ؟ هذا لا يسوغ [ ص: 56 ] بناء على مراعاة المصالح في الأحكام ، تفضلا كما اخترناه ، أو لزوما كما يقوله المعتزلة ، غير أنه معذور في عدم إصابته كما مر ، والأمثلة في ذلك كثيرة .
ولو كان هذا الفاعل وهذا الحاكم مأمورا بما أخطأ فيه ، أو مأذونا له فيه ; لكان الأمر بتلافيه إذا اطلع عليه على خلاف مقتضى الأدلة ; إذ لا فرق بين أمر وأمر ، وإذن وإذن ; إذ الجميع ابتدائي ; فالتلافي بعد أحدهما دون الآخر شيء لا يعقل له معنى ، وذلك خلاف ما دل عليه اعتبار المصالح .
فإن التزم أحد هذا الرأي وجرى على التعبد المحض ، ورشحه بأن الحرج موضوع في التكاليف وإصابة ما في نفس الأمر حرج أو تكليف بما لا يستطاع ، وإنما يكلف بما يظنه صوابا ، وقد ظنه كذلك ; فليكن مأمورا به أو مأذونا فيه ، والتلافي بعد ذلك أمر ثان بخطاب جديد ; فهذا الرأي جار على الظاهر لا على التفقه في الشريعة ، وقد مر له تقرير في فصل الأوامر والنواهي ، ولولا أنها مسألة عرضت لكان الأولى ترك الكلام فيها لأنها لا تكاد ينبني عليها فقه معتبر .
[ ص: 57 ] المسألة السادسة
العموم إذا ثبت ; فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط ، بل له طريقان : أحدهما : الصيغ إذا وردت وهو المشهور في كلام أهل الأصول .
والثاني استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام ; فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ ، والدليل على صحة هذا الثاني وجوه : أحدها : أن الاستقراء هكذا شأنه ; فإنه تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام ; إما قطعي ، وإما ظني ، وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية ; فإذا تم الاستقراء حكم به مطلقا في كل فرد يقدر ، وهو معنى العموم المراد في هذا الموضع .
والثاني : أن التواتر المعنوي هذا معناه ; فإن جود حاتم مثلا إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد ، وعلى العموم من غير تخصيص ، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر ، مختلفة في الوقوع ، متفقة في معنى الجود ، حتى حصلت للسامع معنى كليا حكم به على حاتم وهو الجود ، ولم يكن خصوص [ ص: 58 ] الوقائع قادحا في هذه الإفادة ، فكذلك إذا فرضنا أن رفع الحرج في الدين مثلا مفقود فيه صيغة عموم ; فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة ، مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج ، كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء ، والصلاة قاعدا عند مشقة القيام ، والقصر والفطر في السفر ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر ، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم ، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف التلف الذي هو أعظم المشقات ، والصلاة إلى أي جهة كانت لعسر استخراج القبلة ، والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر ، والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه ، إلى جزئيات كثيرة جدا يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج ; فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها ، عملا بالاستقراء ; فكأنه عموم لفظي ، فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي [ ص: 59 ] ثبت في ضمنه ما نحن فيه ، والثالث : أن قاعدة سد الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها ، وكإتمام عثمان الصلاة [ ص: 60 ] في حجه بالناس ، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة ، إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها ، مع أن المنصوص فيها إنما هي أمور خاصة ; كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وفي الحديث : من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه وأشباه ذلك ، وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في معنى سد الذريعة ، وهو دليل على ما ذكر من غير إشكال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (141)
صـ61 إلى صـ 70
فإن قيل : اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين ، من أوجه : أحدها : أن ذلك إنما يمكن في العقليات لا في الشرعيات ; لأن المعاني العقلية بسائط لا تقبل التركيب ، ومتفقة لا تقبل الاختلاف ; فيحكم العقل [ ص: 61 ] فيها على الشيء بحكم مثله شاهدا وغائبا ; لأن فرض خلافه محال عنده ، بخلاف الوضعيات ; فإنها لم توضع وضع النقليات ، وإلا كانت هي هي بعينها ; فلا تكون وضعية ، هذا خلف ، وإذا لم توضع وضعها ، وإنما وضعت على وفق الاختيار الذي يصح معه التفرقة بين الشيء ومثله ، والجمع بين الشيء وضده ونقيضه ; لم يصح مع ذلك أن يقتنص فيها معنى كلي عام من معنى جزئي خاص .
والثاني : أن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدا على ذلك المعنى العام ، أو معاني كثيرة ، وهذا واضح في المعقول ; لأن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، وإذ ذاك لا يتعين تعلق الحكم الشرعي في ذلك الخاص بمجرد الأمر العام دون التعلق بالخاص على الانفراد ، أو بهما معا ; فلا يتعين متعلق الحكم ، وإذا لم يتعين ; لم يصح نظم المعنى الكلي من تلك الجزئيات إلا عند فرض العلم بأن الحكم لم يتعلق إلا بالمعنى المشترك العام دون غيره وذلك لا يكون إلا بدليل ، وعند وجود ذلك الدليل لا يتبقى تعلق بتلك الجزئيات في استفادة معنى عام للاستغناء بعموم صيغة ذلك الدليل عن هذا العناء الطويل .
والثالث : أن التخصيصات في الشريعة كثيرة ; فيخص محل [ ص: 62 ] بحكم ويخص مثله بحكم آخر وكذلك يجمع بين المختلفات في حكم واحد .
ولذلك أمثلة كثيرة ; كجعل التراب طهورا كالماء ، وليس بمطهر كالماء ، بل هو بخلافه ، وإيجاب الغسل من خروج المني دون المذي والبول وغيرهما ، وسقوط الصلاة والصوم عن الحائض ثم قضاء الصوم دون الصلاة ، وتحصين الحرة لزوجها ولم تحصن الأمة سيدها ، والمعنى واحد ، ومنع النظر إلى محاسن الحرة دون محاسن الأمة ، وقطع السارق دون الغاصب والجاحد والمختلس ، والجلد بقذف الزنى دون غيره ، وقبول شاهدين في كل حد ما سوى الزنى ، والجلد بقذف الحر دون قذف العبد ، والتفرقة بين عدتي الوفاة والطلاق ، وحال الرحم لا يختلف فيهما واستبراء الحرة بثلاث حيض ، والأمة بواحدة ، وكالتسوية في الحد بين القذف وشرب الخمر وبين الزنى والمعفو عنه في دم العمد ، وبين المرتد والقاتل ، وفي الكفارة بين الظهار والقتل وإفساد الصوم ، وبين قتل المحرم الصيد عمدا أو خطأ [ ص: 63 ] وأيضا ; فإن الرجل والمرأة مستويان في أصل التكليف على الجملة ، ومفترقان بالتكليف اللائق بكل واحد منهما ; كالحيض ، والنفاس ، والعدة ، وأشباهها بالنسبة إلى المرأة ، والاختصاص في مثل هذا لا إشكال فيه .
وأما الأول فقد وقع الاختصاص فيه في كثير من المواضع ; كالجمعة ، والجهاد ، والإمامة ولو في النساء ، وفي الخارج النجس من الكبير والصغير ; ففرق بين بول الصبي والصبية ، إلى غير ذلك من المسائل ، مع فقد الفارق في القسم المشترك ، ومثل ذلك العبد ، فإن له اختصاصات في القسم المشترك أيضا ، وإذا ثبت هذا ;لم يصح القطع بأخذ عموم من وقائع مختصة .
فالجواب عن الأول أنه يمكن في الشرعيات إمكانه في العقليات ، والدليل على ذلك قطع السلف الصالح به في مسائل كثيرة ، كما تقدم التنبيه عليه ، فإذا وقع مثله ; فهو واضح في أن الوضع الاختياري الشرعي مماثل للعقلي الاضطراري ; لأنهم لم يعملوا به حتى فهموه من قصد الشارع .
وعن الثاني أنهم لم ينظموا المعنى العام من القضايا الخاصة حتى علموا [ ص: 64 ] أن الخصوصيات وما به الامتياز غير معتبرة وكذلك الحكم فيمن بعدهم ولو كانت الخصوصيات معتبرة بإطلاق لما صح اعتبار القياس ولارتفع من الأدلة رأسا ، وذلك باطل فما أدى إليه مثله .
وعن الثالث أنه الإشكال المورد على القول بالقياس ; فالذي أجاب به الأصوليون هو الجواب هنا .
ولهذه المسألة فوائد تنبني عليها أصلية وفرعية وذلك أنها إذا تقررت عند المجتهد ، ثم استقرى معنى عاما من أدلة خاصة ، واطرد له ذلك المعنى [ ص: 65 ] لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعن بل يحكم عليها وإن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى المستقرى من غير اعتبار بقياس أو غيره ; إذ صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه ؟ ومن فهم هذا هان عليه الجواب عن إشكال القرافي الذي أورده على أهل مذهب مالك ، حيث استدلوا في سد الذرائع على الشافعية بقوله تعالى ولا تسبوا [ الأنبياء : 108 ] وقوله ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت [ البقرة : 65 ] وبحديث لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها إلخ وقوله : لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين [ ص: 66 ] قال فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها وهي لا تفيد فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة ، وهذا مجمع عليه ، وإنما النزاع في ذرائع خاصة ، وهي بيوع الآجال ونحوها ; فينبغي أن تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع ، وإلا ; فهذه لا تفيد .
قال : وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس خاصة ويتعين عليهم حينئذ إبداء الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ، ويكون دليلهم شيئا واحدا وهو القياس ، وهم لا يعتقدون ذلك ، بل يعتقدون أن مدركهم النصوص ، وليس كذلك ، بل ينبغي أن يذكروا نصوصا خاصة بذرائع بيوع الآجال خاصة ويقتصرون عليها ; كحديث [ ص: 67 ] أم ولد زيد بن أرقم هذا ما قال في إيراد هذا الإشكال .
وهو غير وارد على ما تقدم بيانه لأن الذرائع قد ثبت سدها في خصوصات كثيرة بحيث أعطت في الشريعة معنى السد مطلقا عاما وخلاف الشافعي هنا غير قادح في أصل المسألة ولا خلاف أبي حنيفة .
أما الشافعي ; فالظن به أنه تم له الاستقراء في سد الذرائع على العموم ، ويدل عليه قوله بترك الأضحية إعلاما بعدم وجوبها ، وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة ، وإنما فيه عمل جملة من الصحابة ، وذلك عند الشافعي ليس [ ص: 68 ] بحجة ، لكن عارضه في مسألة بيوع الآجال دليل آخر راجح على غيره فأعمله ; فترك سد الذريعة لأجله ، وإذا تركه لمعارض راجح لم يعد مخالفا في أصله وأما أبو حنيفة ، فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل ; لم يكن من أصله في بيوع الآجال إلا الجواز ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع وهذا واضح إلا أنه نقل عنه موافقة مالك في سد الذرائع فيها وإن خالفه في بعض التفاصيل ، وإذا كان كذلك فلا إشكال [ ص: 69 ] المسألة
السابعة
العمومات إذا اتحد معناها ، وانتشرت في أبواب الشريعة ، أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص ; فهي مجراة على عمومها على كل حال وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل .
والدليل على ذلك الاستقراء ; فإن الشريعة قررت أن لا حرج علينا في الدين في مواضع كثيرة ، ولم تستثن منه موضعا ولا حالا ; فعده علماء الملة أصلا مطردا وعموما مرجوعا إليه من غير استثناء ، ولا طلب مخصص ولا احتشام من إلزام الحكم به ، ولا توقف في مقتضاه ، وليس ذلك إلا لما فهموا بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام .
وأيضا قررت أن ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الأنعام : 164 ] ، فأعملت العلماء المعنى في مجاري عمومه ، وردوا ما خالفه من أفراد الأدلة بالتأويل [ ص: 70 ] وغيره وبينت بالتكرار أن لا ضرر ولا ضرار فأبى أهل العلم من تخصيصه ، وحملوه على عمومه ، وأن من سن سنة حسنة أو سيئة كان له ممن اقتدى به حظ إن حسنا وإن سيئا وأن من مات مسلما دخل الجنة ، ومن مات كافرا دخل النار .
وعلى الجملة فكل أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه ، وأكثر الأصول تكرارا الأصول المكية كالأمر بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، والنهي عن الفحشاء والمنكر ، والبغي ، وأشباه ذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (142)
صـ71 إلى صـ 80
فأما إن لم يكن العموم مكررا ولا مؤكدا ولا منتشرا في أبواب الفقه ; فالتمسك بمجرده فيه نظر ; فلابد من البحث عما يعارضه أو يخصصه ، وإنما حصلت التفرقة بين الصنفين ; لأن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والانتشار صار ظاهره باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه بخلاف [ ص: 71 ] ما لم يكن كذلك فإنه معرض لاحتمالات ; فيجب التوقف في القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن وجود معارض فيه .
وعلى هذا ينبني القول في العمل بالعموم وهل يصح من غير المخصص أم لا فإنه إذا عرض على هذا التقسيم أفاد أن القسم الأول غير محتاج فيه إلى بحث إذ لا يصح تخصيصه إلا حيث تخصص القواعد بعضها بعضا فإن قيل : قد حكي الإجماع في أنه يمنع العمل بالعموم حتى يبحث هل له مخصص أم لا ؟ وكذلك دليل مع معارضه ; فكيف يصح القول بالتفصيل فالجواب أن الإجماع إن صح فمحمول على غير القسم المتقدم جمعا بين الأدلة وأيضا فالبحث يبرز أن ما كان من العمومات على تلك الصفة فغير مخصص بل هو على عمومه فيحصل من ذلك بعد بحث المتقدم ما يحصل للمتأخر دون بحث بناء على ما ثبت من الاستقراء والله أعلم .
[ ص: 72 ] [ ص: 73 ] إن النبي كان مبينا بقوله وفعله وإقراره لما كان مكلفا بذلك في قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] فكان يبين بقوله عليه الصلاة والسلام كما قال في حديث الطلاق فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء [ ص: 74 ] وقال لعائشة حين سألته عن قول الله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] إنما ذلك العرض وقال لمن سأله عن قوله آية المنافق ثلاث إنما عنيت بذلك كذا وكذا وهو لا يحصى كثرة وكان أيضا يبين بفعله ألا أخبرته أني أفعل ذلك [ ص: 75 ] وقال الله تعالى : زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 50 ] وبين لهم كيفية الصلاة والحج بفعله ، وقال عند ذلك : صلوا كما رأيتموني أصلي و خذوا عني مناسككم إلى غير ذلك .
وكان إقراره بيانا أيضا إذا علم بالفعل ولم ينكره مع القدرة على إنكاره لو كان باطلا أو حراما حسبما قرره الأصوليون في مسألة مجزز المدلجي وغيره ، وهذا كله مبين في الأصول ، ولكن نصير منه إلى معنى آخر ، وهي :
[ ص: 76 ] وذلك أن العالم وارث النبي ; فالبيان في حقه لابد منه من حيث هو عالم ، والدليل على ذلك أمران : أحدهما : ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء وهو معنى صحيح [ ص: 77 ] ثابت ويلزم من كونه وارثا قيامه مقام موروثه في البيان ، وإذا كان البيان فرضا على الموروث لزم أن يكون فرضا على الوارث أيضا ، ولا فرق في البيان بين ما هو مشكل أو مجمل من الأدلة ، وبين أصول الأدلة في الإتيان بها ; فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة ، وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ .
والثاني : ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء ; فقد قال : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية [ البقرة : 159 ] ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [ البقرة : 42 ] ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله [ البقرة : 140 ] والآيات كثيرة .
وفي الحديث ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب وقال : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ; فسلطه على هلكته [ ص: 78 ] في الحق ورجل آتاه الله الحكمة ; فهو يقضي بها ويعلمها وقال : من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل .
والأحاديث في هذا كثيرة ، ولا خلاف في وجوب البيان على العلماء ، والبيان يشمل البيان الابتدائي والبيان للنصوص الواردة والتكاليف المتوجهة ; فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم وإذا كان كذلك انبنى عليه معنى آخر وهي :[ ص: 79 ] فنقول : إذا كان البيان يتأتى بالقول والفعل ; فلابد أن يحصل ذلك بالنسبة إلى العالم ، كما حصل بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا كان السلف الصالح ممن صار قدوة في الناس ، دل على ذلك المنقول عنهم حسبما يتبين في أثناء المسائل على أثر هذا بحول الله ، فلا نطول به هاهنا لأنه تكرار .
إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول ; فهو الغاية في البيان كما إذا بين الطهارة أو الصوم أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات أو العادات ، فإن حصل بأحدهما فهو بيان أيضا ; إلا أن كل واحد منهما على انفراده قاصر عن غاية البيان من وجه ، بالغ أقصى الغاية من وجه آخر .
فالفعل بالغ من جهة بيان الكيفيات المعينة المخصوصة التي لا يبلغها البيان القولي ، ولذلك بين عليه الصلاة والسلام الصلاة بفعله لأمته ، كما فعل [ ص: 80 ] به جبريل حين صلى به ، وكما بين الحج كذلك والطهارة كذلك ، وإن جاء فيها بيان بالقول ; فإنه إذا عرض نص الطهارة في القرآن على عين ما تلقي بالفعل من الرسول عليه الصلاة والسلام كان المدرك بالحس من الفعل فوق المدرك بالعقل من النص لا محالة مع أنه إنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (143)
صـ81 إلى صـ 90
وهبه عليه الصلاة والسلام زاد بالوحي الخاص أمورا لا تدرك من النص على الخصوص ; فتلك الزيادات بعد البيان إذا عرضت على النص لم ينافها بل يقبلها ; فآية الوضوء إذا عرض عليها فعله عليه الصلاة والسلام في الوضوء شمله بلا شك ، وكذلك آية الحج مع فعله عليه الصلاة والسلام فيه ، ولو تركنا والنص ; لما حصل لنا منه كل ذلك ، بل أمر أقل منه ، وهكذا نجد الفعل مع [ ص: 81 ] القول أبدا ، بل يبعد في العادة أن يوجد قول لم يوجد لمعناه المركب نظير في الأفعال المعتادة المحسوسة ، بحيث إذا فعل الفعل على مقتضى ما فهم من القول ; كان هو المقصود من غير زيادة ولا نقصان ولا إخلال ، وإن كانت بسائطه معتادة كالصلاة والحج والطهارة ونحوها وإنما يقرب مثل هذا القول الذي معناه الفعلي بسيط ، ووجد له نظير في المعتاد ، وهو إذ ذاك إحالة على فعل معتاد فبه حصل البيان لا بمجرد القول ، وإذا كان كذلك ; لم يقم القول هنا في [ ص: 82 ] البيان مقام الفعل من كل وجه ; فالفعل أبلغ من هذا الوجه وهو يقصر عن القول من جهة أخرى : وذلك أن القول بيان للعموم والخصوص ، في الأحوال والأزمان والأشخاص ; فإن القول ذو صيغ تقتضي هذه الأمور وما كان نحوها ، بخلاف الفعل فإنه مقصور على فاعله ، وعلى زمانه ، وعلى حالته ، وليس له تعد عن محله ألبتة ، فلو تركنا والفعل الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم مثلا ; لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فعله في هذا الوقت المعين ، وعلى هذه الحالة المعينة .
فيبقى علينا النظر : هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كل حالة أو في هذه الحالة ، أو يختص بهذا الزمان ، أو هو عام في جميع الأزمنة ، أو يختص به وحده ، أو يكون حكم أمته حكمه ؟ .
ثم بعد النظر في هذا يتصدى نظر آخر في حكم هذا الفعل الذي فعله : من أي نوع هو من الأحكام الشرعية ؟ .
وجميع ذلك وما كان مثله لا يتبين من نفس الفعل ; فهو من هذا الوجه قاصر عن غاية البيان ; فلم يصح إقامة الفعل مقام القول من كل وجه ، وهذا بين بأدنى تأمل ، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] وقال حين بين بفعله العبادات : صلوا كما رأيتموني أصلي ، وخذوا عني مناسككم ، ونحو ذلك ; ليستمر البيان إلى أقصاه .
فصل [ ص: 83 ] وإذا ثبت هذا ; لم يصح إطلاق القول بالترجيح بين البيانين ; فلا يقال : أيهما أبلغ في البيان ; القول ، أم الفعل ؟ إذ لا يصدقان على محل واحد إلا في الفعل البسيط المعتاد مثله إن اتفق ; فيقوم أحدهما مقام الآخر ، وهنالك يقال : أيهما أبلغ ، أو أيهما أولى ؟ كمسألة الغسل من التقاء الختانين مثلا ; فإنه بين من جهة الفعل ومن جهة القول عند من جعل هذه المسألة من ذلك [ ص: 84 ] والذي وضع إنما هو فعله ثم غسله ; فهو الذي يقوم كل واحد من القول والفعل مقام صاحبه ، أما حكم الغسل من وجوب أو ندب وتأسي الأمة به فيه فيختص بالقول
[ ص: 85 ] المسألة الخامسة إذا وقع القول بيانا ; فالفعل شاهد له ومصدق ، أو مخصص أو مقيد ، وبالجملة عاضد للقول حسبما قصد بذلك القول ، ورافع لاحتمالات فيه تعترض في وجه الفهم ، إذا كان موافقا غير مناقض ، ومكذب له أو موقع فيه ريبة أو شبهة أو توقفا إن كان على خلاف ذلك .
وبيان ذلك بأشياء منها أن العالم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني ، ثم فعله هو ولم يخل به في مقتضى ما قال فيه ; قوي اعتقاد إيجابه ، وانتهض العمل به عند كل من سمعه يخبر عنه ورآه يفعله وإذا أخبر عن تحريمه مثلا ، ثم تركه فلم ير فاعلا له ولا دائرا حواليه ; قوي عند متبعه ما أخبر به عنه ، بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله أو أخبر عن تحريمه ثم فعله فإن نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة ; إما من تطريق احتمال إلى القول ، وإما من تطريق تكذيب إلى القائل ، أو استرابة في بعض مآخذ القول ، مع أن التأسي في الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يعظم في دين أو دنيا كالمغرور في الجبلة ، كما هو معلوم بالعيان ; فيصير القول بالنسبة إلى القائل كالتبع للفعل ; فعلى حسب ما يكون القائل في موافقة فعله لقوله يكون اتباعه والتأسي به ، أو عدم ذلك [ ص: 86 ] ولذلك كان الأنبياء عليهم السلام في الرتبة القصوى من هذا المعنى ، وكان المتبعون لهم أشد اتباعا ، وأجرى على طريق التصديق بما يقولون ، مع ما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين القاطعة ، ومن جملتها ما نحن فيه ; فإن شواهد العادات تصدق الأمر أو تكذبه ; فالطبيب إذا أخبرك بأن هذا المتناول سم فلا تقربه ، ثم أخذ في تناوله دونك ، أو أمرك بأكل طعام أو دواء لعلة بك ومثلها به ، ثم لم يستعمله مع احتياجه إليه ; دل هذا كله على خلل في الإخبار ، أو في فهم الخبر ; فلم تطمئن النفس إلى قبول قوله ، وقد قال تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ البقرة : 44 ] وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية [ الصف : 2 ] ويخدم هذا المعنى الوفاء بالعهد وصدق الوعد ; فقد قال تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] .
وقال في ضده : لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله : وبما كانوا يكذبون [ التوبة : 75 77 ] فاعتبر في الصدق كما ترى مطابقة الفعل القول ، وهذا هو حقيقة الصدق عند العلماء العاملين ; فهكذا إذا أخبر العالم بأن هذا واجب أو محرم ; فإنما [ ص: 87 ] يريد على كل مكلف وأنا منهم ; فإن وافق صدق وإن خالف كذب .
ومن الأدلة على ذلك أن المنتصب للناس في بيان الدين منتصب لهم بقوله وفعله ; فإنه وارث النبي ، والنبي كان مبينا بقوله وفعله ; فكذلك الوارث لابد أن يقوم مقام الموروث ، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة ، ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتلقون الأحكام من أقواله وأفعاله وإقراراته وسكوته وجميع أحواله ; فكذلك الوارث ، فإن كان في التحفظ في الفعل كما في التحفظ في القول ; فهو ذلك وصار من اتبعه على هدى ، وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى ، لكن بسببه .
وكان الصحابة رضي الله عنهم ربما توقفوا عن الفعل الذي أباحه لهم السيد المتبوع عليه الصلاة والسلام ولم يفعله هو ، حرصا منهم على أن يكونوا متبعين لفعله وإن تقدم لهم بقوله ; لاحتمال أن يكون تركه أرجح ، ويستدلون على ذلك بتركه عليه الصلاة والسلام له ; حتى إذا فعله اتبعوه في فعله كما في التحلل من العمرة ، والإفطار في السفر ، هذا وكل صحيح ; فما ظنك بمن [ ص: 88 ] ليس بمعصوم من العلماء ؟ فهو أولى بأن يبين قوله بفعله ، ويحافظ فيه على نفسه وعلى كل من اقتدى به .
ولا يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم ; فلا يتطرق إلى فعله أو تركه المبين خلل ، بخلاف من ليس بمعصوم .
لأنا نقول : إن اعتبر هذا الاحتمال في ترك الاقتداء بالفعل ; فليعتبر في ترك اتباع القول ، وإذ ذاك يقع في الرتبة فساد لا يصلح ، وخرق لا يرقع ; فلابد أن يجري الفعل مجرى القول ، ولهذا تستعظم شرعا زلة العالم ، وتصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء ، فإذا زل حملت زلته عنه قولا كانت أو فعلا لأنه موضوع منارا يهتدى به ، فإن علم كون زلته زلة ; صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به ، وتوهموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينا للظن به ، وإن جهل كونها زلة ; [ ص: 89 ] فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع وذلك كله راجع عليه .
وقد جاء في الحديث : " إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع " وقال عمر بن الخطاب : " ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون " .
ونحوه عن أبي الدرداء ولم يذكر فيه الأئمة المضلين .
وعن معاذ بن جبل يا معشر العرب ! كيف تصنعون بثلاث : دنيا تقطع [ ص: 90 ] أعناقكم ، وزلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ومثله عن سلمان أيضا وشبه العلماء زلة العالم بكسر السفينة ; لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير وعن ابن عباس : ويل للأتباع من عثرات العالم قيل : كيف ذلك ؟ قال : يقول العالم شيئا برأيه ، ثم يجد من هو أعلم برسول الله منه ; فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدين ، أما زلة العالم ; فكما تقدم ، ومثال كسر السفينة واقع فيها ، وأما الحكم الجائر ; فظاهر أيضا ، وأما الهوى المتبع فهو أصل ذلك كله ، وأما الجدال بالقرآن ; فإنه من اللسن الألد من أعظم الفتن لأن القرآن مهيب جدا ، فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقا
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (144)
صـ91 إلى صـ 100
[ ص: 91 ] وصار مظنة للاتباع على تأويل ذلك المجادل ، ولذلك كان الخوارج فتنة على الأمة ; إلا من ثبت الله لأنهم جادلوا به على مقتضى آرائهم الفاسدة ، ووثقوا تأويلاتهم بموافقة العقل لها ; فصاروا فتنة على الناس ، وكذلك الأئمة المضلون لأنهم بما ملكوا من السلطنة على الخلق وقدروا على رد الحق باطلا والباطل حقا ، وأماتوا سنة الله وأحيوا سنن الشيطان ، وأما الدنيا ; فمعلوم فتنتها للخلق .
فالحاصل أن الأفعال أقوى في التأسي والبيان إذا جامعت الأقوال من انفراد الأقوال ، فاعتبارها في نفسها لمن قام في مقام الاقتداء أكيد لازم ، بل يقال : إذا اعتبر هذا المعنى في كل من هو في مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين ; ففرض عليه تفقد جميع أقواله وأعماله ، ولا فرق في هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع ; فإن له في أفعاله وأقواله اعتبارين أحدهما : من حيث إنه واحد من المكلفين فمن هذه الجهة يتفصل الأمر في حقه إلى الأحكام الخمسة .
والثاني : من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانا وتقريرا لما شرع الله عز وجل إذا انتصب في هذا المقام ; فالأقوال كلها والأفعال في حقه إما واجب وإما محرم ، ولا ثالث لهما لأنه من هذه الجهة مبين ، والبيان واجب لا غير ، فإذا [ ص: 92 ] كان مما يفعل ; أو يقال ; كان واجب الفعل على الجملة ، وإن كان مما لا يفعل ; فواجب الترك حسبما يتقرر بعد بحول الله ، وذلك هو تحريم الفعل لكن هذا بالنسبة إلى المقتدى به إنما يتعين حيث توجد مظنة البيان ; إما عند الجهل بحكم الفعل أو الترك ، وإما عند اعتقاد خلاف الحكم ، أو مظنة اعتقاد خلافه .
فالمطلوب فعله بيانه بالفعل ، أو القول الذي يوافق الفعل إن كان واجبا ، وكذلك إن كان مندوبا مجهول الحكم ، فإن كان مندوبا ومظنة لاعتقاد الوجوب ; فبيانه بالترك ، أو بالقول الذي يجتمع إليه الترك ، كما فعل في ترك الأضحية وترك صيام الست من شوال ، وأشباه ذلك ، وإن كان مظنة لاعتقاد عدم الطلب أو مظنة للترك ; فبيانه بالفعل والدوام فيه على وزان المظنة ; كما في السنن والمندوبات التي تنوسيت في هذه الأزمنة .
والمطلوب تركه بيانه بالترك ، أو القول الذي يساعده الترك إن كان حراما ، وإن كان مكروها ; فكذلك إن كان مجهول الحكم ، فإن كان مظنة لاعتقاد [ ص: 93 ] التحريم وترجح بيانه بالفعل تعين الفعل على أقل ما يمكن وأقر به وقد قال الله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] وقال : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها الآية [ الأحزاب : 50 ] وفي حديث المصبح جنبا قوله : وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام وفي حديث أبي بكر بن عبد الرحمن من قول عائشة : يا عبد الرحمن أترغب عما كان رسول الله يصنع ؟ قال عبد الرحمن : لا والله قالت عائشة : [ ص: 94 ] فأشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم .
وفي حديث أم سلمة : ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك إلى آخر الحديث .
وروى إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه ; قال : رأيت ابن عباس وهو يسوق راحلته وهو يرتجز وهو محرم وهو يقول :
وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير نفعل لميسا
قال : فذكر الجماع باسمه ; فلم يكن عنه قال فقلت : يا ابن عباس ! أتتكلم بالرفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما روجع به النساء [ ص: 95 ] كأنه رأى مظنة هذا الاعتقاد فنفاه بذلك القول بيانا لقوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق الآية [ البقرة : 197 ] وأن الرفث ليس إلا ما كان بين الرجل والمرأة ، وإن كان مظنة لاعتقاد الطلب أو مظنة لأن يثابر على فعله ; فبيانه بالترك جملة إن لم يكن له أصل أو كان له أصل لكن في الإباحة أو في نفي الحرج في الفعل ; كما في سجود الشكر عند مالك وكما في غسل اليدين قبل الطعام ، حسبما بينه مالك في مسألة عبد الملك بن صالح ، وستأتي إن شاء [ ص: 96 ] الله وعلى الجملة فالمراعى هاهنا مواضع طلب البيان الشافي المخرج عن الأطراف والانحرافات ، والراد إلى الصراط المستقيم ، ومن تأمل سير السلف الصالح في هذا المعنى ; تبين ما تقرر بحول الله ، ولابد من بيان هذه الجملة بالنسبة إلى الأحكام الخمسة أو بعضها حتى يظهر فيها الغرض المطلوب ، والله المستعان .
[ ص: 97 ] المسألة السادسة المندوب من حقيقة استقراره مندوبا أن لا يسوى بينه وبين الواجب ، لا في القول ولا في الفعل ، كما لا يسوى بينهما في الاعتقاد ، فإن سوي بينهما في القول أو الفعل ; فعلى وجه لا يخل بالاعتقاد ، وبيان ذلك بأمور أحدها : أن التسوية في الاعتقاد باطلة باتفاق ، بمعنى أن يعتقد فيما ليس بواجب أنه واجب ، والقول أو الفعل إذا كان ذريعة إلى مطلق التسوية وجب أن يفرق بينهما ، ولا يمكن ذلك إلا بالبيان القولي والفعل المقصود به التفرقة ، وهو ترك الالتزام في المندوب الذي هو من خاصة كونه مندوبا .
والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث هاديا ومبينا للناس ما نزل إليهم ، وقد كان من شأنه ذلك في مسائل كثيرة ; كنهيه عن إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلته [ ص: 98 ] بقيام وقوله : " لا يجعل أحدكم للشيطان حظا في صلاته " بينه حديث ابن عمر ، قال واسع بن حبان انصرفت من قبل شقي الأيسر ، فقال لي عبد الله بن عمر : ما منعك أن تنصرف عن يمينك ؟ قلت : رأيتك فانصرفت إليك قال : أصبت إن قائلا يقول : انصرف عن يمينك وأنا أقول : انصرف كيف شئت ، عن يمينك وعن يسارك .
وفي بعض الأحاديث بعد ما قرر حكما غير واجب : من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج .
[ ص: 99 ] [ ص: 100 ] وقال الأعرابي : هل علي غيرهن ؟ قال : لا إلا أن تطوع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (145)
صـ101 إلى صـ 110
وقال لما سئل عن تقديم بعض أفعال الحج على بعض مما ليس تأخيره بواجب : لا حرج قال الراوي : فما سئل يومئذ عن شيء قدم أو أخر ; إلا قال افعل ولا حرج مع أن تقديم بعض الأفعال على بعض مطلوب ، لكن لا على الوجوب ونهى عليه الصلاة والسلام عن أن يتقدم رمضان بيوم أو يومين وحرم صيام يوم العيد [ ص: 101 ] ونهى عن التبتل مع قوله تعالى : وتبتل إليه تبتيلا [ المزمل : 8 ] ونهى عن الوصال وقال : خذوا من العمل ما تطيقون مع أن الاستكثار من الحسنات خير إلى غير ذلك من الأمور التي بينها بقوله وفعله وإقراره مما خلافه مطلوب ولكن تركه وبينه خوفا أن يصير من قبيل آخر في الاعتقاد .
ومسلك آخر ، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل وهو يحب أن يعمل به ; خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ، قالت عائشة : وما سبح النبي صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط ، وإني لأسبحها [ ص: 102 ] وقد قام ليالي من رمضان في المسجد ; فاجتمع إليه ناس يصلون بصلاته ، ثم كثروا فترك ذلك ، وعلل بخشية الفرض .
ويحتمل وجهين : أحدهما : أن يفرض بالوحي ، وعلى هذا جمهور الناس .
والثاني : في معناه وهو الخوف أن يظن فيها أحد من أمته بعده إذا داوم عليها الوجوب ، وهو تأويل متمكن .
والثالث : أن الصحابة عملوا على هذا الاحتياط في الدين لما فهموا هذا الأصل من الشريعة ، وكانوا أئمة يقتدى بهم ; فتركوا أشياء وأظهروا ذلك ليبينوا أن تركها غير قادح وإن كانت مطلوبة ; فمن ذلك ترك عثمان القصر في السفر في خلافته ، وقال إني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين ; فيقولون : هكذا فرضت وأكثر المسلمين على أن القصر [ ص: 103 ] مطلوب وقال حذيفة بن أسيد : " شهدت أبا بكر وعمر وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى الناس أنها واجبة " وقال بلال : لا أبالي أن أضحي بكبش أو بديك وعن ابن عباس أنه كان يشتري لحما بدرهمين يوم الأضحى ، ويقول [ ص: 104 ] لعكرمة : " من سألك فقل هذه أضحية ابن عباس ، وكان غنيا وقال بعضهم : إني لأترك أضحيتي وإني لمن أيسركم ; مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة وقال أبو أيوب الأنصاري : " كنا نضحي عن النساء وأهلينا ; فلما تباهى الناس بذلك تركناها " ولا خلاف في أن الأضحية مطلوبة .
وقال ابن عمر في صلاة الضحى : إنها بدعة وحمل على أحد [ ص: 105 ] وجهين : إما أنهم كانوا يصلونها جماعة ، وإما أفذاذا على هيئة النوافل في أعقاب الفرائض ، وقد منع النساء المساجد مع ما في الحديث من قوله : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ; لما أحدثن في خروجهن ولما يخاف فيهن والرابع : أن أئمة المسلمين استمروا على هذا الأصل على الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل ; فقد كره مالك وأبو حنيفة صيام ست من شوال وذلك [ ص: 106 ] للعلة المتقدمة ، مع أن الترغيب في صيامها ثابت صحيح ; لئلا يعتقد ضمها إلى رمضان .
قال القرافي : " وقد وقع ذلك للعجم " وقال الشافعي في [ ص: 107 ] الأضحية بنحو من ذلك حيث استدل على عدم الوجوب بفعل الصحابة المذكور وتعليلهم والمنقول عن مالك من هذا كثير ، وسد الذريعة أصل عنده متبع ، مطرد في العادات والعبادات ; فبمجموع هذه الأدلة نقطع بأن التفريق بين الواجب والمندوب إذا استوى القولان أو الفعلان مقصود شرعا ، ومطلوب من كل من يقتدى به قطعا كما يقطع بالقصد إلى الفرق بينهما اعتقادا .
فصل
والتفرقة بينهما تحصل بأمور : منها بيان القول إن اكتفي به وإلا ; فالفعل وهو أحرى بل هو في هذا النمط مقصود ، وقد يكون في سوابق الشيء المندوب وفي قرائنه وفي لواحقه ، وأمثلة ذلك ظاهرة مما تقدم وأشباهه .
وأكثر ما يحصل الفرق في الكيفيات العديمة النص ، وأما المنصوصة فلا كلام فيها ، فالفعل أقوى إذا في هذا المعنى ; لما تقدم من أن الفعل يصدق القول أو يكذبه .
[ ص: 108 ] فصل
وكما أن من حقيقة استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين الواجب في الفعل كذلك من حقيقة استقراره أن لا يسوى بينه وبين بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان ; فإنه لو وقعت التسوية بينهما لفهم من ذلك مشروعية الترك كما تقدم ، ولم يفهم كون المندوب مندوبا ، هذا وجه .
ووجه آخر وهو أن في ترك المندوب إخلالا بأمر كلي فيه ، ومن المندوبات ما هو واجب بالكل ; فيؤدي تركه مطلقا إلى الإخلال بالواجب ، بل لابد من العمل به ليظهر للناس فيعملوا به ، وهذا مطلوب ممن يقتدى به ، كما كان شأن السلف الصالح .
وفي الحديث الحسن عن أنس ; قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل ، ثم قال لي : يا بني وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي ; فقد أحبني ، ومن أحبني ; كان معي في الجنة " فجعل العمل بالسنة إحياء لها ; فليس بيانها مختصا بالقول [ ص: 109 ] وقد قال مالك في نزول الحاج بالمحصب من مكة ، وهو الأبطح : أستحب للأئمة ولمن يقتدى به أن لا يجاوزوه حتى ينزلوا به ; فإن ذلك من حقهم لأن ذلك أمر قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء ، فيتعين على الأئمة ومن يقتدى به من أهل العلم إحياء سننه ، والقيام به لئلا يترك هذا الفعل جملة ، ويكون للنزول بهذا الموضع حكم النزول بسائر المواضع ، لا فضيلة للنزول به بل لا يجوز النزول به على وجه القربة هكذا نقل الباجي .
وهو ظاهر من مذهب مالك في أن المندوب لابد من التفرقة بينه وبين ما ليس بمندوب ، وذلك بفعله وإظهاره .
وقال بعضهم في حديث عمر " بل أغسل ما رأيت ، وأنضح ما لم أر " : في هذا الحديث أن عمر رأى أن أعماله وأقواله نهج للسنة وأنه موضع للقدوة ، يعني : فعمل هنا على مقتضى الأخذ عنه في ذلك الفعل ، وصار ذلك أصلا في التوسعة على الناس في ترك تكلف ثوب آخر للصلاة ، وفي تأخير الصلاة لأجل غسل الثوب .
وفي الحديث : " واعجبا لك يا ابن العاص ! لئن كنت تجد ثيابا ; أفكل [ ص: 110 ] الناس يجد ثيابا ؟ والله لو فعلتها لكانت سنة الحديث .
ولمكان هذا ونحوه اقتدى به عمر بن عبد العزيز حفيده ; ففي العتبية قيل لعمر بن عبد العزيز : أخرت الصلاة شيئا فقال : إن ثيابي غسلت .
قال ابن رشد : يحتمل أنه لم يكن له غير تلك الثياب لزهده في الدنيا ، أو لعله ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعا لله ليقتدى به في ذلك ، ائتساء بعمر بن الخطاب ; فقد كان أتبع الناس لسيرته وهديه في جميع الأحوال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (146)
صـ111 إلى صـ 120
ومما نحن فيه ما قال الماوردي فيمن صار ترك الصلاة في الجماعة له إلفا وعادة ، وخيف أن يتعدى إلى غيره في الاقتداء به ، أن للحاكم أن يزجره ، واستشهد على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبا الحديث [ ص: 111 ] وقال : أيضا فيما إذا تواطأ أهل بلد على تأخير الصلاة إلى آخر وقتها أن له أن ينهاهم قال : لأن اعتياد جميع الناس لتأخيرها مفض بالصغير الناشئ إلى اعتقاد أن هذا هو الوقت دون ما تقدمه .
وأشار إلى نحو هذا في مسائل أخر ، وحكى قولين في مسألة اعتراض المحتسب على أهل القرية في إقامة الجمعة بجماعة اختلف في انعقاد الجمعة بهم في بعض وجوهها ، وذلك إذا كان هو يرى إقامتها وهم لا يرونها ، ووجه القول بإقامتها على رأيه باعتبار المصلحة ; لئلا ينشأ الصغير على تركها ، فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه .
وهذا الباب يتسع ، ومما يجري مجراه في تقوية اعتبار البيان في هذه المسائل وأشباهها مما ذكر أو لم يذكر قصة عمر بن عبد العزيز مع عروة بن عياض حين نكت بالخيزرانة بين عينيه ، ثم قال : هذه غرتني منك لسجدته التي بين عينيه ، ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي ; لأمرت بموضع السجود فقور .
وقد عول العلماء على هذا المعنى وجعلوه أصلا يطرد ، وهو راجع إلى سد الذرائع الذي اتفق العلماء على إعماله في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا [ البقرة : 104 ] [ ص: 112 ] وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وقد منع مالك لمن رأى هلال شوال وحده أن لا يفطر لئلا يكون ذريعة إلى إفطار الفساق محتجين بما احتج به ، وقال بمثله فيمن شهد عليه شاهدا زور بأنه طلق امرأته ثلاثا ولم يفعل ; فمنعه من وطئها إلا أن يخفى ذلك عن الناس .
وراعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامع البصرة والكوفة فإنهم إذا صلوا في صحنه ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب ; فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد ، وقال : " لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة " .
ومسألة مالك مع أبي جعفر المنصور حين أراد أن يحمل الناس على الموطأ ; فنهاه مالك عن ذلك من هذا القبيل أيضا [ ص: 113 ] ولقد دخل ابن عمر على عثمان وهو محصور ; فقال له : انظر ما يقول هؤلاء ، يقولون : اخلع نفسك أو نقتلك قال له : أمخلد أنت في الدنيا ؟ قال : لا قال : هل يملكون لك جنة أو نارا ؟ قال لا قال : فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة ، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه .
ولما هم أبو جعفر المنصور أن يبني البيت على ما بناه ابن الزبير على قواعد إبراهيم شاور مالكا في ذلك ; فقال له مالك : أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره ; فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه ; لما ذكر من أنها تصير سنة متبعة باجتهاد أو غيره ; فلا يثبت على حال .
[ ص: 114 ] المسألة السابعة
المباحات من حقيقة استقرارها مباحات أن لا يسوى بينها وبين المندوبات ولا المكروهات ; فإنها إن سوي بينها وبين المندوبات بالدوام على الفعل على كيفية فيها معينة أو غير ذلك توهمت مندوبات كما تقدم في مسح الجباه بأثر الرفع من السجود ، ومسألة عمر بن الخطاب في غسل ثوبه من الاحتلام وترك الاستبدال به .
وقد حكى عياض عن مالك أنه دخل على عبد الملك بن صالح أمير المدينة ; فجلس ساعة ثم دعا بالوضوء والطعام ، فقال : ابدءوا بأبي عبد الله فقال مالك : إن أبا عبد الله يعني نفسه لا يغسل يده فقال : لم ؟ قال : ليس هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا إنما هو من رأي الأعاجم ، وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه فقال له عبد الملك : أأترك يا أبا عبد الله ؟ قال : إي والله فما عاد إلى ذلك ابن صالح قال مالك : ولا نأمر الرجل أن لا يغسل [ ص: 115 ] يده ولكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه ; فلا ، أميتوا سنة العجم ، وأحيوا سنة العرب ، أما سمعت قول عمر : تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وإياكم وزي العجم .
وهكذا إن سوى في الترك بينها وبين المكروهات ربما توهمت مكروهات ; فقد كان عليه الصلاة والسلام يكره الضب ويقول : لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه وأكل على مائدته ; فظهر حكمه .
وقدم إليه طعام فيه ثوم لم يأكل منه قال له أبو أيوب وهو الذي بعث به إليه يا رسول الله : أحرام هو ؟ قال : لا ولكني أكرهه من أجل ريحه وفي رواية أنه قال لأصحابه : كلوا فإني لست كأحدكم ، إني أخاف أن أؤذي صاحبي [ ص: 116 ] وروي في الحديث أن سودة بنت زمعة خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا تطلقني ، وأمسكني ، واجعل يومي لعائشة ففعل ; فنزلت : فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا الآية [ النساء : 128 ] فكان هذا تأديبا وبيانا بالقول والفعل لأمر ربما استقبح بمجرى العادة ; حتى يصير كالمكروه ، وليس بمكروه .
والأدلة على هذا الفصل نحو من الأدلة على استقرار المندوبات .
[ ص: 117 ] المسألة الثامنة
المكروهات من حقيقة استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات .
أما الأول ; فلأنها إذا أجريت ذلك المجرى توهمت محرمات ، وربما طال العهد فيصير الترك واجبا عند من لا يعلم .
ولا يقال : إن في بيان ذلك ارتكابا للمكروه وهو منهي عنه ; لأنا نقول : البيان آكد وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجحة ; ألا ترى إلى كيفية تقرير الحكم على الزاني ، وما جاء في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام له : أنكتها هكذا من غير كناية ، مع أن ذكر هذا اللفظ في غير معرض البيان مكروه أو ممنوع ؟ غير أن التصريح هنا آكد ، فاغتفر لما يترتب عليه ; فكذلك هنا ، ألا ترى إلى إخبار عائشة عما فعلته مع رسول الله في التقاء الختانين وقوله عليه الصلاة والسلام : ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك مع أن ذكر مثل هذا في غير محل البيان منهي عنه ؟ [ ص: 118 ] وقد تقدم ما جاء عن ابن عباس في ارتجازه وهو محرم بقوله : إن تصدق الطير ننك لميسا مثل هذا لا حرج فيه .
وأما الثاني ; فلأنها إذا عمل بها دائما وترك اتقاؤها توهمت مباحات فينقلب حكمها عند من لا يعلم وبيان ذلك يكون بالتغيير والزجر على ما يليق به في الإنكار ، ولا سيما المكروهات التي هي عرضة لأن تتخذ سننا ، وذلك المكروهات المفعولة في المساجد ، وفي مواطن الاجتماعات الإسلامية ، والمحاضر الجمهورية ، ولأجل ذلك كان مالك شديد الأخذ على من فعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من هذه المكروهات ، بل ومن المباحات ; كما أمر بتأديب من وضع رداءه أمامه من الحر وما أشبه ذلك .
فصل
ما تقدم من هذه المسائل يتفرع عنها قواعد فقهية وأصولية ، منها أنه لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليها مواظبة يفهم [ ص: 119 ] الجاهل منها الوجوب ، إذا كان منظورا إليه مرموقا ، أو مظنة لذلك ، بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يعلم أنها غير واجبة ; لأن خاصية الواجب المكرر الالتزام والدوام عليه في أوقاته ، بحيث لا يتخلف عنه ، كما أن خاصية المندوب عدم الالتزام ، فإذا التزمه فهم الناظر منه نفس الخاصية التي للواجب ; فحمله على الوجوب ، ثم استمر على ذلك ; فضل .
وكذلك إذا كانت العبادة تتأتى على كيفيات يفهم من بعضها في تلك العبادة ما لا يفهم منها على الكيفية الأخرى ، أو ضمت عبادة أو غير عبادة إلى العبادة قد يفهم بسبب الاقتران ما لا يفهم دونه ، أو كان المباح يتأتى فعله على وجوه فيثابر فيه على وجه واحد تحريا له ويترك ما سواه ، أو يترك بعض المباحات جملة من غير سبب ظاهر ، بحيث يفهم منه في الترك أنه مشروع .
ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السجدة على المنبر ثم سجد وسجد معه الناس ، قرأها في كرة أخرى ، فلما قرب من موضعها تهيأ الناس للسجود ; فلم يسجدها ، وقال : إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء .
وسئل مالك عن التسمية عند الوضوء ; فقال : أيحب أن يذبح ؟ إنكارا لما يوهمه سؤاله من تأكيد الطلب فيها عند الوضوء [ ص: 120 ] ونقل عن عمر ; أنه قال : لا نبالي أبدأنا بأيماننا أم بأيسارنا يعني : في الوضوء ، مع أن المستحب التيامن في الشأن كله .
ومثال العبادات المؤداة على كيفيات يلتزم فيها كيفية واحدة إنكار مالك لعدم تحريك الرجلين في القيام للصلاة .
ومثال ضم ما ليس بعبادة إلى العبادة حكاية الماوردي في مسح الوجه عند القيام من السجود وحديث عمر مع عمرو : لو فعلتها لكانت سنة ، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (147)
صـ121 إلى صـ 130
ومثال فعل الجائز على وجه واحد ما نقل عن مالك أنه سئل عن المرة الواحدة في الوضوء قال : لا ، الوضوء مرتان مرتان ، أو ثلاث ثلاث ، مع أنه [ ص: 121 ] لم يحد في الوضوء ولا في الغسل إلا ما أسبغ .
قال اللخمي : وهذا احتياط وحماية ; لأن العامي إذا رأى من يقتدي به يتوضأ مرة مرة فعل مثل ذلك ، وقد لا يحسن الإسباغ بواحدة فيوقعه فيما لا تجزئ الصلاة به .
والأمثلة كثيرة ، وهذا كله إنما هو فيما فعل بحضرة الناس ، وحيث يمكن الاقتداء بالفاعل ، وأما من فعله في نفسه وحيث لا يطلع عليه مع اعتقاده على ما هو به ; فلا بأس كما قاله المتأخرون في صيام ست من شوال : إن من فعل ذلك في نفسه معتقدا وجه الصحة ; فلا بأس ، وكذا قال مالك في المرة الواحدة : حيث لا أحب ذلك إلا للعالم بالوضوء ، وما ذكره اللخمي يشعر بأنه إذا فعل الواحدة حيث لا يقتدى به ، فلا بأس وهو جار على المذهب ; لأن أصل مالك فيه عدم التوقيت .
فأما إن أحب الالتزام وأن لا يزول عنه ولا يفارقه ; فلا ينبغي أن يكون ذلك بمرأى من الناس ، لأنه إن كان كذلك ; فربما عده العامي واجبا أو مطلوبا أو متأكد الطلب بحيث لا يترك ، ولا يكون كذلك شرعا ; فلابد في إظهاره من عدم التزامه في بعض الأوقات ، ولابد في التزامه من عدم إظهاره كذلك في بعض الأوقات ، وذلك على الشرط المذكور في أول كتاب الأدلة [ ص: 122 ] ولا يقال : إن هذا مضاد لما تقدم من قصد الشارع للدوام على الأعمال ، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته لأنا نقول : كما يطلق الدوام على مالا يفارق ألبتة كذلك يطلق على ما يكون في أكثر الأحوال ، فإذا ترك في بعض الأوقات ; لم يخرج صاحبه عن أصل الدوام ، كما لا نقول في الصحابة حين تركوا التضحية في بعض الأوقات : إنهم غير مداومين عليها ; فالدوام على الجملة لا يشترط في صحة إطلاقه عدم الترك رأسا ، وإنما يشترط فيه الغلبة في الأوقات أو الأكثرية ، بحيث يطلق على صاحبه اسم الفاعل إطلاقا حقيقيا في اللغة .
ولما كانت الصوفية قد التزمت في السلوك ما لا يلزمها حتى سوت بين الواجب والمندوب في التزام الفعل ، وبين المكروهات والمحرمات في التزام الترك ، بل سوت بين كثير من المباحات والمكروهات في الترك ، وكان هذا النمط ديدنها لا سيما مع ترك أخذها بالرخص ; إذ من مذاهبها عدم التسليم للسالك فيها من حيث هو سالك ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تلزم الجمهور ، بنوا طريقهم بينهم وبين تلاميذهم على كتم أسرارهم وعدم إظهارها ، والخلوة بما التزموا من وظائف السلوك وأحوال المجاهدة خوفا من تعريض من يراهم ولا يفهم مقاصدهم إلى ظن ما ليس بواجب واجبا أو ما هو [ ص: 123 ] جائز غير جائز أو مطلوبا ، أو تعريضهم لسوء القال فيهم فلا عتب عليهم في ذلك ، كما لا عتب عليهم في كتم أسرار مواجدهم ; لأنهم إلى هذا الأصل يستندون ، ولأجل إخلال بعضهم بهذا الأصل ; إما لحال غالبة ، أو لبناء بعضهم على غير أصل صحيح ، انفتح عليهم باب سوء الظن من كثير من العلماء ، وباب فهم الجهال عنهم ما لم يقصدوه ، وهذا كله محظور .
[ ص: 124 ] المسألة التاسعة
الواجبات لا تستقر واجبات إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام فلا تترك ولا يسامح في تركها ألبتة ، كما أن المحرمات لا تستقر كذلك إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام ; فلا تفعل ولا يسامح في فعلها ، وهذا ظاهر ، ولكنا نسير منه إلى معنى آخر ، وذلك أن من الواجبات ما إذا تركت لم يترتب عليها حكم دنيوي ، وكذلك من المحرمات ما إذا فعلت لم يترتب عليها أيضا حكم في الدنيا ، ولا كلام في مترتبات الآخرة ; لأن ذلك خارج عن تحكمات العباد .
كما أن من الواجبات ما إذا تركت ومن المحرمات ما إذا فعلت ترتب عليهما حكم دنيوي من عقوبة أو غيرها .
فما ترتب عليه حكم يخالف ما لم يترتب عليه حكم ; فمن حقيقة استقرار كل واحد من القسمين أن لا يسوى بينه وبين الآخر ; لأن في تغيير أحكامها تغييرها في أنفسها ; فكل ما يحذر في عدم البيان في الأحكام المتقدمة يحذر هنا لا فرق بين ذلك والأدلة التي تقدمت هنالك يجري مثلها هنا .
ويتبين هذا الموضع أيضا بأن يقال : إذا وضع الشارع حدا في فعل مخالف فأقيم ذلك الحد على المخالف ; كان الحكم الشرعي فيه مقررا مبينا فإذا لم يقم فقد أقر على غير ما أقره الشارع ، وغير إلى الحكم المخالف الذي لا يترتب عليه مثل ذلك الحكم ، ووقع بيانه مخالفا ; فيصير المنتصب [ ص: 125 ] لتقرير الأحكام قد خالف قوله فعله ; فيجري فيه ما تقدم ، فإذا رأى الجاهل ما جرى ; توهم الحكم الشرعي على خلاف ما هو عليه ، فإذا قرر المنتصب الحكم على وجه ثم أوقع على وجه آخر ; حصلت الريبة ، وكذب الفعل القول كما تقدم بيانه ، وكل ذلك فساد ، وبهذا المثال يتبين أن وارث النبي يلزمه إجراء الأحكام على موضوعاتها ; في أنفسها ، وفي لواحقها ، وسوابقها ، وقرائنها ، وسائر ما يتعلق بها شرعا ; حتى يكون دين الله بينا عند الخاص والعام ، وإلا ; كان من الذين قال الله تعالى فيهم : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية [ البقرة : 159
[ ص: 126 ] المسألة العاشرة
لا يختص هذا البيان المذكور بالأحكام التكليفية ، بل هو لازم أيضا في الأحكام الراجعة إلى خطاب الوضع ; فإن الأسباب والشروط والموانع والعزائم والرخص وسائر الأحكام المعلومة أحكام شرعية ، لازم بيانها قولا وعملا ، فإذا قررت الأسباب قولا وعمل على وفقها إذا انتهضت ; حصل بيانها للناس ، فإن قررت ، ثم لم تعمل مع انتهاضها كذب القول الفعل ، وكذلك الشروط إذا انتهض السبب مع وجودها فأعمل ، أو مع فقدانها فلم يعمل ; وافق القول الفعل ، فإن عكست القضية وقع الخلاف ; فلم ينتهض القول بيانا ، وهكذا الموانع وغيرها .
وقد أعمل النبي صلى الله عليه وسلم مقتضى الرخصة في الإحلال من العمرة والإفطار في السفر ، وأعمل الأسباب ، ورتب الأحكام حتى في نفسه ، حين أقص من نفسه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك في غيره ، والشواهد على هذا لا تحصى ، والشريعة كلها داخلة تحت هذه الجملة ، والتنبيه كاف
[ ص: 127 ] المسألة الحادية عشرة
بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان صحيح لا إشكال في صحته ; لأنه لذلك بعث ، قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] ولا خلاف فيه .
وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه ; فلا إشكال في صحته أيضا ، [ ص: 128 ] كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين المبين لقوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا [ المائدة : 6 ] وإن لم يجمعوا عليه ; فهل يكون بيانهم حجة ، أم لا ؟ هذا فيه نظر وتفصيل ، ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين : أحدهما : معرفتهم باللسان العربي فإنهم عرب فصحاء ، لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم ; فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم ، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان ; صح اعتماده من هذه الجهة .
والثاني : مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة ; فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل ; ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب .
فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات أو تخصيص بعض العمومات فالعمل عليه صواب ، وهذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة ، فإن خالف بعضهم ; فالمسألة اجتهادية [ ص: 129 ] مثاله قوله عليه الصلاة والسلام : لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر فهذا التعجيل يحتمل أن يقصد به إيقاعه قبل الصلاة ، ويحتمل أن لا ; فكان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يصليان المغرب قبل أن يفطرا ، ثم يفطران بعد الصلاة بيانا أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة ، بل إذا كان بعد الصلاة ; فهو تعجيل أيضا ، وأن التأخير الذي يفعله أهل المشرق شيء [ ص: 130 ] آخر داخل في التعمق المنهي عنه ، وكذلك ذكر عن اليهود أنهم يؤخرون الإفطار ; فندب المسلمون إلى التعجيل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (148)
صـ131 إلى صـ 140
وكذلك لما قال عليه الصلاة والسلام : لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه احتمل أن تكون الرؤية مقيدة بالأكثر وهو أن يرى بعد [ ص: 131 ] غروب الشمس فبين عثمان بن عفان أن ذلك غير لازم فرأى الهلال في خلافته قبل الغروب ، فلم يفطر حتى أمسى وغابت الشمس .
وتأمل ; فعادة مالك بن أنس في موطئه وغيره الإتيان بالآثار عن الصحابة مبينا بها السنن ، وما يعمل به منها وما لا يعمل به ، وما يقيد به مطلقاتها ، وهو دأبه ومذهبه لما تقدم ذكره .
ومما بين كلامهم اللغة أيضا ، كما نقل مالك في دلوك الشمس وغسق الليل كلام ابن عمر وابن عباس ، وفي معنى السعي عن عمر بن الخطاب أعني قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] وفي معنى الإخوة أن السنة مضت أن الإخوة اثنان فصاعدا كما تبين بكلامهم [ ص: 132 ] معاني الكتاب والسنة .
لا يقال : إن هذا المذهب راجع إلى تقليد الصحابي ، وقد عرفت ما فيه من النزاع والخلاف ; لأنا نقول : نعم ، هو تقليد ، ولكنه راجع إلى ما لا يمكن الاجتهاد فيه على وجهه ; إلا لهم لما تقدم من أنهم عرب وفرق بين من هو عربي الأصل والنحلة وبين من تعرب غلب التطبع شيمة المطبوع وأنهم شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم ، ونقل قرائن الأحوال على ما هي عليه كالمتعذر ; فلابد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم ، فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير ، بحيث لو فرضنا عدمه لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه ; انحتم الحكم بإعمال ذلك البيان لما ذكر ، ولما جاء في [ ص: 133 ] السنة من اتباعهم والجريان على سننهم ، كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وغير ذلك من الأحاديث ; فإنها عاضدة لهذا [ ص: 134 ] المعنى في الجملة أما إذا علم أن الموضع موضع اجتهاد لا يفتقر إلى ذينك الأمرين ; فهم ومن سواهم فيه شرع سواء ; كمسألة العول ، والوضوء من النوم ، وكثير من مسائل الربا التي قال فيها عمر بن الخطاب : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا آية الربا ; فدعوا الربا والريبة ، أو كما قال ; فمثل هذه المسائل موضع اجتهاد للجميع لا يختص به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين ، وفيه خلاف بين العلماء أيضا ; فإن منهم من يجعل قول الصحابي ورأيه حجة يرجع إليها ويعمل عليها من غير نظر ; كالأحاديث والاجتهادات النبوية ، وهو مذكور في كتب الأصول ; فلا يحتاج إلى ذكره هاهنا
[ ص: 135 ] المسألة الثانية عشرة الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف ، وإما غير واقع في الشريعة .
وبيان ذلك من أوجه : أحدها : النصوص الدالة على ذلك ; كقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي الآية [ المائدة : 3 ] وقوله : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين [ آل عمران : 138 ] وقوله وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ النحل : 44 ] وقوله تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، هدى ورحمة للمحسنين [ لقمان : 3 ] وإنما كان هدى لأنه مبين ، والمجمل لا يقع به بيان ، وكل ما في هذا المعنى من الآيات .
وفي الحديث : تركتكم على البيضاء : ليلها كنهارها وفيه : تركت فيكم اثنين لن تضلوا ما تمسكتم بهما ; كتاب الله [ ص: 136 ] وسنتي ويصحح هذا المعنى قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ويدل على أنهما بيان لكل مشكل ، وملجأ من كل معضل .
وفي الحديث : ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه .
وهذا المعنى كثير ، فإن كان في القرآن شيء مجمل ; فقد بينته السنة كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها ، وللزكاة ومقاديرها وأوقاتها وما تخرج منه من الأموال ، وللحج إذ قال : خذوا عني مناسككم وما أشبه ذلك [ ص: 137 ] ثم بين عليه الصلاة والسلام ما وراء ذلك مما لم ينص عليه في القرآن ، والجميع بيان منه عليه الصلاة والسلام .
فإذا ثبت هذا ، فإن وجد في الشريعة مجمل ، أو مبهم المعنى ، أو ما لا يفهم ; فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف بالمحال ، وطلب ما لا ينال ، وإنما يظهر هذا الإجمال في المتشابه الذي قال الله تعالى فيه : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] [ ص: 138 ] ولما بين الله تعالى أن في القرآن متشابها ; بين أيضا أنه ليس فيه تكليف إلا الإيمان به على المعنى المراد منه ، لا على ما يفهم المكلف منه ; فقد قال الله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إلى قوله : كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] والناس في المتشابه المراد هاهنا على مذهبين : فمن قال : إن الراسخين يعلمونه ; فليس بمتشابه عليهم وإن تشابه على غيرهم ، كسائر المبينات المشتبهة على غير العرب ، أو على غير العلماء من الناس ، ومن قال إنهم لا يعلمونه وإن الوقف على قوله إلا الله [ آل عمران : 7 ] ; فالتكليف بما يراد به مرفوع باتفاق ; فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به ، وهكذا إذا قلنا : إن الراسخين هم المختصون بعلمه دون غيرهم ; فذلك الغير ليسوا بمكلفين بمقتضاه ، ما دام مشتبها عليهم ; حتى يتبين باجتهاد أو تقليد ، وعند ذلك يرتفع تشابهه ; فيصير كسائر المبينات .
فإن قيل : قد أثبت القرآن متشابها في القرآن ، وبينت السنة أن في الشريعة مشتبهات بقوله : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات وهذه المشتبهات متقاة بأفعال العباد لقوله : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه [ ص: 139 ] وعرضه ; فهي إذا مجملات وقد انبنى عليها التكليف ، كما أن قوله تعالى وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] قد انبنى عليها التكليف وذلك قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] فكيف يقال : إن الإجمال والتشابه لا يتعلقان بما ينبني عليه تكليف ؟ فالجواب : إن الحديث في المتشابهات ليس مما نحن بصدده وإنما كلامنا في التشابه الواقع في خطاب الشارع ، وتشابه الحديث في مناط الحكم ، وهو راجع إلى نظر المجتهد حسبما مر في فصل التشابه ، وإن سلم ; فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل ، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله ، وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد ، ولذلك قال : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله : الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] وفي الحديث : ينزل ربنا إلى سماء الدنيا وأشباه ذلك هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف ، وإلا ; فالتكليف متعلق بكل موجود من حيث يعتقد على ما هو عليه ، أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه ، إلى [ ص: 140 ] غير ذلك من وجوه النظر .
الوجه الثاني : أن المقصود الشرعي من الخطاب الوارد على المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم ، مما هو مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وهذا يستلزم كونه بينا واضحا لا إجمال فيه ولا اشتباه ، ولو كان فيه بحسب هذا القصد اشتباه وإجمال ; لناقض أصل مقصود الخطاب ، فلم تقع فائدة وذلك ممتنع من جهة رعي المصالح ; تفضلا أو انحتاما ، أو عدم رعيها ; إذ لا يعقل خطاب مقصود من غير تفهيم مقصود .
والثالث : أنهم اتفقوا على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا عند من يجوز تكليف المحال ، وقد مر بيان امتناع تكليف المحال سمعا فبقي الاعتراف بامتناع تأخير البيان عن وقته ، وإذا ثبت ذلك ; فمسألتنا من قبيل هذا المعنى ، لأن خطاب التكليف في وروده مجملا غير مفسر ، إما أن يقصد التكليف به مع عدم بيانه ، أو لا ، فإن لم يقصد ; فذلك ما أردنا ، وإن قصد ; رجع إلى تكليف ما لا يطاق ، وجرت دلائل الأصوليين هنا في المسألة .
وعلى هذين الوجهين أعني : الثاني والثالث إن جاء في القرآن مجمل ; فلابد من خروج معناه عن تعلق التكليف به ، وكذلك ما جاء منه في الحديث النبوي ، وهو المطلوب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (149)
صـ141 إلى صـ 150
[ ص: 141 ] [ ص: 142 ] [ ص: 143 ] الطرف الثاني
في الأدلة على التفصيل
وهي : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والرأي
ولما كان الكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما ; اقتصرنا على النظر فيهما .
وأيضا ; فإن في أثناء الكتاب كثيرا مما يفتقر إليه الناظر في غيرهما ، مع أن الأصوليين تكفلوا بما عداهما كما تكفلوا بهما ; فرأينا السكوت عن الكلام في الإجماع والرأي ، والاقتصار على الكتاب والسنة ، والله المستعان .
فالأول أصلها ، وهو الكتاب ، وفيه مسائل : [ ص: 144 ] المسألة الأولى
إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة وعمدة الملة ، وينبوع الحكمة ، وآية الرسالة ، ونور الأبصار والبصائر ، وأنه لا طريق إلى الله سواه ، ولا نجاة بغيره ، ولا تمسك بشيء يخالفه ، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه ; لأنه معلوم من دين الأمة ، وإذا كان كذلك ; لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها ، واللحاق بأهلها ، أن يتخذه سميره وأنيسه ، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرا وعملا ، لا اقتصارا على أحدهما ; فيوشك أن يفوز بالبغية ، وأن يظفر بالطلبة ، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول ، فإن كان قادرا على ذلك ، ولا يقدر عليه إلا من زوال ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب ، وإلا فكلام الأئمة السابقين ، والسلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشريف ، والمرتبة المنيفة .
وأيضا ; فمن حيث كان القرآن معجزا أفحم الفصحاء ، وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله ; فذلك لا يخرجه عن كونه عربيا جاريا على أساليب كلام العرب ، ميسرا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى ، لكن بشرط الدربة في اللسان العربي ، كما تبين في كتاب الاجتهاد ; إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه ; لكان خطابهم به من تكليف ما لا يطاق ، وذلك مرفوع عن الأمة ، وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه ; إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب ، مفهوم معقول ، ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله [ ص: 145 ] ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا فهم أقدر ما كانوا على معارضة الأمثال أعجز ما كانوا عن معارضته وقد قال الله تعالى : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ القمر : 17 ] وقال : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ مريم : 97 ] وقال : قرآنا عربيا لقوم يعلمون [ فصلت : 3 ] وقال : بلسان عربي مبين [ الشعراء : 195 ] وعلى أي وجه فرض إعجازه ; فذلك غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقل معانيه ، كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ ص : 29 ] فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبر والتفهم ، وكذلك ما كان مثله ، وهو ظاهر .
[ ص: 146 ] المسألة الثانية
معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن ، والدليل على ذلك أمران : أحدهما : أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب ; إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال : حال الخطاب من جهة نفس الخطاب ، أو المخاطب ، أو المخاطب ، أو الجميع ; إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين ، وبحسب مخاطبين ، وبحسب غير ذلك ; كالاستفهام ، لفظه واحد ، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة ، وعمدتها مقتضيات الأحوال ، وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول ، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة ; فات فهم الكلام جملة ، أو فهم شيء منه ، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط ; فهي من المهمات في فهم الكتاب بلابد ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال ، وينشأ عن هذا الوجه : الوجه الثاني وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف ، وذلك مظنة وقوع النزاع .
[ ص: 147 ] [ ص: 148 ] ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي ; قال : خلا عمر ذات يوم ; فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ، وقبلتها واحدة ؟ فأرسل إلى ابن عباس ; فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ! إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيم نزل ، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا قال : فزجره عمر وانتهره ; فانصرف ابن عباس ، ونظر عمر فيما قال ; فعرفه فأرسل إليه ; فقال : أعد علي ما قلت فأعاده عليه ; فعرف عمر قوله وأعجبه [ ص: 149 ] وما قاله صحيح في الاعتبار ويتبين بما هو أقرب فقد روى ابن وهب عن بكير ; أنه سأل نافعا : كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله ، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين .
فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن .
وروي أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس وقال : قل له لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ; لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ثم قرأ : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب [ ص: 150 ] إلى قوله : ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا [ آل عمران : 187 188 ] فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان .
والقنوت يحتمل وجوها من المعنى يحمل عليه قوله : وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] فإذا عرف السبب تعين المعنى المراد وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين ; فقدم الجارود على عمر ، فقال : إن قدامة شرب فسكر فقال عمر : من يشهد على ما تقول ؟ قال الجارود : أبو هريرة يشهد على ما أقول وذكر الحديث ; فقال عمر : يا قدامة ! إني جالدك قال : والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني قال عمر : ولم ؟ قال : لأن الله يقول : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح [ المائدة : 93 ] إلخ : فقال عمر : إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg
-
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/74.jpg
الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الرابع
الحلقة (150)
صـ151 إلى صـ 160
وفي رواية : فقال لم تجلدني ؟ بيني وبينك كتاب الله فقال عمر وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك قال : إن الله يقول في كتابه : ليس على الذين آمنوا [ المائدة : 93 ] إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد فقال عمر : ألا تردون عليه قوله ؟ فقال ابن عباس : إن [ ص: 151 ] هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين ، وحجة على الباقين ، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لأن الله يقول يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر [ المائدة : 90 ] ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى فإن كان من الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ; فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر قال عمر : صدقت الحديث وحكى إسماعيل القاضي ; قال : شرب نفر من أهل الشام الخمر ، وعليهم يزيد بن أبي سفيان ، فقالوا : هي لنا حلال ، وتأولوا هذه الآية ليس على الذين آمنوا [ المائدة : 93 ] الآية قال : فكتب فيهم إلى عمر ، قال : فكتب عمر إليه : أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس ; فقالوا : يا أمير المؤمنين ! نرى أنهم قد كذبوا على الله ، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به إلى آخر الحديث .
ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات .
[ ص: 152 ] وجاء رجل إلى ابن مسعود ; فقال : تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه ، يفسر هذه الآية يوم تأتي السماء بدخان مبين [ الدخان : 10 ] قال يأتي الناس يوم القيامة دخان ، فيأخذ بأنفسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام فقال ابن مسعود : من علم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ; فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به : الله أعلم ، إنما كان هذا لأن قريشا استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، دعا عليهم بسنين كسني يوسف ; فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ; فأنزل الله فارتقب يوم تأتي السماء بدخان الآية [ الدخان : 10 ] إلى آخر القصة .
وهكذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل ، بحيث لو فقد ذكر السبب ; لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص ، دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : خذوا القرآن من أربعة ، منهم عبد الله بن مسعود ، وقد قال في خطبة خطبها : والله ; لقد [ ص: 153 ] علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله وقال في حديث آخر : والذي لا إله غيره ; ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ؟ ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالما بالقرآن .
وعن الحسن ; أنه قال : ما أنزل الله آية ; إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت ؟ وما أراد بها ؟ وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب .
وعن ابن سيرين ; قال : سألت عبيدة عن شيء من القرآن ; فقال اتق الله ، وعليك بالسداد ; فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن وعلى الجملة ; فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير .
[ ص: 154 ] فصل
ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل ، وإن لم يكن ثم سبب خاص لابد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه ، وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة ويكفيك من ذلك ما تقدم بيانه في النوع الثاني من كتاب المقاصد ; فإن فيه ما يثلج الصدر ويورث اليقين في هذا المقام ، ولابد من ذكر أمثلة تعين على فهم المراد وإن كان مفهوما : أحدها قول الله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ البقرة : 196 ] فإنما أمر بالإتمام دون الأمر بأصل الحج لأنهم كانوا قبل الإسلام آخذين به ، لكن على تغيير بعض الشعائر ، ونقص جملة منها ; كالوقوف بعرفة وأشباه ذلك مما غيروا ، فجاء الأمر بالإتمام لذلك ، وإنما جاء إيجاب الحج نصا في قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] وإذا عرف هذا تبين هل في الآية دليل على إيجاب الحج أو إيجاب العمرة ، أم لا ؟ والثاني : قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] نقل عن أبي يوسف أن ذلك في الشرك لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر [ ص: 155 ] فيريد أحدهم التوحيد فيهم فيخطئ بالكفر ; فعفا لهم عن ذلك كما عفا لهم عن النطق بالكفر عند الإكراه ، قال فهذا على الشرك ، ليس على الأيمان في الطلاق والعتاق والبيع والشراء ، لم تكن الأيمان بالطلاق والعتاق في زمانهم والثالث : قوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم [ النحل : 50 ] أأمنتم من في السماء [ تبارك : 16 ] وأشباه ذلك ، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض ، وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق ; فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيها على نفي ما ادعوه في الأرض ; فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة ألبتة ، ولذلك قال تعالى : فخر عليهم السقف من فوقهم [ النحل : 26 ] فتأمله واجر على هذا المجرى في سائر الآيات والأحاديث .
والرابع : قوله تعالى : وأنه هو رب الشعرى [ النجم : 49 ] فعين هذا الكوكب لكون العرب عبدته ، وهم خزاعة ابتدع ذلك لهم أبو كبشة ، ولم تعبد العرب من الكواكب غيرها ; فلذلك عينت
فصل
وقد يشارك القرآن في هذا المعنى السنة ; إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب ، ولا يحصل فهمها إلا بمعرفة ذلك ، ومنه أنه نهى عليه الصلاة [ ص: 156 ] والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فلما كان بعد ذلك ; قيل لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم ، ويحملون منها الودك ، ويتخذون منها الأسقية فقال : وما ذاك ؟ قالوا : نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال عليه الصلاة والسلام : إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم ; فكلوا ، وتصدقوا ، وادخروا ومنه حديث التهديد بإحراق البيوت لمن تخلف عن صلاة الجماعة ; فإن حديث ابن مسعود يبين أنه مختص بأهل النفاق ، بقوله : ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق وحديث : الأعمال بالنيات واقع عن سبب ، وهو أنهم لما أمروا [ ص: 157 ] بالهجرة هاجر ناس للأمر وكان فيهم رجل هاجر بسبب امرأة أراد نكاحها تسمى أم قيس ، ولم يقصد مجرد الهجرة للأمر ; فكان بعد ذلك يسمى : مهاجر أم قيس وهو كثير .
[ ص: 158 ] المسألة الثالثة
كل حكاية وقعت في القرآن ; فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها وهو الأكثر رد لها أو لا ، فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه ، وإن لم يقع معها رد فذلك دليل صحة المحكي وصدقه .
أما الأول ; فظاهر ، ولا يحتاج إلى برهان ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء [ الأنعام : 91 ] فأعقب بقوله : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى الآية [ الأنعام : 91 ] وقال : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الآية [ الأنعام : 136 ] فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله : بزعمهم [ الأنعام : 138 ] وبقوله ساء ما يحكمون [ الأنعام : 136 ] ثم قال : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر [ الأنعام : 138 ] إلى تمامه ورد بقوله : سيجزيهم بما كانوا يفترون [ الأنعام : 138 ] ثم قال : وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة الآية [ الأنعام : 139 ] [ ص: 159 ] فنبه على فساده بقوله : سيجزيهم وصفهم [ الأنعام : 139 ] زيادة على ذلك .
وقال تعالى : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون [ الفرقان : 4 ] فرد عليهم بقوله : فقد جاءوا ظلما وزورا [ الفرقان : 4 ] ثم قال : وقالوا أساطير الأولين الآية [ الفرقان : 5 ] فرد بقوله : قل أنزله الذي يعلم السر الآية [ الفرقان : 6 ] ثم قال : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ الفرقان : 8 ] ثم قال تعالى : انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا [ الفرقان : 9 ] وقال تعالى : وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إلى قوله : أؤنزل عليه الذكر من بيننا [ ص : 4 8 ] ثم رد عليهم بقوله : بل هم في شك من ذكري [ ص : 8 ] إلى آخر ما هنالك .
وقال وقالوا اتخذ الله ولدا [ البقرة : 116 ، وغيرها ] ثم رد عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن ; كقوله : بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] وقوله : بل له ما في السماوات والأرض [ البقرة : 116 ] وقوله : سبحانه هو الغني الآية [ يونس : 68 ] [ ص: 160 ] وقوله : تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض [ مريم : 90 ] إلى آخره ، وأشباه ذلك .
ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذا بيسر .
وأما الثاني ; فظاهر أيضا ، ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها ، فإن القرآن سمي فرقانا ، وهدى ، وبرهانا ، وبيانا ، وتبيانا لكل شيء ، وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم ، وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ثم لا ينبه عليه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/09/75.jpg